الدليل  الرابع :  العلم  الحديث

وهذا دليل لمن أراد أن يؤمن بطول العمر من خلال العلم الحديث المتطوّر والمتقدّم ، فإنّ الوسائل والآلات المتوفّرة في الطبيعة في عصرنا الراهن لا تنحصر بما في أيدينا اليوم ، فإنّ الوسائل الفنّية والتكنولوجيا الحديثة لا تنحصر بالمذياع والتلفاز والتلفون والطائرات النفّاثة والصواريخ الفضائية والكومبيوتر وما شابه ذلك ، فإنّ مثل هذه الأسباب قبل قرون كانت تعدّ من المحالات ومن المهازل والقوّة التخيّلية ، ولكن اليوم أصبحت هذه الاُمور من التوافه ولعب الأطفال ، وأنّ هناك ما هو أوسع من ذلك بكثير ، ولم يدّعِ أحد أ نّه قد كشف المجهولات الكونية بل كلّما ازدادوا علماً اعترفوا بجهلهم وعجزهم أكثر فأكثر ، وأنّ هناك أسرار في الطبيعة لا زالت مجهولة وتبقى مجهولة ، وما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلا ، وأنّ فوق كلّ ذي علم عليم . وحينئذ كيف يمكن أن يقال : إنّه ليس هناك عوامل مؤثّرة في طول العمر ؟ !

بل يقول البروفيسور أتينقر : إنّ الجيل الجديد كما آمن بالرحلات الفضائية فإنّه سيؤمن بأنّ خلود الإنسان في الحياة الدنيوية ليس أمراً ببعيد ، فإنّ مع التقدّم التكنولوجي الذي نشاهده اليوم سوف تتمكّن البشرية في القرن القادم أن تطيل عمر الإنسان لآلاف السنين[1].

ويعتقد البروفيسور سيلي : إنّ الموت إنّما هو مرض تدريجي ، وإنّه لم يمت أحد من الشيخوخة ، وإنّ تقدّم العلم الطبّي سيعطي الإنسان القدرة على أن يطيل في عمره بأضعاف ما هو عليه.

كما هناك في الطبيعة موجودات حيّة عاشت آلاف السنين ، وإنّ العلم الحديث توصّل إلى زرع خليّة ما قبل التأريخ وإعادة حياتها.

ولمّـا كان المقتضي موجود في ديمومة حياة الإمام المهدي (عليه السلام) فما المانع في ذلك ؟ فإنّه بعيد عن الأبصار في حياة طاهرة ومطهّرة ، يعبد ربّه وينتظر أمره وقيامه الإلهي ، وأ نّه حجّة الله على خلقه في أرضه ، لولاه لساخت الأرض بأهلها ، وإنّه ميزان الأعمال وشاهد على الناس ، وفي غيبته أسرار الله جلّت عظمته ، وأنّ غيبته الكبرى من الابتلاء ، ليبلوكم أ يّكم أحسن عملا ، وإنّه من الغيب الذي يؤمن به المتّقون ( ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلـْمُتَّقينَ الَّذينَ يُؤْمِنونَ بِالغَيْبِ )[2].

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) حينما يعدّ فوائد طول عمر الإمام المهدي وسرّه :
وذلك بعد غيبة طويلة ليعلم الله من يطيعه بالغيب ويؤمن به.

والعلم الحديث أثبت أنّ هناك عوامل مؤثّرة في طول العمر كالوراثة والبيئة المعتدلة ونوع العمل ومراعاة الغذاء كمّاً وكيفاً ، والشيخوخة ليست مرحلة زمنية ، بل ظاهرة جسدية يمرّ بها الإنسان عادة.

وقد يصاب الجسم بالشيخوخة بسبب الإصابة ببعض الأمراض أو ممارسة عادات مضرّة.

ويعتقد (متشنكوف) أنّ السموم الناجمة عن تخمّر مكروبات الأمعاء هي وراء الشيخوخة ، ولو أمكن تطهير الأمعاء منها لعاش الإنسان طويلا.

والعلم ما يزال يحبو في أوّل الطريق ، ومن المحتمل جدّاً أن يكتشف الإنسان مستقبلا دواءً يعزّز من قدرة الجسم في المقاومة ويمنع حدوث الشيخوخة وحتّى يصل العمر إلى ألفي عام ، كما كتبت بذلك بحوث يابانية.

ولنا في الذبابات والحيوانات تجاوزت أعمارها المئات واُلوف من السنين ، ففي أمريكا توجد شجرة صنوبر في كاليفورنيا ما تزال حيّة وبلغ عمرها أكثر من أربعة آلاف وستمائة سنة ، وكشفت الحفريات في مصر القديمة وفي مقبرة الفرعون (توت عنخ آمون) حبوباً من القمح يعود تأريخها إلى ثلاثة أو أربعة آلاف عام ، فنبتت واخضرّت ممّـا يدلّ على أ نّها لا زالت تحتفظ بحياتها كلّ هذه القرون الطويلة ، كما لوحظ أنّ عمر بعض الحيتان يتجاوز (1700) سنة.

كما إنّ دراسة الأشجار المعمّرة واستمرار حياتها آلاف السنين وكذا حياة الفايروسات سوف يكون لها آثارها الإيجابية في إمكانية إطالة عمر الإنسان والتغلّب على الشيخوخة.

ويقول علماء مختصّون في هذا المجال : إنّ بإمكان الجسم أو أيّ عضو منه الاستمرار في الحياة مدّة غير محدودة إذا لم يتعرّض إلى طارئ خارجي ، وقد تصل المدّة آلاف السنين.

وهذا الرأي لا يستند على الحدس أو الخيال ، بل هو نتيجة تجارب علمية عديدة.

ويقول (ريموند) و (بريل) الاُستاذان في جامعة (جون هوبكنز) أنّ الأعضاء الرئيسية في جسم الإنسان لها القابلية على الدوام والخلود ، وقد ثبت ذلك بالتجارب التي ما تزال مستمرّة.

ومتى ما تمكّن العلم من حماية الجسم من هجمات الجراثيم وإيقاف التسمّم وإيصال الغذاء الكافي للأعضاء فإنّ باستطاعة الإنسان أن يعيش مدّة طويلة جدّاً كما هو الحال في بعض الأشجار المعمّرة.

ويقول البروفيسور (ميتالينكوف) الخبير في حالات الوفاة : إنّ جسم الإنسان يتألّف من ثلاثين تريليون من الخلايا المختلفة والتي لا يمكن أن تموت كلّها في لحظة واحدة ، ولا يتحقّق الموت إلاّ بعد حدوث تغيّرات كيميائية في المخّ غير قابلة للإصلاح.

وفي مدينة مونتريال بكندا كان الدكتور (هانس سيلي) يجري في مختبره بحوثاً حول ظاهرة الموت ، وعرض لمراسلي الصحف نسيجاً من الخلايا الحيوانية ، وصرّح بأنّ النسيج هذا ما يزال حيّاً وفي حالة نشاط حيوي وإنّه لن يموت أبداً . وأضاف الدكتور : إذا تمكنّا من تحويل النسيج الإنساني بهذا الشكل فإنّ من الممكن أن يعيش الإنسان ألف عام.

ويقول البروفيسور (إينتنجر) : إنّ الأجيال القادمة سوف تصطدم بحقيقة الإنسان الخالد كما هو الحال في غزو الإنسان للفضاء ، وإنّ تطوّر العلوم سيكفل حياة الإنسان لألف عام.

إنّ الشيخوخة هي ظاهرة مرضيّة وهي ليست مستحيلة العلاج ، ولقد تمكّن
العلم من إنجاز اعمال كانت فيما مضى مستحيلة ، وهو ما يزال يشقّ طريقه قدماً في فتوحات جديدة ، فمن الممكن في المستقبل اكتشاف أسباب الشيخوخة ، ومن ثمّ علاجها . وهناك بعض العلماء يقومون بإجراء العديد من التجارب والبحوث من أجل العثور على أكسير الشباب ، ولا يمكن الادعاء بأنّ جهودهم سوف تذهب سُدى ، فمن المحتمل جداً نجاحهم في هذا المضمار ، وبالتالي سيكون بمقدور الإنسان الحياة لمدّة طويلة.

وإذا افترضنا وجود شخص ما في كامل حيويّته البدنية ، وكانت أعضاء جسمه كالقلب والكلية والكبد والجهاز العصبي والمعدة وغيرها سليمة تعمل بانتظام ، وكان هذا الشخص ملمّاً بما ينبغي تناوله من غذاء ويتّبع في ذلك نظاماً صحياً عالياً ، وإنّه إلى جانب ذلك يعرف طرق الوقاية من الأمراض ، ويعرف كيف يجهّز بدنه بالفيتامينات ، ويتمتّع بروحية عالية تهبه الشعور بالطمأنينة بعيداً عن القلق والكآبة وكلّ ما يعتور الإنسان من أمراض نفسية ، فإنّ بإمكان هكذا شخص أن يعمّر طويلا ، وأن يعيش أضعافاً مضاعفة ممّـا تعارف عليه الناس من العمر الطبيعي . كما هناك في التأريخ من عمّر المئات وآلاف السنين كنوح وآدم[3].

وبناءً على هذا فإنّ مسألة العمر الطويل في شخصيّة الإمام المهدي لن تكون
مستحيلة ، فالعلم الحديث يؤمن من ناحية مبدئية إمكانيّة ذلك.

إضافة إلى التأكيد على جانب هامّ ، وهو أنّ الله ادّخر هذا الإنسان العظيم لإصلاح العالم والمجتمع الإنساني ، ومن ثمّ وهبه ما يساعده على استمرار حياته دون ضعف ووهن وانتكاس وشيخوخة[4].

ويقول الشهيد السعيد الآية العظمى السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) في كتابه القيّم (بحث حول المهدي) : ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع ديني فحسب ، بل هو عنوان لطموح اتّجهت إليه البشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها ، وصياغة لإلهام فطري ، أدرك الناس من خلاله على الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ، أنّ للإنسانيّة يوماً موعوداً على الأرض ، تحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير ، وهدفها النهائي ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرّ التأريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل ، بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب ، بل امتدّ على غيرهم أيضاً وانعكس حتّى على أشدّ الإيديولوجيّات والاتّجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيّات ، كالماديّة الجدليّة التي فسّرت التأريخ على أساس التناقضات وآمنت بيوم موعود تصفى فيه كلّ تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام ... وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام ويؤكّد أنّ الأرض في نهاية المطاف ستمتلئ قسطاً وعدلا بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً ، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعيّة ويحوّله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانيّة ...

وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه ، فإنّ معالمها التفصيليّة التي حدّدها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكلّ الطموحات التي انشدّت إلى هذه الفكرة منذ فجر التأريخ الديني ، وأغنى عطاءً وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذّبين على مرّ التأريخ ، وذلك لأنّ الإسلام حوّل الفكرة من غيب إلى واقع ومن مستقبل إلى حاضر ، ومن التطلّع إلى منقذ تتمحّض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلا وتطلّعه مع المتطلّعين إلى اليوم الموعود ...

وقد قدّر لهذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أ نّه يعيش معهم انتظاراً للحظة الموعودة ...

ولكنّ التجسيد المذكور أدّى في نفس الوقت إلى مواقف سلبيّة تجاه فكرة المهدي نفسها لدى عدد من الناس الذين صعب عليهم أن يتصوّروا ذلك ويفترضوه ...

فهم يتساءلون إذا كان المهدي يعبّر عن إنسان حيّ ، عاصر كلّ هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون ، وسيظلّ يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة ، فكيف تأتّى لهذا الإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل ، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كلّ إنسان أن يمرّ بمرحلة الشيخوخة والهرم ، في وقت سابق على ذلك جدّاً وتؤدّي به تلك المرحلة طبيعيّاً إلى الموت ، أو ليس ذلك مستحيلا من الناحية الواقعيّة ؟

ثمّ يذكر الشهيد (قدس سره) أسئلة اُخرى ليجيب عنها في بحثه الرائع ، تضمّ هذه العناوين :

1 ـ كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل ؟

2 ـ المعجزة والعمر الطويل.

3 ـ لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمره ؟

4 ـ كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر ؟

5 ـ كيف نؤمن بأنّ المهدي قد وُجد ؟

6 ـ لماذا لم يظهر القائد إذن ؟

7 ـ وهل للفرد كلّ هذا الدور ؟

8 ـ ما هي طريقة التغيير في اليوم الموعود . فراجع.

وفي العنوان الأوّل يبحث عن معاني الإمكان الثلاثة : العملي والعلمي والمنطقي والفلسفي ، ثمّ يقول : لا شكّ في أنّ امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيّاً لأنّ ذلك ليس مستحيلا من وجهة نظر عقليّة تجريديّة ... كما لا شكّ أيضاً في أنّ هذا العمر الطويل ليس ممكناً إمكاناً عمليّاً على نحو الإمكانات العمليّة للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر ... وأمّا الإمكان العلمي فلا يوجد علميّاً اليوم ما يبرّر رفض ذلك من الناحية النظريّة ، وهذا بحث يتّصل في الحقيقة بنوعيّة التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان ... ويدخل في بحث الشيخوخة فيقول : وبهذا يثبت عمليّاً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممكن علميّاً ...

ويتلخّص من ذلك : أنّ طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعدّدة ممكن منطقيّاً وممكن علميّاً ولكنّه لا يزال غير ممكن عمليّاً ، إلاّ أنّ اتّجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.

وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما اُحيط به من استفهام أو استغراب ونلاحظ : أ نّه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقيّاً وعلميّاً وثبت أنّ العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجاً ، لا يبقى للاستغراب محتوىً ، إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه ، فيتحوّل الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوّره إلى مستوى القدرة الفعليّة على هذا التحويل ، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان ...

ولا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط ، بتفريغ الحضارة الإنسانيّة من محتواها الفاسد وبنائها من جديد ، فيكون لكلّ منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتياديّة أضعافاً مضاعفة ؟ أحدهما مارس دوره في ماضي البشريّة وهو نوح الذي نصّ القرآن الكريم على أ نّه مكث في قومه ألف عام إلاّ خمسين سنة وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد ، والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية ، وهو المهدي الذي مكث في قومه حتّى الآن أكثر من ألف عام وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد . فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقلّ تقدير ولا نقبل المهدي ؟

ثمّ يقول (قدس سره) : وقد عرفنا حتّى الآن أنّ العمر الطويل ممكن عمليّاً ، ولكن لنفترض أ نّه غير ممكن علميّاً ، وإنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم ، لا يمكن للبشرية اليوم ولا على خطّها الطويل أن تتغلّب عليه ، وتغيّر من ظروفه وشروطه فماذا يعني ذلك ؟ إنّه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان ـ كنوح أو المهدي ـ قروناً متعدّدة ، هي على خلاف القوانين الطبيعيّة التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة ، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة عطّلت قانوناً طبيعيّاً في حالة معيّنة للحفاظ على حياة الشخص الذي اُنيط به الحفاظ على رسالة السماء ، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها ، أو غريبة على عقيدة المسلم المستمدّة من نصّ القرآن والسنّة ، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقلّ حرارة حتّى يتساويان ، وقد عطّل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم (عليه السلام) حين كان الاُسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون فقيل للنار حين اُلقي فيها إبراهيم ( قُلـْنا يا نارُ كوني بَرداً وَسَلاماً عَلى إبْراهيمَ )[5] ، فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذىً ، إلى كثير من القوانين الطبيعيّة التي عطّلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض ففلق البحر لموسى ، وشبّه للرومان أ نّهم قبضوا على عيسى ، ولم يكونوا قد قبضوا عليه ، وخرج النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربّص به لتهجم عليه ، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم ، كلّ هذه الحالات تمثّل قوانين طبيعيّة عطّلت لحماية شخص كانت الحكمة الربّانيّة تقتضي الحفاظ على حياته ، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.

وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهوم عامّ وهو أ نّه كلّما توقّف الحفاظ على حياة حجّة لله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضروريّة لإنجاز مهمّته التي أعدّ لها ، تدخّلت العناية الربّانيّة في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك ...

وجاء في كتاب (يوم الخلاص) للاُستاذ كامل سليمان (الصفحة 133) تحت عنوان (ما هذا العمر المديد ؟ بعض طويلي الأعمار) :

قال الإمام الصادق (عليه السلام) لأحد أصحابه حين رآه يتعجّب من طول الغيبة : إنّ الله تعالى أدار في القائم منّا ثلاثةً أدارها لثلاثة من الرسل : قدَّر مولده تقدير مولد موسى ، وقدّر غيبته تقدير غيبة عيسى ، وقدّر إبطاءه تقدير إبطاء نوح ، وجعل له من بعد ذلك عمر العبد الصالح (يعني الخضر (عليه السلام)) دليلا على عمره.

ثمّ بعد تعليل غيبات الرسل الثلاث في حديث طويل قال (عليه السلام) : وأمّا العبد الصالح الخضر فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّة قدّرها له ولا لكتاب ينزل عليه ، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء ، ولا لإمامة يُلزم عباده الاقتداء بها ، ولا لطاعة يفرضها له ، بل إنّ الله تبارك وتعالى لمّـا كان في سابق علمه أن يقدّر في عمر القائم في أيّام غيبته ، وعلم من إنكار عباده لمقدار ذلك العمر في الطول ، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب ، فما أوجب ذلك إلاّ لعلّة الاستدلال على عمر القائم ، وليقطع بذلك حجّة المعاندين ، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة.

(فكثيراً ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعن آله المعصومين كون القائم فيه سنّة من نوح وهي طول العمر ... أوردوا ذلك مورد تأكيد لا ريب فيه ، حتّى أنّ الصادق (عليه السلام) قال مرّة مستهجناً : أما تنكرون أن يُمِدّ الله لصاحب هذا الأمر في العمر كما مدّ لنوح (عليه السلام) في العمر ؟ ! ثمّ قال مرّة ثانية : إنّ وليّ الله يُعمّر عمر إبراهيم الخليل عشرين ومئة سنة وكان يظهر في صورة فتى موفّق ـ أي رشيد قوي ـ ابن ثلاثين سنة . لو خرج القائم أنكره الناس ، يرجع شابّاً موفّقاً ...

(وكيف نتعجّب من رجوعه محتفظاً بمقوّمات شبابه إذا اجرى الله تعالى عليه ما أجرى لغيره من الصالحين ؟ فإنّ طول عمره صار عن محض الإرادة الإلهيّة التي قدّرت طول العمر لكثير من الصالحين والطالحين فيما مضى وكما سترى ...

وقيل : إنّ عزيراً خرج من أهله وامرأته في شهرها ، وله خمسون سنة ، فلمّـا ابتلاه الله عزّ وجلّ بذنبه أماته مئة عام ثمّ بعثه ... فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة ، فاستقبله ابنه وهو ابن مئة سنة ! ! وردّ الله عزيراً إلى الذي كان به ...

أهذه أعجب أم قضيّة صاحبنا (عليه السلام) ؟

وخذ الثانية قبل أن ينقضي عجبك ، فإنّ نصر بن دهمان ـ من غطفان ـ قد عاش مئة وتسعين سنة ثمّ اعتدل بعدها وعاد شاباً ، فتعجّب معاصروه من ذلك أشدّ العجب ، حتّى أنّ العرب لم يروا مثلها اُعجوبة فريدة ! ومثل هذه أيضاً ، ما ذكره أصحاب السير والآثار من أنّ (زليخا) امرأة عزيز مصر قد رجعت شابّة طريّة بعد شيخوختها وهرمها.

بل ذكروا أنّ يوسف (عليه السلام) قد عاد فتزوّجها بحسب بعض رواياتهم ...

فلا أخال إطالة عمر المهدي (عليه السلام) إلى ما يزيد على الألف سنة موضوعاً فيه إشكال ذو بال ، وإن كان المستنكرون يرونه المشكلة كلّ المشكلة ، مع أنّ الإمام المعصوم يخلقه الله تعالى تامّ التركيب الجسمي ، معتدلا في جميع مقوّمات حياته ، ولا يصيبه الموت إلاّ بعارض خارجي كالقتل والسمّ كما حدث لآباء القائم (عليهم السلام)الذين ورد عنهم قولهم في مناسبة : ما منّا إلاّ مسموم أو شهيد[6] ، أي شهيد قتل أو قتيل سمّ ، على أنّ الإنسان العادي السليم الجسم لا يدهمه الموت إلاّ إذا طرأ عليه ما يخرّب جسمه ويعطّل بعض مقوّماته ، وها نحن نبحث عن هذه الظاهرة ـ ظاهرة طول العمر ـ من نواحيها الدينية والحياتية والطبيعية.

يتحدّث المصنّف في الناحية الدينية عن جانب الأعجاز والقدرة الإلهيّة وأنّ بقاء المهدي (عليه السلام) كان باختيار الله تعالى وتحت مقدوره ، وبمشيّته لا بمشيّتنا ولا اختيارنا ولا موافقتنا ...

ثمّ يقول : أمّا تطويل الأعمار فهو همّ أساطين الأطباء اليوم ، وهم جهابذة علم الحياة الذين يبحثون بوسائلهم الأرضيّة عن تنشيط الخلايا وإصلاح الأنسجة المستهلكة ، وتجديد شباب الشيوخ ، أي أ نّهم يبحثون عن شيء يعرفه الله ـ يا سيّد العارفين ! ـ فكيف ننكر عليه أن يجدّد الخلايا ، ويعيد الشباب ويطيل العمر ؟ ! مَه مَه للعقول التي لا تريد أن تفكّر وتقابل ! ومهلا مهلا لمن يجفله اسم الله كما كان يجفل الفيلسوف الفرنسي ـ فيكتور هوغو ـ الذي درّس الإلحاد لتلامذته حتّى بلغ السادسة والثمانين ثمّ صرخ بملء شدقيه ـ أثناء الدرس ـ : يا ربّ خلّصنا . حين هبّت عاصفة غير مألوفة يرافقها رعد وبرق وريح صرصر كادت تهدم البيوت وتقتلع الأشجار ، ثمّ كانت صرخته هذه سبباً لإثارة انتباه تلامذته الذين صرخوا بدورهم ، نراك تستغيث بالربّ الذي تدرّسنا وتدرّبنا على إنكاره منذ عشرات السنين ! ثمّ كان ذلك سبباً لإعادة نظره في عقيدته الاُولى والرجوع إليها لمّـا رأى الإنسان يرجع إلى الله وحده وقت الضيق والخطر الذي لا يدفع ...

فطول عمره ثابت بتواتر النقل ، لا يأباه واقع ولا عقل حصيف ، وكأ نّه ـ في واقع الحال ـ فتنة قدّرها الله لنا كما قدّر غيرها من الفتن التي امتحن بها امتثال الاُمم الغابرة لأوامر رسله إليهم واُمناء وحيه عليهم . فلا امتناع في تطويل عمره ، بدليل تصافي أهل الأديان السماوية على بقاء عيسى والخضر (عليهما السلام) حيّين ... ولماذا لا نرضى حلا لمثل هذه العقدة لوليّ من أولياء الله المخلصين ونرتضيها لغيره من المخلوقين ...

ثمّ في الناحية الحياتية (البيولوجية) يقول : إنّ علماء الحياة والأطباء المعاصرين قد توصّلوا إلى أنّ كلّ الأنسجة الرئيسية في جسم الكائن الحيّ قابلة للاستمرار إلى ما لا نهاية له إذا لم يعرض لها ما يقطع حياتها ... وقد أصبح من المقرّر عندهم أ نّه لا مانع للإنسان من حياة طويلة إذا تيسّرت له جميع الظروف المناسبة . بل لقد قرّروا أنّ الأجزاء الأوّلية للأنسجة يمكن أن تبقى حيّة نامية ما دام يتوفّر لها الغذاء اللازم والمناخ الملائم ، وما دامت في منأىً عن العوارض الخارجيّة المعيقة للنموّ والحياة ، فليس بعجيب أن يطول عمر بعض الناس إذا توفّرت الظروف الصالحة ... العجب كلّ العجب كيف يموت الحيّ الذي خلاياه قابلة للاستمرار في الحياة إلى ما لا نهاية له ؟ وما من أحد منهم ينكر أنّ في مقدور الإنسان العادي أن يتوصّل إلى إطالة العمر ، كما قد توصّل إلى تقليل نسبة الوفيات في الأطفال في سائر مناطق الدنيا ...

وفي الناحية الطبيعية (المصادفة) يتحدّث عن الصدفة ثمّ يقول : فكون المهدي (عليه السلام) مولوداً ليس من المستحيل ، وكونه موجوداً ليس من المستحيل ، وكونه غائباً عن الأعين بالمعنى الذي بيّناه ليس من المستحيل أيضاً ، وكونه طويل العمر ليس من المستحيل ولا من غير الممكن ولا ممّـا يستعصي على مُطيل الأعمار : ربّاً كان أو محاولة إنسانية فريدة من نوعها ، أو مصادفة بلهاء !

فعلى صعيد العقائد السماوية ، يرى جميع المعترضين بالعقيدة المهدوية وبالبعث والحساب والثواب والعقاب ، أنّ أهل الجنّة لا يهرمون ولا يموتون ، وهم فيها مخلّدون ... ومثلهم أهل النار ... فمن الميسور على مخلّدهم أن يمدّ في عمر أوليائه في دار الدنيا مدّاً مؤقّتاً لا تخليداً ... وعلى صعيد العلم والفهم ، سيخرج قائم أهل البيت (عليهم السلام) قريباً ـ كما نستنتج من العلامات ـ فيقتنع الناس بالمحسوس والملموس ، حين يجيل سيفه في رؤوس ركبها الانحراف عن أمر الله ... فهو مرصود لمثل هذه الحالة بالذات ، لا لجزّ رقاب المؤمنين ولا لحرب الصالحين ، بل له يوم موعود مظفّر ... وسيخرج حين يؤذن له كما وصفه إمامنا الحسن بن علي (عليه السلام) حين قال للمتعجّبين من طول عمره : لو قام المهدي لأنكره الناس ، لأ نّه يرجع إليهم شاباً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً ، وكما قال الصادق (عليه السلام) أيضاً : أما إنّه لو قد قام لقال الناس : أنّى يكون هذا وقد بليت عظامه منذ دهر طويل ؟ ! (من كذا وكذا).

نعم سيخرج ... فانتظروا ، إنّي معكم من المنتظرين ... وتعجّبوا من قصر أعماركم في هذا العصر ، لا من طول أعمار غيركم في سالف الزمان ...


[1]مجلّة (دانشمند) العلمية ، السنة السادسة ، العدد السادس.

[2]البقرة : 2.

[3]لقد أورد المسعودي في تأريخ مروج الذهب (1 : 20) عدداً من المعمّرين في التأريخ ، وهم : آدم 930 سنة ، وشيت 912 سنة ، وانوش 960 ، وقدنان 920 سنة ، ولوط 733 ، ونوح 950 سنة ، وكيومرث 1000 سنة ، وعاد 1200 سنة ، وعليكم بمراجعة (المعمّرون والوصايا) لأبي حاتم السجستاني و (الآثار الباقية) للبيروني و (يوم الخلاص) لكامل سليمان و (البحار 51 : 243) و (إلزام الناصب : 86) و (المهدي : 127) و (إعلام الورى : 442) و (البرهان : 11) وغيرها.

[4](حوارات حول المنقذ).

[5]الأنبياء : 69.

[6]إلزام الناصب : 10.

الدليل الخامس : الإيمان بالغائبين