خامسا : التراث الفقهي والفكري
للأئمة الإثني عشر (ع)

خلَّف أهل البيت تاريخيا تراثا رواه عنهم أصحابهم وحفلت به المصادر الشيعية ، وروت بعضه المصادر السنية .

ومن ينعم النظر في هذا التراث بشكل عام يلمح فيه خصائص معينة هي عين الخصائص التي يتميز بها المضمون القرآني أو حديث النبي (ص) :

كالإخبار بالمغيبات .

والإنسجام مع حقائق العلوم التجريبية والمكتشفات الحديثة .

والإنسجام التام مع القرآن بحيث يشكل معه وحدة فكرية ونظرية واحدة .

هذا مع الإستقلال الفكري التام عن علماء العصر .

وكما يعتمد علماء المسلمين هذه الخصائص لإثبات ان القرآن وحي وان الحديث النبوي وحي كذلك تصلح هذه الخصائص لتراث أهل البيت برواية الشيعة في تصديق دعوى الشيعة بان الذي ينفردون به من رواية عن أهل البيت إنما هو من مشكاة النبوة نفسها وأنه مما كتبه علي عن النبي وتوارثه أهل البيت عنه بأمره وبوصية منه (ص) .

نماذج من اخبارهم بالمغيبات :

قال ابن ابي الحديد في شرح قول علي (ع) :

( فو الذي نفسي بيده لا تسألونني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحط رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ومن يموت منهم موتا . ) .

قال ابن ابي الحديد : واعلم أنه عليه السلام قد أقسم في هذا الفصل بالله الذى نفسه بيده ، أنهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلا أخبرهم به ، وأنه ما صح من طائفة من الناس يهتدى بها مائه وتضل بها مائة ، إلا وهو مخبر لهم - إن سألوه - برعاتها ، وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ، ومن يقتل منها قتلا ، ومن يموت منها موتا .

وهذه الدعوى ليست منه عليه عليه السلام ادعاء الربوبية ، ولا ادعاء النبوة ، ولكنه كان يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك .

ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقا ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة :

كإخباره عن الضربة التى يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته ،

وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام ، وما قاله في كربلاء حيث مر بها …

وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان ،

ما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم ، وصلب من يصلب ،

إخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ،

وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها ،

وإخباره عن عبد الله بن الزبير ، وقوله فيه : " خب ضب ، يروم أمرا ولا يدركه ، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا ، وهو بعد مصلوب قريش " .

وكإخباره عن هلاك البصرة ، بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج ، وهو الذى صحفه قوم فقالوا : بالريح ،

وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان ، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببنى رزيق ، بتقديم المهملة ، وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم ، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية ،

وكإخباره عن الائمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان ، كالناصر والداعى وغيرهما ، في قوله عليه السلام : " وإن لآل محمد بالطالقان لكنزا سيظهره الله إذا شاء دعاؤه حق يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله " ،

وكأخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة ، وقوله : " إنه يقتل عند أحجار الزيت " ،

وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة : " يقتل بعد أن يظهر ، ويقهر بعد أن يقهر " ، وقوله فيه أيضا : " يأتيه سهم غرب / سهم غرب ، أى لا يدرى راميه/ يكون فيه منيته فيا بؤسا للرامى ! شلت يده ، ووهن عضده " …

وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم : " ويخرج من ديلمان بنو الصياد " ، إشارة إليهم . وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو وعياله بثمنه ، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة ، ونشر ذريتهم حتى ضربت الامثال بملكهم . وكقوله عليه السلام فيهم : " ثم يستشرى أمرهم حتى يملكوا الزوراء ، ويخلعوا الخلفاء " . فقال له قائل : فكم مدتهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال : " مائة أو تزيد قليلا " . وكقوله فيهم : و " المترف ابن الاجذم ، يقتله ابن عمه على دجلة " ، وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبى الحسين ، وكان معز الدولة أقطع اليد ، قطعت يده للنكوص في الحرب ، وكان ابنه عز الدولة بختيار مترفا ، صاحب لهو وشرب ، وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر على دجلة في الحرب ، وسلبه ملكه ، فأما خلعهم للخلفاء فإن معز الدولة خلع المستكفي ، ورتب عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة ، خلع الطائع ورتب عوضه القادر ، وكانت مدة ملكهم كما أخبر به عليه السلام .

وكإخباره عليه السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن إنتقال الامر إلى أولاده ، فإن على بن عبد الله لما ولد ، أخرجه أبوه عبد الله إلى على عليه السلام ، فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة قد لاكها ، ودفعه إليه ، وقال : خذ إليك أباالاملاك ، هكذا الرواية الصحيحة ، وهى التى ذكرها أبوالعباس المبرد في " الكتاب الكامل وليست الرواية التى يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه .

وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ، مما لو أردنا استقصاءه لكسرنا له كراريس كثيرة ، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة .

نماذج من انسجام فتاواهم وروايتهم مع العلم الحديث :

- الروايات الماثورة عنهم في الإشارة الى (ظاهرة الموت الظاهري ) (clinical death phaenomina) وحكم الميت بالسكتة والصعقة ووجوب تأخير تجهيزهما وانسجامها مع قرارات مؤتمر الطب العدلي منتصف القرن العشرين في الموضوع نفسه (1).

- روايات الإشارة الباقلاء وكونها تولد الدم حيث روي عن الإمام الصادق و الكاظم والرضا (ع) أن أكل الباقلاء يمخخ الساقين ويولد الدم الطري وقد اثبت الطب الحديث ان مركز تكوين الدم هو مخ العظام (2).

- روايات تشخيص الجودي الوارد ذكره في القرآن في قوله تعالى (واستوت على الجودي ) ب (فرات الكوفة ) وانسجامه مع ما وجد في الآثار المسمارية التي بقيت مطمورة تحت التراب الاف السنين قبل الصادق وبعده حتى كشفت في القرن العشرين والقرن التاسع عشر(3) .

______________________

(1) فصلنا ذلك في مقال كتبناه نشر في مجلة اخبار الكلية الطبية في بغداد سنة 1969.

(2) الحر العاملي وسائل الشيعة آل البيت ج 25 ص 129عن الكافي للكليني . اول من انتبه الى ذلك فيما اعلم هو الدكتور سعد سلمان تاج الدين .

(3) بحثنا هذه الرواية ونظائرها في نشرة القرآن وعلم الاثار الكراسة الاولى .