الكتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى : 538هـ)
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير ]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{ وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب } قيل : هو ذبائحهم . وقيل : هو جميع مطاعمهم . ويستوي في ذلك جميع النصارى . وعن علي رضي الله عنه : أنه استثنى نصارى بني تغلب وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وبه أخذ الشافعي . وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس . وهو قول عامة التابعين ، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه . وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة . وقال صاحباه : هم صنفان : صنف يقرؤن الزبور ويعبدون الملائكة . وصنف لا يقرؤن كتاباً ويعبدون النجوم؛ فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب . وأما المجوس فقد سنّ بهم سنّة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم . وقد وري عن أبي المسيب أنه قال : إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس . وقال أبو ثور : وإن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وقد أساء { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } فلا عليكم أن تطعموهم ، لأنه لو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم { والمحصنات } الحرائر أو العفائف وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم والإماء من المسلمات يصحّ نكاحهنّ بالاتفاق ، وكذلك نكاح غير العفائف منهن ، وأما الإماء الكتابيات ، فعند أبي حنيفة : هنَّ كالمسلمات ، وخالفه الشافعي ، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات ، ويحتج بقوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها : إن ربها عيسى . وعن عطاء : قد أكثر الله المسلمات ، وإنّما رخص لهم يومئذ { مُّحْصِنِينَ } أعفاء { وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } صدائق ، والخدن يقع على الذكر والأنثى { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } بشرائع الإسلام وما أحلّ الله وحرّم .
(2/3)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{ إذا قمتم إلى الصلاة } كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] وكقولك : إذا ضربت غلامك فهوّن عليه ، في أن المراد إرادة الفعل . فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت : لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه ، فكما عبر عن القدرة عن الفعل بالفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي لا يقدران على الطيران والإبصار . ومنه قوله تعالى : { نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فاعلين } [ الأنبياء : 104 ] يعني إنا كنا قادرين على الإعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأنّ الفعل مسبب عن القدرة والإرادة ، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما ، ولإيجاز الكلام ونحوه من إقامة المسبب مقام السبب قولهم : كما تدين تدان ، إن عبر عن الفعل المبتدأ الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه . وقيل : معنى قمتم إلى الصلاة قصدتموها؛ لأنّ من توجّه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له لا محالة ، فعبَّر عن القصد له بالقيام إليه . فإن قلت : ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصَّلاة محدث وغير محدّث ، فما وجهه؟ قلت : يحتمل أن يكون الأمر للوجوب ، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة ، وأن يكون للندب . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده/
( 336 ) أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 337 ) " من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات " وعنه عليه السلام :
( 338 ) " أنه كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه وصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد " ، فقال له عمر : صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال : " عمداً فعلته يا عمر " يعني بياناً للجواز؟ فإن قلت : هل يجوز أن يكون الأمر شاملاً للمحدثين وغيرهم لهؤلاء على وجه الإيجاب ، ولهؤلاء على وجه الندب . قلت : لا ، لأنَّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية . وقيل : كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض . ثم نسخ ( إلى ) تفيد معنى الغاية مطلقاً . فأمَّا دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل ، فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] لأن الإعسار علة الإنذار . وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً . وكذلك : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } [ البقرة : 187 ] لو دخل الليل لوجب الوصال . ومما فيه دليل على أن الدخول قولك : حفظت القرآن من أوله إلى آخره لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله تعالى : { مّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله .
(2/4)

وقوله : { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل . وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 339 ) " أنه كان يدير الماء على مرفقيه " { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } المراد إلصاق المسح بالرأس . وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح ، كلاهما ملصق للمسح برأسه . فقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية ، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روي :
( 340 ) أنه مسح على ناصيته . وقدر الناصية بربع الرأس . قرأ جماعة "وأرجلكم" بالنصب ، فدل على أن الأرجل مغسولة فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها ، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها . وقيل : { إِلَى الكعبين } فجيء بالغاية إماطة لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة ، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة . وعن علي رضي الله عنه : أنه أشرف على فتية من قريش فرأى في وضوئهم تجوزاً ، فقال : ويل للأعقاب من النار ، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلاً ويدلكونها دلكاً . وعن ابن عمر [ و ] :
( 341 ) كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال : " ويل للأعقاب من النار " وفي رواية جابر :
( 342 ) " ويل للعراقيب " وعن عمر أنه رأى رجلاً يتوضأ فترك باطن قدميه ، فأمره أن يعيد الوضوء ، وذلك للتغليظ عليه ، وعن عائشة رضي الله عنها لأن تقطعا أحب إليّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين . وعن عطاء : والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين . وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح . وعن الحسن : أنه جمع بين الأمرين . وعن الشعبي : نزل القرآن بالمسح والغسل سنة . وقرأ الحسن : وأرجلكم ، بالرفع بمعنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين . وقرىء : "فاطهروا" أي فطهروا أبدانكم ، وكذلك ليطهركم . وفي قراءة عبد الله : "فأموا صعيداً " { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ } في باب الطهارة ، حتى لا يرخص لكم في التيمم { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ } بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } وليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيثيبكم .
(2/5)

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{ واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وهي نعمة الإسلام { وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ } أي عاقدكم به عقداً وثيقاً هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا : سمعنا وأطعنا . وقيل : هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان .
(2/6)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
عدّى { يَجْرِمَنَّكُمْ } بحرف الاستعلاء مضمناً معنى فعل يتعدّى به ، كأنه قيل : ولا يحملنكم . ويجوز أن يكون قوله : { أَن تَعْتَدُواْ } بمعنى على أن تعتدوا ، فحذف مع أن ونحوه قوله عليه السلام :
( 343 ) " من اتبع على ملىء فليتبع " أنه بمعنى أحيل . وقرىء : { شَنَآنُ } بالسكون . ونظيره في المصادر ( ليان ) والمعنى : لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } نهاهم أولاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل ، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله : { هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } أي العدل أقرب إلى التقوى ، وأدخل في مناسبتها . أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفاً فيها . وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة ، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله ، كأنه قال : قدّم لهم وعداً فقيل : أي شيء وعده لهم؟ فقيل : لهم مغفرة وأجر عظيم . أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة . أو على إجراء وعد مجرى قال : لأنه ضرب من القول . أو يجعل واقعاً على الجملة التي هي لهم مغفرة ، كما وقع ( تركنا ) على قوله : { سلام على نُوحٍ } [ الصافات : 119 ] كأنه قيل : وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول ، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم . وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة ، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب .
(2/7)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
روي :
( 344 ) أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً ، وذلك بعسفان في غزوة ذي أنمار . فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم ، فقالوا : إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها . فنزل جبريل بصلاة الخوف . وروي :
( 345 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة ومعه الشيخان وعليّ رضي الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين . فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، اجلس حتى نطعمك ونقرضك ، فأجلسوه في صفة وهموا بالفتك به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحا عظيمة يطرحها عليه ، فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبره ، فخرج . وقيل :
( 346 ) نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها ، فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي فسلّ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني؟ قال : الله ، قالها ثلاثاً ، فشام الأعرابي السيف فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم ، وأبى أن يعاقبه . يقال : بسط إليه لسانه إذا شتمه ، وبسط إليه يده إذا بطش به " وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء " [ الممتحنة : 2 ] ومعنى ( بسط اليد ) مدّها إلى المبطوش به . ألا ترى إلى قولهم : فلان بسيط الباع ، ومديد الباع ، بمعنى { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } فمنعها أن تمدّ إليكم .
(2/8)

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة ، وقال لهم : إني كتبتها لكم داراً قراراً ، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها ، وإني ناصركم ، وأمر موسى عليه السلام بأن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم ، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل ، وتكفل لهم به النقباء وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون ، فرأوا أجراماً عظيمة وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم ، فنكثوا الميثاق ، إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ، ويوشع بن نون من سبط أفراثيم بن يوسف ، وكانا من النقباء . والنقيب : الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها ، كما قيل له : عريف ، لأنه يتعرفها { إِنّى مَعَكُمْ } أي ناصركم ومعينكم { وعزرتموهم } نصرتموهم من أيدي العدوّ . ومنه التعزير ، وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد . وقرىء بالتخفيف يقال : عزرت الرجل إذا حطته وكنفته . والتعزير والتأزير من واد واحد . ومنه : لأنصرنك نصراً مؤزراً ، أي قوياً . وقيل معناه : ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والتوحيد وبعثنا منهم اثني عشر ملكاً يقيمون فيهم العدل ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر . واللام في { لَئِنْ أَقَمْتُمُ } موطئة للقسم وفي { لأَكَفِّرَنَّ } جواب له ، وهذا الجواب سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعاً { بَعْدَ ذَلِكَ } بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم . فإن قلت : من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضلّ سواء السبيل . قلت : أجل ، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم ، لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة ، فإذازادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى { لعناهم } طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا . وقيل : مسخناهم . وقيل : ضربنا عليهم الجزية { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قاسية } خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم . أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست . وقرأ عبد الله : "قسيَّة" ، أي ردية مغشوشة ، من قولهم : درهم قسيّ وهو من القسوة؛ لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وصلابة ، والقاسي والقاسح - بالحاء - أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة وقرىء : "قسية" ، بكسر القاف للإتباع { يُحَرّفُونَ الكلم } بيان لقسوة قلوبهم ، لأنه لا قسوة أشدّ من الافتراء على الله وتغيير وحيه { وَنَسُواْ حَظَّا } وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً { مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } من التوراة ، يعني أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم ، أو قست قلوبهم وفسدت فحرّفوا التوراة وزالت أشياء منها عن حفظهم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية . وتلا هذه الآية . وقيل : تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ } أي هذه عادتهم وهجيراهم وكان عليها أسلافهم كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ينكثون عهودك ويظاهرون المشركين على حربك ويهمون بالفتك بك وأن يسموك { على خَائِنَةٍ } على خيانة ، أو على فعلة ذات خيانة ، أو على نفس ، أو فرقة خائنة .
(2/9)

ويقال : رجل خائنة ، كقولهم : رجل راوية للشعر للمبالغة . قال :
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُن ... لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مَضَلَّ الأُصْبُعِ
وقرىء على خيانة { مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم الذين آمنوا منهم { فاعف عَنْهُمْ } بعث على مخالفتهم . وقيل هو منسوخ بآية السيف . وقيل : فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم .
(2/10)

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{ أَخَذْنَا ميثاقهم } أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى ، أي مثل ميثاقهم بالإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير ، وأخذنا من النصارى ميثاق أنفسهم بذلك . فإن قلت : فهلا قيل : من النصارى؟ قلت : لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله ، ثم اختلفوا بعد : نسطورية ، ويعقوبية ، وملكانية . أنصاراً للشيطان { فَأَغْرَيْنَا } فألصقنا وألزمنا من غري بالشيء إذا لزمه ولصق به وأغراه غيره . ومنه الغراء الذي يلصق به { بَيْنَهُمْ } بين فرق النصارى المختلفين . وقيل : بينهم وبين اليهود . ونحوه { وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } [ الأنعام : 129 ] ، { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 69 ] .
{ يا أَهْلَ الكتاب } خطاب لليهود والنصارى { مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ } من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن نحو الرجم { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } مما تخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية ، ولم يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته مما لا بدّ من بيانه ، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة . وعن الحسن : ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ } يريد القرآن ، لكشفه ظلمات الشرك والشك ، لإبانته ما كان خافياً عن الناس من الحق . أو لأنّه ظاهر الإعجاز { مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ } من آمن به { سُبُلَ السلام } طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله .
(2/11)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قولهم : { إِنَّ الله هُوَ المسيح } معناه بتّ القول ، على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير . قيل : كان في النصارى قوم يقولون ذلك . وقيل : ما صرّحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه ، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ } من دعوه إلها من المسيح وأمّه دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد . وأراد بعطف { مَن فِى الأرض } على ( المسيح وأمّه ) أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم في البشرية { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكر كما خلق عيسى ، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم . أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له ، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك . فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده .
(2/12)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{ أبناؤا الله } أشياع ابني الله عزير والمسيح ، كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير ( الخبيبون ) وكما كان يقول رهط مسيلمة : نحن أنبياء الله . ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه : نحن الملوك . ولذلك قال مؤمن آل فرعون : لكم الملك اليوم { فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } فإن صحّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياماً معدودات على زعمكم . ولو كنتم أبناء الله ، لكنتم من جنس الأب ، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب . ولو كنتم أحباءهُ ، لما عصيتموه ولما عاقبكم { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ } من جملة من خلق من البشر { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } وهم أهل الطاعة { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } وهم العصاة .
(2/13)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{ يُبَيّنُ لَكُمْ } إما أن يقدّر المبين وهو الدين والشرائع ، وحذفه لظهور ما ورد الرسول لتبيينه . أو يقدّر ما كنتم تخفون ، وحذفه لتقدّم ذكره . أو لا يقدر ويكون المعنى . يبذل لكم البيان ، ومحله النصب على الحال ، أي مبيناً لكم . { على فَتْرَةٍ } متعلق بجاءكم ، أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي { أَن تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا { فَقَدْ جَاءكُمُ } متعلق بمحذوف ، أي لا تعتذروا فقد جاءكم . وقيل : كان بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما خمسمائة وستون سنة . وقيل : ستمائة . وقيل : أربعمائة ونيف وستون . وعن الكلبي : كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي وبين عيسى ومحمد صلوات الله عليهم أربعة أنبياء . ثلاث من بني إسرائيل ، وواحد من العرب : خالد بن سنان العبسي . والمعنى : الامتنان عليهم ، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي أحوج ما يكون إليه ، ليهشوا إليه ويعدّوه أعظم نعمة من الله ، وفتح باب إلى الرحمة ، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن غفلتهم .
(2/14)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
{ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء } لأنه لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه ، وبعد الجبابرة ملكهم : ولأنّ الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء . وقيل : كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله ، فسمِّي إنقاذهم ملكاً . وقيل : الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار . وقيل : من له بيت وخدم . وقيل : من له مال لا يحتاج معه إلى تكلّف الأعمال وتحمل المشاق { مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن العالمين } من فلق البحر ، وإغراق العدوّ ، وتظليل الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك من الأمور العظام ، وقيل : أراد عالمي زمانهم { الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } يعني أرض بيت المقدس . وقيل : الطور وما حوله . وقيل : الشام . وقيل : فلسطين ودمشق وبعض الأردن . وقيل : سمَّاها الله لإبراهيم ميراثاً لولده حين رفع على الجبل ، فقيل له : انظر ، فلك ما أدرك بصرك ، وكان بيت المقدس قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين { كَتَبَ الله لَكُمْ } قسمها لكم وسماها ، أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم } ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً ، وقيل : لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : ليتنا متنا بمصر . وقالوا : تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر . ويجوز أن يراد : لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم : فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة . الجبار ( فعال ) من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد { قَالَ رَجُلاَنِ } هما كالب ويوشع { مِنَ الذين يَخَافُونَ } من الذين يخافون الله ويخشونه ، كأنه قيل : رجلان من المتقين . ويجوز أن تكون الواو لبني إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف تقديره : من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون ، وهما رجلان منهم { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } بالإيمان فآمنا ، قالا لهم : إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها ، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم يشجعانهم على قتالهم . وقراءة من قرأ : "يخافون" بالضم شاهدة له ، وكذلك أنعم الله عليهما ، كأنه قيل : من المخوفين . وقيل : هو من الإخافة ، ومعناه من الذين يخوفون من الله بالتذكرة والموعظة . أو يخوّفهم وعيد الله بالعقاب . فإن قلت : ما محل ( أنعم الله عليهما ) ؟ قلت : إن انتظم مع قوله : ( من الذين يخافون ) في حكم الوصف لرجلان فمرفوع ، وإن جعل كلاماً معترضاً فلا محلّ له . فإن قلت : من أين علما أنهم غالبون؟ قلت : من جهة إخبار موسى بذلك . وقوله تعالى : { كَتَبَ الله لَكُمْ } وقيل : من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله ، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة .
(2/15)

والباب : باب قريتهم { لَنْ نَّدْخُلَهَا } نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس . و { أَبَدًا } تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول . و { مَّا دَامُواْ فِيهَا } بيان للأبد { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب ، ولكن كما تقول : كلمته فدهب يجيبني ، تريد معنى الإرادة والقصد للجواب ، كأنهم قالوا : أريد قتالهم . والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وقلة مبالاة بهما واستهزاء ، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية الله عزّ وجلّ جهرة . والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم ويحكى أنّ موسى وهارون عليهما السلام خرَّا لوجوههما قدَّامهم لشدة ما ورد عليهما ، فهموا برجمهما . ولأمر مّا قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ } [ المائدة : 82 ] .
(2/16)

قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
لما عصوه وتمرّدوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق له إلا هارون { قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ } لنصرة دينك { إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى } وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب عليه السلام { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] . وعن عليّ رضي الله عنه أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة ، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء . ودعا لهما وقال : أين تقعان مما أريد؟ وذكر في إعراب ( أخي ) وجوه : أن يكون منصوباً عطفاً على نفسي أو على الضمير في ( إني ) بمعنى : ولا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه . ومرفوعا عطفاً على محل إن واسمها . كأنه قيل : أنا لا أملك إلا نفسي ، وهارون كذلك لا يملك إلا نفسه أو على الضمير في لا أملك . وجاز للفصل . مجروراً عطفاً على الضمير في نفسي ، وهو ضعيف لقبح العطف على ضمير المجرور إلا بتكرير الجار . فإن قلت : أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت : كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما ، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم ، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره ، ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عندما سمع منهم تقليلاً لمن يوافقه . ويجوز أن يريد : ومن يؤاخيني على ديني { فافرق } فافصل { بَيْنِنَا } وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون ، وهو في معنى الدعاء عليهم . ولذلك وصل به قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } على وجه التسبيب ، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله : { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } [ القصص : 21 ] { فَإِنَّهَا } فإن الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } لا يدخلونها ولا يملكونها ، فإن قلت : كيف يوفق بين هذا وبين قوله : { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 21 ] ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلمَّا أبوا الجهاد قيل : فإنها محرّمة عليهم . والثاني : أن يراد فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة ، فإذا مضت الأربعون كان من كتب ، فقد روي أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض صلوات الله عليه . وقيل : لما مات موسى بعث يوشع نبياً ، فأخبرهم بأنه نبيّ الله ، وأن الله أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل الجبارين وأخرجهم ، وصار الشام كله لبني إسرائيل . وقيل : لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا } وهلكوا في التيه ونشأت نواشيء من ذرّياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها والعامل في الظرف إما ( محرمة ) وإما ( يتيهون ) ومعنى { يَتِيهُونَ فِى الأرض } يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً .
(2/17)

والتيه : المفازة التي يتاه فيها . روى أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين ، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظللهم من حرّ الشمس ، ويطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم ، وينزل عليهم المنّ والسلوى ، ولا تطول شعورهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله . فإن قلت : فلم كان ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره ، وهم معاقبون؟ قلت : كما ينزل بعض النوازل على العصاة عركاً لهم ، وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة . ومثل ذلك مثل الوالد المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه . فإن قلت : هل كان معهم في التيه موسى وهارون عليهما السَّلام؟ قلت : اختلف في ذلك ، فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقاباً ، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم . وقيل : كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلامة ، ولا عقوبة ، كالنار لإبراهيم ، وملائكة العذاب . وروي أن هارون مات في التيه . ومات موسى بعده فيه بسنة . ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر . ومات النقباء في التيه بغتة ، إلا كالب ويوشع { فَلاَ تَأْسَ } فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم ، فقيل : إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب ، فلا تحزن ولا تندم .
(2/18)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل ، أوحى الله إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر ، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها ( إقليما ) فحسد عليها أخاه وسخط . فقال لهما آدم : قرّبا قرباناً ، فمن أيكما تقبل زوّجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته؛ فازداد قابيل حسداً وسخطاً ، وتوعده بالقتل . وقيل : هما رجلان من بني إسرائيل { بالحق } تلاوة متلبسة بالحق والصحة . أو اتله نبأ متلبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأوّلين . أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد؛ لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه . أو اتل عليهم وأنت محق صادق . و { إِذْ قَرَّبَا } نصب بالنبأ أي قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ ، أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت ، على تقدير حذف المضاف . والقربان : اسم ما يتقرّب به إلى الله من نسيكة أو صدقة ، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلّى أي يعطى . يقال : قرّب صدقة وتقرّب بها ، لأن تقرّب مطاوع قرب : قال الأصمعي : تقرّبوا قرف القمع فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب . فإن قلت : كيف كان قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } جواباً لقوله : { لأَقْتُلَنَّكَ } ؟ قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان . وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم . وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إني أسمع الله يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } . { مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } قيل : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ، ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله؛ لأنّ الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت . قاله مجاهد وغيره { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } أن تحتمل إثم قتلي لك لو قتلتك وإثم قتلك لي . فإن قلت : كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام ، كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره . ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 347 ) " المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم "
(2/19)

على أنّ البادي عليه إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه؛ لأنه كان سبباً فيه ، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفوّ عنه ، لأنه مكافىء مدافع عن عرضه . ألا ترى إلى قوله : ( ما لم يعتد المظلوم ) لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم . فإن قلت : فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت : هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت يدي إليك . وقيل : ( بإثمي ) بإثم قتلي ( وإثمك ) الذي من أجله لم يتقبل قربانك فإن قلت : فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه النار؟ قلت : كان ظالماً وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين } وإذا جاز أن يريده الله ، جاز أن يريده العبد؛ لأنه لا يريد إلا ما هو حسن . والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب ، فإن قلت : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله : { لَئِن بَسَطتَ . . . . مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ } ؟ قلت : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع . ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي ، { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فوسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع : إذا اتسع . وقرأ الحسن : "فطاوعت" . وفيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أنّ قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، وله لزيادة الربط كقولك : حفظت لزيد ماله . وقيل : قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء ، وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم { فَبَعَثَ الله غُرَاباً } روي : أنه أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم . ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة { قَالَ ياويلتا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب } ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض ، فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً ، فقال : بل قتلته ولذلك اسودِّ جسدك . وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون . وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر . { لِيُرِيَهُ } ليريه الله . أو ليريه الغراب ، أي ليعلمه؛ لأنه لما كان سبب تعليمه ، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز { سَوْءَةَ أَخِيهِ } عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده .
(2/20)

والسوأة : الفضيحة لقبحها . قال :
يَا لَقَوْمِ لِلسَّوْأةِ السَّوْآء ... أي للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها { فَأُوَارِيَ } بالنصب على جواب الاستفهام . وقرىء بالسكون على : فأنا أواري . أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف { مِنَ النادمين } على قتله ، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ، وتبين له من عجزه ، وتلمذه للغراب ، واسوداد لونه وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين { مِنْ أَجْلِ ذلك } بسبب ذلك وبعلته . وقيل : أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلاً . ومنه قوله :
وَأَهِل خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهِم ... قَدِ احْتَرَبُوا في عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ
كأنك إذا قلت : من أجلك فعلت كذا ، أردت من أن جنيت فعلته وأوجبته ، ويدل عليه قولهم : من جراك فعلته ، أي من أن جررته بمعنى جنيته . وذلك إشارة إلى القتل المذكور ، أي من أن جنى ذلك القتل الكتب وجرّه { كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل } و ( من ) لابتداء الغاية ، أي ابتدأ الكتب و نشأ من أجل ذلك . ويقال : فعلت كذا لأجل كذا . وقد يقال : أجل كذا ، بحذف الجار وإيصال الفعل قال : أجل إنّ الله قد فضلكم . وقرىء : "من اجل ذلك" ، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها . وقرأ أبو جعفر : "من إجل ذلك" ، بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقياً لكسرة الهمزة عليها { بِغَيْرِ نَفْسٍ } بغير قتل نفس ، لا على وجه الاقتصاص { أَوْ فَسَادٍ } عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد { فِى الأرض } وهو الشرك . وقيل : قطع الطريق { وَمَنْ أحياها } ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك . فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت : لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة ، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس ، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك . فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت : تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها ، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها؛ لأنّ المتعرض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه ، وكذلك الذي أراد إحياءها . وعن مجاهد : قاتل النفس جزاؤه جهنم ، وغضب الله ، والعذاب العظيم . ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك . وعن الحسن : يا ابن آدم ، أرأيت لو قتلت الناس جميعاً أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازي ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سوَّلته لك نفسك والشيطان ، فكذلك إذا قتلت واحداً { بَعْدَ ذَلِكَ } بعدما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات { لَمُسْرِفُونَ } يعني في القتل لا يبالون بعظمته .
(2/21)

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته { وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً } مفسدين ، أو لأنّ سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد نزل منزلة : ويفسدون في الأرض فانتصب فساداً . على المعنى ، ويجوز أن يكون مفعولاً له ، أي الفساد . نزلت في قوم هلال بن عويمر وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وقد مرّ بهم قوم يريدون رسول الله فقطعوا عليهم . وقيل : في العرنيين ، فأوحى إليه أنّ من جمع بين القتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أفرد القتل قتل . ومن أفرد أخذ المال قطعت يده لأخذ المال ، ورجله لإخافة السبيل . ومن أفرد الإخافة نفي من الأرض . وقيل : هذا حكم كل قاطع طريق كافراً كان أو مسلماً . ومعناه { أَن يُقَتَّلُواْ } من غير صلب ، إن أفردوا القتل { أَوْ يُصَلَّبُواْ } مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ . قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ، يصلب حياً ، ويطعن حتى يموت { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف } إن أخذوا المال { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } إذا لم يزيدوا على الإخافة . وعن جماعة منهم الحسن والنخعي : أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كلّ قاطع طريق من غير تفصيل . والنفي : الحبس عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي : النفي من بلد إلى بلد ، لا يزال يطلب وهو هارب فزعاً ، وقيل : ينفى من بلده ، وكانوا ينفونهم إلى ( دهلك ) وهو بلد في أقصى تهامة ، و ( ناصع ) وهو بلد من بلاد الحبشة { خِزْىٌ } ذلّ وفضيحة { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة . وأما حكم القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء ، إن شاؤا عفواً ، وإن شاؤا استوفوا . وعن عليّ رضي الله عنه : أن الحرث بن بدر جاءه تائباً بعدما كان يقطع الطريق ، فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة .
(2/22)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
الوسيلة : كل ما يتوسل به أي يتقرّب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك ، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي . وأنشد للبيد :
أَرَى النَّاسَ لاَ يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِم ... أَلاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلَى اللَّهِ وَاسِلُ
(2/23)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } ليجعلوه فدية لأنفسهم . وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 348 ) " يقال للكافر يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ، فيقول : نعم ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك " و ( لو ) مع ما في حيزه خبر ( أن ) . فإن قلت : لم وحد الراجع في قوله : { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } وقد ذكر شيئان؟ قلت : نحو قوله :
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ... أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : ليفتدوا بذلك . ويجوز أن يكون الواو في ( مثله ) بمعنى ( مع ) فيتوحد المرجوع إليه . فإن قلت : فبم ينصب المفعول معه؟ قلت : بما يستدعيه ( لو ) من الفعل ، لأن التقدير : لو ثبت أن لهم ما في الأرض . قرأ أبو واقد "أن يُخرجوا" بضم الياء من أخرج . ويشهد لقراءة العامّة قوله : ( بخارجين ) . وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس : يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوماً يخرجون من النار ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } فقال : ويحك ، اقرأ ما فوقها . هذا للكفار . فما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وفراهم . وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش وأنضاده من بني عبد المطلب وهو حبر الأمّة وبحرها ومفسرها ، بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، وبرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية .
(2/24)

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{ والسارق والسارقة } رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه ، كأنه قيل : وفيما فرض عليكم السارق والسارقة أي حكمهما . ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط ، لأن المعنى : والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما ، والاسم الموصول يضمن معنى الشرط . وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامّة لأجل الأمر لأنّ ( زيداً فاضربه ) أحسن من ( زيد فاضربه ) { أَيْدِيَهُمَا } يديهما ، ونحوه : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف . وأريد باليدين اليمينان ، بدليل قراءة عبد الله : "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم" ، والسارق في الشريعة : من سرق من الحرز : والمقطع . الرسغ . وعند الخوارج : المنكب . والمقدار الذي يجب به القطع عشرة دراهم عند أبي حنيفة ، وعند مالك والشافعي رحمهما الله ربع دينار . وعن الحسن درهم وفي مواعظه : احذر من قطع يدك في درهم { جَزَاء } و { نكالا } مفعول لهما { فَمَن تَابَ } من السرّاق { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } من بعد سرقته { وَأَصْلَحَ } أمره بالتفصي عن التبعات { فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } ويسقط عنه عقاب الآخرة . وأمّا القطع فلا تسقطه التوبة عند أبي حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه ( مَن يَشَآءُ ) من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين . وقيل : يسقط حدّ الحربي إذا سرق بالتوبة ، ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه ، ولا يسقطه عن المسلم : لأنّ في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] . فإن قلت : لم قدّم التعذيب على المغفرة؟ قلت : لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة .
(2/25)

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قرىء "لا يحزنك" بضم الياء . ويسرعون . والمعنى : لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين { فِى الكفر } أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين ، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرّهم . يقال : أسرع فيه الشيب . وأسرع فيه الفساد ، بمعنى : وقع فيه سريعاً ، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه ، أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها . و { ءَامَنَّا } مفعول قالوا . و { بأفواههم } متعلق بقالوا لا بآمَنَّا { وَمِنَ الذين هِادُواْ } منقطع مما قبله خبر لسماعون ، أي : ومن اليهود قوم سماعون . ويجوز أن يعطف على { من الذين قالوا } ويرتفع سماعون على : هم سماعون . والضمير للفريقين . أو للذين هادوا . ومعنى { سماعون لِلْكَذِبِ } قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان . ومنه ( سمع الله لمن حمده ) { سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدّة البغضاء وتبالغ من العداوة ، أي قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك . وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير ، سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منه . وقيل : السَّمَّاعون : بنو قريظة . والقوم الآخرون : يهود خيبر { يُحَرّفُونَ الكلم } يميلونه ويزيلونه { عَن مواضعه } التي وضعه الله تعالى فيها ، فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } المحرف المزال عن مواضعه { فَخُذُوهُ } واعلموا أنه الحق واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ } وأفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } وإياكم وإياه فهو الباطل والضلال . وروي :
( 349 ) أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحّدهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقالوا : إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن يأمركم بالرجم فلا تقبلوا ، وأرسلوا الزانيين معهم ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، فقال : " هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له : ابن صوريا " ؟ قالوا : نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكماً . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه ، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ "
(2/26)

قال : نعم ، فوثب عليه سفلة اليهود ، فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب . ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } تركه مفتوناً وخذلانه { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً { أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله } أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم؛ لأنهم ليسوا من أهلها ، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله } [ النحل : 104 ] ، { كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } [ آل عمران : 86 ] .
(2/27)

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{ السحت } كل ما لا يحل كسبه ، وهو من - سحته - إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ] والربا باب منه . وقرىء : "السحت" بالتخفيف والتثقيل . والسحت بفتح السين على لفظ المصدر من سحته . "والسحت" ، بفتحتين . "والسحت" ، بكسر السين . وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام . وعن الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراها إياه وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب . وحكى أن عاملاً قدم من عمله فجاءه قومه ، فقدم إليهم العراضة وجعل يحدثهم بما جرى له في عمله ، فقال أعرابي من القوم : نحن كما قال الله تعالى : { سماعون لِلْكَذِبِ أكالون لِلسُّحْتِ } وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 350 ) " كل لحم أَنبته السحت فالنار أولى به " قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً - إذا تحاكم إليه أهل الكتاب - بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم . وعن عطاء والنخعي والشعبي : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاءوا حكموا وإن شاءوا أعرضوا . وقيل : هو منسوخ بقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } وعند أبي حنيفة رحمه الله : إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام ، وإن زنى منهم رجل بمسلمة أو سرق من مسلم شيئاً أقيم عليه الحدّ . وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم ، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود . ويقولون : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، كالجلد مكان الرجم . فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم ، شقّ عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه ، فأمن الله سربه { بالقسط } بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه ، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإِيمان به { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك } ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به { وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } بكتابهم كما يدّعون . أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبل التهكم بهم . فإن قلت : { فِيهَا حُكْمُ الله } ما موضعه من الإعراب؟ قلت : إمّا أن ينتصب حالاً من التوراة وهي مبتدأ خبره عندهم وإمّا أن يرتفع خبراً عنها كقولك : وعندهم في التوراة ناطقة بحكم الله وإمّا أن لا يكون له محل وتكون جملة مبنية ، لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ، كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب ، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت : لم أنثت التوراة؟ قلت : لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب . فإن قلت : علام عطف ثم يتولون؟ قلت : على يحكمونك .
(2/28)

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{ فِيهَا هُدًى } يهدي للحق والعدل { وَنُورٌ } يبين ما استبهم من الأحكام { الذين أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح ، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث ، وأنّ اليهودية بمعزل منها . وقوله : { الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } مناد على ذلك { والربانيون والأحبار } والزهاد والعلماء من ولد هارون ، الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود { بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله } بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة ، أي بسبب سؤال أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل ، و ( من ) في ( من كتاب الله ) للتبيين { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } رقباء لئلا يبدل . والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبييون - بين موسى وعيسى وكان بينهماألف بني وعيسى - للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد . وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله والقضاء بأحكامه ، وبسبب كونهم عليه شهداء . ويجوز أن يكون الضمير في ( استحفظوا ) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله ، أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس } نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء { وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا { بآياتي } وأحكامه { ثَمَناً قَلِيلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرّف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله } مستهيناً به { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } والظالمون والفاسقون : وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة . وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين : أهل الكتاب . وعنه : نعم القوم أنتم ، ما كان من حلو فلكم ، ومن كان من مرة فهو لأهل الكتاب ، من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقرّ فهو ظالم فاسق . وعن الشعبي : هذه في أهل الإسلام والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى . وعن ابن مسعود : هو عام في اليهود وغيرهم . وعن حذيفة : أنتم أشبه الأمم سمتاً ببني إسرائيل : لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ .
(2/29)

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
في مصحف أبيّ : ( وأنزل الله على بني إسرائيل فيها ) : وفيه : ( وأن الجروح قصاص ) . والمعطوفات كلها قرئت منصوبة ومرفوعة ، والرفع للعطف على محل أن النفس ، لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما لأنّ معنى الجملة التي هي قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتاب كما تقع عليه القراءة . تقول : كتبت الحمد لله ، وقرأ سورة أنزلناها . ولذلك قال الزجاج : لو قرىء : إن النفس بالنفس ، بالكسر؛ لكان صحيحاً . أو للاستئناف . والمعنى : فرضنا عليهم فيها { أَنَّ النفس } مأخوذة { بالنفس } مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق { و } كذلك { العين } مفقوءة { بالعين والأنف } مجدوع { بالأنف والأذن } مصلومة { بالاذن والسن } مقلوعة { بالسن والجروح قِصَاصٌ } ذات قصاص ، وهو المقاصة ، ومعناه : ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت : { فَمَن تَصَدَّقَ } من أصحاب الحق { بِهِ } بالقصاص وعفا عنه { فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } فالتصدق به كفارة للمتصدق يكفر الله من سيآته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته ، وعن عبد الله بم عمرو يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به ، وقيل : فهو كفارة للجاني ، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه ، وفي قراءة أبيّ : فهو كفارته له يعني فالمتصدق كفارته له أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها ، وهو تعظيم لما فعل ، كقوله تعالى { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] وترغيب في العفو .
(2/30)

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قفيته مثل عقبته ، إذا اتبعته ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء ، فإن قلت : فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت : هو محذوف والظرف الذي هو { على ءاثارهم } كالسَّادِّ مسدّه؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه ، والضمير في آثارهم للنبيين في قوله : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } . وقرأ الحسن : ( الأَنجيل ) بفتح الهمزة؛ فإن صحّ عنه فلأنه أعجمي خرج لعجمته عن زِناتِ العربية ، كما خرج هابيل وآجر { وَمُصَدّقًا } عطف على محل { فِيهِ هُدًى } ومحله النصب على الحال { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } يجوز أن ينتصبا على الحال . كقوله : { مُصَدّقاً } وأن ينتصبا مفعولاً لهما ، كقوله : { وَلْيَحْكُمْ } كأنه قيل . وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام . فإن قلت : فإن نظمت { هُدًى وَمَوْعِظَةً } في سلك مصدقاً ، فما تصنع بقوله ( وليحكم ) قلت : اصنع به ما صنعت بهدى وموعظة حين جعلتهما مفعولاً لهما ، فأقدّر : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه . وقرىء : "وَلْيحكُمْ" على لفظ الأمر بمعنى : وقلنا ليحكم . وروي في قراءة أبيّ : "وأن ليحكم" ، بزيادة ( أن ) مع الأمر على أنّ ( أن ) موصولة بالأمر ، كقولك : أمرته بأن قم كأنه قيل : وآتيناه الأنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل . وقيل : إن عيسى عليه السلام كان متعبداً بما في التوراة من الأحكام؛ لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة . وظاهر قوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ } يردّ ذلك ، وكذلك قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } [ المائدة : 48 ] وإن ساغ لقائل أن يقول : معناه : وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة .
(2/31)

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
فإن قلت : أي فرق بين التعريفين في قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } وقوله : { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب } ؟ قلت : الأول : تعريف العهد ، لأنه عنى به القرآن . والثاني : تعريف الجنس ، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة : ويجوز أن يقال : هو للعهد؛ لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق ، وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن { وَمُهَيْمِناً } ورقيباً على سائر الكتب؛ لأنه يشهد لها بالصحة والثبات . وقرىء : "مهيمناً عليه" بفتح الميم ، أي هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل ، كما قال : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] والذي هيمن الله عليه عزّ وجلّ أو الحفاظ في كل بلد ، لو حُرِّف حَرْف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد ، ولا شمأزوا رادّين ومنكرين . ضمن { لاَ تَتَّبِعُواْ } معنى ولا تنحرف؛ فلذلك عدّي بعن كأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } أيها الناس { شِرْعَةً } شريعة . وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين { ومنهاجا } وطريقا واضحاً في الدين تجرون عليه . وقيل : هذا دليل على أنَّا غير متعبدين بشرائع من قبلنا { لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } جماعة متفقة على شريعة واحدة ، أو ذوي أمّة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه { ولكن } أراد { لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءاتاكم } من الشرائع المختلفة ، هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } فابتدروها وتسابقوا نحوها { إلى الله مَرْجِعُكُمْ } استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات { فَيُنَبّئُكُمْ } فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم ، وعاملكم ومفرطكم في العمل .
(2/32)

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
فإن قلت : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ } معطوف على ماذا؟ قلت : على ( الكتاب ) في قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } كأنه قيل : وأنزلنا إليك أن احكم على أنّ ( أن ) وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال : ويجوز أن يكون معطوفاً على ( بالحق ) أي أنزلناه بالحق وبأن احكم { أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } أن يضلوك عنه ويستزلوك : وذلك :
( 351 ) أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود ، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا ، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ونصدّقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } يعني بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع { بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } موضع ذلك وأرادأنّ لهم ذنوباً جمة كثيرة العدد ، وأنّ هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها ، وهذا الإبهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه . ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد :
أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا ... أراد نفسه : وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفساً كبيرة ، ونفساً أيّ نفس ، فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية ، فكذلك إذا صرح بالبعض { لفَاَسِقُونَ } لمتمرّدون في الكفر معتدون فيه ، يعني أنّ التولي عن حكم الله من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر .
(2/33)

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
{ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } فيه وجهان ، أحدهما : أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى : وروي : ( ( 352 أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : "القتلى بواء" فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت : والثاني : أن يكون تعبيراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل ، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى : وعن الحسن : هو عامّ في كل من يبغي غير حكم الله : والحكم حكمان : حكم بعلم فهو حكم الله ، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان . وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض ، فقرأ هذه الآية : وقرىء : "تبغون" ، بالتاء والياء : وقرأ السلمي : "أفحكمُ الجاهلية يبغون" ، برفع الحكم على الابتداء ، وإيقاع يبغون خبراً وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 31 ] وعن الصفة في : الناس رجلان : رجل أهنت ، ورجل أكرمت . وعن الحال في ( مررت بهند يضرب زيد ) وقرأ قتادة : { أَفَحُكْمَ الجاهلية } على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به أفعى نجران ، أو نظيره من حكام الجاهلية ، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام . اللام في قوله : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } للبيان كاللام في ( هيت لك ) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون ، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه .
(2/34)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين . ثم علل النهي بقوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي إنما يوالي بعضهم بعضاً لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر ، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ } من جملتهم وحكمه حكمهم . وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 353 ) " لا تراءى ناراهما " ومنه قول عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كاتبه النصراني : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله : وروي : أنه قال له أبو موسى : لا قوام للبصرة إلا به ، فقال : مات النصراني والسلام ، يعني هب أنه قد مات ، فما كنت تكون صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة ، واستغن عنه بغيره { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ويخذلهم مقتاً لهم { يسارعون فِيهِمْ } ينكمشون في موالاتهم ويرغبون فيها ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان ، أي صرف من صروفه ودولة من دوله ، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه
( 354 ) أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ لي من موالي من يهود كثيراً عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم وأُوالي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية مواليّ وهم يهود بني قينقاع .
{ فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح } لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين { أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } يقطع شأفة اليهود ويجليهم عن بلادهم ، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم : وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : ما نظن أن يتم له أمر ، وبالحري أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء . وقيل أو أمر من عنده : أو أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على نفاقهم . وقيل : أو أمر من عند الله لا يكون فيه للناس فعل كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب . فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب { وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ } قرىء بالنصب عطفاً على أن يأتي . وبالرفع على أنه كلام مبتدأ ، أي : ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت : وقرىء : "يقول" : بغير واو ، وهي في مصاحف مكة والمدينة والشأم كذلك على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل : يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا . فإن قلت : لمن يقولون هذا القول؟ قلت : إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ } لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار . وإمّا أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة . كما حكى الله عنهم { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] . { حَبِطَتْ أعمالهم } من جملة قول المؤمنين ، أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأى أعين الناس . وفيه معنى التعجيب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول الله عزّ وجلّ شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجبا من سوء حالهم .
(2/35)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
وقرىء : "من يرتد" ومن "يرتدد" ، وهو في الإمام بدالين ، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها . وقيل : بل كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة : ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي ، وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده ، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن ، فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي بَيَّتَهُ فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل ، فسرّ المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد . وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول .
وبنو حنيفة ، قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . أمّا بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك . فأجاب عليه الصلاة والسلام : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . أمّا بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنود المسلمين ، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة . وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية ، وشرّ الناس في الإسلام ، أراد في جاهليتي وإسلامي . وبنو أسد : قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه . وسبع في عهد أبي بكر رضي الله عنه : فزاره قوم عيينة بن حصين وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل .
وبنو يربوع ، قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب ، وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب استغفر واستغفري :
أَمَّتْ سجَاحٌ وَوَالاَهَا مُسَيْلِمَة ... كَذَّابَةٌ فِي بَنِي الدُّنْيَا وَكَذَّابُ
وكندة ، قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم بن زيد ، وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه . وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه : غسان قوم جبلة ابن الأيهم نصرته اللطيمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه { فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ } قيل :
( 355 ) لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال : "قوم هذا" وقيل : هم ألفان من النخع ، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية . وقيل : هم الأنصار . وقيل :
( 356 ) سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال : "هذا وذووه" ثم قال :
(2/36)

" لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس " { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته ، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه ، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم : وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا ، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف ، وما يدينون به من المحبة والعشق ، والتغني على كراسيهم خربها الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء ، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور ، فتعالى الله عنه علواً كبيراً ، ومن كلماتهم : كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته ، فإنّ الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات . ومنها : الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة ، فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة . فإن قلت : أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت : هو محذوف معناه : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم ، أو ما أشبه ذلك { أَذِلَّةٍ } جمع ذليل . وأما ذلول فجمعه ذلل . ومن زعم أنه من الذلّ الذي هو نقيض الصعوبة ، فقد غبى عنه أن ذلولاً لا يجمع على أذلة . فإن قلت : هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع . والثاني : أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم . ونحوه قوله عزّ وجلّ : { أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] وقرىء : أذلة وأعزة بالنصب على الحال { وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } يحتمل أن تكون الواو للحال ، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود - لعنت - فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود ، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم . وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط . وأن تكون للعطف ، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله ، وأنهم صلاب في دينهم ، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف ، مضوا فيه كالمسامير المحماة ، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم ، يشقّ عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم . واللومة : المرّة من اللوم ، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام . و { ذلك } إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة { يُؤْتِيهُ } يوفق له { مَن يَشَآءُ } ممن يعلم أنّ له لطفاً { واسع } كثير الفواضل والألطاف { عَلِيمٌ } بمن هو من أهلها .
(2/37)

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ } ومعنى ( إنما ) وجوب اختصاصهم بالموالاة . فإن قلت : قد ذكرت جماعة فهلا قيل : إنما أولياؤكم؟ قلت : أصل الكلام : إنما وليكم الله ، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة ، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع ، ولو قيل : إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا ، لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله : "إنما مولاكم" . فإن قلت : { الذين يُقِيمُونَ } ما محله؟ قلت : الرفع على البدل من الذين آمنوا ، أو على : هم الذين يقيمون . أو النصب على المدح . وفيه تمييز للخلص من الذين آمنوا نفاقاً ، أو واطأت قلوبهم ألسنتهم إلا أنهم مفرطون في العمل { وَهُمْ رَاكِعُونَ } الواو فيه للحال ، أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذا صلوا وإذا زكوا . وقيل : هو حال من يؤتون الزكاة ، بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، و
( 357 ) أنها نزلت في عليٍّ كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه .
كأنه كان مرجاً في خنصره ، فلم يتكلف لخلعه كثير عما تفسد بمثله صلاته ، فإن قلت : كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحداً ، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخروه إلى الفراغ منها .
(2/38)

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
{ فَإِنَّ حِزْبَ الله } من إقامة الظاهر مقام المضمر . ومعناه : فإنهم هم الغالبون ، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاماً لكونهم حزب الله . وأصل الحزب؟ القوم يجتمعون لأمر حزبهم . ويحتمل أن يريد بحزب الله : الرسول والمؤمنين . ويكون المعنى : ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب .
(2/39)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
روي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث كانا قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يؤادّونهما ، فنزلت . يعني أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصحّ أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء ، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة . وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار - وإن كان أهل الكتاب من الكفار - إطلاقاً للكفار على المشركين خاصة . والدليل عليه قراءة عبد الله : "ومن الذين أشركوا" . وقرىء : "والكفار" بالنصب والجرّ . وتعضد قراءة الجرّ قراءة أُبيّ : "ومن الكفار" { واتقوا الله } في موالاة الكفار وغيرها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حقاً؛ لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين { اتخذوها } الضمير للصلاة أو للمناداة . قيل : كان رجلاً من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول : ( أشهد أن محمداً رسول الله ) قال : حرّق الكاذب ، فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم ، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت ، واحترق هو وأهله . وقيل : فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده { لاَ يَعْقِلُونَ } لأنّ لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة ، فكأنه لا عقل لهم .
(2/40)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قرأ الحسن : "هل تنقمون" بفتح القاف . والفصيح كسرها . والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالكتب المنزلة كلها { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَنْ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } ؟ قلت : فيه وجوه : منها أن يعطف على أن آمنا ، بمعنى : وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان ، كأنه قيل : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه . ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف ، أي واعتقاد أنكم فاسقون ومنها أن يعطف على المجرور ، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون . ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم فاسقون . ويجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف ، كأنه قيل : وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات . ويدل عليه تفسير الحسن : بفسقكم نقمتم ذلك علينا .
(2/41)

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وروي :
( 358 ) أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : " أومن بالله وما أنزل إلينا إلى قوله : ونحن له مسلمون " فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام : ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً أشرّ من دينكم . فنزلت . وعن نعيم بن ميسرة : "وإنّ أكثركم" ، بالكسر . ويحتمل أن ينتصب ( وأن أكثركم ) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون ، أي : ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون ، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف ، أي [ و ] فسقكم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل ، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا { ذلك } إشارة إلى المنقوم ، ولا بدّ من حذف مضاف قبله ، أو قبل ( من ) تقديره : بشرّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه الله . و { مَن لَّعَنَهُ الله } في محل الرفع على قولك : هو من لعنه الله ، كقوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم النار } [ الحج : 72 ] أو في محل الجرّ على البدل من شرّ . وقرىء : "مثوبة" . "ومثوبة" . ومثالهما : مشورة ، ومشورة . فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله :
شع تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ... ومنه { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] . فإن قلت : المعاقبون من الفريقين هم اليهود ، فلم شورك بينهم في العقوبة؟ قلت : كان اليهود - لعنوا -يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب ، فقيل لهم : من لعنه الله شرّ عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم { وَعَبَدَ الطاغوت } عطف على صلة ( من ) كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت . وفي قراءة أبيّ "وعبدوا الطاغوت" ، على المعنى . وعن ابن مسعود : "ومن عبدوا" . وقرىء : "وعابد الطاغوت" عطفاً على القردة . "وعابدي" . "وعباد" . "وعبد" . "وعبد" . ومعناه : الغلوّ في العبودية ، كقولهم ، رجل حذر وفطن ، للبليغ في الحذر والفطنة . قال :
أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُم ... أَمَةٌ وَإنَّ أَبَاكُمُو عَبْدُ
وعبد بوزن حطم . وعبيد . وعبد - بضمتين - جمع عبيد : وعبدة بوزن كفرة . وعبد ، وأصله عبدة ، فحذفت التاء للإضافة . أو هو كخدم في جمع خادم . وعبد وعباد . وأعبد ، وعبد الطاغوت ، على البناء للمفعول ، وحذف الراجع ، بمعنى : وعبد الطاغوت فيهم ، أو بينهم ، وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون الله ، كقولك ( أمر ) إذا صار أميراً . وعبد الطاغوت ، بالجر عطفاً على { مَن لَّعَنَهُ الله } . فإن قلت : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوه . والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به ، كقوله تعالى :
(2/42)

{ وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] وقيل : الطاغوت : العجل؛ لأنه معبود من دون الله ، ولأن عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان ، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه : أطاعوا الكهنة ، وكل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده . وقرأ الحسن : "الطواغيت" . وقيل : وجعل منهم القردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى . وقيل : كلا المسخين من أصحاب السبت ، فشبانهم مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير . وروي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون : يا أخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم { أولئك } الملعونون الممسوخون { شَرٌّ مَّكَاناً } جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله . وفيه مبالغة ليست في قولك : أولئك شرّ وأضلّ ، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز . نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً ، فأخبره الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا ، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك . وقوله : ( بالكفر ) و ( به ) حالان ، أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين . وتقديره : ملتبسين بالكفر . وكذلك قوله : ( وقد دخلوا ) ؛ ( وهم قد خرجوا ) ولذلك دخلت ( قد ) تقريباً للماضي في الحال . ولمعنى آخر : وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله ما كتموه ، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله : ( قالوا آمنا ) أي قالوا ذلك وهذه حالهم .
(2/43)

وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
الإثم الكذب بدليل قوله تعالى : { عَن قَوْلِهِمُ الإثم } . { والعدوان } الظلم . وقيل : الإثم كلمة الشرك . وقولهم عزير ابن الله . وقيل : الإثم ما يختص بهم . والعدوان : ما يتعداهم إلى غيرهم . والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة { السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه ، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالاً من المواقع . ولعمري إن هذه الآية مما يقد السامع وينعي على العلماء توانيهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي أشدّ آية في القرآن . وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها .
(2/44)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها ، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلاً لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود ، وقد استعملوهما حيث لا تصحّ اليد كقوله :
جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِل ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاَعُه وَوِهَادُهُ
ولقد جعل لبيد للشمال يداً في قوله :
إذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا ... ويقال بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان . ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به . فإن قلت : قد صحّ أن قولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } عبارة عن البخل . فما تصنع بقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } ؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت : يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم . ونحوه بيت الأشتر :
بَقِيتُ وَفْرى وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلا ... وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة ، يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم : والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز ، كما تقول : سبني سب الله دابره ، أي قطعه؛ لأنَّ السَّب أصله القطع . فإن قلت : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم ، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم . فإن قلت : لم ثنيت اليد في قوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وهي مفردة في { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } ؟ قلت : ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه . وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعاً فبني المجاز على ذلك . وقرىء : "ولعنوا" بسكون العين . وفي مصحف عبد الله : "بل يداه بسطان" . يقال : يده بسط بالمعروف . ونحوه مشية شحح وناقة صرح { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } تأكيد للوصف بالسخاء ، ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة .
(2/45)

روي أن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً ، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص ابن عازوراء : يد الله مغلولة ، ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه { وَلَيَزِيدَنَّ } أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفروا بآيات الله { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة } فكلمهم أبداً مختلف ، وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً } كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط ، وقد أتاهم الإسلام في ملك المجوس . وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين . وقيل : كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم . وعن قتادة رضي الله عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس { وَيَسْعَوْنَ } ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم .
(2/46)

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب } مع ما عددنا من سيآتهم { ءامَنُواْ } برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به . وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ } تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها { ولأدخلناهم } مع المسلمين الجنة . وفيه إعلام بعظهم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى ، كما قال الحسن : هذا العمود فأين الإطناب { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من سائر كتب الله ، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها ، فكأنها أنزلت إليهم؛ وقيل : هو القرآن . لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا . وقوله : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } عبارة عن التوسعة . وفيه ثلاث أوجه : أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } طائفة حالها أمم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : هي الطائفة المؤمنة عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى ، و { سَاء مَا يَعْمَلُونَ } فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم ، وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم .
(2/47)

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ، ولا خائف أن ينالك مكروه { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وقرىء : "رسالاته" ، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات ، ولم تؤدّ منها شيئاً قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ، وإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها . وكونا كذلك في حكم شيء واحد . والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ ، مؤمناً به غير مؤمن به . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 359 ) " بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً ، فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك . وضمن لي العصمة فقويت " فإن قلت : وقوع قوله : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبيلغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولاً كان أمراً شنيعاً لاخفاء بشناعته ، فقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة ، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] والثاني : أن يراد : فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام : " فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك " { والله يَعْصِمُكَ } عدة من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك ، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت : أين ضمان العصمة
( 360 ) وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته صلوات الله عليه؟ قلت : المراد أنه يعصمه من القتل . وفيه : أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات الله ، فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : نزلت بعد يوم أحد ، والناس الكفار بدليل قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين } ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك . وعن أنس :
( 361 ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت ، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال : " انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس " .
(2/48)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{ لَسْتُمْ على شَىْء } أي على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه ، كما تقول : هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه . وفي أمثالهم : أقل من لا شيء { فَلاَ تَأْسَ } فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم .
(2/49)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{ والصابئون } رفع على الابتداء وخبره محذوف ، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك ، وأنشد سيبويه شاهداً له :
وإلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقِيْنَا فِي شِقَاقِ
أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت : لا يصحّ ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : إن زيداً وعمرو منطلقان . فإن قلت لم لا يصحّ والنية به التأخير ، فكأنك قلت : إن زيداً منطلق وعمرو؟ قلت : لأني إذا رفعته رفعته عطفاً على محل إن واسمها ، والعامل في محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها ( إن ) في عملها؛ فلو رفعت الصابئون المنويّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين . فإن قلت : فقوله والصابئون معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت : هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ . . . } الخ ولا محل لها ، كما لا محل للتي عطفت عليها ، فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت : فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح ، فما الظنّ بغيرهم . وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً ، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها ، أي خرجوا ، كما أن الشاعر قدم قوله : ( وأنتم ) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو ( بغاة ) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم ، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً فإن قلت : فلو قيل : والصابئين وإياكم لكان التقديم حاصلاً . قلت : لو قيل : هكذا لم يكن من التقديم في شيء ، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه ، وإنما يقال مقدّم ومؤخر للمزال لا للقارّ في مكانه . ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام ، فإن قلت : كيف قال : { الذين آمنوا } ثم قال : { مَنْ ءامَنَ } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد بالذين آمنوا : الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن . من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه . فإن قلت : ما محل من آمن قلت : إما الرفع على الابتداء وخبره { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ثم الجملة كما هي خبر إن ، وإما النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه ، أو من المعطوف عليه . فإن قلت : فأين الراجع إلى اسم إن؟ قلت : هو محذوف تقديره من آمن منهم ، كما جاء في موضع آخر . وقرىء : "والصابيون" ، بياء صريحة ، وهو من تخفيف الهمزة ، كقراءة من قرأ : "يستهزيون" . "والصابون" : وهو من صبوت ، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع . وفي قراءة أبيّ رضي الله عنه : "والصابئين" ، بالنصب . وبها قرأ ابن كثير . وقرأ عبد الله : "يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون" .
(2/50)

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{ لَقَدْ أَخَذْنَا } ميثاقهم بالتوحيد { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم { كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ } جملة شرطية وقعت صفة لرسلاً ، والراجع محذوف أي رسول منهم { بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ } بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع . فإن قلت : أين جواب الشرط فإن قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ناب عن الجواب ، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت؟ قلت : هو محذوف يدل عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } كأنه قيل كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه ، وقوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } جواب مستأنف لقائل يقول : كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت : جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها . قرىء : أن لا يكون ، بالنصب على الظاهر . وبالرفع عن ( أن ) هي المخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يكون فتنة فخففت ( أن ) وحذف ضمير الشأن .
(2/51)

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
فإن قلت : كيف دخل فعل الحسبان على ( أن ) التي للتحقيق؟ قلت : نزل حسبانهم لقوّته في صدورهم منزلة العلم : فإن قلت : فأين مفعولا حسب؟ قلت : سدّ ما يشتمل عليه صلة أن وأنّ من المسند والمسند إليه مسدّ المفعولين ، والمعنى : وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم من الله فتنة ، أي بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة { فَعَمُواْ } عن الدين { وَصَمُّواْ } حين عبدوا العجل ، ثم تابوا عن عبادة العجل ف { تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } كرة ثانية بطلبهم المحال غير المعقول في صفات الله وهو الرؤية : وقرىء : "عموا وصموا" ، بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم ، أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك وركبته إذا ضربته بركبتك { كَثِيرٌ مّنْهُمْ } بدل من الضمير : أو على قولهم : أكلوني البراغيث ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم .
(2/52)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم ، وهو احتجاج على النصارى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله } في عبادته ، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله { فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } التي هي دار الموحدين أي حرّمه دخولها ومنعه منه ، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } من كلام الله على أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليه السلام ، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ردّه وأنكره ، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره . أو من قول عيسى عليه السلام ، على معنى : ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول . أو [ و ] لا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله .
(2/53)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
من في قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد } للاستغراق وهي القدرة مع ( لا ) التي لنفي الجنس في قولك { لاَ إله إِلاَّ الله } والمعنى : وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ، وهو الله وحده لا شريك له : و ( من ) في قوله : { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } للبيان كالتي في قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] فإن قلت : فهلا قيل : ليمسنهم عَذَابٌ أَلِيمٌ . قلت : في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ } وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير ( الذين كفروا منهم ) أنهم بمكان من الكفر . والمعنى : ليمسنّ الذين كفروا من النصارى خاصة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي نوع شديد الألم من العذاب كما تقول : أعطني عشرين من الثياب ، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون . ويجوز أن تكون للتبعيض ، على معنى : ليمسنّ الذين بقوا على الكفر منهم ، لأنّ كثيراً منهم تابوا من النصرانية { أَفَلاَ يَتُوبُونَ } ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر . وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه . وفيه تعجب من إصرارهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } صفة لرسول ، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها ، أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق بها البحر ، وطمس على يد موسى . وإن خلقه من غير ذكر ، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى { وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ } أي وما أمه أيضاً إلا كصديقة كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي ، والآخر صحابي . فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه . ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام { كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الأيات } أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم : { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله . فإن قلت : ما معنى التراخي في قوله ثم انظر؟ قلت : معناه ما بين العجبين ، يعني أنه بين لهم الآيات بياناً عجيباً ، وإنّ إعراضهم عنها أعجب منه .
(2/54)

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
{ مَا لاَ يَمْلِكُ } هو عيسى ، أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب ، ولأنّ كل ما يستطيعه البشر من المضارّ والمنافع فبإقدار الله وتمكينه ، فكأنه لا يملك منه شيئاً . وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية ، حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً . وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته { والله هُوَ السميع العليم } متعلق ب ( أتعبدون ) ، أي أتشركون بالله ولا تخشونه ، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر .
(2/55)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{ غَيْرَ الحق } صفة للمصدر أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق أي غلوا باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوَّان غلوّ حق : وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان الله عليهم . وغلوّ باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه ، كما يفعل أهل الأهواء والبدع { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } هم أئمتهم في النصرانية ، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } ممن شايعهم على التثليث { وَضَلُّواْ } لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم { عَن سَوَاء السبيل } حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه .
(2/56)

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
نزّل الله لعنهم في الزبور { على لِسَانِ دَاوُودُ } وفي الإنجيل على لسان عيسى . وقيل إن أهل أيلة ، لما اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام : اللَّهم العنهم واجعلهم آية ، فمسخوا قردة . ولما كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام : اللَّهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ، ما فيهم امرأة ولا صبيّ { ذلك بِمَا عَصَواْ } أي لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ ، إلا لأجل المعصية والاعتداء ، لا لشيء آخر؛ ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله : { كَانُواْ لاَ يتناهون } لا ينهى بعضهم بعضاً { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } ثم قال : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } للتعجيب من سوء فعلهم ، مؤكداً لذلك بالقسم ، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير ، وقلة عبثهم به ، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب . فإن قلت كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت : من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي ، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء ، لأنّ في التناهي حسماً للفساد فكان تركه على عكسه . فإن قلت : ما معنى وصف المنكر بفعلوه ، ولا يكون النهي بعد الفعل؟ قلت : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله ، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر . ويجوز أن يراد : لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله . يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه { ترى كَثِيراً مّنْهُمْ } هم منافقو أهل الكتاب ، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } هو المخصوص بالذمّ ، ومحله الرفع ، كأنه قيل : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم . والمعنى : موجب سخط الله { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ } إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين { أَوْلِيَاء } يعني أنّ موالاة المشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم ، وأنّ إيمانهم ليس بإيمان { ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون } متمرّدون في كفرهم ونفاقهم . وقيل معناه : ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدّعون ، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون .
(2/57)

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
وصف الله شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام ، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين ، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا ، وكذلك فعل في قوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } [ البقرة : 96 ] ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 362 ) " ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله " وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين { بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي علماء وعباداً { وَإِنَّهُمْ } قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم ، واليهود على خلاف ذلك . وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين ، وكذلك غم الآخرة والتحدّث بالعاقبة وإن كان في راهب ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني . ووصفهم الله برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن ، وذلك نحو ما يحكى عن النجاشيّ رضي الله عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب - حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده - : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه سورة تنسب إليها ، فقرأها إلى قوله : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ مريم : 34 ] وقرأ سورة طه إلى قوله : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } [ طه : 9 ] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس . فبكوا . فإن قلت : بم تعلقت اللام في قوله : { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } ؟ قلت : بعداوة ومودّة ، على أنّ عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها ، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودّات ، وأدناها وجوداً ، وأسهلها حصولاً . ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت ، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب . فإن قلت : ما معنى قوله : { تَفِيضُ مِنَ الدمع } قلت : معناه تمتلىء من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض أن يمتلىء الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الإمتلاء ، وهو من إقامة المسبب مقام السبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها ، أي تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً فإن قلت : أي فرق بين من ومن في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ؟ قلت الأولى لابتداء الغاية ، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وبسببه . والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا . وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كله وقرؤا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرىء "ترى أعينهم" على البناء للمفعول { رَبَّنَا ءامَنَّا } المراد به إنشاء الإيمان ، والدخول فيه { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة
(2/58)

{ لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين ، وقيل : لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك . أو أرادوا : وما لنا لا نؤمن بالله وحده لأنهم كانوا مثلثين ، وذلك ليس بإيمان بالله : ومحل ( لا نؤمن ) النصب على الحال ، بمعنى : غير مؤمنين ، كقولك مالك قائماً . والواو في { وَنَطْمَعُ } واو الحال . فإن قلت : ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت : العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ، وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيداً بالحال الأولى؛ لأنك لو أزلتها وقلت : وما لنا ونطمع ، لم يكن كلاماً . ويجوز أن يكون ( ونطمع ) حالاً من لا نؤمن ، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين ، وأن يكون معطوفاً على لا نؤمن على معنى : وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصاحين ، أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام ، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين . قرأ الحسن : "فآتاهم" { بِمَا قَالُواْ } بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص ، من قولك : هذا قول فلان ، أي اعتقاده وما يذهب إليه .
(2/59)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
{ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } ما طاب ولذ من الحلال . ومعنى { لاَ تُحَرّمُواْ } لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم . أو لا تقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً وروي :
( 363 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوماً لأصحابه ، فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار ، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون ، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين ، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض ، ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " إني لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " ونزلت . وروي :
( 364 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ ، وكان يعجبه الحلواء والعسل . وقال : " إن المؤمن حلو يحب الحلاوة " ، وعن ابن مسعود أن رجلاً قال له : إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال : نم على فراشك وكفر عن يمينك . وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجيّ وأصحابه ، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك ، فاعتزل فرقد ناحية ، فسأل الحسن : أهو صائم؟ قالوا : لا ، ولكنه يكره هذه الألوان . فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد ، أترى لعاب النحل بلباب البرّ بخالص السمن يعيبه مسلم . وعنه أنه قيل له . فلان لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أؤدّي شكره . قال : أفيشرب الماء البارد؟ قالوا : نعم . قال : إنه جاهل ، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ . وعنه أن الله تعالى أدّب عباده فأحسن أدبهم . قال الله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ } [ الطلاق : 7 ] ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا ، ولا عذر قوماً زواهاً عنهم فعصوه { وَلاَ تَعْتَدُواْ } ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم . أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات . أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً ، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقاً { حلالا } حال مما رزقكم الله { واتقوا الله } تأكيد للتوصية بما أمر به . وزاده تأكيداً بقوله : { الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه .
(2/60)

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
اللغو في اليمين : الساقط الذي لا يتعلق به حكم : واختلف فيه ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عنه فقالت : هو قول الرجل "لا والله ، بلى والله" وهو مذهب الشافعي . وعن مجاهد : هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن . وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله { بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية . وروي أن الحسن رضي الله عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد ، دعني أجب عنك فقال :
وَلَسْتُ بِمَأْخُوذِ بِلَغْوٍ تَقُولُه ... إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ
وقرىء : "عقدتم" ، بالتخفيف . "وعاقدتم" . والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة . لأنه كان معلوماً عندهم ، أو بنكث ما عقدتم . فحذف المضاف { فَكَفَّارَتُهُ } فكفارة نكثه . والكفارة : الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ } من أقصده ، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله ، ومنهم من يقتر وهو عند أبي حنيفة رحمه الله نصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين ، أو يغديهم ويعشيهم . وعند الشافعي رحمه الله : مدّ لكل مسكين . وقرأ جعفر بن محمد : "أهاليكم" ، بسكون الياء ، والأهالي : اسم جمع لأهل : كالليالي في جمع ليلة ، والأراضي في جمع أرض . وقولهم : ( أهلون ) كقولهم ( أرضون ) بسكون الراء . وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف ، كما قالوا : رأيت معد يكرب ، تشبيها للياء بالألف { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } عطف على محل ( من أوسط ) وقرىء بضم الكاف ، ونحوه : قُدوة في قِدوة ، وأسوة في إسوة ، والكسوة ثوب يغطي العورة ، وعن ابن عباس رضي الله عنه كانت العباءة تجزىء يومئذٍ . وعن ابن عمر : إزار أو قميص أو رداء أو كساء . وعن مجاهد : ثوب جامع . وعن الحسن : ثوبان أبيضان . وقرأ سعيد بن المسيب واليماني : "أو كأسوتهم" ، بمعنى : أو مثل ماتطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً . لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ، ولكن تواسون بينهم وبينهم . فإن قلت : ما محل الكاف؟ قلت : الرفع ، تقديره : أو طعامهم كأسوتهم ، بمعنى : كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } شرط الشافعي رحمه الله الإيمان قياساً على كفارة القتل . وأما أبو حنيفة وأصحابه ، فقد جوّزوا تحرير الرقبة الكافرة في كل كفارة سوى كفارة القتل . فإن قلت : ما معنى أو؟ قلت : التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على الاطلاق ، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } إحداها { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ } متتابعات عند أبي حنيفة رحمه الله ، تمسكاً بقراءة أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما : "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" . وعن مجاهد : كل صوم متتابع إلا قضاء رمضان ، ويخير في كفارة اليمين { ذلك } المذكور { كَفَّارَةُ أيمانكم } ولو قيل : تلك كفارة أيمانكم ، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء أو لتأنيث الكفارة .
(2/61)

والمعنى { إِذَا حَلَفْتُمْ } وحنثتم . فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف ، لا بنفس الحلف ، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث { واحفظوا أيمانكم } فبروا فيها ولا تحنثوا أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية ، لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله . وقيل : احفظوها بأن تكفروها . وقيل : احفظوها كيف حلفتم بها ، ولا تنسوها تهاوناً بها { كذلك } مثل ذلك البيان { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أعلام شريعته وأحكامه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه .
(2/62)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما ، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام
( 365 ) " شارب الخمر كعابد الوثن " ومنها أنه جعلهما رجساً ، كما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت ، ومنها أنه أمر بالاجتناب . ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحاً ، كان الارتكاب خيبة ومحقة . ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال ، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلاة . وقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } من أبلغ ما ينهى عنه ، كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون . أم أنتم على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { فاجتنبوه } ؟ قلت : إلى المضاف المحذوف ، كأنه قيل : إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك . ولذلك قال : { رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان } فإن قلت : لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً؟ قلت : لأن الخطاب مع المؤمنين . وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر ، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر ، وإظهار أنّ ذلك جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك ، فوجب اجتنابه بأسره ، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنماً وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمراً أو قامر ، ثم أفردهما بالذكر ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر . وقوله : { وَعَنِ الصلاة } اختصاص للصلاة من بين الذكر كأنه قيل : وعن الصلاة خصوصاً .
(2/63)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
{ واحذروا } وكونوا حذرين خاشين ، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة . ويجوز أن يراد : واحذروا ما عليكم في الخمر ولميسر ، أو في ترك طاعة الله والرسول { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا } أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول ، لأنّ الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات ، وإن ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم .
(2/64)

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
رفع الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها { إِذَا مَا اتقوا } ما حرم عليهم منها { وَءامَنُواْ } وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه { ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ } ثم ثبتوا على التقوى والإيمان { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم ، أو أحسنوا إلى الناس : واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات . وقيل
( 366 ) لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة : يا رسول الله ، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت . يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، على معنى : أنّ أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان . ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح؟ فتقول - وقد علمت أن ذلك أمر مباح - : ليس على أحد جناح في المباح ، إذا اتقى المحارم ، وكان مؤمناً محسناً ، تريد : أن زيداً تقيّ مؤمن محسن؛ وأنه غير مؤاخذ بما فعل .
(2/65)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون ، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده ، أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقي الصيد ، ممن لا يخافه فيقدم عليه { فَمَنِ اعتدى } فصاد { بَعْدَ ذَلِكَ } الابتلاء فالوعيد لاحق به . فإن قلت : ما معنى التقليل والتصغير في قوله : { بِشَىْء مّنَ الصيد } ؟ قلت : قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين ، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه . وقرأ إبراهيم : يناله ، بالياء .
(2/66)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{ حَرَّمَ } محرمون ، جمع حرام ، كردح في جمع رداح . والتعمد : أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه ، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فإذا هو صيد ، أو قصد برميه غير صيد فعدل السهم عن رميته فأصاب صيداً فهو مخطىء . فإن قلت : فمحظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ ، فما بال التعمد مشروطاً في الآية؟ قلت : لأن مورد الآية فيمن تعمد؛ فقد روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش ، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله ، فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد ، والخطأ لاحق به للتغليظ . ويدل عليه قوله تعالى : { لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير : لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط العمد في الآية . وعن الحسن روايتان { فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ } برفع جزاء ومثل جميعاً ، بمعنى : فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد ، وهو عند أبي حنيفة قيمة المصيد يقوّم حيث صيد . فإن بلغت قيمته ثمن هدى ، تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد ، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً ، فيعطي كل مسكين نصف صاع من برّ أو صاع من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً ، فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين صام عنه يوماً أو تصدّق به . وعند محمد والشافعي رحمهما الله مثله نظيره من النعم ، فإن لم يوجد له نظير من النعم عدل إلى قول أبي حنيفة رحمه الله . فإن قلت : فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله : { مِنَ النعم } وهو تفسير للمثل ، وبقوله : هدياً بالغ الكعبة؟ قلت : قد خير من أوجب القيمة بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم ، كما خير الله تعالى في الآية . فكان قوله : { مِنَ النعم } بياناً للهدى المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير؛ لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه ، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم . على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزي بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم ، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوّم ونظر بعد التقويم أيّ الثلاثة يختار ، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير - فإذا كان شيئاً لا نظير له قوّم حينئذٍ ، ثم يخير بين الإطعام والصوم - ففيه نبوّ عما في الآية . ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } كيف خير بين الأشياء الثلاثة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم .
(2/67)

وقرأ عبد الله : فجزاؤه مثل ما قتل ، وقرىء : فجزاء مثل ما قتل ، على الإضافة ، وأصله . فجزاء مثل ما قتل ، بنصب مثل بمعنى : فعليه أن يجزى مثل ما قتل ، ثم أضيف كما تقول : عجبت من ضرب زيد ، وقرأ السلميّ على الأصل وقرأ محمد بن مقاتل ، فجزاء مثل ما قتل ، بنصبهما ، بمعنى : فليجز جزاء مثل ما قتل . وقرأ الحسن : من النعم . بسكون العين ، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه { يَحْكُمُ بِهِ } بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } حكمان عادلان من المسلمين . قالوا : وفيه دليل على أن المثل القيمة ، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة . وعن قبيصة أنه أصاب ظبياً وهو محرم فسأل عمر ، فشاور عبد الرحمن بن عوف ، ثم أمره بذبح شاة ، فقال قبيصة لصاحبه : والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره ، فأقبل عليه ضرباً بالدرّة وقال : أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم . قال الله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } فأنا عمر ، وهذا عبد الرحمن . وقرأ محمد بن جعفر ( ذو عدل منكم ) ، أراد يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة . وقيل أراد الإمام { هَدْياً } حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل ، لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من المعرفة ، أو بدل عن مثل فيمن نصبه ، أو عن محله فيمن جرّه . ويجوز أن ينتصب حالاً عن الضمير في به . ووصف هدياً ب { بالغ الكعبة } لأن إضافته غير حقيقية . ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم ، فأما التصدّق به فحيث شئت عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي في الحرم . فإن قلت : بم يرفع { كَفَّارَةٌ } من ينصب جزاء؟ قلت : يجعلها خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : أو الواجب عليه كفارة . أو يقدر : فعليه أن يجزي جزاء أو كفارة . فيعطفها على أن يجزي . وقرىء : أو كفارة طعام مساكين على الإضافة ، وهذه الإضافة مبينة ، كأنه قيل : أو كفارة من طعام مساكين ، كقولك : خاتم فضة ، بمعنى خاتم من فضة . وقرأ الأعرج : أو كفارة طعام مسكين . وإنما وحد ، لأنه واقع موقع التبيين ، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس . وقرىء : أو عدل ذلك ، بكسر العين . والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه ، كالصوم والإطعام . وعدله ما عدل به في المقدار ، ومنه عدلا الحمل ، لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا ، كأن المفتوح تسمية المصدر ، والمكسور بمعنى المفعول به ، كالذبح ونحوه ، ونحوهما الحمل والحمل . و { ذلك } إشارة إلى الطعام { وصياماً } تمييز للعدل كقولك : لي مثله رجلاً . والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وعند محمد إلى الحكمين { لّيَذُوقَ } متعلق بقوله : ( فجزاء ) أي فعليه أن يجازي أو يكفر ، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام .
(2/68)

والوبال : المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه ، كقوله تعالى : { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل : 16 ] ثقيلاً . والطعام الوبيل : الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألوه عن جوازه . وقيل : عما سلف لكم في الجاهلية منه ، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً { وَمَنْ عَادَ } إلى قتل الصيد وهو محرم بعد نزول النهي { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } ينتقم : خبر مبتدأ محذوف تقديره . فهو ينتقم الله منه ، ولذلك دخلت الفاء . ونحوه { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ } [ الحجر : 13 ] يعني ينتقم منه في الآخرة . واختلف في وجوب الكفارة على العائد ، فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن : وجوبها ، وعليه عامة العلماء . وعن ابن عباس وشريح : أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر ، وأنه لم يذكر الكفارة .
(2/69)

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{ صَيْدُ البحر } مصيدات البحر مما يؤكل وما لا يؤكل { وَطَعَامُهُ } وما يطعم من صيده والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة . وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه ، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه { متاعا لَّكُمْ } مفعول له ، أي أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] في باب الحال ، لأن قوله : { متاعا لَّكُمْ } مفعول له مختص بالطعام ، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب ، يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً لتنائكم يأكلونه طرياً ، ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً ، كما تزوّد موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام . وقرىء : "وطعمه" . وصيد البر : ما صيد فيه . وهو ما يفرّخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات ، كطير الماء عند أبي حنيفة . واختلف فيه فمنهم من حرّم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد ، وهو قول عمر وابن عباس ، وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير : أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال ، وإن صاده لأجله ، إذا لم يدل ولم يشر ، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمه الله ، وعند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله : لا يباح له ما صيد لأجله . فإن قلت : ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله : صيد البر؟ قلت قد أخذ أبو حنيفة رحمه الله بالمفهوم من قوله : { وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم ، لأنهم هم المخاطبون فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم في البر ، فيخرج منه مصيد غيرهم ، ومصيدهم حين كانوا غير محرمين . ويدل عليه قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : "وحرّم عليكم صيد البرّ" ، أي الله عزّ وجلّ . وقرىء "ما دمتم" بكسر الدال ، فيمن يقول دام يدام .
(2/70)

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
{ البيت الحرام } عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ، كما تجيء الصفة كذلك { قِيَاماً لّلنَّاسِ } انتعاشاً لهم في أمر دينهم ودنياهم ، ونهوضاً إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم ، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم ، وأنواع منافعهم . وعن عطاء ابن أبي رباح : لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا { والشهر الحرام } الشهر الذي يؤدى فيه الحج ، وهو ذو الحجة ، لأنّ لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد عرّفه الله تعالى . وقيل : عنى به جنس الأشهر الحرم { والهدى والقلائد } والمقلد منه خصوصاً وهو البدن ، لأن الثواب فيه أكثر ، وبهاء الحج معه أظهر { ذلك } إشارة إلى جعل الكعبة قياماً للناس ، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره { لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ } كل شيء وهو عالم بما يصلحكم وما ينعكشم مما أمركم به وكلفكم { شَدِيدُ العقاب } لمن انتهك محارمه { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن حافظ عليها .
(2/71)

مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
{ مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ ، وقامت عليكم الحجة ، ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم في التفريط .
(2/72)

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله تعالى وإن كان قريباً عندكم ، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب ، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل ، لا يوازي النقصان في الخبيث ، وفوات الطيب ، وهو عام في حلال المال وحرامه ، وصالح العمل وطالحه ، وصحيح المذاهب وفاسدها ، وجيد الناس ورديهم { فاتقوا الله } وآثروا الطيب ، وإن قل ، على الخبيث وإن كثر . ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة إذا افتخروا بالكثرة كما قيل :
وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إِنَّ سَعْداً كَثِيرَةٌ ... وَلاَ تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاءاً وَلاَ نَصْرَا
وكما قيل :
لاَ يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ ... فَإِنَّ جُلَّهُمُ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ
وقيل : نزلت في حجاج اليمامة ، حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم ، فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين .
(2/73)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعني قوله : { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } صفة للأشياء . والمعنى : لا تكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم ، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها . وذلك نحو ما روي :
( 367 ) أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال : يا رسول الله ، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرّات ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ويحك! ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " { وَإِن تَسْئَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان } ، وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه ، تبد لكم . تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم ، وتؤمروا بتحملها ، فتعرّضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها { عَفَا الله عَنْهَا } عفا الله عما سلف ، من مسألتكم ، فلا تعودوا إلى مثلها { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته . فإن قلت : كيف قال : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا } ولم يقل . قد سأل عنها؟ قلت : الضمير في { سَأَلَهَا } ليس براجع إلى أشياء حتى تَجب تعديته بعن ، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها { لاَ تَسْئَلُواْ } يعني قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا } أي بمرجوعها أو بسببها { كافرين } وذلك أنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبيائهم عن أشياء ، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا .
(2/74)

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، بحروا أذنها ، أي شقوها وحرّموا ركوبها ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيّي لم يركبها . واسمها البحيرة . وكان يقول الرجل : إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة . وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها . وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبداً قال : هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث . وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم . فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم . وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا من حمى ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى . ومعنى { مَّا جَعَلَ } ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك ، ولكنهم بتحريمهم ما حرّموا { يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فلا ينسبون التحريم إلى الله حتى يفتروا ، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارها .
(2/75)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
الواو في قوله : { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ } واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار . وتقديره : أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم { لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } والمعنى أنّ الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي ، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة .
(2/76)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتوّ والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل لهم { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى { لاَ يَضُرُّكُمْ } الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } [ فاطر : 8 ] وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم . فهو مخاطب به ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد ، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه ، وعن ابن مسعود : أنها قرئت عنده فقال : إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة . ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم ، فحينئذٍ عليكم أنفسكم ، فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه ، وبسط لعذره . وعنه : ليس هذا زمان تأويلها . قيل : فمتى؟ قال : إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن .
وعن أبي ثعلبة الخشني :
( 368 ) أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيراً . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : " ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك نفسك ودع أمر العوام . وإنّ من ورائكم أياماً الصبر فيهنّ كقبض على الجمر ، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله " وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ، ولاموه . فنزلت { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } عليكم : من أسماء الفعل ، بمعنى : الزموا إصلاح أنفسكم ، ولذلك جزم جوابه . وعن نافع : عليكم أنفسكم ، بالرفع . وقرىء "لا يضركم" وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وتنصره قراءة أبي حيوة ، "لا يضيركم"؛ وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً ، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة . والأصل : لا يضرركم ، ويجوز أن يكون نهياً ، ولا يضركم ، بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره .
(2/77)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
ارتفع اثنان على أنه خبر للمبتدأ الذي هو { شهادة بَيْنِكُمْ } على تقدير : شهادة بينكم شهادة اثنين . أو على أنه فاعل شهادة بينكم على معنى : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان : وقرأ الشعبي . "شهادة بينكم" بالتنوين . وقرأ الحسن : "شهادة" ، بالنصب والتنوين على : ليقم شهادة اثنان . و { إِذَا حَضَرَ } ظرف للشهادة . و { حِينَ الوصية } بدل منه ، إبداله منه دليل على وجوب الوصية ، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها مسلم ويذهل عنها . وحضور الموت : مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل { مِّنْكُمْ } من أقاربكم . و { مِنْ غَيْرِكُمْ } من الأجانب { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض } يعني إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم ، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية ، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وما هو أصلح وهم له أنصح . وقيل { منكم } من المسلمين ، و { مِنْ غَيْرِكُمْ } من أهل الذمة . وقيل : هو منسوخ لا تجوز شهادة الذمي على المسلم ، وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر . وعن مكحول : نسخها قوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } وروي :
( 369 ) أنه خرج بُديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين ، مع عدي بن زيد وتميم بن أوس - وكانا نصرانيين - تجاراً إلى الشام ، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه ، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه ، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله . ومات ففتشا متاعه ، فأخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ، فغيباه ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء ، فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { تَحْبِسُونَهُمَا } تقفونهما وتصبرونهما للحلف { مِنْ بعدالصلاوة } من بعد صلاة العصر ، لأن وقت اجتماع الناس . وعن الحسن : بعد صلاة العصر أو الظهر؛ لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وفي حديث بديل : أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعديّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر ، فحلفا ، ثم وجد الإناء بمكة ، فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي . وقيل : هي صلاة أهل الذمّة ، وهم يعظمون صلاة العصر { إِنِ ارتبتم } اعتراض بين القسم والمقسم عليه . والمعنى : إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما . وقيل : إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين : وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما . وعن عليّ رضي الله عنه : أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما والضمير في { بِهِ } للقسم . وفي { كَانَ } للمقسم له يعني : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من الدنيا ، أي لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريباً منا ، على معنى : أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً ، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى :
(2/78)

{ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] . { شهادة الله } أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها . وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ، ثم ابتدأ الله بالمدّ ، على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه . وروي عنه بغير مدّ على ما ذكر سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام ، فيقول : ألله لقد كان كذا . وقرىء : "لملاثمين" بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون من فيها ، كقوله : عاد لولي : فإن قلت : ما موقع تحبسونهما؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما ، فكيف نعمل إن ارتبنا بهما ، فقيل : تحبسونهما فإن قلت : كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت : لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها ، أغنى ذلك عن التقييد ، كما لو قلت في بعض أئمة الفقه : إذا صلّى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر . ويجوز أن تكون اللام للجنس ، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفاً في النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] { فَإِنْ عُثِرَ } فإن اطلع { على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً } أي فعلا مّا أوجب إثماً ، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين { فَآخَرَانِ } فشاهدان آخران { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ } أي من الذين استحق عليهم الإثم . معناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرتهم . وفي قصة بديل : أنه لما ظهرت خيانة الرجلين ، حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما ، وأن شهادتهما أحق من شهادتهما . { الأوليان } الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، وارتفاعهما على : هما الأوليان كأنه قيل ومن هما؟ فقيل : الأوليان . وقيل : هما بدل من الضمير في يقومان ، أو من آخران . ويجوز أن يرتفعا باستحق ، أي من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لإطلاعهم على حقيقة الحال . وقرىء "الأوّلين" على أنه وصف للذين استحق عليهم ، مجرور ، أو منصوب على المدح . ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقّ بها . وقرىء : "الأولين" على التثنية ، وانتصابه على المدح . وقرأ الحسن : "الأولان" ، ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي . وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك . فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما ، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء . فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ استحق عليهم الأوليان على البناء للفاعل ، وهم علي : وأبيّ وابن عباس؟ قلت : معناه من الورثة الذي استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة ، أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين { ذلك } الذي تقدم من بيان الحكم { أدنى } أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة { بالشهادة على وَجْهِهَا أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان } أن تكرّ أيمان شهود آخرين بعد إيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل . { واسمعوا } سمع إجابة وقبول .
(2/79)

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{ يَوْمَ يَجْمَعُ } بدل من المنصوب في قوله : ( واتقوا الله ) وهو من بدل الاشتمال ، كأنه قيل : واتقوا الله يوم جمعه . أو ظرف لقوله : ( لا يهدي ) أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم . أو ينصب على إضمار اذكر . أو يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت . و { مَاذَا } منتصب بأجبتم انتصاب مصدره ، على معنى : أي إجابة أجبتم . ولو أريد الجواب لقيل : بماذا أجبتم . فإن قلت : ما معنى سؤالهم؟ قلت : توبيخ قومهم ، كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد . فإن قلت : كيف يقولون : { لاَ عِلْمَ لَنَا } وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهاراً للتشكي واللجإ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع توبيخ الله وتشكي أنبيائه عليهم . ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه ، فيجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به ، يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه ، واتكالاً عليه ، وإظهاراً للشكاية ، وتعظيماً لما حلّ به منه . وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم . وقيل : معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به ، لأنك علام الغيوب . ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم ، فكأنه لا علم لنا إلى جنب علمك . وقيل : لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة . وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين . وقرىء : "علام الغيوب" بالنصب على أنّ الكلام قد تم بقوله : { إِنَّكَ أَنتَ } أي أنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص ، أو على على النداء ، أو هو صفة لاسم أنّ { إِذْ قَالَ الله } بدل من ( يوم يجمع ) والمعنى : أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم ، وبتعديد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام ، فكذبوهم وسموهم سحرة . أو جاوزوا حدّ التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة ، كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى عليه السلام من البينات والمعجزات { هذا سحر مبين } [ الأحقاف : 7 ] واتخذه بعضهم وأمه إلهين { أَيَّدتُّكَ } قوّيتك . وقرىء : "أيدتك" ، على أفعلتك { بِرُوحِ القدس } بالكلام الذي يحيا به الدين ، وأضافه إلى القدس ، لأنه سبب الطهر من أوضار الآثام .
(2/80)

والدليل عليه قوله تعالى : { تُكَلّمَ الناس } و { فِى المهد } في موضع الحال ، لأنّ المعنى تكلمهم طفلاً { وَكَهْلاً } إلا أن في المهد فيه دليل على حدّ من الطفولة . وقيل روح القدس : جبريل عليه السلام ، أيّد به لتثبيت الحجة . فإن قلت : ما معنى قوله : ( في المهد وكهلاً ) ؟ قلت : معناه تكلمهم في هاتين الحالتين ، من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحدّ الذي يستنبأ فيه الأنبياء { والتوراة والإنجيل } خصّا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة ، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة . وقيل : ( الكتاب ) الخط . و ( الحكمة ) الكلام المحكم الصواب { كَهَيْئَةِ الطير } هيئة مثل هيئة الطير { بِإِذْنِى } بتسهيلي { فَتَنفُخُ فِيهَا } الضمير للكاف ، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى عليه السلام وينفخ فيها ، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها؛ لأنها ليست في خلقه ولا من نفخه في شيء . وكذلك الضمير في فتكون { تُخْرِجُ الموتى } تخرجهم من القبور وتبعثهم . قيل : أخرج سام ابن نوح ورجلين وامرأة وجارية { وَإِذَا كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ } يعني اليهود حين هموا بقتله . وقيل : لما قال الله تعالى لعيسى { اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ } كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول : مع كل يوم رزقه ، لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات .
(2/81)

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } أمرتهم على ألسنة الرسل { مُّسْلِمُونَ } مخلصون ، من أسلم وجهه لله { عِيسَى } في محل النصب على إتباع حركة الابن ، كقولك : يا زيد بن عمرو ، وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك : يا زيد بن عمرو . والدليل عليه قوله :
أَحَارِ بْنَ عَمْرٍو كَأَنِّي خَمْر ... وَيَبْدُو عَلَى الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ
لأنّ الترخيم لا يكون إلا في المضموم . فإن قلت : كيف قالوا : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى ادعاءهم لهما ، ثم أتبعه قوله : { إِذَ قَالُواْ } فآذن إنّ دعواهم كانت باطلة ، وإنهم كانوا شاكين ، وقوله : ( هل يستطيع ربك ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم معناه : اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة . وقرىء : "هل تستطيع ربك" ، أي هل تستطيع سؤال ربك ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله . والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، وهي من ( مادّة ) إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية ولك وبالنبوّة ، عاكفين عليها ، على أن عليها في موضع الحال ، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الإيمان والإخلاص . وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا . وقرىء : "ويعلم" ، بالياء على البناء للمفعول . "وتعلم" . "وتكون" ، بالتاء . والضمير للقلوب { اللهم } أصله يا ألله . فحذف حرف النداء ، وعوضت منه الميم . و { رَبَّنَا } نداء ثان { تَكُونُ لَنَا عِيداً } أي يكون يوم نزولها عيداً . قيل : هو يوم الأحد . ومن ثم اتخذه النصارى عيداً ، وقيل : العيد السرور العائد ، ولذلك يقال : يوم عيد . فكأنّ معناه : تكون لنا سروراً وفرحاً ، وقرأ عبد الله : "تكون" ، على جواب الأمر . ونظيرهما . يرثني ، ويرثني { لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا } بدل من لنا بتكرير العامل ، أي لمن في زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتي بعدنا . وقيل : يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم : ويجوز للمقدّمين منا والأتباع . وفي قراءة زيد : "لأولانا وأخرانا" ، والتأنيث بمعنى الأمّة والجماعة { عَذَاباً } بمعنى تعذيباً . والضمير في ( لا أعذبه ) للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به ، لم يكن بدّ من الباء . وروي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفاً ، ثم قال : اللَّهم أنزل علينا ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللَّهم اجعلني من الشاكرين ، اللَّهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، وقال لهم : ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها .
(2/82)

فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك ، فقام عيسى وتوضأ وصلّى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً . وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس منهما ، ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا الله يمددكم الله ويزدكم من فضله : فقال الحواريون : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال : يا سمكة أحيي بإذن الله ، فاضطربت . ثم قال لها : عودي كما كنت ، فعادت مشوية . ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير . وروي أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى : { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ } قالوا : لا نريد فلم تنزل . وعن الحسن : والله ما نزلت ، ولو نزلت لكان عيداً إلى يوم القيامة ، لقوله : ( وآخرنا ) . والصحيح أنها نزلت .
(2/83)

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{ سبحانك } من أن يكون لك شريك { مَا يَكُونُ لِى } ما ينبغي لي { أَنْ أَقُولَ } قولاً لا يحق لي أن أقوله { فِى نَفْسِى } في قلبي : والمعنى : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه ، فقيل : { فِى نَفْسِكَ } لقوله في نفسي { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } تقرير للجملتين معاً ، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد .
(2/84)

مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
( أن ) في قوله { أَنِ اعبدوا الله } إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بدّ من مفسر . والمفسر إما فعل القول وإما فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له . أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط بينهما حرف التفسير ، لا تقول : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله . ولكن : ما قلت لهم إلا اعبدوا الله . وأما فعل الأمر ، فمسند إلى ضمير الله عزّ وجلّ . فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم؛ لأن الله تعالى لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم تخل من أن تكون بدلاً من ما أمرتني به ، أو من الهاء في به ، وكلاهما غير مستقيم : لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه . ولا يقال : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله ، بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته؛ لأن العبادة لا تقال . وكذلك إذا جعلته بدلاً من الهاء لأنك لو أقمت ( أن اعبدوا الله ) مقام الهاء ، فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله ، لم يصح ، لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته . فإن قلت : فكيف يصنع؟ قلت : يحمل فعل القول على معناه؛ لأن معنى ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ) . ما أمرتهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم . ويجوز أن تكون ( أن ) موصولة عطف بيان للهاء لا بدلاً { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } رقيباً كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة ، وأنزلت عليهم من البينات ، وأرسلت إليهم من الرسل { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز } القوي القادر على الثواب والعقاب { الحكيم } الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب . فإن قلت : المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال : ( وإن تغفر لهم ) ؟ قلت : ما قال إنك تغفر لهم ، ولكنه بنى الكلام على : إن غفرت ، فقال : إن عذبتهم عدلت ، لأنهم أحقاء بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان الجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن .
(2/85)

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قرىء : "هذا يوم ينفع" بالرفع والإضافة . وبالنصب إما على أنه ظرف لقال : وإما على أنّ ( هذا ) مبتدأ ، والظرف خبر . ومعناه : هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع يوم ينفع . ولا يجوز أن يكون فتحاً ، كقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } [ الانفطار : 9 ] لأنه مضاف إلى متمكن . وقرأ الأعمش : "يومٌ ينفع" بالتنوين ، كقوله تعالى : { واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْرِى نَفْسٌ } [ البقرة : 48 ] فإن قلت : ما معنى قوله : ينفع الصادقين صدقهم؟ إن أريد صدقهم في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل ، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه؛ لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت : معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم . وعن قتادة : متكلمان تكلما يوم القيامة . أمّا إبليس فقال : إنّ الله وعدكم وعد الحق ، فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذباً ، فلم ينفعه صدقه . وأما عيسى عليه السلام فكان صادقاً في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه .
(2/86)

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قإن قلت : في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهلا غلب العقلاء ، فقيل : ومن فيهنّ؟ قلت : ( ما ) يتناول الأجناس كلها تناولاً عاماً . ألا تراك تقول إذا رأيت شبحاً من بعيد : ما هو؟ قبل أن تعرف أعاقل هو أم غيره ، فكان أولى بإرادة العموم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 370 ) " من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا " .
(2/87)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
{ جَعَلَ } يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صيَّر ، كقوله : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] والفرق بين الخلق والجعل : أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئاً ، أو نقله من مكان إلى مكان . ومن ذلك { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] { وَجَعَلَ الظلمات والنور } ؛ لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار { ثم جعلكم أزواجاَ } [ فاطر : 11 ] { أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا } [ ص : 5 ] . فإن قلت : لم أفرد النور؟ قلت : للقصد إلى الجنس ، كقوله تعالى : { والملك على أَرْجَائِهَا } [ الحاقة : 17 ] أو لأن الظلمات كثيرة ، لأنه ما من جنس من أجناس الأجرام إلاّ وله ظلّ ، وظلّه هو الظلمة ، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار . فإن قلت : علام عطف قوله : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } ؟ قلت : إما على قوله : { الحمد للَّهِ } على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق؛ لأنه ما خلقه إلاّ نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، وإما على قوله : { خَلَقَ السماوات } على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه . فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته ، وكذلك { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [ الأنعام : 2 ] استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم .
(2/88)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } أجل الموت { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } أجل القيامة . وقيل : الأجل الأوّل : ما بين أن يخلق إلى أن يموت . والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ . وقيل : الأوّل النوم . والثاني : الموت . فإن قلت : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تأخيره ، فلم جاز تقديمه في قوله : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } ؟ قلت : لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة ، كقوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ } [ البقرة : 221 ] فإن قلت : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ، ولي عبد كيس ، وما أشبه ذلك؛ فما أوجب التقديم؟ قلت : أوجبه أن المعنى : وأي أجل مسمىً عنده تعظيماً لشأن الساعة ، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم .
(2/89)

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{ فِى السماوات } متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيها . ومنه قوله : { وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الارض إله } [ الزخرف : 84 ] أو وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها- لا يشرك به في هذا الاسم ، ويجوز أن يكون { الله فِي السموات } خبراً بعد خبر على معنى : أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء ، كأن ذاته فيهما ، فإن قلت : كيف موقع قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } ؟ قلت : إن أردت التوحد بالإلهية كان تقريراً له؛ لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده ، وكذلك إذا جعلت في السموات خبراً بعد خبر ، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم . أو خبر ثالث { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } من الخير والشرّ ، ويثيب عليه ، ويعاقب .
(2/90)

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{ مِّنْ في { مِّنْ ءَايَةٍ } للاستغراق . وفي { من آيات ربهم } للتبعيض . يعني : وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار ، إلا كانوا عنه معرضين : تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً ، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب ، { فقد كذبوا } مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق { لَمَّا جَاءهُمْ } يعني القرآن الذي تحدُّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء } الشيء الذي { كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } وهو القرآن ، أي أخباره وأحواله ، بمعنى : سيعلمون بأي شيء استهزءوا . وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته .
(2/91)

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
مكن له في الأرض : جعل له مكاناً له فيها . ونحوه : أرّض له . ومنه قوله : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } [ الكهف : 84 ] { أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها . ومنه قوله : { وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله : { مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم ، من البسطة في الأجسام ، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا . والسماء المظلة؛ لأن الماء ينزل منها إلى السحاب ، أو السحاب أو المطر . والمدرار : المغزار . فإن قلت : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت : الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 15 ] .
(2/92)

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{ كتابا } مكتوباً { فِى قِرْطَاسٍ } في ورق { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } ولم يقتصر بهم على الرؤية ، لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ، ولا تبقى لهم علة . لقالوا { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره { لَّقُضِىَ الامر } لقضي أمر إهلاكهم { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } بعد نزوله طرفة عين . إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال : { وَلَوْأننا َنزَلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى } [ الأنعام : 111 ] لم يكن بدّ من إهلاكهم ، كما أهلك أصحاب المائدة ، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم . وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ومعنى { ثُمَّ } بعد ما بين الأمرين : قضاء الأمر ، وعدم الإنظار . جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر ، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة { وَلَوْ جعلناه مَلَكاً } ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك . وتارة يقولون : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 33 ] ، { وَلَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة } [ فصلت : 14 ] { لجعلناه رَجُلاً } لأرسلناه في صورة رجل ، كما .
كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعم الأحوال في صورة دحية . لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون : إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإن قال لهم : الدليل على أني ملك أني جئت بالقرآن المعجز ، وهو ناطق بأني ملك لا بشر- كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن ، فهو لبس الله عليهم . ويجوز أن يراد : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة : وقرأ ابن محيصن : "ولبسنا عليهم" ، بلام واحدة . وقرأ الزهري : "وللبَّسْنا عليهم ما يلبِّسُون" ، بالتشديد .
(2/93)

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ وَلَقَدِ استهزىء } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه { فَحَاقَ } بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به .
(2/94)

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
فإن قلت : أي فرق بين قوله { فانظروا } وبين قوله : { ثُمَّ انظروا } ؟ قلت : جعل النظر مسبباً عن السير في قوله : { فانظروا } فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين . وأما قوله : { سِيرُواْ فِى الارض ثُمَّ انظروا } فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين . ونبه على ذلك بثم ، لتباعد ما بين الواجب والمباح .
(2/95)

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{ لّمَن مَّا فِى السماوات والارض } سؤال تبكيت ، و { قُل لِلَّهِ } تقرير لهم ، أي هو الله لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات الأرض ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } فيجازيكم على إشراككم . وقوله : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } نصب على الذم ، أو رفع : أي أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم . فإن قلت : كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم ، والأمر على العكس؟ قلت : معناه : الذين خسروا أنفسهم في علم الله : لاختيارهم الكفر . فهم لا يؤمنون .
(2/96)

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{ وَلَهُ } عطف على الله { مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار } من السكنى وتعديه بفي كما في قوله : { وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } . { وَهُوَ السميع العليم } يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان .
(2/97)

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
أوَليّ { أَغَيْرَ الله } ؟ همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو { اتخذ } لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً ، لا في اتخاذ الولي ، فكان أولى بالتقديم . ونحوه { أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } [ الزمر : 64 ] { ءَآللهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] . وقرىء { فَاطِرِ السماوات } بالجرّ صفة لله ، وبالرفع على المدح . وقرأ الزهري : "فَطَرَ" . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدعتها { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وهو يرزُق ولا يُرْزَق ، كقوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 59 ] والمعنى : أن المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع . وقرىء : "ولا يَطعم" ، بفتح الياء . وروى ابن المأمون عن يعقوب : "وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِمُ" ، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، والضمير لغير الله ، وقرأ الأشهب : "وهو يطعم ولا يطعم" ، على بنائهما للفاعل . وفسر بأن معناه : وهو يطعم ، ولا يستطعم . وحكى الأزهري : أطعمت ، بمعنى استطعمت ، ونحوه أفدت . ويجوز أن يكون المعنى : وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح ، كقولك : وهو يعطي ويمنع ، ويبسط ، ويقدر ، ويغني ويفقر { أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام ، كقوله { وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 163 ] وكقول موسى : { سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } [ الأعراف : 143 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ } وقيل لي لا تكونن { مِنَ المشركين } ومعناه : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك . و { مِنْ يُصْرَفْ عَنْهُ } العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } الله الرحمة العظمى وهي النجاة ، كقولك : إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه؟ تريد : فقد أتممت الإحسان إليه أو ، فقد أدخله الجنة ، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب . وقرىء : "من يَصْرِفْ عنه" على البناء للفاعل ، والمعنى : من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه ، بمعنى : من يدفع الله عنه . ويحفظه ، وقد علم من المدفوع عنه . وترك ذكر المصروف؛ لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله وهو العذاب . ويجوز أن ينتصب يومئذ يصرف انتصاب المفعول به ، أي من بيصرف الله عنه ذلك اليوم : أي هوله ، فقد رحمه . وينصر هذه القراءة قراءة أبيّ رضي الله عنه : من يصرف الله عنه .
(2/98)

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه ، فلا قادر على كشفه إلا هو { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من غنى أو صحة { فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ } فكان قادراً على إدامته أو إزالته .
(2/99)

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{ فَوْقَ عِبَادِهِ } تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة ، كقوله : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } [ الأعراف : 127 ] الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم . ولذلك صحّ أن يقال في الله عزّ وجلّ : شيء لا كالأشياء ، كأنك قلت : معلوم لا كسائر المعلومات ، ولا يصح : جسم لا كالأجسام .
(2/100)

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
وأراد : أي شهيد { أَكْبَرُ شهادة } فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ في التعميم { قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله : { قُلِ الله } بمعنى الله أكبر شهادة ، ثم ابتدىء { شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي هو شهيد بيني وبينكم ، وأن يكون { الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } هو الجواب ، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم ، فأكبر شيء شهادة شهيد له { وَمَن بَلَغَ } عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة . أي : لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم . وقيل : من الثقلين . وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة . وعن سعيد بن جبير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم { أئنكم لتشهدون } تقرير لهم مع إنكار واستبعاد { قُل لاَّ أَشْهَدُ } شهادتكم .
(2/101)

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{ الذين ءاتيناهم الكتاب } يعني اليهود والنصارى يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } بحلاهم ونعوتهم لا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم . وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته . ثم قال : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } من المشركين من أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به ، جمعوا بين أمرين متناقضين ، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة ، والبرهان الصحيح ، حيث قالوا : { لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وقالوا : { والله أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] وقالوا : { الملائكة بَنَاتُ الله } و { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات ، وسموها سحراً ، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .
(2/102)

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } ناصبه محذوف تقديره : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت ، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله . وقوله : { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } معناه تزعمونهم شركاء ، فحذف المفعولان . وقرىء : "يحشرهم" . "ثم يقول" : بالياء فيهما . وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ ، ويجوز أن يشاهدوهم ، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة . فكأنهم غيب عنهم ، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها ، فيروا مكان خزيهم ، وحسرتهم { فِتْنَتُهُمْ } كفرهم . والمعنى : ثم لم تكن عاقبة كفرهم - الذي لزموه أعمارهم ، وقاتلوا عليه وافتخروا به ، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه ، والحلف على الانتفاء من التدين به . ويجوز أن يراد : ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمي فتنة؛ لأنه كذب . وقرىء : "تكن" بالتاء و ( فتنتهم ) ، بالنصب . وإنما أنث { أَن قَالُواْ } لوقوع الخبر مؤنثاً ، كقولك : من كانت أمّك؟ وقرىء بالياء ونصب الفتنة . وبالياء والتاء مع رفع الفتنة . وقرىء : "ربنا" بالنصب على النداء { وَضَلَّ عَنْهُم } وغاب عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يفترون إلهيته وشفاعته . فإن قلت : كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً : ألا تراهم يقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون } [ المؤمنون : 107 ] وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه ، { وَنَادَوْاْ يامالك مالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم . وأما قول من يقول : معناه : ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحملُ قوله : { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } يعني في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإقحام ، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه ، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ . وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } [ المجادلة : 18 ] بعد قوله : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ المجادلة : 14 ] فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا .
(2/103)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } حين تتلوا القرآن . روي :
( 372 ) أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل ، وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا للنضر : يا أبا قُتَيْلَة ، ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته - يعني الكعبة - ما أدري ما يقول ، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين ، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية ، فقال أبو سفيان : إني لأراه حقاً . فقال أبو جهل : كلا ، فنزلت . والأكنة على القلوب ، والوقر في الأذان : مثلٌ في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته . ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله : { وَجَعَلْنَا } للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم ، كأنهم مجبولون عليه . أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم { وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] وقرأ طلحة : "وقراً" بكسر الواو { حتى إِذَا جاءوك يجادلونك } هي حتى التي تقع بعدها الجمل . والجملة قوله : { إِذَا جاءوك } { يَقُولُ الذين كَفَرُواْ } و { يجادلونك } موضع الحال . ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاؤك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم ، ويجادلونك حال ، وقوله : يقول { الذين كفروا } . وتفسير له . والمعنى بأنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك . وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون : { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين } فيجعلون كلام الله وهو أصدق الحديث ، خرافات وأكاذيب ، وهي الغاية في التكذيب { وَهُمْ يَنْهَوْنَ } الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه ، ويثبطونهم عن الإيمان به { عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ } بأنفسهم فيضلون ويضلون { وَإِن يُهْلِكُونَ } بذلك { إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم ، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه ولا يؤمن به . وروي أنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً . فقال :
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَابْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا
وَدَعَوتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحٌ ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا
وَعَرَضْتُ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حَذَارِيَ سُبَّةً ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
فنزلت .
(2/104)

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{ وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف تقديره . ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً { وُقِفُواْ عَلَى النار } أروها حتى يعاينوها . أو اطلعوا عليها اطلاعاً هي تحتهم ، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك : وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته ، وقرىء : "وقفوا" على البناء للفاعل ، ومن وقف عليه وقوفاً { ياليتنا نُرَدُّ } تم تمنيهم . ثم ابتدؤا { وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } واعدين الإيمان ، كأنهم قالوا : ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات . شبهة سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود ، بمعنى : دعني وأنا لا أعود ، تركتني أو لم تتركني . ويجوز أن يكون معطوفاً على نردّ ، أو حالاً على معنى : يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين ، فيدخل تحت حكم التمني . فإن قلت : يدفع ذلك قوله : { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } لأن المتمنّي لا يكون كاذباً . قلت : هذا تمنٍّ قد تضمن معنى العدة ، فجاز أن يتعلق به التكذيب ، كما يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمنّ في معنى الواعد ، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب ، كأنه قال : إن رزقني الله مالاً كافأتك على الإحسان . وقرىء : "ولا نكذب ونكون" بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه : إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم؛ فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً؛ لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا . وقيل : هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه . وقيل : هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَوْ رُدُّواْ } إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار { لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } من الكفر والمعاصي { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به .
(2/105)

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
{ وَقَالُواْ } عطف على لعادوا . أي : ولو ردّوا لكفروا ولقالوا : { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة . ويجوز أن يعطف على قوله : وإنهم لكاذبون ، على معنى : وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء ، وهم الذين قالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا . وكفى به دليلاً على كذبهم .
(2/106)

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ } مجاز على الحبس للتوبيخ والسؤال ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه . وقيل : وقفوا على جزاء ربهم . وقيل : عرفوه حق التعريف { قَالَ } مردود على قول قائل قال : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل : قال : { أَلَيْسَ هذا بالحق } وهذا تعيير من الله تعالى لهم على التكذيب . وقولهم - لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء - : ما هو بحق وما هو إلا باطل { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها . وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر . و { حتى } غاية لكذبوا لا لخسر ، لأن خسرانهم لا غاية له . أي ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة . فإن قلت : أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت : لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 373 ) " من مات فقد قامت قيامته " أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة { بَغْتَةً } فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة ، أو على المصدر كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة { فَرَّطْنَا فِيهَا } الضمير للحياة الدنيا ، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، أو للساعة على معنى : قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها ، كما تقول : فرّطت في فلان . ومنه فرّطت في جنب الله { يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } كقوله : { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور ، كما ألف الكسب بالأيدي { سَاء مَا يَزِرُونَ } بئس شيئاً يزرون وزرهم ، كقوله { سَاء مَثَلاً القوم } [ الأعراف : 177 ] .
(2/107)

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالاً بما لا يعني ولا يعقب منفعة ، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة . وقوله : { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو . وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : ( ولدار الآخرة ) وقرىء : "تعقلون" بالتاء والياء .
(2/108)

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{ قَدْ } في { قد نعلم } بمعنى "ربما" الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته ، كقوله :
أَخُو ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَه ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهْ
والهاء في { إِنَّهُ } ضمير الشأن { لَيَحْزُنُكَ } قرىء بفتح الياء وضمها . و { الذى يَقُولُونَ } هو قولهم : ساحر كذاب { لاَ يُكَذّبُونَكَ } قرىء بالتشديد والتخفيف من كذبه إذا جعله كاذباً في زعمه وأكذبه إذا وجده كاذباً . والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله ، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته ، فاله عن حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه . ونحوه قول السيد لغلامه -إذا أهانه بعض الناس - إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني . وفي هذه الطريقة قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] وقيل : فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، ولكنهم يجحدون بألسنتهم . وقيل : فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق ، ولكنهم يجحدون بآيات الله . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ، ولكنهم كانوا يجحدون . وكان أبو جهل يقول : ما نكذبك لأنك عندنا صادق ، وإنما نكذب ما جئتنا به . وروي :
( 374 ) أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له : والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة ، فماذا يكون لسائر قريش ، فنزلت ، وقوله : { ولكن الظالمين } من إقامة الظاهر مقام المضمر ، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم .
(2/109)

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{ وَلَقَدْ كُذّبَتْ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على أن قوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } [ الأنعام : 33 ] ليس بنفي لتكذيبه ، وإنما هو من قولك لغلامك : ما أهانوك ولكنهم أهانوني { على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ } على تكذيبهم وإيذائهم { وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله } لمواعيده من قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171 ] { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين .
(2/110)

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل : { لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } [ الشعراء : 3 ] ، { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] ، { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأرض } منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها { أَوْ سُلَّماً فِى السماء فَتَأْتِيَهُمْ } منها { بئَايَةٍ } فافعل . يعني أنك لا تستطيع ذلك . والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم . وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يودُّ أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم . فقيل له : إن استطعت ذلك فافعل ، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون . ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآيات ، كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقي إلى السماء لفعلت ، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها . وحذف جواب "إن" كما تقول إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره ولو شاء الله لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } يعني أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنما يستجيب من يسمع ، كقوله : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } [ النمل : 80 ] { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله } مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } للجزاء فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان . وأنت لا تقدر على ذلك . وقيل : معناه : وهؤلاء الموتى - يعني الكفرة - يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون ، فحينئذ يسمعون . وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم وقرىء : "يرجعون" ، بفتح الياء .
(2/111)

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ } نزل بمعنى أنزل . وقرىء : "أن ينزل" بالتشديد والتخفيف . وذكر الفعل والفاعل مؤنث . لأن التأنيث آية غير حقيقي ، وحسن للفصل . وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه ، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً } تضطرهم إلى الإيمان . كنتق الجبل على بني إسرائيل ونحوه ، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية ، وأن صارفاً من الحكمة يصرفه عن إنزالها .
(2/112)

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{ أُمَمٌ أمثالكم } مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم { مَّا فَرَّطْنَا } ما تركنا وما أغفلنا { فِى الكتاب } في اللوح المحفوظ { مِن شَىْء } من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض ، كما روي :
( 375 ) " أنه يأخذ للجماء من القرناء " ، فإن قلت : كيف قيل : { إِلاَّ أُمَمٌ } مع إفراد الدابة والطائر؟ قلت : لما كان قوله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرض وَلاَ طَائِرٍ } دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال : وما من دواب ولا طير ، حمل قوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } على المعنى ، فإن قلت : هلا قيل : وما من دابة ولا طائر إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله : { وفِى الأرض } و { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } قلت : معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة ، كأنه قيل : وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع ، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها . فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ، ولطف علمه ، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان . وقرأ ابن أبي عبلة : "ولا طائر" ، بالرفع على المحل ، كأنه قيل : وما دابة ولا طائر . وقرأ علقمة "ما فرطنا" بالتخفيف .
(2/113)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
فإن قلت : كيف أتبعه قوله : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } ؟ قلت : لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال : والمكذبون { صُمٌّ } لايسمعون كلام المنبه { وَبُكْمٌ } لا ينطقون بالحق ، خابطون في ظلمات الكفر ، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه ، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ } أي يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به ، لأنه ليس من أهل اللطف { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي يلطف به لأنّ اللطف يجدي عليه .
(2/114)

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{ أَرَأَيْتُكُم } أخبروني . والضمير الثاني لا محل له من الإعراب؛ لأنك تقول : أرأيتك زيداً ما شأنه ، فلو جعلت للكاف محلاً لكنت كأنك تقول : أرأيت نفسك زيداً ما شأنه؟ وهو خلف من القول ، ومتعلق الاستخبار محذوف ، تقديره : إن أتاكم عذاب الله { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } من تدعون . ثم بكتهم بقوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ ، أم تدعون الله دونها { بَلْ إياه تَدْعُونَ } بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } أي ما تدعونه إلى كشفه { إِن شَاء } إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وتتركون آلهتكم أو لا تذكرونها في ذلك الوقت : لأن أذهانكم في ذلك الوقت مغمورة بذكر ربكم وحده ، إذ هو القادر على كشف الضرّ دون غيره ، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } كأنه قيل : أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله . فإن قلت : إن علقت الشرط به فما تصنع بقوله : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } مع قوله : { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت : قد اشترط في الكشف المشيئة ، وهو قوله : { إِن شَاء } إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة ، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه .
(2/115)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
البأساء ، والضراء : البؤس ، والضر . وقيل : البأساء : القحط والجوع . والضراء : المرض ونقصان الأموال والأنفس . والمعنى : ولقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم { فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } معناه : نفي التّضرع ، كأنه قيل : فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا . ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } من البأساء والضراء : أي تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } من الصحة والسعة وصنوف النعمة ، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء ، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى ، طلباً لصلاحه { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } من الخير والنعم ، لم يزيدوا على الفرح والبطر ، من غير انتداب لشكر ولا تصدّ لتوبة واعتذار { أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } واجمون ، متحسرون آيسون { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم } آخرهم لم يترك منهم أحد ، قد استؤصلت شأفتهم { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة ، وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم . وقرىء : { فَتَحْنَا } بالتشديد .
(2/116)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم } بأن يصمكم ويعميكم { وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ } بأن يغطي عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم { يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي يأتيكم بذلك ، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة أو بما أخذ وختم عليه { يَصْدِفُونَ } يعرضون عن الآيات بعد ظهورها .
(2/117)

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته ، قيل : { بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً } وعن الحسن : ليلاً أو نهاراً . وقرىء : "بغتة أو جهرة" { هَلْ يُهْلَكُ } أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون . وقرىء : ( هل يهلك ) بفتح الياء .
(2/118)

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
{ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } من آمن بهم وبما جاؤا به وأطاعهم ، ومن كذبهم وعصاهم ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة { وَأَصْلَحَ } ما يجب عليه إصلاحه مما كلف .
(2/119)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
جعل العذاب ماساً ، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام . ومنه قولهم : لقيت منه الأمرّين والأقورين ، حيث جمعوا جمع العقلاء . وقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .
(2/120)

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله - وهي قسمة بين الخلق وإرزاقه ، وعلم الغيب ، وأني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه . أي لم أدّع إلهية ولا ملكية؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزل الملائكة ، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها . وإنما أدّعي ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة { هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير } مثل للضالّ والمهتدي ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع ما يوحي إليه . ومن لم يتبع . أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة . والمحال وهو الإلهية أو الملكية { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } فلا تكونوا ضالين أشباه العميان . أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر . أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إليَّ مما لا بدّ لي منه . فإن قلت : { أَعْلَمُ الغيب } ما محله من الإعراب؟ قلت : النصب عطفاً على قوله : { عِندِى خَزَائِنُ الله } ، لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول .
(2/121)

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
{ وَأَنذِرْ بِهِ } الضمير راجع إلى قوله : و { وَمَا يُوحِى إِلَىَّ } و { الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ } إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلاّ أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما يوحي إليه { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين . وأمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث . وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا ، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار ، دون المتمردّين منهم ، فأمر أن ينذر هؤلاء . وقوله : { لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } في موضع الحال من يحشروا ، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ، ولا بدّ من هذه الحال ، لأنّ كلاًّ محشور ، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال .
(2/122)

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا ، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم ، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك ، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها ، والمراد بذكر الغداة والعشي : الدوام . وقيل معناه : يصلون صلاة الصبح والعصر ، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته . روي :
( 376 ) أن رؤوساً من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين ، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم - وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أنا بطارد المؤمنين . فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا ، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت . فقال : نعم ، طمعاً في إيمانهم . وروي : أن عمر رضي الله عنه قال : لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون . قال فاكتب بذلك كتاباً ، فدعا بصحيفة وبعليّ رضي الله عنه ليكتب . فنزلت . فرمى بالصحيفة ، واعتذر عمر من مقالته .
( 377 ) قال سلمان وخباب : فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته . وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي . معكم المحيا ومعكم الممات و { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } كقوله : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى } [ الشعراء : 113 ] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم ، فقال : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم على معنى : وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيمة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم ، كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الزمر : 7 ] . فإن قلت : أما كفى قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } حتى ضم إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء } ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة ، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنيّ في قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الزمر : 7 ] ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً ، كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه . وقيل : الضمير للمشركين . والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم ، حتى يهمك إيمانهم ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب النفي { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب النهي . ويجوز أن يكون عطفاً على { فَتَطْرُدَهُمْ } على وجه التسبيب ، لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم . وقرىء : "بالغدوة والعشي" .
(2/123)

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{ وكذلك فَتَنَّا } ومثل ذلك الفتن العظيم ، فتنا بعض الناس ببعض ، أي ابتليناهم بهم . وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين { أهؤلاء } الذين { مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا } أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ، ونحن المقدمون والرؤساء ، وهم العبيد والفقراء ، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير ، ونحوه { أَءلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] ، { وَلَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك : خذلناهم فافتتنوا ، حتى كان افتنانهم سبباً لهذا القول ، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلاّ مخذول مفتون { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان . وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق .
(2/124)

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{ فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم . وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم . وكذلك قوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم . وقرىء : "إنه" فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ } وبالفتح على الإبدال من الرحمة { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال ، أي عمله وهو جاهل . وفيه معنيان ، أحدهما : أنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظانّ فهو من أهل السفه والجهل ، لا من أهل الحكمة والتدبير . ومنه قول الشاعر :
عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا ... جَهِلْتَ عَلَى عَمْدٍ وَلَمْ تَكُ جَاهِلا
والثاني : أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة . ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته . وقيل : إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة .
(2/125)

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وقرىء : "ولتستبين" بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث . وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل . يقال : استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته . والمعنى : ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين . من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ، ومن يرى فيه إمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده ، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به ، فصلنا ذلك التفصيل .
(2/126)

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{ نُهِيتُ } صرفت وزجرت ، بما ركب فيّ من أدلة العقل ، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون { مِن دُونِ الله } وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ } أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل ، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال ، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شيء يعني أنكم كذلك . ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله : { قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } ومعنى قوله : { إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَكَذَّبْتُم بِهِ } : إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه ، على حجة واضحة وشاهد صدق { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أنتم حيث أشركتم به غيره . ويقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه ، إذا كان ثابتاً عندك بدليل . ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل فقال : { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } في تأخير عذابكم { يَقْضي الحق } أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل في أقسامه { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } أي القاضين . وقرىء : "يقص الحق" أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره ، من قص أثره { لَّوْ أَنَّ عِندِى } أي في قدرتي وإمكاني { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب { لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به . ولتخلصت منكم سريعاً { والله أَعْلَمُ بالظالمين } وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم . وقيل { على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } على حجة من جهة ربي وهي القرآن { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أي بالبينة . وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن . فإن قلت : بم انتصب الحق؟ قلت : بأنه صفة لمصدر يقضي أي يقضي القضاء الحق . ويجوز أن يكون مفعولاً به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها ، أي يصنع الحق ويدبره . وفي قراءة عبد الله : "يقضى بالحق" فإن قلت : لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت : إتباعاً للخط اللفظ ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين .
(2/127)

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالأغلاق والأقفال . ومن علم مفاتحها وكيف تفتح ، توصل إليها ، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ، فهو المتوصل إلى ما في المخازن . والمفاتح : جمع مفتح وهو المفتاح . وقرىء : "مفاتيح" ، وقيل : هي جمع مفتح - بفتح الميم - وهو المخزن . { وَلاَ حَبَّةٍ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } عطف على ورقة وداخل في حكمها ، كأنه قيل : وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه . وقوله : { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } كالتكرير لقوله : { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأنّ معنى { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } ومعنى { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } واحد . والكتاب المبين : علم الله تعالى ، أو اللوح : وقرىء : "ولا حبةٌ ، ولا رطبٌ ، ولا يابسٌ" بالرفع . وفيه وجهان : أن يكون عطفاً على محل { مِن وَرَقَةٍ } وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } : كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلاّ في الدار .
(2/128)

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{ وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } الخطاب للكفرة ، أي أنتم منسدحون الليل كله كالجيف { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } ما كسبتم من الآثام فيه { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم ، من النوم بالليل ، وكسب الأثام بالنهار ، ومن أجله ، كقولك : فيم دعوتني؟ فتقول : في أمر كذا { ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى } وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم . { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } وهو المرجع إلى موقف الحساب { ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في ليلكم ونهاركم .
(2/129)

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ حَفَظَةً } ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون . وعن أبي حاتم السجستاني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء يلفظ به من فوائد العلم ، حتى قال فيه : أنت شبيه الحفظة ، تكتب لغط اللفظة : فقال أبو حاتم : وهذا أيضاً مما يكتب . فإن قلت : الله تعالى غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة ، فما فائدتها؟ قلت : فيها لطف للعباد ، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه . وعن مجاهد : جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله . وما من أهل بيت إلاّ ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين . وقرىء : "توفاه" ، ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعاً بمعنى تتوفاه . و { يُفَرّطُونَ } بالتشديد والتخفيف ، فالتفريط التواني والتأخير عن الحدّ ، والإفراط مجاوزة الحدّ أي لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه { ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله } أي إلى حكمه وجزائه { مولاهم } مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم { الحق } العدل الذي لا يحكم إلاّ بالحق { أَلاَ لَهُ الحكم } يومئذ لا حكم فيه لغيره { وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } لا يشغله حساب عن حساب . وقرىء : "الحقَّ" بالنصب على المدح كقولك : الحمد لله الحقَّ .
(2/130)

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{ ظلمات البر والبحر } مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما . يقال لليوم الشديد : يوم مظلم ، ويوم ذو كواكب . أي اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل؛ ويجوز أن يراد . ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم ، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } على إرادة القول { مِنْ هذه } من هذه الظلمة الشديدة . وقرىء : { يُنَجّيكُمْ } بالتشديد والتخيف ، وأنجانا ، وخفية ، بالضم والكسر .
(2/131)

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{ هُوَ القادر } هو الذي عرفتموه قادراً وهو الكامل القدرة { عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ } كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة ، وأرسل على قوم نوح الطوفان { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } كما أغرق فرعون وخسف بقارون ، وقيل من فوقكم : من قبل أكابركم وسلاطينكم . ومن تحت أرجلكم : من قبل سفلتكم وعبيدكم . وقيل : هو حبس المطر والنبات { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام . ومعنى خلطهم : أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال ، من قوله :
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَة ... حَتَّى إذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 378 ) " سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ، وأخبرني جبريل أنّ فناء أمتي بالسيف " ، وعن جابر بن عبد الله :
( 379 ) لما نزل { مّن فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بوجهك " فلما نزل : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } قال : " هاتان أهون " ومعنى الآية : الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة . والضمير في قوله : { وَكَذَّبَ بِهِ } راجع إلى العذاب { وَهُوَ الحق } أي لا بدّ أن ينزل بهم { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ وكُل إليَّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجباراً ، إنما أنا منذر { لِّكُلِّ نَبَإٍ } لكل شيء ينبأ به ، يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به { مُّسْتَقِرٌّ } وقت استقرار وحصول لا بدّ منه . وقيل : الضمير في { نَبَإٍ } للقرآن .
(2/132)

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{ يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا } في الاستهزاء بها والطعن فيها؛ وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } فلا تجالسهم وقم عنهم { حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } فلا بأس أن تجالسهم حينئذ { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم { فَلاَ تَقْعُدْ } معهم { بَعْدَ الذكرى } بعد أن تذكر النهي . وقرىء : "ينسينك" بالتشديد . ويجوز أن يراد : وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى } بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْءٍ } وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم { ولكن } عليهم أن يذكروهم { ذكرى } إذا سمعوهم يخوضون ، بالقيام عنهم ، وإظهار الكراهة لهم ، وموعظتهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم . ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون ، أي يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها . وروي : أن المسلمين قالوا : لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف ، فرخص لهم . فإن قلت : ما محل { ذكرى } ؟ قلت : يجوز أن يكون نصباً على : ولكن يذكرونهم ذكرى ، أي تذكيراً . ورفعاً على : ولكن عليهم ذكرى . ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل { مِن شَىْءٍ } ، كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد ، لأنّ قوله : { مِنْ حِسَابِهِم } يأبى ذلك .
(2/133)

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً . وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك ، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة ، ومن جنس الهزل دون الجد . أواتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم . أواتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً ، حيث سخروا به واستهزؤا . وقيل : جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً ، وغير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله . ومعنى "ذرهم" أعرض عنهم ، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم ، { وَذَكّرْ بِهِ } أي : بالقرآن { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ } مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها . وأصل الإبسال المنع ، لأن المسلم إليه يمنع المسلم ، قال :
وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْم ... بَعَوْنَاهُ وَلاَ بِدَمٍ مُرَاقِ
ومنه : هذا عليك بسل ، أي حرام محظور . والباسل : الشجاع لامتناعه من قرنه ، أو لأنه شديد البسور . يقال : بسر الرجل إذا اشتد عبوسه . فإذا زاد قالوا : بسل . والعابس : منقبض الوجه { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } وإن تفد كل فداء ، والعدل : الفدية . لأن الفادي يعدل المفدي بمثله . وكلّ عدل : نصب على المصدر . وفاعل { يُؤْخَذْ } قوله : { مِنْهَآ } لا ضمير العدل لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ . وأما في قوله تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] فبمعنى المفديّ به ، فصحّ إسناده إليه { أولئك } إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً . قيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان .
(2/134)

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ قُلْ أَنَدْعُواْ } أنعبد { مِن دُونِ الله } الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا { وَنُرَدُّ على أعقابنا } راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام { كالذى استهوته الشياطين } كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان { فِى الأرض } المهمه { حَيْرَانَ } تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع { لَهُ } أي لهذا المستهوى { أصحاب } رفقة { يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى } إلى أن يهدوه الطريق المستوي . أو سمي الطريق المستقيم بالهدى ، يقولون له { ائتنا } وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم . وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده : أن الجنّ تستهوي الإنسان . والغيلان تستولي عليه ، كقوله : { كالذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } [ البقرة : 275 ] فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم { قُلْ إِنَّ هُدَى الله } وهو الإسلام { هُوَ الهدى } وحده وما وراءه ضلال وغيّ { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا } [ آل عمران : 85 ] . { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] . فإن قلت : فما محل الكاف في قوله : { كالذى استهوته } ؟ قلت النصب على الحال من الضمير في { نُرَدُّ على أعقابنا } أي : أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت : ما معنى { استهوته } ؟ قلت : هو استفعال ، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها ، كأن معناه : طلبت هويه وحرصت عليه . فإن قلت : ما محل : { أَمْرُنَا } قلت : النصب عطفاً على محل قوله : { إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } على أنهما مقولان ، كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم . فإن قلت : ما معنى اللام في { لِنُسْلِمَ } ؟ قلت : هي تعليل للأمر ، بمعنى : أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم . فإن قلت : فإذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعو؟ قلت : للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، خصوصاً بينه وبين الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه .
(2/135)

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَنْ أَقِيمُواْ } ؟ قلت : على موضع { لِنُسْلِمَ } كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم ، وأن أقيموا ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا : أي للإسلام ولإقامة الصلاة { قَوْلُهُ الحق } مبتدأ . ويوم يقول : خبره مقدّماً عليه ، وانتصابه بمعنى الاستقراء ، كقولك : يوم الجمعة القتال . واليوم بمعنى الحين . والمعنى : أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة ، وحين يقول لشيء من الأشياء { كُن } فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة ، أي لا يكون شيئاً من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب . و { يَوْمَ يُنفَخُ } ظرف لقوله : { وَلَهُ الملك } كقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } ؟ [ غافر : 16 ] ويجوز أن يكون { قَوْلُهُ الحق } فاعل يكون ، على معنى : وحين يقول لقوله الحق ، أي لقضائه الحق { كُن } فيكون قوله الحق . وانتصاب اليوم لمحذوف دلّ عليه قوله { بالحق } كأنه قيل : وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق { عالم الغيب } هو عالم الغيب ، وارتفاعه على المدح .
(2/136)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
{ ءَازَرَ } اسم أبي إبراهيم عليه السلام . وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح . والأقرب أن يكون وزن { ءَازَرَ } فاعل مثل تارح وعابر وعازر وشالخ وفالغ وما أشبهها من أسمائهم ، وهو عطف بيان لأبيه . وقرىء : "آزر" بالضم على النداء . وقيل : "آزر" اسم صنم ، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته ، كما نبز ابن قيس بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ ، فقيل : ابن قيس الرقيات . وفي شعر بعض المحدثين :
أُدْعَى بَأَسْمَاءَ نَبْزاً في قَبَائِلِهَا ... كَأَنَّ أَسْمَاءَ أَضْحَتْ بَعْدُ أَسْمَائِي
أو أريد عابد آزر ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقرىء : "ءأزر" تتخذ أصناماً آلهة بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاي ساكنة وراء منصوبة منونة ، وهو اسم صنم . ومعناه : أتعبد آزراً على الإنكار؟ ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخل في حكم الإنكار ، لأنه كالبيان له { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } عطف على قال إبراهيم لأبيه : وقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم } جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه . والمعنى : مثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره . ملكوت السموات والأرض : يعني الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال . وليكون من الموقنين : فعلنا ذلك . ونروي : حكاية حال ماضية ، وكان أبوه [ آزر ] وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثاً أحدثها ، وصانعاً صنعها ، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها { هذا رَبّى } قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه . لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة { لا أُحِبُّ الأفلين } لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال ، المتنقلين من مكان إلى آخر ، المحتجبين بستر ، فإنّ ذلك من صفات الأجرام { بَازِغاً } مبتدئاً في الطلوع { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول ، فهو ضال ، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه { هذا أَكْبَرُ } من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها { إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض } أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها . وقيل : هذا كان نظره واستدلاله في نفسه ، فحكاه الله . والأوّل أظهر لقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } وقوله : { قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } .
(2/137)

فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت : الاحتجاج بالأفول أظهر ، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب . فإن قلت : ما وجه التذكير في قوله : { هذا رَبّى } والإشارة للشمس؟ قلت : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد ، كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك ، و { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث . ألا تراهم قالوا في صفة الله "علام" ولم يقولوا "علامة" وإن كان العلامة أبلغ ، احترازاً من علامة التأنيث . وقرىء : "تري إبراهيمَ ملكوتُ السموات والأرض" بالتاء ورفع الملكوت . ومعناه : تبصره دلائل الربوبية .
(2/138)

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى الله } وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك { وَقَدْ هدان } يعني إلى التوحيد { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } وقد خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء { إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً } إلاّ وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف ، فحذف الوقت ، يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط؛ لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة ، إلاّ إذا شاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً استوجب به إنزال المكروه ، مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة من الشمس أو القمر ، أو يجلعها قادرة على مضرتي { وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً } أي ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز { وَكَيْفَ أَخَافُ } لتخويفكم شيئاً مأمون الخوف لا يتعلق به ضرر بوجه { و } أنتم { لا تخافون } ما يتعلق به كل مخوف وهو إشراككم بالله ما لم ينزل بإشراكه { سلطانا } أي حجة ، لأن الإشراك لا يصحّ أن يكون عليه حجة ، كأنه قال : وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف . ولم يقل : فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم ، احترازاً من تزكيته نفسه ، فعدل عنه إلى قوله : { فَأَىُّ الفريقين } يعني فريقي المشركين والموحدين . ثم استأنف الجواب على السؤال بقوله : { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم . وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس { وَتِلْكَ } إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } إلى قوله : { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } . ومعنى { ءاتيناهآ } أرشدناه إليها ووفقناه لها { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } يعني في العلم والحكمة . وقرىء بالتنوين { وَمِن ذُرّيَّتِهِ } الضمير لنوح أو لإبراهيم . و { دَاوُودُ } عطف على نوحاً ، أي وهدينا داود { وَمِنْ ءابَائِهِمْ } في موضع النصب عطفاً على كلاًّ ، بمعنى : وفضلنا بعض آبائهم { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات . لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم ، كما قال تعالى وتقدّس { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . { ءاتيناهمالكتاب } يريد الجنس { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } بالكتاب والحكمة والنبوّة . أو بالنبوّة { هؤلاء } يعني أهل مكة { قَوْماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله : { أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } وبدليل وصل قوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء } بما قبله . وقيل : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من آمن به . وقيل : كل مؤمن من بني آدم .
(2/139)

وقيل : الملائكة وادّعى الأنصار أنها لهم . وعن مجاهد : هم الفرس . ومعنى توكيلهم بها : أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكّل الرجل بالشيء ليقوم به ، ويتعهده ويحافظ عليه . والباء في { بِهَا } صلة كافرين . وفي { بكافرين } تأكيد النفي . { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } فاختص هداهم بالاقتداء ، ولا تقتد إلاّ بهم . وهذا معنى تقديم المفعول ، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع ، فإنها مختلفة وهي هدى ، ما لم تنسخ . فإذا نسخت لم تبق هدى ، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبداً . والهاء في { اقتده } للوقف تسقط في الدرج . واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف .
(2/140)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم وأجلّ نعمته { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدّة بطشه بهم ، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة . والقائلون هم اليهود ، بدليل قراءة من قرأ : "تجعلونه" بالتاء . وكذلك { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ } وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعي عليهم سوء جهلهم لكتابهم وتحريفهم ، وإبداء بعض وإخفاء بعض فقيل : { جَاء بِهِ موسى } وهو نور وهدى للناس ، حتى غيروه ، ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء . وروي :
( 380 ) أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين ، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود " فضحك القوم ، فغضب ، ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال : إنه أغضبني ، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف . وقيل : القائلون قريش وقد ألزموا إنزال التوراة لأنهم كانوا يسمعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة ، وكانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب ، لكنا أهدى منهم { وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } الخطاب لليهود ، أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى إليه ما لم تعلموا أنتم ، وأنتم حملة التوراة ، ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم { إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النمل : 76 ] وقيل الخطاب لمن آمن من قريش ، كقوله تعالى : { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] . { قُلِ الله } أي أنزله الله ، فإنهم لا يقدرون أن يناكروك { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ } في باطلهم الذي يخوضون فيه ، ولا عليك بعد إلزام الحجة . ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه : إنما أنت لاعب . و { يَلْعَبُونَ } حال من ذرهم ، أو من خوضهم ، ويجوز أن يكون { فِى خَوْضِهِمْ } حالاً من يلعبون ، وأن يكون صلة لهم أو لذرهم .
(2/141)

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ مُّبَارَكٌ } كثير المنافع والفوائد { وَلِتُنذِرَ } معطوف على ما دلّ عليه صفة الكتاب ، كأنه قيل : أنزلناه للبركات ، وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار . وقرىء : "ولينذر" بالياء والتاء . وسميت مكة { أُمَّ القرى } لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم . لأنها أعظم القرى شأناً لبعض المجاورين :
فَمَنْ يَلْقَى فِي الْقُرَيَّاتِ رَحْلَه ... فَأُمُّ الْقُرَى مُلْقَى رِحَالِي وَمُنْتَابِي
{ والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة } يصدّقون بالعاقبة ويخافونها { يُؤْمِنُونَ } بهذا الكتاب . وذلك أنّ أصل الدين خوف العاقبة ، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن . وخصّ الصلاة لأنها عماد الدين . ومن حافظ عليها كانت لطفاً في المحافظة على أخواتها .
(2/142)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فزعم أن الله بعثه نبياً { أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء } وهو مسيلمة الحنفي الكذاب . أو كذاب صنعاء الأسود العنسي . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى الله إليّ أن أنفخهما ، فنفختهما فطارا عني ، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما : كذاب اليمامة مسيلمة . وكذاب صنعاء الأسود العنسي " { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله } هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي .
( 382 ) كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أملى عليه سميعاً عليماً ، كتب هو : عليماً حكيماً . وإذا قال : عليماً حكيماً ، كتب غفوراً رحيماً . فلما نزلت : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى آخر الآية ، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان : فقال : تبارك الله أحسن الخالقين . فقال عليه الصلاة والسلام اكتبها : فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمداً صادقاً لقد أوحي إليّ مثل ما أُوحي إليه . ولئن كان كاذباً فلقد قلت كما قال : فارتدّ عن الإسلام ولحق بمكة ، ثم رجع مسلماً قبل فتح مكة . وقيل : هو النضر بن الحرث والمستهزؤن { وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف . أي : رأيت أمراً عظيماً { إِذِ الظالمون } يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة ، فتكون اللام للعهد . ويجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله . و { غَمَرَاتِ الموت } شدائده وسكراته ، وأصل الغمرة : ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدّة الغالبة { بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم . وهذه عبارة عن العنف في السياق ، والإلحاح ، والتشديد في [ الإزهاق ] ، من غير تنفيس وإمهال ، وإنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط يبسط يده إلى من عليه الحق ، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ، ويقول له : [ أخرج ] إليّ ما لي عليك الساعة ، ولا أريم مكاني ، حتى أنزعه من أحداقك . وقيل : معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } خلصوها من أيدينا ، أي لا تقدرون على الخلاص { اليوم تُجْزَوْنَ } يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع ، وأن يريدوا الوقت الممتدّ المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة . والهون الشديد ، وإضافة العذاب إليه كقولك : رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه { عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } فلا تؤمنون بها .
(2/143)

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{ فرادى } منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه ، وآثرتموه من دنياكم ، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله { كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد { وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة { وَرَاء ظُهُورِكُمْ } لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدّمتموه لأنفسكم { فِيكُمْ شُرَكَاء } في استبعادكم ، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها ، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم . وقرىء : "فرادى" بالتنوين . وفراد ، مثل ثلاث . وفردى ، نحو سكرى : فإن قلت : كما خلقناكم ، في أي محل هو؟ قلت : في محل النصب صفة لمصدر جئتمونا ، أي مجيئنا مثل خلقنا لكم { تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } وقع التقطع بينكم ، كما تقول : جمع بين الشيئين ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف كما تقول قوتل خلفكم وأمامكم . وفي قراءة عبد الله : "لقد تقطع ما بينكم" .
(2/144)

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
{ فَالِقُ الحب والنوى } بالنبات والشجر . وعن مجاهد : أراد الشقين الذين في النواة والحنطة { يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } أي الحيوان ، والنامي من النطف . والبيض والحب والنوى { وَمُخْرِجُ } هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي . فإن قلت : كيف قال : { مُخْرَجَ الميت مِنَ الحى } بلفظ اسم الفاعل ، بعد قوله : { يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } قلت : عطفه على فالق الحب والنوى ، لا على الفعل . ويخرج الحيَّ من الميت : موقعة موقع الجملة المبينة لقوله : { فَالِقُ الحب والنوى } لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحيّ من الميت ، لأنّ النامي في حكم الحيوان . ألا ترى إلى قوله : { يحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 50 ] ، { ذَلِكُمُ الله } أي ذلكم المحي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره .
(2/145)

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{ الإصباح } مصدر سمي به الصبح . وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح ، وأنشد قوله :
[ أفْنَى ] رَبَاحاً وَبَنِي رَبَاح ... تنَاسُخُ الإمْسَاءِ وَالإصْبَاح
بالكسر والفتح مصدرين ، وجمع مساء وصبح . فإن قلت : فما معنى فلق الصبح ، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح . كما قال :
تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَي عَنْ أدِيمِهَا ... تَفَرَّى لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نَهَارٍ
قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد فالق ظلمة الإصباح ، وهي الغبش في آخر الليل ، ومنقضاه الذي يلي الصبح . والثاني : أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره . وقالوا : انشق عمود الفجر . وانصدع الفجر . وسموا الفجر فلقاً بمعنى مفلوق . وقال الطائي :
وَأزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أبَيْضِهِ ... وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ
وقرىء : "فالق الإصباح ، وجاعل الليل سكناً" بالنصب على المدح . وقرأ النخعي : "فلق الإصباح وجعل الليل" السكن : ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناساً به واسترواحاً إليه ، من زوج أو حبيب . ومنه قيل للنار : سكن؛ لأنه يستأنس بها . ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه ، ويجوز أن يراد : وجعل الليل مسكوناً فيه من قوله : { لتسكنوا فيه } { والشمس والقمر } قرئاً بالحركات الثلاث ، فالنصب على إضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل ، أي وجعل الشمس والقمر حسباناً . أو يعطفان على محل الليل . فإن قلت كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية ، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ، ولا تقول : زيد ضارب عمراً أمس؟ قلت : ما هو في معنى المضيّ ، وإنما هو دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة ، وكذلك فالق الحب ، وفالق الإصباح ، كما تقول : الله قادر عالم ، فلا تقصد زماناً دون زمان ، والجر عطف على لفظ الليل ، والرفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والشمس والقمر مجعولان حسباناً ، أو محسوبان حسباناً . ومعنى جعل الشمس والقمر حسباناً : جعلهما على حسبان ، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما . والحسبان - بالضم - : مصدر حسب ، كما أنّ الحسبان - بالكسر - مصدر حسب . ونظيره الكفران والشكران { ذلك } إشارة إلى جعلهما حسباناً ، أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم { تَقْدِيرُ العزيز } الذي قهرهما وسخرهما { العليم } بتدبيرهما وتدويرهما .
(2/146)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
{ فِى ظلمات البر والبحر } في ظلمات الليل بالبر والبحر ، وأضافها إليهما لملابستها لهما ، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات .
(2/147)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
من فتح قاف المستقر ، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدراً . ومن كسرها ، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول . والمعنى فلكم مستقرّ في الرحم . ومستودع في الصلب ، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها . أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع . فإن قلت : لم قيل { يَعْلَمُونَ } مع ذكر النجوم و { يَفْقَهُونَ } مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً ، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له .
(2/148)

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بالماء { نَبَاتَ كُلّ شَىْء } نبت كل صنف من أصناف النامي ، يعني أن السبب واحد وهو الماء . والمسببات صنوف مفتنة ، كما قال : { يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل } [ الرعد : 4 ] . { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } من النبات { خَضِرًا } شيئاً غضاً أخضر . يقال أخضر وخضر ، كأعور وعور ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُخْرِجُ مِنْهُ } من الخضر { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } وهو السنبل . و { قنوان } رفع الابتداء . و { مِنْ النخل } خبره . و { مِن طَلْعِهَا } بدل منه ، كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان . ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ومخرجة من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حب متراكب ، كان { قنوان } عنده معطوفاً على حب . والقنوان : جمع قنو ، ونظيره : صنو وصنوان . وقرىء : بضم القاف وبفتحها ، على أنه اسم جمع كركب؛ لأنّ فعلان ليس من زيادة التكسير { دَانِيَةٌ } سهلة المجتنى معرضة للقاطف ، كالشيء الداني القريب المتناول؛ ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول . وقال الحسن : دانية قريب بعضها من بعض . وقيل : ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة ، لأنّ النعمة فيها أظهر وأدلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وقوله : { وجنات مّنْ أعناب } فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد : وثم جنات من أعناب ، أي مع النخل . والثاني : أن يعطف على { قنوان } على معنى : وحاصلة ، أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب ، أي من نبات أعناب . وقرىء : "وجنات" بالنصب عطفاً على { نَبَاتَ كُلّ شَىْء } أي : وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : { والزيتون والرمان } والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص ، كقوله : { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] لفضل هذين الصنفين { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه } يقال اشتبه الشيئان وتشابها ، كقولك استويا وتساويا . والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً . وقرىء : "متشابهاً وغير متشابه" وتقديره : والزيتون متشابهاً وغير متشابه ، والرمّان كذلك كقوله :
كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَيَّ بَرِيًّا ... والمعنى : بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه ، في القدر واللون والطعم . وذلك دليل على التعمد دون الإهمال { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به . وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال . وقرىء { وَيَنْعِهِ } بالضم . يقال : ينعت الثمرة ينعاً وينعاً . وقرأ ابن محيصن : "ويانعه" . وقرىء : "وثمره" ، بالضم .
(2/149)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
إن جعلت { للَّهِ شُرَكَاء } مفعولي جعلوا ، نصبت الجنّ بدلاً من شركاء ، وإن جعلت { للَّهِ } لغواً كان { شُرَكَاء الجن } مفعولين قدم ثانيهما على الأول . فإن قلت : فما فائدة التقديم؟ قلت : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك مَن كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك . ولذلك قدّم اسم الله على الشركاء . وقرىء : "الجن" بالرفع ، كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الجن . وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين . والمعنى أشركوهم في عبادته ، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله . وقيل : هم الذين زعموا أنّ الله خالق الخير وكل نافع ، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ { وَخَلَقَهُمْ } وخلق الجاعلين لله شركاء . ومعناه : وعلموا أن الله خالقهم دون الجن ، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق . وقيل : الضمير للجن . وقرىء : "وخلقهم" ، أي اختلاقهم الإفك ، يعني : وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم { والله أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ، { وَخَرَقُواْ لَهُ } وخلقوا له ، أي افتعلوا له { بَنِينَ وَبَنَاتٍ } وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير ، وقول قريش في الملائكة يقال : خلق الإفك وخرقه واختلفه واخترقه ، بمعنى : وسئل الحسن عنه فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها : كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله ، ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه ، أي اشتقوا له بنين وبنات ، وقرىء : "وخرّقوا" بالتشديد للتكثير ، لقوله : { بَنِينَ وَبَنَاتٍ } وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما "وحرّفوا" له ، بمعنى : وزوّروا له أولاداً لأنّ المزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقول عن عمى وجهالة . من غير فكر وروية .
(2/150)

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{ بَدِيعُ السماوات } من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، كقولك : فلان بديع الشعر أي بديع شعره أو هو بديع في السموات والأرض كقولك فلان ثبت الغدر ، أي ثابت فيه ، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها . وقيل : البديع بمعنى المبدع ، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو هو مبتدأ وخبره { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أو فاعل تعالى ، وقرىء بالجرّ ردّاً على قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ } أو على { سبحانه } . وبالنصب على المدح ، وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه ، أحدها : مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً . والثاني : أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس ، فلم يصحّ أن تكون له صاحبة ، فلم تصحّ الولادة . والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ، ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء ، والولد إنما يطلبه المحتاج . وقرىء : "ولم يكن له صاحبة" بالياء وإنما جاز للفصل كقوله :
لقد ولد الأخيطل أم سوء . ...
(2/151)

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{ ذلكم } إشارة إلى الموصوف مما تقدم من الصفات ، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي { الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء } أي ذلكم الجامع لهذه الصفات { فاعبدوه } مسبب عن مضمون الجملة على معنى : أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه . ثم قال : { وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يعني وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال ، رقيب على الأعمال .
(2/152)

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
البصر : هو الجهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر ، به تدرك المبصرات ، فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه؛ لأنه متعال أن يكون مبصراً في ذاته ، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً ، كالأجسام والهيآت { وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار } وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك { وَهُوَ اللطيف } يلطف عن أن تدركه الأبصار { الخبير } بكل لطيف فهو يدرك الأبصار ، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف .
(2/153)

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
{ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } هو وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقوله : { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } والبصيرة نور القلب الذي به يستبصر ، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي ، والتنبيه على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر { فَمَنْ أَبْصَرَ } الحق وآمن { فَلِنَفْسِهِ } أبصر وإياها نفع { وَمَنْ عَمِىَ } عنه فعل نفسه عمى وإياها ضرَّ بالعمى { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم .
(2/154)

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{ وَلِيَقُولُواْ } جوابه محذوف تقديره . وليقولوا درست تصرّفها . ومعنى { دَرَسْتَ } قرأت وتعلمت . وقرىء : "دارست" أي دارست العلماء . ودرست بمعنى قدّمت هذه الآيات وعفت كما قالوا : أساطير الأولين ، ودرست بضم الراء ، مبالغة في درست ، أي اشتد دروسها . ودرست - على البناء للمفعول - بمعنى قرئت أو عفيت . ودارست . وفسروها بدارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم ، وجاز الإضمار؛ لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم . ويجوز أن يكون الفعل للآيات ، وهو لأهلها ، أي دارس أهل الآيات وحملتها محمداً ، وهم أهل الكتاب . ودرس أي درس محمد . ودارسات ، على : هي دارسات ، أي قديمات . أو ذات دروس ، كعيشة راضية ، فإن قلت : أي فرق بين اللامين في { لّيَقُولواْ } ، { وَلِنُبَيّنَهُ } ؟ قلت : الفرق بينهما أنّ [ الأولى ] مجاز والثانية حقيقة ، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست ، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين ، شبه به فسيق مساقه . وقيل : ليقولوا كما قيل لنبينه : فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَلِنُبَيّنَهُ } ؟ قلت : إلى الآيات لأنها في معنى القرآن ، كأنه قيل : وكذلك نصرف القرآن . أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر ، لكونه معلوماً إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل ، كقولهم : ضربته زيداً . ويجوز أن يراد فيمن قرأ درست ودارست : درست الكتاب ودارسته ، فيرجع إلى الكتاب المقدّر .
(2/155)

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محلّ له من الإعراب . ويجوز أن يكون حالاً من ربك ، وهي حال مؤكدة كقوله { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] .
(2/156)

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{ وَلاَ تَسُبُّواْ } الآلهة { الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله } وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] لتنتهينّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك . وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم ، فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسبّ الله تعالى . فإن قلت : سب الآلهة حق وطاعة ، فكيف صحّ النهي عنه ، وإنما يصحّ النهي عن المعاصي قلت : ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة ، فيجب النهي عنها لأنها معصية ، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر هو من أجلّ الطاعات ، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية ، ووجب النهي عن ذلك النهي . كما يجب النهي عن المنكر . فإن قلت : فقد روي عن الحسن وابن سيرين : أنهما حضرا جنازة فرأى محمد نساء فرجع ، فقال الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا . قلت : ليس هذا ممن نحن بصدده ، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة وليس بسبب لحضور النساء فإنهنّ يحضرنها حضر الرجال أو لم يحضروا ، بخلاف سبّ الآلهة . وإنما خيل إلى محمد أنه مثله حتى نبه عليه الحسن . { عَدْوَا } ظلماً وعدواناً . وقرىء : "عُدوّاً" بضم العين وتشديد الواو بمعناه . ويقال : [ عدا ] فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداء . وعن ابن كثير : "عدوّاً" ، بفتح العين بمعنى أعداء { بِغَيْرِ عِلْمٍ } على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّة من أمم الكفار سوء عملهم . أو خليناهم وشأنهم ، ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم . وقولهم : إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا { فَيُنَبِّئُهُم } فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم .
(2/157)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{ لَئِن جآءَتْهُمْ ءايَةٌ } من مقترحاتهم { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الأيات عِندَ الله } وهو قادر عليها ، ولكنه لا ينزلها إلاّ على موجب الحكمة ، أو إنما الآيات عند الله لا عندي . فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وما يدريكم { أَنَّهَآ } أن الآية التي تقترحونها { إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك . وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها . فقال عزّ وجلّ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون به ألا ترى إلى قوله { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقيل : { أَنَّهَآ } بمعنى "لعلها" من قول العرب : ائت السوق أنك تشتري لحماً . وقال امرؤ القيس :
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأَنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خُذَامِ
وتقويها قراءة أبيّ "لعلها إذا جاءت لا يؤمنون" ، وقرىء بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة . ومنهم من جعل "لا" مزيدة في قراءة الفتح وقرىء : "وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون" أي يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها . وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعاً عليها فلا يؤمنوا بها .
(2/158)

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ . . . . وَنَذَرُهُمْ } عطف على ( يؤمنون ) ، داخل في حكم وما يشعركم ، بمعنى : وما يشعركم أنهم لا يؤمنون ، وما يشعركم أنّا نقلب أفئدتهم وأبصارهم : أي نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا ، أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعاً على قلوبهم ، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه . وقرىء : "ويقلب ويذرهم" بالياء أي الله عزّ وجلّ . وقرأ الأعمش : وتقلب أفئدتهم وأبصارهم" على البناء للمفعول .
(2/159)

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة } كما قالوا { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة } [ الفرقان : 21 ] ، { وَكَلَّمَهُمُ الموتى } كما قالوا : { فَأْتُواْ بآبائنا } [ الدخان : 36 ] ، { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً } كما قالوا { أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] قبلاً كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا ، أو جماعات . وقيل : { قُبُلاً } مقابلة . وقرىء : "قبلا" أي عياناً { إلآ أَن يَشَاء الله } مشيئة إكراه واضطرار { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } فيقسمون بالله جهد إيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات . أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطّرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة .
(2/160)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً } وكما خلينا بينك وبين أعدائك ، وكذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم نمنعهم من العداوة ، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر ، وكثرة الثواب والأجر . وانتصب { شياطين } على البدل من عدوّاً . أو على أنهما مفعولان كقوله { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء الجن } [ الأنعام : 100 ] { يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس . وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض . وعن مالك ابن دينار : إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ ، لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عني ، وشيطان الأنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عياناً { زُخْرُفَ القول } ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه { غُرُوراً } خدعاً وأخذاً على غرّة { وَلَوْ شَآء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } ما فعلوا ذلك ، أي ما عادوك ، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم .
(2/161)

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{ ولتصغى } جوابه محذوف تقديره : وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً ، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر . والضمير في { إِلَيْهِ } يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في فعلوه ، أي ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين { أَفْئِدَةُ } الكفار { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } من الأثام .
(2/162)

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{ أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً } على إرادة القول ، أي قل يا محمد : أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم ، ويفصل المحق منا من المبطل { وهُوَ الذى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب } المعجز { مُفَصَّلاً } مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل ، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء . ثم عضد الدلالة على أنّ القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } من باب التهييج والإلهاب ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] أو { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به . ويجوز أن يكون { فَلاَ تَكُونَنَّ } خطاباً لكل أحد ، على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه ، فما ينبغي أن يمتري فيه أحد . وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته .
(2/163)

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } أي تمّ كل ما أخبر به ، وأمر ونهى ، ووعد وأوعد { صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لكلماته } لا أحد يبدّل شيئاً من ذلك مما هو أصدق وأعدل . وصدقاً وعدلاً . نصب على الحال . وقرىء : "كلمة ربك" ، أي ما تكلم به . وقيل : هي القرآن .
(2/164)

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض } أي من الناس أضلوك ، لأن الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم ، ثم قال : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } وهو ظنهم أنّ آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يقدّرون أنهم على شيء . أو يكذبون في أنّ الله حرّم كذا وأحلّ كذا .
(2/165)

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
وقرىء : "من يضل" بضم الياء أي يضله الله { فَكُلُواْ } مسبب عن إنكار اتباع المضلين ، الذي يحلون الحرام ويحرّمون الحلال . وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله ، فما قتل الله أحقّ أن تأكلوا مما قتلتم أنتم ، فقيل للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا { مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه ، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى ببسم الله { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ } وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } وقد بين لكم ما حرّم عليكم مما لم يحرّم وهو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] وقرىء : "فصل لكم ما حرّم عليكم" على تسمية الفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ { إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } مما حرّم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة { وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ } قرىء بفتح الياء وضمها ، أي يضلون فيحرّمون ويحللون { بِأَهْوَآئِهِم } وشهواتهم من غير تعلق بشريعة .
(2/166)

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } ما أعلنتم منه وما أسررتم . وقيل : ما عملتم وما نويتم . وقيل : ظاهره الزنا في الحوانيت ، وباطنه الصديقة في السرّ .
(2/167)

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الضمير راجع إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي ، يعني وإنّ الأكل منه لفسق . أو إلى الموصول على : وإنّ أكله لفسق ، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً . فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد . قلت : قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه : كقوله : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] { لَيُوحُونَ } ليسوسون { إلى أَوْلِيَائِهِمْ } من المشركين { ليجادلوكم } بقولهم : ولا تأكلوا مما قتله الله . وبهذا يرجع تأويل من تأوله بالميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأنّ من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به . ومن حق ذي البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان؛ لما يرى في الآية من التشديد العظيم ، وإن كان أبو حنيفة رحمة الله مرخصاً في النسيان دون العمد ، ومالك والشافعي رحمهما الله فيهما .
(2/168)

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال ، بمن كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به ، فيميز بعضهم من بعض ، ويفصل بين حلاهم ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص ومعنى قوله : { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } كمن صفته هذه وهي قوله : { فِى الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } بمعنى : هو في الظلمات ليس بخارج منها ، كقوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ } [ محمد : 15 ] أي صفتها هذه ، وهي قوله : { فِيهَا أَنْهَارٌ } . { زُيّنَ للكافرين } أي زينه الشيطان ، أو الله عزّ وعلا على قوله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } [ النمل : 4 ] ويدل عليه قوله : { وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا } يعني : وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها ، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك . ومعناه : خليناهم ليمكروا وما كففناهم عن المكر ، وخصّ الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس ، كقوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } [ الإسراء : 16 ] وقرىء : "أكبر مجرميها" على قولك : هم أكبر قومهم ، وأكابر قومهم { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } لأنّ مكرهم يحيق بهم . وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم . روي أن الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً . وروي : أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف ، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبيّ يوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت ونحوها قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُنَشَّرَة } [ المدثر : 52 ] .
(2/169)

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{ الله أَعْلَمُ } كلام مستأنف للإنكار عليهم ، وأن لا يصطفى للنبوة إلاّ من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ } من أكابرها { صَغَارٌ } وقماءة بعد كبرهم وعظمتهم { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار .
(2/170)

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلاّ بمن له لطف { يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحبّ الدخول فيه { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } أن يخذله ويخليه وشأنه ، وهو الذي لا لطف له { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً } يمنعه ألطافه ، حتى يقسو قلبه ، وينبو عن قبول الحق وينسدّ فلا يدخله الإيمان . وقرىء : "ضيقاً" بالتخفيف والتشديد : { حَرَجاً } بالكسر ، حرجاً - بالفتح - وصفاً بالمصدر { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء } كأنما يزاول أمراً غير ممكن . لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة ، وتضيق عنه المقدرة . وقرىء : "يصعد" ، وأصله يتصعد . وقرأ عبد الله : "يتصعد" . و "يصاعد" . وأصله : يتصاعد ويصعد ، من صعد ، ويصعد من أصعد { يَجْعَلُ الله الرجس } يعني الخذلان ومنع التوفيق ، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب . أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب { وهذا صراط رَبّكَ } وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان { مُّسْتَقِيماً } عادلاً مطرداً . وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] { لَهُمْ } لقوم يذكرون { دَارُ السلام } دار الله ، يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها أو دار السلامة من كل آفة وكدر { عِندَ رَبّهِمْ } في ضمانه كما تقول لفلان عندي حق لا ينسى ، أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها ، كقوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] ، { وَهُوَ وَلِيُّهُم } مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بسبب أعمالهم ، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون .
(2/171)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } منصوب بمحذوف ، أي واذكر يوم نحشرهم ، أو يوم نحشرهم قلنا { يامعشر الجن } أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجنّ كان ما لا يوصف لفظاعته ، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم . والجنّ هم الشياطين { قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس } أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير ، كما تقول : استكثر الأمير من الجنود ، واستكثر فلان من الأشياع { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس } الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها ، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم ، وقيل : استمتاع الإنس بالجنّ ما في قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن } [ الجن : 60 ] وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال : أعوذ بربّ هذا الوادي ، يعني به كبير الجنّ . واستمتاع الجنّ والإنس : اعتراف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم إجارتهم لهم { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا } يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم { خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله } أي يخلدون في عذاب النار الأبد كله ، إلاّ ما شاء الله إلاّ الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم . أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه . أهلكني الله إن نفست عنك إلاّ إذا شئت ، وقد علم أنه لا يشاء إلاّ التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد ، فيكون قوله : إلاّ إذا شئت ، من أشد الوعيد ، مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } لا يفعل شيئاً إلاّ بموجب الحكمة { عَلِيمٌ } بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد .
(2/172)

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{ نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس ، أو نجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي .
(2/173)

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } واختلف في أن الجنّ هل بعث إليهم رسل منهم ، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم ، لأنهم به آنس وله آلف . وقال آخرون : الرسل من الإنس خاصة ، وإنما قيل : رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك وإن كان من أحدهما ، كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وقيل : أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم ، كقوله تعالى : { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] وعن الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ { قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار ، فكان تقريراً لهم . وقولهم : { شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم ، وأنهم محجوجون بها . فإن قلت : ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ؟ قلت : تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول ، فيقرّون في بعضها ، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم . فإن قلت : لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت : الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية : ذمّ لهم ، وتخطئة لرأيهم ، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم ، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة ، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم .
(2/174)

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة ، وهو خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك . و { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى } تعليل ، أي الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم ، على أن "أن" هي التي تنصب الأفعال ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، على معنى : لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم . ولك أن تجعله بدلاً من ذلك ، كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] ، { بِظُلْمٍ } بسبب ظلم قدموا عليه . أو ظالماً ، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون ولم ينبهوا برسول وكتاب ، لكان ظلماً ، وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح { وَلِكُلٍّ } من المكلفين { درجات } منازل { مّمَّا عَمِلُواْ } من جزاء أعمالهم { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر .
(2/175)

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{ وَرَبُّكَ الغنى } عن عباده وعن عبادتهم { ذُو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أيها العصاة { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء } من الخلق المطيع { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ } من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم ، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام .
(2/176)

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
"المكانة" تكون مصدراً يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن . وبمعنى المكان ، يقال : مكان ومكانة ومقام ومقامة . وقوله : { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } يحتمل : اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم . أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها . يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله؛ على مكانتك يا فلان ، أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه { إِنّى عامل } أي عامل على مكانتي التي أنا عليها . والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي ، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أينا تكون له العاقبة المحمودة . وطريقة هذا الأمر طريقة قوله { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلاّ الشرّ ، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه ، فإن قلت : ما موضع { مَن } ؟ قلت : الرفع إذا كان بمعنى "أي" وعلق عنه فعل العلم . أو النصب إذا كان بمعنى "الذي" و { عاقبة الدار } العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها . وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك ، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن ، مع تضمن شدة الوعيد ، والوثوق بأنّ المنذر محقّ والمنذر مبطل .
(2/177)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله ، وأشياء منها لآلهتهم؛ فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه للآلهة ، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأنّ الله غنيّ ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها : وقوله : { مِمَّا ذَرَأَ } فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي ، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه ، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكيه { بِزَعْمِهِمْ } وقرىء : بالضم ، أي قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك ، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة { فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله } أي لا يصلّ إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين { فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ } من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم .
(2/178)

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{ وكذلك } ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله تعالى والآلهة ، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي هو علم من الشياطين . والمعنى : أن شركاءهم من الشياطين ، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد ، أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل في الجاهلية يحلف : لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم ، كما حلف عبد المطلب . وقرىء : "زين" على البناء للفاعل الذي هو شركاؤهم ، ونصب { قَتْلَ أولادهم } وزين ، على البناء للمفعول الذي هو القتل ، ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دلّ عليه زين ، كأنه قيل : لما قيل زين لهم قتل أولادهم من زينه؟ فقيل : زينه لهم شركاؤهم . وأما قراءة ابن عامر : "قتل أولادهم شركائهم" برفع القتل ونصب الأولاد وجرّ الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء ، والفصل بينهما بغير الظرف ، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر ، لكان سمجاً مردوداً ، كما سمج وردّ .
زَجَّ الْقَلْوصِ أَبِي مَزَادَهْ ... فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته . والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء . ولو قرأ بجر الأولادوالشركاء-لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب { لِيُرْدُوهْم } ليهلكوهم بالإغواء { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } وليخلطوا ، عليهم ويشبهوه . ودينهم : ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك . وقيل : دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه . وقيل معناه وليوقعوهم في دين ملتبس . فإن قلت : ما معنى اللام؟ قلت : إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل ، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة { وَلَوْ شَاء الله } مشيئة قسر { مَّا فَعَلُوهُ } لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل . أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك ، إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة { وَمَا يَفْتَرُونَ } وما يفترونه من الإفك . أو وافتراؤهم .
(2/179)

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{ حِجْرٌ } فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن ، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأنّ حكمه حكم الأسماء غير الصفات : وقرأ الحسن وقتادة { حِجرٌ } بضم الحاء . وقرأ ابن عباس : "حرج" ، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا : { لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء } يعنون خدم الأوثان ، والرجال دون النساء { وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا } وهي البحائر والسوائب والحوامي { وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا } في الذبح ، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام . وقيل : لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها . والمعنى : أنهم قسموا أنعامهم فقالوا : هذا أنعام حجر ، وأنعام محرّمة الظهور ، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله . فجعلوها أجناساً بهواهم ، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله { افتراء عَلَيْهِ } أي فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - وانتصابه على أنه مفعول له : أو حال ، أو مصدر مؤكد ، لأنّ قولهم ذلك في معنى الافتراء .
(2/180)

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا تأكل منه الإناث ، وما ولد منها ميتاً اشترك فيه الذكور الإناث . وأنث { خَالِصَةٌ } للحمل على المعنى ، لأنّ مافي معنى الأجنة وذكر { وَأَنْعَمٌ حُرِّمَتْ } للحمل على اللفظ . ونظيره { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } [ محمد : 16 ] ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر . وأن تكون مصدراً وقع موقع الخالص ، كالعاقبة أي ذو خالصة . ويدلّ عليه قراءة من قرأ : "خالصة" بالنصب على أنّ قوله { لِّذُكُورِنَا } هو الخبر ، وخالصة مصدر مؤكد ، ولا يجوز أن يكون حالاً متقدمة ، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله . وقرأ ابن عباس : "خالصة" على الإضافة . وفي مصحف عبد الله : "خالص" . { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } وإن يكن ما في بطونها ميتة . وقرىء : "وإن تكن" ، بالتأنيث ، على : وإن تكن الأجنة ميتة . وقرأ أهل مكة : "وإن تكن ميتة" بالتأنيث والرفع على كان التامة وتذكير الضمير في قوله : { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء } لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى ، فكأنه قيل : وإن يكن ميت فهم فيه شركاء { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله تعالى : { ولا تقولوا لما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .
(2/181)

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } لخفة أحلامهم ، وجهلهم بأنّ الله هو رازق أولادهم ، لا هم . وقرىء : "قتلوا" بالتشديد { مَا رَزَقَهُمُ الله } من البحائر والسوائب وغيرها .
(2/182)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{ أَنشَأَ جنات } من الكروم { معروشات } مسموكات { وَغَيْرَ معروشات } متروكات على وجه الأرض لم تعرّش . وقيل : "المعروشات" ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه { وَغَيْرَ معروشات } مما أنبته [ الله ] وحشياً في البراري والجبال ، فهو غير معروش . يقال : عرّشت الكرم ، إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان . وسقف البيت : عرّشه { مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } في اللون والطعم والحجم والرائحة . وقرىء : "أكله" بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل . والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه ، لكونه معطوفاً عليه . ومختلفاً : حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] . وقرىء : "ثمرة" بضمتين . فإن قلت : ما فائدة قوله : { إِذَا أَثْمَرَ } وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت : لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل : إذا أثمر ، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلاّ إذا أدرك وأينع { وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } الآية مكية ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة ، فأريد بالحق ما كان يتصدّق به على المساكين يوم الحصاد ، وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العشر ، ونصف العشر . وقيل مدنية ، والحق هو الزكاة المفروضة . ومعناه : واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد ، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء { وَلاَ تُسْرِفُواْ } في الصدقة كما روي عن ثابت بن قيس بن شماس : أنه صرم خمسمائة نخلة ففرّق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] .
(2/183)

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{ حَمُولَةً وَفَرْشًا } عطف على جنات . أي : وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح ، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش . وقيل : "الحمولة" الكبار التي تصلح للحمل "والفرش" الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم ، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها ، مثل الفرش المفروش عليها { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } في التحليل والتحريم من عند أنفسكم فعل كما أهل الجاهلية { ثمانية أزواج } بدل من حمولة وفرشاً { اثنين } زوجين اثنين ، يريد الذكر والأنثى ، كالجمل والناقة ، والثور والبقرة ، والكبش والنعجة ، والتيس والعنز - والواحد إذا كان وحده فهو فرد ، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منها زوجاً ، وهما زوجان ، بدليل قوله : { خَلَقَ الزوجين الذكر والانثى } [ النجم : 45 ] والدليل عليه قوله تعالى : { ثمانية أزواج } ثم فسرها بقوله : { مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } ، { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } ونحو تسميتهم الفرد بالزوج ، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه : تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر . والضأن والمعز جمع ضائن وماعز ، كتاجر وتجر . وقرئا بفتح العين . وقرأ أبيّ : "ومن المعزى" وقرىء : "اثنان" على الابتداء .
الهمزة في { آلذكرين } للإنكار والمراد بالذكرين : الذكر من الضأن والذكر من المعز . وبالإثنيين : الأنثى من الضأن والأنثى من المعز ، على طريق الجنسية . والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسين الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ، ولا مما تحمل إناث ، الجنسين وكذلك الذكران من جنسي الإبل والبقر والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام تارة ، وإناثها تارة ، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً ، أو مختلطة تارة ، وكانوا يقولون قد حرّمها الله ، فأنكر ذلك عليهم { نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدلّ على تحريم ما حرّمتم { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنّ الله حرّمه { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } بل أكنتم شهداء . ومعنى الهمزة الإنكار ، يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم ، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون : الله حرّم هذا الذي نحرّمه ، فتهكم بهم في قوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } على معنى : أعرفتم التوصية به مشاهدين ، لأنكم لا تؤمنون بالرسل { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم { لِيُضِلَّ الناس } وهو عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب .
(2/184)

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
فإن قلت : كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت : قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود . وذلك أنّ الله عزّ وجلّ منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم ، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها ، والاحتجاج على من حرّمها تأكيد وتسديد للتحليل ، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلاّ للتوكيد { فِي مَا أُوحِىَ إِلَىَّ } تنبيه على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه ، لا بهوى الأنفس { مُحَرَّمًا } طعاماً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها { إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } إلاّ أن يكون الشيء المحرّم ميتة { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } أي : مصبوباً سائلاً كالدم في العروق ، لا كالكبد والطحال . وقد رخّص في دم العروق بعد الذبح { أَوْ فِسْقًا } عطف على المنصوب قبله . سمى ما أهلّ به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق . ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] وأهل : صفة له منصوبة المحل . ويجوز أن يكون مفعولاً له من أهلّ ، أي أهلّ لغير الله به فسقاً . فإن قلت : فعلام تعطف { أُهِلَّ } ؟ وإلام يرجع الضمير في { بِهِ } على هذا القول؟ قلت : يعطف على يكون ، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في يكون { فَمَنِ اضطر } فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطر مثله تارك لمواساته { وَلاَ عَادٍ } متجاوز قدر حاجته من تناوله { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذه .
(2/185)

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
ذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر ، وكان بعض ذات الظفر حلالاً لهم ، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم فعمّ التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] وقوله : { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } كقولك : من زيد أخذت ماله ، تريد الإضافة زيادة الربط . والمعنى أنه حرّم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه ، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلاّ الشحوم الخالصة ، وهي الثروب وشحوم الكلى . وقوله : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعني إلاّ ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحقة { أَوِ الحوايا } أو اشتمل على الأمعاء { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } وهو شحم الإلية . وقيل : { الحوايا } عطف على شحومهما . و "أو" بمنزلتها في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين { ذلك } الجزاء { جزيناهم } وهو تحريم الطيبات { بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمهم { وِإِنَّا لصادقون } فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه ، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة . فلما عصوا وبغوا ألحقناهم بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب . { فَإِن كَذَّبُوكَ } في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة ، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً { فَقُلْ } لهم { رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة } لأهل طاعته { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } مع سعة رحمته { عَنِ القوم المجرمين } فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته .
(2/186)

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } إخبار بما سوف يقولونه ولما قالوه قال : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ النحل : 35 ] يعنون بكفرهم وتمردهم أن شركهم وشرك آبائهم ، وتحريمهم ما أحلّ الله ، بمشيئة الله وإرادته . ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ، كمذهب المجبرة بعينه { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي جاءوا بالتكذيب المطلق؛ لأن الله عزّ وجلّ ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دلّ على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك . فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله ، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم { قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ } من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } وهذا من التهكم ، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } في قولكم هذا { وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون . وقرىء : "كذلك كذب الذين من قبلهم" بالتخفيف { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } يعني فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فللَّهِ الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } منكم ومن مخالفيكم في الدين ، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته ، فتوالوهم ولا تعادوهم ، وتوافقوهم ولا تخالفوهم ، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه .
(2/187)

قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{ هَلُمَّ } يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين . وبنو تميم تؤنث وتجمع . والمعنى : هاتوا شهداءكم وقرّبوهم . فإن قلت : كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أنّ الله حرم ما زعموه محرّماً ، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت : أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ، ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر ، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء ، لتساوي أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصحّ التمسك به . وقوله : { فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } يعني فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم : لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم وكان واحداً منهم { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بأياتنا } من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير ، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى . فإن قلت : هلاّ قيل : قل هلم شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا؟ وأي فرق بينه وبين المنزل؟ قلت : المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم ، وكان المشهود لهم يقلدونهم ويثقون بهم ويعتضدون بشهادتهم ، ليهدم ما يقومون به فيحق الحق ويبطل الباطل ، فأضيفت الشهداء لذلك ، وجيء بالذين للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم ، والدليل عليه قوله تعالى : { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } ولو قيل : هلم شهداء يشهدون لكان معناه هاتوا أناساً يشهدون بتحريم ذلك فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ليس بالغرض . ويناقضه قوله تعالى : { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } .
(2/188)

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
"تعال" ، من الخاص الذي صار عاماً ، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ . و { مَا حَرَّمَ } منصوب بفعل التلاوة ، أي أتل الذي حرمه ربكم . أو يحرم بمعنى : أقل أيّ شيء حرّم ربكم ، لأنّ التلاوة من القول ، و "أن" في { أَلاَّ تُشْرِكُواْ } مفسرة و "لا" النهي . فإن قلت : هلاّ قلت هي التي تنصب الفعل ، وجعلت أن لا تشركوا بدلاً من { مَا حَرَّمَ } ؟ قلت : وجب أن يكون { لا تُشْرِكُواْ } و { لاَ تَقْرَبُواْ } و { لاَ تَقْتُلُواْ } و { اَ تَتَّبِعُواْ السبل } [ الأنعام : 153 ] نواهي لانعطاف الأوامر عليها ، وهي قوله : { وبالوالدين إحسانا } لأنّ التقدير : وأحسنوا بالوالدين إحساناً . و { أَوْفُواْ } ، { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } [ الأنعام : 152 ] ، { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } [ الأنعام : 152 ] . فإن قلت : فما تصنع بقوله : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه } فيمن قرأ بالفتح ، وإنما يستقيم عطفه على أن لا تشركوا إذا جعلت أن هي الناصبة للفعل ، حتى يكون المعنى : أتل عليكم نفي الإشراك والتوحيد ، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت : أجعل قوله : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا } [ الأنعام : 153 ] علة للاتباع بتقدير اللام ، كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] بمعنى : ولأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه . والدليل عليه القراءة بالكسر ، كأنه قيل : واتبعوا صراطي لأنّه مستقيم ، أو واتبعوا صراطي إنه مستقيم . فإن قلت : إذا جعلت { أن } مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرّم ربكم ، وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرماً كله ، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما تصنع بالأوامر قلت لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه ، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها ، وهي الإساءة إلى الوالدين ، وبخس الكيل والميزان . وترك العدل في القول ، ونكث عهد الله { مّنْ إملاق } من أجل فقر ومن خشيته ، كقوله تعالى : { خَشْيَةَ إملاق } [ الإسراء : 31 ] . { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } مثل قوله : { ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 120 ] . { إِلاَّ بالحق } كالقصاص ، والقتل على الردة ، والرجم .
(2/189)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{ إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } إلاّ بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم ، وهي حفظه وتثميره والمعنى : احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه فادفعوه إليه { بالقسط } بالسوية والعدل؛ { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلاّ ما يسعها ولا تعجز عنه . وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك؛ لأن مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفوٌّ عنه { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القاتل ، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص ، كقوله : { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] .
(2/190)

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
وقرىء : "وأَنْ هذا صراطي مستقيماً" بتخفيف "أن" وأصله : وأنه هذا صراطي ، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث . وقرأ الأعمش : "وهذا صراطي" . وفي مصحف عبد الله : "هذا صراط ربكم" . وفي مصحف أبيّ : "وهذا صراط ربك" { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } الطرق المختلفة في الدين ، من اليهودية والنصرانية ، والمجوسية ، وسائر البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ } فتفرقكم أيادي سبا { عَن سَبِيلِهِ } عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام . وقرىء : "فَتَّفَرَّقَ" بإدغام التاء . وروى أبو وائل عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 383 ) " أنه خط خطاً ثم قال : هذا سبيل الرشد ، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم تلا هذه الآية " { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه } وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب . وقيل : إنهنّ أمّ الكتاب ، من عمل بهنّ دخل الجنة ، ومن تركهنّ دخل النار ، وعن كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة . فإن قلت : علام عطف قوله : { ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب } قلت : على { وصاكم بِهِ } . فإن قلت : كيف صحّ عطفه عليه بثم - والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل-؟ قلت : هذه التوصية قديمة ، لم تزل توصاها كل أمّة على لسان نبيهم ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتاب ، فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً .
(2/191)

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
{ ثُمَّ } أعظم من ذلك أنا { ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب } وأنزلنا هذا الكتاب المبارك . وقيل : هو معطوف على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } [ الأنعام : 84 ] { تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ } تماماً للكرامة والنعمة ، على الذي أحسن ، على من كان محسناً صالحاً ، يريد جنس المحسنين . وتدلّ عليه قراءة عبد الله : "على الذين أحسنوا" أو أراد به موسى عليه السلام ، أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع ، من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته ، أي زيادة على علمه على وجه التتميم . وقرأ يحيى بن يعمر : "على الذي أحسن" ، بالرفع ، أي على الذي هو أحسن ، بحذف المبتدإ كقراءة من قرأ : { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [ البقرة : 26 ] بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه . أو آتينا موسى الكتاب تماماً ، أي تامَّاً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب ، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي : أتمَّ له الكتاب على أحسنه .
(2/192)

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{ أَن تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا { على طَائِفَتَيْنِ } يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل { وَإِن كُنَّا } هي إن المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية . والأصل : وإنه كنا عن دراستهم غافلين ، على أن الهاء ضمير الشأن { عَن دِرَاسَتِهِمْ } عن قراءتهم ، أي لم نعرف مثل دراستهم { لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } لحدّة أذهاننا ، وثقابة أفهامنا ، وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأسجاعها وأمثالها ، على أنا أمّيون . وقرىء : "أن يقولوا" أو يقولوا ، بالياء { فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } تبكيت لهم ، وهو على قراءة من قرأ : "يقولوا" على لفظ الغيبة أحسن ، لما فيه من الالتفات . والمعنى : إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينة من ربكم ، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بأيات الله } بعد ما عرف صحتها وصدقها ، أو تمكن من معرفة ذلك { وَصَدَفَ عَنْهَا } الناس فضلّ وأضلّ { سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنا سُوء العذاب } كقوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] .
(2/193)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{ الملائكة } ملائكة الموت ، أو العذاب { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } أو يأتي كل آيات ربك . بدليل قوله : { أَوْ يأْتِىَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ } يريد آيات القيامة والهلاك الكلي ، وبعض الآيات . أشراط الساعة ، كطلوع الشمس من مغربها ، وغير ذلك . وعن البراء بن عازب :
( 384 ) كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما تتذاكرون؟ فقلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفاً بالمغرب ، وخسفاً بالمشرق ، وخسفاً بجزيرة العرب ، والدجال ، وطُلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، وناراً تخرج من عدن " { َلَمْ تَكُنْ آمنت مِن قَبْلُ } صفة لقوله نفساً . وقوله : { أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا } عطف على آمنت . والمعنى أنّ أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرة ، ذهب أوان التكليف عندها ، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات ، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً ، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان ، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً ، ليعلم أنَّ قوله : { الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ البقرة : 25 ] جمع بين قرينتين ، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى ، حتى يفوز صاحبهما ويسعد ، وإلاّ فالشقوة والهلاك { قُلِ انتظروا إنا مُنتَظِرُونَ } وعيد . وقرىء : "أن يأتيهم الملائكة" بالياء والتاء . وقرأ ابن سيرين : ( لا تنفع ) بالتاء؛ لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك : ذهبت بعض أصابعه .
(2/194)

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى . وفي الحديث :
( 385 ) " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، كلها في الهاوية إلاّ واحدة وهي الناجية ، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في الهاوية إلاّ واحدة ، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في الهاوية إلاّ واحدة " وقيل : فرّقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض . وقرىء : "فارقوا دينهم" أي تركوه { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء } أي من السؤال عنهم وعن تفرّقهم . وقيل : من عقابهم . وقيل : هي منسوخة بآية السيف .
(2/195)

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف ، تقديره عشر حسنات أمثالها ، وقرىء : "عشرُ أمثالُهَا" برفعهما جميعاً على الوصف . وهذا أقلّ ما وعد من الإضعاف . وقد وعد بالواحد سبعمائة ، ووعد ثواباً بغير حساب . ومضاعفة الحسنات فضل ، ومكافأة السيئات عدل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم .
(2/196)

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
{ دِينًا } نصب على البدل من محل { إلى صراط } لأنّ معناه : هداني صراطاً ، بدليل قوله : { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] والقيم : فيعل ، من قام ، كسيد من ساد ، وهو أبلغ من القائم . وقرىء : "قيماً" والقيم : مصدر بمعنى القيام وصف به . و { مِلَّةِ إبراهيم } عطف بيان . و { حَنِيفاً } حال من إبراهيم .
(2/197)

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى } وعبادتي وتقرّبي كله . وقيل : وذبحي . وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر } [ الكوثر : 2 ] وقيل : صلاتي وحجّي من مناسك الحج { وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } وما آتيه في حياتي ، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح { للَّهِ رَبّ العالمين } خالصة لوجهه { وبذلك } من الإخلاص { أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } لأنّ إسلام كل نبيّ متقدّم لإسلام أمّته .
(2/198)

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم ، والهمزة للإنكار ، أي منكر أن أبغي رباً غيره { وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء } فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره ، كما قال : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] ، { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } جواب عن قولهم : { اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] .
(2/199)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{ جَعَلَكُمْ خلائف الارض } لأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم . أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً . أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } في الشرف والرزق { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتاكم } من نعمة المال والجاه ، كيف تشكرون تلك النعمة ، وكيف يصنع الشريف بالوضيع ، والحرّ بالعبد ، والغني بالفقير { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } لمن كفر نعمته { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن قام يشكرها . ووصف العقاب بالسرعة ، لأنّ ما هو آت قريب .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 386 ) " أنزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلّى الله عليه وسلم واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة "
(2/200)

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{ كِتَابٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كتاب . و { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفة له . والمراد بالكتاب السورة { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } أي شك منه ، كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } [ يونس : 94 ] وسمى الشك حرجاً ، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه . أي لا تشكّ في أنه منزل من الله ، ولا تحرج من تبليغه لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم ، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فأمّنه الله ونهاه عن المبالاة بهم . فإن قلت : بم تعلق قوله : { لّتُنذِرَ } ؟ قلت : بأنزل ، أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي ، لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار؛ لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه ، متكل على عصمته ، فإن قلت؛ فما محل ذكرى؟ قلت : يحتمل الحركات الثلات . النصب بإضمار فعلها . كأنه قيل : لتنذر به وتذكر تذكيراً لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفاً على كتاب ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف . والجر للعطف على محل أن تنذر ، أي للإنذار وللذكرى . فإن قلت : النهي في قوله : { فَلاَ يَكُن } متوجه إلى الحرج فما وجهه؟ قلت : هو من قولهم : لا أرينك ههنا .
(2/201)

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم } من القرآن والسنّة { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ } من دون الله { أَوْلِيَاء } أي ولا تتلوا من دونه من شياطين الجنّ والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم ، وأمركم باتباعه . وعن الحسن : يا ابن آدم ، أمرت باتباع كتاب الله وسنّة محمد صلى الله عليه وسلم . والله ما نزلت آية إلاّ وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها . وقرأ مالك بن دينار : "ولا تبتغوا" من الابتغاء { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا } [ آل عمران : 85 ] . ويجوز أن يكون الضمير في { مِن دُونِهِ } لما أنزل ، على : ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره . وقرىء : "تذكرون" ، بحذف التاء . "ويتذكرون" بالياء . و { قَلِيلاً } : نصب يتذكرون ، أي تذكرون تذكراً قليلاً . و { مَآ } مزيدة لتوكيد القلة .
(2/202)

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{ فَجَاءهَا } فجاء أهلها { بَيَاتًا } مصدر واقع موقع الحال ، بمعنى بائتين . يقال : بات بياتاً حسناً ، وبيتة حسنة ، وقوله : { هُمْ قَائِلُونَ } حال معطوفة على "بياتاً" ، كأنه قيل : فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين . فإن قلت : هل يقدر حذف المضاف الذي هو الأهل قبل { قَرْيَةٌ } أو قبل الضمير في { أهلكناها } ؟ قلت : إنما يقدّر المضاف للحاجة ولا حاجة ، فإنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها . وإنما قدّرناه قبل الضمير في { فَجَاءهَا } لقوله { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } فإن قلت : لا يقال : جاءني زيد هو فارس ، بغير واو ، فما بال قوله : { هُمْ قَائِلُونَ } ؟ قلت : قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ، ورده الزجاج وقال : لو قلت جاءني زيد راجلاً ، أو هو فارس . أو جاءني زيد هو فارس ، لم يحتج فيه إلى واو ، لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول . والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً . لاجتماع حرفي عطف ، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل ، فقولك : جاءني زيد راجلاً أو هو فارس ، كلام فصيح وارد على حده وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث . فإن قلت : فما معنى قوله : { أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا } والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس؟ قلت : معناه أردنا إهلاكها ، كقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] وإنما خصّ هذان الوقتان وقت البيات ووقت القيلولة ، لأنهما وقت الغفلة والدعة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشدّ وأفظع ، وقوم لوط أهلكوا بالليل وقت السحر ، وقوم شعيب وقت القيلولة .
(2/203)

فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلاّ اعترافهم ببطلانه وفساده . وقولهم : { إِنَّا كُنَّا ظالمين } فيما كنا عليه . ويجوز : فما كان استغاثتهم إلاّ قولهم هذا ، لأنه لا مستغاث من الله بغيره ، ومن قولهم دعواهم : يا لكعب . ويجوز ، فما كان دعواهم ربهم إلاّ اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم ، وأن لات حين دعاء ، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم ، و { دَعْوَاهُمْ } نصب خبر لكان ، و { أَن قَالُواْ } رفع اسم له ، ويجوز العكس .
(2/204)

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{ فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } { أُرْسِلَ } مسند إلى الجار والمجرور وهو { إِلَيْهِمْ } ومعناه : فلنسألنّ المرسل إليهم وهم الأمم ، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم ، كما قال : { وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين } [ القصص : 65 ] ويسأل المرسلين عما أجيبوا به ، كما قال : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] ، { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم } على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بِعِلْمٍ } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عنهم وعما وجد منهم ، فإن قلت : فإذا كان عالماً بذلك وكان يقصه عليهم ، فما معنى سؤالهم؟ قلت : معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم .
(2/205)

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{ والوزن يَوْمَئِذٍ الحق } يعني وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها . ورفعه على الابتداء . وخبره { يَوْمَئِذٍ } . و { الحق } صفته أي : والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحق ، أي العدل . وقرىء : "القسط" . واختلف في كيفية الوزن فقيل : توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ، تنظر إليه الخلائق ، تأكيداً للحجة ، وإظهاراً للنصفة ، وقطعاً للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم ، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم ، وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والإشهاد ، وكما تثبت في صحائفهم فيقرؤنها في موقف الحساب . وقيل : هي عبارة عن القضاء السويّ والحكم العادل { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } جمع ميزان أو موزون ، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات . أو ما توزن به حسناتهم . وعن الحسن : وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل . وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف . { بأياتنا يَظْلِمُونَ } يكذبون بها ظلماً : كقوله : { فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإسراء : 59 ] .
(2/206)

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{ مكناكم فِى الأرض } جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً . أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها . أوما يتوصل به إلى ذلك . والوجه تصريح الياء . وعن ابن عامر : أنه همز ، على التشبيه بصحائف .
(2/207)

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{ وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } يعني خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ، ثم صورناه بعد ذلك . ألا ترى إلى قوله : { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ } الآية { مّنَ الساجدين } ممن سجد لآدم .
(2/208)

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{ أَلاَّ تَسْجُدَ } "لا" في { أَن لا تَسْجُدَ } صلة بدليل قوله : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ ص : 75 ] ومثلها { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] بمعنى ليعلم : فإن قلت : ما فائدة زيادتها؟ قلت : توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل : ليتحقق علم أهل الكتاب . وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك؟ { إِذْ أَمَرْتُكَ } لأن أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً وأحتمه عليك حتماً لا بدّ منه ، فإن قلت : لم سأله عن المانع من السجود ، وقد علم ما منعه؟ قلت : للتوبيخ ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم ، وأنه خالف أمر ربه معتقداً أنه غير واجب عليه ، لما رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب . فإن قلت : كيف يكون قوله : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } جواباً لما منعك ، وإنما الجواب أن يقول : منعني كذا؟ قلت : قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم ، وبعلة فضله عليه ، وهو أنّ أصله من نار وأصل آدم من طين ، فعلم منه الجواب وزيادة عليه ، وهي إنكار للأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله ، كأنه يقول : من كان على هذه الصفة كان مستبعداً أن يؤمر بما أُمر به .
(2/209)

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
{ فاهبط مِنْهَا } من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة ، إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين { فَمَا يَكُونُ لَكَ } فما يصحّ لك { أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } وتعصي { فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين } من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أولياؤه لتكبرك ، كما تقول للرجل : قم صاغراً ، إذا أهنته . وفي ضدّه : قم راشداً . وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار . وعن عمر رضي الله عنه : من تواضع لله رفع الله حَكَمَتَهُ وقال : انتعش أنعشك الله . ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض .
(2/210)

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
فإن قلت : لم أجيب إلى استنظاره ، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم قلت : لما في ذلك من ابتلاء العباد ، وفي مخالفته من أعظم الثواب ، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي ، وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده .
(2/211)

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } فبسبب إغوائك إياي لأقعدنّ لهم . وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي ولم يثبت كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفساً ومناصب ، وعن الأصم : أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك . والمعنى : فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي ، كما فسدت بسببهم . فإن قلت : بم تعلقت الباء ، فإن تعلقها بلأقعدنّ يصدّ عنه لام القسم ، لا تقول : والله بزيد لأمرّنّ؟ قلت : تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ ، أي فبسبب إغوائك أقسم . ويجوز أن تكون الباء للقسم ، أي : فأقسم بإغوائك لأقعدن ، وإنما أقسم بالإغواء؛ لأنه كان تكليفاً ، والتكليف من أحسن أفعال الله ، لكونه تعريضاً لسعادة الأبد ، فكان جديراً بأن يقسم به . ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه عن طاوس : أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمي بالقدر ، فجلس إليه فقال له طاوس : تقوم أو تقام ، فقام الرجل ، فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال : إبليس أفقه منه ، قال رب بما أغويتني ، وهذا يقول : أنا أغوي نفسي ، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه ، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين . وقيل : { مَا } للاستفهام ، كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ، ثم ابتدىء لأقعدنّ . وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على "ما" الاستفهامية ، قليل شاذ . وأصل الغيّ الفساد . ومنه : غوى الفصيل ، إذا بشم . والبشم : فساد في المعدة { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدوّ على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف ، كقوله :
كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ ... وشبهه الزجاج بقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي على الظهر والبطن . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 387 ) " إن الشيطان قعد لابن آدم بأَطرُقِهِ : قعد له بطريق الإسلام فقال له : تدع دين آبائك ، فعصاه فأسلم . ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغرب ، فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك ، فعصاه فقاتل " { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم } من الجهات الأربع التي يأتي منها العدوّ في الغالب . وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه ، كقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } [ الإسراء : 64 ] . فإن قلت : كيف قيل : { مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } بحرف الابتداء { وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ } بحرف المجاوزة؟ قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به . فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس . وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط ، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله ، قلنا : معنى "على يمينه" أنه تمكن من جهة اليمين تمكُّن المستعلي من المستعلى عليه .
(2/212)

ومعنى "عن يمينه" أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له . ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ، كما ذكرنا في "تعال" . ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس ، وعلى القوس ، ومن القوس؛ لأن السهم يبعد عنها ، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ، ويبتدىء الرمي منها . كذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه؛ لأنهما ظرفان للفعل . ومن بين يديه ومن خلفه : لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، كما تقول : جئته من الليل ، تريد بعض الليل ، وعن شقيق : ما من صباح إلاّ قعد لي الشيطان على أربع مراصد : من بين يديّ ، ومن خلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي : أمّا من بين يدي فيقول : لا تخف ، فإن الله غفور رحيم ، فأقرأ : { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صالحا } [ طه : 82 ] وأمّا من خلفي ، فيخوّفني الضيعة على مخلفي فأقرأ : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] وأمّا من قبل يميني ، فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] . { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } قاله تظنيناً ، بدليل قوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] وقيل : سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم .
(2/213)

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{ مَذْءُومًا } من ذأمه إذا ذمّه . وقرأ الزهري : "مذوما" ، بالتخفيف ، مثل مسول في مسؤل . واللام في { لَّمَن تَبِعَكَ } موطئه للقسم . و { لأَمْلاَنَّ } جوابه ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط { مّنكُمْ } منك ومنهم ، فغلب ضمير المخاطب ، كما في قوله : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ الأعراف : 138 ] . وروى عصمة عن عاصم : "لمن تبعك" بكسر اللام ، بمعنى : لمن تبعك منهم هذا الوعيد ، وهو قوله : { لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } ، على أن { لأَمْلاَنَّ } في محل الابتداء ، و { لَّمَن تَبِعَكَ } خبره .
(2/214)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{ وَعَلَّمَ ءادَمَ } وقلنا : يا آدم . وقرىء : "هذي الشجرة" والأصل الياء ، والهاء بدل منها ، ويقال : وسوس ، إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره . ومنه وسوس الحليّ ، وهو فعل غير متعدّ ، كولولت المرأة ووعوع الذئب ، ورجل موسوس- بكسر الواو- ولا يقال موسوس بالفتح ، ولكن موسوس له ، وموسوس إليه ، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة . ومعنى وسوس له : فعل الوسوسة لأجله ، ووسوس إليه : ألقاها إليه { لِيُبْدِيَ } جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره ، وأن لا يطلع عليه مكشوفاً . وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول . فإن قلت : ما للواو المضمومة في { وُورِيَ } لم تقلب همزة كما قلبت في أو يصل؟ قلت : لأن الثانية مدّة كألف وارى . وقد جاء في قراءة عبد الله : "أورى" بالقلب { إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } إلاّ كراهة أن تكونا ملكين . وفيه دليل على أن الملكية بالمنظر الأعلى ، وأن البشرية تلمح مرتبتها كلا ولا . وقرىء : "ملكين" بكسر اللام ، كقوله { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] . { مِنَ الخالدين } من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين . وقرىء : "من سوأتهما" ، بالتوحيد ، "وسوَّاتهما" ، بالواو المشددة { وَقَاسَمَهُمَا } وأقسم لهما { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } . فإن قلت : المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك تقول : قاسمت فلاناً حالفته ، وتقاسما تحالفا . ومنه قوله تعالى : { تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيّتَنَّهُ } [ النمل : 49 ] . قلت : كأنه قال لهما : أقسم لكما إني لمن الناصحين ، وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين ، فجعل ذلك مقاسمة بينهم . أو أقسم لهما بالنصحية وأقسما له بقبولها . أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة ، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم { فدلاهما } فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة { بِغُرُورٍ } بما غرّهما به من القسم بالله . وعن قتادة : وإنما يخدع المؤمن بالله . وعن ابن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه ، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك ، فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } وجدا طعمها آخذين في الأكل منها . وقيل : الشجرة هي السنبلة . وقيل : شجرة الكرم { بَدَتْ لَهُمَا سوءاتهما } أي تهافت عنهما اللباس فظهرت لهما عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحدهما من الآخر . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 388 ) ما رأيت منه ولا رأى مني . وعن سعيد بن جبير : كان لباسهما من جنس الأظفار . وعن وهب : كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر . ويقال : طفق يفعل كذا ، بمعنى جعل يفعل كذا . وقرأ أبو السَّمَّال : "وطفقا" بالفتح { يَخْصِفَانِ } ورقة فوق ورقة على عوراتهما ليستترا بها ، كما يخصف النعل ، بأن تجعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور .
(2/215)

وقرأ الحسن : "يخصفان" بكسر الخاء وتشديد الصاد ، وأصله يختصفان . وقرأ الزهري : "يُخصفان" ، من أخصف ، وهو منقول من خصف أي يخصفان أنفسهما وقرىء : "يخصفان" من خصف بالتشديد { مِن وَرَقِ الجنة } قيل : كان ورق التين { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } عتاب من الله تعالى وتوبيخ وتنبيه على الخطأ ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس وروي : أنه قال لآدم : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى وعزتك ، ولكن ما ظننت أنّ أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً . قال : فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلاّ كدّاً . فأهبط وعلم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز .
(2/216)

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وسميا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلماً لأنفسهما ، وقالا : { لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات ، واستصغارهم العظيم من الحسنات .
(2/217)

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{ اهبطوا } الخطاب لآدم وحواء وإبليس . و { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } في موضع الحال ، أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه { مُّسْتَقِرٌّ } استقرار ، أو موضع استقرار { ومتاع إلى حِينٍ } وانتفاع بعيش إلى انقضاء آجالكم . وعن ثابت البناني : لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة ، فجعلت حواء تدور حولهم ، فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك ، فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً ، وحنطته وكفنته في وتر من الثياب ، وحفروا له ولحدوا ، ودفنوه بسرنديب بأرض الهند ، وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده .
(2/218)

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
جعل ما في الأرض منزلاً من السماء ، لأنه قضى ثم وكتب . ومنه { وأَنَزلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] والريش لباس الزينة ، استعير من ريش الطير ، لأنه لباسه وزينته ، أي أنزلنا عليكم لباسين : لباساً يواري سوآتكم ، ولباساً يزينكم؛ لأن الزينة غرض صحيح ، كما قال : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } . { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } [ النحل : 6 ] وقرأ عثمان رضي الله عنه : "ورياشاً" جمع ريش ، كشعب وشعاب { وَلِبَاسُ التقوى } ولباس الورع والخشية من الله تعالى ، وارتفاعه عن الابتداء وخبره إمّا الجملة التي هي { ذلك خَيْرٌ } كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير ، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر . وأمّا المفرد الذي هو خير وذلك صفة للمبتدأ ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير . ولا تخلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى ، أو أن تكون إشارة إلى اللباس المواري للسوأة ، لأنّ مواراة السوأة من التقوى ، تفضيلاً له على لباس الزينة . وقيل : لباس التقوى خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو لباس التقوى ، ثم قيل : ذلك خير . وفي قراءة عبد الله وأبيّ : "ولباس التقوى خير" وقيل : المراد بلباس التقوى : ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقى به في الحروب وقرىء : "ولباس التقوى" ، بالنصب عطفاً على لباساً وريشاً { ذلك مِنْ ءايات الله } الدالة على فضله ورحمته على عباده . يعني إنزال اللباس { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيعرفوا عظيم النعمة فيه وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها ، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعاراً بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى .
(2/219)

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان } لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة ، كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } حال ، أي أخرجهما نازعاً لباسهما ، بأن كان سبباً في أن نزع عنهما { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ } تعليل للنهي وتحذير من فتنته ، بأنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون . وعن مالك بن دينار : إنّ عدواً يراك ولا تراه ، لشديد المؤنة إلاَّ من عصم الله { وَقَبِيلُهُ } وجنوده من الشياطين ، وفيه دليل بَيِّنٌ أن الجنّ لا يرون ولا يظهرون للإنس ، وأن أظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدّعي رؤيتهم زور ومخرقة { إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي خلينا بينهم وبينهم لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي ، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول . فإن قلت : علام عطف وقبيله؟ قلت : على الضمير في يراكم المؤكد بهو ، والضمير في إنه للشأن والحديث ، وقرأ اليزيدي : "وقبيله" بالنصب وفيه وجهان : أن يعطفه على اسم إنّ ، وأن تكون الواو بمعنى مع ، وإذا عطفه على اسم إن وهو الضمير في إنه ، كان راجعاً إلى إبليس .
(2/220)

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
الفاحشة : ما تبالغ في قبحه من الذنوب ، أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم ، وبأن الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها . وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق للعلم . والثاني : افتراء على الله وإلحاد في صفاته ، كانوا يقولون : لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه . وعن الحسن : إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله . وتصديقه قول الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } لأن فعل القبح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف ، فكيف يأمر بفعله { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط . وقيل : المراد بالفاحشة : طوافهم بالبيت عراة .
(2/221)

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{ بالقسط } بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز . وقيل : بالتوحيد { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } وقل : أقيموا وجوهكم أي : اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } في كل وقت سجود ، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة { وادعوه } واعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي الطاعة ، مبتغين بها وجه الله خالصاً { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما أنشأكم ابتداء يعيدكم ، احتج عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق ، والمعنى : أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة .
(2/222)

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{ فَرِيقًا هدى } وهم الذين أسلموا ، أي وفقهم للإيمان { وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } أي كلمة الضلالة ، وعلم الله أنهم يضلون ولا يهتدون . وانتصاب قوله : { وَفَرِيقًا } بفعل مضمر يفسره ما بعده ، كأنه قيل : وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة { إِنَّهُمُ } إن الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة : { اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء } أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به ، وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم ، وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله .
(2/223)

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أي ريشكم ولباس زينتكم { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } كلما صليتم أو طفتم وكانوا يطوفون عراة . وعن طاوس ، لم يأمرهم بالحرير والديباج ، وإنما كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد ، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه ، لأنهم قالوا : لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، وقيل : تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب . وقيل : الزينة المشط . وقيل : الطيب . والسنّة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة ، وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلاّ قوتاً ، ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : فإنا أحق أن نفعل ، فقيل لهم : كلوا واشربوا ولا تسرفوا . وعن ابن عباس رضي الله عنه :
( 389 ) " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة . " ويحكى : أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء . والعلم علمان ، علم الأبدان وعلم الأديان ، فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه . قال : وما هي؟ قال : قوله تعالى : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب؟ فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة ، قال : وما هي؟ قال قوله :
( 390 ) "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عوّدته" فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً .
{ زِينَةَ الله } من الثياب وكل ما يتجمل به { والطيبات مِنَ الرزق } المستلذات من المآكل والمشارب . ومعنى الاستفهام في من : إنكار تحريم هذه الأشياء . قيل : كانوا إذا أحرموا حرّموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها { قُلْ هِىَلِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الحياوة الدنيا } غير خالصة لهم؛ لأنّ المشركين شركاؤهم فيها { خَالِصَةٌ } لهم { يَوْمُ القيامة } لا يشركهم فيها أحد . فإن قلت : هلا قيل : هي للذين آمنوا ولغيرهم . قلت : لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة ، وأن الكفرة تبع لهم ، كقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار } [ البقرة : 126 ] وقرىء : "خالصةً" بالنصب على الحال ، وبالرفع على أنها خبر بعد خبر .
(2/224)

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{ الفواحش } ما تفاحش قبحه أي تزايد . وقيل : هي ما يتعلق بالفروج { والإثم } عام لكل ذنب . وقيل : شرب الخمر { والبغى } الظلم والكبر ، أفرده بالذكر كما قال : { وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغى } . { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } فيه تهكم ، لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله } وأن تتقوّلوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره .
(2/225)

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم وقرىء : "فإذا جاء آجالهم" . وقال : { سَاعَةً } لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس . يقول المستعجل لصاحبه : في ساعة ، يريد أقصر وقت وأقربه .
(2/226)

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
{ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } هي "إن" الشرطية ضمت إليها "ما" مؤكدة لمعنى الشرط . ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة . فإن قلت : فما جزاء هذا الشرط؟ قلت : الفاء وما بعده من الشرط والجزاء . والمعنى : فمن اتقى وأصلح منكم ، والذين كذبوا منكم . وقرىء : "تأتينكم" ، بالتاء .
(2/227)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{ فَمَنْ أَظْلَمُ } فمن أشنع ظلماً ممن تقول على الله ما لم يقله ، أو كذب ما قاله : { أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب } أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار { حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا } حتى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له ، أي إلى وقت وفاتهم ، وهي "حتى" التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام ههنا الجملة الشرطية ، وهي إذا جاءتهم رسلنا قالوا . و { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } حال من الرسل ، أي متوفيهم . والرسل ملك الموت وأعوانه . "وما" وقعت موصولة بأين في خط المصحف ، وكان حقها أن تفصل؛ لأنها موصولة بمعنى : أين الآلهة الذين تدعون { ضَلُّواْ عَنَّا } غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم ، اعترافاً منهم بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه ، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة .
(2/228)

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{ قَالَ ادخلوا } أي يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بآياته } وهم كفار العرب { فِى أُمَمٍ } في موضع الحال ، أي كائنين في جملة أمم ، وفي غمارهم مصاحبين لهم ، أي ادخلوا في النار مع أمم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ } وتقدّم زمانهم زمانكم { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } التي ضلت بالاقتداء بها { حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا } أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } منزلة وهي الأتباع والسفلة { لأولاهم } منزلة وهي القادة والرؤس . ومعنى لأولاهم : لأجل أولاهم؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم { عَذَاباً ضِعْفاً } مضاعفاً { لِكُلّ ضِعْفٌ } لأنّ كلا من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين { ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } قرىء الياء والتاء { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة { لِكُلّ ضِعْفٌ } أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا ، وأنا متساوون في استحقاق الضعف { فَذُوقُواْ العذاب } من قول القادة ، أو من قول الله لهم جميعاً .
(2/229)

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{ لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء } لا يصعد لهم عمل صالح { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] ، { كَلاَّ إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ } [ المطففين : 18 ] وقيل : إنّ الجنة في السماء ، فالمعنى لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرّق لهم إليها ليدخلوا الجنة . وقيل : لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين . وقيل : لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون ، ففتحنا أبواب السماء . وقرىء : "لا تفتح" ، بالتشديد . "ولا يفتح" بالياء . "ولا تفتح" بالتاء والبناء للفاعل ونصب الأبواب على أنّ الفعل للآيات . وبالياء على أن الفعل لله عزّ وجلّ . وقرأ ابن عباس : "الجمل" ، بوزن القمل . وسعيد بن جبير : "الجمل" بوزن النغر . وقرىء : "الجمل" بوزن القفل . "والجمل" بوزن النصب . "والجمل" . بوزن الحبل . ومعناها القلس الغليظ لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : إنّ الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل ، يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سمّ الإبرة ، والبعير لا يناسبه؛ إلاّ أن قراءة العامّة أوقع لأنّ سم الإبرة مثل في ضيق المسلك . يقال : أضيق من خرت الإبرة . وقالوا للدليل الماهر : خِرِّيت ، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر . والجمل : مثل في عظم الجرم . قال :
جِسْمُ الْجِمَالِ وَأَحْلاَمُ الْعَصَافِيرِ ... إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام ، فقيل : لا يدخلون الجنة ، حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلاّ في باب واسع ، في ثقب الإبرة ، وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل ، فقال : زوج الناقة ، استجهالاً للسائل ، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف . وقرىء؛ "في سم" بالحركات الثلاث : وقرأ عبد الله : "في سم المهيط" والخياط؛ والمخيط كالحزام والمحزم : ما يخاط به وهو الإبرة { وكذلك } ومثل ذلك الجزاء الفظيع { نَجْزِى المجرمين } ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل إلى العقاب ، وأن كلّ من أجرم عوقب ، وقد كرره فقال : { وكذلك نَجْزِى الظالمين } لأنّ كلّ مجرم ظالم لنفسه { مِهَادٌ } فراش { غَوَاشٍ } أغطية . وقرىء : "غواش" بالرفع ، كقوله تعالى : { وَلَهُ الجوار المنشآت } [ الرحمن : 24 ] في قراءة عبد الله .
(2/230)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
{ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } جملة معترضة بين المبتدإ والخبر ، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع ، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل والصالح . وقرأ الأعمش : "لا تكلف نفس" .
(2/231)

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
من كان في قلبه غلّ على أخيه في الدنيا نزع منه ، فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلاّ التوادّ والتعاطف . وعن عليّ رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم { هَدَانَا لهذا } أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ } اللام لتوكيد النفي ويعنون : وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه . وفي مصاحف أهل الشام : ما كنا لنهتدي بغير واو ، على أنها جملة موضحة للأولى { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا ، وتلذذاً بالتكلم به لا تقرّباً وتعبداً ، كما نرى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة } أن مخففة من الثقيلة تقديره : ونودوا بأنه تلكم الجنة { أُورِثْتُمُوهَا } والضمير ضمير الشأن والحديث أو تكون بمعنى أي؛ لأنّ المناداة من القول ، كأنه قيل : وقيل لهم أي تلكم الجنة أورثتموها . { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } بسبب أعمالكم لا بالتفضل ، كما تقول المبطلة .
(2/232)

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
"أن" في { أَن قَدْ وَجَدْنَا } يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت آنفاً ، وكذلك { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم ، وشماتة بأصحاب النار ، وزيادة في غمهم ، لتكون حكايته لطفاً لمن سمعها ، وكذلك قول المؤذن بينهم : لعنة الله على الظالمين . وهو ملك يأمره الله فينادي بينهم نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار . وقرىء : "أن لعنة الله" بالتشديد والنصب . وقرأ الأعمش : "إن لعنة الله" بكسر إن على إرادة القول ، أو على إجراء { أَذِنَ } مجرى قال . فإن قلت : هلا قيل : ما وعدكم ربكم ، كما قيل : ما وعدنا ربنا؟ قلت : حذف ذلك تخفيفاً لدلالة وعدنا عليه . ولقائل أن يقول : أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة؛ لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع ، ولأن الموعود كله مما ساءهم وما نعيم أهل الجنة إلاّ عذاب لهم فأطلق لذلك .
(2/233)

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } يعني بين الجنة والنار . أو بين الفريقين ، وهو السور المذكور في قوله تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُور } [ الحديد : 13 ] { وَعَلَى الأعراف } وعلى أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه ، جمع عرف استعير من عرف الفرس وعرف الديك { رِجَالٌ } من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم ، كأنهم المرجون لأمر الله ، يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة { يَعْرِفُونَ كُلاًّ } من زمر السعداء والأشقياء { بسيماهم } بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها ، يلهمهم الله ذلك : أو تعرّفهم الملائكة .
(2/234)

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم { وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار } ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم . ونادوا رجالاً من رؤوس الكفرة يقولون لهم : { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } إشارة لهم إلى أهل الجنة ، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا ، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة { ادخلوا الجنة } يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفونهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون . وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال ، وأن التقدم والتأخر على حسبها ، وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل ، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه ، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم ، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشرّ ، فيرتدع المسيء عن إساءته ، ويزيد المحسن في إحسانه . وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملاً . قوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم } فيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش : "وإذا قلبت أبصارهم" وقرىء : "ادخلوا الجنة" على البناء للمفعول . وقرأ عكرمة : "دخلوا الجنة" ، فإن قلت : كيف لاءم هاتين القراءتين قوله : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } ؟ قلت : تأويله : ادخلوا ، أو دخلوا الجنة مقولاً لهم : لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون . فإن قلت : ما محل قوله : لم يدخلوها وهم يطمعون؟ قلت : لا محل له لأنه استئناف؛ كأن سائلاً سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل : لم يدخلوها وهم يطمعون ، يعني حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة ، فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا . ويجوز أن يكون له محل ، بأن يقع صفة لرجال { مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } المال أو كثرتكم واجتماعكم { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } واستكباركم عن الحق وعلى الناس ، وقرىء : "تستكثرون" من الكثرة .
(2/235)

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا } فيه دليل على أن الجنة فوق النار { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة ، ويجوز أن يراد : أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة . كقوله :
عَلَفْتُهَا تِبْنَاً ومَاءً بَارِداً ... وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم ، كما يفعل المضطر الممتحن . { حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرّم عليه ويحظر ، كقوله :
حَرَامٌ عَلَى عَيْنِيَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى ... { فاليوم ننساهم } نفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به { كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا } كما فعلوا بلقائه فعل الناسين ، فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به .
(2/236)

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{ فصلناه على عِلْمٍ } عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه ، حتى جاء حكيماً قيماً غير ذي عوج قرأ ابن محيصن فضلتاه بالضاد المعجمة بمعنى فضلناه على جميع الكتب ، عالمين أنه أهل للتفضيل عليها ، و { هُدًى وَرَحْمَةً } حال من منصوب فصلناه ، كما أن على علم حال من مرفوعه { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } إلاّ عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } أي تبين وصحّ أنهم جاؤوا بالحق { نُرَدُّ } جملة معطوفة على الجملة قبلها ، داخلة معها في حكم الاستفهام ، كأنه قيل : هل لنا من شفعاء؟ أو هل نردّ؟ ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم ، كما تقول ابتداء : هل يضرب زيد؟ ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه . فلا يقدّر : هل يشفع لنا شافع أو نردّ؟ وقرأ ابن أبي إسحاق : "أو نردّ" بالنصب عطفاً على "فيشفعوا لنا" أو تكون "أو" بمعنى "حتى أنّ" أي يشفعوا لنا حتى نردّ فنعمل وقرأ الحسن بنصب "نردّ" ورفع { فَنَعْمَلَ } بمعنى : فنحن نعمل .
(2/237)

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{ يُغْشِى اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } وقرىء : "يغشى" بالتشديد ، أي يلحق الليل النهار ، أو النهار بالليل يحتملهما جميعاً . والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس : يغشى الليل النهار ، بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار ، أي يدرك النهار الليل ويطلبه حثيثاً ، حسن الملاءمة لقراءة حميد { بِأَمْرِهِ } بمشيئته وتصريفه ، وهو متعلق بمسخرات ، أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره ، وكما يريد أن يصرفها سمي ذلك أمراً على التشبيه ، كأنهن مأمورات بذلك . وقرىء : "والشمس والقمر والنجوم مسخرات" ، بالرفع . لما ذكر أنه خلقهنّ مسخرات بأمره قال : { أَلاَ لَهُ الخلق والامر } أي هو الذي خلق الأشياء كلها ، وهو الذي صرفها على حسب إرادته .
(2/238)

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } نصب على الحال ، أي ذوي تضرع وخفية . وكذلك خوفاً وطمعاً . والتضرع تفعُّل من الضراعة وهو الذل ، أي تذللاً وتملقاً . وقرىء : "وخِفْيَة" وعن الحسن رضي الله عنه : إنّ الله يعلم القلب التقي والدعاء الخفي ، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوار وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبداً . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلاّ همساً بينهم وبين ربهم . وذلك أنّ الله تعالى يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وقد أثنى على زكريا فقال : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] وبين دعوة السرّ ودعوة العلانية سبعون ضعفاً . { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أي المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره . وعن ابن جريج؛ هو رفع الصوت بالدعاء . وعنه : الصياح في الدعاء مكروه وبدعة . وقيل : هو الإسهاب في الدعاء . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 391 ) " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللَّهمّ إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل " ثم قرأ قوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } . { إِنَّ رحمتالله قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } كقوله : { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا } [ طه : 82 ] . وإنما ذكر { قَرِيبٌ } على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم ، أو لأنه صفة موصوف محذوف ، أي شيء قريب . أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول كما شبه ذاك به ، فقيل قتلاء وأسراء ، أو على أنه بزنة المصدر ، الذي هو النقيض والضغيب . أو لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي ، قرىء : "نشراً وهو مصدر نشر . وانتصابه إمّا لأن أرسل ونشر متقاربان ، فكأنه قيل : نشرها نشراً : وإمّا على الحال بمعنى منتشرات . ونشراً جمع نشور . ونشراً تخفيف نشر ، كرسل ورسل . وقرأ مسروق : "نشراً" ، بمعنى منشورات ، فعل بمعنى مفعول ، كنقض وحسب . ومنه قولهم "ضم نشره" وبشراً جمع بشير . وبشراً بتخفيفه . وبشراً - بفتح الباء - مصدر من بشره بمعنى بشره ، أي باشرات ، وبشرى { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } أمام رحمته ، وهي الغيث الذي هو من أتمّ النعم وأجلّها وأحسنها أثراً { أَقَلَّتْ } حملت ورفعت ، واشتقاق الإقلال من القلة ، لأن الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلاً { سَحَابًا ثِقَالاً } سحائب ثقالاً بالماء جمع سحابة { سقناه } الضمير للسحاب على اللفظ ، ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث ، كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً { لِبَلَدٍ مَّيّتٍ } لأجل بلد ليس فيه حياً ولسقيه .
(2/239)

وقرىء : "مَيْتٍ" { فَأَنزَلْنَا بِهِ } بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق . وكذلك { فأخرجنا به . . . كذلك } مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات { نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فيؤدّيكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين . إذ كل واحد منهما إعادة للشيء بعد إنشائه { والبلد الطيب } الأرض العذاة الكريمة التربة { والذى خَبُثَ } الأرض السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به { بِإِذْنِ رَبّهِ } بتيسيره وهو في موضع الحال ، كأنه قيل : يخرج نباته حسناً وافياً لأنه واقع في مقابلة { نَكِدًا } والنكد الذي لا خير فيه . وقرىء : "يخرج نباته" أن يخرجه البلد وينبته وقوله : { والذى خَبُثَ } صفة للبلد ومعناه : والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً ، فحذف المضاف الذي هو النبات ، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى البلد مقامه؛ إلاّ أنه كان مجروراً بارزاً ، فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل ، أو يقدّر : ونبات الذي خبث . وقرىء : "نكداً" بفتح الكاف على المصدر . أي ذا نكد . ونكداً ، بإسكانها للتخفيف ، كقوله : نزه عن الريب ، بمعنى نزه . وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ، ولمن لا يؤثر شيء من ذلك . وعن مجاهد : آدم وذرّيته منهم خبيث وطيب . وعن قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به ، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت . والكافر بخلاف ذلك . وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر ، وإنزاله بالبلد الميت ، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد { كذلك } مثل ذلك التصريف { نُصَرّفُ الأيات } نردِّدها ونكرّرها { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } نعمة الله وهم المؤمنون ، ليفكروا فيها ويعتبروا بها . وقرىء : "يصرف" بالياء أي يصرفها الله .
(2/240)

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا } جواب قسم محذوف . فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام ، إلاّ مع "قد" وقلّ عنهم ، نحو قوله :
حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حِلْفَةَ فَاجِر ... لَنَامُوا . . . . . . . . . . . .
قلت : إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلاّ تأكيداً للجملة المقسم عليها ، التي هي جوابها ، فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى "قد" عند استماع المخاطب كلمة القسم . قيل : أرسل نوحاً عليه السلام وهو ابن خمسين سنة ، وكان نجاراً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام . وقرىء : "غيره" بالحركات الثلاث ، فالرفع على المحل ، كأنه قيل : ما لكم إله غيره . والجرّ على اللفظ والنصب على الاستثناء بمعنى : ما لكم من إله إلاّ إياه ، كقولك : ما في الدار من أحد إلاّ زيد أو غير زيد . فإن قلت : فما موقع الجملتين بعد قوله : { اعبدوا الله } ؟ قلت : الأولى بيان لوجه اختصاصه بالعبادة . والثانية : بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله واليوم العظيم يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان .
(2/241)

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
{ الملأ } الأشراف والسادة : وقيل : الرجال ليس معهم النساء { فِى ضلال } في ذهاب عن طريق الصواب والحق . ومعنى الرؤية : رؤية القلب . فإن قلت : لم قال : { لَيْسَ بِى ضلالة } ولم يقل ضلال كما قالوا؟ قلت : الضلالة أخصّ من الضلال ، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه ، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال ، كما لو قيل لك : ألك تمر ، فقلت : ما لي تمرة فإن قلت : كيف وقع قوله : { وَلَكِنّي رَسُولٌ } استدراكاً للانتفاء عن الضلالة؟ قلت : كونه رسولاً من الله مبلغاً رسالاته ناصحاً ، في معنى كونه على الصراط المستقيم ، فصحّ لذلك أن يكون استدراكاً للانتفاء عن الضلالة . وقرىء : "أبلغكم" بالتخفيف . فإن قلت : كيف موقع قوله : { أُبَلّغُكُمْ } ؟ قلت : فيه وجهان . أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً بياناً لكونه رسول رب العالمين . والثاني : أن يكون صفة لرسول . فإن قلت : كيف جاز أن يكون صفة والرسول لفظه لفظ الغائب؟ قلت : جاز ذلك لأن الرسول وقع خبراً عن ضمير المخاطب وكان معناه ، كما قال :
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنيِ أُمِّي حَيْدَرَهْ ... { رسالات رَبّى } ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة ، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر . ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جدّه إدريس ، وهي ثلاثون صحيفة ، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة { وَأَنصَحُ لَكُمْ } يقال نصحته ونصحت له . وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير ، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعاً ولا نصحية أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي من صفات الله وأحواله ، يعني قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه ، وأن بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين . وقيل : لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوح بوحي الله إليه ، أو أراد : وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحى إليّ بها .
(2/242)

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
{ أَوَ عَجِبْتُمْ } الهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم { أَن جَاءكُمْ } من أن جاءكم { ذِكْرٌ } موعظة { مّن رَّبّكُمْ على رَجُلٍ مّنْكُمْ } على لسان رجل منكم ، كقوله : { مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] وذلك أنهم يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين ، يعنون إرسال البشر ، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ } ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم .
(2/243)

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
{ والذين مَعَهُ } قيل : كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة . وقيل : تسعة ، بنوه سام وحام ويافث ، وستة ممن آمن به . فإن قلت : { فِى الفلك } بم يتعلق؟ قلت : هو متعلق بمعه ، كأنه قيل : والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك . ويجوز أن يتعلق بفعل الإنجاء ، أي أنجيناهم في السفينة من الطوفان { عَمِينَ } عمى القلوب غير مستبصرين . وقرىء : "عامين" . والفرق بين العمى والعاميّ : أن العمى يدلّ على عمى ثابت ، والعاميّ على حادث . ونحوه قوله : { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } [ هود : 12 ] .
(2/244)

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{ أخاهم } واحداً منهم من قولك : يا أخا العرب للواحد منهم . وإنما جعل واحداً منهم ، لأنهم أفهم عن رجل منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته ، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وأخاهم : عطف على نوحاً . و { هُودًا } عطف بيان له . فإن قلت : لم حذف العاطف من قوله : { قَالَ ياقوم } ولم يقل "فقال" كما في قصة نوح؟ قلت : هو على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود؟ فقيل : قال يا قوم اعبدوا الله ، وكذلك { قَالَ الملا } . فإن قلت : لم وصف الملأ [ ب ] { الذين كَفَرُواْ } دون الملأ من قوم نوح؟ قلت : كان في أشراف قوم هود من آمن به ، منهم مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن . ونحوه قوله تعالى : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة } [ المؤمنون : 33 ] ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذمّ لا غير { فِي سَفَاهَةٍ } في خفة حلم وسخافة عقل ، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر ، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز : أرادوا أنه متمكن فيها غير منفك عنها . وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام - من نسبهم إلى الضلال والسفاهة ، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس وأسفههم - أدب حسن وخلق عظيم ، وحكاية الله عزّ وجلّ ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم { نَاصِحٌ أَمِينٌ } أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فما حقي أن أُتهم . أو أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه { خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي [ خلفتموهم ] في الأرض ، أو جعلكم ملوكاً في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم { فِى الخلق بَسْطَةً } فيما خلق من أجرامكم ذهاباً في الطول والبدانة . قيل : كان أقصرهم ستين ذراعاً ، وأطولهم مائة ذراع { فاذكروا ءالآء الله } في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه . وواحد الآلاء "إلى" نحو إني وإناء ، وضلع وأضلاع ، وعنب وأعناب . فإن قلت : "إذ" في قوله : { إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء } ما وجه انتصابه؟ قلت : هو مفعول به وليس بظرف ، أي اذكروا وقت استخلافكم .
(2/245)

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ } أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة ، وترك دين الآباء . في اتخاذ الأصنام شركاء معه ، حباً لما نشأوا عليه ، وألفاً لما صادفوا آباءهم يتدينون به . فإن قلت : ما معنى المجىء في قوله : { أَجِئْتَنَا } قلت : فيه أوجه : أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه ، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم . وأن يريدوا به الاستهزاء ، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلاّ الملائكة ، فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ، وأن لا يريدوا حقيقة المجيء ، ولكن التعرّض بذلك والقصد ، كما يقال : ذهب يشمتني ، ولا يراد حقيقة الذهاب ، كأنهم قالوا : أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرّضت لنا بتكليف ذلك؟ { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } استعجال منهم للعذاب { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم } أي حق عليكم ووجب ، أو قد نزل عليكم . جعل المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع . ونحوه قولك لمن طلب إليك بعض المطالب قد كان ذلك . وعن حسان؛ أنّ ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل ، فجاء يبكي . فقال له يا بنيّ مالك؟ قال : لسعني طوير كأنه ملتف في بردى حبرة ، فضمه إلى صدره وقال له : يا بني ، قد قلت الشعر . والرجس : العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب { فِى أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } في أشياء ما هي إلاّ أسماء ليس تحتها مسميات ، لأنكم تسمونها آلهة . ومعنى الإلهية فيها معدوم محال وجوده . وهذا كقوله تعالى : { مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء } ومعنى { سَمَّيْتُمُوهَا } سميتم بها من : سميته زيداً . وقطعُ دابرهم : استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم . وقصتهم أن "عاداً" قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت . وكانت لهم أصنام يعبدونها . صداء . وصمود ، والهباء ، فبعث الله إليهم هوداً نبياً ، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً ، فكذبوه وازدادوا عتوّاً وتجبراً ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا ، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم مسلمهم ومشركهم ، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وسيدهم معاوية ابن بكر ، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً ، منهم قيل بن عنز ، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه . فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان . - قينتان كانتا لمعاوية - فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك ، وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه ، وكان يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه ، فذكر ذلك للقينتين .
(2/246)

فقالتا : قل شعراً نغنيهم به لا يدرون من قاله . فقال معاوية :
أَلاَ يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يَسْقِينَا غَمَامَا
فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَادا ... قَدْ امْسَوْا مَا يُبَينُونَ الْكَلاَمَا
فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم ، فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سقيتم وأظهر إسلامه ، فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثداً لا يقدمنّ معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل اللَّهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه منادٍ من السماء . ياقيل ، اختر لنفسك ولقومك ، فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهنّ ماء فخرجت على عاد من وادٍ لهم يقال له المغيث ، فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ، ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا . فإن قلت : ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله : { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم كمرثد ابن سعد ، ومن نجا مع هود عليه السلام ، كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين ، ونجى الله المؤمنين .
(2/247)

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
قرىء : { وإلى ثَمُودَ } بمنع الصرف بتأويل القبيلة ، وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحيّ؛ أو باعتبار الأصل؛ لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح . وقيل : سميت ثمود لقلة مائها ، من الثمد وهو الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الشام والحجاز إلى وادي القرى { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ } آية ظاهرة وشاهد على صحة نبوّتي . وكأنه قيل : ما هذه البينة؟ فقال : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } وآية نصب على الحال ، والعامل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل ، كأنه قيل : أشير إليها آية . ولكم : بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود؛ لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة ، كأنه قال : لكم خصوصاً ، وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها ، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحل وطروقة آية من آياته ، كما تقول : آية الله . وروى أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً ، حتى أن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته ، فنحتوا البيوت من الجبال ، وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان ، فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام ، وكانوا قوماً عرباً وصالح من أوسطهم نسباً ، فدعاهم إلى الله تعالى فلم يتبعه إلاّ قليل منهم مستضعفون ، فحذرهم وأنذرهم ، فسألوه آية ، فقال : أية آية تريدون؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة ، فتدعوا إلهك ، وندعوا آلهتنا ، فإن استجيب لك اتبعناك ، وإن استجيب لنا اتبعتنا ، فقال صالح : نعم ، فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم ، ثم قال سيدهم - جندع ابن عمرو ، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة - أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء - والمخترجة التي شاكلت [ البخت ] - فإن فعلت صدّقناك وأجبناك . فأخذ صالح عليه السلام عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمننّ ولتصدّقنّ ، قالوا : نعم ، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء . كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلاّ الله تعالى ، وعظماؤهم ينظرون ، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ، ومنع أعقابهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا ، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ، وكانت ترد غباً ، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كلّ ماء فيها ، ثم تتفحج فيحتلبون ما شاؤا حتى تمتلىء أوانيهم ، فيشربون ويدخرون . قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً .
(2/248)

وكانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشقّ ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان : عنيزة أمّ غنم ، وصدقة بنت المختار - لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي - فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه ، فانطلق سقبها حتى رقي جبلاً اسمه قارة فرغى ثلاثاً وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها . فقال لهم صالح : تصبحون غداً ووجوهكم مصفرَّة ، وبعد ذلك غدٍ ووجوهكم محمرّة ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودّة ، ثم يصحبكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه . فأنجاه الله إلى أرض فلسطين . ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا { تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله ، فذروها تأكل في أرض ربها ، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من أنباتكم { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيء من الأذى إكراماً لآية الله . ويروى :
( 392 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه؛ " "لا يدخلنّ أحد منكم القرية ، ولا تشربوا من مائها ، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلاّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم" " وقال صلى الله عليه وسلم :
( 393 ) " يا علي ، أتدري من أشقى الأوّلين"؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : "عاقر ناقة صالح ، أتدري من أشقى الآخرين"؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : "قاتلك" " وقرأ أبو جعفر في رواية : "تأكل في أرض الله" وهو في موضع الحال بمعنى آكلة { وَبَوَّأَكُمْ } وترلكم . والمباءة : المنزل { فِى الارض } في أرض الحجر بين الحجاز والشام { مِن سُهُولِهَا قُصُورًا } أي تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر . وقرأ الحسن : "وتنحتون" بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة ، كقوله :
يَنْبَاعُ مِنْ ذَفْرَى أَسِيلٍ حُرَّةٍ ... فإن قلت : علام انتصب { بُيُوتًا } ؟ قلت : على الحال ، كما تقول : خِطْ هذا الثوب قميصاً وابْرِ هذه القصبة قلما ، وهي من الحال المقدّرة ، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلماً في حال الخياطة والبري . وقيل : كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء .
(2/249)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
{ لِلَّذِينَ استضعفوا } للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم ، و { لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } بدل من الذين استضعفوا . فإن قلت : الضمير في منهم راجع إلى ماذا؟ قلت : إلى { قَوْمِهِ } أو إلى { الذين استضعفوا } . فإن قلت : هل لاختلاف المرجعين أثر في اختلاف المعنى؟ قلت : نعم وذلك أن الراجع إذا رجع إلى قومه فقد جعل { مَنْ ءامَنَ } مفسراً لمن استضعف منهم ، فدل أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين ، وإذا رجع إلى الذين استضعفوا لم يكن الاستضعاف مقصوراً عليهم ، ودلّ أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين : { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ } شيء قالوه على سبيل الطنز والسخرية ، كما تقول للمجسمة : أتعلمون أن الله فوق العرش . فإن قلت : كيف صحّ قولهم : { إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } جواباً عنه؟ قلت : سألوهم عن العلم بإرساله ، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب ، كأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته ، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به ، فنخبركم أنا به مؤمنون ، ولذلك كان جواب الكفرة : { إِنَّا بالذى ءَامَنْتُمْ بِهِ كافرون } فوضعوا { ءَامَنتُم بِهِ } موضع { أُرْسِلَ بِهِ } رداً لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً { فَعَقَرُواْ الناقة } أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلاّ بعضهم ، وقد يقال للقبيلة الضخمة : أنتم فعلتم كذا ، وما فعله إلاّ واحداً منهم { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين ، وأمر ربهم : ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } [ الأعراف : 73 ] أو شأن ربهم وهو دينه . ويجوز أن يكون المعنى : وصدر عتوّهم عن أمر ربهم ، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم . ونحو عن هذه ما في قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } [ الكهف : 82 ] ، { ائتنا بِمَا تَعِدُنَا } أرادوا من العذاب . وإنما جاز الإطلاق لأنه كان معلوماً . واستعجالهم له لتكذيبهم به ، ولذلك علقوه بما هم به كافرون ، وهو كونه من المرسلين { الرجفة } الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها { فِي دَارِهِمْ } في بلادهم أو في مساكنهم { جاثمين } هامدين لا يتحركون موتى . يقال : الناس جثم ، أي قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة . ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها ، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى
. وعن جابر : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالحجر قال :
( 394 ) " لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة ، فلم يبق منهم إلاّ رجل واحد كان في حرم الله . قالوا من هو؟ قال : ذاك أبو رغال ، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه "
(2/250)

، وروى : أنّ صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره . وروى : أنه عليه السلام مرّ بقبر أبي رغال فقال :
( 395 ) " "أتدرون من هذا"؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . فذكر قصة أبي رغال ، وأنه دفن ههنا ودفن معه غصن من ذهب ، فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن . " { فتولى عَنْهُمْ } الظاهر أنه كان مشاهداً لما جرى عليهم ، وأنه تولى عنهم بعدما أبصرهم جاثمين ، تولى مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم يتحزن لهم ويقول يا قوم لقد بذلت فيكم وسعي ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم ولكنكم { لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } ويجوز أن يتولى عنهم تولي ذاهب عنهم ، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب . وروى : أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ، ونزل بهم العذاب يوم السبت . وروى أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي ، فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا ، وكانوا ألفاً وخمسمائة دار . وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم . فإن قلت : كيف صحّ خطاب الموتى وقوله : { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } ؟ قلت : قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة : يا أخي ، كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني؟ وقوله : { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } حكاية حال ماضية .
(2/251)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{ وَلُوطًا } وأرسلنا لوطاً . و { إِذْ } ظرف لأرسلنا . واذكر لوطاً ، وإذ بدل منه ، بمعنى : واذكر وقت : { قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة } أتفعلون السيئة المتمادية في القبح { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } ما عملها قبلكم ، والباء للتعدية من قولك : سبقته بالكرة ، إذا ضربتها قبله . ومنه قوله عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 396 ) " سبقك بها عكاشة " { مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } "من" الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق ، والثانية للتبعيض . فإن قلت : ما موقع هذه الجملة؟ قلت : هي جملة مستأنفة ، أنكر عليهم أوّلاً بقوله : { أَتَأْتُونَ الفاحشة } ثم وبخهم عليها فقال : أنتم أوّل من عملها . أو على أنه جواب لسؤال مقدّر ، كأنهم قالوا : لما لانأتيها؟ فقال : ما سبقكم بها أحد ، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } بيان لقوله : أتأتون الفاحشة . والهمزة مثلها في { أَتَأْتُونَ } للإنكار والتعظيم . وقرىء : "إنكم" على الإخبار المستأنف لتأتون الرجال ، من أتى المرأة إذا غشيها { شَهْوَةً } مفعول له ، أي للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلاّ مجرّد الشهوة من غير داع آخر ، ولا ذمّ أعظم منه ، لأنه وصف لهم بالبهيمية ، [ و ] أنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماجة { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتباع الشهوات وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء ، فمن ثم أسرفوا في بعض قضاء الشهوة ، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد . ونحوه { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 166 ] . { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ } يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام ، من إنكار الفاحشة ، وتعظيم أمرها ، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشرّ كله ، لكنهم جاؤا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته ، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ، ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم . وقولهم : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخاراً بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف ، وأريحونا من هذالمتزهد { وَأَهْلَهُ } ومن يختصّ به من ذويه أو من المؤمنين { مِنَ الغابرين } من الذين غبروا في ديارهم ، أي بقوا فهلكوا . والتذكير لتغليب الذكور على الإناث . وكانت كافرة موالية لأهل سدوم . وروي : أنها التفتت فأصابها حجر فماتت . وقيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن . وقيل : كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة ، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار . وقيل : خسف بالمقيمين منهم ، وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم .
(2/252)

وقيل : أمطر عليهم ثم خسف بهم . وروي : أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه . فإن قلت : أي فرق بين مطر وأمطر؟ قلت : يقال مطرتهم السماء وواد ممطور . وفي نوابغ الكلم : حرى غير ممطور . وحرى أن يكون غير ممطور ومعنى مطرتهم : أصابتهم المطر ، كقولهم : غاثتهم ووبلتهم وجادتهم ورهمتهم . ويقال : أمطرت عليهم كذا ، بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] ، { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } [ هود : 82 ] . ومعنى { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً يعني الحجارة . ألا ترى إلى قوله : { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } [ الأعراف : 84 ] .
(2/253)

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } معجزة شاهدة بصحة نبوّتي أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه ، فأوفوا ولا تبخسوا . فإن قلت : ما كانت معجزته؟ قلت : قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة ، لقوله : { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } ولأنّه لا بدّ لمدعي النبوّة من معجزة تشهد له وتصدقه ، وإلاّ لم تصحّ دعواه ، وكان متنبئاً لا نبياً غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه . ومن معجزات شعيب عليه السلام : ما روي من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه . وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها ، ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع ، وغير ذلك من الآيات؛ لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام ، فكانت معجزات لشعيب . فإن قلت : كيف قيل : { الكيل والميزان } وهلا قيل : المكيال والميزان ، كما في سورة هود عليه السلام؟ قلت : أريد بالكيل : آلة الكيل وهو المكيال ، أو سمي ما يكال به الكيل ، كما قيل : العيش ، لما يعاش به . أو أريد : فأوفوا الكيل ووزن الميزان . ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر ، ويقال : بخسته حقه : إذا نقصته إياه . ومنه ، قيل للمكس : البخس ، وفي أمثالهم : تحسبها حمقاء وهي باخس . وقيل : { أَشْيَاءهُمْ } لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم ، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلاّ مكسوه كما يفعل أمراء الحرمين . وروى : أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعاً ، ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفاً { بَعْدَ إصلاحها } بعد الإصلاح فيها ، أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم . وإضافته كإضافة قوله : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] بمعنى بل مكركم في الليل والنهار ، أو بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض ، أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه . ومعنى : { خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني في الإنسانية وحسن الأحدوثة ، وما تطلبونه من التكسب والتربح ، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كنتم مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط } ولا تقتدوا بالشيطان في قوله : { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين .
(2/254)

والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } ومحل { تُوعَدُونَ } وما عطف عليه : النصب على الحال أي : ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله ، وباغيها عوجاً . فإن قلت : صراط الحق واحد ، { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] فكيف قيل : بكل صراط؟ قلت : صراط الحق واحد ، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة ، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيء منها أوعدوه وصدّوه . فإن قلت؛ إلام يرجع الضمير في { ءَامَنَ بِهِ } ؟ قلت : إلى كل صراط . تقديره : توعدون من آمن به وتصدّون عنه ، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير ، زيادة في تقبيح أمرهم ، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه . وقيل : كانوا يجلسون على الطرق والمراصد فيقولون لمن مر بهم إنَّ شعيباً كذاب فلا يفتنكم عن دينكم كما كان يفعل قريش بمكة . وقيل : كانوا يقطعون الطرق . وقيل : كانوا عَشَّارين { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } وتطلبون لسبيل الله عوجاً ، أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة ، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها : أو يكون تهكماً بهم ، وأنهم يطلبون لها ما هو محال ، لأن طريق الحق لا يعوج { واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً } إذ مفعول به غير ظرف . أي : واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم { فَكَثَّرَكُمْ } الله ووفر عددكم . قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا . ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم : فجعلكم مكثرين موسرين . أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد { عاقبة المفسدين } آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم ، كقوم نوح وهود وصالح ولوط ، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة { فاصبروا } فتربصوا وانتظروا { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } أي بين الفريقين ، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم . وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم ، كقوله : { فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } [ التوبة : 52 ] أو هو عظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم . ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين ، أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم ، حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأنّ حكمه حق وعدل ، لا يخاف فيه الحيف .
(2/255)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
أي ليكوننّ أحد الأمرين : إمّا إخراجكم؛ وإمّا عودكم في الكفر . فإن قلت : كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } وكيف أجابهم بقوله : { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلاّ ما ليس فيه تنفير ، فضلاً عن الكبائر ، فضلاً عن الكفر؟ قلت : لما قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ } فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا : { لَتَعُودُنَّ } فغلبوا الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعاً ، إجراءً للكلام على حكم التغليب . وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال : { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } وهو يريد عود قومه ، إلاّ أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب . فإن قلت : فما معنى قوله { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله } والله تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر؟ قلت : معناه إلاّ أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف ، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً . والعبث قبيح لا يفعله الحكيم ، والدليل عليه قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون ، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل ، وقلوبهم كيف تتقلب؛ وكيف تقسو بعد الرقة ، وتمرض بعد الصحة ، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان . ويجوز أن يكون قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } حسماً لطمعهم في العود ، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة { أَوَلوْ كُنَّا كارهين } الهمزة للاستفهام ، والواو واو الحال ، تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ، ومع كوننا كارهين . وما يكون لنا ، وما ينبغي لنا . وما يصحّ لنا { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا } احكم بيننا . والفتاحة؛ الحكومة ، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا { وَبَيْنَ قَوْمِنَا } وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } كقوله : { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } [ يونس : 159 ] . فإن قلت : كيف أسلوب قوله : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } ؟ قلت : هو إخبار مقيد بالشرط ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب ، كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام . لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر ، لأنّ الكافر مفتر على الله الكذب . حيث يزعم أن لله نداً ولا ندّ له . والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه ، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل . والثاني : أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام ، بمعنى : والله لقد افترينا على الله كذباً .
(2/256)

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{ وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } أي أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } لاستبدالكم الضلالة بالهدى ، كقوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] وقيل : تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية ، فإن قلت : ما جواب القسم الذي وطأته اللام في { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا } وجواب الشرط؟ قلت : قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } سادّ مسدّ الجوابين { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } مبتدأ خبره { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } وكذلك { كَانُواْ هُمُ الخاسرين } وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص ، كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا ، كأن لم يقيموا في دارهم؛ لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله ، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم ، دون أتباعه فإنهم الرابحون . وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير : مبالغة في ردّ مقالة الملإ لأشياعهم ، وتسفيه لرأيهم ، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم .
(2/257)

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
الأسى : شدّة الحزن . قال العَجَّاجُ :
وانحلبت عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى ... اشتدّ حزنه على قومه ثم أنكر على نفسه فقال : فكيف يشتدّ حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ويجوز أن يريد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حلّ بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدّقوني فكيف آسي عليكم يعني أنه لا يأسى عليهم لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى . وقرأ يحيى ابن وَثَّاب : "فكيف إيسى" ، بكسر الهمزة .
(2/258)

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء } بالبؤس والفقر { والضراء } بالضرّ والمرض لاستبكارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة كقوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] { حتى عَفَواْ } كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ، من قولهم : عفا النبات وعفا الشحم والوبر ، إذا كثرت . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 397 ) " واعفوا عن اللحى " ، وقال الحطيئة :
بِمُسْتَأْسِدِ القِرْيَان عَافَ نَبَاتُهُ ... وقال :
وَلَكِنَّا نَعُضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بِأَسْوَقَ عَافِيَاتِ الشّحْمِ كُومِ
{ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء } يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا : هذه عادة الدهر ، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء . وقد مسّ آباؤنا نحو ذلك ، وما هو بابتلاء من الله لعباده ، فلم يبق بعد ابتلائهم بالسيئات والحسنات إلاّ أن نأخذهم بالعذاب { فأخذناهم } أشدّ الأخذ وأفظعه ، وهو أخذهم فجأة من غير شعور منهم .
(2/259)

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
اللام في القرى : إشارة إلى القرى التي دلّ عليها قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } [ الأعراف : 94 ] كأنه قال : ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا { ءامَنُواْ } بدل كفرهم { واتقوا } المعاصي مكان ارتكابها { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض } لآتيناهم بالخير من كل وجه . وقيل : أراد المطر والنبات { ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم } بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس . فإن قلت : ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت : تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها . ومنه قولهم : فتحت على القارىء إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين .
(2/260)

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
البيات يكون بمعنى البيتوتة . يقال : بات بياتاً . ومنه قوله تعالى : { فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وقد يكون بمعنى : التبييت ، كالسلام بمعنى التسليم . يقال : بيته العدو بياتاً ، فيجوز أن يراد : أن يأتيهم بأسنا بائتين ، أو وقت بيات ، أو مبيتاً ، أو مبيتين ، أو يكون بمعنى تبييتاً ، كأنه قيل : أن يبيتهم بأسنا بياتاً . و { ضُحًى } نصب على الظرف . يقال : أتانا ضحى ، وضحيا ، وضحاء والضحى - في الأصل - اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت . والفاء والواو في { أَفَأَمِنَ } و { أَوَ أَمِنَ } حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار . فإن قلت : ما المعطوف عليه؟ ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت : المعطوف عليه قوله : { فأخذناهم بَغْتَةً } وقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } [ الأعراف : 96 ] إلى { يَكْسِبُونَ } وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه ، وإنما عطف بالفاء ، لأنّ المعنى : فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ وقرىء : أو أمن على العطف بأو { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يشتغلون بما لا يجدي عليهم كأنهم يلعبون .
(2/261)

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
فإن قلت : فلم رجع فعطف بالفاء قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } ؟ قلت : هو تكرير لقوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 97 ] ومكر الله : استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ، ولاستدراجه . فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله ، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة . وعن الربيع بن خثيم : أن ابنته قالت له : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ، فقال : يا بنتاه ، إنّ أباك يخاف البيات ، أراد قوله : { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا } .
(2/262)

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
إذا قرىء : "أو لم يهد" بالياء كان { أَن لَّوْ نَشَاء } مرفوعاً بأنه فاعله بمعنى : أو لم يهد للذين يخلفون ، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن ، وهو أنّا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، كما أصبنا من قبلهم ، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورّثين . وإذا قرىء بالنون ، فهو منصوب كأنه قيل : أو لم يهد الله للوارثين هذا الشأن بمعنى : أو لم نبين لهم أنا { لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ } كما أصبنا من قبلهم . وإنما عدّى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين . فإن قلت بم تعلق قوله تعالى : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } ؟ قلت : فيه أوجه ، أن يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى { أَوَ لَمْ يَهْدِ } كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ، ونطبع على قلوبهم . أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعاً بمعنى : ونحن نطبع على قلوبهم . فإن قلت : هل يجوز أن يكون { وَنَطْبَعُ } بمعنى وطبعنا ، كما [ كان ] { لَّوْ نَشَاء } بمعنى : لو شئنا ، ويعطف على أصبناهم؟ قلت : لا يساعد عليه المعنى؟ لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها . وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة ، وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها .
(2/263)

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
{ تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } كقوله : { هذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] في أنه مبتدأ وخبر وحال ويجوز أن يكون { القرى } صفة لتلك و { نَقُصُّ } خبراً ، وأن يكون { القرى نَقُصُّ } خبر بعد خبر . فإن قلت : ما معنى : { تِلْكَ القرى } حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت : هو مفيد ، ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك : هو الرجل الكريم . فإن قلت : ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت : معناه : أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوّلاً حين جاءتهم الرسل ، أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين ، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات . ومعنى اللام تأكيد النفي وأنّ الإيمان كان منافياً لحالهم في التصميم على الكفر . وعن مجاهد : هو كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . { كَذَلِكَ } مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين .
(2/264)

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } الضمير للناس على الإطلاق ، أي وما وجدنا لأكثر الناس من عهد يعني أنّ أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى { وَإِن وَجَدْنَا } وإنّ الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين ، خارجين عن الطاعة مارقين . والآية اعتراض . ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين ، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضرّ ومخافة ، لئن أنجيتنا لنؤمننّ ، ثم نجّاهم نكثوا كما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام : { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } إلى قوله : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [ الأعراف : 135 ] والوجود بمعنى العلم من قولك : وجدت زيداً ذا الحفاظ ، بدليل دخول "إن" المخففة واللام الفارقة . ولا يسوغ ذلك إلاّ في المبتدإ والخبر . والأفعال الداخلة عليهما .
(2/265)

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
{ مّن بَعْدِهِمْ } الضمير للرسل في قوله : { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } [ الأعراف : 101 ] أو للأمم { فَظَلَمُواْ بها } فكفروا بآياتنا . أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] أو فظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدّوهم عنها ، وآذوا من آمن بها ، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً ، فلذلك قيل : فظلموا بها ، أي : كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه ، وهو موضع الإيمان . يقال : لملوك مصر : الفراعنة ، كما يقال لملوك فارس : الأكاسرة ، فكأنه قال : يا ملك مصر وكان اسمه قابوس . وقيل : الوليد بن مصعب بن الريان { حَقِيقٌ عَلَىَّ أَنْ ا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق } فيه أربع قراآت ، المشهورة : "وحقيق عليّ أن لا أقول" ، وهي قراءة نافع : "وحقيق أن لا أقول" وهي قراءة عبد الله : "وحقيق بأن لا أقول" وهي قراءة أبيّ وفي المشهورة إشكال ، ولا تخلو من وجوه ، أحدها : أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس ، كقوله :
وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ ... ومعناه : وتشقى الضياطرة بالرماح "وحقيق عليّ أن لا أقول" وهي قراءة نافع . والثاني : أنّ ما لزمك فقد لزمته ، فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق ، أي لازماً له . والثالث : أن يضمن { حَقِيقٌ } معنى حريص ، كما ضمن "هيجني" معنى ذكرني في بيت الكتاب . والرابع : - وهو الأوجه - الأدخل في نكت القرآن : أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدو الله فرعون قال له - لما قال : { إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ العالمين } كذبت ، فيقول : أنا حقيق عليَّ قول الحق أي واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به ، ولا يرضى إلاّ بمثلي ناطقاً به { فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل } فخلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدّسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم ، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط ، غلب فرعون نسلهم واستعبدهم ، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام ، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام .
(2/266)

قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
فإن قلت : كيف قال له : { فَأْتِ بِهَا } بعد قوله : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بآية } ؟ قلت : معناه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتني بها وأحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك { ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان . وروى أنه كان ثعباناً ذكراً أشعر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً ، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحية الأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب ، وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك ، وهرب الناس وصاحوا ، وحمل على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً ، ودخل فرعون البيت وصاح : يا موسى ، خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذه موسى فعاد عصى . فإن قلت : بم يتعلق { للناظرين } ؟ قلت : يتعلق ببيضاء . والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلاّ إذا كان بياضا عجيباً خارجاً عن العادة ، يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب ، وذلك ما يروى : أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه؟ قال : يدك ، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها ، فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس ، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة .
(2/267)

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
{ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } أي عالم بالسحر ماهر فيه ، قد أخذ عيون الناس بخدعة من خدعه ، حتى خيل إليهم العصى حية ، والآدم أبيض . فإن قلت : قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء ، وأنه قاله للملأ وعُزي ههنا إليهم قلت قد قاله هو وقالوه هم ، فحكى قوله ثم وقولهم ههنا : أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ ، فقالوه لأعقابهم . أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ثم تبلغه الخاصة العامة . والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم : { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } . وقرىء : "سحار" ، أي يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة : أو بخير منه . وكانت هذه مؤامرة مع القبط . وقولهم : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } من أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي . وقيل : قال فماذا تأمرون؟ من كلام فرعون ، قاله للملأ لما قالوا له : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم ، كأنه قيل [ قال ] : فماذا تأمرون؟ قالوا : أرجئه وأخاه ، ومعنى أرجئه وأخاه : أخرهما وأصدرهما عنك ، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما . وقيل : احبسهما . وقرىء : أرجئه ، بالهمزة : "وأرجه" ، من أرجاءه وأرجاه .
(2/268)

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
فإن قلت : هلا قيل : وجاء السحرة فرعون فقالوا : قلت : هو على تقدير سائل سأل : ما قالوا إذ جاؤه؟ فأجيب بقوله : { قَالُواْ أإنّ لَنَا لأجْرًا } أي جعلا على الغلبة : وقرىء : "إن لنا لأجراً" على الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه : كأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر ، والتنكير للتعظيم ، كقول العرب : إنّ له لإبلاً ، وإنّ له لغنما ، يقصدون الكثرة . فإن قلت : { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } ما الذي عطف عليه؟ قلت : هو معطوف على محذوف سدّ مسدّه حرف الأيجاب ، كأنه قال إيجاباً لقولهم : إن لنا لأجراً : نعم إنّ لكم لأجراً ، وإنكم لمن المقرّبين ، أراد : إني لأقتصر بكم على الثواب وحده ، وإنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب ، وهو التقريب والتعظيم ، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة . وروي أنه قال لهم : تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج . وروى : أنه دعا برؤساء السحرة ومعلميهم فقال لهم : ما صنعتم؟ قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض ، إلاّ أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به . وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً . وقيل : سبعين ألفاً وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً . واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر . وقيل : كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى . وقيل : قال فرعون : لا نغالب موسى إلاّ بما هو منه ، يعني السحر .
(2/269)

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين ، قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع . وقولهم : { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } فيه ما يدلّ على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر ، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل ، وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم ، وقلة مبالاة بهم . وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي ، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً { سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه ، كقوله تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] . روي : أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً ، فإذا هي أمثال الحيات ، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً { واسترهبوهم } وأرهبوهم إرهاباً شديداً ، كأنهم استدعوا رهبتهم { بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } في باب السحر . روي أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة . قيل : جعلوا فيها الزئبق { مَا يَأْفِكُونَ } ما موصولة أو مصدرية ، بمعنى : ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه تسمية للمأفوك بالإفك روي أنها لما تلقفت ملىء الوادي من الخشب والحبال رفعها موسى . أوإفكهم فرجعت عصى كما كانت ، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرّقها أجزاء لطيفة قالت للسحرة : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا { فَوَقَعَ الحق } فحصل وثبت . ومن بدع التفاسير : فوقع قلوبهم ، أي فأثر فيها من قولهم . قاس وقيع { وانقلبوا صاغرين } وصاروا أذلاء مبهوتين { وَأُلْقِىَ السحرة } وخرّوا سجداً : كأنما ألقاهم ملق لشدّة خرورهم . وقيل : لم يتمالكوا مما رأوا ، فكأنهم ألقوا . وعن قتادة : كانوا أول النهار كفاراً سحرة؛ وفي آخره شهداء بررة . وعن الحسن : تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا ، وكذا ، وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر ، بذلوا أنفسهم لله .
(2/270)

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
{ ءَامَنْتُمْ بِهِ } على الإخبار ، أي فعلتم هذا الفعل الشنيع ، توبيخاً لهم وتقريعاً . وقرىء : "أآمنتم" ، بحرف الاستفهام ، ومعناه الإنكار والاستبعاد { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة } إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى هذه الصحراء قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم ، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بني إسرائيل ، وكان هذالكلام من فرعون تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان . وروي أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر : أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال : لآتين بسحر لا يغلبه سحر . وإن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون يسمع ، فلذلك قال ما قال : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيد أجمله ثم فصله بقوله : { لأُقَطّعَنَّ } وقرىء : "لأقطعن" بالتخفيف ، وكذلك { ثُمَّ لأُصَلّبَنَّكُمْ } { مّنْ خلاف } من كل شقّ طرفاً . وقيل : إن أوّل من قطع من خلاف وصلب لفرعون .
(2/271)

قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
{ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } فيه أوجه ، أن يريدوا : إنا لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك . أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب ، أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون ننقلب إلى الله فيحكم بيننا ، أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله ، فما تقدر أن تفعل بنا إلاّ ما لا بدّ لنا منه { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا } وما تعيب منا إلاّ الإيمان بآيات الله ، أرادوا : وما تعيب منا إلاّ ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها ، وهو الإيمان . ومنه قوله :
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... { أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا ، حتى يفيض علينا ويغمرنا ، كما يفرغ الماء فراغاً ، وعن بعض السلف : إن أحدكم ليفرغ على أخيه ذنوباً ثم يقول : قد مازحتك ، أي يغمره بالحياء ، والخجل . أو صبّ علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام ، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون ، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرة لهم { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } ثابتين على الإسلام .
(2/272)

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{ وَيَذَرَكَ } عطف على { لِيُفْسِدُوا } لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم ، وكان ذلك مؤدّياً إلى ما دعوه فساداً وإلى تركه وترك آلهته ، فكأنه تركهم لذلك . أو هو جواب للاستفهام بالواو كما يجاب بالفاء ، نحو قول الحطيئة :
أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونُ بَيْنِي ... وَبَيْنَيكُمُ المْمَوَدَّةُ وَالإخَاءُ
والنصب بإضمار "أن" تقديره : أيكون منك ترك موسى ، ويكون تركه إياك وآلهتك . وقرىء : ( ويذرك وآلهتك ) بالرفع عطفاً على أتذر موسى ، بمعنى : أتذره وأيذرك ، يعني : تطلق له ذلك . أو يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى : أتذره وهو يذرك وآلهتك . وقرأ الحسن : ( ويذرك ) بالجزم ، كأنه قيل : يفسدوا ، كما قرىء : { وَأَكُن مّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] كأنه قيل : "أصدّق" . وقرأ أنس رضي الله عنه : "ونذرك" ، بالنون والنصب ، أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها . وقرىء : "ويذرك وإلاهتك" ، أي عبادتك . وروي : أنهم قالوا له ذلك ، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس ، فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك وخافوا أن يغلبوا على الملك ، وقيل : صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام ، ويقولون : ليقربونا إلى الله زلفى ، ولذلك قال : أنا ربكم الأعلى { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ } يعني سنعيد عليهم ما كنا محناهم به من قتل الأبناء ، ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر ، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا ، وأن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا ، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي أخبر المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده ، فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه ، وأنه منتظر بعد .
(2/273)

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله } قال لهم ذلك - حين قال فرعون : سنقتل أبناءهم فجزعوا منه وتضجروا - يسكنهم ويسلبهم ، ويعدهم النصرة عليهم ، ويذكر لهم ما وعد الله بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم . فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على التي قبلها؟ قلت : هي جملة مبتدأة مستأنفة . وأمّا { وَقَالَ الملا } [ الأعراف : 127 ] فمعطوفة على ما سبقها من قوله : { قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } وقوله : { إِنَّ الأرض للَّهِ } يجوز أن تكون اللام للعهد ويراد أرض مصر خاصة ، كقوله : { وَأَوْرَثَنَا الأرض } [ الزمر : 74 ] وأن تكون للجنس فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض ، كما قال ضمرة : إنما المرء بأصغريه ، فأراد بالمرء الجنس ، وغرضه أن يتناوله تناولاً أولياً { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط ، وأن المشيئة متناولة لهم . وقرأ : "والعاقبة للمتقين" بالنصب : أبيّ وابن مسعود ، عطفاً على الأرض .
{ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئى ، وإعادته عليهم بعد ذلك ، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسون به من العذاب { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل . وكشف عنه ، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم . وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان ، فطلب زيادة لعمرو فلم توجد ، فقرأ عمرو هذه الآية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال : قد بقي فينظر كيف تعملون .
(2/274)

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{ بالسنين } بسني القحط . و "السنة" من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم ونحو ذلك ، وقد اشتقوا منها فقالوا : أسنت القوم بمعنى : أقحطوا . وقال ابن عباس رضي الله عنه : أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم . وأمّا نقص الثمرات فكان في أمصارهم . وعن كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلاّ تمرة { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيتنبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم لآيات الله ، ولأن الناس في حال الشدّة أضرع خدوداً وألين أعطافاً وأرق أفئدة . وقيل : عاش فرعون أربعمائة سنة ولم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة ، ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية .
(2/275)

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة } من الخصب والرخاء { قَالُواْ لَنَا هذه } أي هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها ولم نزل في النعمة والرفاهية ، واللام مثلها في قولك . الجل للفرس { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } من ضيقة وجدب { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } يتطيروا بهم ويتشاءموا ويقولوا : هذه بشؤمهم ، ولولا مكانهم لما أصابتنا ، كما قالت الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه من عندك . فإن قلت : كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة ، وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة؟ قلت : لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه . وأمّا السيئة فلا تقع إلاّ في الندرة ، ولا يقع إلاّ شيء منها . ومنه قول بعضهم : قد عددت أيام البلاء ، فهل عددت أيام الرخاء { طَائِرُهُمْ عِندَ الله } أي سبب خيرهم وشرهم عند الله ، وهو حكمه ومشيئته ، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة ، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه ، كقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } [ النساء : 78 ] ويجوز أن يكون معناه : ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ، ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [ غافر : 46 ] الآية . ولا طائر أشأم من هذا . وقرأ الحسن : "إنما طيركم عند الله" ، وهو اسم لجمع طائر غير تكسير ، ونظيره : التجر ، والركب . وعند أبي الحسن : هو تكسير .
(2/276)

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{ مَهْمَا } هي "ما" المضمنة معنى الجزاء ، ضمت إليها "ما" المزيدة المؤكدة للجزاء في قولك : متى ما تخرج أخرج ، { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } [ النساء : 78 ] ، { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } [ الزخرف : 41 ] إلاّ أنّ الألف قلبت هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري ، ومن الناس من زعم أن "مه" هي الصوت الذي يصوت به الكاف ، و { مَا } للجزاء ، كأنه قيل : كف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فإن قلت : ما محل مهما؟ قلت : الرفع بمعنى : أيما شيء تأتنا به . أو النصب ، بمعنى : أيما شيء تحضرنا تأتنا به . ومن آية : تبيين لمهما . والضميران في { بِهِ } و { بِهَا } راجعان إلى مهما ، إلاّ أنّ أحدهما ذكر على اللفظ ، والثاني أنث على المعنى ، لأنه في معنى الآية . ونحوه قول زهير :
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِيءٍ مِنْ خَلِيقَة ... وَإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية ، فيضعها غير موضعها ، ويحسب مهما بمعنى متى ما ، ويقول مهما جئتني أعطيتك ، وهذا من وضعه ، وليس من كلام واضع العربية في شيء ، ثم يذهب فيفسر { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ } بمعنى الوقت ، فَيُلْحِدْ في آيات الله وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه . فإن قلت : كيف سموها آية ، ثم قالوا لتسحرنا بها؟ قلت : ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية ، وإنما سموها اعتباراً لتسمية موسى وقصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي { الطوفان } ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل . قيل : طغى الماء فوق حروثهم ، وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره . وقيل : أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون ، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة ، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، فمن جلس غرق ، ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة ، وفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف ، ودام عليهم سبعة أيام . وعن أبي قلابة : الطوفان الجدري ، وهو أوّل عذاب وقع فيهم ، فبقي في الأرض . وقيل : هو المُوتان وقيل : الطاعون ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك ، فدعا فرفع عنهم ، فما آمنوا ، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله ، فأقاموا شهراً ، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة ، فكشف عنهم بعد سبعة أيام : خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها ، فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا ، فأقاموا شهراً ، فسلَّط الله عليهم القمل وهو الحمنان في قول أبي عبيدة كبار القردان .
(2/277)

وقيل : الدبا ، وهو أولاد الجراد . وقبل نبات أجنحتها . وقيل : البراغيث . وعن سعيد بن جبير : السوس ، فأكل ما أبقاه الجراد ، ولحس الأرض ، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصُّه ، وكان يأكل أحدهم طعاماً فيمتلىء قملاً ، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا يسيراً . وعن سعيد بن جبير ، أنه كان إلى جنبهم كثيب أعفر ، فضربه موسى بعصاه فصار قملاً ، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ، ولزم جلودهم كأنه الجدري ، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم ، فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، وعزة فرعون لا نصدقك أبداً ، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع ، فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، ولا يكشف أحد شيئاً من ثوب ولا طعام ولا شراب إلاّ وجد فيه الضفادع ، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه ، وكانت تمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدرو وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور ، فشكوا إلى موسى وقالوا : ارحمنا هذه المرة ، فما بقي إلاّ أن نتوب التبة النصوح ولا نعود ، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد ، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً ، فشكوا إلى فرعون فقال : إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً ، ويستقيان من ماء واحد فيخرج للقبطي الدم وللإسرائيلي الماء حتى إن المرأة القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية إجعلي الماء في فيك ثم مجيه في فيَّ فيصير الماء في فيها دماً . وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك ، فكان يمصّ الأشجار الرطبة ، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً . وعن سعيد بن المسيب : سال عليهم النيل دماً . وقيل : سلط الله عليهم الرعاف وروي : أنّ موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات ، وروي : أنه لما أراهم اليد والعصا ونقص النفوس والثمرات قال : يا رب ، إنّ عبدك هذا قد علا في الأرض فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة ، ولقومي عظة ، ولمن بعدي آية . فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان ، ثم الجراد ، ثم ما بعده من النقم . وقرأ الحسن : "والقمل" ، بفتح القاف وسكون الميم ، يريد القمل المعروف { ءايات مفصلات } نصب على الحال . ومعنى مفصلات : مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم . أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم ، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم ، أم ينكثون إلزاماً للحجة عليهم؟ .
(2/278)

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } ما مصدرية . والمعنى بعهده عندك وهو النبوّة والباء إمّا أن تتعلق بقوله : { ادع لَنَا رَبَّكَ } على وجهين : أحدهما أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوّة . أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك . وإمّا أن يكون قسماً مجاباً بلنؤمنن ، أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك { إلى أَجَلٍ هُم بالغوه } إلى حدّ من الزمن هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب لما ، يعني : فلما كشفناه عنهم فاجاؤوا النكث وبادروا لم يؤخروه ولكن كما كشف عنهم نكثوا { فانتقمنا مِنْهُمْ } فأردنا الانتقام منهم { فأغرقناهم } . واليم : البحر الذي لا يدرك قعره . وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائه ، واشتقاقه من التيمم ، لأن المستنفعين به يقصدونه { بأنهم كذبوا بآياتنا } أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها .
(2/279)

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{ القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه . والأرض : أرض مصر والشام ، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة ، وتصرفوا كيف شاؤا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية { بَارَكْنَا فِيهَا } بالخصب وسعة الأرزاق { كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى } قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض } إلى قوله : { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 6 ] والحسنى : تأنيث الأحسن صفة للكلمة . ومعنى تمت على بني إسرائيل : مضت عليهم واستمرت من قولك : تمَّ على الأمر إذا مضى عليه { بِمَا صَبَرُواْ } بسبب صبرهم ، وحسبك به حاثاً على الصبر ، ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر . وانتظار النصر ضمن الله له الفرج . وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف ، وقد سمع قوله . وتلا الآية . ومعنى خف : طاش جزعاً وقلة صبر ، ولم يرزن رزانة أولي الصبر . وقرأ عاصم في رواية : "وتمت كلمات ربك الحسنى" ونظيره { مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] . { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } من الجنات { هُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات } [ الأنعام : 141 ] أو وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء . كصرح هامان وغيره وقرىء : "يعرشون" بالكسر والضم . وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح . وبلغني أنه قرأ بعض الناس : "يغرسون" من غرس الأشجار . وما أحسبه إلاّ تصحيفاً منه .
(2/280)

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه - بعد إنقاذهم من مملكة فرعون واستعباده ، ومعاينتهم الآيات العظام ، ومجاوزتهم البحر - من عبادة البقر وطلب رؤية الله جهرة ، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي ، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفهم ظلوم كفار جهول كنود ، إلاّ من عصمة الله { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } [ سبأ : 13 ] وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة . وروي : أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وقومه ، فصاموه شكراً لله تعالى : { فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ } فمرّوا عليهم { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } يواظبون على عبادتها ويلازمونها . قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر . وذلك أوّل شأن العجل وقيل : كانوا قوماً من لخم . وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم وقرىء : "وجوّزنا" بمعنى أجزنا . يقال : أجاز المكان وجوزه وجاوزه بمعنى جازه ، كقولك : أعلاه وعلاه وعالاه . وقرىء : "يعكفون" بضم الكاف وكسرها { اجعل لَّنَا إلها } صنماً نعكف عليه { كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } أصنام يعكفون عليها . "وما" كافة للكاف ، ولذلك وقعت الجملة بعدها وعن علي رضي الله عنه أنّ يهودياً قال له : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجفّ ماؤه . فقال : قلتم اجعل لنا إلها قبل أن تجفّ أقدامكم { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكده ، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع { إِنَّ هَؤُلآء } يعني عبدة تلك التماثيل { مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } مدمّر مكسر ما هم فيه ، من قولهم إناء متبر ، إذا كان فضاضاً . ويقال لكسار الذهب : التبر ، أي يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يديّ ، ويحطم أصنامهم هذه ويتركها رضاضاً { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ما عملوا شيئاً من عبادتها فيما سلف إلاّ وهو باطل مضمحل لا ينتفعون به وإن كان زعمهم تقرباً إلى الله كما قال تعالى { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] وفي إيقاع { هؤلاء } اسماً لإن ، وتقديم خبر المبتدإ من الجملة الواقعة خبراً لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار ، وأنه لا يعدوهم البتة ، وأنه لهم ضربة لازب ، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا { أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها } أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً ، وهو فعل بكم ما فعل دون غيره ، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحد غيركم ، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره . ومعنى الهمزة : الإنكار والتعجب من طلبتهم - مع كونهم مغمورين في نعمة الله - عبادة غير الله .
(2/281)

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
{ يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } يبغونكم شدّة العذاب ، من سام السلعة إذا طلبها . فإن قلت : ما محل يسومونكم؟ قلت : هو استئناف لا محلّ له . ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين أو من آل فرعون . و { ذلكم } إشارة إلى الإنجاء أو إلى العذاب . والبلاء : النعمة أو المحنة . وقرىء : "يقتلون" بالتخفيف .
(2/282)

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وروي : أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوّهم ، أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة : كنا نشمّ من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك . وقيل : أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك . وقيل : أمره الله أن يصوم ثلاثين يوماً ، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها . ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة ، وفصلها ههنا . و { ميقات رَبّهِ } ما وقته له من الوقت وضربه له . و { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } نصب على الحال أي تمَّ بالغاً هذا العدد . و { هارون } عطف بيان لأخيه . وقرىء بالضم على النداء { اخلفنى فِى قَوْمِى } كن خليفتي فيهم { وَأَصْلَحَ } وكن مصلحاً . أو وأصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ، ومن دعاك منهم إلى [ الفساد ] فلا تتبعه ولا تطعه .
(2/283)

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{ لميقاتنا } لوقتنا الذي وقتنا له وحدّدناه . ومعنى اللام الاختصاص فكأنه قيل : واختصّ مجيئه بميقاتنا ، كما تقول : أتيته لعشر خلون من الشهر { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } من غير واسطة كما يكلم الملك ، وتكليمه : أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح وروي : أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كلمه أربعين يوماً وأربعين ليلة ، وكتب له الألواح . وقيل : إنما كلمه في أوّل الأربعين { أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } ثاني مفعولي أرني محذوف أي أرني نفسك أنظر إليك ، فإن قلت : الرؤية عين النظر ، فكيف قيل : أرني أنظر إليك؟ قلت : معنى أرني نفسك ، اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك ، فإن قلت : فكيف قال : { لَن تَرَانِى } ولم يقل : لن تنظر إليّ لقوله : { أَنظُرْ إِلَيْكَ } ؟ قلت : لما قال : { أَرِنِى } بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك ، علم أن الطِّلْبَة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه ، فقيل : لن تراني ، ولم يقل لن تنظر إليّ . فإن قلت : كيف طلب موسى عليه السلام ذلك -وهو من أعلم الناس بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز ، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس ، وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة . وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة . ومنعُ المجبرة إحالته في العقول غير لازم ، لأنه ليس بأوّل مكابرتهم وارتكابهم ، وكيف يكون طالبه وقد قال- حين أخذت الرجفة الذين قالوا أرنا الله جهرة - { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } [ الأعراف : 155 ] إلى قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } [ الأعراف : 155 ] فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً ؟ قلت : ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً ، وتبرأ من فعلهم ، وليلقمهم الحجر ، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق ، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا : لا بدَّ ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك ، وهو قوله : { لَن تَرَانِى } ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : { رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } . فإن قلت : فهلا قال : أرهم ينظروا إليك؟ قلت : لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسمعون ، فلما سمعوا كلام رب العزّة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه ، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه ، إرادة مبنية على قياس فاسد ، فلذلك قال موسى : أرني أنظر إليك ، ولأنه إذا زجر عما طلب ، وأنكر عليه في نبوّته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى ، وقيل له : لن يكون ذلك : كان غيره أولى بالإنكار ، لأنّ الرسول إمام أمته ، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعاً إليهم .
(2/284)

وقوله : { أَنظُرْ إِلَيْكَ } وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم ، دليل على أنه ترجمة عن مقترحهم وحكاية لقولهم ، وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسة النظر ، فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، والنظام ، وأبي الهذيل والشيخين ، وجميع المتكلمين؟ فإن قلت : ما معنى { لَن } ؟ قلت : تأكيداً النفي الذي تعطيه "لا" وذلك أن "لا" تنفي المستقبل . تقول : لا أفعل غداً ، فإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً . والمعنى : أنّ فعله ينافي حالي ، كقوله : { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } [ الحج : 73 ] فقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] نفي للرؤية فيما يستقبل . و { لَن تَرَانِى } تأكيد وبيان ، لأنّ المنفي مناف لصفاته . فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } بما قبله؟ قلت : اتصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر : وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم ، كيف أفعل به وكيف أجعله دكاً بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره ، كأنه عزّ وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله : { وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 91 ] . { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهاته { فَسَوْفَ تَرَانِى } تعليق لوجود الرؤية موجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكاً ويسويه بالأرض ، وهذا كلام مدبج بعضه في بعض ، وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع . ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعني قوله : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } . { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته { جَعَلَهُ دَكّا } أي مدكوكاً مصدر بمعنى مفعول كضرب الأمير . والدكّ والدقُّ أخوان كالشك والشقِّ وقُرىء : "دكاء" والدكاء اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكّة أو أرضاً دكاء مستوية . ومنه قولهم : ناقة دكاء متواضعة السنام ، وعن الشعبي : قال لي الربيع بن خثيم : ابسط يدك دكاء ، أي مدّها مستوية . وقرأ يحيى بن وثاب : "دكاً" أي قطعاً دكا جمع دكاء { وَخَرَّ موسى صَعِقًا } من هول ما رأى . وصعق من باب : فعلته ففعل . يقال صعقته فصعقت . وأصله من الصاعقة . ويقال لها الصاقعة . من صقعه إذا ضربه على رأسه ومعناه : خرّ مغشياً عليه غشية كالموت . وروي : أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة؟ { فَلَمَّا أَفَاقَ } من صعقته { قَالَ سبحانك } أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها { تُبْتُ إِلَيْكَ } من طلب الرؤية { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس .
(2/285)

فإن قلت : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته ، فممّ تاب؟ قلت : من إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه ، من غير إذن فيه من الله تعالى ، فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية ، وكيف أرجف الجبل بطالبها وجعله دكاً ، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر ، وكيف سبح ربه ملتجئاً إليه ، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال أنا أول المؤمنين ، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنّة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً . ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة ، فإنه من منصوبات أشياخهما والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
لَجَمَاعَةٌ سَموْا هَواهُمْ سُنَّة ... وَجَمَاعَةٌ حُمْرٌ لَعَمْرِي مُوكَفَه
قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا ... شَنْعَ الْوَرَى فَتَسَتَّرُوا بِالبَلْكَفَهْ .
وتفسير آخر : وهو أن يريد بقوله : { أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } عرّفني نفسك تعريفاً واضحاً جلياً ، كأنها إراءة في جلائها بآية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك { أَنظُرْ إِلَيْكَ } أعرفك معرفة اضطرار ، كأني أنظر إليك ، كما جاء في الحديث :
( 398 ) " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " بمعنى : ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى { قَالَ لَن تَرَانِى } أي لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة ، ولن تحتمل قوّتك تلك الآية المضطرة ولكن انظر إلى الجبل . فإني أورد عليه وأظهر له آية من تلك الآيات ، فإن ثبت لتجليها واستقرّ مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطيقها ، { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته { جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ موسى صَعِقًا } لعظم ما رأى { فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ } مما اقترحت وتجاسرت { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بعظمتك وجلالك ، وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك .
(2/286)

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
{ اصطفيتك عَلَى الناس } اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم { برسالاتي } وهي أسفار التوراة { وبكلامي } وبتكليمي إياك { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } ما أعطيتك من شرف النبوّة والحكمة { وَكُنْ مّنَ الشاكرين } على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم . وقيل : خرّ موسى صعقاً يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم النحر . فإن قلت : كيف قيل؛ اصطفيتك على الناس وكان هارون مصطفى مثله نبياً؟ قلت : أجل ، ولكنه كان تابعاً له وردءاًوزيراً . والكليم : هو موسى عليه السلام ، والأصيل في حمل الرسالة .
(2/287)

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
ذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح وقيل : سبعة . وقيل؛ لوحين ، وأنها كانت من زمرّد جاء بها جبريل عليه السلام . وقيل : من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء . وقيل : أمر الله موسى بقطعها من صخرة صماء لينها له ، فقطعها بيده وشقها بأصابعه . وعن الحسن كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة ، وأن طولها كان عشرة أذرع . وقوله : { مِن كُلّ شَىْء } في محل النصب مفعول كتبنا . و { مَّوْعِظَةٌ } وتفصيلاً بدل منه . والمعنى : كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام . وقيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ الجزأ منه في سنة لم يقرأها إلاّ أربعة نفر : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى عليهم السلام . وعن مقاتل : كتب في الألواح : إني أنا الله الرحمن الرحيم ، لا تشركوا بي شيئاً ، ولا تقطعوا السبيل ، ولا تحلفوا بإسمي كاذبين؛ فإن من حلف بإسمي كاذباً فلا أزكيه ، ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين { فَخُذْهَا } فقلنا له : خذها ، عطفاً على كتبنا ، ويجوز أن يكون بدلاً من قوله : { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } [ الأعراف : 144 ] والضمير في { خُذْهَا } للألواح ، أو لكل شيء ، لأنه في معنى الأشياء ، أو [ للرسالات ] ، أو للتوراة . ومعنى { بِقُوَّةٍ } بجدّ وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي فيها ما هو حسن وأحسن ، كالاقتصاص ، والعفو ، والانتصار ، والصبر . فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب ، كقوله تعالى : { واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } [ الزمر : 55 ] وقيل : يأخذوا بما هو واجب أو ندب ، لأنه أحسن من المباح . ويجوز أن يراد : يأخذوا بما أمروا به ، دون ما نهوا عنه ، على قولك : الصيف أحرّ من الشتاء { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } يريد دار فرعون وقومه وهي مصر ، كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم ، لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم . وقيل : منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم . وقيل : دار الفاسقين : نار جهنم . وقرأ الحسن : "سأوريكم" وهي لغة فاشية بالحجاز . يقال : أورني كذا ، وأوريته . ووجهه أن تكون من أوريت الزند كأنَّ المعنى بيّنه لي وأنره لأستبينه وقرىء : "سأورثكم" قراءة حسنة يصححها قوله : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } [ الأعراف : 137 ] . { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي } بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم ، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها ، غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم . وعن الفضيل بن عياض : ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 399 ) " إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام ، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي "
(2/288)

وقيل : سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون أن يبطل آية موسى ، بأن جمع لها السحرة ، فأبى الله إلاَّ علو الحقّ وانتكاس الباطل . ويجوز : سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها . وتسميتها سحراً بإهلاكهم . وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها ، لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم { بِغَيْرِ الحق } فيه وجهان : أن يكون حالاً بمعنى يتكبرون غير محقين ، لأن التكبر بالحقّ لله وحده . وأن يكون صلة لفعل التكبر ، أي يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم { وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ } من الآيات المنزلة عليهم { لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } وقرأ مالك بن دينار : "وإن يروا" بضم الياء . وقرىء : "سبيل الرشد" و "الرشد" و "الرشاد" ، كقولهم : السقم والسقم والسقام . وما أسفه من ركب المفازة ، فإن رأى طريقاً مستقيماً أعرض عنه وتركه ، وإن رأى معتسفاً مردياً أخذ فيه وسلكه ، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه { ذلك } في محل الرفع أو النصب على معنى : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو صرفهم الله ذلك الصرف بسبب { وَلِقَاء الآخرة } يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به . أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ، ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الآخرة .
(2/289)

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{ مِن بَعْدِهِ } من بعد فراقه إياهم إلى الطور ، فإن قلت : لم قيل : واتخذ قوم موسى عجلاً ، والمتخذ هو السامري؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن ينسب الفعل إليهم ، لأن رجلاً منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم ، كما يقال : بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائل والفاعل واحد ، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به ، فكأنهم أجمعوا عليه . والثاني : أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه . وقرىء : "من حليهم" بضم الحاء والتشديد ، جمع حلي ، كثدي وثديّ ، ومن حليهم - بالكسر - للإتباع كدلى . ومن حليهم ، على التوحيد ، والحلي : اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة . فإن قلت : لم قال : من حليهم ، ولم يكن الحليّ لهم ، إنما كانت عوارى في أيديهم؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة ، وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم . ألا ترى إلى قوله عزّ وعلا : { فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأورثناها بَنِى إسراءيل } [ الشعراء : 57-59 ] ، { جَسَداً } بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد . والخوار : صوت البقر ، قال الحسن : إنّ السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر ، فقذفه في فيِّ العجل ، فكان عجلاً له خوار . وقرأ علي رضي الله عنه : "جؤار" بالجيم والهمزة ، ومن جأر إذا صاح . وانتصاب جسداً على البدل من { عِجْلاً } { أَلَمْ يَرَوْاْ } حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل ، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته ، وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحقّ ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة ، وبما أنزل في كتبه . ثم ابتدأ فقال : { اتخذوه } أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر { وَكَانُواْ ظالمين } واضعين كل شيء في غير موضعه ، فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم ، ولا أوّل مناكيرهم { وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل ، لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعض يده غماً ، فتصير يده مسقوطاً فيها ، لأن فاه قد وقع فيها . و { سُقِطَ } مسند إلى { فَى أَيْدِيهِمْ } وهو من باب الكناية . وقرأ أبو السميفع : "سقط في أيديهم" ، على تسمية الفاعل ، أي وقع العض فيها ، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم ، أي في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال : حصل في يده مكروه ، وإن كان محالاً أن يكون في اليد ، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس ، بما يحصل في اليد ويرى بالعين { وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم . وقرىء : "لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا" ، بالتاء . وربنا ، بالنصب على النداء ، وهذا كلام التائبين ، كما قال آدم وحواء عليهما السلام : وإن لم تغفر لنا وترحمنا .
(2/290)

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
الأسِف : الشديد الغضب { فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] وقيل : هو الحزين { خَلَفْتُمُونِى } قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي . وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه . ويدلّ عليه قوله : { اخلفنى فِى قَوْمِى } [ الأعراف : 142 ] والمعنى : بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله ، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله . فإن قلت : أين ما تقتضيه بئس من الفاعل والمخصوص بالذم؟ قلت : الفاعل مضمر يفسره ما خلفتموني . والمخصوص بالذم محذوف تقديره : بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم . فإن قلت : أي معنى لقوله : { مِن بَعْدِى } بعد قوله : { خلفتموني } ؟ قلت : معناه من بعد ما رأيتم مني ، من توحيد الله ، ونفي الشركاء عنه ، وإخلاص العبادة له . أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد . وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر ، حين قالوا : { اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } [ الأعراف : 128 ] ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه . ونحوه : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ الأعراف : 169 ] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة يقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ، ويضمن معنى سبق فيتعدّى تعديته ، فيقال عجلت الأمر ، والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم ، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به ، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولن أرجع إليكم فحدَّثتم أنفسكم بموتي ، فغيّرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم . وروي : أنّ السامري قال لهم - حين أخرج لهم العجل وقال هذا إلهكم وإله موسى - : إنَّ موسى لن يرجع ، وإنه قد مات وروي : أنهم عدّوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ، ثم أحدثوا ما أحدثوا { وَأَلْقَى الالواح } وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدّة الضجر عند استماعه حديث العجل ، غضباً لله وحمية لدينه ، وكان في نفسه حديداً شديد الغضب ، وكان هارون ألين منه جانباً ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى . وروي : أنّ التوراة كانت سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء ، وفيما بقي الهدى والرحمة { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } أي بشعر رأسه { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } بذؤابته وذلك لشدّة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته ، وظناً بأخيه أنه فرط في الكف { ابن أُمَّ } قرىء بالفتح تشبيهاً بخمسة عشر ، وبالكسر على طرح ياء الإضافة . "وابن أمي" ، وبالياء . "وابن إمِّ" ، بكسر الهمزة والميم . وقيل : كان أخاه لأبيه وأمّه ، فإن صحّ فإنما أضافه إلى الأم ، إشارة إلى أنهما من بطن واحد .
(2/291)

وذلك أدعى إلى العطف والرقة ، وأعظم للحق الواجب ، ولأنها كانت مؤمنة فاعتدّ بنسبها ، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها { إِنَّ القوم استضعفوني } يعني أنه لم يأل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار . وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادّتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلاّ أن يقتلوه { يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء } فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إليّ ، وقرىء : "فلا يشمت بي الأعداء" ، على نهي الأعداء عن الشماتة . والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله { وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين } ولا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي قريناً لهم وصاحباً . أو ولا تعتقد أني واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم . لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء { قَالَ رَبّ اغفر لِى وَلاخِى } ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا تتم لهم شماتتهم ، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة . وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة .
(2/292)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
{ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ } الغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم . والذلة : خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب . وقيل : هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريظة والنضير ، من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء ، ومن الذلة بضرب الجزية { المفترين } المتكذبين على الله ، ولا فرية أعظم من قول السامري : هذا إلهكم وإله موسى . ويجوز أن يتعلق في الحياة الدنيا بالذلة وحدها ويراد : سينالهم غضب في الآخرة ، وذلة في الحياة الدنيا ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله .
(2/293)

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
{ والذين عَمِلُواْ السيئات } من الكفر والمعاصي كلها { ثُمَّ تَابُواْ } ثم رجعوا { مِن بَعْدِهَا } إلى الله واعتذروا إليه { وَءامَنُواْ } وأخلصوا الإيمان { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد تلك العظائم { لَغَفُورٌ } لستور عليهم محاء لما كان منهم { رَّحِيمٌ } منعم عليهم بالجنة . وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم . عظَّم جنايتهم أو لا ثم أردفها تعظيم رحمته ، ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجلّ ، ولكن لا بدّ من حفظ الشريطة : وهي وجوب التوبة والإنابة ، وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة ، لا يلتفت إليها حازم .
(2/294)

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } هذا مثل ، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا وألقي الألواح ، وجرّ برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء ، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاّ لذلك ، ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلاّ فما لقراءة معاوية بن قرة : "ولما سكن عن موسى الغضب" ، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة ، وطرفاً من تلك الروعة . وقرىء : "ولما سكت" و "أسكت" أي أسكته الله ، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله ، والمعنى : ولما طفىء غضبه { أَخَذَ الالواح } التي ألقاها { وَفِى نُسْخَتِهَا } وفيما نسخ منها ، أي كتب . والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة { لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } دخلت اللام لتقدم المفعول ، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً . ونحوه { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وتقول : لك ضربت .
(2/295)

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{ واختار موسى قَوْمَهُ } أي من قومه ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، كقوله :
وَمِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً ... قيل : اختار من اثني عشر سبطاً ، من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين ، فقال : ليتخلف منكم رجلان : فتشاحوا ، فقال : إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع . وروي : أنه لم يصب إلا ستين شيخاً ، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً . وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ، ولم يتجاوزوا الأربعين ، قد ذهب عنهم الجهل والصبا ، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى طور سينا ، لميقات ربه ، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا ، فدنوا ، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل ، ولا تفعل . ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه ، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم ، فقالوا : يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . فقال : رب أرني أنظر إليك ، يريد : أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته ، فأجيب بلن تراني ، ورجف بهم الجبل فصعقوا . ولما كانت الرجفة { قَالَ } موسى { رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى } وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية ، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة : لو شاء الله لأهلكني قبل هذا { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } يعني أتهلكنا جميعاً ، يعني نفسه وإياهم ، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء ، وهم طلبوها سفهاً وجهلاً { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك ، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً ، حتى افتتنوا وضلوا { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء } تضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك ، وتهدي العالمين بك الثابتين بالقول الثابت . وجعل ذلك إضلالاً من الله وهدى منه ، لأن محنته لما كانت سبباً لأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام { أَنتَ وَلِيُّنَا } مولانا القائم بأمورنا { واكتب لَنَا } وأثبت لنا وأقسم { فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ } عافية وحياة طيبة وتوفيقاً في الطاعة { وَفِي الآخرة } الجنة { هُدْنَا إِلَيْكَ } تبنا إليك . وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب . والهود : جمع هائد ، وهو التائب . ولبعضهم :
يَا رَاكِبَ الذّنْبِ هُدْهُد ... واسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُد
وقرأ أبو وجرة السعدي : "هدنا إليك" بكسر الهاء ، من هاده يهيده إما حرّكه وأماله . ويحتمل أمرين ، أن يكون مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حرّكنا إليك وأملنا على تقدير : فعلنا ، كقولك : عدت يا مريض بكسر العين ، فعلت من العيادة .
(2/296)

ويجوز : عدت بالإشمام . وعدت ، بإخلاص الضمة فيمن قال : عود المريض . وقول القول . ويجوز على هذه اللغة أن يكون { هُدْنَا } بالضم فعلنا من هاده يهيده { عَذَابِى } من حاله وصفته أني { أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة . وأمّا { رَّحْمَتِى } فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء ، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلاّ وهو متقلب في نعمتي . وقرأ الحسن : "من أساء" من الإساءة . فسأكتب هذه الرحمة كتبه خاصة منكم يا بني إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون ، لا يكفرون بشيء منها { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول } الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن { النبى } صاحب المعجزات { الذى يَجِدُونَهُ } يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل { مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل . . . وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات } ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة ، كالشحوم وغيرها . أو ما طاب في الشريعة والحكم ، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح ، وما خلي كسبه من السحت ، ويحرّم عليهم الخبائث ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به أو ما خبث في الحكم ، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة . الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته ، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم ، وكذلك الأغلال . مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة ، نحو : بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم ، وتحريم العروق في اللحم ، وتحريم السبت . وعن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم . وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة . وقرىء : "آصارهم" على الجمع { وَعَزَّرُوهُ } ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ . وقرىء بالتخفيف . وأصل العزر : المنع . ومنه التعزير للضرب دون الحدّ ، لأنه منع عن معاودة القبيح . ألا ترى إلى تسميته الحدّ ، والحدّ هو المنع . و { النور } القرآن . فإن قلت : ما معنى قوله { أُنزِلَ مَعَهُ } وإنما أنزل مع جبريل؟ قلت : معناه أنزل مع نبوّته ، لأنّ استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به . ويجوز أن يعلق باتبعوا . أي : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهي عنه ، أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه .
(2/297)

فإن قلت : كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت : لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل ، أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى ، وعرّض بذلك في قوله : { والذين هُم بآياتنا يُؤْمِنُونَ } وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين لطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح ، وفي أن يحشروا معهم ولا يفرّق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله التي وسعت كل شيء .
(2/298)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
{ إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } قيل : بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجنّ . وجميعاً : نصب على الحال من إليكم . فإن قلت : { الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } ما محله؟ قلت : الأحسن أن يكون منتصباً بإضمار أعني ، وهو الذي يسمى النصب على المدح . ويجوز أن يكون جراً على الوصف ، وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله إليكم . { إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } وقوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } بدل من الصلة التي هي له ملك السموات والأرض ، وكذلك { يُحْىِ وَيُمِيتُ } وفي { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } بيان للجملة قبلها ، لأنّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة . وفي يحيي ويميت : بيان لاختصاصه بالإلهية ، لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره { وكلماته } وما أنزل عليه وعلى من تقدّمه من الرسل من كتبه ووحيه . وقرىء : "وكلمته" على الإفراد وهي القرآن . أو أراد جنس ما كلم به . وعن مجاهد : أراد عيسى ابن مريم . وقيل : هي الكلمة التي تكوّن [ عنها ] عيسى وجميع خلقه ، وهي قوله : { كُنَّ } وإنما قيل إن عيسى كلمة الله ، فخصّ بهذا الاسم ، لأنه لم يكن لكونه سبب غير الكلمة ، ولم يكن من نطفة تمنى { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إرادة أن تهتدوا . فإن قلت : هلا قيل : فآمنوا بالله وبي ، بعد قوله : { إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } ؟ قلت : عدل من المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه ، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة ، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته ، كائناً من كان ، أنا أو غيري ، إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه .
(2/299)

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ } هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل ، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى ، ذكر أنّ منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق ، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم . وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون ، أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به من أعقابهم . وقيل : إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا ، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين ، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا . وذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 400 ) " أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا : لا . قال : هذا محمد النبي الأميّ ، فآمنوا به وقالوا : يا رسول الله ، إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد ، فليقرأ عليه مني السلام فردّ محمد على موسى عليهما السلام السلام ، ثم أقرؤهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم ، وكانوا يسبتون ، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت " وعن مسروق . قرىء : بين يدي عبد الله فقال رجل : إني منهم ، فقال : عبد الله : يعني لمن كان في مجلسه من المؤمنين : وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئاً من يهدي بالحق وبه يعدل ، وقيل : لو كانوا في طرف من الدنيا متمسكين بشريعة ولم يبلغهم نسخها كانوا معذورين . وهذا من باب الفرض والتقدير وإلاّ فقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق ، وتغلغل في كل نفق ، ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا برّ ولا بحر في مشارق الأرض ومغاربها ، وإلاّ وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائلهم عنه يوم القيامة .
(2/300)

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{ وقطعناهم } وصيرناهم قطعاً ، أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض لقلة الألفة بينهم . وقرىء : "وقطعناهم" بالتخفيف { اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا } كقولك : اثنتي عشرة قبيلة . والأسباط : أولاد الولد ، جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام . فإن قلت : مميز ما عدا العشرة مفرد ، فما وجه مجيئه مجموعاً؟ وهلاّ قيل : اثني عشر سبطاً؟ قلت : لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد : وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة ، وكل قبيلة أسباط لا سبط ، فوضع أسباطاً موضع قبيلة . ونظيره :
بينَ رِمَاحِيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ ... و { أُمَمًا } بدل من اثنتي عشرة بمعنى : وقطعناهم أمماً لأنّ كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد ، وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمّه الأخرى ، لا تكاد تأتلف . وقرىء : "اثنتي عشرة" بكسر الشين { فانبجست } فانفجرت . والمعنى واحد ، وهو الانفتاح بسعة وكثرة : قال العجاج :
وَكَيْفَ غَرْبِيّ دَالِجٍ تَبَجَّسَا ... فإن قلت : فهلا قيل : فضرب فانبجست؟ قلت : لعدم الإلباس ، وليجعل الإنبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر للدلالة على أنّ الموحى إليه لم يتوقف عن اتباع الأمر ، وأنه من انتفاء الشكّ عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به . من قوله : { كُلَّ أُنَاسٍ } نظير قوله : اثنتي عشرة أسباطاً ، يريد كل أمّة من تلك الأمم الثنتي عشرة ، والأناس ، اسم جمع غير تكسير ، نحو . رخال وتناء وتؤام وأخوات لها . ويجوز أن يقال : إن الأصل الكسر والتكسير ، والضمة بدل من الكسرة ، كما أبدلت في نحو . سكارى وغيارى من الفتحة { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام } وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه ، و { كُلُواْ } على إرادة القول { وَمَا ظَلَمُونَا } وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم ، ولكن كانوا يضرون أنفسهم . ويرجع وبال ظلمهم إليهم .
(2/301)

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } واذكر إذ قيل لهم . والقرية : بيت المقدس . فإن قلت : كيف اختلفت العبارة ههنا وفي سورة البقرة؟ قلت : لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض . ولا تناقض بين قوله ، اسكنوا هذه القرية وكلوا منها ، وبين قوله : فكلوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، وسواء قدّموا الحطة على دخول الباب أو أخروها ، فهم جامعون في الإيجاد بينهم ، وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته ، وقوله : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم سَنَزِيدُ المحسنين } موعد بشيئين : بالغفران ، وبالزيادة ، وطرح الواو لا يخلّ بذلك ، لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل : وماذا بعد الغفران؟ فقيل له : سنزيد المحسنين ، وكذلك زيادة { مِنْهُمْ } زيادة بيان ، وأرسلنا ، وأنزلنا . و { يَظْلِمُونَ } ويفسقون من واد واحد . وقرىء : "يغفر لكم خطيئاتكم" "وتغفر لكم خطاياكم" . و "خطيئاتكم" ، و" خطيئتكم" ، على البناء للمفعول .
(2/302)

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
{ وسلهم } وسل اليهود . وقرىء : "واسألهم" . وهذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلاّ بكتاب أو وحي ، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم ، علم أنه من جهة الوحي . ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك : أعدوتم في السبت؟ والقرية أيلة . وقيل : مدين . وقيل : طبرية . والعرب تسمي المدينة قرية . وعن أبي عمرو بن العلاء . ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج ، يعني رجلين من أهل المدن { كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } قريبة منه راكبة لشاطئه { إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت } إذ يتجاوزون حدّ الله فيه ، وهو اصطيادهم في يوم السبت ، وقد نهوا عنه . وقرىء : "يعدّون" بمعنى يعتدون ، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين ، ويُعدّون من الإعداد ، وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت ، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة . والسبت : مصدر سبتت اليهود ، إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد ، فمعناه : يعدّون في تعظيم هذا اليوم ، كذلك قوله : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } معناه يوم تعظيمهم أمر السبت . ويدل عليه قوله : { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } [ و ] قراءة عمر بن عبد العزيز : "يوم إسباتهم" ، وقرىء : "لا يسبتون" ، بضم الباء . وقرأ علي : "لا يسبتون" بضم الياء ، من أسبتوا . وعن الحسن : "لا يسبتون" على البناء للمفعول ، أي لا يدار عليهم السبت ، ولا يؤمرون بأن يسبتوا ، فإن قلت : إذ يعدون ، وإذ تأتيهم ، ما محلهما من الإعراب؟ قلت : أمّا الأوّل فمجرور بدل من القرية ، والمراد بالقرية أهلها ، كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت ، وهو من بدل الاشتمال . ويجوز أن يكون منصوباً بكانت ، أو بحاضرة . وأمّا الثاني فمنصوب بيعدون . ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل . والحيتان السمك ، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة { شُرَّعًا } ظاهرة على وجه الماء . وعن الحسن : تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض . يقال شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا . وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا { كذلك نَبْلُوهُم } أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم { وَإِذْ قَالَتِ } معطوف على إذ يعدون ، وحكمه حكمه في الإعراب { أُمَّةٌ مّنْهُمْ } جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم ، حتى أيسوا من قبولهم ، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم { أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا } لتماديهم في الشرّ . وإنما قالوا ذلك ، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم { قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } أي : موعظتنا إبلاء عذر إلى الله ، ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء .
(2/303)

وقرىء : "معذرة" بالنصب ، أي وعظناهم معذرة إلى ربكم ، أو اعتذرنا معذرة { فَلَمَّا نَسُواْ } يعني أهل القرية ، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا } الظالمين الراكبين للمنكر . فإن قلت : الأمة الذين قالوا { لِمَ تَعِظُونَ } من أي الفريقين هم أمن فريق الناجين أم المعذبين قلت من فريق الناجين ، لأنهم من فريق الناهين . وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه ، حيث لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال القوم . وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه ، سقط عنه النهي ، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث . ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه ، كان ذلك عبثاً منك ، ولم يكن إلاّ سبباً للتلهي بك . وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إمّا لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين ، ولم يخبروهم كما خبروهم ، أو لفرط حرصهم وجدّهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } [ الكهف : 6 ] وقيل : الأمة هم الموعوظون ، لما وعظوا قالوا للواعظين : لم تعظون منا قوما تزعمون أنّ الله مهلكهم أو معذبهم؟ وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا : لم تعظون قوماً؟ قال عكرمة : فقلت : جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ، فلم أزل به حتى عَرَّفْته أنهم قد نجوا . وعن الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة ، وهم الذين أخذوا الحيتان . وروي : أنّ اليهود أُمروا باليوم الذي أُمرنا به وهو يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السبت ، فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد ، وأمروا بتعظيمه ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض ، لا يرى الماء من كثرتها ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم جاءهم إبليس فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، فلا تقدر على الخروج منها . وتأخذونها يوم الأحد ، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ، ثم شواه يوم الأحد ، فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال له : إني أرى الله سيعذبك ، فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين ، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم ، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا ، وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ، فصار أهل القرية أثلاثاً ، ثلث نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً ، وثلث قالوا : لم تعظون قوماً؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة .
(2/304)

فلما لم ينتهوا قال المسلمون : إنا لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار : للمسلمين باب ، وللمعتدين باب . ولعنهم داود عليه السلام ، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إنّ للناس شأناً ، فعلوا الجدار فنطروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الأنس ، والأنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود ، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي ، فيقول : ألم ننهك فيقول برأسه : بلى ، وقيل : صار الشباب قردة ، والشيوخ خنازير . وعن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها ، أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة ، هاه وايم الله ، ما حوتٌ أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم . ولكن الله جعل موعداً ، والساعة أدهى وأمرّ { بَئِيسٍ } شديد . يقال : بؤس يبؤس بأساً ، إذا اشتدّ ، فهو بئيس . وقرىء : "بئس" ، بوزن حَذِر . وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء . كما يقال : كبد في كبد . وبيس على قلب الهمزة ياء ، كذيب في ذئب ، وبيئس على فيعل ، بكسر الهمزة وفتحها ، وبيس بوزن ريس ، على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها ، وبيس على تخفيف بيس ، كهين في هين . وبائس على فاعل { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ } فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه ، كقوله : { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } [ الأعراف : 77 ] ، { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً } عبارة عن مسخهم قردة ، كقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] والمعنى : أنّ الله تعالى عذبهم أوّلاً بعذاب شديد ، فعتوا بعد ذلك فمسخهم . وقيل : فلما عتوا ، تكرير لقوله : { فَلَمَّا نَسُواْ } والعذاب البئيس : هو المسخ .
(2/305)

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } عزم ربك ، وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام؛ لأنّ العازم على الأمر يحدّت نفسه به ويؤذنها بفعله ، وأجرى مجرى فعل القسم ، كعلم الله ، وشهد الله . ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله : { لَيَبْعَثَنَّ } والمعنى : وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود { إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب } فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس ، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر . ومعنى ليبعثن عليهم ليسلطنّ عليهم ، كقوله : { بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد }
[ الأسراء : 5 ]
(2/306)

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{ وقطعناهم فِي الارض أُمَمًا } وفرّقناهم فيها ، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم { مّنْهُمُ الصالحون } الذين آمنوا منهم بالمدينة ، أو الذين وراء الصين { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه ، وهم الكفرة والفسقة . فإن قلت : ما محل دون ذلك؟ قلت : الرفع ، وهو صفة لموصوف محذوف ، معناه : ومنهم ناس منحطون عن الصلاح ، ونحوه { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 64 ] بمعنى : وما منا أحد إلاّ له مقام { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالنعم والنقم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فينيبون { فَخَلَفَ } من بعد المذكورين { خَلْفٌ } وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَرِثُواْ الكتاب } التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ، ولا يعملون بها { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى } أي حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتع به منها . وفي قوله : { هذا الأدنى } تخسيس وتحقير . والأدنى : إما من الدنوّ بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب ، وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها ، والمراد : ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } لا يؤاخذنا الله بما أخذنا . وفاعل { سَيُغْفَرُ } الجار والمجرور ، وهو { لَنَا } ويجوز أن يكون الأخذ الذي هو مصدر يأخذون { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال ، أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم ، غير تائبين . وغفران الذنوب لا يصحّ إلاّ بالتوبة ، والمصر لا غفران له { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب } يعني قوله في التوراة : من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلاّ بالتوبة { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب ، والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى . وعن مالك بن دينار رحمه الله ، يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به ، قالوا : سيغفر لنا ، لأنا لم نشرك بالله شيئاً ، كل أمرهم إلى الطمع ، خيارهم فيهم المداهنة ، فهؤلاء من هذه الأمّة أشباه الذين ذكرهم الله ، وتلا الآية { والدار الآخرة خَيْرٌ } من ذلك العرض الخسيس { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الرشا ومحارم الله . وقرىء : ""ورثوا الكتاب" ، ( وإلاّ تقولوا ) ، بالتاء . وادّارسو ، بمعنى تدارسوا . وأفلا تعقلون ، بالياء والتاء . فإن قلت : ما موقع قوله : { أَلا يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } ؟ قلت : هو عطف بيان لميثاق الكتاب . ومعنى ميثاق الكتاب . الميثاق المذكور في الكتاب . وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله . وتقوّل عليه ما ليس بحق . وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان { أَن لاَّ يِقُولُواْ } مفعولاً له . ومعناه : لئلا يقولوا . ويجوز أن تكون { أَن } مفسرة ، و { لاَ تَقُولُواْ } نهياً ، كأنه قيل : ألم يقل لهم لا تقولوا على الله إلاّ الحق؟ فإن قلت : علام عطف قوله : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } ؟ قلت : على { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم } ، لأنه تقرير ، فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه .
(2/307)

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{ والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } والمعنى : إنا لا نضيع أجرهم؛ لأنّ المصلحين في معنى الذين يمسكون بالكتاب ، كقوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] والثاني : أن يكون مجروراً عطفاً على الذين يتقون ، ويكون قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراضاً . وقرىء : "يمسكون" بالتشديد . وتنصره قراءة أبيّ : "والذين مسكوا بالكتاب" ، فإن قلت : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة . ومنها إقامة الصلاة ، فكيف أفردت؟ قلت : إظهار لمزية الصلاة لكونها عماد الدين ، وفارقه بين الكفر والإيمان . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : "والذين استمسكوا بالكتاب" .
(2/308)

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{ وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } قلعناه ورفعناه ، كقوله : { ورفعنا فوقهم الطور } . ومنه : نتق السقاء ، إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه . والظلة : كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب . وقرىء بالطاء ، من أطل عليه إذا أشرف { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } وعلموا أنه ساقط عليهم ، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة . لغلظها وثقلها ، فرفع الله الطور على رؤسهم مقدار عسكرهم ، وكان فرسخاً في فرسخ . وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعن عليكم ، فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلاّ على حاجبه الأيسر ، ويقولون : هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة ، ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله . لم يبق جبل ولا شجر ولا حجر إلاّ اهتز ، فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه { خُذُواْ مَا ءاتيناكم } على إرادة القول . أي : وقلنا خذوا ما آتيناكم ، أو قائلين : خذوا ما آتيناكم من الكتاب { بِقُوَّةٍ } وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه { واذكروا مَا فِيهِ } من الأوامر والنواهي ولا تنسوه ، أو اذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه . ويجوز أن يراد : خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوّة إن كنتم تطيقونه ، كقوله : { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض } [ الرحمن : 33 ] فانفذوا . { واذكروا مَا فِيهِ } من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما أنتم عليه . وقرأ ابن مسعود : "وتذكروا" وقرىء : "واذّكروا" ، بمعنى وتذكروا .
(2/309)

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
{ مِن ظُهُورِهِمْ } بدل من بني آدم بدل البعض من الكل . ومعنى أخذ ذرّياتهم من ظهورهم : إخراجهم من أصلابهم نسلاً وإشهادهم على أنفسهم . قوله : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا } من باب التمثيل والتخييل !ا ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا ، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك . وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه [ الصلاة و ] السلام ، وفي كلام العرب . ونظيره قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، { فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وقوله :
إِذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ ... قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا قَرْقَارِ ... ومعلوم أنه لا قول ثَمَّ ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى { وأَن تَقُولُواْ } مفعول له ، أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول ، كراهة { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } لم ننبه عليه { أو } كراهة { أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذرية من بعدهم } فاقتدينا بهم ، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء . كما لا عذر لآبائهم في الشرك - وأدلة التوحيد منصوبة لهم - فإن قلت : بنو آدم وذرّياتهم من هم؟ قلت : عنى ببني آدم : أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله ، حيث قالوا : عزير ابن الله . وبذرياتهم : الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم . والدليل على أنها من المشركين وأولادهم : قوله : { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } والدليل على أنها في اليهود : الآيات التي عطفت عليها هي ، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها ، وذلك قوله : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية } [ الأعراف : 163 ] ، { وإِذْ قَالَتِ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ } [ الأعراف : 164 ] ، { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } [ الأعراف : 167 ] ، { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } [ الأعراف : 171 ] . { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا } [ الأعراف : 175 ] . { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } أي كانوا السبب في شركنا؛ لتأسيسهم الشرك ، وتقدّمهم فيه ، وتركه سنة لنا { وكذلك } ومثل ذلك التفصيل البليغ { نُفَصّلُ الآيات } لهم { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها . وقرىء : "ذريتهم" على التوحيد . وأن يقولوا : بالياء .
(2/310)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{ واتل عَلَيْهِمْ } على اليهود { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا } هو عالم من علماء بني إسرائيل . وقيل : من الكنعانيين ، اسمه بلعم بن باعوراء أوتي علم بعض كتب الله { فانسلخ مِنْهَا } من الآيات ، بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له . أو فأتبعه خطواته . وقرىء : "فاتبعه" بمعنى فتبعه { فَكَانَ مِنَ الغاوين } فصار من الضالين الكافرين . روي أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا عليه ولم يزالوا به حتى فعل { وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا } لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض } مال إلى الدنيا ورغب فيها . وقيل : مال إلى السفالة . فإن قلت : كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع قلت المعنى . ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها . وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة . والمراد : ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها . ألا ترى إلى قوله : { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله ، فوجب أن يكون { وَلَوْ شِئْنَا } في معنى ما هو فعله ، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب } فصفته التي هي مثل في الخسّة والضعة كصفة الكلب في أخسّ أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به واتصاله ، سواء حمل عليه - أي شدّ عليه وهيج فطرد - أو ترك غير متعرّض له بالحمل عليه . وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلاّ إذا هيج منه وحرّك ، وإلاّ لم يلهث ، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعاً ، وكان حق الكلام أن يقال : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته ، فوضع قوله { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب } موضع حططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنه ، الكلب منقطع الفؤاد ، يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه . وقيل : معناه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال ، كالكلب إن طردته فسعى لهث ، وإن تركته على حاله لهث . فإن قلت : ما محل الجملة الشرطية؟ قلت : النصب على الحال ، كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين . وقيل : لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره ، وجعل يلهث كما يلهث الكلب { ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } من اليهود بعد ما قرؤا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وذكر القرآن المعجز وما فيه ، وبشروا الناس باقتراب مبعثه ، وكانوا يستفتحون به { فاقصص } قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فيحذرون مثل عاقبته ، إذا ساروا نحو سيرته ، وزاغوا شبه زيغه ، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحي فيزدادوا إيقاناً بك وتزداد الحجة لزوماً لهم .
(2/311)

سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
{ سَاء مَثَلاً القوم } أي مثل القوم . أو ساء أصحاب مثل القوم . وقرأ الجحدري : "ساء مثل القوم" . { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } إما أن يكون معطوفاً على كذبوا ، فيدخل في حيز الصلة بمعنى : الذين جمعوا بين التكذيب ، بآيات الله وظلم أنفسهم . وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة ، بمعنى : وما ظلموا إلاّ أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول به للاختصاص ، كأنه قيل : وخصّوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها .
(2/312)

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
{ فَهُوَ المهتدى } حمل على اللفظ . و { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حمل على المعنى .
(2/313)

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس } هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم . وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحقّ ، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار ، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر ، كأنهم عدموا فهم القلوب ، وإبصار العيون واستماع الآذان . وجعلهم - لإعراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه ، وأنه لا يأتي منهم إلاّ أفعال أهل النار - مخلوقين للنار ، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ومنه كتاب عمر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد : بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دَلُوكاً عجن بخمر وإني لأظنكم آل المغيرة ذرء النار . ويقال لمن كان عريقاً في بعض الأمور : ما خلق فلان إلاّ لكذا . والمراد وصف حال اليهود في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع علمهم أنه النبي الموعود . وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم ، كأنهم خلقوا للنار { أُوْلَئِكَ كالانعام } في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر { أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون } الكاملون في الغفلة . وقيل : الأنعام تبصر منافعها ومضارّها فتلزم بعض ما تبصره ، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار .
(2/314)

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{ وَللَّهِ الاسماء الحسنى } التي هي أحسن الأسماء؛ لأنها تدلّ على معان حسنة من تمجيد وتقديس وغيرذلك { فادعوه بِهَا } فسموه بتلك الأسماء { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحقّ والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى ، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه ، كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم : يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، يانخي . أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى . نحو أن يقولوا : يا ألله ، ولا يقولوا : يا رحمن وقد قال الله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيَّامًا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] ويجوز أن يراد : ولله الأوصاف الحسنى ، وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق فصفوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها ، وقيل : إلحادهم في أسمائه : تسميتهم الأصنام آلهة ، واشتقاقهم اللات من الله ، والعزى من العزيز .
(2/315)

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
لما قال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا } [ الأعراف : 179 ] فأخبر أنّ كثيراً من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار ، أتبعه قوله : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 401 ) أنه كان يقول إذا قرأها : " هذه لكم " وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ، { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } [ الأعراف : 159 ] وعنه صلى الله عليه وسلم :
( 402 ) "إنّ من أمّتي قوماً على الحقّ حتى ينزل عيسى عليه السلام" وعن الكلبي : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب . وقيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين .
(2/316)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
الاستدراج : استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد ، أو الاستنزال درجة بعد درجة . قال الأعشى :
فَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَرَقِيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّم
لَيَسْتَدرِجَنَّكَ الْقَوْلُ حَتَّى تَهَرَّه ... وَتَعْلَمَ أَنِي عَنْكُمْ غَيْرَ مُفْحَمِ
ومنه : درج الصبي إذا قارب بين خطاه . وأدرج الكتاب : طواه شيئاً بعد شيء . ودرج القوم : مات بعضهم في أثر بعض . ومعنى { سَنَسْتَدْرِجُهُم } سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ما يراد بهم ، وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع أنهماكهم في الغيّ . فكلّما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصية ، فيتدرّجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ، ظانين أنّ مواترة النعم أثرة من الله وتقريب ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهو استدراج الله تعالى ، نعوذ بالله منه { وَأُمْلِى لَهُمْ } عطف على { سَنَسْتَدْرِجُهُم } وهو داخل في حكم السين { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد ، من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان { مَا بِصَاحِبِهِم } بمحمد صلى الله عليه وسلم { مّن جِنَّةٍ } من جنون ، وكانوا يقولون شاعر مجنون . وعن قتادة :
( 403 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم علا الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوِّت إلى الصباح { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ } نظر استدلال { فِى مَلَكُوتِ السماوات والأرض } فيما تدلاّن عليه من عظم الملك . والملكوت : الملك العظيم { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء ومن أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف { وَأَنْ عسى } أن مخففة من الثقيلة ، والأصل : أنه عسى ، على أن الضمير ضمير الشأن . والمعنى : أو لم ينظروا في أنّ الشأن والحديث عسى { أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } ولعلهم يموتون عما قريب ، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم . قبل مغافصة الأجل وحلول العقاب ويجوز أن يراد باقتراب الأجل : اقتراب الساعة ، ويكون من "كان" التي فيها ضمير الشأن . فإن قلت : بم يتعلق قوله : { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : بقوله : { عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } كأنه قيل : لعلّ أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ ، وبأيّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا .
(2/317)

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قرىء : "ويذرهم" بالياء والنون ، والرفع على الاستئناف ، ويذرهم ، بالياء والجزم عطفاً على محل { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم .
(2/318)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{ يَسْئَلُونَكَ } قيل : إن قوماً من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً ، فإنا نعلم متى هي ، وكان ذلك امتحاناً منهم ، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها . وقيل : السائلون قريش . و { الساعة } من الأسماء الغالبة ، كالنجم للثريا . وسميت القيامة بالساعة ، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو على العكس لطولها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق . { أَيَّانَ } بمعنى متى . وقيل؛ اشتقاقه من أيّ فعلان منه ، لأنّ معناه أيّ وقت وأيّ فعل ، من أويت إليه ، لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه ، قاله ابن جني ، وأبى أن يكون من "أين" لأنّه زمان ، "وأين" مكان . وقرأ السلمي "إيان" بكسر الهمزة { مرساها } إرساؤها ، أو وقت إرسائها؛ أي إثباتها وإقرارها . وكل شيء ثقيل رسّوه ثباته واستقراره . ومنه رسي الجبل وأرسي السفينة . والمرسى : الأنجر الذي ترسى به ، ولا أثقل من الساعة ، بدليل قوله { ثَقُلَتْ فِى السماوات والأرض } والمعنى حتى يرسيها الله { إِنَّمَا عِلْمُهَا } أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به ، ولم يخبر به أحداً من ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، يكاد يخفيها من نفسه ، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } أي لا تزال خفية ، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلاّ هو وحده إذا جاء في وقتها بغتة ، لا يجليها بالخبر عنها قبل مجيئها أحد من خلقه ، لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها { ثَقُلَتْ فِى السماوات والأرض } أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ، وبودّه أن يتجلى له علمها وشقّ عليه خفاؤها وثقل عليه . أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها . أو لأنّ كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها { إِلاَّ بَغْتَةً } إلاّ فجأة على غفلة منكم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 404 ) " إنَّ الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقوّم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه " { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها . وحقيقته : كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأنّ من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه ، استحكم فيه ورصن وهذا التركيب معناه المبالغة . ومنه إحفاء الشارب . إحتفاء البقل : استئصاله . وأحفى في المسألة ، إذا ألحف وحفي بفلان وتحفى به : بالغ في البرّ به . وعن مجاهد : استحفيت عنها السؤال حتى علمت . وقرأ ابن مسعود : "كأنك حفيّ بها" أي عالم بها بليغ في العلم بها . وقيل : { عَنْهَا } متعلق بيسئلونك : أي يسئلونك عنها كأنك حفيّ أي عالم بها .
(2/319)

وقيل : إن قريشاً قالوا له إن بيننا وبينك قرابة ، فقل لنا متى الساعة؟ فقيل : يسئلونك عنها كأنك حفيّ تتحفى بهم فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوي علمها عن غيرهم ، ولو أخبرت بوقتها لمصلحة عرفها الله في إخبارك به ، لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص ، كسائر ما أوحي إليك . وقيل : كأنك حفيّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره ، يعني أنك تكره السؤال عنها لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً من خلقه . فإن قلت : لم كرر يسئلونك وإنما علمها عند الله؟ قلت : للتأكيد ، ولما جاء به من زيادة قوله : { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة زائدة ، منهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنه العالم بها ، وأنه المختص بالعلم بها .
(2/320)

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى } هو إظهار للعبودية والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب : أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرركما المماليك والعبيد { إِلاَّ مَا شَاء } ربي ومالكي من النفع لي والدفع عني { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب } لكانت حالي على خلاف ما هي عليه ، من استكثار الخير ، واستغزار المنافع ، واجتناب السوء والمضارّ ، حتى لا يمسني شيء منها . ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب . ورابحاً وخاسراً في التجارات ، ومصيباً [ و ] مخطئاً في التدابير { إِنْ أَنَا إِلاَّ } عبد أرسلت نذيراً وبشيراً ، وما من شأني أني أعلم الغيب { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يجوز أن يتعلق بالنذير والبشير جميعاً ، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم . أو يتعلق بالتبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير محذوفاً أي إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون .
(2/321)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
{ مّن نَّفْسٍ واحدة } وهي نفس آدم عليه السلام { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء ، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه . أو من جنسها كقوله : { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } [ النمل : 72 ] { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر؛ لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس ، وإذا كانت بعضاً منه كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه . وقال : { لِيَسْكُنَ } فذكر بعد ما أنث في قوله : "واحدة" "منها زوجها" ، ذهابا إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم . ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها ، فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى . والتغشي : كناية عن الجماع ، وكذلك الغشيان والإتيان { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } خف عليها ، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالي من حملهن من الكرب والأذى ، ولم تستثقله كما يستثقلنه . وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها : ما كان أخفه على كبدي حين حملته { فَمَرَّتْ بِهِ } فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق وقيل : { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } يعني النطفة { فَمَرَّتْ بِهِ } فقامت به وقعدت . وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : "فاستمرت به" وقرأ يحيى بن يعمر "فمرت به" بالتخفيف . وقرأ غيره "فمارت به" من المرية ، كقوله : { أفتمارونه } وأفتمرونه . ومعناه : فوقع في نفسها ظن الحمل ، فارتابت به . { فَلَمَّا أَثْقَلَت } حان وقت ثقل حملها كقولك : أقربت . وقرىء "أُثقلت" ، على البناء للمفعول : أي أثقلها الحمل { دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا } دعا آدم وحواء رَبَّهما ومالِكَ أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا : { لَئِنْ ءاتَيْتَنَا } لئن وهبت لنا { صالحا } ولداً سوياً قد صلح بدنه وبرىء . وقيل : ولداً ذكراً ، لأن الذكورة من الصلاح والجودة . والضمير في { ءَاتَيْتَنَا } و { لَّنَكُونَنَّ } . لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما { فَلَمَّا ءاتاهما } ما طلباه من الولد الصالح السويّ { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } أي جعل أولادهما له شركاء ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك { فِيمَا ءاتاهما } أي آتى أولادهما ، وقد دلّ على ذلك بقوله : { فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } حيث جمع الضمير . وآدم وحواء بريئان من الشرك . ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله : تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة ، وعبد شمس وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم . ووجه آخر وهو أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم آل قصي ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد .
فَيَا لَقُصَيّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُم ... بِهِ مِنْ فَخَارٍ لاَ يُبَارَى وَسُودَدِ
ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصيّ ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما ، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصيّ وعبد الدار ، وجعل الضمير في { يُشْرِكُونَ } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك ، وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه . وقرىء "شركا" ، أي ذوي شرك وهم الشركاء ، أو أحدثا لله شركاً في الولد .
(2/322)

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
أجريت الأصنام مجرى أولي العلم في قوله : { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة . والمعنى : أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله ، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم . أو لا يقدر على اختلاق شيء ، لأنه جماد ، وهم يخلقون؛ لأن عبدتهم يختلقونهم ، فهم أعجز من عبدتهم { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } لعبدتهم { نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث ، بل عبدتهم هم الذي يدفعون عنهم ويحامون عليهم { وَإِن تَدْعُوهُمْ } وإن تدعوا هذه الأصنام { إِلَى الهدى } أي إلى ما هو هدى ورشاد ، وإلى أن يهدوكم . والمعنى : وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى ، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله . ويدل عليه قوله : { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين } { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ } أم صمتم عن دعائهم ، في أنه لا فلاح معهم . فإن قلت : هلا قيل : أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الإسمية موضع الفعلية؟ قلت : لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم ، كقوله : { وإذا مس الناس ضرّ } [ الروم : 33 ] فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم ، فقيل : إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم ، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم .
(2/323)

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } وقوله : { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } استهزاء بهم ، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم . ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } وقيل : عباد أمثالكم مملوكون أمثالكم . وقرأ سعيد بن جبير : "إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم" بتخفيف إن ونصب عباداً أمثالكم ، والمعنى : ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم ، على إعمال "إن" النافية عمل "ما" الحجازية { قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ } واستعينوا بهم في عداوتي { ثُمَّ كِيدُونِ } جميعاً أنتم وشركاؤكم { فَلاَ تُنظِرُونِ } فإني لا أبالي بكم ، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله ، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك ، كما قال قوم هود له : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء } [ هود : 54 ] قال لهم : { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 55 ] .
(2/324)

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
{ إِنَّ وَلِيّىَ الله } أي ناصري عليكم الله { الذى نَزَّلَ الكتاب } الذي أوحى إلي كتابه وأعزني برسالته { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم .
(2/325)

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } يشبهون الناظرين إليك ، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه { وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } وهم لا يدركون المرئيّ .
(2/326)

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{ العفو } ضد الجهد : أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم ، وتسهل من غير كلفة ، ولا تداقهم ، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا ، كقوله صلى الله عليه وسلم :
( 405 ) " يسروا ولا تعسروا " قال :
خذِي الْعَفْوَ مِني تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلاَ تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وقيل : خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل نزول آية الزكاة ، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرهاً . والعرف : المعروف والجميل من الأفعال { وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } ولا تكافىء السفهاء بمثل سفههم ، ولا تمارهم ، واحلم عنهم ، وأغض على ما يسوؤك منهم . وقيل :
( 406 ) لما نزلت الآية سأل جبريل ( ما هذا ) فقال : لا أدري حتى أسأل [ العالم ] ، ثم رجع فقال : "يا محمد" إن ربك أمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك" . وعن جعفر الصادق : أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها .
(2/327)

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } وإما ينخسنّك منه نخس ، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به { فاستعذ بالله } ولا تطعه . النزغ والنسغ : الغرز والنخس ، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي . وجعل النزغ نازغاً ، كما قيل جدّ جدّه . وروي :
( 407 )
أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يا رب والغضب فنزل { وإما ينزعنَّك من الشيطان نزع } ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب ، كقول أبي بكر رضي الله عنه : إنّ لي شيطاناً يعتريني .
(2/328)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{ طائف مِنَ الشيطان } لمة منه مصدر ، من قولهم : طاف به الخيال يطيف طيفاً قال :
أنَّي ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ يِطيفُ ... أو هو تخفيف طيف فيعل ، من طاف يطيف كلين أو من طاف يطوف كهين . وقرىء : "طائف" ، وهو يحتمل الأمرين أيضاً . وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان ، وأنّ المتقين هذه عادتهم : إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته { تَذَكَّرُواْ } ما أمر الله به ونهى عنه ، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم . وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين ، فإن الشياطين يمدونهم في الغيِّ ، أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم . وقرىء : "يُمدّونهم" من الإِمداد . ويمادّونهم ، بمعنى يعاونونهم { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا . قوله : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ } كقوله :
قَوْم إذَا الْخَيْلُ جَالُوا في كَوَاثِبِهَا ... في أنّ الخبر جار على ما هو له . ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين ، فيكون الخبر جارياً على ما هو له ، والأوّل أوجه ، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا . فإن قلت : لم جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد؟ قلت : المراد به الجنس ، كقوله : { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } [ البقرة : 257 ] .
(2/329)

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
اجتبى الشيء ، بمعنى جباه لنفسه : أي جمعه ، كقولك : اجتمعه ، أو جبي إليه فاجتباه : أي أخذه ، كقولك : جليت إليه العروس فاجتلاها ، ومعنى { لَوْلاَ اجتبيتها } هلا اجتمعتها ، افتعالا من عند نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون : { إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ } [ سبأ : 43 ] أو هلا أخذتها منزّلة عليك مقترحة؟ { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ مّن رَّبّى } ولست بمفتعل للآيات ، أو لست بمقترح لها { هذا بصائر } هذا القرآن بصائر { مّن رَّبّكُمْ } أي حجج بينة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى ، أو هو بمنزلة بصائر القلوب .
(2/330)

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{ وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة . وقيل : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت ، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن . وقيل معناه : وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له . وقيل : معنى فاستمعوا له : فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه .
(2/331)

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
{ واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } متضرعاً وخائفاً { وَدُونَ الجهر } ومتكلماً كلاماً دون الجهر ، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر { بالغدو والأصال } لفضل هذين الوقتين . أو أراد الدوام . ومعنى بالغدوّ : بأوقات الغدو ، وهي الغدوات . وقرىء : "والإيصال" ، من آصل إذا دخل في الأصيل ، كأقصر وأعتم وهو مطابق للغدوّ { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه .
(2/332)

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{ إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ } هم الملائكة صلوات الله عليهم . ومعنى { عِندَ } دنوّ الزلفة ، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله ، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره ، وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 408 ) " من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً ، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة " .
(2/333)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
النفل : الغنيمة ، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه . قال لبيد :
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... والنفل ما ينفله الغازي ، أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم ، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب : من قتل قتيلاً فله سلبه . أو قال لسرية : ما أصبتم فهو لكم ، أو فلكم نصفه أو ربعه . ولا يخمس النفل ، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه . وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه : لا يلزم . ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر ، وفي قسمتها ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟ فقيل له : قل لهم : هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء ، ليس لأحد غيره فيها حكم . وقيل : شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا ، فقال الشبان : نحن المقاتلون ، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم [ وقالوا ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم : المغنم قليل والناس كثير : وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك . فنزلت . وعن سعد بن أبي وقاص :
( 409 ) قتل أخي عمير يوم بدر ، فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني ، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت : إنّ الله قد شفى صدري من المشركين ، فهب لي هذا السيف فقال : ليس هذا لي ولا لك ، اطرحه في القَبَضِ فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال ، فقال : يا سعد ، إنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه وعن عبادة بن الصامت :
( 410 ) نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه اخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين . وقرأ ابن محيصن : "يسألونك علنفال" بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وإدغام نون عن في اللام : وقرأ ابن مسعود : "يسألونك الأنفال" أي يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال . فإن قلت : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : { قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول } ؟ قلت : معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأي أحد ، والمراد : أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي { فاتقوا الله } في الاختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم .
(2/334)

وعن عطاء : كان الاصلاح بينهم أن دعاهم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل ، فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا ، فقال : ليردّ بعضكم على بعض . فإن قلت : ما حقيقة قوله : { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ؟ قلت : أحوال بينكم ، يعني ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، كقوله : { بِذَاتِ الصدور } [ آل عمران : 199 ] وهي مضمراتها . لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : اسقني ذا إنائك ، يريدون ما في الإناء من الشراب . وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته ، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها . ومعنى قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كنتم كاملي الإيمان . واللام في قوله : { إِنَّمَا المؤمنون } إشارة إليهم . أي إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } . { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فزعت . وعن أمّ الدرداء : الوجل في القلب كاحتراق السعفة ، أما تجد له قشعرير؟ قال : بلى ، قالت : فادع الله فإنّ الدعاء يذهبه . يعني فزعت لذكره استعظاماً له ، وتهيباً من جلاله وعزّة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه ، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } [ الزمر : 23 ] لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه . وقيل : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له : اتق الله فينزع . وقرىء "وجلت" ، بالفتح ، وهي لغة نحو "وبق" في "وبق" ، وفي قراءة عبد الله : "فَرِقَتْ" { زَادَتْهُمْ إيمانا } ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة في نفس . لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه ، وقد حمل على زيادة العمل . وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم ) :
" الإيمان سبع وسبعون شعبة ، أعلاها : شهادة أن لا إله إلا الله . وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " وعن عمر بن العزيز رضي الله عنه : إن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم ، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه . جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة { حَقّاً } صفة للمصدر المحذوف ، أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً ، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون } كقولك : هو عبد الله حقاً ، أي حق ذلك حقاً .
(2/335)

وعن الحسن أنّ رجلاً سأله : أمؤمن أنت؟ قال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن . وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا المؤمنون } فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا . وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف الآية . وهذا إلزام منه ، يعني كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً ، فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً ، وبهذا تعلق من يستثني في الإيمان . وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ممن لا يستثني فيه . وحكي عنه أنه قال لقتادة : لم تستثنى في إيمانك؟ قال : اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله : { والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] فقال له : هلا اقتديت به في قوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ البقرة : 260 ] { درجات } شرف وكرامة وعلو منزلة { وَمَغْفِرَةٌ } وتجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } نعيم الجنة . يعني لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم ، وهذا معنى الثواب .
(2/336)

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فيه وجهان أحدهما . أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره . هذه الحال كحال إخراجك . يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب . والثاني : أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله : { الانفال لِلَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] أي الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون . و { مِن بَيْتِكَ } يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مهاجره ومسكنه ، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه { بالحق } أي إخراجاً ملتبساً بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } في موضع الحال ، أي أخرجك في حال كراهتهم ، وذلك :
( 412 ) أن عير قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة معها أربعون راكباً ، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم ، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً ، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً رأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة . فحدث بها العباس فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير . في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير ، فقيل له : إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، ونقيم القينات والمعازف ببدر ، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا ، وإن محمداً لم يصب العير ، وإنا قد أعضضناه ، فمضى بهم إلى بدر - وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة - فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد؛ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين : إمّا العير ، وإمّا قريشاً ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : ما تقولون؛ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم ردّد عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدوّ ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض .
(2/337)

فوالله لو سرت إلى عدن أبين . ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله ، امض لما أمرك الله ، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس وهو يريد الأنصار ، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم . وروي :
( 413 ) أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء ، فناداه العباس وهو في وثاقه : لا يصلح فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين . وقد أعطاك ما وعدك ، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله : { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } .
(2/338)

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلقى النفير ، لإيثارهم عليه تلقي العير { بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ } بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون . وجدالهم : قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب؟ وذلك لكراهتهم القتال . ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة ، بحال من يعتل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن ، وهو مشاهد لأسبابه ، ناظر إليها لا يشك فيها . وقيل : كان خوفهم لقلة العدد ، وأنهم كانوا رجالة . وروي أنه ما كان فيهم إلا فارسان .
(2/339)

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
{ وَإِذْ } منصوب بإضمار اذكر . و { أَنَّهَا لَكُمْ } بدل من إحدى الطائفتين . والطائفتان : العير والنفير . { غَيْرَ ذَاتِ الشوكة } العير ، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً ، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم : والشوكة : الحدّة مستعارة من واحدة الشوك . ويقال : شوك القنا لشباها . ومنها قولهم : شائك السلاح ، أي تتمنون أن تكون لكم العير ، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة ، ولا تريدون الطائفة الأخرى { أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أن يثبته ويعليه { بكلماته } بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة ، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر . والدابر الآخر : فاعل من دبر . إذا أدبر . ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال ، يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم والله عز وجل يريد معالي الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ، ونصرة الحق ، وعلوّ الكلمة ، والفوز في الدارين . وشتان ما بين المرادين . ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوّتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزّكم وأذلهم ، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها . وقرىء : "بكلمته" ، على التوحيد .
(2/340)

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
فإن قلت : بم يتعلق قوله : { لِيُحِقَّ الحق } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك ، ما فعله إلا لهما . وهو إثبات الإسلام وإظهاره ، وإبطال الكفر ومحقه . فإن قلت : أليس هذا تكريراً؟ قلت : لا ، لأنّ المعنيين متباينان ، وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها ، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض . ويجب أن يقدّر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص فينطبق عليه المعنى : وقيل : قد تعلق بيقطع .
(2/341)

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
فإن قلت بم يتعلق { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ } ؟ قلت : هو بدل من { إِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] وقيل بقوله : { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بدّ من القتال ، طفقوا يدعون الله ويقولون : أي ربنا انصرنا على عدوّك ، يا غياث المستغيثين أغثنا . وعن عمر رضي الله عنه :
( 414 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف ، وإلى أصحابه وهم ثلثمائة ، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض - فما زال كذك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضي الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك " { أَنّي مُمِدُّكُمْ } أصله بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله . وعن أبي عمرو أنه قرأ : "إني ممدكم" بالكسر ، على إرادة القول ، أو على إجراء استجاب مجرى { قَالَ } لأنّ الاستجابة من القول . فإن قلت : هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت : اختلف فيه ، فقيل :
( 415 ) نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها عليّ بن أبي طالب في صور الرجال ، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم . فقاتلت : وقيل : قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين . وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً؟ قال : من الملائكة ، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم : وروي :
( 416 ) ( أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين : إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه ، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقياً وشقّ وجهه ، فحدث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقت ذاك من مدد السماء " وعن أبي داود المازني : تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي ، وقيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم ، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط ، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة . وقرىء "مردفين" بكسر الدال وفتحها ، من قولك : ردفه إذا تبعه . ومنه قوله تعالى : { رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ } [ النمل : 72 ] بمعنى ردفكم . وأردفته إياه : إذا أتبعته . ويقال : أردفته ، كقولك أتبعته ، إذا جئت بعده ، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى متبعين ، أو متبعين ، فإن كان بمعنى متبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى : متبعين بعضهم بعضاً ، أو متبعين بعضهم لبعض ، أو بمعنى : متبعين إياهم المؤمنين ، أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم ، أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ، ليكونوا على أعينهم وحفظهم .
(2/342)

أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة أخرين ، أو متبعين غيرهم من الملائكة : ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران : { بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الملئكة مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ] . { بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ومن قرأ : "مردفين" بالفتح فهو بمعنى متبعين أو متبعين . وقرىء "مردّفين" ، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال : وأصله مرتدفين ، أي مترادفين أو متبعين ، من ارتدفه ، فأدغمت تاء الافتعال في الدال ، فالتقى ساكنان فحرّكت الراء بالكسر على الأصل ، أو على إتباع الدال . وبالضم على إتباع الميم . وعن السدي : بآلاف من الملائكة . على الجمع ليوافق ما في سورة آل عمران . فإن قلت : فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين ، والمردفين بارتدافهم غيرهم؟ قلت : بأن المراد بالألف من قاتل منهم . أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم .
(2/343)

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
فإن قلت : إلام يرجع الضمير في { وَمَا جَعَلَهُ } ؟ قلت : إلى قوله : { أَنّي مُمِدُّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] لأن المعنى : فاستجاب لكم بإمدادكم . فإن قلت : ففيمن قرأ بالكسر؟ قلت : إلى قوله : { إِنّي مُمِدُّكُمْ } لأنه مفعول القول المضمر فهو في معنى القول . ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه ممدّكم { إِلاَّ بشرى } إلا بشارة لكم بالنصر ، كالسكينة لبني إسرائيل ، يعني أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم ، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر ، وتسكيناً منكم ، وربطاً على قلوبكم { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } يريد ولا تحسبوا النصر من الملائكة ، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة . أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله ، والمنصور من نصره الله .
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ } بدل ثان من { إِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] أو منصوب بالنصر ، أو بما في { مِنْ عِندِ الله } [ الأنفال : 10 ] من معنى الفعل ، أو بما جعله الله ، أو بإضمار اذكر . وقرىء "يغشيكم" بالتخفيف والتشديد ونصب النعاس والضمير لله عزّ وجل . و { أَمَنَةً } مفعول له . فإن قلت : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً؟ قلت : بلى ، ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس . تنعسون ، انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم . والمعنى : إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا ، أي لأمنكم ، و { مِّنْهُ } صفة لها : أي أمنة حاصلة لكم من الله عزّ وجلّ . فإن قلت : فعلى غير هذه القراءة قلت : يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان ، أي ينعسكم إيماناً منه . أو على يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً ، فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنعاس الذي هو فاعل يغشاكم؟ أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة ، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل؟ قلت : لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله ، وله فيه نظائر ، وقد ألم به من قال :
يَهَابُ النوْمُ أَنْ يَغْشَى عُيُونا ... تَهَابُكَ فَهُوَ نَفَّارٌ شَرُودُ
وقرىء "أمنة" بسكون الميم . ونظير "أمن أمنة" "حيي حياة" ونحو "أمن أمنة" "رحم رحمة" والمعنى : أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم ، فلما طمأن الله قلوبهم وأمنهم رقدوا وعن ابن عباس رضي الله عنه : النعاس في القتال : أمنة من الله ، وفي الصلاة : وسوسة من الشيطان { وَيُنَزِّلُ } قرىء بالتخفيف والتثقيل . وقرأ الشعبي "ما ليطهركم به" قال ابن جني : ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره ، فكأنه قال : ما للطهور .
(2/344)

و { رِجْزَ الشيطان } وسوسته إليهم ، وتخويفه إياهم من العطش . وقيل : الجنابة ، لأنها من تخييله . وقرىء "رجس الشيطان" وذلك أن إبليس تمثل لهم ، وكان المشركين قد سبقوهم إلى الماء ونزل المسلمون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء ، وناموا فاحتلم أكثرهم ، فقال لهم : أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة ، وقد عطشتم ، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش ، فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة ، فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا ، فأنزل الله عز وجل المطر ، فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحياض على عدوة الوادي ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا وتوضؤوا ، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام ، وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس . والضمير في { بِهِ } للماء . ويجوز أن يكون للربط ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت القدم في مواطن القتال .
(2/345)

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{ إِذْ يُوحِى } يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من { إِذْ يَعِدُكُمُ } [ الأنفال : 7 ] وأن ينتصب بيثبت { إِنّى مَعَكُمْ } مفعول يوحي وقرىء "إني" بالكسر على إرادة القول ، أو على إجراء يوحي مجرى يقول ، كقوله : { أَنّي مُمِدُّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] والمعنى : أني معينكم على التثبيت فثبتوهم . وقوله : { سَأُلْقِى . . . . فاضربوا } يجوز أن يكون تفسيراً لقوله : { أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ } ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم . واجتماعهما غاية النصرة . ويجوز أن يكون غير تفسير ، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال ، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة . وقيل : كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي فيقول : إني سمعت المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفنّ ، ويمشي بين الصفين فيقول : أبشروا ، فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه . وهؤلاء لا يعبدونه . وقرىء "الرعب" بالتثقيل { فَوْقَ الاعناق } أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرؤوس . وقيل : أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق ، يعني ضرب الهام . قال :
وَأضْرِبُ هَامَة الْبَطَلِ الْمُشِيحِ غَشَّيْتُهُ ... وَهْوَ فِي جَأْوَاءَ بَاسِلَة
عَضْباً أَصَابَ سَوَاءَ الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا ... والبنان : الأصابع ، يريد الأطراف . والمعنى : فاضربوا المقاتل والشوي ، لأن الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً . ويجوز أن يكون قوله { سَأُلْقِى } إلى قوله : { كُلَّ بَنَانٍ } عقيب قوله : { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به ، كأنه قال : قولوا لهم قولي : { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } أو كأنهم قالوا : كيف نثبتهم؟ فقيل : قولوا لهم قولي : { سَأُلْقِى } فالضاربون على هذا هم المؤمنون .
(2/346)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ ذلكم } إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل ، ومحله الرفع على الابتداء و { بِأَنَّهُمْ } خبره ، أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم . والمشاقة : مشتقة من الشق ، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه ، وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة فقلت : لأن هذا في عدوة وذاك في عدوة ، كما قيل : المخاصمة والمشاقة ، لأن هذا في خصم أي في جانب ، وذاك في خصم ، وهذا في شق ، وذاك في شق . والكاف في { ذلك } لخطاب الرسول عليه [ الصلاة و ] السلام ، أو لخطاب كل واحد ، وفي { ذلكم } للكفرة ، على طريقة الالتفات . ومحل { ذلكم } الرفع على ذلكم العقاب ، أو العقاب ذلكم { فَذُوقُوهُ } ويجوز أن يكون نصباً على : عليكم ذلكم فذوقوه ، كقولك : زيداً فاضربه { وَأَنَّ للكافرين } عطف على ذلكم في وجهيه ، أو نصب على أن الواو بمعنى مع . والمعنى : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، وقر الحسن "وإن للكافرين" بالكسر .
(2/347)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{ زَحْفاً } حال من الذين كفروا . والزحف : الجيش الدهم لذي يرى لكثرته كأنه يزحف ، أي يدب دبيباً ، من زحف الصبي إذا دبّ على إسته قليلاً قليلاً ، سمي بالمصدر والجمع زحوف والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفرّوا ، فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، أو حال من الفريقين . أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم ، أو حال من المؤمنين كأنهم أُشعروا بما كان سيكون منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين ، وهم زحف من الزحوف اثني عشر ألفاً ، وتقدمه نهي لهم عن الفرار يومئذٍ . وفي قوله : { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أمارة عليه { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ } هو الكرّ بعد الفرّ ، يخيل عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه ، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها { أَوْ مُتَحَيّزاً } أو منحازاً { إلى فِئَةٍ } إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها . وعن ابن عمر رضي الله عنه :
( 417 ) ( خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت ، فقلت : يا رسول الله نحن الفرّارون ، فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم ) . وانهزم رجل من القادسية ، فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين هلكت ، فررت من الزحف ، فقال عمر رضي الله عنه : أنا فئتك . وعن ابن عباس رضي الله عنه : إنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر . فإن قلت : بم انتصب { إِلاَّ مُتَحَرّفاً } ؟ قلت : على الحال ، وإلا لغو . أو على الاستثناء من المولين ، أي : ومن يولهم إلا رجلاً منهم متحرّفاً أو متحيزاً . وقرأ الحسن "دبره" بالسكون ووزن متحيز متفيعل لا متفعل ، لأنه من حاز يحوز ، فبناء متفعل منه متحوّز .
(2/348)

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر ، فكان القائل يقول : قتلت وأسرت ، ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسلك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فقال : - لما التقى الجمعان - لعلي رضي الله عنه : أعطني قبضة من حصباء الوادي ، فرمى بها في وجوههم وقال : شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه ، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، فقيل لهم { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم { ولكن الله قَتَلَهُمْ } لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم ، وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم ، وأذهب عنها الفزع والجزع { وَمَا رَمَيْتَ } أنت يا محمد { إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ ، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلاً . وقرىء "ولكن الله قتلهم" ولكن الله رمى ، بتخفيف "لكن" ورفع ما بعده { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين } وليعطيهم { بَلاء حَسَنًا } عطاء جميلاً . قال زهير :
فَأبلاَهُمَا خَيْرَ الْبَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو ... والمعنى : وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل ، وما فعله إلا لذلك { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لدعائهم { عَلِيمٌ } بأحوالهم .
(2/349)

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهمّ انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعاني ، إن كان محمد على حق فانصره ، وإن كنا على حق فانصرنا . وروي : أنهم قالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين . وروي أنّ أبا جهل قال يوم بدر : اللهمّ أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم ، أي فأهلكه . وقيل : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } خطاب للمؤمنين { وَإِن تَنتَهُواْ } خطاب للكافرين ، يعني : وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } وأسلم { وَإِن تَعُودُواْ } لمحاربته { نَعُدْ } لنصرته عليكم { وَأَنَّ الله } قرىء بالفتح على : ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك وقرىء بالكسر ، وهذه أوجه . ويعضدها قراءة ابن مسعود "والله مع المؤمنين" وقرىء "ولن يغني عنكم" بالياء للفصل .
(2/350)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{ وَلاَ تَوَلَّوْاْ } قرىء بطرح إحدى التاءين وإدغامها ، والضمير في { عَنْهُ } لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنّ المعنى : وأطيعوا رسول الله كقوله : الله ورسوله أحق أن يرضوه ، ولأنّ طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 8 ] فكأن رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما ، كقولك : الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان . ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة ، أي : ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه . أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } أي تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا } أي ادّعوا السماع { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } لأنهم ليسوا بمصدّقين فكأنهم غير سامعين . والمعنى : أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوة ، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها ، كان تصديقكم كلا تصديق ، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن . ثم قال : { إِنَّ شَرَّ الدواب } أي إن شر من يدب على وجه الأرض . أوإنّ شر البهائم الذين هم صمّ عن الحق لا يعقلونه ، جعلهم من جنس البهائم ، ثم جعلهم شرّها { وَلَوْ عَلِمَ الله } في هؤلاء الصم البكم { خَيْرًا } أي انتفاعاً باللطف { لأسْمَعَهُمْ } للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ، ثم قال : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } عنه . يعني : ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف ، فلذلك منعهم ألطافه . أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا ، وقيل : هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا رجلان : مصعب بن عمير ، وسويد بن حرملة : كانوا يقولون : نحن صم بُكم عُمي عما جاء به محمد ، لا نسمعه ولا نجيبه ، فقتلوا جميعاً بأحد ، وكانوا أصحاب اللواء . وعن ابن جريج : هم المنافقون . وعن الحسن : أهل الكتاب .
(2/351)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{ إِذَا دَعَاكُمْ } وحد الضمير كما وحده فيما قبله ، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته ، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد ، والمراد بالاستجابة . الطاعة والامتثال . وبالدعوة : البعث والتحريض . وروى أبو هريرة :
( 419 ) " أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي؟ قال : كنت أصلي . قال : ألم تخبر فيما أوحي إليّ { استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } قال : لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك " وفيه قولان ، أحدهما : إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير ، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته { لِمَا يُحْيِيكُمْ } من علوم الديانات والشرائع ، لأن العلم حياة ، كما أنّ الجهل موت . ولبعضهم :
لاَ تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُه ... فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ
وقيل لمجاهدة الكفار ، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم ، كقوله : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] وقيل للشهادة ، لقوله : { بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] . { واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } يعني أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله { واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة . وقيل : معناه إنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ، ويغير نياته ومقاصده ، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً ، وبالنسيان ذكراً ، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى . فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا ، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر ، وبينه وبين الكفر إذا آمن ، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً . وقيل معناه : أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله ، لا يخفي عليه شيء من ضمائره ، فكأنه بينه وبين قلبه . وقرىء : "بين المرّ" بتشديد الراء . ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء ، كالخب ، ثم نوى الوقف على لغة من يقول : مررت بعمر .
(2/352)

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{ فِتْنَةً } ذنبا . قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم . وقيل : افتراق الكلمة . وقيل : { فِتْنَةً } عذاباً . وقوله : { لاَّ تُصِيبَنَّ } لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر . أو نهياً بعد أمر . أو صفة لفتنة ، فإذا كان جواباً ، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بني إسرائيل نُهوا عن المنكر تعذيراً فعمهم الله بالعذاب ، وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة ، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول ، كأنه قيل : واتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبنَّ ، ونظيره قوله :
حَتَّى إذَا جَنَّ الظَّلاَمُ وَاخْتَلَط ... جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
أي بمذق مقول فيه هذا القول ، لأنه سمار فيه لون [ الورق ] التي هي لون الذئب . ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود : "لتصيبنّ" ، على جواب القسم المحذوف . وعن الحسن : نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة . قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زماناً ، وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها . وعن السدي : نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل . وروي :
( 420 ) ( أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ، إذ أقبل عليّ رضي الله عنه ، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف حبك لعليٍّ؟ فقال يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إني أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حباً . قال : فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله ) ، فإن قلت : كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت : لأنّ فيه معنى النهي ، إذا قلت : أنزل عن الدابة لا تطرحك ، فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبنّ ولا يحطمنكم . فإن قلت : فما معنى { مِنْ } في قوله : { الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ } ؟ قلت : التبعيض على الوجه الأول ، والتبيين على الثاني ، لأنَّ المعنى : لا تصيبنكم خاصة على ظلماكم؛ لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس .
(2/353)

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{ إِذْ أَنتُم } نصبه على أنه مفعول به مذكور لا ظرف : أي اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين { فِى الأرض } أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } لأن الناس كانوا جميعاً لهم أعداء منافين مضادّين { فَآوَاكُمْ } إلى المدينة { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } من الغنائم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } إرادة أن تشكروا هذه النعم وعن قتادة : كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ، وأشقاهم عيشا ، وأعراهم جلداً ، وأبينهم ضلالا ، يؤكلون ولا يأكلون ، فمكن الله لهم في البلاد ، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكاً .
(2/354)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
معنى الخون : النقص ، كما أن معنى الوفاء التمام . ومنه : تخوّنه ، إذا تنقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه ، وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب ، وخان المشتار السبب لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له . ومنه قوله تعالى : { وَتَخُونُواْ أماناتكم } والمعنى لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ، ورسوله بأن لا تستنوا به . و { أماناتكم } فيما بينكم بأن لا تحفظوها { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } تبعة ذلك ووباله ، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون ، يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو . وقيل : وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن . وروي :
( 421 ) أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد ابن معاذ ، فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله في أيديهم ، فبعثه إليهم فقالوا له : ما ترى ، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح ، قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت ، فشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه ، فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك . فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده فقال : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي . فقال صلى الله عليه وسلم : يجزيك الثلث أن تتصدّق به . وعن المغيرة : نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه . وقيل : { أماناتكم } ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده . فإن قلت : { وَتَخُونُواْ } جزم هو أم نصب؟ قلت : يحتمل أن يكون جزماً داخلاً في حكم النهي وأن يكون نصباً بإضمار "أن" كقوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] وقرأ مجاهد : "وتخونوا أمانتكم" ، على التوحيد .
(2/355)

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
جعل الأموال والأولاد فتنة ، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب . أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده و { الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدي إليه هممكم ، وتزهدوا في الدنيا ، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد؛ حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما ، كقوله : { المال والبنون } الآية [ الكهف : 46 ] وقيل : هي من جملة ما نزل في أبي لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده .
(2/356)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{ فُرْقَانًا } نصراً؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه ، والإسلام بإعزاز أهله . ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض ، من قولهم : "بتّ أفعل كذا" حتى سطع الفرقان : أي طلع الفجر . أو مخرجاً من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور . أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان ، وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة . { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } لما فتح الله عليه ، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة ، ليشكر نعمة الله عز وجل في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم وما أتاح الله له من حسن العاقبة ، والمعنى : واذكرإذ يمكرون بك وذلك
[ 422 ] أن قريشاً - لما أسلمت الأنصار وبايعوه - فرِقوا أن يتفاقم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوى متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد ، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها؛ وتتربصوا به ريب المنون . فقال إبليس : بئس الرأي؛ يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم . فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم؛ فلا يضركم ما صنع واسترحتم . فقال إبليس : بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما ، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناهم واسترحنا . فقال الشيخ - لعنه الله - : صدق هذا الفتى ، هو أجودكم رأيا . فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله . فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن الله له في الهجرة ، فأمر علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه ، وقال له : اتّشح ببردتي ، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه ، وباتوا مترصدين ، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه ، فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله عز وجل سعيهم ، واقتصوا أثره فأبطل الله مكرهم { ليثبتوك } ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح ، من قولهم : ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح ، وفلان مثبت وجعاً . وقرىء : ( ليثبتوك ) ، بالتشديد . وقرأ النخعي : ( ليثبتوك ) ، ومن البيات . وعن ابن عباس : ( ليقيدوك ) ، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق { وَيَمْكُرُونَ } ويخفون المكايد له { وَيَمْكُرُ الله } ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة { والله خَيْرُ الماكرين } أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً ، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب .
(2/357)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
{ لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة ، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة ، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز ، حتى يفوزوا بالقدح المعلي دونه ، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة ، وأن يماتنهم واحد ، فيتعللوا بامتناع المشيئة ، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس ، من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهالكهم على أن يغمروه . وقيل : قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً ، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون : لو شئت لقلت مثل هذا . وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأسفنديار فزعم أن هذا مثل ذاك ، وأنه من جملة تلك الأساطير ، وهو القائل : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق } وهذا أسلوب من الجحود بليغ ، يعني إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل ، كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر . ومراده نفي كونه حقاً ، وإذا انتفى كونه حقاً لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقاً مع اعتقاد أنه ليس بحق ، كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقاً ، فأمطر علينا حجارة . وقوله : { هُوَ الحق } تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين : هذا هو الحق . وقرأ الأعمش { هُوَ الحق } بالرفع ، على أن هو مبتدأ غير فصل . وهو في القراءة الأولى فصل . ويقال : أمطرت السماء ، كقولك أنجمت وأسبلت ومطرت ، كقولك : هتنت وهتلت ، وقد كثر الأمطار في معنى العذاب . فإن قلت : ما فائدة قوله : { مّنَ السماء } ؟ والأمطار لا تكون إلا منها . قلت : كأنه يريد أن يقال : فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب ، فوضع { حِجَارَةً مّنَ السماء } موضع السجيل ، كما تقول : صب عليه مسرودة من حديد ، تريد درعاً { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي بنوع آخر من جنس العذاب الأليم ، يعني أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم ، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه . وعن معاوية أنه قال لرجل من سبإ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! قال : أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له . اللام لتأكيد النفي ، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة؛ لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصودون بالعذاب إذا هاجر عنهم . والدليل على هذا الإشعار قوله : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب ، كأنه قال : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وهو معذبهم إذا فارقتهم ، وما لهم أن لا يعذبهم { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } في موضع الحال .
(2/358)

ومعناه نفي الاستغفار عنهم : أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم ، كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون ، ولا يتوقع ذلك منهم . وقيل معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر ، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين ، { وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله } وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم ، يعني : لا حظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة . وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام كما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ ، وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء { مَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح لأن يلي أمره ، إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً ، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة . أو أراد بالأكثر : الجميع ، كما يراد بالقلة : العدم .
(2/359)

وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
المكاء : فعال بوزن الثغاء والرغاء ، من مكا يمكو إذا صفر : ومنه المكاء ، كأنه سمي بذلك لكثرة مكائه . وأصله الصفة ، نحو الوضاء والفراء . وقرىء : ( مكا ) بالقصر . ونظيرهما البكي والبكاء . والتصدية : التصفيق ، تفعلة من الصدى أو من صدَّ يصدّ ، { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ الزخرف : 57 ] وقرأ الأعمش : "وما كان صلاتهم" بالنصب على تقديم خبر كان على اسمه ، فإن قلت : ما وجه هذا الكلام؟ قلت : هو نحو من قوله :
وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُه ... أدَاهَمَ سُوداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْراً
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء ، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة ، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة : الرجال والنساء ، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون ، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه { فَذُوقُواْ } عذاب القتل والأسر يوم بدر ، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة .
(2/360)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قيل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر . وقيل : قالوا لكل من كان له تجارة في العير : أعينوا بهذا المال على حرب محمد ، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر . وقيل : نزلت في أبي سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية . والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله ، وإن لم يكن عندهم كذلك { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أي تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة ، فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك فيرجعون طلقاء { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] . { والذين كَفَرُواْ } والكافرون منهم { إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه { لِيَمِيزَ الله الخبيث } الفريق الخبيث من الكفار { مِنَ } الفريق { الطيب } من المؤمنين ، فيجعل الفريق { الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } عبارة عن الجمع والضم ، حتى يتراكبوا ، كقوله تعالى : { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } يعني لفرط ازدحامهم { أولئك } إشارة إلى الفريق الخبيث ، وقيل : ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون كأبي بكر وعثمان في نصرته { فَيَرْكُمَهُ } فيجعله في جهنم في جملة ما يعذّبون به ، كقوله : { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ } الآية [ التوبة : 35 ] ، واللام على هذا متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } وعلى الأوّل يحشرون ، وأولئك : إشارة إلى الذين كفروا . وقرىء : ليميز على التخفيف .
(2/361)

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } من أبي سفيان وأصحابه . أي قل لأجلهم هذا القول وهو { إِن يَنتَهُواْ } ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا يغفر لكم ، وهي قراءة ابن مسعود . ونحوه : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه ، أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } لهم من العداوة { وَإِن يَعُودُواْ } لقتاله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين } منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر . أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا ، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا . وقيل : معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي ، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام .
( 423 ) " الإسلام يجب ما قبله " وقالوا : الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط . وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين . وبه احتجّ أبو حنيفة رحمه الله في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة . وقبلها؛ وفسر { وَإِن يَعُودُواْ } بالارتداد . وقرىء "يغفر لهم" على أن الضمير لله عز وجل .
(2/362)

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{ وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط { وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ } ويضمحل عنهم كل دين باطل ، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الكفر وأسلموا { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يثيبهم على توبتهم وإسلامهم . وقرىء : "تعملون" ، بالتاء ، فيكون المعنى : فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام { بَصِيرٌ } يجازيكم عليه أحسن الجزاء { وَإِن تَوَلَّوْاْ } ولم ينتهوا { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } أي ناصركم ومعينكم ، فثقوا بولايته ونصرته .
(2/363)

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{ أَنَّمَا غَنِمْتُم } ما موصولة . و { مِن شَىْء } بيانه . قيل : من شيء حتى الخيط والمخيط ، { فَأَنَّ للَّهِ } مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : فحق ، أو فواجب أن لله خمسه . وروى الجعفي عن أبي عمرو ، فإن لله بالكسر . وتقويه قراءة النخعي : "فللَّه خمسة" . والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب ، كأنه قيل : فلا بد من ثبات الخمس فيه ، [ و ] لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه ، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات ، كقولك : ثابت واجب حق لازم؛ وما أشبه ذلك ، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد ، وقرىء "خمسه" بالسكون فإن قلت : كيف قسمة الخمس؟ قلت : عند أبي حنيفة رحمه الله أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذوي قرباء من بني هاشم وبني المطلب ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، استحقوه حينئذٍ بالنصرة والمظاهرة ، لما روي عن عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما ، أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 424 ) هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا ، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة : فقال صلى الله عليه وسلم : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد " وشبك بين أصابعه وثلاثة أسهم : لليتامى والمساكين ، وابن السبيل . وأمّا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته ، وكذلك سهم ذوي القربى ، وإنما يعطون لفقرهم ، فهم أسوة سائر الفقراء ، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل . وأمّا عند الشافعي رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين : كعدّة الغزاة من السلاح والكراع ونحو ذلك . وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم ، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الانثيين . والباقي للفرق الثلاث . وعند مالك بن أنس رحمه الله : الأمر فيه مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء ، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض ، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم . فإن قلت : ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه قلت : يحتمل أن يكون معنى لله وللرسول ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وأن يراد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب . وأن يراد بقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } أن من حق الخمس أن يكون متقرّبا به إليه لا غير . ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة ، تفضيلاً لها على غيرها .
(2/364)

كقوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] فعلى الاحتمال الأول مذهب الإمامين . وعلى الثاني ما قال أبو العالية : أنه يقسم على ستة أسهم : سهم لله تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة . وعنه :
( 425 ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم الله تعالى . ثم يقسم ما بقي على خمسة . وقيل : إن سهم الله تعالى لبيت المال ، وعلى الثالث مذهب مالك بن أنس . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان على ستة أسهم لله وللرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض ، فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة . وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء . وروي أنّ أبا بكر رضي الله عنه منع بني هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئاً ، ولا يتيم موسر . وعن زيد بن علي رضي الله عنه : كذلك قال ، ليس لنا أن نبني منه قصوراً ، ولا أن نركب منه البراذين . وقيل : الخمس كله للقرابة . وعن علي رضي الله عنه أنه قيل له : إنّ الله تعالى قال : { واليتامى والمساكين } [ البقرة : 83 ] فقال : أيتامنا ومساكيننا . وعن الحسن رضي الله عنه في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لولي الأمر من بعده . وعن الكلبي رضي الله عنه أنّ الآية نزلت ببدر . وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال ، على رأس عشرين شهراً من الهجرة . فإن قلت : بم تعلق قوله : { إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بالله } ؟ قلت : بمحذوف يدل عليه { واعلموا } المعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، وليس المراد بالعلم المجرّد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله تعالى؛ لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر { وَمَا أَنزَلْنَا } معطوف على { للَّهِ } أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل : { على عَبْدِنَا } وقرىء "عبدنا" كقوله : { وَعَبَدَ الطاغوت } [ المائدة : 60 ] بضمتين { يَوْمَ الفرقان } يوم بدر . و { الجمعان } الفريقان من المسلمين والكافرين . والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز ، كما فعل بكم ذلك اليوم .
(2/365)

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{ إِذْ } بدل من يوم الفرقان . والعدوة : شط الوادي بالكسر والضم والفتح . وقرىء "بهنّ وبالعدية" على قلب الواو ياء ، لأنّ بينها وبين الكسرة حاجزاً غير حصين كما في الصبية . والدنيا والقصوى : تأنيث الأدنى والأقصى . فإن قلت : كلتاهما "فعلى" من بنات الواو ، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟ قلت : القياس هو قلب الواو ياء كالعليا . وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل . وقد جاء القصيا ، إلا أنّ استعمال القصوى أكثر ، كما كثر استعمال "استصوب" مع مجيء "استصاب" و"أغيلت" مع "أغالت" والعدوة الدنيا مما يلي المدينة ، والقصوى مما يلي مكة { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } يعني الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل . وأسفل : نصب على الظرف ، معناه : مكاناً أسفل من مكانكم ، وهو مرفوع المحل؛ لأنه خبر المبتدأ . فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين "وأن العير كانت أسفل منهم"؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته ، وتكامل عدّته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه ، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته ، وذلك أنّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمش فيها إلا بتعب ومشقة . وكانت العير وراء ظهور العدوّ مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها ، تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم . ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحرم على بذل جهيداهم في القتال ، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدّتهم . وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر . ليقضي أمراً كان مفعولاً من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة ، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج ، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم ، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ } أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه القتال ، لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له { لّيَقْضِيَ } متعلق بمحذوف ، أي ليقضي أمراً كان واجباً أن يفعل ، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك .
(2/366)

وقوله : { لِيَهْلِكَ } بدل منه . واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة ، لا عن مخالجة شبهة ، حتى لا تبقى له على الله حجة ، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها . وقرىء : "ليهلك" بفتح اللام وحي ، بإظهار التضعيف { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم . أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه ، وبإيمان من آمن وثوابه .
(2/367)

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله } نصبه بإضمار اذكر . أو هو بدل ثان من يوم الفرقان ، أو متعلق بقوله { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك { فِى مَنَامِكَ } في رؤياك . وذلك أن الله عزّ وجل أراه في رؤياه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم . وعن الحسن : في منامك في عينك ، لأنها مكان النوم ، كما قيل للقطيفة : المنامة ، لأنه ينام فيها . وهذا تفسير فيه تعسف ، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن ، وما يلائم عليه بكلام العرب وفصاحته { لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وهبتم الإقدام { ولتنازعتم } في الرأي ، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم ، وترجحتم بين الثبات والفرار { ولكن الله سَلَّمَ } أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع .
(2/368)

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{ وَإِذَا يُرِيكُمُوهُمْ } الضميران مفعولان . معنى : وإذ يبصركم إياهم . و { قَلِيلاً } نصب على الحال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفاً { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور . فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ليجترؤا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين } [ آل عمران : 13 ] ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلاً وكثرتهم آخراً . فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً؟ قلت بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين . قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين ، وكان بين يديه ديك واحد فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ .
(2/369)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{ إذا لَقِيتُمْ فِئَةً } إذا حاربتم جماعة من الكفار ، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار . واللقاء اسم للقتال غالب { فاثبتوا } لقتالهم ولا تفرّوا { واذكروا الله كَثِيراً } في مواطن الحرب مستظهرين بذكره ، مستنصرين به ، داعين له على عدوكم : اللهم اخذلهم ، اللهم اقطع دابرهم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة . وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره . وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج - من البلاغة والبيان ولطائف المعاني ، وبليغات المواعظ والنصائح - دليلاً على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر { وَلاَ تنازعوا } قرىء بتشديد التاء { فَتَفْشَلُواْ } منصوب بإضمار أن ، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ : "وتذهب ريحكم" بالتاء والنصب وقراءة من قرأ : "ويذهب ريحكم" بالياء والجزم والريح : الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . ومنه قوله :
يَا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَحَيَّ بِالْوَادِي ... إلاّ عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَاد
أتُنْظِرَانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفَلَتِهِم ... أمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي
وقيل : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى . وفي الحديث :
( 426 ) " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .
(2/370)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
حذرهم - بالنهي عن التنازع واختلاف الرأي - نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم { كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير ، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة : أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور ، وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب . فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها ، فسقوا كؤس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم ، وأن يكونوا من أهل التقوى ، والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل ، مخلصين أعمالهم لله .
(2/371)

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{ و } اذكر { إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووسوس إليهم أنهما لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله : كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم . وقيل :
( 427 ) لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة من الحرب ، فكان ذلك يثنيهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني - وكان من أشرافهم - في جند من الشياطين معه راية ، وقال : لا غالب لكم اليوم ، وإني مجيركم من بني كنانة . فلما رأى الملائكة تنزل ، نكص وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق ، وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان . وفي الحديث :
( 428 ) " وما رؤى إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رؤي يوم بدر " فإن قلت : هلا قيل لا غالباً لكم كما يقال : لا ضارباً زيداً عندنا؟ قلت : لو كان ( لكم ) مفعولاً لغالب ، بمعنى : لا غالباً إياكم لكان الأمر كما قلت؛ لكنه خبر تقديره : لا غالب كائن لكم .
(2/372)

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{ إِذْ يَقُولُ المنافقون } بالمدينة { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام . وعن الحسن : هم المشركون { غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله ، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ، ثم قال جواباً لهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي .
(2/373)

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
{ وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت؛ لأن "لو" تردّ المضارع إلى معنى الماضي؛ كما تردّ "إن" الماضي إلى معنى الاستقبال . و { إِذْ } نصب على الظرف وقرىء : "يتوفى" بالياء والتاء و { الملائكة } رفعها بالفعل و { يَضْرِبُونَ } حال منهم ، ويجوز أن يكون في { يَتَوَفَّى } ضمير الله عز وجل ، و { الملائكة } مرفوعة بالابتداء ، و { يَضْرِبُونَ } خبر . وعن مجاهد : وأدبارهم : استاههم ، ولكن الله كريم يكنى ، وإنما خصوهما بالضرب . لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه ، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر ، ثم يعطي الرجل القوي البطش شيئاً عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض ، فيضربه على دبره ضربه واحد بقوّته فيجمد في مكانه . وقيل : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر { وَذُوقُواْ } معطوف على { يَضْرِبُونَ } على إرادة القول : أي ويقولون ذوقوا { عَذَابَ الحريق } أي مقدمة عذاب النار . أو وذوقوا عذاب الآخرة : بشارة لهم به . وقيل : كانت معهم مقامع من حديد ، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة : ذوقوا . وجواب { لَوْ } محذوف : أي لرأيت أمراً فظيعاً منكراً { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة ، و { ذلك } رفع بالابتداء و { بِمَا قَدَّمَتْ } خبره { وَأَنَّ الله } عطف عليه ، أي ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله { لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين . وقيل : ظلام للتكثير لأجل العبيد أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه .
(2/374)

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
الكاف في محل الرفع : أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون . ودأبهم : عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه : أي داوموا عليه وواظبوا . و { كَفَرُواْ } تفسير لدأب آل فرعون . و { ذلك } إشارة إلى ما حل بهم ، يعني ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم { حتى يُغَيّرُواْ مَا } بهم من الحال . فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت ، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } لما يقول مكذبو الرسل { عَلِيمٌ } بما يفعلون { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } تكرير للتأكيد . وفي قوله : { بآيات رَبّهِمْ } زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق . وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب { وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين } وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي .
(2/375)

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{ الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي أصروا على الكفر ولجوا فيه ، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة ، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق ، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم { الذين عاهدت مِنْهُمْ } بدل من الذين كفروا ، أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب ، لأن شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ، وشر المصرين الناكثون للعهود { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم ، من وراءهم من الكفرة ، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد ، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه "فشرذ" بالذال المعجمة بمعنى : ففرق ، وكأنه مقلوب "شذر" من قولهم ( ذهبوا شذر مذر ) ، ومنه : الشذر : المتلقط من المعدن لتفرّقه وقرأ أبو حيوة "من خلفهم" ومعناه : فافعل التشريد من ورائهم ، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه؛ لأن الوراء جهة المشردين ، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه ، فلم يبق فرق بين القراءتين { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون .
(2/376)

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } معاهدين { خِيَانَةً } ونكثا بأمارات تلوح لك { فانبذ إِلَيْهِمْ } فاطرح إليهم العهد { على سَوَاء } على طريق مستو قصد ، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع وقيل : على استواء في العلم بنقض العهد . وقيل على استواء في العداوة . والجار والمجرور في موضع الحال ، كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوى ، أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة ، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً .
(2/377)

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{ سَبَقُواْ } أفلتوا وفاتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم وقرىء : أنهم بالفتح بمعنى : لأنهم ، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاَّ أنَّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح وقرىء : "يعجزون" بالتشديد وقرأ ابن محيضن : "يعجزون" ، بكسر النون وقرأ الأعمش "ولا تحسبِ الذين كفروا" بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقرأ حمزة : "ولا يحسبن" بالياء على أن الفعل للذين كفروا وقيل فيه : أصله أن سبقوا ، فحذفت أن ، كقوله : { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق } [ الروم : 24 ] واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه : "أنهم سبقوا" . وقيل : وقع الفعل على أنهم لا يعجزون ، على أن "لا" صلة ، وسبقوا في محل الحال ، بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين . وقيل معناه : ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا ، فحذف الضمير لكونه مفهوماً . وقيل : ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا . وهذه الأقاويل كلها متمحلة ، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة . وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين .
(2/378)

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{ مِن قُوَّةٍ } من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها . وعن عقبة بن عامر :
( 429 ) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً . ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله . وعن عكرمة : هي الحصون ، والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله . ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال وقرأ الحسن "ومن ربط الخيل" بضم الباء وسكونها جمع رباط . ويجوز أن يكون قوله : { وَمِن رّبَاطِ الخيل } تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به ، كقوله : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] وعن ابن سيرين رحمه الله : أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال : يشتري به الخيل ، فترابط في سبيل الله ويغزي عليها ، فقيل له : إنما أوصى في الحصون ، فقال : ألم تسمع قول الشاعر :
أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لاَ مَدَرُ الْقُرَى ... { تُرْهِبُونَ } قرىء بالتخفيف والتشديد وقرأ ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما "تخزون" والضمير في { بِهِ } راجع إلى ما استطعتم { عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } هم أهل مكة { وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } هم اليهود ، وقيل : المنافقون وعن السدي : هم أهل فارس ، وقيل : كفرة الجن ، وجاء في الحديث :
( 430 ) " إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق " وروي :
( 431 ) أنّ صهيل الخيل يرهب الجن .
(2/379)

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
جنح له وإليه : إذا مال . والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب قال :
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
وقرىء بفتح السين وكسرها . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن الآية منسوخة بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] وعن مجاهد بقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم ، وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً ، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وقرأ الأشهب العقيلي : "فاجنح" بضم النون { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم ، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم . قال مجاهد ، يريد قريظة .
(2/380)

وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } فإن محسبك الله : قال جرير :
إنِّي وَجَدّتُ مِنَ الْمَكَارِمِ حَسْبَكُم ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة ، لأنّ العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية ، والإنطواء على الضغينة في أدنى شىء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا - لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا ، وأنشؤا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب . فهو يقلبها كما شاء . ويصنع فيها ما أراد ، وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤسائهم ودق جماجمهم ، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى ، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس ، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته .
(2/381)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{ وَمَنِ اتبعك } الواو بمعنى مع وما بعده منصوب ، تقول : حسبك وزيداً درهم ، ولا تجرّ؛ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع قال :
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ ... والمعنى : كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً أو يكون في محل الرفع : أي كفاك الله وكفاك المؤمنون ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وعن ابن عباس رضي الله عنه نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه ، وعن سعيد بن جبير : أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر ، فنزلت .
(2/382)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
التحريض : المبالغة في الحث على الأمر من الحرض ، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت ، أو أن تسميه حرضاً : وتقول له : ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه ، ليهيجه ويحرّك منه . ويقال : حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه ، بمعنى ، وقرىء "حرص" ، بالصاد غير المعجمة ، حكاها الأخفش ، من الحرص ، وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده ، ثم قال : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم ، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه ، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى . وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً ، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب . قيل : ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه ، وذلك بعد مدّة طويلة ، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين ، وقيل : كان فيهم قلة في الابتداء ، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف . وقرىء "ضعفاً" ، بالفتح والضم ، كالمكث والمكث ، والفقر والفقر . وضعفاً : جمع ضعيف . وقرىء الفعل المسند إلى المائة بالتاء والياء في الموضعين ، والمراد بالضعف : الضعف في البدن . وقيل : في البصيرة والاستقامة في الدين ، وكانوا متفاوتين في ذلك فإن قلت : لم كرّر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرّتين قبل التخفيف وبعده؟ قلت : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت؛ لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف ، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين .
(2/383)

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
وقرىء : "للنبي" ، على التعريف وأسارى . ويثخن ، بالتشديد . ومعنى الإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه ، من قولهم : أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة . وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة ، يعني حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر . ثم الأسر بعد ذلك . ومعنى { مَا كَانَ } ما صح له وما استقام ، وكان هذا يوم بدر ، فلما كثر المسلمون نزل { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [ محمد : 4 ] وروي :
( 432 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتي بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب ، فاستشار أبا بكر رضي الله عنه فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك . وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم ، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله أغناك عن الفداء : مكن علياً من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان لنسيب له ، فلنضرب أعناقهم . فقال صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة ، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : " { فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] " ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : " { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ثم قال لأصحابه : " أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق " وروي : أنه قال لهم :
( 433 ) إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم ، واستشهد منكم بعدّتهم ، فقالوا : بل نأخذ الفداء ، فاستشهدوا بأحد ، وكان فداء الأسارى عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعين أوقية . وعن محمد بن سيرين : كان فداؤهم مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير . وروي :
( 434 ) أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية ، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت ، فقال : أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - وروى أنه قال :
( 435 ) لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ، رضي الله عنهما ، لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ { عَرَضَ الدنيا } حطامها ، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث ، يريد الفداء { والله يُرِيدُ الأخرة } يعني ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل وقرىء : "يريدون" ، بالياء وقرأ بعضهم "والله يريد الآخرة"؛ بجرّ الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله كقوله :
(2/384)

أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسبِينَ امْرَأ ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَاً
ومعناه والله يريد عرض الآخرة . على التقابل ، يعني ثوابها { والله عَزِيزٌ } يغلب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلاً وأسراً ويطلق لهم الفداء ، ولكنه { حَكِيمٌ } يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد؛ لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم ، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم . وقيل : كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها . وقيل : إن أهل بدر مغفور لهم . وقيل : إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ، ولم يتقدم نهي عن ذلك { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } روي : أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها ، فنزلت . وقيل : هو إباحة للفداء ، لأنه من جملة الغنائم { واتقوا الله } فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه .
(2/385)

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
فإن قلت : ما معنى الفاء؟ قلت : التسبيب والسبب محذوف ، معناه : قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم . وحلالاً : نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر ، أي أكلاً حلالاً ، وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } معناه أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه ، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم .
(2/386)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{ فى أَيْدِيكُم } في ملكتكم ، كأن أيديكم قابضة عليهم وقرىء : "من الأسرى" { فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } خلوص إيمان وصحة نية { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة وفي قراءة الأعمش . "يثبكم خيراً" وعن العباس رضي الله عنه أنه قال :
( 436 ) كنت مسلماً ، لكنهم استكرهوني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك " فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا أوكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس :
( 437 ) " افد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، فقال : يا محمد ، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت . فقال له : فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؛ فقال العباس وما يدريك؟ قال : "أخبرني به ربي" " قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق ، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتاباً في أمرك ، فأمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب . قال العباس رضي الله عنه : فأبدلني الله خيراً من ذلك ، لي الآن عشرون عبداً ، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي . وروي :
( 438 ) أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ) وقرأ الحسن وشيبة : "مما أُخِذَ منكم" ، على البناء للفاعل .
(2/387)

وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم { فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة . وقيل : المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء .
(2/388)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
الذين هاجروا : أي فارقوا أوطانهم وقومهم حباً لله ورسوله : هم المهاجرون . والذي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم : هم الأنصار { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوي القرابات ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وقرىء : "من ولايتهم" ، بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث . ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة ، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً { فَعَلَيْكُمُ النصر } فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين { إِلاَّ على قَوْمٍ } منهم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ } عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال ، إذا الميثاق مانع من ذلك .
(2/389)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [ الأنفال : 72 ] ومعناه : نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانو أقارب ، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً ثم قال : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث ، تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار . ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك ، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً وقرىء "كثير" بالثاء .
(2/390)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{ أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه ، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين ، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم مع الموعد الكريم ، والأولى للأمر بالتواصل { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ } يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة ، كقوله : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } [ الحشر : 10 ] ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً { وَأُوْلُو الارحام } أولو القرابات أولى بالتوارث ، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة { فِى كتاب الله } تعالى في حكمه وقسمته . وقيل في اللوح . وقيل في القرآن ، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على توريث ذوي الأرحام .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 439 ) " من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة ، وشاهد أنه برىء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعد كل منافق ومنافقة ، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا " .
(2/391)

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{ بَرَآءَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة و { مِّنَ } لابتداء الغاية ، متعلق بمحذوف وليس بصلة ، كما في قولك : برئت من الدين . والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما يقال : كتاب من فلان إلى فلان . ويجوز أن يكون { بَرَآءَةٌ } مبتدأ لتخصيصها بصفتها ، والخبر { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما تقول : رجل من بني تميم في الدار وقرىء "براءة" بالنصب ، على : اسمعوا براءة وقرأ أهل نجران "مِن الله" بكسر النون والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته . والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم . فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما [ تجّدد ] من ذلك فقيل لهم : اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين . وروي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤا لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها .
( 441 ) وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر رضي الله عنه؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا عليّ سمع أبو بكر الرغاء ، فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور . وروي :
( 442 ) أنّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك ، فأرسل علياً ، فرجع أبو بكر رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أشيء نزل من السماء قال : " نعم ، فسر وأنت على الموسم ، وعليّ ينادي بالآي " فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم ، وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إني رسول رسول الله إليكم . فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية .
(2/392)

وعن مجاهد رضي الله عنه ثلاثة عشرة آية ، ثم قال : أمرت بأربع : " أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده " فقالوا عند ذلك يا علي ، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف . وقيل : إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه؛ لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها ، فلو تولاه أبو بكر رضي الله عنه . لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه فإن قلت : الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت : عن الزهري رضي الله عنه أنّ براءة نزلت في شوال ، فهي أربعة أشهر : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وقيل هي عشرون من ذي الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من شهر ربيع الآخر . وكانت حرماً؛ لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم . أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها . وقيل : لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة . فإن قلت ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت : قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها { غَيْرُ مُعْجِزِي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم ، وهو مخزيكم : أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .
(2/393)

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{ وَأَذَانٌ } ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال : عمرو معطوف على زيد ، في قولك : زيد قائم ، وعمرو قاعد ، والأذان : بمعنى الإيذان وهو الإعلام ، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء . فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة . وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت . فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت : لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث { يَوْمَ الحج الأكبر } يوم عرفة . وقيل : يوم النحر؛ لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، من الطواف . والنحر ، والحلق ، والرمي . وعن علي رضي الله عنه : أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا . خل عن دابتي . وعن ابن عمر رضي الله عنهما :
( 443 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال " هذا يوم الحج الأكبر " ووصف الحج بالأكبر لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته؛ لأنه إذا فات فات الحج ، وكذلك إن أريد به يوم النحر؛ لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج - فهو الحج الأكبر . وعن الحسن رضي الله عنه : سمي يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر . حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً وقرىء "إنّ الله" بالكسر لأنّ الأذان في معنى القول { وَرَسُولُهُ } عطف على المنوي في { بَرِىء } أو على محل "إن" المكسورة واسمها وقرىء بالنصب ، عطفاً على اسم إن أو لأنّ الواو بمعنى مع : أي بريء معه منهم ، وبالجرّ على الجوار . وقيل : على القسم ، كقوله : لعمرك . ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته ، فعندها أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية { فَإِن تُبْتُمْ } من الكفر والغدر { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن التوبة ، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه .
(2/394)

إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
فإن قلت : مم استثنى قوله { إِلاَّ الذين عاهدتم } ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : { فَسِيحُواْ فِى الأرض } [ التوبة : 2 ] لأن الكلام خطاب للمسلمين . ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . فقولوا لهم سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك ، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أنّ قضية التقوى أن لا يسوّي بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك { لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط { وَلَمْ يظاهروا } ولم يعاونوا { عَلَيْكُمْ } عدوّاً ، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد :
لاَهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أبِينَا وَأبِيكَ الأتْلَدَا
إن قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ذِمَامكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا
فقال عليه الصلاة والسلام :
( 444 " لا نصرت إن لم أنصركم " وقرىء : "لم ينقضوكم" ، بالضاد معجمة أي لم ينقضوا عهدكم . ومعنى { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ } فأدّوه إليهم تامّاً كاملاً . قال ابن عباس رضي الله عنه : بقي لحيّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر ، فأتمّ إليهم عهدهم .
(2/395)

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
انسلخ الشهر ، كقولك انجرد الشهر ، وسنة جرداء . و { الاشهر الحرم } التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا { فاقتلوا المشركين } يعني الذين نقضوكم وظاهروا عليكم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من حلٍّ أو حرم { وَخُذُوهُمْ } وأسروهم . والأخيذ : الأسير { واحصروهم } وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد . وعن ابن عباس رضي الله عنه : حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام { كُلَّ مَرْصَدٍ } كلّ ممرّ مجتاز ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف كقوله { لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] . { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر . أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله :
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي الْمَنَارَ بِهِ ... وعن ابن عباس رضي الله عنه : دعوهم وإتيان المسجد الحرام { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .
(2/396)

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{ أَحَدٌ } مرتفع بفعل الشرط مضمراً يفسره الظاهر ، تقديره : وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء ، لأنّ "إن" من عوامل الفعل لا تدخل على غيره . والمعنى : وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق ، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن ، وتبين ما بعثت له فأمّنه { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر { ثُمَّ أَبْلِغْهُ } بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم . ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة ، وهذا الحكم ثابت في كل وقت . وعن الحسن رضي الله عنه : هي محكمة إلى يوم القيامة . وعن سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى عليّ رضي الله عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى يقول : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك } الآية . وعن السُدّي والضحاك رضي الله عنهما : هي منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] . { ذلك } أي ذلك الأمر ، يعني الأمر بالإجارة في قوله : { فَأَجِرْهُ } . { ب } سبب { أَنَّهُمْ } قوم جهلة { لاَّ يَعْلَمُونَ } ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق .
(2/397)

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{ كَيْفَ } استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد؛ لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أضداد وغرة صدورهم ، يعني : محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم . ثم استدرك ذلك بقوله : { إِلاَّ الذين عاهدتم } أي ولكن الذين عاهدتم منهم { عِندَ المسجد الحرام } ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ } على العهد { فاستقيموا لَهُمْ } على مثله { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين { كَيْفَ } تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال :
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ... فَكَيْف وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ
يريد : فكيف مات . أي : كيف يكون لهم عهد { و } حالهم أنهم { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } لا يراعوا حلفاً . وقيل : قرابة . وأنشد لحسان رضي الله عنه :
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ
وقيل : { إِلاًّ } إلها وقرىء : "إيلا" ، بمعناه وقيل : جبرئيل ، وجبرئل ، من ذلك . وقيل : منه اشتق الآل بمعنى القرابة ، كما اشتقت الرحم من الرحمن ، والوجه ان اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف ، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ، من الأل وهو الجؤار ، وله أليل : أي أنين يرفع به صوته . ودعت ألليها : إذا ولولت ، ثم قيل لكل عهد وميثاق : إلّ . وسميت به القرابة ، لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق { يُرْضُونَكُم } كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن ، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد . وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان ، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل { وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون } متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم ، ولا شمائل مرضية تردعهم ، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة ، من التفادي عن الكذب والنكث ، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء .
(2/398)

اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
{ اشتروا } استبدلوا { بآيات الله } بالقرآن والإسلام { ثَمَناً قَلِيلاً } وهو اتباع الأهواء والشهوات { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم . وقيل : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم { هُمُ المعتدون } المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة .
(2/399)

فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{ فَإِن تَابُواْ } عن الكفر ونقض العهد { فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين } فهم إخوانكم على حذف المبتدأ ، كقوله تعالى : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم } [ الأحزاب : 5 ] ، { وَنُفَصّلُ الايات } ونبينها . وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين ، وعلى المحافظة عليها .
(2/400)

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ } وثلبوه وعابوه { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم : إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود ، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمدبشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً ، جاز قتله؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن ، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة { إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ } جمع يمين : "وقرىء : لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم" أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث ، ولا سبيل إليه ، فإن قلت : كيف أثبت لهم الإيمان في قوله : { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم } ثم نفاها عنهم؟ قلت : أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال لا إيمان لهم على الحقيقة ، وأيمانهم ليست بأيمان . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يميناً . وعند الشافعي رحمه الله : يمينهم يمين . وقال : معناه أنهم لا يوفون بها ، بدليل أنه وصفها بالنكث { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه . وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد . فإن قلت : كيف لفظ أئمة؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء . وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين . وأما التصريح بالياء فليس بقراءة . ولا يجوز أن تكون قراءة . ومن صرح بها فهو لاحن محرف .
(2/401)

أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{ أَلاَ تقاتلون } دخلت الهمزة على { لاَ تقاتلون } تقريراً بانتفاء المقاتلة . ومعناه : الحضّ عليها على سبيل المبالغة { نَّكَثُواْ أيمانهم } التي حلفوها في المعاهدة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة ، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة ، فخرج بنفسه { وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادىء أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشرّ كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضّهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحضّ عليها . ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب ، حقيق بأن لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها { أَتَخْشَوْنَهُمْ } تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } فتقاتلوا أعداءه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلاّ ربه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] .
(2/402)

قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
[ و ] لما وبخهم الله على ترك القتال ، جرّد لهم الأمر به فقال : { قاتلوهم } ووعدهم - ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم - أنه يعذبهم بأيديهم قتلاً ، ويخزيهم أسراً ، ويوليهم النصر والغلبة عليهم { وَيَشْفِ صُدُورَ } طائفة من المؤمنين ، وهم خزاعة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ، فقال : " أبشروا فإن الفرج قريب " { وَيُذْهِبْ غَيْظَ } قلوبكم لما لقيتم منهم من المكروه ، وقد حصّل الله لهم هذه المواعيد كلها ، فكان ذلك دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } ابتداء كلام ، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره ، وكان ذلك أيضاً ، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم ، وقرىء : "ويتوب" بالنصب بإضمار "أن" ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى { والله عَلِيمٌ } يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان { حَكِيمٌ } لا يفعل إلاّ ما اقتضته الحكمة .
(2/403)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{ أَمْ } منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان . والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، حتى يتبين الخلص منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة أي بطانة ، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم { وَلَمَّا } معناها التوقع ، وقد دلّت على أن تبين ذلك ، وإيضاحه متوقع كائن ، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين . وقوله : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } معطوف على جاهدوا ، داخل في حيز الصلة ، كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم المخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله . والوليجة : فعيلة من ولج ، كالدخيلة من دخل . والمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، كقول القائل . ما علم الله مني ما قيل فيّ ، يريد : ما وجد ذلك مني .
(2/404)

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صحّ لهم ما استقام { أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله } يعني المسجد الحرام ، لقوله : { وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان ، أحدهما : أن يراد المسجد الحرام ، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها؛ فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد . والثاني : أن يراد جنس المساجد ، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها ، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد ، لأنّ طريقته طريقة الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك . و { شاهدين } حال من الواو في { يَعْمُرُواْ } والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله ، مع الكفر بالله وبعبادته . ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر : ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون عراة ويقولون : لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي ، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها . وقيل : هو قولهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك . وقيل :
( 445 ) قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك ، فطفق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا . فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ونحن أفضل منكم أجراً . إنا لنعمر المسجد الحرام . ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ونفك العاني ، فنزلت { حَبِطَتْ أعمالهم } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة . وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن . وإلى ذلك أشار في قوله : { شاهدين } حيث جعله حالاً عنهم ودلّ على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم .
(2/405)

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } وقرىء بالتوحيد : أي : إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها ، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها ، وقمها وتنظيفها ، وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجلّه وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 446 ) " ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة " وفي الحديث :
( 447 ) " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 448 ) " قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زوّاري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره " وعنه عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 449 ) " من ألف المسجد ألفه الله " وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 450 ) " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان " وعن أنس رضي الله عنه :
( 451 ) ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ) . فإن قلت : هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان ، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه ، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام . وقيل : دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فإن قلت : كيف قيل : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } والمؤمن يخشى المحاذير ، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف ، وإذا اعترضه أمران : أحدهما حقّ الله ، والآخر حق نفسه أن يخاف الله ، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها ، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى ، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل ، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى . وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى .
(2/406)

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
السقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر ، كالصيانة والوقاية . ولا بدّ من مضاف محذوف تقديره { أَجَعَلْتُمْ } أهل { سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله } تصدقه قراءة ( ابن الزبير وأبي وجزة السعدي ) وكان من القراء : "سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام" ، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين ، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة ، وأن يسوي بينهم . وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر . وروي أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام ، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود : أنتم أفضل . وقيل : إن علياً رضي الله عنه قال للعباس :
( 452 ) يا عمّ ألا تهاجرون ، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ألست في أفضل من الهجرة : أسقي حاجّ بيت الله ، وأعمر المسجد الحرام ، فلما نزلت قال العباس : ما أراني إلاّ تارك سقايتنا . فقال عليه السلام : " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً " .
(2/407)

الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
هم { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } من أهل السقاية والعمارة عندكم { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم وقرىء : "يبشرهم" بالتخفيف والتثقيل ، وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هي في المهاجرين خاصة .
(2/408)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلاّ بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم . فقالوا : يا رسول الله : إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ، وبقينا ضائعين ، فنزلت ، فهاجروا ، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك . وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة فنهى الله تعالى عن موالاتهم . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 453 ) " لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله : حتى يحبّ في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه " وقرىء : "عشيرتكم" و "عشيراتكم" . وقرأ الحسن : وعشائركم { فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } وعبيد عن ابن عباس هو فتح مكة وعن الحسن هي عقوبة عاجلة أو آجلة . وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها ، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين ، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها بمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ .
(2/409)

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
مواطن الحرب : مقاماتها ومواقفها قال :
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طُحْتَ كَمَا هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
وامتناعه من الصرف لأنه جمع ، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد ، والمواطن الكثيرة : وقعات بدر ، وقريظة ، والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة . فإن قلت : كيف عطف الزمان والمكان وهو { يَوْمٍ حُنَيْنٍ } على المواطن؟ قلت : معناه وموطن يوم حنين . أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين . ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين ، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذالظاهر . وموجب ذلك أنّ قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ } بدل من يوم حنين ، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به ، إلاّ إذا نصبت "إذ" بإضمار "اذكر" وحنين : وادٍ بين مكة والطائف ، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة ، منضماً إليهم ألفان من الطلقاء ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكانوا الجمّ الغفير ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل قائلها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : أبو بكر رضي الله عنه وذلك قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فاقتتلوا قتالاً شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة ، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل ، ليس معه إلاّ عمه العباس رضي الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه ، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وسلم ، وما هي إلاّ من آيات النبوة وقال :
( 454 ) يا ربي ائتني بما وعدتني . وقال صلى الله عليه وسلم للعباس - وكان صيتاً : صيح بالناس ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى : يا أصحاب الشجرة ، با أصحاب البقرة ، فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم به ثم قال : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا ، قال العباس : لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض . خلفهم على بغلته { بِمَا رَحُبَتْ } ما مصدرية ، والباء بمعنى مع ، أي مع رحبها وحقيقته ملتبسة برحبها ، على أن الجارّ والمجرور في موضع الحال ، كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، أي ملتبساً بها لم أحلها ، تعني مع ثياب السفر .
(2/410)

والمعنى : لا تجدون موضعاً تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب ، فكأنها ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ثم انهزمتم { سَكِينَتَهُ } رحمته التي سكنوا بها وآمنوا { وَعَلَى المؤمنين } الذين انهزموا . وقيل : هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب { وَأَنزَلَ جُنُوداً } يعني الملائكة ، وكانوا ثمانية آلاف ، وقيل : خمسة آلاف ، وقيل : ستة عشر ألفاً { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } بالقتل والأسر ، وسبي النساء والذراري { ثُمَّ يَتُوبُ الله } أي يسلم بعد ذلك ناس منهم . وروي :
( 455 ) أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا . قيل : سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الأبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : إنّ عندي ما تروون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا : إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم . قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً ، فمن كان بيده شيء طابت نفسه أن يردّه فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه . قالوا : رضينا وسلمنا ، فقال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا .
(2/411)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
النجس : مصدر ، يقال : نجس نجساً ، قذر قذراً . ومعناه ذوو نجس؛ لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنّهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم . أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير . وعن الحسن : من صافح مشركاً توضأ . وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين . وقرىء : "نجس" ، بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، كأنه قيل : إنما المشركون جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وأكثر ما جاء تابعاً لرجس وهو تخفيف نجس ، نحو : كبد ، في كبد { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } فلا يحجوا ولا يعتمروا ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } بعد حجّ عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر على الموسم ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ويدلّ عليه قول عليّ كرمّ الله وجهه حين نادى ببراءة : ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم . وعند الشافعي : يمنعون من المسجد الحرام خاصة . وعند مالك : يمنعون منه ومن غيره من المساجد . وعن عطاء رضي الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام : الحرم ، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله ، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه ، وقيل : المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحة ويعزلوا عن ذلك { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقراً بسبب منع المشركين من الحجّ وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل السماء عليهم مدراراً ، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم وأسلم أهل تبالة وجرش فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به ، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال : من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية . وقيل : بفتح البلاد والغنائم . وقرىء : "عائلة" ، بمعنى المصدر كالعافية ، أو حالاً عائلة . ومعنى قوله : { إِن شَاء } الله . إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم { حَكِيمٌ } لا يعطي ولا يمنع إلاّ عن حكمة وصواب .
(2/412)

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للذين مع ما في حيزه . نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة . وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرّم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة . وعن أبي روق : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، وأن يدينوا دين الحق ، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل . وقيل : دين الله ، يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده . سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه ، أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل { عَن يَدٍ } إما أن يراد يد المعطي أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد : أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده . إذا انقاد وأصحب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه ، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ، لا مبعوثاً على يد أحد . ولكن عن يد المعطي إلى يد الأخذ ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية ، أو عن إنعام عليهم . لأنّ قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم { وَهُمْ صاغرون } أي تؤخذ منهم على الصغار والذل . وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم - والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ، ويقال له : أدّ الجزية ، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه ، وتسقط بالإسلام عند أبي حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض . واختلف فيمن تضرب عليه ، فعند أبي حنيفة : تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابىء وحربي ، إلاّ على مشركي العرب وحدهم . روى الزهري :
( 456 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية ، إلاّ من كان من العرب وقال لأهل مكّة : " هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدّت إليكم العجم الجزية " ، وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم . والمأخوذ عند أبي حنيفة في أوّل سنة من الفقير الذي له كسب : اثنا عشر درهماً . ومن المتوسط في الغني : ضعفها ، ومن المكثر : ضعف الضعف ثمانية وأربعون ، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له . وعند الشافعي : يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار ، فقيراً كان أو غنياً ، كان له كسب أو لم يكن .
(2/413)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{ عُزَيْرٌ ابن الله } مبتدأ وخبر ، كقوله : المسيح ابن الله ، وعزير : اسم أعجمي كعازر وعيزار وعزرائيل ، ولعجمته وتعريفه : امتنع صرفه . ومن نوّن فقد جعله عربياً . وأمّا قول من قال : سقوط التنوين للالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ : "أحد الله" أو لأنّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا ، فتمحل عنه مندوحة ، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة ، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضي الله عنه : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بنِ مشْكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف ، فقالوا ذلك . وقيل : قاله فنحاص . وسبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام ، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : إلى أين تذهب؟ قال : أطلب العلم فحفظه التوراة . فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً ، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلاّ لأنه ابنه . والدليل على أنّ هذا القول كان فيهم : أنّ الآية تليت عليهم ، فما أنكروا ولا كذبوا؛ مع تهالكهم على التكذيب . فإن قلت : كل قول يقال بالفم فما معنى قوله : { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلاّ لفظ يفوهون به ، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان . وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب . وما لا معنى له مقول بالفم لا غير . والثاني : أن يراد بالقول المذهب ، كقولهم : قول أبي حنيفة ، يريدون مذهبه وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب ، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد { يضاهون } لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم ، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه؛ فانقلب مرفوعاً . والمعنى : أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث . أو يضاهي قول المشركين : الملائكة بنات الله تعالى الله عنه . وقيل : الضمير للنصارى ، أي يضاهي قولهم : المسيح ابن الله ، قول اليهود : عزير ابن الله ، لأنهم أقدم منهم . وقرىء : "يضاهؤن" بالهمز من قولهم : امرأة ضهيأ على فعيل : وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة كما في عرقىء { قاتلهم الله } أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا ، تعجباً من شناعة قولهم ، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق؟ .
(2/414)

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرَّم الله وتحريم ما حلّله ، كما تطاع الأرباب في أوامرهم . ونحوه تسميه أتباع الشيطان فيما يوسوس به : عباده ، بل كانوا يعبدون الجنّ { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } [ مريم : 44 ] وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه :
( 457 ) انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : " أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله فتحرمونه ، ويحلّون ما حرّمه الله فتحلونه " ؟ قلت : بلى . قال : "فتلك عبادتهم" . وعن فضيل رضي الله عنه . ما أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق ، أو صليت لغير القبلة . وأمّا المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة . ألا ترى إلى قوله : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] . { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا } أمرتهم بذلك أدلّة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام : أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة { سبحانه } تنزيه له عن الإشراك به ، واستبعاد له . ويجوز أن يكون الضمير في { وَمَا أُمِرُواْ } للمتخذين أرباباً ، أي : وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلاّ ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصحّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون مثلهم .
(2/415)

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة . ليطفئه بنفخة ويطمسه { لِيُظْهِرَهُ } ليظهر الرسول عليه السلام { عَلَى الدين كُلّهِ } على أهل الأديان كلهم . أو ليظهر دين الحق على كل دين . فإن قلت : كيف جاز ، أبى الله إلاّ كذا ، ولا يقال : كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ قلت : قد أجرى "أبى" مجرى "لم يرد" ألا ترى كيف قوبل { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : { ويأبى الله } وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره .
(2/416)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
معنى أكل الأموال على وجهين : إما أن يستعار الأكل للأخذ . ألا ترى إلى قولهم : أخد الطعام وتناوله . وإمّا على أن الأحوال يؤكل بها فهي سبب الأكل . ومنه قوله :
إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافَا ... يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا
يريد : علفاً يشترى بثمن إكاف . ومعنى أكلهم بالباطل : أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع { والذين يَكْنِزُونَ } يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال ، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير . ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى ، تغليظاً ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله : سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . وقيل : نسخت الزكاة آية الكنز . وقيل : هي ثابتة ، وإنما عني بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 458 ) " ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً " وعن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها فقال : أحرز مالك الذي أخذت ، احفر له تحت فراش امرأتك . قال : أليس بكنز؟ قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز وعن [ ابن ] عمر رضي الله عنهما : كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض فإن قلت : فما تصنع بما روى سالم بن [ أبي ] الجعد رضي الله عنهم أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 459 ) " تباً للذهب تباً للفضة " قالها ثلاثاً . فقالوا له : أيّ مال نتخذ؟ قال : " لساناً ذاكراً ، وقلباً خاشعاً ، وزوجة تعين أحدكم على دينه " وبقوله عليه الصلاة والسلام :
( 460 ) " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها "
( 461 ) وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كية" وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال : "كيتان" قلت : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأمّا بعد فرض الزكاة ، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه ، ويؤدّي عنه ما أوجب عليه فيه ، ثم يعاقبه . ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضي الله عنهم يقتنون ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل ، وإلاّ دخل في الورع والزهد في الدنيا ، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه ، ولكل شيء حدّ .
(2/417)

وما روي عن علي رضي الله عنه : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما زاد فهو كنز . كلام في الأفضل . فإن قلت : لم قيل : ولا ينفقونها ، وقد ذكر شيئان؟ قلت : ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ : لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } وقيل : ذهب به إلى الكنوز ، وقيل : إلى الأموال . وقيل : معناه ولا ينفقونها والذهب ، كما أن معنى قوله :
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ... وقيار كذلك . فإن قلت : لم خصّا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت : لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء ، ولا يكنزهما إلاّ من فضلا عن حاجته ، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال ، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما ، فإن قلت : ما معنى قوله : { يُحْمَى عَلَيْهَا } ؟ وهلا قيل : تحمى ، من قولك : حمى الميسم وأحميته ، ولا تقول : أحميت على الحديد؟ قلت : معناه أن النار تحمى عليها ، أي توقد ذات حمى وحرّ شديد ، من قوله : { نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 11 ] ولو قيل : يوم تحمى ، لم يعط هذا المعنى . فإن قلت : فإذا كان الإحماء للنار ، فلم ذكر الفعل؟ قلت : لأنه مسند إلى الجار والمجرور ، أصله : يوم تحمى النار عليها ، فلما حذفت النار قيل : يحمى عليها ، لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها ، كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير ، فإن لم تذكر القصة قلت : رفع إلى الأمير وعن ابن عامر أنه قرأ : "تحمى" بالتاء . وقرأ أبو حيوة : "فيكوى" بالياء . فإن قلت : لم خصّت هذه الأعضاء؟ قلت : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها في سبيل الله - إلاّ الأغراضَ الدنيوية ، ومن وجاهة عند الناس ، وتقدّم ، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم ، يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويبجلون ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم ، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم ، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 462 ) " ذهب أهل الدثور بالأجور " وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم . وقيل : معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم { هذا مَا كَنَزْتُمْ } على إرادة القول . وقوله : { لأَنفُسِكُمْ } أي كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } . وقرىء : "تكنزون" بضم النون أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين .
(2/418)

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{ فِى كتاب الله } فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً . وقيل في اللوح : { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، وواحد فرد وهو رجب . ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع :
( 463 ) " ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض " والسنة اثنا عشر شهراً : منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرّم . ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . والمعنى : رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه ، وعاد الحج في ذي الحجّة ، وبطل النسىء الذي كان في الجاهلية ، وقد وافقت حجّة الوداع ذا الحجّة ، وكان حجّة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة { ذلك الدين القيم } يعني أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم ، دين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما ، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرّمون القتال فيها ، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ، وسموا رجباً : الأصم ومنصل الأسنة ، حتى أحدثت النسىء فغيروا { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ } في الحرم { أَنفُسَكُمْ } أي لا تجعلوا حرامها حلالاً . وعن عطاء : تالله ما يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلاّ أن يقاتلوا ، وما نسخت ، وعن عطاء الخراساني رضي الله عنه : أحلّت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله . وقيل : معناه لا تأتموا فيهن ، بياناً لعظم حرمتهن ، كما عظم أشهر الحجّ بقوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } الآية [ البقرة : 197 ] وإن كان ذلك محرّماً في سائر الشهور { كَآفَّةً } حال من الفاعل أو المفعول { مَعَ المتقين } ناصر لهم ، حثّهم على التقوى بضمان النصر لأهلها .
(2/419)

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
والنسىء : تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة ، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهر آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى : { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أي ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين . وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت . ولذلك قال عزّ وعلا { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرا } [ التوبة : 36 ] يعني من غير زيادة زادوها . والضمير في : يحلونه ، ويحرّمونه للنسىء . أي إذا أحلّوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً ، رجعوا فحرّموه في العام القابل ، وروي : أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة ، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية ، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته : إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم فأحلوه ، ثم يقوم في القابل فيقول : إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه . جعل النسىء زيادة في الكفر ، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً ، { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً { فَزَادَتْهُمْ إيمانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] . وقرىء : "يُضِل" على البناء للمفعول ، و "يَضَل" بفتح الياء والضاد ، و { يُضَلُّ } على أن الفعل لله عزّ وجلّ . وقرأ الزهري : "ليوطئوا" بالتشديد . والنسىء مصدر نسأه إذا أخره . يقال نسأه ونسأ ونساء ونسيئاً ، كقولك : مسه مساً ومساساً ومسيساً . وقرىء بهنّ جميعاً . وقرىء : "النَسَى" بوزن الندى . و "النِسي" بوزن النهي ، وهما تخفيف النسىء والنسء . فإن قلت : ما معنى قوله : { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } ؟ قلت : معناه فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها { زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم } خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة { والله لاَ يَهْدِى } أي لا يلطف بهم بل يخذلهم . وقرىء : "زين لهم سوء أعمالهم" على البناء للفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ .
(2/420)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{ اثاقلتم } تثاقلتم . وبه قرأ الأعمش ، أي تباطأتم وتقاعستم . وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بإلى . والمعنى : ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، ونحوه : { أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] وقيل : ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم . وقرىء : "أثاقلتم"؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ . فإن قلت : فما العامل في "إذا" وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه؟ قلت : ما دلّ عليه قوله : { اثاقلتم } أو ما في { مَالَكُمْ } من معنى الفعل ، كأنه قيل : ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت : مالك قائماً ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف . استتفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو ، فشقّ عليهم . وقيل : ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّى عنها بغيرها إلاّ في غزوة تبوك ليستعدّ الناس تمام العدة { مِنَ الاخرة } أي بدل الآخرة كقوله : لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ملائكة [ الزخرف : 60 ] . { فِى الآخرة } في جنب الآخرة { إِلاَّ تَنفِرُواْ } سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً : وقيل : الضمير للرسول : أي ولا تضروه ، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ، ووعد الله كائن لا محالة ، وقيل : يريد بقوله : { قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ التوبة : 39 ] أهل اليمن . وقيل : أبناء فارس ، والظاهر مستغن عن التخصيص . فإن قلت : كيف يكون قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } جواباً للشرط؟ قلت : فيه وجهان أحدهما : إلاّ تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلاّ رجل واحد ولا أقل من الواحد ، فدلّ بقوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل ، كما نصره في ذلك الوقت . والثاني : أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده . وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله : { مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه { ثَانِيَ اثنين } أحد اثنين ، كقوله : { ثالث ثلاثة } وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه . يروى :
( 464 ) ( أنّ جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال : من يخرج معي؟ قال : أبو بكر ) وانتصابه على الحال . وقرىء : "ثاني اثنين" بالسكون و { إِذْ هُمَا } بدل من إذ أخرجه . والغار : ثقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثاً { إِذْ يَقُولُ } بدل ثان .
(2/421)

وقيل :
( 465 ) طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " وقيل :
( 466 ) لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت فنسجت عليه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهم أعم أبصارهم " فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون . وقد أخذ الله بأبصارهم عنه . وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر ، لإنكاره كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة { سَكِينَتَهُ } ما ألقى في قلبه من الأمنة ، التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه ، والجنود الملائكة يوم بدر ، والأحزاب وحنين . وكلمة الذين كفروا : دعوتهم إلى الكفر { وَكَلِمَةُ الله } دعوته إلى الإسلام . وقرىء : "كلمة الله" بالنصب ، والرفع أوجه و { هِىَ } فصل أو مبتدأ ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم { خِفَافًا وَثِقَالاً } خفافاً في النفور لنشاطكم له ، وثقالاً عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالاً لكثرتها . أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه . أو ركباناً ومشاة . أو شباباً وشيوخاً . أو مهازيل وسماناً . أو صحاحاً ومراضاً . وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعليّ أن أنفر؟ قال : نعم ، حتى نزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] . وعن ابن عباس : نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى } [ التوبة : 91 ] وعن صفوان بن عمرو : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو . فقلت : يا عمّ لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنه من يحبه الله يبتله . وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو ، وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكنّي الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع { وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } إيجاب للجهاد بهما إن أمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة .
(2/422)

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
العرض : ما عرض لك من منافع الدنيا . يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال { وَسَفَرًا قَاصِدًا } وسطاً مقارباً { الشقة } المسافة الشاقّة . وقرأ عيسى بن عمر : "بعدت عليهم الشقة" بكسر العين والشين ومنه قوله :
يَقُولُونَ لاَ تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَه ... وَلاَ بُعْدَ إلاَّ مَا تُوَارِي الصَّفَائِحُ
{ بالله } متعلق بسيحلفون ، أو هو من جملة كلامهم . والقول مراد في الوجهين ، أي سيحلفون بعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أو سيحلفون بالله ويقولون : لو استطعنا ، وقوله : { لَخَرَجْنَا } سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً ، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم . وقد كان من جملة المعجزات . ومعنى الاستطاعة : استطاعة العدّة ، أو استطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا . وقرىء : "لو استطعنا" ، بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمع في قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } [ البقرة : 94 ] . { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } إما أن يكون بدلاً من سيحلفون ، أو حالاً بمعنى مهلكين . والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف . ويحتمل أن يكون حالاً من قوله : { لَخَرَجْنَا } أي لخرجنا معكم ، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة . وجاء به على لفظ الغائب ، لأنه مخبر عنهم . ألا ترى أنه لو قيل : سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديداً ، يقال : حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكاية .
(2/423)

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{ عَفَا الله عَنكَ } كناية عن الجناية ، لأن العفو رادف لها . ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت . و { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } بيان لما كنى عنه بالعفو . ومعناه : مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلاّ استأنيت بالإذن { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ } من صدق في عذره ممن كذب فيه . وقيل : شيئان فعلهما رسول الله ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى .
(2/424)

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ } ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي أبداً ، ولنجاهدنّ أبداً معه بأموالنا وأنفسنا . ومعنى { أَن يجاهدوا } في أن يجاهدوا أو كراهة أن يجاهدوا { والله عَلِيمٌ بالمتقين } شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب .
(2/425)

إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } يعني المنافقين ، وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً { يَتَرَدَّدُونَ } عبارة عن التحير ، لأنّ التردد ديدن المتحير ، كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر . وقرىء : "عدة" ، بمعنى عدّته فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال :
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا ... من حذف تاء التأنيث ، وتعويض المضاف إليه منها . وقرىء : "عِدة" بكسر العين بغير إضافة ، و "عدة" بإضافة . فإن قلت : كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت : لما كان قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليَّ زيد ، ولكن أساء إليّ { فَثَبَّطَهُمْ } فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث { وَقِيلَ اقعدوا } جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود . وقيل : هو قول الشيطان بالوسوسة . وقيل : هو قولهم لأنفسهم . وقيل : هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود . فإن قلت : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح؟ قلت : خروجهم كان مفسدة ، لقوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة . فإن قلت : فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت : لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى ، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه ، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها ، فمن ثم أتاه العتاب ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى ، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة ، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجّة ولم تبق لهم معذرة . ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق ، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر . فإن قلت : ما معنى قوله : { مَعَ القاعدين } ؟ قلت : هو ذمّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } [ التوبة : 87 ، 93 ] . { إِلاَّ خَبَالاً } ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأنَّ الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، كقولك : ما زادوكم خيراً إلاّ خبالا ، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء ، فكان استثناء متصلاً؛ لأنّ الخبال بعض أعمّ العام كأن قيل ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً والخبال الفساد والشر { ولأَوْضَعُواْ خلالكم } ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين .
(2/426)

يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا ، والمعنى : ولأوضع ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم؛ لأنّ الراكب أسرع من الماشي . وقرأ ابن الزبير رضي الله عنه : "ولأرقصوا" من رقصت الناقة رقصاً إذا أسرعت وأرقصتها قال :
وَالرَّاقِصَاتِ إلَى مِنى فَالْغَبْغَبِ ... وقرىء : "ولأوفضوا" فإن قلت : كيف خطّ في المصحف : ولا أوضعوا ، بزيادة ألف؟ قلت : كانت الفتحة تكتب إلفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحو : أو لا أذبحنه . { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم { وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ } أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم . أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم { وَلَقَدْ ابتغوا الفتنة } أي العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك ، كما فعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضي الله عنه : وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به { مِن قَبْلُ } من قبل غزوة تبوك { وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور } ودبروا لك الحيل والمكايد ، ودوَّروا الآراء في إبطال أمرك . وقرىء؛ "وقلبوا" بالتخفيف { حتى جَاء الحق } وهو تأييدك ونصرك { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } وغلب دينه وعلا شرعه .
(2/427)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{ ائذن لّي } في القعود { وَلاَ تَفْتِنّى } ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم ، بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت . وقيل : ولا تلقني في الهلكة ، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : قال الجدّ بن قيس : قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر يعني نساء الروم ، ولكني أعينك بمال فاتركني . وقرىء : "ولا تفتني" من أفتنه { أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ } أي إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها ، وهي فتنة التخلف . وفي مصحف أبيّ رضي الله عنه : سقط؛ لأنّ "من" موحد اللفظ مجموع المعنى { لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة . أو هي محيطة بهم الآن؛ لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها .
(2/428)

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{ إِن تُصِبْكَ } في بعض الغزوات { حَسَنَةٌ } ظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدّة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الإنحراف عنك ، و { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي أمرنا الذي نحن متسمون به ، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم { مِن قَبْلُ } من قبل ما وقع . وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون . وقيل : تولوا : أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(2/429)

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قرأ ابن مسعود رضي الله عنه : "قل هل يصيبنا" . وقرأ طلحة رضي الله عنه : "هل يصيّبنا" ، بتشديد الياء . ووجهه أن يكون "يفعيل" لا "يفعل" لأنه من بنات الواو ، كقولهم : الصواب ، وصاب السهم يصوب ، ومصاوب في جمع مصيبة ، فحقّ "يفعل" منه "يصوّب" ألا ترى إلى قولهم : صوّب رأيه ، إلاّ أن يكون من لغة من يقول : صاب السهم يصيب . ومن قوله : أسهمي الصائبات والصيب ، واللام في قوله : { إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل : لن يصيبنا إلاّ ما اختصنا الله [ به ] بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة . ألا ترى إلى قوله : { هُوَ مولانا } أي الذي يتولانا ونتولاه ، ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله ، فليفعلوا ما هو حقهم .
(2/430)

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{ إِلا إِحْدَى الحسنيين } إلاّ إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب ، وهما النصرة والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوأتين من العواقب ، إمّا { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود { أَوْ } بعذاب { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر { فَتَرَبَّصُواْ } بنا ما ذكرنا من عواقبنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } ما هو عاقبتكم ، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه .
(2/431)

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
{ أَنفَقُواْ } يعني في سبيل الله ووجوه البر { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } نصب على الحال ، أي طائعين أو مكرهين . فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ؟ قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى : { قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً . ونحوه قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] وقوله :
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةً ... أي لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك - أسأت إلينا أم أحسنت . فإن قلت : متى يجوز نحو هذا؟ قلت : إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيداً وغفر له ، فإن قلت : لم فعل ذلك؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة . والإحسان ، وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل :
أَخُوكَ الَّذِي إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا ... لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِي الْوُدِّ
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً . وقوله : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله ، أو ملزمين . وسمي الإلزام إكراهاً ، لأنهم منافقون ، فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه . أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم ، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه ، أو مكرهين من جهتهم . وروي : أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به فاتركني { إِنَّكُمْ } تعليل لردّ إنفاقهم . والمراد بالفسق : التمرّد والعتو .
(2/432)

وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{ أَنَّهُمْ } فاعل منع . وهم ، وأن تقبل مفعولاه . وقرىء : "أن تقبل" ، بالتاء والياء على البناء للمعفول . ونفقاتهم ، ونفقتهم ، على الجمع والتوحيد . وقرأ السلمي : "أن يَقْبل منهم نفقاتهم" على أن الفعل لله عزّ وجلّ { كسالى } بالضم والفتح ، جمع كسلان ، نحو سكارى وغيارى ، في جمع سكران وغيران ، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثواباً ، ولا يخشون بتركها عقاباً فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] وقرأت في بعض الأخبار :
( 467 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول : كسلت ، كأنه ذهب إلى هذه الآية ، فإنّ الكسل من صفات المنافقين ، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه . فإن قلت : الكراهية خلاف الطواعية وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله { طَوْعاً } ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلاّ وهم كارهون . قلت : المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلاّ عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار .
(2/433)

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
الإعجاب بالشيء : أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه . والمعنى : فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } [ طه : 131 ] فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب ، بأن عرضه للتغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير ، وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم . فإن قلت : إن صحّ تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم { وَهُمْ كافرون } ؟ قلت : المراد الاستدراج بالنعم ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة .
(2/434)

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{ لَمِنكُمْ } لمن جملة المسلمين { يَفْرَقُونَ } يخافون القتل وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية { مَلْجَئاً } مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة { أَوْ مغارات } أو غيراناً . وقرىء بضم الميم ، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور . وقيل : هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا ، يعني : أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم . ويجوز أن يكون من : أغار الثعلب ، إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومفارّ { أَوْ مُدَّخَلاً } أو نفقاً يندسون فيه وينجحرون ، وهو مفتعل من الدخول . وقرىء مدخلاً من دخل ومدخلاً من أدخل : مكاناً يدخلون فيه أنفسهم . وقرأ أبيّ بن كعب رضي الله عنه : متدخلاً وقرىء : لو ألوا إليه لالتجؤا إليه { يَجْمَحُونَ } يسرعون إسراعاً لا يردّهم شيء؛ من الفرس الجموح ، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام . وقرأ أنس رضي الله عنه : يجمزون . فسئل فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدّون واحد .
(2/435)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{ يَلْمِزُكَ } يعيبك في قسمه الصدقات ويطعن عليك . قيل : هم المؤلفة قلوبهم . وقيل : هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال :
( 468 ) اعدل يا رسول الله ، فقال صلوات الله عليه وسلامه " ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ " وقيل : هو أبو الجواظ ، من المنافقين ، قال :
( 469 ) ألا ترون إلى صاحبكما إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ، وهو يزعم أنه يعدل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً" فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام "احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون" . وقرىء : يلمزك بالضم ، ويلمزك ويلامزك . التثقيل والبناء على المفاعلة مبالغة في اللمز . ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم ، لا للدين وما فيه صلاح أهله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه . وإذا للمفاجأة : أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا للسخط .
(2/436)

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
جواب "لو" محذوف تقديره : لو أنهم رضوا لكان خيراً لهم . والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا : كفانا فضل الله وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أتانا اليوم { إِنَّا إِلَى الله } في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون .
(2/437)

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء } قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها ، لا تتجاوزها إلى غيرها ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم . ونحوه قولك : إنما الخلافة لقريش ، تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها ، وعليه مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزاك . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ . وعند الشافعيّ رضي الله عنه ، لا بدّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وعن عكرمة رضي الله عنه أنها تفرق في الأصناف الثمانية . وعن الزهري أنه كتب لعمر بن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية { والعاملين عَلَيْهَا } السعاة الذين يقبضونها { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئاً منها حين كان في المسلمين قلة . والرقاب : المكاتبون يعانون منها . وقيل : الأسارى . وقيل : تبتاع الرقاب فتعتق { والغارمين } الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب . وقيل : الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا { وَفِى سَبِيلِ الله } فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنيّ حيث ماله { فَرِيضَةً مّنَ الله } في معنى المصدر المؤكد ، لأن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم . وقرىء : "فريضة" بالرفع على : تلك فريضة . فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن "في" للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً ، وذلك لما في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرقّ أو الأسر ، وفي فكّ الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير "في" في قوله : { وَفِى سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت : دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم ، حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟ .
(2/438)

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع ، كأن جملته أذنٌ سامعة ، ونظيره قولهم للربيئة . عين . وإيذاؤهم له : هو قولهم فيه { هُوَ أُذُنٌ } . وأذن خير ، كقولك : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن . ويجوز أن يريد : هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك ودلّ عليه قراءة حمزة "ورحمةٍ" بالجرّ عطفاً عليه أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله . ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله ، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار ، وهو رحمة لمن آمن منكم ، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم ، فهو أذن كما قلتم ، إلاّ أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه ، إلا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه ، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته ، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة . وقيل : إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك ، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم : لا عليكم فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن ، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضاً فيرضى ، فقيل : هو أذن خير لكم . وقرىء : "أذن خير لكم" ، على أن أذن خبر مبتدإ محذوف؛ وخير كذلك ، أي هو أذن هو خير لكم يعني إن كان كما تقولون فهو خير لكم ، لأنه يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء دخلتكم . وقرأ نافع بتخفيف الذال . فإن قلت : لم عدّي فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى ، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت : لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به ، فعدّي بالباء وقصد السماع من المؤمنين ، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدّقه ، لكونهم صادقين عنده ، فعدّي باللام ، ألا ترى إلى قوله : { وَما أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين } [ يوسف : 17 ] ما أنبأه عن الباء . ونحوه : { فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه } [ يونس : 83 ] ، { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] ، { ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] فإن قلت : ما وجه قراءة ابن أبي عبلة : ورحمة بالنصب؟ قلت : هي علة معللها محذوف تقديره : ورحمة لكم يأذن لكم ، فحذف لأنّ قوله : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } يدلّ عليه .
(2/439)

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
{ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكانا في حكم مرضيّ واحد ، كقولك : إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني . أو والله أحقّ أن يرضوه ، ورسوله كذلك .
(2/440)

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
المحادة مفاعلة من الحدّ كالمشاقة من الشقّ { فَأَنَّ لَهُ } على حذف الخبر ، أي : فحق أن له { نَارِ جَهَنَّمَ } وقيل : معناه فله ، وأنّ : تكرير؛ لأن في قوله : { أَنَّهُ } تأكيداً ، ويجوز أن يكون { فأَنَّ لَهُ } معطوفاً على أنه ، على أن جواب { مَن } محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم . وقرىء : "ألم تعلموا" بالتاء .
(2/441)

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
كانوا يستهزؤن بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم؛ حتى قال بعضهم : والله لا أرانا إلاّ شرّ خلق الله ، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة؛ وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا . والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين . وفي قلوبهم : للمنافقين . وصحّ ذلك لأن المعنى يقود إليه . ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين؛ لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم . ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم كأنها تقول لهم : في قلوبكم كيت وكيت ، يعني أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها . وقيل : معنى يحذر : الأمر بالحذر ، أي ليحذر المنافقون . فإن قلت : الحذر واقع على إنزال السورة في قوله : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } فما معنى قوله : { مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } ؟ قلت : معناه محصل مبرز إنزال السورة . أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه ، أي تحذرون إظهاره من نفاقكم .
(2/442)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
( 470 ) بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب ، فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا ، فقالوا : يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر { أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم ، وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته { لاَ تَعْتَذِرُواْ } لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة ، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم { قَدْ كَفَرْتُمْ } قد ظهر كفركم باستهزائكم { بَعْدَ إيمانكم } بعد إظهاركم الإيمان { إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق { نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } مصرين على النفاق غير تائبين منه . أو أن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستهزؤوا فلم نعذبهم في العاجل نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين . وقرأ مجاهد : إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ، والوجه التذكير : لأنّ المسند إليه الظرف ، كما تقول : سير بالدابة . ولا تقول : سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن ترحم طائفة ، فأنث لذلك وهو غريب ، والجيد قراءة العامّة : إن يعف عن طائفة ، بالتذكير . وتعذب طائفة ، بالتأنيث . وقرىء : إن يعف عن طائفة يعذب طائفة ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجلّ .
(2/443)

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [ التوبة : 56 ] وتقرير قوله : { وَمَا هُم مّنكُمْ } [ التوبة : 56 ] ثم وصفهم بما يدلّ على مضادة حالهم لحال المؤمنين { يَأْمُرُونَ بالمنكر } بالكفر والمعاصي { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } عن الإيمان والطاعات { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } شحا بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله { نَسُواْ الله } أغفلوا ذكره { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضله { هُمُ الفاسقون } هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم ، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كسلت ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : { كسالى } [ النساء : 142 ] فما ظنك بالفسق { خالدين فِيهَا } مقدّرين الخلود { هِىَ حَسْبُهُمْ } دلالة على عظم عذابها ، وأنه لا شيء أبلغ منه ، وأنه بحيث لا يزاد عليه ، نعوذ بالله من سخطه وعذابه { وَلَعَنَهُمُ الله } وأهانهم من التعذيب ، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين ، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرمين { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار ، مقيم دائم كعذاب النار . ويجوز أن يريد : ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والظاهر المخالف للباطن ، خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم .
(2/444)

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
الكاف محلها رفع على : أنتم مثل الذين من قبلكم . أو نصب على : فعلتم ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا . ونحوه قول النمر :
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا ... بإضمار "لم أر" وقوله : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } تفسير لتشبيههم بهم ، وتمثيل فعلهم بفعلهم . والخلاق : النصيب وهو ما خلق للإنسان ، أي قدّر من خير ، كما قيل له "قسم" لأنه قسم . ونصيب ، لأنه نصب ، أي أثبت . والخوض : الدخول في الباطل واللهو { كالذي خَاضُواْ } كالفوج الذي خاضوا ، وكالخوض الذي خاضوه . فإن قلت : أي فائدة في قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم } مغن عنه كما أغنى قوله : { كالذى خَاضُواْ } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت : فائدته أن يذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله . وأما { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } فمعطوف على ما قبله مستند إلى مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة { حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة } نقيض قوله : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] .
(2/445)

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{ وأصحاب مَدْيَنَ } وأهل مدين وهم قوم شعيب { والمؤتفكات } مدائن قوم لوط . وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح . وائتفاكهنّ : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } فما صحّ منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم ، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه .
(2/446)

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في مقابلة قوله في المنافقين : { بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } . { سَيَرْحَمُهُمُ الله } السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد ، كما تؤكد الوعيد في قولك : سأنتقم منك يوماً ، تعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونحوه { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } [ مريم : 96 ] ، { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] ، { سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [ النساء : 152 ] . { عَزِيزٌ } غالب على كل شيء قادر عليه ، فهو يقدر على الثواب والعقاب { حَكِيمٌ } واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق { ومساكن طَيّبَةً } عن الحسن : قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد . و { عَدْنٍ } علم ، بدليل قوله : { جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن } [ مريم : 61 ] ويدلّ عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 471 ) "عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصدّيقون ، والشهداء . يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك" وقيل : هي مدينة في الجنة . وقيل : نهر جناته على حافاته { ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ } وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله ، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة ، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته ، والكرامة أكبر أصناف الثواب ، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم ، وإنما تتهنأ له برضاه ، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه ، ولم يجد لها لذة وإن عظمت . وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة من مشايخنا يقول : لا تطمح عيني ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة ، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عني ، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده { ذلك } إشارة إلى ما وعد الله ، أو إلى الرضوان : أي هو { الفوز العظيم } وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً . وروى :
( 472 ) " أنّ الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً " .
(2/447)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{ جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالحجّة { واغلظ عَلَيْهِمْ } في الجهادين جميعاً ، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه ، يجاهد بالحجة ، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها ، وعن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فإن لم يستطع فبقلبه . يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه . وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها .
(2/448)

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
( 473 ) أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم ، منهم الجلاس بن سويد . فقال الجُلاَس : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا ، فنحن شرّ من الحمير . فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل ، والله إنّ محمداً لصادق وأنت شرّ من الحمار . وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستحضر فحلف بالله ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللَّهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزلت { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } فقال الجلاس : يا رسول الله ، لقد عرض الله عليّ التوبة . والله لقد قلته وصدق عامر ، فتاب الجلاس وحسنت توبته { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند مرجعه من تبوك :
( 474 ) تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا . وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس . وقيل : أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبيّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم { وَمَا نَقَمُواْ } وما أنكروا وما عابوا { إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى { فَإِن يَتُوبُواْ } هي الآية التي تاب عندها الجلاس { فِى الدنيا والاخرة } بالقتل والنار .
(2/449)

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
روي : أنّ ثعلبة بن حاطب قال :
( 475 ) يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : "يا ثعلبة ، قليل تؤدّي شكره وخير من كثير لا تطيقه" فراجعه وقال : والذي بعثك بالحقّ لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقّه ، فدعا له ، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه واد . قال : "يا ويح ثعلبة" ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات ، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض ، فقال : ما هذه إلاّ جزية ، ما هذه إلاّ أخت الجزية ، وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه : "يا ويح ثعلبة" مرّتين ، فنزلت ، فجاءه ثعلبة بالصدقة ، فقال : "إنّ الله منعني أن أقبل منك ، فجعل التراب على رأسه فقال : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وجاء إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه . وقرىء : "لنصدّقن ولنكوننْ" بالنون الخفيفة فيهما { مّنَ الصالحين } قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد الحجّ { فَأَعْقَبَهُمْ } عن الحسن وقتادة رضي الله عنهما : أن الضمير للبخل . يعني : فأورثهم البخل { نِفَاقاً } متمكناً { فِى قُلُوبِهِمْ } لأنه كان سبباً فيه وداعياً إليه . والظاهر أن الضمير لله عزّ وجلّ . والمعنى : فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح وكونهم كاذبين . ومنه : جعل خلف الوعد ثلث النفاق . وقرىء : "يكذبون" ، بالتشديد ، وألم تعلموا ، بالتاء . عن عليّ رضي الله عنه .
(2/450)

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{ سِرَّهُمْ ونجواهم } ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها .
(2/451)

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{ الذين يَلْمِزُونَ } محله النصب أو الرفع على الذمّ . ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلاً من الضمير في سرهم ونجواهم . وقرىء : "يلمزون" ، بالضم { المطوعين } المتطوّعين المتبرعين . روي :
( 476 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب . وقيل : بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف ، فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " - فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً - وتصدّق عاصم بن عديّ بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع من تمر فقال : بتّ ليلتي أجرّ بالجرير على صاعين ، فتركت صاعاً لعيالي ، وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات ، فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاّ رياء ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ، ولكنه أحبّ أن يذكر بنفسه ليعطي من الصدقات ، فنزلت { إِلاَّ جُهْدَهُمْ } إلاّ طاقتهم . قرىء بالفتح والضم { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } كقوله : { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] في أنه دعاء . ألا ترى إلى قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
(2/452)

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
( 477 ) سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل ، فنزلت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين " فنزلت : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر ، كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، وإن فيه معنى الشرط ، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر ، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير ، قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
لاّصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي ... سَبْعِينَ أَلْفاً عَاقِدِي النَّوَاصِي
فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ } . . . الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال : "قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين" قلت : لم يخف عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، كقول إبراهيم عليه السلام { وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة : لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض .
(2/453)

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{ المخلفون } الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو { خلاف رَسُولِ الله } خلفه . يقال : أقام خلاف الحي . بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم ، وتشهد له قراءة أبي حيوة : خلف رسول الله . وقيل : هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض ، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال ، أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له { أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ } تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاقّ العظام لوجه لله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض . وكره ذلك المنافقون . وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا } استجهال لهم ، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوُّن في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل : ولبعضهم :
مَسَرَّةُ أَحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ... مَسَاءَةَ يَوْمٍ أَرْيُهَا شِبْهُ الصَّاب
فَكَيْفَ بَأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَة ... وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَة أَحْقَابِ
(2/454)

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
معناه : فسيضحكون قليلاً ، ويبكون كثيراً { جَزَاءً } إلاّ أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره . يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا ، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم .
(2/455)

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
وإنما قال { إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف ، أو اعتذر بعذر صحيح . وقيل : لم يكن المخلقون كلهم منافقين ، فأراد بالطائفة : المنافقين منهم { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك . { أَوَّلَ مَرَّةٍ } هي الخروج إلى غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلاّ النفاق ، بخلاف غيرهم من المتخلفين { مَعَ الخالفين } قد مرّ تفسيره . [ و ] قرأ مالك بن دينار رحمه الله : "مع الخلفين" على قصر الخالفين . فإن قلت : { مَرَّةٍ } نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت : أكثر اللغتين : هند أكبر النساء ، وهي أكبرهنّ . ثم إنّ قولك : هي كبرى امرأة ، لا تكاد تعثر عليه . ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً قيل فيهم ما قيل .
(2/456)

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
روي :
( 478 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبيّ بعث إليه ليأتيه ، فلما دخل عليه قال : أهلكك حبّ اليهود . فقال : يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبني وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلّي عليه ، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته ، فسأله عن اسمه فقال : أنت عبد الله ابن عبد الله . الحباب : اسم شيطان ، فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر : أتصلّي على عدوّ الله ، فنزلت وقيل : أراد أن يصلّي عليه فجذبه جبريل . فإن قلت : كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ قلت : كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له . وذلك
( 479 ) أنّ العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلاً طوالاً ، فكساه عبد الله قميصه .
( 480 ) وقال له المشركون يوم الحديبية : إنا لا نأذن لمحمد ولكنا نأذن لك ، فقال : لا ، إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ، وإجابة له إلى مسئلته إياه ، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يردّ سائلاً ، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام ، وإكراماً لابنه الرجل الصالح ، فقد روي : أنه قال له :
( 481 ) أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك ، وأن تقوم على قبره ، ولا يشمت به الأعداء ، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره ، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان ، وليكون إلباسه إياه لطفاً لغيره ، فقد روي أنه قيل له :
( 482 ) لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال : " إنّ قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً ، وإني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب " فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف ، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك ، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتماً عليه . فإن قلت : فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت : لم يتقدم نهي عن الصلاة عليهم ، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم ، لما في ذلك من المصلحة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما أدري ما هذه الصلاة ، إلاّ أني أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع { مَّاتَ } صفة لأحد . وإنما قيل : مات ، وماتوا بلفظ الماضي - والمعنى على الاستقبال - على تقدير الكون والوجود؛ لأنه كائن موجود لا محالة { أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } تعليل للنهي ، وقد أعيد قوله : { وَلاَ تُعْجِبْكَ } لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه .
(2/457)

وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها في قوله : { وَإِذَا نُزّلَتْ سُورَةٌ } كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه . وقيل : هي براءة ، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد { أَنْ ءَامِنُوا } هي أن المفسرة { أُوْلُو الطول } ذوو الفضل والسعة ، من طال عليه طولاً { مَعَ القاعدين } مع الذين لهم علة وعذر في التخلف { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك { لكن الرسول } أي إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً ، كقوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً } [ الأنعام : 89 ] ، { فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبّكَ } [ فصلت : 38 ] . { الخَيْرَاتِ } تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ . وقيل : الحور ، لقوله : { فِيهِنَّ خيرات } [ الرحمن : 70 ] .
(2/458)

وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{ المعذرون } من عذر في الأمر ، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ : وحقيقته أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له : أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم ، ولكن لم تثبت بهما قراءة ، وهم الذين يعتذرون بالباطل ، كقوله : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } وقرىء : "المعذرون" بالتخفيف : وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه . قيل : هم أسد وغطفان . قالوا : إن لنا عيالاً : وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف . وقيل :
( 483 ) هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيّ على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : "سيغنيني الله عنكم" . وعن مجاهد . نفر من غفار ، اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى : وعن قتادة : اعتذروا بالكذب . وقرىء : "المعذرون" بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر ، وهذا غير صحيح؛ لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاي والصاد ، في المطوّعين ، وأزكى وأصدق . وقيل : أريد المعتذرون بالصحة ، وبه فسر المعذرون والمعذرون ، على قراءة ابن عباس رضي الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا ، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان . وقرأ أبيّ : "كذبوا" بالتشيد { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } من الأعراب { عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار .
(2/459)

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ الضعفاء } الهرمى والزمنى . والذين لا يجدون : الفقراء . وقيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة . والنصح لله ورسوله : الإيمان بهما ، وطاعتهما في السرّ والعلن ، وتوليهما ، والحبّ والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه { عَلَى المحسنين } على المعذورين الناصحين ، ومعنى : لا سبيل عليهم : لا جناح عليهم . ولا طريق للعاتب عليهم { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } حال من الكاف في { أَتَوْكَ } وقد قبله مضمرة ، كما قيل في قوله : { أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد { تَوَلَّوْاْ } ولقد حصر الله المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة ، والذين عدموا آلة الخروج ، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها . وقيل : "المستحملون" أبو موسى الأشعري وأصحابه . وقيل : البكاؤون ، وهم ستة نفر من الأنصار { تَفِيضُ مِنَ الدمع } كقولك : تفيض دمعاً ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض ، و "من" للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز { أَلاَّ يَجِدُواْ } لئلا يجدوا . ومحله نصب على أنه مفعول له ، وناصبه المفعول له الذي هو حزناً .
(2/460)

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
فإن قلت : { رَضُواْ } ما موقعه؟ قلت : هو استئناف ، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } يعني أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم . فإن قلت : فهل يجوز أن يكون قوله : { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } استئنافاً مثله ، كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ فقيل : قلت لا أجد ما أحملكم عليه . إلاّ أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { قُلْتَ } نعم ويحسن { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } علة للنهي عن الاعتذار؛ لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال وقوله : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله عزّ وجلّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد ، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } أتنيبون أم تثبتون على كفركم { ثُمَّ تُرَدُّونَ } إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسرّ وعلانية ، فيجازيكم على حسب ذلك .
(2/461)

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
{ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم ، يعني أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة . والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه ، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار ، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً ، فلا تتكلفوا عتابهم .
(2/462)

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } أي غرضهم في الحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها . وقيل : إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم . وقيل :
( 484 ) هم جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما ، وكانوا ثمانين رجلاً منافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة : " لا تجالسوهم ولا تكلموهم " وقيل : جاء عبد الله بن أبيّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً .
(2/463)

الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{ الاعراب } أهل البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنّة { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ } وأحقّ بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 485 ) " إنّ الجفاء والقسوة في الفدّادين " { والله عَلِيمٌ } يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر { حَكِيمٌ } فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه .
(2/464)

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{ مَغْرَمًا } غرامة وخسراناً . والغرامة : ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلاّ تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله عزّ وجلّ وابتغاء المثوبة عنده { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } دوائر الزمان : دوله وعقبه لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } دعاء معترض ، دعى عليهم بنحو ما دعوا به ، كقوله عزّ وجلّ : { قَالَتْ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة : 64 ] وقرىء "السُّوء" بالضم وهو العذاب ، كما قيل له سيئة . والسوء بالفتح ، وهو ذمّ للدائرة ، كقولك : رجل سوء ، في نقيض قولك : رجل صدق ، لأنّ من دارت عليه ذامّ لها { والله سَمِيعٌ } لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة { عَلِيمٌ } بما يضمرون . وقيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم { قربات } مفعول ثان ليتخذ . والمعنى : أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله { وصلوات الرسول } لأنّ الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ، كقوله :
( 486 ) " اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى " وقال تعالى : { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 103 ] فلما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل : يتخذ ما ينفق قربات وصلوات { ألا إِنَّهَا } شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف ، مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ } وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدلّ هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها . وقرىء : "قُربة" بضم الراء . وقيل : هم عبد الله وذو البجادين ورهطه .
(2/465)

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } هم الذين صلّوا إلى القبلتين . وقيل : الذين شهدوا بدراً . وعن الشعبي : من بايع بالحديبية وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين { و } من { الأنصار } أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن . وقرأ عمر رضي الله عنه : "والأنصارُ" بالرفع عطفاً على ( السابقون ) . وعن عمر أنه كان يرى أن قوله : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } بغير واو صفة للأنصار ، حتى قال له زيد : إنه بالواو ، فقال : ائتوني بأبيّ ، فقال تصديق ذلك في أول الجمعة { وَءاخَرِينَ مِنْهُم } [ الجمعة : 3 ] وأوسط الحشر { والذين جاءوا مّن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وآخر الأنفال { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ } [ الأنفال : 75 ] . وروي : أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو ، فقال : من أقرأك؟ قال : أبيّ ، فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع ، قال : صدقت ، وإن شئت قلت : شهدنا وغبتم ، ونصرنا وخذلتم ، وآوينا وطردتم . ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، وارتفع السابقون بالابتداء ، وخبره { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } ومعناه : رضي عنهم لأعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وفي مصاحف أهل مكة : تجري من تحتها ، وهي قراءة ابن كثير ، وفي سائر المصاحف : تحتها ، بغير من .
(2/466)

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني حول بلدتكم وهي المدينة { منافقون } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } عطف على خبر المبتدإ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدإ والخبر إذا قدّرت : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق ، على أنّ { مَرَدُواْ } صفة موصوف محذوف كقوله :
أَنَا ابْنُ جَلاَ . . . . . . . . . . . . ... وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ أو صفة لمنافقون ، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } تمهروا فيه ، من مرن فلان عمله ، ومرد عليه : إذا درب به وضرى ، حتى لان عليه ومهر فيه ، ودّل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله : { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم ، ثم قال : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلاّ الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به ، فلهم فيه اليد الطولى { سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } قيل : هما القتل وعذاب القبر . وقيل : الفضيحة وعذاب القبر . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين ، فقال :
( 487 ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال : "اخرج يا فلان فإنك منافق ، اخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج ناساً وفضحهم ) ، فهذا العذاب الأوّل ، والثاني عذاب القبر . وعن الحسن : أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم { إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } إلى عذاب النار .
(2/467)

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين ، وكانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام . وقيل :
( 488 ) كانوا عشرة ، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم : بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك ، فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل المسجد فصلى ركعتين - وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر -فرآهم موثقين ، فسأل عنهم ، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم ، فقال : وأنا أقسم أن لا أحلّهم حتى أومر فيهم ، فنزلت ، فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ، فنزلت : خذ من أموالهم { عَمَلاً صالحا } خروجاً إلى الجهاد { وَءَاخَرَ سَيِّئاً } تخلفاً عنه . عن الحسن وعن الكلبي : التوبة والإثم . فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت : كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به؛ لأنّ المعنى خلط كل واحد منهما الآخر ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد : خلطت كل واحد منهما بصاحبه . وفيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن؛ لأنّك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به ، وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ، ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاة شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم . فإن قلت : كيف قيل : { أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وما ذكرت توبتهم؟ قلت : إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم ، وهو دليل على التوبة ، فقد ذكرت توبتهم .
(2/468)

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{ تُطَهّرُهُمْ } صفة لصدقة . وقرىء : "تطهرهم" ، من أطهره بمعنى طهره . و "تطهرهم" ، بالجزم جواباً للأمر . ولم يقرأ { وَتُزَكّيهِمْ } إلاّ بإثبات الياء . والتاء في { تُطَهّرُهُمْ } للخطاب أو لغيبة المؤنث . والتزكية : مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم ، والسنّة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخذها . وعن الشافعي رحمه الله : أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة : أجرك الله فيما أعطيت ، وجعله طهوراً ، وبارك لك فيما أبقيت . وقرىء : "إن صلاتك" على التوحيد { سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { والله سَمِيعٌ } يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم ، والغمّ من الندم لما فرط منهم .
(2/469)

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قرىء : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } بالياء والتاء ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يراد المتوب عليهم ، يعني : ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة } إذا صحّت ، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية ، وهو للتخصيص والتأكيد ، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين . وقيل : معنى التخصيص في هو : أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردّها ، فاقصدوه بها ووجهوها إليه .
(2/470)

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { اعملوا } فإن عملكم لا يخفى - خيراً كان أو شراً - على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم . والثاني : أن يراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ، فقد روي أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت . فإن قلت : فما معنى قوله : { وَيَأْخُذُ الصدقات } قلت : هو مجاز عن قبوله لها ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل والمعنى : أنه يتقبلها ويضاعف عليها ، وقوله : { فَسَيَرَى الله } وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة .
(2/471)

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قرىء : "مرجون" و "مرجؤن" من أرجيته ، وأرجأته : إذا أخرته . ومنه المرجئة ، يعني : وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ } إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا ، وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة ابن الربيع : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغمّ ، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى ، وأخلصوا نياتهم ، ونصحت توبتهم ، فرحمهم الله { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . وفي قراءة عبد الله : غفور رحيم . وإمّا للعباد : أي خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة .
(2/472)

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
في مصاحف أهل المدينة والشام : الذين اتخذوا بغير واو ، لأنها قصة على حيالها . وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم . روي :
( 489 ) أنّ بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي فيه ، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم ، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : لا أجد قوماً يقاتلوك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين . أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل . وإذا قدمنا إن شاء الله صلّينا فيه ، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد ، فنزلت عليه ، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عديّ وعامر بن السكن ووحشي قاتل حمزة ، فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ، ففعلوا ، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين { ضِرَارًا } مضارْة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ومعازة { وَكُفْراً } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا } وإعداداً { ل } أجل { منْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو الراهب : أعدوه له ليصلّي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار . وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر؛ فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحبّ أن أصلّي فيه ، فإنّه بني على ضرار ، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإنّ أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً . وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه ، فإن قلت : { والذين اتخذوا } ما محله من الإعراب؟ قلت : محله النصب على الاختصاص .
(2/473)

كقوله : { المقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، معناه : وفيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] . فإن قلت : بم يتصل قوله : { مِن قَبْلُ } ؟ قلت : باتخذوا ، أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف { إِنْ أَرَدْنَا } ما أردنا ببناء هذا المسجد { إِلاَّ } إلا الخصلة { الحسنى } أو الإرادة الحسنة ، وهي الصلاة . وذكر الله والتوسعة على المصلين { لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى } قيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى ، لأنّ الموازنة بين مسجدي قباء أوقع . وقيل : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وعن أبي سعيد الخدري :
( 490 ) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال : " هو مسجدكم هذا مسجد المدينة " { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أول يوم من أيام وجوده { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قيل :
( 491 ) لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم ، ثم أعادها : فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم . فقال صلى الله عليه وسلم : "أترضون بالقضاء؟" قالوا : نعم ، قال : "أتصبرون على البلاء؟" قالوا : نعم . قال : "أتشكرون في الرخاء؟" قالوا : نعم . قال صلى الله عليه وسلم : "مؤمنون ورب الكعبة" . فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار ، إنّ الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ، فقالوا : يا رسول الله ، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } . وقرىء؛ "أن يطهروا" بالإدغام . وقيل : هو عام في التطهر من النجاسات كلها . وقيل : كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ، ويتبعون الماء أثر البول . وعن الحسن : هو التطهر من الذنوب بالتوبة . وقيل : يحبّون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم ، فحموا عن آخرهم . فإن قلت : ما معنى المحبتين؟ قلت : محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهى له على إيثاره . ومحبة الله تعالى إياهم : أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم ، كما يفعل المحبّ بمحبوبه .
(2/474)

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قرىء : أسس بنيانه" و "أُسس بنيانه" ، على البناء للفاعل والمفعول . وأسس بنيانه ، جمع أساس على الأضافة ، وأساس بنيانه ، بالفتح والكسر : جمع أس؛ وآساس بنيانه على أفعال ، جمع أس أيضاً ، وأس بنيانه . والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه { خَيْرٌ أَم مَّنْ } أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء ، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } في قلة الثبات والاستمساك ، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى؛ لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى . فإن قلت : فما معنى قوله : { فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } ؟ قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل : فانهار به في نار جهنم ، على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلاّ أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها . والشفا : الحرف والشفير . وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً . والهار : الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . ووزنه فعل ، قصر عن فاعل ، كخلف من خالف . ونظيره : شاك وصات ، في شائك وصائت . وألفه ليست بألف فاعل ، إنما هي عينه . وأصله هور وشوك وصوت . ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره . وقرىء : جرف ، بسكون الراء : فإن قلت : فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر : على تقوىً من الله ، بالتنوين؟ قلت : قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث ، كتترى فيمن نوّن ، ألحقها بجعفر . وفي مصحف أبيّ : فانهارت به قواعده . وقيل : حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه . وروي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار ، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فوالله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا شيوخاً لا يقرؤون من القرآن شيئاً ، فعذره وصدّقه وأمره بالصلاة بقومه .
(2/475)

لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{ رِيبَةً } شكاً في الدين ونفاقاً ، وكان القوم منافقين ، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ : { ضِرَارًا وَكُفْرًا } [ التوبة : 107 ] فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا -لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم - تصميماً على النفاق ومقتاً للإسلام ، فمعنى قوله : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } لا يزال هدمه سبب شكّ ، ونفاق زائد على شكّهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } قطعاً وتفرّق أجزاء ، فحينئذٍ يسلون عنه . وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار . وقرىء : "يقطع" ، بالياء . و "تقطع" بالتخفيف . و "تَقطع" بفتح التاء بمعنى تتقطع . وتقطع قلوبهم ، على أن الخطاب للرسول أي إلاّ أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم . وقرأ الحسن : إلى أن ، وفي قراءة عبد الله : "ولو قطعت قلوبهم" . وعن طلحة : ولو قطعت قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب . وقيل : معناه إلاّ أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم .
(2/476)

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى . وروى : تاجرهم فأغلى لهم الثمن . وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً . وعن الحسن : أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . وروي :
( 492 ) أنّ الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . قال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم . قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : لكم الجنة . قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل . ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ وهو يقرؤها فقال : كلام من؟ قال كلام الله . قال : بيع الله مربح لا نقيله ولا نستقيله ، فخرج إلى الغزو فاستشهد { يقاتلون } فيه معنى الأمر ، كقوله : { وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] . وقرىء : "فيقتلون" و "يقتلون" على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول ، وعلى العكس { وَعْدًا } مصدر مؤكد . أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته { فِي التوراة والإنجيل } كما أثبته في القرآن ، ثم قال : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح قط ، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ .
(2/477)

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{ التائبون } رفع على المدح . أي : هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين . ويدلّ عليه قراءة عبد الله وأبيّ رضي الله عنهما : "التائبين" بالياء إلى : والحافظين ، نصباً على المدح . ويجوز أن يكون جراً صفة للمؤمنين . وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف ، أي : التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا ، كقوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] وقيل : هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون . ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر ، أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال . وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق . و { العابدون } الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها . و { السائحون } الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم . وقيل : هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه .
(2/478)

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
قيل :
( 493 ) قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب : " أنت أعظم الناس عليَّ حقاً ، وأحسنهم عندي يداً ، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي " ، فأبى فقال : " لا أزال أتسغفر لك ما لم أنه عنه " ، فنزلت . وقيل :
( 494 ) لما افتتح مكة سأل أي أبويه أحدث به عهداً؟ فقيل : أمك آمنة ، فزار قبرها بالأبواء ، ثم قام مستعبراً فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي ، فنزلت . وهذا أصحّ لأنّ موت أبي طالب كان قبل الهجرة ، وهذا آخر ما نزل بالمدينة . وقيل : استغفر لأبيه . وقيل :
( 495 ) قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } لأنهم ماتوا على الشرك .
(2/479)

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قرأ طلحة وما استغفر إبراهيم لأبيه ، وعنه : وما يستغفر إبراهيم ، على حكاية الحال الماضية { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } أي وعدها إبراهيم أباه ، وهو قوله : { لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] ويدلّ عليه قراءة الحسن وحماد الراوية : وعدها أباه . فإن قلت : كيف خفي على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له ، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ، لأنّ العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر . ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه : لأستغفرنّ لك ما لم أنه . وعن الحسن
( 496 ) قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فلاناً يستغفر لأبائه المشركين ، فقال : ونحن نستغفر لهم فنزلت . وعن علي رضي الله عنه :
( 497 ) رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت له ، فقال : أليس قد استغفر إبراهيم فإن قلت : فما معنى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } ؟ قلت : معناه : فلما تبين له من جهة الوحي أنه لن يؤمن وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه ، قطع استغفاره فهو كقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] . { أَوَّاهٌ } فعال ، من أوه كلأل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه . ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له ، مع شكاسته عليه ، وقوله : "لأرجمنك" .
(2/480)

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالاً ، ولا يخذلهم إلاّ إذا أقدموا عليه بعد بيان خطره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب . وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم . وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه . وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها : وهي أنّ المهديّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال ، والمراد بما يتقون : ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ، وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف .
(2/481)

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{ تَابَ الله على النبى } كقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلاّ وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه ، كقوله : { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] ، { فِى سَاعَةِ العسرة } في وقتها ، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق ، كما استعملت الغداة والعشية واليوم :
غَدَاةً طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً
عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَراً ... إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى
يَجِدْ جُمْعَ كَفٍّ غَيْرَ مَلأَى وَلاَ صِفْر ... والعسرة : حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر : يعتقب العشرة على بعير واحد . وفي عسرة من الزاد : تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوّس والإهالة الزنخة ، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء . وفي عسرة من الماء ، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها . وفي شدّة زمان ، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة { كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } عن الثبات على الإيمان ، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه . وفي "كاد" ضمير الشأن ، وشبهه سيبويه بقولهم : ليس خلق الله مثله . وقرىء : "يزيغ" بالياء . وفي قراءة عبد الله : "من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم" ، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبي لبابة وأمثاله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكرير للتوكيد . ويجوز أن يكون الضمير للفريق : تاب عليهم لكيدودتهم .
(2/482)

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{ الثلاثة } كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية . ومعنى { خُلّفُواْ } خلفوا عن الغزو وقيل عن أبي لبابة وأصحابه حين تيب عليهم بعدهم وقرىء "خلفوا" أي خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم . وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه : "خالفوا" . وقرأ الأعمش : "وعلى الثلاثة المخلفين" { بِمَا رَحُبَتْ } برحبها ، أي : مع سعتها ، وهو مثل للحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعاً مما هم فيه { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي قلوبهم ، لا يسعها أنس ولا سرور؛ لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ { وَظَنُّواْ } وعلموا { أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ } سخط { الله إِلاَّ } إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى ، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا وليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة ، علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة . روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به . عن الحسن : بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال : يا حائطاه ، ما خلفني إلاّ ظلك وانتظار ثمرك ، اذهب فأنت في سبيل الله . ولم يكن لآخر إلاّ أهله فقال : يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلاّ الضنّ بك لا جرم ، والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فركب ولحق به . ولم يكن لآخر إلاّ نفسه لا أهل ولا مال ، فقال : يا نفس ما خلفني إلاّ حبّ الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله ، فتأبط زاده ولحق به . قال الحسن : كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصرّ عليها .
( 498 ) وعن أبي ذرّ الغفاري : أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : كن أبا ذرّ ، فقال الناس : هو ذاك ، فقال : " رحم الله أبا ذرّ ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " ( 499 )
وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء ، فرشت له في الظلّ ، وبسطت له الحصير ، وقرّبت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظلّ ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحّ والريح . : ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح ، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب فقال : "كن أبا خيثمة" فكانه .
(2/483)

ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له .
ومنهم من بقي لم يلحق به . منهم الثلاثة .
( 500 ) قال كعب : لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فردّ عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال : "ليت شعري ما خلف كعباً"؟ فقيل له : ما خلفه إلاّ حسن برديه والنظر في عطفيه . فقال معاذ : [ بئس ما قلت والله يا رسول الله ] ما أعلم إلاّ فضلاً وإسلاماً ، ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة ، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع : أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربي { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } وتتابعت البشارة ، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله حتى صافحني وقال : لتهنك توبة الله عليك ، فلن أنساها لطلحة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر : ( أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك ، ثم تلا علينا الآية ) . وعن أبي بكر الورّاق أنه سئل عن التوبة النصوح؟ فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه ، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه .
(2/484)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
{ مَعَ الصادقين } وقرىء : "من الصادقين" وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً ، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله : { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] وقيل : هم الثلاثة ، أي كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب ، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم ، واصدقوا مثل صدقهم . وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك . وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
( 501 ) لا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه . اقرءوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين فهل فيها من رخصة؟ { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه ، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله وأكرمها عليه . فإذا تعرضت مع كرامتها وعزّتها للخوض في شدّة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرّضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخفّ شيء عليهم وأهونه ، فضلاً عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ ، مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية { ذلك } إشارة إلى ما دلّ عليه قوله : ما كان لهم أن يتخلفوا من وجوب مشايعته ، كأنه قيل ذلك الوجوب { ب } سبب { إِنَّهُمْ لا يُصِيبَهُم } شيء من عطش ، ولا تعب ، ولا مجاعة في طريق الجهاد ، ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم . ولا يتصرفون في أرضهم تصرفاً يغيظهم ويضيق صدورهم { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } ولا يرزءونهم شيئاً بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله ، وذلك مما يوجب المشايعة . ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر ، كقوله عليه السلام :
( 502 ) " آخر وطأة وطئها الله بوج " والموطىء . إما مصدر كالمورد وإما مكان فإن كان مكاناً فمعنى يغيظ الكفار : يغيظهم وطئه والنيل أيضاً يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً ، وأن يكون بمنعى المنيل . ويقال : نال منه إذا رزأه ونقصه ، وهو عام في كل ما يسؤوهم وينكبهم ويلحق بهم ضرراً . وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وكذلك الشرّ . وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة ، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم .
(2/485)

( 503 ) ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر ، وقد قدما بعد تقضي الحرب ، وأمدّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه المهاجر بن أبي أمية وزياد بن أبي لبيد بعكرمة بن أبي جهل مع خمسمائة نفس ، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم . [ و ] عند الشافعي : لا يشارك المدد الغانمين ، وقرأ عبيد ابن عمير : "ظماء" بالمدح يقال : ظمىء ظماءة وظماء { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً } ولو تمرة ولو علاقة سوط { وَلاَ كَبِيرَةً } مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا } أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم ، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل "فاعل" من ودى إذا سال . ومنه الودي . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض . يقولون : لا تصلّ في وادي غيرك { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } ذلك من الإنفاق وقطع الوادي : ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله : { لِيَجْزِيَهُمُ } متعلق بكتب أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء .
(2/486)

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
اللام لتأكيد النفي . ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن . وفيه أنه لو صحّ وأمكن ، ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب التفقه على الكافة ، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر { مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ } أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير { لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه : إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة ، ومن التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً ، وفشوّ داء الضرائر بينهم وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم ، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجلّ : { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض وَلاَ فَسَاداً } [ القصص : 83 ] . { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملاً صالحاً . ووجه آخر : وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً - بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد - استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحي والتفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون ، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأنّ الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف . وقوله : { لّيَتَفَقَّهُواْ } الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف ، النافرة من بينهم { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه .
(2/487)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{ يَلُونَكُمْ } يقربون منكم ، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب . ونظيره { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم غزا الشام . وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر . وقيل : الروم ، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى . وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال : عليك بالروم . وقرىء : "غلظة" بالحركات الثلاث ، فالغلظة كالشدّة ، والغلظة كالضغطة ، والغلظة كالسخطة ونحوه { واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] { وَلاَ تَهِنُواْ } [ آل عمران : 139 ] وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر ، ومنه { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله } [ النور : 2 ] . { مَعَ المتقين } ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدّوه .
(2/488)

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورة { إيمانا } إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به . وأيكم : مرفوع بالابتداء . وقرأ عبيد بن عمير : "أيكم" بالفتح على إضمار فعل يفسره { زَادَتْهُ } تقديره : أيكم زادت زادته هذه إيماناً { فَزَادَتْهُمْ إيمانا } لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر . أو فزادتهم عملاً ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } كفراً مضموماً إلى كفرهم ، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحي كفراً ونفاقاً ، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم .
(2/489)

أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
قرىء : "أولا يرون" ، بالياء والتاء { يُفْتَنُونَ } يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم ، ولا يذكرون ، ولا يعتبرون ، ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده . أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين { هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ } من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم . أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا يقولون : هل يراكم من أحد . وقيل : معناه : إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح { قُلُوبَهُم } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يتدبرون حتى يفقهوا .
(2/490)

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم ، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي شديد عليه شاق - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحقّ الذي جاء به { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } . وقرىء : "من أنْفَسِكم" أي من أشرفكم وأفضلكم . وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما . وقيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } . { فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوّض إليه ، فهو كافيك معرّتهم ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم . وقرىء : { العظيم } بالرفع . وعن ابن عباس رضي الله عنه : العرش لا يقدر أحد قدره . وعن أبيّ ابن كعب : آخر آية نزلت : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 504 ) " ما نزل عليّ القرآن إلاّ آية آية وحرفاً حرفاً ، ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد ، فإنهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صفّ من الملائكة " .
(2/491)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{ الر } تعديد للحروف على طريق التحدي . و { تِلْكَ ءايات الكتاب } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة . و { الحكيم } ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها . أو وصف بصفة محدثة . قال الأعشى :
وَغَرِيبَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَة ... قَدْ قُلْتُها لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه . و { أَنْ أَوْحَيْنَا } اسم كان ، وعجباً : خبرها . وقرأ ابن مسعود : "عجب" فجعله اسماً وهو نكرة و { أَنْ أَوْحَيْنَا } خبراً وهو معرفة ، كقوله :
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ ... والأجود أن تكون "كان" تامة ، وأن أوحينا بدلاً من عجب . فإن قلت : فما معنى اللام في قوله : { كَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } ؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك : أكان عند الناس عجباً؟ قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزائهم وإنكارهم ، وليس في عند الناس هذا المعنى ، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر ، وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم ، دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أنّ الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلاّ يتيم أبي طالب ، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة ، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاّ بشر مثلهم . وقال الله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً ، لأنّ الله تعالى : إنما يختار من استحق الاختيار ، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة . والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } [ سبأ : 37 ] والبعث للجزاء على الخير والشرّ هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء { أَنْ أَنذِرِ الناس } أن هي المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول : ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر الناس ، على معنى : أن الشأن قولنا أنذر الناس . و { أَنَّ لَهُمْ } الباء معه محذوف { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } أي سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة . فإن قلت : لم سميت السابقة قدماً؟ قلت : لما كان السعي والسبق بالقدم ، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد . وباعاً لأنّ صاحبها يبوع بها ، فقيل : لفلان قدم في الخير . وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل ، وأنه من السوابق العظيمة ، وقيل : مقام صدق { إِنَّ هَذَا } إن هذا الكتاب وما جاء به محمد { لسحر } ومن قرأ : "لساحر" فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً ، وفي قراءة أبيّ : "ما هذا إلاّ سحر" .
(2/492)

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ يُدَبِّرُ } يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحري للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها ، لئلا يلقاه ما يكره آخراً . و { الامر } أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش . فإن قلت : ما موقع هذه الجملة؟ قلت : قد دلّ بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض ، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير ، وبالاستواء على العرش ، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره ، وكذلك قوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } دليل على العزة والكبرياء ، كقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] و { ذلكم } إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو ربكم ، وهو الذي يستحق منكم العبادة { فاعبدوه } وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان ، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي لا ترجعون في العاقبة إلاّ إليه فاستعدوا للقائه { وَعَدَ الله } مصدر مؤكد لقوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } و { حَقًّا } مصدر مؤكد لقوله : { وَعَدَ الله } . { إنَّهُ يبدؤ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه ، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم . وقرىء : "أنه يبدؤ الخلق" بمعنى لأنه . أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله : أي وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته . والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه . وقرىء : "وعد الله" ، على لفظ الفعل . ويبدىء ، من أبدأ . ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً ، أي حقّ حقاً بدأ الحلق ، كقوله :
أَحَقّاً عِبَادَ اللَّهِ أَنّ لَسْتُ جَائِيا ... وَلاَ ذَاهِباً إلاّ عَلَيَّ رَقِيبُ
وقرىء : "حق أنه يبدؤ الخلق" كقولك : حق أنّ زيداً منطلق { بالقسط } بالعدل ، وهو متعلق بيجزى . والمعنى : ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم . أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً ، لأنّ الشرك ظلم . قال الله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والعصاة : ظلاّم أنفسهم ، وهذا أوجه ، لمقابلة قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
(2/493)

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
الياء في { ضِيَاء } منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها . وقرىء : "ضئاء" بهمزتين بينهما ألف على القلب ، بتقديم اللام على العين ، كما قيل في عاق : عقا . والضياء أقوى من النور { وَقَدَّرَهُ } وقدّر القمر . والمعنى وقدّر مسيره { مَنَازِلَ } أو قدّره ذا منازل ، كقوله تعالى : { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] . { والحساب } وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي { ذلك } إشارة إلى المذكور أي ما خلقه إلاّ ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً . وقرىء : "يفصل" ، بالياء .
(2/494)

إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر .
(2/495)

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
{ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لا يتوقعونه أصلاً ، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم ، المذهلة باللذات وحبّ العاجل عن التفطن للحقائق . أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } من الآخرة ، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي ، كقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] . { واطمأنوا بِهَا } وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها ، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً .
(2/496)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدّي إلى الثواب ، لذلك جعل { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } بياناً له وتفسيراً ، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها ، ويجوز أن يريد : يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ، كقوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } [ الحديد : 12 ] ومنه الحديث :
( 505 ) " إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صُوِّر حسنة ، فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة وأما الكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " فإن قلت : فلقد دلّت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة ، هو إيمان مقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور . قلت : الأمر كذلك . ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل ، كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، ثم قال : بإيمانهم ، أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه { دَعْوَاهُمْ } دعاؤهم ، لأنّ "اللَّهم" نداء لله ومعناه : اللَّهم إنا نسبحك ، كقول القانت في دعاء القنوت : اللَّهم إياك نعبد ولك نصلّي ونسجد . ويجوز أن يراد بالدعاء : العبادة { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] على معنى : أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة ، وما عبادتهم إلاّ أن يسبحوا الله ويحمدوه ، وذلك ليس بعبادة ، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] . { وَءَاخِرُ دعواهم } وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح { أَنِ } يقولوا : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } . ومعنى { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } أنّ بعضهم يحيي بعضاً بالسلام . وقيل : هي تحية الملائكة إياهم ، إضافة للمصدر إلى المفعول . وقيل : تحية الله لهم . وأن هي المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه الحمد لله ، على أن الضمير للشأن كقوله :
أَنّ كُلَّ هالِكٌ مَنْ يَحْفَي وَيَنْتَعِلُ ... وقرىء : "أَنَّ الحمدَ لله" بالتشديد ونصب الحمد .
(2/497)

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
أصله { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر } تعجيله لهم الخير ، فوضع { استعجالهم بالخير } موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم ، والمراد أهل مكة . وقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء ، يعني : ولو عجلنا لهم الشرّ الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأميتوا وأهلكوا . وقرىء : "لقضى إليهم أجلهم" على البناء للفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ ، وتنصره قراءة عبد الله : "لقضينا إليهم أجلهم" فإن قلت : فكيف اتصل به قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } وما معناه؟ قلت : قوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله } متضمن معنى نفي التعجيل ، كأنه قيل : ولا نعجل لهم الشرّ ، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم { فِي طغيانهم } أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم ، إلزاماً للحجّة عليهم .
(2/498)

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{ لِجَنبِهِ } في موضع الحال ، بدليل عطف الحالين عليه أي دعانا مضطجعاً { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } . فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت : معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضرّ ، فهو يدعونا في حالاته كلها - إن كان مضطجعاً عاجز النهض متخاذل النوء أو كان قاعداً لا يقدر على القيام ، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب - إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها . ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالاً وهو صاحب الفراش . ومنهم من هو أخفّ وهو القادر على القعود . ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأنّ الإنسان للجنس { مَرَّ } أي مضى على طريقته الأولى قبل مسّ الضرّ ، ونسي حال الجهد . أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا } ، كأنه لم يدعنا ، فخفف وحذف ضمير الشأن قال :
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ ... { كذلك } مثل ذلك التزيين { زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات .
(2/499)

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
{ لَمَّا } ظرف لأهلكنا : والواو في { وَجَاءتْهُمْ } للحال ، أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات . وقوله : { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا ، وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي ، يعني : ما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم ، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم ، وأن الإيمان مستبعد منهم . والمعنى : أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجّة ببعثه الرسل { كذلك } مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك { نَجْزِي } كل مجرم ، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرىء : "يجزي" بالياء { ثُمَّ جعلناكم } الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا { لِنَنظُرَ } أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم . و { كَيْفَ } في محل النصب بتعلمون لا بننظر ، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله . فإن قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة قلت : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه .
(2/500)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
غاظهم ما في القرآن من ذمّ عبادة الأوثان والوعيد للمشركين ، فقالوا : { ائت بِقُرْءانٍ } آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك { أَوْ بَدّلْهُ } بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها . فأمر بأن يجيب عن التبديل ، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان ، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل ، وأن يسقط ذكر الآلهة . وأما الإتيان بقرآن آخر ، فغير مقدور عليه للإنسان { مَا يَكُونُ لِى } ما ينبغي لي وما يحلّ ، كقوله تعالى : { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } [ المائدة : 116 ] . { أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى } من قبل نفسي . وقرىء : بفتح التاء : من غير أن يأمرني بذلك ربي { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } لا آتي ولا أذر شيئاً من نحو ذلك ، إلاّ متبعاً لوحي الله وأوامره ، إن نسخت آية تبعت النسخ ، وأن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل ، وليس إليّ تبديل ولا نسخ { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } بالتبديل والنسخ من عند نفسي { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . فإن قلت : أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا : { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا } ؟ قلت : بلى ، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ، وكانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا . ويقولون : افترى على الله كذباً ، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله . مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه ، كان الواحد منهم أعجز . فإن قلت : لعلهم أرادوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ، من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته . وأراد بقوله : { مَا يَكُونُ لِى } ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله . قلت : يردّه قوله : { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } . فإن قلت : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت : الكيد والمكر . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل والتغيير ، فللطمع ولاختبار الحال . وأنه إن وجد منه تبديل ، فإما أن يهلكه الله فينجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله .
(3/1)

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{ لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } يعني أن تلاوته ليست إلاّ بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً ، يبهر كل كلام فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلاّ الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ولا أعلمكم به على لساني . وقرأ الحسن : "ولا أدراتكم به" على لغة من يقول : اعطاته وأرضاته ، في معنى أعطيته وأرضيته . وتعضده قراءة ابن عباس : "ولا أنذرتكم به" . ورواه الفراء : "ولا ادرأتكم به" وبالهمز . وفيه وجهان ، أحدهما : أن تقلب الألف همزة ، كما قيل : لبأت بالحج . ورثأت الميت وحلأت السويق ، وذلك لأنّ الألف والهمزة من وادٍ واحد . ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة . والثاني : أن يكون من درأته إذا دفعته ، وأدرأته إذا جعلته دارئاً . والمعنى : ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني . وعن ابن كثير : "ولأدراكم به" بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه : لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون سائر الناس { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً } وقرىء : "عمراً" بالسكون . يعني : فقد أقمت فيما بينكم يافعاً وكهلاً ، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلموا أنه ليس إلاّ من الله لا من مثلي . وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم : ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه .
(3/2)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم : إنه ذو شريك وذو ولد ، وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء .
(3/3)

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
{ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضرّ . وقيل : إن عبدوها لن تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرّهم ، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية . وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزّى ومناة وهبل وأسافاً ونائلة { و } كانوا { يَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } وعن النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى { أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ } أتخبرونه بكونكم شفعاء عنده ، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات ، لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم [ به ] ويخبر عنه ، فكان خبراً ليس له مخبر عنه . فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت : هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطوٍ تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه . وقرىء : "أتنبئون" بالتخفيف . وقوله : { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض } تأكيد لنفيه؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم { تُشْرِكُونَ } قرىء بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية ، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم .
(3/4)

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
{ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم ، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل . وقيل : بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهوتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } عاجلاً فيما اختلفوا فيه ، ولميز المحق من المبطل ، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب . وقالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات ، وجعلوا نزولها كلا نزول ، وكأنه لم ينزل آية قط ، حتى قالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ رَبَّهُ } ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغيّ { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } أي هو المختصّ بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به ، يعني أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلاّ هو { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات .
(3/5)

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ، ثم رحمهم بالحيا ، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه ، و "إذا" الأولى للشرط ، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة ، والمكر : إخفاء الكيد وطيه ، من الجارية الممكورة المطوية الخلق . ومعنى { مَسَّتْهُمْ } خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . فإن قلت : ما وصفهم بسرعة المكر ، فكيف صحّ قوله : { أَسْرَعُ مَكْرًا } ؟ قلت : بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة ، كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم ، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مسّ الضرّاء ، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم . والمعنى : أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ } إعلام بأنّ ما تظنونه خافياً مطوياً لا يخفى على الله ، وهو منتقم منكم . وقرىء : "يمكرون" ، بالتاء والياء . وقيل : مكرهم قولهم : سقينا بنوء كذا . وعن أبي هريرة :
( 506 ) إنّ الله ليُصَبِّح القوم بالنعمة ويُمَسِّيهم بها ، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا .
(3/6)

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قرأ زيد بن ثابت : "ينشركم" ومثله قوله : { فانتشروا فِى الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُون } [ الروم : 20 ] فإن قلت : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد "حتى" بما في حيّزها ، كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء . فإن قلت : ما جواب "إذا"؟ قلت : جاءتها . فإن قلت : فدعوا؟ قلت : بدل من ظنوا؛ لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به . فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح . فإن قلت : ما وجه قراءة أمّ الدرداء : "في الفلكي" بزيادة ياء النسب؟ قلت : قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمري . ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلاّ فيه .
والضمير في { جرين } للفلك ، لأنه جمع فلك كالأسد ، في فعل أخي فعل . وفي قراءة أمّ الدرداء : "للفلك" أيضاً؛ لأنّ الفلكي يدلّ عليه { جَاءتْهَا } جاءت الريح الطيبة ، أي تلقتها . وقيل : الضمير للفلك { من كُلّ مَّكَانَ } من جميع أمكنة الموج { أُحِيطَ بِهِمْ } أي أهلكواجعل إحاطة العدوّ بالحي مثلاً في الهلاك { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من غير إشراك به؛ لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } على إرادة القول . أو لأنّ { دَعَوُاْ } من جملة القول : { يَبْغُونَ فِى الأرض } يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك ، ممعنين فيه ، من قولك : بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد . فإن قلت : فما معنى قوله : { بِغَيْرِ الحق } والبغي لا يكون بحق؟ قلت : بلى ، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة . قرىء : "متاع الحياة الدنيا" ، بالنصب : فإن قلت : ما الفرق بين القراءتين؟ قلت : إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو { بَغْيُكُمْ } و { على أَنفُسِكُمْ } صلته ، كقوله : { فبغى عَلَيْهِمْ } ومعناه : إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لابقاء لها وإذا نصبت { فَعَلَىَّ أَنفُسَكُمْ } خبر غير صلة معناه إنما بغيكم بال على أنفسكم ، و { متاع الحياة الدنيا } في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا . ويجوز أن يكون الرفع على : هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام . وعن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 507 )
(3/7)

" لا تمكر ولا تعن ماكراً ، ولا تبغ ولا تعن باغياً ، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً " وكان يتلوها . وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 508 ) " أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشرّ عقاباً البغي واليمين الفاجرة " ، وروي :
( 509 ) " ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين " وعن ابن عباس رضي الله عنه :
( 510 ) لو بغى جبل على جبل لدك الباغي . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
يَا صَاحِبَ الْبَغْيِ إنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَة ... فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ الْمَرْءِ أَعْسَلُهُ
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَل ... لانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : البغي والنكث والمكر . قال الله تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } .
(3/8)

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف ، وزين الأرض بخضرته ورفيفه { فاختلط بِهِ } فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً { أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت } كلام فصيح : جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس ، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين . وأصل { ازّينت } تزينت ، فأدغم . وبالأصل قرأ عبد الله . وقرىء : "وأزينت" ، أي أفعلت ، من غير إعلال الفعل كأغيلت أي صارت ذات زينة . وازيانت ، بوزن ابياضت { قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها ، رافعون لعلتها { أَتَاهَا أَمْرُنَا } وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم { فَجَعَلْنَاهَا } فجعلنا زرعها { حَصِيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } كأن لم يغن زرعها ، أي لم ينبت على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه ، وإلاّ لم يستقم المعنى . وقرأ الحسن : "كأن لم يغن" بالياء على أن الضمير للمضاف المحذوف ، الذي هو الزرع . وعن مروان أنه قرأ على المنبر : "كأن لم تتغن" بالأمس ، من قول الأعشى :
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّي ... والأمس مثل في الوقت القريب كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً .
(3/9)

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ دَارُ السلام } الجنة ، أضافها إلى اسمه تعظيماً لها . وقيل السلام السلامة؛ لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه . وقيل : لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } [ الواقعة : 26 ] { وَيَهْدِى } ويوفق { مَن يَشَآء } وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم ، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته ومعناه : يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ، ولا يدخلها إلاّ المهديون .
(3/10)

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{ الحسنى } المثوبة الحسنى { وَزِيَادَةٌ } وما يزيد على المثوبة وهي التفضل . ويدلّ عليه قوله تعالى : { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] وعن عليّ رضي الله عنه : الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحسنى : الحسنة ، والزيادة : عشر أمثالها . وعن الحسن رضي الله عنه : عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وعن مجاهد رضي الله عنه : الزيادة مغفرة من الله ورضوان . وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلاّ أمطرتهم . وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ، وجاءت بحديث مرفوع :
( 511 ) " إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحبّ إليهم منه " { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } لا يغشاها { قَتَرٌ } غبرة فيها سواد { وَلاَ ذِلَّةٌ } ولا أثر هوان وكسوف بال . والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النارإذكاراً بما ينقذهم منه برحمته . ألا ترى إلى قوله تعالى { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 41 ] { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] .
(3/11)

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
فإن قلت : ما وجه قوله : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } وكيف يتلاءم؟ قلت : لا يخلو ، إمّا أن يكون { والذين كَسَبُواْ } معطوفاً على قوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } [ يونس : 26 ] كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وإمّا أن يقدّر : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى : جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وهذا أوجه من الأوّل ، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين وإن كان الأخقش بجيزه . وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنه دلّ بترك الزيادة على السيئة على عدله ، ودلّ ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله . وقرىء : "يرهقهم ذلة" بالياء { مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه . ويجوز ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين { مُظْلِماً } حال من الله . ومن قرأ : ( قطعاً ) بالسكون من قوله : { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } [ هود : 81 ] جعله صفة له . وتعضده قراءة أبيّ بن كعب : كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم . فإن قلت : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل ، فما العامل فيه؟ قلت : لا يخلو إمّا أن يكون { أُغْشِيَتْ } من قبل إن { مِّنَ اليل } صفة لقوله : { قِطَعًا } فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإضفائه إلى الصفة ، وإمّا أن يكون معنى الفعل في { مِّنَ اليل } .
(3/12)

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{ مَكَانَكُمْ } الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . و { أَنتُمْ } أكد به الضمير في مكانكم لسدّه مسدّ قوله : الزموا { وَشُرَكَاؤُكُمْ } عطف عليه . وقرىء : "وشركاءكم" على أنّ الواو بمعنى مع ، والعامل فيه ما في مكانكم من معنى الفعل { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم . والوصل التي كانت في بينهم في الدنيا . أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف . وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم ، كقوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } [ غافر : 73 ] وقرىء : "فزايلنا بينهم" كقولك : صاعر خدّه وصعره ، وكالمته وكلّمته . { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } إنما كنتم تعبدون الشياطين ، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم .
(3/13)

فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ إَن كُنَّا } هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولي العقل ، وقيل : الأصنام ينطقها الله عزّ وجلّ فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم { هُنَالِكَ } في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أوفى ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ } تختبر وتذوق { مَّا أَسْلَفَتْ } من العمل فتعرف كيف هو ، أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضارّ ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله . ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ تبلى السرائر } [ الطارق : 9 ] وعن عاصم : نبلو كلَّ نفس ، بالنون ونصب كل : أي نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل ، فنفرق حالها بمعرفة حال عملها : إن كان حسناً فهي سعيدة ، وإن كان سيئاً فهي شقية . والمعنى : نفعل بها فعل الخابر ، كقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشرّ . وقرىء : "تتلو" ، أي تتبع ما أسلفت؛ لأنّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار . أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شرّ { مولاهم الحق } ربهم الصادق ربوبيته؛ لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة . أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم ، العدل الذي لا يظلم أحداً . وقرىء : "الحق" بالفتح على تأكيد قوله : { رُدُّواْ إلى الله } [ الأنعام : 62 ] كقولك : هذا عبد الله الحق لا الباطل . أو على المدح كقولك : الحمد لله . أهل الحمد { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله . أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة .
(3/14)

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } أي يرزقكم منهما جميعاً ، لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته { مِنْ يَمْلِكُ السمع والأبصار } من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة . أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال ، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه { وَمَن يُدَبّرُ الأمر } ومن يلي تدبير أمر العالم كله ، جاء بالعموم بعد الخصوص { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال { فَذَلِكُمُ } إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله { رَبُّكُمُ الحق } الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تخطى الحق وقع في الضلال { فأنى تُصْرَفُونَ } عن الحق إلى الضلال ، وعن التوحيد إلى الشرك ، وعن السعادة إلى الشقاء { كَذَلِكَ } مثل ذلك الحق { حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } أي كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، فكذلك حقّت كلمة ربك { عَلَى الذين فَسَقُواْ } أي تمرّدوا في كفرهم وخرجوا إلى الحدّ الأقصى فيه ، و { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من الكلمة أي حقّ عليهم انتفاء الإيمان ، وعلم الله منهم ذلك . أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان ، وأن إيمانهم غير كائن . أو أراد بالكلمة : العدة بالعذاب ، وأنهم لا يؤمنون تعليل ، بمعنى : لأنهم لا يؤمنون .
(3/15)

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
فإن قلت : كيف قيل لهم { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يبدأالخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت : قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً ردّاً للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه ، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب ، يعني أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم . يقال : هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين : ويقال : هدى بنفسه بمعنى اهتدى ، كما يقال : شرى بمعنى اشترى . ومنه قوله : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّى } . وقرىء : "لا يهدّى" بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال . والأصل : يهتدي ، فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء ، أو كسرت لالتقاء الساكنين ، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها . وقرىء : "إلاّ أن يهدى" من هداه وهدّاه للمبالغة . ومنه قولهم : تهدى . ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدي للحق ، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم ، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع ، فهل من شركائكم الذين جعلتم أنداداً لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير ، يهدي إلى الحق مثل هداية الله . ثم قال : أفمن يهدي إلى الحق هذه الهداية أحقّ بالاتباع ، أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه ، أو لا يهدي غيره إلاّ أن يهديه الله وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه { إِلاَّ أَن يهدى } إلاّ أن ينقل ، أو لا يهتدي ولا يصحّ منه الاهتداء إلاّ أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بالباطل ، حيث تزعمون أنهم أنداداً لله .
(3/16)

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } في قرارهم بالله { إِلاَّ ظَنّا } لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم { إَنَّ الظن } في معرفة الله { لاَ يُغْنِى مِنَ الحق } وهو العلم { شَيْئاً } وقيل : وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنَّها شفعاء عند الله إلاّ الظنّ . والمراد بالأكثر : الجميع { إِنَّ الله عَلِيمٌ } وعيد على ما يفعلون من اتباع الظنّ وتقليد الآباء . وقرىء : "تفعلون" بالتاء .
(3/17)

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{ وَمَا كَانَ هذا القرءان } افتراء { مِن دُونِ الله ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة ، لأنه معجز دونها فهو عيار عليها وشاهد لصحتها ، كقوله تعالى : { هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ فاطر : 31 ] . وقرىء : "ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب" على : ولكن هو تصديق وتفصيل . ومعنى وَمَا كَانَ أن يَفْتَرِى . وما صحّ وما استقام ، وكان محالاً أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفتري { وَتَفْصِيلَ الكتاب } وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع ، من قوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . فإن قلت : بم اتصل قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين } قلت : هو داخل في حيز الاستدراك . كأنه قال : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين . ويجوز أن يراد : ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك ، فيكون { مِن رَّبِّ العالمين } متعلقاً بتصديق وتفصيل ، أو يكون { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراضاً ، كما تقول : زيد لا شكّ فيه كريم { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } بل أيقولون : اختلقه ، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم . أو إنكار لقولهم واستبعاد . والمعنيان متقاربان { قُلْ } إن كان الأمر كما تزعمون { فَأْتُواْ } أنتم على وجه الافتراء { بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } فأنتم مثلي في العربية والفصاحة . ومعنى { بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم . وقرىء : "بسورة مثله" على الإضافة ، أي : بسورة كتاب مثله { وادعوا } من دون الله { مَنِ استطعتم } من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله : يعني : أنّ الله وحده هو القادر على أن يأتي بمثله لا يقدر على ذلك أحد غيره ، فلا تستعينوه وحده ، ثم استعينوا بكل من دونه { إِن كُنتُمْ صادقين } أنه افتراء { بَلْ كَذَّبُواْ } بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجؤه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم ، كالناشيء على التقليد من الحشوية ، إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه - وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة - أنكرها في أوّل وهلة ، واشمأز منها قبل أن يحسّ إدراكها بحاسّة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ، لأنه لم يشعر قلبه إلاّ صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب . فإن قلت : ما معنى التوقع في قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؟ قلت : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل ، تقليداً للآباء . وكذبوه بعد التدبر ، تمرداً وعناداً ، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي ، ورازوا قواهم في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغياً وحسداً { كَذَلِكَ } أي مثل ذلك التكذيب { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا .
(3/18)

وقيل : هو في الذين كذبوا وهم شاكون . ويجوز أن يكون معنى { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق ، يعني أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز ، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } يصدق به في نفسه ، ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند بالتكذيب . ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به ، أو يكون للاستقبال ، أي : ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصرّ { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } بالمعاندين ، أو المصرين .
(3/19)

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{ وَإِن كَذَّبُوكَ } وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم ، فتبرأ منهم وخلهم فقد أعذرت ، كقوله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء } [ الشعراء : 216 ] وقيل : هي منسوخة بآية السيف .
(3/20)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } معناه : ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرآت القرآن وعلمت الشرائع ، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون . ثم قال : أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؛ لأن الأصم العاقل ربما تفرّس واستدلّ إذا وقع في صماخه دويّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تمّ الأمر . وأتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلى العمى - وهو فقد البصر - فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن . وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء ، يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا ، كالصمّ والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول . وقوله : { أَفَأَنتَ . . . . . أَفَأَنتَ } دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلاّ الله عزّ وجلّ بالقسر والإلجاء ، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبي العقل حديدي السمع والبصر راجحي العقل ، إلاّ هو وحده .
(3/21)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا } أي لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب ، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب ، ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين ، يعني : أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لاحق بهم على سبيل العدل والاستيجاب . ولا يظلمهم الله به ، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سبباً فيه .
(3/22)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار } يستقربون وقت لبثهم في الدنيا . وقيل : في القبور ، لهول ما يرون { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } يعرف بعضهم بعضاً ، كأنهم لم يتفارقوا إلاّ قليلاً ، وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم . فإن قلت : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } و { يَتَعَارَفُونَ } كيف موقعهما؟ قلت : أما الأولى فحال من "هم" أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلاّ ساعة . وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف . وإما أن تكون مبينة ، لقوله : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً } لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً { قَدْ خَسِرَ } على إرادة القول ، أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم . والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } للتجارة عارفين بها ، وهو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم!
(3/23)

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } جواب نتوفينك ، وجواب نرينك محذوف ، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة . فإن قلت : الله شهيد على ما يفعلون في الدارين ، فما معنى ثم؟ قلت : ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، كأنه قال : ثم الله معاقب على ما يفعلون . وقرأ ابن أبي عبلة : "ثم" بالفتح ، أي هنالك . ويجوز أن يراد : أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة ، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم .
(3/24)

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ، ويدعوهم إلى دين الحق { فَإِذَا جَاء } هم { رَسُولَهُمْ } بالبينات فكذبوه ، ولم يتبعوه { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين النبيّ ومكذّبيه { بالقسط } بالعدل ، فأنجى الرسول وعذّب المكذّبون ، كقوله؛ { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به ، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان ، كقوله تعالى : { وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } [ الزمر : 69 ] .
(3/25)

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{ متى هذا الوعد } استعجال لما وعدوا من العذاب استبعاداً له { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا } من مرض أو فقر { وَلاَ نَفْعاً } من صحة أو غنى { إِلاَّ مَا شَاء الله } استثناء منقطع : أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } يعني أن عذابكم له أجل مضروب عند الله وحدّ محدود من الزمان { إِذَا جَاء } ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة ، فلا تستعجلوا . وقرأ ابن سيرين : "فإذا جاء آجالهم" .
(3/26)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{ بَيَاتًا } نصب على الظرف ، بمعنى . وقت بيات ، فإن قلت : هلا قيل ليلاً أو نهاراً؟ قلت : لأنه أريد : إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون لا تشعرون ، كما يبيت العدو المباغت . والبيات بمعنى التبييت ، كالسلام بمعنى التسليم ، وكذلك قوله : { نَهَارًا } معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلت بالمعاش والكسب . ونحوه { بياتا وَهُمْ نَائِمُونَ } [ الأعراف : 98 ] ، { ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 98 ] الضمير في { مِنْهُ } للعذاب . والمعنى : أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار ، فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال . ويجوز أن يكون معناه التعجب ، كأنه قيل أي شيء هول شديد يستعجلون منه ، ويجب أن تكون "من" للبيان في هذا الوجه . وقيل : الضمير في { مِنْهُ } لله تعالى . فإن قلت : بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط قلت تعلق بأرأيتم لأنَّ المعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون وجواب الشرط محذوف وهو : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ فيه . فإن قلت : فهلا قيل : ماذا تستعجلون منه . قلت : أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام؛ لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ ، فضلاً أن يستعجله . ويجوز أن يكون { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } جواباً للشرط ، كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني؟ بما تتعلق الجملة بأرأيتم ، وأن يكون { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } جواب الشرط ، و { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } اعتراضاً . والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، ودخول حرف الاستفهام على ثم ، كدخوله على الواو والفاء في قوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 97 ] ، { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] . { ءآلئان } على إرادة القول ، أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم به { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } يعني : وقد كنتم به تكذبون؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار . وقرىء : "آلان" ، بحذف الهمزة بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام { ثُمَّ قِيلَ الذين ظَلَمُواْ } عطف على "قيل" المضمر قبل آلآن .
(3/27)

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } ويستخبرونك فيقولون : { أَحَقٌّ هُوَ } وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء . وقرأ الأعمش : "آلحق هو" ، وهو أدخل في الاستهزاء ، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل . وذلك أنّ اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق ، والضمير للعذاب الموعود . و { إِى } بمعنى "نعم" في القسم خاصة ، كما كان "هل" بمعنى "قد" في الاستفهام خاصة . وسمعتهم يقولون في التصديق : إيوَ ، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين العذاب ، وهو لاحق بهم لا محالة .
(3/28)

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{ ظَلَمَتْ } صفة لنفس على : ولو أنّ لكل نفس ظالمة { مَّا فِى الأرض } أي ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها { لاَفْتَدَتْ بِهِ } لجعلته فدية لها . يقال : فده فافتدى . ويقال : افتداه أيضاً بمعنى فداه { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع ، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب ، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامداً مبهوتاً ، وقيل : أسر رؤساؤهم الندامة من سفالتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم وقيل أسروها أخلصوها ، إما لأن إخفاءها إخلاصها ، وإما من قولهم : سرّ الشيء ، خالصه . وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة . وقيل : أسروا الندامة : أظهروها ، من قولهم : أسر الشيء وأشره إذا أظهره . وليس هناك تجلد { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين الظالمين والمظلومين ، دلّ على ذلك ذكر الظلم . ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله ، وأنه المثيب المعاقب ، وما وعدوه من الثواب والعقاب فهو حق . وهو القادر على الإحياء والإماتة ، لا يقدر عليهما غيره ، وإلى حسابه وجزائه المرجع ، ليعلم أن الأمر كذلك ، فيخاف ويرجىء ولا يغتر به المغترون .
(3/29)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ } أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد { و } هو { شِفَآء } أي دواء { لِّمَا فِي } صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق { وَرَحْمَةً } لمن آمن به منكم . وأصل الكلام : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ، فبذلك فليفرحوا ، والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط؛ كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما . ويجوز أن يراد : بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا . ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعطة بفضل الله وبرحمته ، فبذلك : فبمجيئها فليفرحوا .
( 512 ) وقرىء : "فلتفرحوا" بالتاء وهو الأصل والقياس ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي . وعنه :
( 513 ) لتأخذوا مصافكم" قالها في بعض الغزوات . وفي قراءة أبيّ : "فافرحوا" { هُوَ } راجع إلى ذلك . وقرىء : "مما تجمعون" بالياء والتاء . وعن أبيّ بن كعب :
( 514 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } فقال : بكتاب الله والإسلام" وقيل : "فضله" الإسلام "ورحمته" ما وعد عليه .
(3/30)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
{ أَرَأَيْتُمْ } أخبروني . و { مَّاَ أَنزَلَ الله } "ما" في موضع النصب ، بأنزل ، أو بأرأيتم ، في معنى : أخبرونيه { فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } أي أنزله الله رزقاً حلالاً كله فبعضتموه وقلتم : هذا حلال وهذا حرام ، كقولهم : { هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ } ، { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } { الله أَذِنَ لَكُمْ } متعلق بأرأيتم . وقل : تكرير للتوكيد . والمعنى : أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه . ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريراً للافتراء . وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام . وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلاّ بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت ، وإلاّ فهو مفتر على الله { يَوْمُ القيامة } منصوب بالظن ، وهو ظنّ واقع فيه ، يعني : أي شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة ، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره . وقرأ عيسى ابن عمر : "وما ظنّ" على لفظ الفعل . ومعناه : وأي ظنّ ظنّوا يوم القيامة . وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه .
(3/31)

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } "ما" نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشأن : الأمر ، وأصله الهمز بمعنى القصد ، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده . والضمير في { مِنْهُ } للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو معظم شأنه ، أو للتنزيل ، كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل من قرآن ، لأنّ كلّ جزء منه قرآن ، والإضمار قبل الذكر تفخيم له . أو لله عزّ وجلّ . وما { تَعْمَلُونَ } أنتم جميعاً { مِنْ عَمَلٍ } أيّ عمل كان { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } شاهدين رقباء نحصي عليكم { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه { وَمَا يَعْزُبُ } . قرىء بالضم والكسر "وما يبعد وما يغيب" ، ومنه : الروض العازب { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ } القراءة بالنصب والرفع ، والوجه النصب على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسه ، وفي العطف على محل { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أو على لفظ { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف : إشكال ، لأنّ قولك : "لا يعزب عنه شيء إلاّ في كتاب" مشكل . فإن قلت : لم قدّمت الأرض على السماء ، بخلاف قوله : في سورة سبأ { عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } [ سبأ : 3 ] ؟ قلت : حق السماء أن تقدم على الأرض ، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ، ووصل بذلك قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } [ سبأ : 3 ] لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء ، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية .
(3/32)

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{ أَوْلِيَاء الله } الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة . وقد فسر ذلك في قوله : { الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } فهم توليهم إياه { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الأخرة } فهو توليه إياهم . وعن سعيد بن جبير :
( 515 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل : من أولياء الله؟ فقال : " هم الذين يذكر الله برؤيتهم " يعني السمت والهيئة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الإخبات والسكينة . وقيل : هم المتحابون في الله . وعن عمر رضي الله عنه : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول :
( 516 ) " إنَّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله " قالوا : يا رسول الله ، خبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم ، قال : " هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس " ثم قرأ الآية : { الذين كَفَرُواْ } نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى ، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 517 ) " هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وعنه عليه الصلاة والسلام : ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات . وقيل : هي محبة الناس له والذكر الحسن . وعن أبي ذرّ :
( 518 ) قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال : " تلك عاجل بشرى المؤمن " وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة . قال الله تعالى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة } [ فصلت : 30 ] وأمّا البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة ، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرءون منها ، وغير ذلك من البشارات { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده ، كقوله تعالى : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } [ ق : 29 ] و { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض .
(3/33)

وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
{ وَلاَ يَحْزُنكَ } وقرىء : "ولا يحزنك" من أحزنه { قَوْلُهُمْ } تكذيبهم لك ، وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ، وسائر ما يتكلمون به في شأنك { إِنَّ العزة للَّهِ } استئناف بمعنى التعليل ، كأنه قيل : ما لي لا أحزن؟ فقيل : إن العزّة لله جميعاً ، أي إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً ، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم وينصرك عليهم { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] . { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] وقرأ أبو حيوة "أن العزة" بالفتح بمعنى لأن العزة على صريح التعليل ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه ، لا ما أنكر من القراءة به { هُوَ السميع العليم } يسمع ما يقولون . ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه . وهو مكافئهم بذلك .
(3/34)

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{ مَن فِى السماوات وَمَنْ فِى الأرض } يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصّهم ، ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم ، وهو سبحانه وتعالى : ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً له فيها ، ما وراءهم مما لا يعقل أحقّ أن لا يكون له ندّاً وشريكاً ، وليدلّ على أن من اتّخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر . ومعنى : وما يتبعون شركاء ، أي : وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء ، لأنّ شركة الله في الربوبية محال { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ } ظنهم أنها شركاء { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً . ويجوز أن يكون { وَمَا يَتَّبِعُ } في معنى الاستفهام ، يعني : وأي شيء يتبعون . و { شُرَكَاء } على هذا نصب بيدعون ، وعلى الأوّل بيتبع . وكان حقه . وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء ، فاقتصر على أحدهما للدلالة . ويجوز أن تكون "ما" موصولة معطوفة على "من" كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء ، أي : وله شركاؤهم . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تدعون ، بالتاء ، ووجهه أن يحمل { وَمَا يَتَّبِعُ } على الاستفهام ، أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يتبعون الله ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } [ الإسراء : 57 ] ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال : إن يتبع هؤلاء المشركون إلاّ الظن ، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبييون من الحق .
(3/35)

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحّدوه بالعبادة ، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش ، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع معتبر مدّكر .
(3/36)

قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{ سبحانه } تنزيه له عن اتخاذ الولد ، وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هُوَ الغنى } علة لنفي الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد ، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة ، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفياً { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا } ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله : { إِنْ عِندَكُمْ } على أن يجعل القول مكاناً للسلطان ، كقولك : ما عندكم بأرضكم موز ، كأنه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين ، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس بعلم .
(3/37)

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } بإضافة الولد إليه { متاع فِى الدنيا } أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا ، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به ، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده .
(3/38)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } عظم عليكم وشقّ وثقل . ومنها قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] . ويقال : تعاظمه الأمر { مَّقَامِى } مكاني ، يعني نفسه ، كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان : وفلان ثقيل الظل . ومنه : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } [ الرحمن : 46 ] بمعنى خاف ربه . أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالاً أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً أو مقامي وتذكيري؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً ، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ } من أجمع الأمر ، وأزمعه ، إذا نواه وعزم عليه . قال :
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِي مُجْمعُ ... والواو بمعنى "مع" يعني : فأجمعوا أمركم مع شركائكم . وقرأ الحسن : "وشركاؤكم" بالرفع عطفاً على الضمير المتصل ، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام ، كما تقول : اضرب زيداً وعمرو . وقرىء : "فاجمعوا" من الجمع . وشركاءكم نصب للعطف على المفعول ، أو لأنّ الواو بمعنى "مع" وفي قراءة أبيّ : "فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم" فإن قلت : كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت : على وجه التهكم ، كقوله : { قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } [ الأعراف : 195 ] فإن قلت : ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه ، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت : أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه ، يعني : فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي . وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً . وأما الثاني ففيه وجهان ، أحدهما : أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم ، يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة : أي غماً وهماً ، والغم والغمة ، كالكرب والكربة . والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأوّل ، والغمة السترة من غمه إذا ستره . ومنها قوله عليه السلام :
( 519 ) " ولا غمة في فرائض الله " أي لا تستر ، ولكن يجاهر بها ، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي ، أي : أدّوا إليَّ قطعه وتصحيحه ، كقوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] أو أدّوا إليّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه { وَلاَ تُنظِرُونَ } ولا تمهلوني . قرىء : "ثم افضوا إليّ" بالفاء بمعنى : ثم انتهوا إليّ بشرّكم . وقيل : هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء ، أي أصحروا به إليَّ وأبرزوه لي { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي : ما نصحتكم إلاّ لوجه الله ، لا لغرض من أغراض الدنيا { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً ولا يطلبون به دنيا ، يريد : أن ذلك مقتضى الإسلام ، والذي كل مسلم مأمور به .
(3/39)

والمراد أن يجعل الحجّة لازمة لهم ويبرىء ساحته ، فذكر أن توليهم لم يكن [ عن ] تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه ، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير { فَكَذَّبُوهُ } فتموا على تكذيبه ، وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } يخلفون الهالكين بالغرق { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله ، وتسلية له .
(3/40)

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{ مِن بَعْدِهِ } من بعد نوح { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً { فَجَاءوهُم بالبينات } بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } فما كان إيمانهم إلاّ ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق . فما وقع فصل بين حالتهم بعد بعثة الرسل وقبلها ، كأن لم يبعث إليهم أحد { كَذَلِكَ نَطْبَعُ } مثل ذلك الطبع المحكم نطبع { على قُلوبِ المعتدين } والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم ، لأنّ الخذلان يتبعه . ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به .
(3/41)

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{ مّن بَعْدِهِمْ } من بعد الرسل { بئاياتنا } بالآيات التسع { فاستكبروا } عن قبولها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن تقبلها { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } كفاراً ذوي آثام عظام ، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا } فلما عرفوا أنه هو الحق ، وأنه من عند الله ، لا من قبل موسى وهارون { قالوا } لحبهم الشهوات { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلاّ تمويهاً وباطلاً . فإن قلت : هم قطعوا بقولهم : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } على أنه سحر ، فكيف قيل لهم : أتقولون أسحر هذا؟ قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله : { أَتقُولُونَ لِلْحَقّ } أتعيبونه وتطعنون فيه . وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم : فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ، ونحو القول : الذكر ، في قوله : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] ثم قال : { أَسِحْرٌ هذا } فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه ، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دلّ عليه قولهم : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } كأنه قيل : أتقولون ما تقولون ، يعني قولهم : إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل : أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله : { أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } حكاية لكلامهم ، كأنهم قالوا : أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به آلسحر ، إنّ الله سيبطله { لِتَلْفِتَنَا } لتصرفنا . واللفت والفتل : أخوان ، ومطاوعهما الالتفات والانفتال { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } يعنون عبادة الأصنام { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء } أي الملك؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر . ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصيد والشوس ، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله :
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلاَ كُبْرِيَاءُ
ينفي ما عليه الملوك من ذلك . ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا ، كما قال القبطي لموسى عليه السلام : إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أي مصدّقين لكما فيما جئتما به . وقرىء : "يطبع" ويكون لكما ، بالياء .
(3/42)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
{ مَا جِئْتُمْ بِهِ } ما موصولة واقعة مبتدأ . و { السحر } خبر ، أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله . وقرىء : "آلسحر" على الاستفهام . فعلى هذه القراءة "ما" استفهامية ، أي : أيّ شيء جئتم به ، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله : "ما جئتم به سحر" وقرأ أبيّ : "ما أتيتم به سحر" . والمعنى : لا ما أتيت به { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة { لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } لا يثبته ولا يديمه ، ولكن يسلط عليه الدمار { وَيُحِقُّ الله الحق } ويثبته { بكلماته } بأوامره وقضاياه . وقرىء : "بكلمته" بأمره ومشيئته .
(3/43)

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{ فَمَا ءامَنَ لموسى } في أوّل أمره { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } إلاّ طائفة من ذراري بني إسرائيل ، كأنه قيل : إلاّ أولاد من أولاد قومه . وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف . وقيل : الضمير في قومه لفرعون ، والذرية : مؤمن آل فرعون ، وآسية امرأته ، وخازنه ، وامرأة خازنه وماشطته . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَمَلَئِهِمْ } ؟ قلت : إلى فرعون ، بمعنى آل فرعون ، كما يقال : ربيعة ومضر . أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له . ويجوز أن يرجع إلى الذرية ، أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم . ويدلّ عليه قوله : { أَن يَفْتِنَهُمْ } يريد أن يعذبهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } لغالب فيها قاهر { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } في الظلم والفساد ، وفي الكبر والعتوّ بادعائه الربوبية .
(3/44)

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{ إن كُنْتُمْ ءَامَنْتُم بِاللهِ } صدقتم به وبآياته { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون . ثم شرط في التوكل الإسلام ، وهو أن يسلموا نفوسهم لله ، أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها؛ لأن التوكل لا يكون مع التخليط . ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه ، وإن كانت بك قوّة { فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا } إنما قالوا ذلك ، لأن القوم كانوا مخلصين ، لا جرم أن الله سبحانه قبل توكلهم ، وأجاب دعاءهم ، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه ، وجعلهم خلفاء في أرضه ، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه ، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } موضع فتنة لهم ، أي : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا . أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا .
(3/45)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
تبوّأ المكان : اتخذه مباءة ، كقولك : توطنه ، إذا اتخذه وطناً . والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه { واجعلوا بُيُوتَكُمْ } تلك { قِبْلَةً } أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة ، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة ، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة ، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة . فإن قلت : كيف نوّع الخطاب ، فثنى أوّلاً ، ثم جمع ، ثم وحد آخراً . قلت : خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتاً ، ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأنّ ذلك واجب على الجمهور ، ثم خصّ موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض ، تعظيماً لها وللمبشر بها .
(3/46)

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
الزينة : ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت . فإن قلت : ما معنى قوله : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } ؟ قلت : هو دعاء بلفظ الأمر ، كقوله : { رَبَّنَا اطمس } ، { واشدد } ، وذلك أنه لما عرض عليهم أيات الله وبيناته عرضاً مكرّراً وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلاً ، وحذرهم عذاب الله وانتقامه ، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين ، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلاّ استكباراً ، وعن النصيحة إلاّ نبوّا ، ولم يبق له مطمع فيهم ، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلاّ الغي والضلال ، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة ، أو علم ذلك بوحي من الله - اشتد غضبه عليهم ، وأفرط مقته وكراهته لحالهم ، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ، كما تقول : لعن الله إبليس ، وأخزى الله الكفرة ، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك ، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة ، وأنهم لا يستأهلون إلاّ أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه ، كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال . وليكونوا ضلالاً ، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما عليّ منهم ، هم أحقّ بذلك وأحقّ كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه ، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته ، وحرداً عليه ، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه . ومعنى الشدّ على القلوب . الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } جواب للدعاء الذي هو "اشدد" أو دعاء بلفظ النهي ، وقد حملت اللام في ليضلوا على التعليل ، على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال ، فكأنهم أوتوها ليضلّوا . وقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } عطف على ليضلوا . وقوله : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ } دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه . وقرأ الفضل الرقاشي : "أئنك آتيت" على الاستفهام ، واطمس بضم الميم .
(3/47)

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قرىء : "دعواتكما" . قيل : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن . ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان . والمعنى : إنّ دعاءكما مستجاب ، وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجّة ، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلاّ قليلاً ولا تستعجلا . قال ابن جريج ، فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة { وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح ، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة . وهذا كما قال لنوح عليه السلام { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] . وقرىء : "ولا تتبعان" بالنون الخفيفة ، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثنية ، وبتخفيف التاء من تبع .
(3/48)

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
قرأ الحسن : وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه ، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :
وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالِ قَبِيلَةٍ ... لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بني إسرائيل في البحر كما قال :
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّيّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ ... { فَأَتْبَعَهُمْ } فلحقهم . يقال : تبعته حتى أتبعته . وقرأ الحسن : "وعدوّا" . وقرىء : أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان ، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلاً من آمنت . كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته . وقاله حين لم يبق له اختيار قط ، وكانت المّرة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف .
(3/49)

آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{ ءآلئان } أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك . قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق يعني حين أوشك أن يغرق . وقيل : قاله بعد أن غرق في نفسه . والذي يحكي أنه حين قال : { ءامَنتُ } أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه ، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه . وأمّا ما يضم إليه من قولهم : خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين لله وملائكته : وفيه جهالتان ، إحداهما : أنّ الإيمان يصحّ بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه . والأخرى : أنّ من كره إيمان الكافر وأحبّ بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر { مِنَ المفسدين } من الضالين المضلين عن الإيمان ، كقوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 98 ] . وروي : أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا : ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه : يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر ، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه { نُنَجّيكَ } بالتشديد والتخفيف : نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر . وقيل : نلقيك بنجوة من الأرض . وقرىء : "ننحيك" بالحاء : نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور { بِبَدَنِكَ } في موضع الحال ، أي : في الحال التي لا روح فيك ، وإنما أنت بدن ، أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس ، أو بدرعك . قال عمرو بن معديكرب :
أَعَاذِلُ شكَّتِي بَدَنِي وَسَيْفِي ... وَكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسُ القِيَادِ
وكانت له درع من ذهب يعرف بها . وقرأ أبو حنيفة رحمه الله : "بأبدانك" هو على وجهين : إما أن يكون مثل قولهم : هوى بأجرامه ، يعني : ببدنك كله وافياً بأجزائه . أو يريد : بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها { لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } لمن وراءك من الناس علامة ، وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق . وروي أنهم قالوا : ما مات فرعون ولا يموت أبداً . وقيل : أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه ، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه ، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بني إسارئيل حتى قيل : لمن خلفك . وقيل : { لِمَنْ خَلْفَكَ } لمن يأتي بعدك من القرون . ومعنى كونه آية : أن تظهر للناس عبوديته ومهانته ، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال ، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عزّ وجلّ ، فما الظنّ بغيره ، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك ، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله . وقرىء : "لمن خلقك" بالقاف : أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته . ويجوز أن يراد : ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا لادّعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبه في أمرك .
(3/50)

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام { فَمَا اختلفوا } في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلاّ من بعد ما قرأوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة ، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه . وقيل : هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بني إسرائيل ، وهم أهل الكتاب ، اختلافهم في صفته ونعته ، وأنه هو أم ليس به . بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه . كما قال الله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
(3/51)

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
فإن قلت : كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَإِن كُنتَ في شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } مع قوله في الكفرة : { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } . قلت : فرق عظيم بين قوله : { إِنَّهُمْ لَفِى شَكٌّ مِنْهُ مُرِيبٍ } بإثبات الشكّ لهم على سبيل التأكيد والتحقيق ، وبين قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } بمعنى الفرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً وخيّل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَؤونَ الكتاب } والمعنى : أنّ الله عزّ وجلّ قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب ، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم ، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد أم يأكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه [ الصلاة و ] السلام ، ويبالغ في ذلك ، فقال : فإن وقع لك شكّ فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حّلها وإماطتها ، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحقّ فسل علماء أهل الكتاب ، يعني : أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلاً عن غيرك ، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل الله إلى رسول الله ، لا وصف رسول الله بالشكّ فيه ، ثم قال : { لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ } أي ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله } أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله . ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب ، كقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } [ القصص : 87 ] ولزيادة التثبيت والعصمة ، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله :
( 520 ) " ولا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق " وعن ابن عباس رضي الله عنه : لا والله ما شكّ طرفة عين ، ولا سأل أحداً منهم ، وقيل : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته . فإن كنتم في شكّ مما أنزلنا إليكم ، لقوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النساء : 174 ] وقيل : الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشكّ ، كقول العرب : إذا عزّ أخوك فهن . وقيل : "إن" للنفي ، أي : فما كنت في شك فاسأل ، يعني : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقيناً ، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى . وقرىء : "فاسأل الذين يقرؤون الكتب" .
(3/52)

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
{ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ } ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره . وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد تعالى الله عن ذلك .
(3/53)

فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ } فهلا كانت { قَرْيَةٌ } واحدة من القرى التي أهلكناها ، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف ، ولم تأخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار . وقرأ أبيّ وعبد الله : "فهلا كانت" { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } استثناء من القرى؛ لأنّ المراد أهاليها ، وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس لما آمنوا . ويجوز أن يكون متصلاً والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلاّ قوم يونس ، وانتصابه على أصل الاستثناء . وقرىء بالرفع على البدل ، هكذا روي عن الجرمي والكسائي . روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه ، فذهب عنهم مغاضباً ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب . فلبسوا المسوح ، وعجوا أربعين ليلة . وقيل : قال لهم يونس : إن أجلكم أربعون ليلة ، فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرّقوا بين النساء والصبيان ، وبين الذواب وأولادها ، فحنّ بعضها على بعض ، وعلت الأصوات والعجيج ، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا ، فرحمهم الله وكشف عنهم ، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة . وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم ، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه ، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا : "يا حيّ حين لا حيّ ، ويا حيّ محيي الموتى ، ويا حيّ لا إله إلاّ أنت" فقالوها فكشف عنهم . وعن الفضيل بنعياض : قالوا : "اللَّهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلّت ، وأنت أعظم منها وأجلّ ، افعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله" .
(3/54)

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ } مشيئة القسر والإلجاء { لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ } على وجه الإحاطة والشمول { جَمِيعاً } على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه . ألا ترى إلى قوله : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس } يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت . وإيلاء الاسم حرف الاستفهام ، وللإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلاّ هو وحده لا يشارك فيه ، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطّرون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشر .
(3/55)

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ } يعني من النفوس التي علم أنها تؤمن { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي بتسهيله وهو منح الألطاف { وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } قابل بالإذن بالرجس وهو الخذلان ، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر ، كقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وسمي الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه . وقرىء : "الرجز" بالزاي . وقرىء : "ونجعل" بالنون .
(3/56)

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
{ مَاذَا فِى السموات والأرض } من الآيات والعبر { وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر } والرسل المنذرون . أو الإنذارات { عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } لا يتوقع إيمانهم ، وهم الذين لا يعقلون وقرىء : وما يغني بالياء ، و "ما" نافية ، أو استفهامية .
(3/57)

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } وقائع الله تعالى فيهم . كما يقال : "أيام العرب" لوقائعها { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا } معطوف على كلام محذوف يدلّ عليه قوله : { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ، على حكاية الأحوال الماضية { والذين ءامَنُواْ } ومن آمن معهم ، كذلك { نُنجِ المؤمنين } مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ، ونهلك المشركين . و { حَقّاً عَلَيْنَا } اعتراض ، يعني : حقّ ذلك علينا حقاً . وقرىء : "ننجّ" بالتشديد .
(3/58)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
{ يا أَيُّهَا الناس } يا أهل مكة { إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } وصحته وسداده ، فهذا ديني فاسمعوا وصفه ، واعرضوه على عقولكم ، وانظروا فيه بعين الإنصاف ، لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشكّ ، وهو أني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم { ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ } وإنما وصفه بالتوفي ، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقي ، فيعبدون دون ما لا يقدر على شيء { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } يعني أنّ الله أمرني بذلك ، بما ركب فيّ من العقل ، وبما أوحي إليّ في كتابه . وقيل : معناه إن كنتم من ديني ومما أنا عليه أثبت عليه أن تركه وأوافقكم فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا اختار الضلالة على الهدى ، كقوله : { قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لا أعبد ما تعبدون } [ الكافرون : 1-2 ] . { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ } أصله : بأن أكون ، فحذف الجار ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع "أن" و "أن" . وأن يكون من الحذف غير المطرد ، وهو قوله : أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر .
(3/59)

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
فإن قلت : عطفُ قوله : { وَأَنْ أَقِمْ } على { أَنْ أَكُونَ } فيه إشكال ، لأنّ "أن" لا تخلو من أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر ، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول ، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك . والقول بكونها موصولة مثل الأولى ، لا بساعد عليه لفظ الأمر ، وهو { أَقِمِ } لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب . قلت : قد سوّغ سيبويه أن توصل "أن" بالأمر والنهي ، وشبه ذلك بقزلهم : أنت الذي تفعل ، على الخطاب؛ لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر . والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال { أَقِمْ وَجْهَكَ } استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالاً . و { حَنِيفاً } حال من الذين ، أو من الوجه .
(3/60)

وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{ فَإِن فَعَلْتَ } معناه : فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك ، فكني عنه بالفعل إيجازاً { فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين } إذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر ، كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان . وجعل من الظالمين؛ لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
(3/61)

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضرّ ، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع ، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلاّ هو وحده دون كل أحد ، فكيف بالجماد الذي لا شعور به . وكذلك إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه ، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها ، وهو أبلغ من قوله : { إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] . فإن قلت : لم ذكر المسّ في أحدهما ، والإرادة في الثاني؟ قلت : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير ، وأنه لا رادّ لما يريده منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الآخر؛ ليدلّ بما ذكر على ما ترك ، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى : { يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } والمراد بالمشيئة : مشيئة المصلحة .
{ قَدْ جَاءكُمُ الحق } فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجّة ، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلاّ نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلاّ نفسه ، واللام وعلى : دلا على معنى النفع والضرّ . وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل . وفيه حثّ على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير .
(3/62)

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{ واصبر } على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم { حتى يَحْكُمَ الله } لك بالنصرة عليهم والغلبة .
( 521 ) وروي أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال : " إنكم ستجدون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني " يعني أني أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتني الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة" ، قال أنس : فلم نصبر .
( 522 ) وروي أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقي معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار ، ثم دخل عليه من بعد ، فقال له : ما لك لم تتلقنا؟ قال : لم تكن عندنا دواب . قال : فأين النواضح؟ قال : قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقال صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار ، إنكم ستلقون بعدي أثرة " قال معاوية : فماذا قال : قال : "فاصبروا حتى تلقوني" قال فاصبر . قال : إذن نصبر . فقال عبد الرحمن بن حسان :
أَلاَ أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْب ... أَمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلاَمِي
بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُم ... إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 523 ) " من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به ، وبعدد من غرق مع فرعون " .
(3/63)

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
{ أُحْكِمَتْ ءاياته } نظمت نظما رصينا محكماً لا يقع في نقض ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف . ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة ، من "حكم" بضم الكاف ، إذا صار حكيماً : أي جعلت حكيمة ، كقوله تعالى : { آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] وقيل : منعت من الفساد ، من قولهم : أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح . قال جرير :
أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم ... إنِّي أخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا
وعن قتادة : أُحكمت من الباطل { ثُمّ فُصّلَتْ } كما تفصل القلائد بالفرائد ، من دلائل التوحيد ، والأحكام ، والمواعظ ، والقصص . أو جعلت فصولاً ، سورة سورة ، وآية آية . وفرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة . أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد : أي بين ولخص . وقرىء : "أحكمت آياته ثم فصلت" أي أحكمتها أنا ثم فصلتها . وعن عكرمة والضحاك : ثم فصلت ، أي فرّقت بين الحق والباطل . فإن قلت : ما معنى ثم؟ قلت : ليس معناها التراخي في الوقت ، ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل . وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل ، وكتاب : خبر مبتدأ محذوف وأحكمت : صفة له . وقوله : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفة ثانية . ويجوزأن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت ، أي : من عنده إحكامها وتفصيلها ، وفيه طباق حسن؛ لأنَّ المعنى : أحكمها حكيم وفصلها : أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور .
(3/64)

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ } مفعول له على معنى : لئلا تعبدوا . أو تكون "أن" مفسرة؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول ، كأنه قيل قال لا تعبدوا إلا الله ، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله { وَأَنِ استغفروا } أي أمركم بالتوحيد والاستغفار . ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة . ويدل عليه قوله : { إِنّنى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كأنه قال : ترك عبادة غير الله ، إنني لكم منه نذير ، كقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] والضمير في { مِّنْهُ } لله عز وجل ، أي : إنني لكم نذير وبشير من جهته ، كقوله : { رَسُولٌ مّنَ الله } [ البينة : 2 ] أو هي صلة لنذير ، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم . فإن قلت : ما معنى ثم في قوله : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة . أو استغفروا ، والاستغفار توبة ، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ الأحقاف : 13 ] . { يُمَتّعْكُمْ } يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، من عيشة واسعة ، ونعمة متتابعة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى أن يتوفاكم ، كقوله : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً } [ النحل : 97 ] { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه . أو فضله في الثواب ، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات { وَإِن تَوَلَّوْاْ } وإن تتولوا { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هو يوم القيامة ، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل . وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء ، فكان قادراً على أشدّ ما أراد من عذابهم لا يعجزه . وقرىء : "وإن تولوا" من ولي .
(3/65)

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يزورّون عن الحق وينحرفون عنه؛ لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } يعني : ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم . ونظير إضمار يريدون - لقود المعنى إلى إضماره - الإضمار في قوله تعالى : { اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] معناه فضرب فانفلق . ومعنى { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } ويزيدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً ، كراهة لاستماع كلام الله تعالى : كقول نوح عليه السلام : { جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم واستغشوا ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] ثم قال : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء ، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده . روي أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث ، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته ، وهو يضمر خلاف ما يظهر . وقيل : نزلت في المنافقين . وقرىء : "تثنوني صدورهم" ، "واثنونى" من الثني ، كاحلولى من الحلاوة ، وهو بناء مبالغة ، قرىء بالتاء والياء . وعن ابن عباس لتثنوني . وقرىء تثنونّ وأصله تثنونن "تفعوعل" من الثن وهو ما هش وضعف من الكلأ ، يريد : مطاوعة صدورهم للثني ، كما ينثني الهش من النبات . أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم . وقرىء : "تثنئن" من اثنأن "افعال" منه ، ثم همز كما قيل : ابيأضت ، وادهأمت وقرىء : "تثنوي" بوزن ترعوي .
(3/66)

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
فإن قلت : كيف قال : { عَلَى الله رِزْقُهَا } بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل؟ قلت : هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم ، رجع التفضل واجباً كنذور العباد . والمتستقرّ : مكانه من الأرض ومسكنه . والمتسودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار ، من صلب ، أو رحم ، أو بيضة { وَمُسْتَوْدَعَهَا } كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها في اللوح ، يعني ذكرها مكتوب فيه مبين .
(3/67)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء } أي ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض . وارتفاعه فوقها إلا الماء . وفيه دليل على أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض . وقيل : وكان الماء على متن الريح ، والله أعلم بذلك ، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته ، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه { لِيَبْلُوَكُمْ } متعلق بخلق ، أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه . ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم . يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون . فإن قلت : كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت : لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنه طريق إليه فهو ملابس له ، كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن صوتاً؛ لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم . فإن قلت كيف قيل : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت : الذين هم أحسن عملا هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده ، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه ، وليكون ذلك لطفاً للسامعين ، وترغيباً في حيازة فضلهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 524 ) " ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً ، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " قرىء : "ولئن قلت إنكم مبعثون" بفتح الهمزة . ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق عنك تشتري لنا لحماً ، وأنك تشتري بمعنى علك ، أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون ، بمعنى : توقعوا بعثكم وظنوه ، ولا تبتوا القول بإنكاره ، لقالوا : { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } باتين القول ببطلانه . ويجوز أن تضمن "قلت" معنى "ذكرت" ومعنى قولهم : { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أنّ السحر أمر باطل ، وأن بطلانه كبطلان السحر تشبيهاً له به . أو أشاروا بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره . وقرىء : "إن هذا إلا ساحر" ، يريدون الرسول ، والساحر : كاذب مبطل .
(3/68)

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{ العذاب } عذاب الآخرة . وقيل عذاب يوم بدر . وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين { إلى أُمَّةٍ } إلى جماعة من الأوقات { مَا يَحْبِسُهُ } ما يمنعه من النزول استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء . و { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } منصوب بخبر ليس ، ويستدل به من يستجيز تقديم خبر ليس على ليس ، وذلك أنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها ، كان ذلك دليلاً على جواز تقديم خبرها؛ إذ المعمول تابع للعامل ، فلا يقع إلا حيث يقع العامل { وَحَاقَ بِهِم } وأحاط بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } العذاب الذي كانوا به يستعجلون . وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة الاستهزاء . والمعنى : ويحيق بهم إلا أنه جاء على عادة الله في أخباره .
(3/69)

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
{ الإنسان } للجنس { رَحْمَةً } نعمة من صحة وأمن وجدة { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } ثم سلبنا تلك النعمة { إنه ليؤوس } شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة . قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع { كَفُورٌ } عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نَسَّاءٌ له { ذَهَبَ السيئات عَنّي } أي المصائب التي ساءتني { إِنَّهُ لَفَرِحٌ } أشر بطر { فَخُورٌ } على الناس بما أذاقه الله من نعمائه ، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر { إِلاَّ الذين } آمنوا ، فإنّ عادتهم إن نالتهم رحمة أن يشكروا ، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا .
(3/70)

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم . ومن اقتراحاتهم { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } بأن تتلوه عليهم { أَن يَقُولُواْ } مخافة أن يقولوا : { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه ، ثم قال : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا { والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه ، وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح ، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم . فإن قلت : لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت : ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً . ومثله قولك : زيد سيد وجواد ، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد ونحوه كانوا قوماً عامين في بعض القراءات ، وقول السمهري العكلي :
بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِن ... بِهَا وَكِرَامُ النّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا
(3/71)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
{ أَمْ } منقطعة . والضمير في { افتراه } لما يوحى إليك . تحداهم أوّلا بعشر سور ، ثم بسورة واحدة ، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه : اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب ، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال : قد اقتصرت منك على سطر واحد { مِّثْلِهِ } بمعنى أمثاله ، ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له { مُفْتَرَيَاتٍ } صفة لعشر سور لما قالوا : افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله ، قاودهم على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال : هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي وأنّ الأمر كما قلتم ، فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام . فإن قلت : كيف يكون ما يأتون به مثله ، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت : معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى .
(3/72)

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
فإن قلت : ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله : { لَكُمْ فاعلموا } بعد قوله : { قُلْ } ؟ قلت : معناه فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم ، وقد قال في موضع آخر : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم } [ القصص : 50 ] ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله :
فَإنْ شَئْتُ حَرَّمْتُ النْسَاءَ سِوَاكُمُ ... وووجه آخر : وهو أن يكون الخطاب للمشركين ، والضمير في { لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ } لمن استطعتم ، يعني : فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه { فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله } أي أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله ، من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه { و } اعلموا عند ذلك { و أَن لاَّ إله إِلاَّ } الله وحده ، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة ، وهذا وجه حسن مطرد . ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه : فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه ، وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد . ومعنى { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } فهل أنتم مخلصون؟
(3/73)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{ نُوَفّ إِلَيْهِمْ } نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا ، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق . وقيل : هم أهل الرياء . يقال للقراء منهم : أردت أن يقال : فلان قارىء ، فقد قيل ذلك . ولمن وصل الرحم وتصدّق : فعلت حتى يقال ، فقيل ولمن قاتل فقتل : قاتلت حتى يقال فلان جريء ، فقد قيل : وعن أنس بن مالك : هم اليهود والنصارى ، إن أعطوا سائلاً أو وصلوا رحماً ، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن . وقيل : هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم . وقرىء : "يوفّ" بالياء على أن الفعل لله عز وجل . وتوفَّ إليهم أعمالهم بالتاء ، على البناء للمفعول . وفي قراءة الحسن : "نوفي" ، بالتخفيف وإثبات الياء ، لأنّ الشرط وقع ماضياً ، كقوله :
يَقُولُ لاَ غائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ ... { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } وحبط في الآخرة ما صنعوه ، أو صنيعهم ، يعني : لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة ، إنما أرادوا به الدنيا ، وقد وفي إليهم ما أرادوا { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي كان عملهم في نفسه باطلاً ، لأنه لم يعمل لوجه صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له . وقرىء : "وبطل" على الفعل . وعن عاصم : وباطلا بالنصب ، وفيه وجهان : أن تكون ما إبهامية وينتصب بيعملون ، ومعناه : وباطلاً ، أيّ باطل كانوا يعملون . وأن تكون بمعنى المصدر على : وبطل بطلاناً ما كانوا يعملون .
(3/74)

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{ أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ } معناه : أمّن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم ، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً ، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره ، كان على بينة { مّن رَّبّهِ } أي على برهان من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل { وَيَتْلُوهُ } ويتبع ذلك البرهان { شَاهِدٌ مّنْهُ } أي شاهد يشهد بصحته ، وهو القرآن { مِنْهُ } من الله ، أو شاهد من للقرآن ، فقد تقدّم ذكره آنفاً { وَمِن قَبْلِهِ } ومن قبل القرآن { كِتَابُ موسى } وهو التوراة ، أي : ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى . وقرىء : "كتاب موسى" بالنصب ، ومعناه : كان على بينة من ربه ، وهو الدليل على أنّ القرآن حق ، { وَيَتْلُوهُ } : ويقرأ القرآن { شَاهِدٌ مّنْهُ } شاهد ممن كان على بينة . كقوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِه } [ الأحقاف : 10 ] ، { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] ، { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } ويتلو من قبل القرآن والتوراة { إِمَاماً } كتاباً مؤتما به في الدين قدوة فيه { وَرَحْمَةً } ونعمة عظيمة على المنزل إليهم { أولئك } يعني من كان على بينة { يُؤْمِنُونَ بِهِ } يؤمنون بالقرآن { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب } يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزِّبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم { فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ } وقرىء : "مُرية" بالضم وهما الشك { مِّنْهُ } من القرآن أو من الموعد .
(3/75)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ } يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم { الأشهاد } من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكاً ، ويقال { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } فوا خزياه ووا فضيحتاه . والأشهاد : جمع شاهد أو شهيد ، كأصحاب أو أشراف { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة . أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد ، وهم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به { أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض } أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم ، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه ، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم ، وهو من كلام الأشهاد { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } وقرىء : "يضعف" { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } أراد أنهم لفرط تصامّهم عن استماع الحق وكراهتهم له ، كأنهم لا يستطيعون السمع ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل ، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان : هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا مما يمجه سمعي . ويحتمل أن يريد بقوله : { وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ دون الله أَوْلِيَاء } أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ، وولايتها ليست بشيء ، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء ، ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } فكيف يصلحون للولاية . وقوله : { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } اعتراض بوعيد { خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، فكان خسرانهم في تجارتهم ما لا خسران أعظم منه ، وهو أنهم خسروا أنفسهم { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الآلهة وشفاعتها { لاَ جَرَمَ } فسر في مكان آخر { هُمُ الأخسرون } لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم .
(3/76)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{ وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ } واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة . ومنه قولهم للشيء : الدنيء الخبيت . قال :
يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْقَلِيلُ مِنَ الرِّز ... قِ وَلاَ يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الْخَبِيتُ
وقيل : التاء فيه بدل من الثاء .
(3/77)

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم ، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع ، وهو من اللف والطباق . وفيه معنيان : أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين ، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب ، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم ، أو الذي جمع بين البصر والسمع . على أن تكون الواو في { والأصم } وفي { والسميع } لعطف الصفة على الصفة ، كقوله :
الصَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ ... { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } يعني الفريقين { مَثَلاً } تشبيهاً .
(3/78)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
أي أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير . ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام ، وهو قوله : { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بالكسر ، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في { كَانَ } والمعنى على الكسر ، وهو قولك : إنّ زيداً كالأسد . وقرىء بالكسر على إرادة القول { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } بدل من { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ } أي أرسلناه بأن لا تعبدوا { إِلاَّ الله } أو تكون "أن" مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه . فإن قلت : فإذا وصف به العذاب؟ قلت : مجازي مثله ، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب ، ونظيرهما قولك : نهارك صائم ، وجدّ جدّه .
(3/79)

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{ الملا } الأشراف من قولهم : فلان مليء بكذا ، إذا كان مطيقاً له ، وقد ملؤا بالأمر؛ لأنهم ملؤا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها . أو لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون أو لأنهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة ، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } . أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشر . والأراذل جمع الأرذل كقوله : { أكابر مُجْرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] "أحاسنكم أخلاقاً" وقرىء : "بادي الرأي" بالهمز وغير الهمز ، بمعنى : اتبعوك أوّل الرأي أو ظاهر الرأي ، وانتصابه على الظرف ، أصله : وقت حدوث أوّل رأيهم ، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه . أرادوا : أن اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر ، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية ، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال ، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم ، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده ، ولا يرفعه بل يضعه ، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها ، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا ، مزهدين فيها ، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها ، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله ، والتشرف بما هو ضعة عند الله { مِن فَضْلِ } من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } فيما تدّعونه .
(3/80)

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{ أَرَءيْتُمْ } أخبروني { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ } على برهان { مّن رَّبّى } وشاهد منه يشهد بصحة دعواي { وءاتاني رَحْمَةً مِنْ عِندهِ } بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة : المعجزة ، وبالرحمة : النبوّة . فإن قلت : فقوله : { فَعُمّيَتْ } ظاهر على الوجه الأوّل ، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت : الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة : ومعنى عميت خفيت . وقرىء : "فعميت" بمعنى أخفيت . وفي قراءة أبي "فعماها عليكم" فإن قلت : فما حقيقته؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد . فإن قلت : فما معنى قراءة أبي؟ قلت : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه قوله : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون } يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها ، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً . ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها . ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز : فسيكفيك إياهم . وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم . ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكوناً . والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين؛ لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر . والضمير في قوله : { لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } راجع إلى قوله لهم : { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } [ هود : 25 ] . وقرىء : "وما أنا بطارد الذين آمنوا" بالتنوين على الأصل . فإن قلت : ما معنى قوله : { إنهم ملاقو رَّبُّهُمْ } ؟ قلت : معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم . أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت ، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم . أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادىء الرأي من غير نظر وتفكر . وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون . ونحوه { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية [ الأنعام : 52 ] ، أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة { تَجْهَلُونَ } تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل : من قوله :
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... أو تجهلون بلقاء ربكم . أو تجهلون أنهم خير منكم { مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } من يمنعني من انتقامه { إِن طَرَدتُّهُمْ } وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به ، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء { أَعْلَمُ الغيب } معطوف على { عِندِى خَزَائِنُ الله } أي لا أقول عندي خزائن الله ، ولا أقول : أنا أعلم الغيب .
(3/81)

ومعناه : لا أقول لكم : عندي خزائن الله فأدعي فضلا عليكم في الغنى ، حتى تجحدوا فضلي بقولكم { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } [ هود : 27 ] ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء ، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا ، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه ، كما تقولون ، مساعدة لكم ونزولاً على هواكم { إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين } إن قلت شيئاً من ذلك ، والازدراء : افتعال من زري عليه إذا عابه . وأزرى به : قصر به ، يقال ازدرته عينه ، واقتحمته عينه .
(3/82)

قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
{ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } معناه : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته ، كقولك : جاد فلان فأكثر وأطاب { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب المعجل .
(3/83)

قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله } أي ليس الإتيان بالعذاب إليّ إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه { إِن شَاء } يعني إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم . وقرأ ابن عباس رضي الله عنه . "فأكثرت جدلنا" فإن قلت : ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ قلت : قوله : { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } جزاؤه ما دلّ عليه قوله : { لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني . فإن قلت : فما معنى قوله : { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } ؟ قلت : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه ، سمى ذلك إغواء وإضلالاً ، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي فلطف به : سمي إرشاداً وهداية . وقيل : { أَن يُغْوِيَكُمْ } أن يهلككم من غوى الفصيل غوي ، إذا بشم فهلك ، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي؟ { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } وإجرامي بلفظ المصدر والجمع . كقوله : والله يعلم إسرارهم وأسرارهم . ونحو : جرم وأجرام قفل وأقفال . وينصر الجمع أن فسره الأولون بآثامي والمعنى : إن صح وثبت أني افتريته ، فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي . وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني وتتألبوا عليّ { وَأَنَاْ بَرِىء } يعني ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه . ومعنى { مّمَّا تُجْرَمُونَ } من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم .
(3/84)

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{ لَن يُؤْمِنَ } إقناط من إيمانهم ، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع { إِلاَّ مَنْ قَدْ ءَامَنَ } إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه ، وقد للتوقع وقد أصابت محزها { فَلاَ تَبْتَئِسْ } فلا تحزن حزن بائس مستكين ، قال :
مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِس ... مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ الْبَالِ
والمعنى : فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك ، فقد حان وقت الانتقام لك منهم { بِأَعْيُنِنَا } في موضع الحال ، بمعنى : اصنعها محفوظاً ، وحقيقته : ملتبساً بأعيننا ، كأن لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب ، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه . ووحينا : وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع . عن ابن عباس رضي الله عنه : لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } إنهم محكوم عليهم بالإغراق ، وقد وجب ذلك وقضي به القضاء وجف القلم ، فلا سبيل إلى كفه ، كقوله : { يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود : 76 ] .
(3/85)

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{ وَيَصْنَعُ الفلك } حكاية حال ماضية { سَخِرُواْ مِنْهُ } ومن عمله السفينة ، وكان يعملها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء ، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة ، فكانوا يتضاحكون ويقولون له : يا نوح ، صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } يعني في المستقبل { كَمَا تَسْخَرُونَ } منا الساعة ، أي : نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . وقيل : إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالاستجهال منا . أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم ، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر ، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق . وروي أنّ نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين ، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون ، فحمل في البطن الأسفل : الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط : الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد ، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء ، وعن الحسن : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة . وقيل : إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال : أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : هذا كعب بن حام . قال : فضرب الكثيب بعصاه فقال : قم بإذن الله ، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام : هكذا أهلكت؟ قال لا ، مت وأنا شاب ، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت . قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات : طبقة للدواب والوحوش ، وطبقة للإنس ، وطبقة للطير . ثم قال : له عد بإذن الله كما كنت ، فعاد تراباً { مَن يَأْتِيهِ } في محل النصب بتعلمون ، أي : فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه ، ويعني به إياهم ، ويريد بالعذاب : عذاب الدنيا وهو الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ } حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه { عَذَابٌ مُّقِيمٌ } وهو عذاب الآخرة .
(3/86)

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{ حتى } هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء . فإن قلت : وقعت غاية لماذا؟ قلت : لقوله ويصنع الفلك ، أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد ، فإن قلت : فإذا اتصلت "حتى" بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت : هو حال من يصنع ، كأنه قال : يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه . فإن قلت : فما جواب كلما؟ قلت : أنت بين أمرين : إما أن تجعل "سخروا" جواباً و "قال" استئنافاً ، على تقدير سؤال سائل ، أو تجعل "سخروا" بدلاً من "مرّ" أو صفة "لملأ" و "قال" جواباً . { وَأَهْلَكَ } عطف على اثنين ، وكذلك { وَمَنْ ءامَنَ } يعني : واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم . واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار ، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر ، لا لتقديره عليه وإرادته به - تعالى الله عن ذلك - قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته { إِلاَّ قَلِيلٌ } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 525 ) " كانوا ثمانية : نوح وأهله ، وبنوه الثلاثة ، ونساؤهم " وعن محمد بن إسحاق : كانوا عشرة : خمسة رجال وخمس نسوة . وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة ، وأولاد نوح : سام وحام ويافث ، ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون : نصفهم رجال ونصفهم نساء . ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين؛ فالكلام الواحد : أن يتصل { بِسْمِ اللَّهِ } ب ( اركبوا ) حالا من الواو ، بمعنى : اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها ، إما لأن المجرى والمرسى للوقت ، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء ، حذف منهما الوقت المضاف ، كقولهم خفوق النجم ، ومقدم الحاج . ويجوز أن يراد مكاناً الإجراء والإرساء ، وانتصابهما بما في { بِسْمِ اللَّهِ } من معنى الفعل ، أو بما فيه من إرادة القول . والكلامان : أن يكون { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } جملة من مبتدأ وخبر مقتضبه ، أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها . يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال : بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله فرست ، ويجوز أن يقحم الاسم ، كقوله :
ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا ... ويراد : بالله إجراؤها وإرساؤها ، أي بقدرته وأمره . وقرىء : { مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } بفتح الميم ، من جرى ورسى ، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين . وقرأ مجاهد { مجريها ومرسيها } بلفظ اسم الفاعل ، مجروري المحل ، صفتين لله . فإن قلت : ما معنى قولك : جملة مقتضبة؟ قلت : معناه أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته . ويحتمل أن تكون غير مقتضيه بأن تكون في موضع الحال كقوله :
وَجَاؤُنَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَيَنا ... فلا تكون كلاماً برأسه ، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأوّل ، وانتصاب هذه الحال عن ضمير الفلك ، كأنه قيل : اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله بمعنى التقدير ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] . { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم .
(3/87)

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
فإن قلت : بم اتصل قوله : { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } ؟ قلت : بمحذوف دل عليه { اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله } [ هود : 41 ] كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون : بسم الله ، { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } أي تجري وهم فيها { فِى مَوْجٍ كالجبال } يريد موج الطوفان ، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها . فإن قلت : الموج : ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض ، وكانت الفلك تجري في جوف الماء كما تسبح السمكة ، فما معنى جريها في الموج؟ قلت : كان ذلك قبل التطبيق ، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال . ألا ترى إلى قول ابنه : سآوى إلى جبل يعصمني من الماء . قيل : كان اسم ابنه : كنعان . وقيل : يام . وقرأ علي رضي الله عنه : ابنها ، والضمير لامرأته . وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير : ابنه ، بفتح الهاء ، يريدان ابنها ، فاكتفيا بالفتحة عن الألف ، وبه ينصر مذهب الحسن . قال قتادة : سألته فقال : والله ما كان ابنه ، فقلت : إن الله حكى عنه إن ابني من أهلي ، وأنت تقول : لم يكن ابنه ، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه ، فقال : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب ، واستدل بقوله : { مّنْ أَهْلِى } [ هود : 45 ] ولم يقل : مني ، ولنسبته إلى أمّه وجهان ، أحدهما : أن يكون ربيباً له ، كعمر بن أبي سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون لغير رشدة ، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام . وقرأ السدي "ونادى نوح ابناه" على الندبة والترثي . أي : قال : يا ابناه . والمعزل : مفعل ، من عزله عنه إذا نحاه وأبعده ، يعني وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين . وقيل : كان في معزل عن دين أبيه { يابنى } قرىء بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة ، وبالفتح اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك "يا بنيا" أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين؛ لأنّ الراء بعدهما ساكنة { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } إلا الراحم وهو الله تعالى ، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين ، وكان لهم غفوراً رحيماً في قوله : { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ هود : 41 ] وذلك أنه لما جعل الجبل عاصماً من الماء قال له : لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة . وقيل لا عاصم ، بمعنى : لاذا عصمة إلا من رحمه الله ، كقوله : { مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] و { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] وقيل : "إلا من رحم" استثناء منقطع ، كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم ، كقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } [ النساء : 157 ] وقرىء "إلا من رُحِم" على البناء للمفعول .
(3/88)

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
نداء الأرض والسماء بما ينادي به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله : "يا أرض" ، "ويا سماء" ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله : "ابلعي ماءك" و "أقلعي" من الدلالة على الاقتدار العظيم ، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه ، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور ، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له ، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث ، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا إبطاء . والبلع : عبارة عن النشف . والإقلاع : الإمساك . يقال : أقلع المطر وأقلعت الحمى { وَغِيضَ الماء } من غاضه إذا نقصه { وَقُضِىَ الأمر } وأنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه { واستوت } واستقرّت السفينة { عَلَى الجودى } وهو جبل بالموصل { وَقِيلَ بُعْدًا } يقال بعد بعدا وبعدا ، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء ، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر ، وتكوين مكون قاهر ، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره ، ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤسهم ، لا لتجانس الكلمتين ، وهما قوله : "ابلعي" و "أقلعي" وذلك وإن كان لا يخلي الكلام من حسن ، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور . وعن قتادة : استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب ، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم ، واستقرت بهم على الجودي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء . وروي أنها مرت بالبيت فطافت به سبعاً ، وقد أعتقه الله من الغرق . وروي أنّ نوحاً صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكراً لله تعالى .
(3/89)

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
نداؤه ربه : دعاؤه له ، وهو قوله : { رَبّ } مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله . فإن قلت : فإذا كان النداء هو قوله : "رب" فكيف عطف "قال رب" على "نادى" بالفاء؟ قلت : أريد بالنداء إرادة النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء ، كما جاء قوله : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَالَ رَبّ } [ مريم : 3 ] بغير فاء { إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } أي بعض أهلي ، لأنه كان ابنه من صلبه ، أو كان ريبياً له فهو بعض أهله { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلي ، فما بال ولدي؟ { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } أي أعلم الحكام وأعدلهم؛ لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل . ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة ، ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر ويجوز أن يكون من الحكمة على أن يبني من الحكمة حاكم بمعنى النسبة كما قيل دارع من الدرع ، وحائض وطالق على مذهب الخليل { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } تعليل لانتفاء كونه من أهله . وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك وخصيصك . ومن لم يكن على دينك - وإن كان أمس أقاربك رحماً - فهو أبعد بعيد منك ، وجعلت ذاته عملاً غير صالح ، مبالغة في ذمّه ، كقولها :
فَإنَّمَا هي إقْبَالٌ وَإدْبَارُ ... وقيل : الضمير لنداء نوح ، أي : إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك - فإن قلت : فهلا قيل : إنه عمل فاسد؟ قلت : لما نفاه عن أهله ، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقي معها لفظ المنفي ، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك . وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك ، كقوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً } [ التحريم : 10 ] وقرىء : "عمل غير صالح" أي عمل عملا غير صالح . وقرىء : "فلا تسئلنّ" بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء ، يعني فلا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب ، حتى تقف على كنهه . وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه . فإن قلت : لم سمي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه؟ قلت : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز . وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين .
(3/90)

فإن قلت : قد وعده أن ينجي أهله ، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وسمي سؤاله جهلاً؟ قلت : إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح ، وأن كلهم ليسوا بناجين ، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه .
(3/91)

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{ أَنْ أَسْأَلَكَ } من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته ، تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى } ما فرط مني من ذلك { وَتَرْحَمْنِى } بالتوبة عليّ { أَكُن مّنَ الخاسرين } أعمالاً .
(3/92)

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
وقرىء : "يا نوح اهبط" بضم الباء { بسلام مّنَّا } مسلماً محفوظاً من جهتنا أو مسلماً عليك مكرّماً { وبركات عَلَيْكَ } ومباركاً عليك ، والبركات الخيرات النامية . وقرىء : "وبركة" على التوحيد { وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ } يحتمل أن تكون من للبيان . فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة؛ لأنهم كانوا جماعات . أو قيل لهم أمم ، لأنّ الأمم تتشعب منهم ، وأن تكون لإبتداء الغاية أي : على أمم ناشئة ممن معك ، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه . وقوله : { وَأُمَمٌ } رفع بالابتداء . و { سَنُمَتّعُهُمْ } صفة ، والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأنّ قوله : { مّمَّن مَّعَكَ } يدل عليه والمعنى : أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك ، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار ، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء ، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة . وعن محمد بن كعب القرظي : دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر . وعن ابن زيد : هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا ، منهم من رحم ومنهم من عذب وقيل : المراد بالأمم الممتعة : قوم هود وصالح ولوط وشعيب .
(3/93)

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{ تِلْكَ } إشارة إلى قصة نوح عليه السلام . ومحلها الرفع على الابتداء ، والجمل بعدها أخبار ، أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك ، مجهولة عندك وعند قومك { مّن قَبْلِ هذا } من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها . أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي . أو من قبل هذا الوقت { فاصبر } على تبليغ الرسالة وأذى قومك ، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه { إِنَّ العاقبة } في الفوز والنصر والغلبة { لّلْمُتَّقِينَ } وقوله : { وَلاَ قَوْمُكَ } معناه : إنّ قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه ، فكيف برجل منهم كما تقول لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده .
(3/94)

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{ أخاهم } واحداً منهم ، وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحا ، و { هُودًا } عطف بيان . و { غَيْرُهُ } بالرفع : صفة على محل الجار والمجرور . وقرىء : "غيره" ، بالجرّ صفة على اللفظ { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء . ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول ، لأنّ شأنهم النصيحة ، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع ، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله . وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك ، قيل { استغفروا رَبَّكُمْ } آمنوا به { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } من عبادة غيره ، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان ، والمدرار : الكثير الدرور ، كالمغزار . وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة؛ لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات ، حرّاصاً عليها أشد الحرص ، فكانوا أحوج شيء إلى الماء . وكانوا مدلين بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة ، مستحرزين بها من العدوّ ، مهيبين في كل ناحية . وقيل : أراد القوّة في المال وقيل : القوّة على النكاح وقيل : حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية ، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال ولا يولد لي ، فعلمني شيئاً لعلّ الله يرزقني ولداً ، فقال : عليك بالاستغفار ، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة ، فولد له عشرة بنين ، فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته ممَّ قال ذلك ، فوفد وفدة أخرى ، فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود عليه السلام { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } وقول نوح عليه السلام : { وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ } ولا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأُرغبكم فيه { مُّجْرِمِينَ } مصرّين على إجرامكم وآثامكم .
(3/95)

قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
{ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } كذب منهم وجحود ، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أُنزل عليه آية من ربه ، مع فوت آياته الحصر { عَن قَوْلِكَ } حال من الضمير في تاركي آلهتنا ، كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك : { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه ، إقناطاً له من الإجابة .
(3/96)

إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
{ اعتراك } مفعول نقول ، وإلا لغو . والمعنى : ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ، أي خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها . مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذي بهذيان المبرسمين . وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنوناً وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك . وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنوناً والمنيب إلى ربه مخبلا ، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض ، وضب من الزندقة أراد أن يطلع رأسه وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ولا يلتفتون إلى النصح . ولا تلين شكيمتهم للرشد . وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنصر وتنتقم ، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب . من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشا إلى إراقة دمه . يرمونه عن قوس واحدة ، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم ، فلا تنشب فيه مخالبهم . ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه : { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } [ يونس : 71 ] أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد ، فيقول الرجل : الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه كونوا شهداء على أني لا أفعله . فإن قلت : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم؟ قلت : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده ، وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة ، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه . اشهد علي أني لا أحبك ، تهكما به واستهانة بحاله { مّمَّا تُشْرِكُونَ به مِن دُونِهِ } من إشراككم آلهة من دونه ، أو مما تشركونه من آلهة من دونه ، أي أنتم تجعلونها شركاء له ، ولم يجعلها هو شركاء . ولم ينزل بذلك سلطاناً { فَكِيدُونِى جَمِيعًا } أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون ، من غير إنظار؛ فإني لا أبالي بكم وبكيدكم ، ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم عليّ وأنتم الأقوياء الشداد ، فكيف تضرني آلهتكم ، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع ، وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها ، بأن تخبلني وتذهب بعقلي .
(3/97)

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم ، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم . من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه ، والأخذ بنواصيها ، تمثيل لذلك { إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه ، لا يفوته ظالم ، ولا يضيع عنده معتصم به { فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن تتولوا . فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت : معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول { وَيَسْتَخْلِفُ } كلام مستأنف ، يريد : ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم { وَلاَ تَضُرُّونَهُ } بتوليكم { شَيْئاً } من ضرر قط ، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع ، وإنما تضرون أنفسكم . وفي قراءة عبد الله { وَيَسْتَخْلِفُ } بالجزم وكذلك : ولا تضروه ، عطفاً على محل { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ } والمعنى : إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم { على كُلّ شَىْء حَفِيظٌ } أي رقيب عليه مهيمن ، فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم . أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ ، لم يضر مثله مثلكم .
(3/98)

وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
{ والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } قيل : كانوا أربعة آلاف . فإن قلت : ما معنى تكرير التنجية؟ قلت : ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } على معنى : وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً . وقيل : أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة ، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ . وقوله : برحمة منا ، يريد : بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له .
(3/99)

وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{ وَتِلْكَ عَادٌ } إشارة إلى قبورهم وآثارهم ، كأنه قال : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال : { جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله ، { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده { كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل . ومعنى اتباع أمرهم : طاعتهم . ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله . و { ألا } وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم ، تهويل لأمرهم وتفظيع له ، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم . فإن قلت : { بُعْدًا } دعاء بالهلاك ، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت : معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له : ألا ترى إلى قوله :
إخْوَتي لاَ تَبْعَدُوا أبدَا ... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا
{ قَوْمِ هُودٍ } عطف بيان لعاد : فإن قلت : ما الفائدة في هذا البيان والبيان حاصل بدونه؟ قلت : الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما ، وتجعل فيهم أمراً محققاً لا شبهة فيه بوجه من الوجوه ، ولأنّ عاداً عادان : الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم ، والأخرى إرم .
(3/100)

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } لم ينشئكم منها إلا هو ، ولم يستعمركم فيها غيره . وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب { واستعمركم فِيهَا } وأمركم بالعمارة ، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه ، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار ، وعمروا الأعمار الطوال ، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا ، فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم ، فأوحى إليه : إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي . وعن معاوية بن أبي سفيان أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره ، فقيل له ، فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
لَيْسَ الفَتَى بِفتَي لاَيسْتَضَاءُ بِه ... وَلاَ تَكُونُ لَهُ في الأَرْضِ آثَارُ
وقيل : استعمركم من العمر ، نحو استبقاكم من البقاء ، وقد جعل من العمرى . وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون استعمر في معنى أعمر ، كقولك استهلكه في معنى أهلكه . ومعناه : أعمركم فيها دياركم ، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم . والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها ، لأنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنما أعمره إياها ، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره { قَرِيبٌ } داني الرحمة سهل المطلب { مُّجِيبٌ } لمن دعاه وسأله { فِينَا } فيما بيننا { مَرْجُوّا } كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك . وعن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدّمك على جميعنا . وقيل : كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه { يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } حكاية حال ماضية { مُرِيبٍ } من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين . أو من "أراب الرجل" إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي . قيل : { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } بحرف الشك وكان على يقين أنه على بينة ، لأنّ خطابه للجاحدين ، فكأنه قال : قدّروا أني على بينة من ربي ، وأني نبيّ على الحقيقة ، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره ، فمن يمنعني من عذاب الله؟ { فَمَا تَزِيدُونَنِى } إذن حينئذ { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } يعني تخسرون أعمالي وتبطلونها . أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملونني عليه غير أن أخسركم ، أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون { ءَايَةً } نصب على الحال قد عمل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل . فإن قلت : فبم يتعلق { لَكُمْ } قلت بآية حالاً منها متقدّمة؛ لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها ، فلما تقدمت انتصبت على الحال { عَذَابٌ قَرِيبٌ } عاجل لا يستأخر عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً ، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم { تَمَتَّعُواْ } استمتعوا بالعيش { فِى دَارِكُمْ } في بلدكم .
(3/101)

وتسمى البلاد الديار؛ لأنه يدار فيه أي يتصرف . يقال : ديار بكر ، لبلادهم . وتقول العرب الذين حوالي مكة : نحن من عرب الدار ، يريدون من عرب البلد . وقيل : في دار الدنيا . وقيل : عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت { غَيْرُ مَكْذُوبٍ } غير مكذوب فيه ، فاتسع في الظرف بحذف الحرف واجرائه مجرى المفعول به ، كقولك : يوم مشهود ، من قوله :
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ . . . . . . . . . ... أو على المجاز ، كأنه قيل للوعد : نفي بك ، فإذا وفى به فقد صدق ولم يكذب . أو وعد غير كذب ، على أنّ المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول ، وكالمصدوقة بمعنى الصدق { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ } قرىء مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ ، وهو غير متمكن ، كقوله :
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... فإن قلت : علام عطف؟ قلت : على نجينا ، لأنّ تقديره ونجيناهم من خزي يومئذ ، كما قال { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] على : وكانت التنجية من خزي يومئذ ، أي من ذله ومهانته وفضيحته ، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه يغضب الله وانتقامه . ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة ، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة . وقرىء : "ألا إن ثمود" و "لثمود" كلاهما بالصرف وامتناعه ، فالصرف للذهاب إلى الحيّ أو الأب الأكبر ، ومنعه للتعريف والتأنيث ، بمعنى القبيلة .
(3/102)

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{ أَرْسَلْنَا } يريد الملائكة . عن ابن عباس : جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه . وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل . وقيل : كانوا تسعة . وعن السدي : أحد عشر { بالبشرى } هي البشارة بالولد ، وقيل : بهلاك قوم لوط ، والظاهر الولد { سلاما } سلمنا عليك سلاماً { سلاما } أمركم سلام . وقرىء : "فقالوا سلما قال سلم" بمعنى السلام . وقيل : سلم وسلام ، كحرم وحرام ، وأنشد :
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَت ... كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ
{ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء } فما لبث في المجيء به ، بل عجل فيه ، أو فما لبث مجيئه . والعجل : ولد البقرة ، ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة ، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام البقر { حنيذ } مشويّ بالرضف في أخدود . وقيل { حَنِيذٍ } يقطر دسمه ، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقاً ، ويدل عليه { بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : 26 ] . يقال : نكره وأنكره واستنكره ، ومنكور قليل في كلامهم ، وكذلك : أنا أنكرك ، ولكن منكر ومستنكر ، وأنكرك . قال الأعشى :
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَت ... مِنَ الْحَوَادِثِ إلاّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا
قيل : كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروهاً . وقيل : كانت عادتهم أنه إذامسّ من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه ، والظاهر أنه أحسّ بأنهم ملائكة ، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه ، ألا ترى إلى قولهم : { لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط } وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا { فَأَوْجَسَ } فأضمر . وإنما قالوا : { لاَ تَخَفْ } لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه . أو عرفوه بتعريف الله . أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف ، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب { وامرأته قَآئِمَةٌ } قيل : كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم . وقيل : كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم . وفي مصحف عبد الله : وامرأته قائمة وهو قاعد { فَضَحِكَتْ } سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث . أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد أظلهم العذاب . وقيل : كانت تقول لإبراهيم : اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب ، فضحكت سروراً لما أتى الأمر على ما توهمت . وقيل ضحكت فحاضت . وقرأ محمد بن زياد الأعرابي "فضحكت" بفتح الحاء { يَعْقُوبَ } رفع بالابتداء ، كأنه قيل : ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود ، أي من بعده . وقيل الوراء : ولد الولد . وعن الشعبي أنه قيل له : أهذا ابنك؟ فقال نعم ، من الوراء ، وكان ولد ولده . وقرىء : "يعقوب" بالنصب ، كأنه قيل . ووهبنا لها إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، على طريقة قوله :
. . . . . . لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ . . . . . . . . . . . .
الألف في { يا ويلتا } مبدلة من ياء الإضافة ، وكذلك في "يالهفاً" و "ياعجباً" وقرأ الحسن : "يا ويلتي" بالياء على الأصل .
(3/103)

و { شَيْخًا } نصب بما دلّ عليه اسم الإشارة . وقرىء : "شيخ" على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا بعلي هو شيخ . أو بعلي : بدل من المبتدأ ، وشيخ : خبر ، أو يكونان معاً خبرين . قيل : بشرت ولها ثمان وتسعون سنة ، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة { إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ } أن يولد ولد من هرمين ، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله . وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ، ولا يزدهيها ما يزدهي النساء الناشئآت في غير بيوت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم : { رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ } أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة ، فليست بمكان عجب . وأمر الله : قدرته وحكمته : وقوله : { رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ } كلام مستأنف علل به إنكار التعجب ، كأنه قيل : إياك والتعجب ، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم . وقيل : الرحمة النبوة ، والبركات الأسباط من بني إسرائيل ، لأنّ الأنبياء منهم ، وكلهم من ولد إبراهيم { حَمِيدٌ } فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده { مَّجِيدٌ } كريم كثير الإحسان إليهم . وأهل البيت : نصب على النداء أو على الاختصاص لأن { أَهْلَ البيت } مدح لهم؛ إذ المراد : أهل بيت خليل الرحمن .
(3/104)

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
{ الروع } ما أوجس من الخيفة . حين نكر أضيافه . والمعنى : أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملىء سروراً بسبب البشرى بدل الغم ، فرغ للمجادلة ، فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : هو محذوف كما حذف قوله : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ } [ يوسف : 15 ] وقوله : { يجادلنا } كلام مستأنف دال على الجواب . وتقديره : اجترأ على خطابنا ، أو فطن لمجادلتنا ، أو قال : كيت وكيت : ثم ابتدأ فقال : { يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ } وقيل في { يجادلنا } : هو جواب لما ، وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال : وقيل إن "لما" ترد المضارع إلى معنى الماضي ، كما ترد "إن" الماضي إلى معنى الاستقبال ، وقيل : معناه أخذ يجادلنا ، وأقبل يجادلنا . والمعنى : يجادل رسلنا . ومجادلته إياهم أنهم قالوا : { إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذه القرية } [ العنكبوت : 31 ] فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، قال : فثلاثون؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة . قالوا : لا . قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فعند ذلك قال : { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } [ العنكبوت : 32 ] { قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ العنكبوت : 32 ] . { فِى قَوْمِ لُوطٍ } في معناهم . وعن ابن عباس : قالوا له : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب . وعن قتادة : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير . وقيل : كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان { إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ } غير عجول على كل من أساء إليه { أواه } كثير التأوّه من الذنوب { مُّنِيبٌ } تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى . وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة ، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب . ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه .
(3/105)

يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{ ياإبراهيم } على إرادة القول : أي قالت له الملائكة { أَعْرِضْ عَنْ هاذآ } الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك ، فلا فائدة فيه { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة ، والعذاب نازل بالقوم لا محالة ، لا مردّ له بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك .
(3/106)

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
كانت مساءة لوط وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس ، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم . روي أنّ الله تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد بالله إنها لشرقرية في الأرض عملاً ، يقول ذلك أربع مرات ، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد ، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها . يقال : يوم عصيب ، وعصوصب ، إذا كان شديداً من قولك : عصبه ، إذا شدّه .
(3/107)

وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{ يُهْرَعُونَ } يسرعون كأنما يدفعون دفعاً { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها ، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها ، فلذلك جاؤا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء . وقيل معناه : وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك { هؤلاءآء بَنَاتِى } أراد أن يقي أضيافه ببناته ، وذلك غاية الكرم ، وأراد : هؤلاء بناتي فتزوّجوهنّ وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً ، كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن وائل قبل الوحي وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان ، فأراد أن يزوجهما ابنتيه وقرأ ابن مروان "هنّ أطهر لكم" بالنصب ، وضعفه سيبويه وقال : احتبى ابن مروان في لحنه . وعن أبي عمرو بن العلاء : من قرأ { هُنَّ أَطْهَرُ } بالنصب فقد تربع في لحنه ، وذلك أنّ انتصابه على أن يجعل حالا قد عمل فيها ما في هؤلاء من معنى الفعل ، كقوله : { هذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] أو ينصب هؤلاء بفعل مضمر ، كأنه قيل : خذوا هؤلاء ، وبناتي : بدل ، ويعمل هذا المضمر في الحال ، و "هنّ" فصل ، وهذا لا يجوز لأنّ الفصل مختص بالوقوع بين جزأي الجملة ، ولا يقع بين الحال وذي الحال ، وقد خرّج له وجه لا يكون { هؤلاء } فيه فصلا ، وذلك أن يكون هؤلاء مبتدأ و { بَنَاتِى هُنَّ } جملة في موضع خبر المبتدأ ، كقولك : هذا أخي هو ، ويكون { أَطْهَرُ } حالاً { فاتقوا الله } بإيثارهن عليهم { وَلاَ تخزوني } ولا تهينوني ولا تفضحوني ، من الخزي ، أو ولا تخجلوني ، من الخزاية وهي الحياء { فِى ضَيْفِى } في حق ضيوفي فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل ، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } رجل واحد يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل ، والكف عن السوء . وقرىء : "ولا تخزون" بطرح الياء . ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدّة امتعاضه مما أوردوا عليه ، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك ، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم ، ومن ثمّ { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ } مستشهدين بعلمه { مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ } لأنك لا ترى مناكحتنا ، وما هو إلا عرض سابري . وقيل : لما تخذوا إتيان الذكران مذهباً وديناً لتواطؤهم عليه ، كان عندهم أنه هو الحق ، وأنّ نكاح الإناث من الباطل ، فلذلك قالوا : ما لنا في بناتك من حق قط؛ لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الذي نحن عليه . ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة ، والغرض نفي الشهوة { لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة .
(3/108)

قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
جواب "لو" محذوف ، كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } [ الرعد : 31 ] يعني لو أنّ لي بكم قوّة لفعلت بكم وصنعت . يقال : ما لي به قوّة ، وما لي به طاقة . ونحوه { لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } [ النمل : 27 ] وما لي به يدان؛ لأنه في معنى لا أضطلع به ولا أستقلّ به . والمعنى لو قويت عليكم بنفسي ، أو أويت إلى قويّ أستند إليه وأتمنع به فيحميني منكم . فشبه القويّ العزيز بالركن من الجبل في شدّته ومنعته ، ولذلك قالت الملائكة - وقد وجدت عليه - : إنّ ركنك لشديد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( 526 ) " رحم الله أخي لوطاً ، كان يأوي إلى ركن شديد " وقرىء : "أو آوى" بالنصب بإضمار "أن" كأنه قيل لو أن لي بكم قوّة أو أويا ، كقولها :
للَبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... وقرىء : "إلى ركن" بضمتين . وروي أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادّهم ما حكى الله عنه ويجادلهم ، فتسوّروا الجدار .
(3/109)

قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالوا : يا لوط ، إن ركنك لشديد { إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا ، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له ، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه - وله جناحان وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا - فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم ، كما قال الله تعالى : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } [ القمر : 37 ] فصاروا لا يعرفون الطريق ، فخرجوا وهم يقولون : النجاء النجاء ، فإن في بيت لوط قوماً سحرة { لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } جملة موضحة للتي قبلها؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره . قرىء : { فَأَسْرِ } بالقطع والوصل . و { إِلاَّ امرأتك } بالرفع والنصب . وروي أنه قال لهم : متى موعد هلاكهم؟ قالوا : الصبح . فقال : أريد أسرع من ذلك . فقالوا : { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } وقرىء : { الصبح } بضمتين . فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ { إِلاَّ امرأتك } بالنصب؟ قلت : استثناها من قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } والدليل عليه قراءة عبد الله : "فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك" . ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت ، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل ، أعني قراءة من قرأ بالرفع ، فأبدلها عن أحد . وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها . وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها ، فإن هواها إليهم ، فلم يسر بها . واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين .
(3/110)

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{ جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } جعل جبريل جناحه في أسفلها ، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السما نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم { مّن سِجّيلٍ } قيل هي كلمة معربة من سنككل ، بدليل قوله : { حِجَارَةً } من طين وقيل : هي من أسجله؛ إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين . ويدل عليه قوله : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } [ الذاريات : 33 ] وقيل : مما كتب الله أن يعذب به من السجل ، وسجل لفلان { مَّنْضُودٍ } نضد في السماء نضداً معدّاً للعذاب . وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعاً { مُّسَوَّمَةً } معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياض وحمرة وقيل عليها سيماً يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض . وقيل : مكتوب على كل واحد اسم من يرمي به { وَمَا هِىَ } من كل ظالم ببعيد . وفيه وعيد لأهل مكة . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 527 ) " أنه سأل جبريل عليه السلام؟ فقال : يعني ظالمي أمّتك ، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة " . وقيل الضمير للقرى ، أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم { بِبَعِيدٍ } بشيء بعيد . ويجوز أن يراد : وما هي بمكان بعيد؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد ، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى ، فكأنها بمكان قريب منه .
(3/111)

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{ إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } يريد : بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف . أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون . أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه ، كقول مؤمن آل فرعون : { يَا ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا } [ غافر : 29 ] { يَوْمٍ مُّحِيطٍ } مهلك من قوله : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] وأصله من إحاطة العدوّ . فإن قلت : وصف العذاب بالإحاطة أبلغ ، أم وصف اليوم بها؟ قلت : بل وصف اليوم بها ، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه . فإن قلت : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله : أوفوا؟ قلت : نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي . وتعييراً له ، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه ، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه ، وجيء به مقيداً بالقسط : أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية ، من غير زيادة ولا نقصان ، أمراً بما هو الواجب ، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه . وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوي بالوفاء بالقسط؛ لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل ، فهذه ثلاث فوائد .
البخس : الهضم والنقص . ويقال للمكس : البخس . قال زهير :
وفى كُلِّ مَا بَاعَ آمْرؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ ... وروي : مكس درهم ، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً ، كما تفعل السماسرة . أو كانوا يمكسون الناس . أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك . والعثي في الأرض نحو السرقه والغارة وقطع السبيل . ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض { بَقِيَّتُ الله } ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بشرط أن تؤمنوا ، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان . فإن قلت : بقية الله خير للكفرة ، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف ، فلم شرط الإيمان؟ قلت لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر . وفي ذلك استعظام للإيمان ، وتنبيه على جلالة شأنه . ويجوز أن يراد : إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم . ويجوز أن يراد . ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير لكم ، كقوله : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ } [ الكهف : 46 ] وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه . وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقاً ، وإذا أريد به الطاعة فكما تقول : طاعة الله . وقرىء : "تقية الله" بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها ، وإنما بعثت مبلغاً ومنبهاً على الخير وناصحاً ، وقد أعذرت حين أنذرت .
(3/112)

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات ، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا ، فقصدوا بقولهم : { أصلواتك تَأْمُرُكَ } السخرية والهزء - والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز ، كما كانت ناهية في قوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وأن يقال : إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف ، كما يقال : تدعو إليه وتبعث عليه - إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته ، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته ، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعي عقل ، ولا يأمرك به آمر فطنة ، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان ، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك ، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال . ومعنى تأمرك { أَن نَّتْرُكَ } تأمرك بتكليف أن نترك { مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } لحذف المضاف الذي هو التكليف ، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره . وقرىء { أصلاتك } بالتوحيد . وقرأ ابن أبي عبلة "أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء" بتاء الخطاب فيهما ، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس ، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير . وقيل : كان ينهاهم عن حذف الدراهم والدنانير وتقطيمها ، وأرادوا بقولهم : { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } نسبته إلى غاية السفه والغيّ ، فعكسوا ليتهكموا به ، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبضّ حجره ، فيقال له : لو أبصرك حاتم لسجد لك . وقيل : معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك ، يعنون أنّ ما تأمر به لا يطابق حالك وما شهرت به .
(3/113)

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{ وَرَزَقَنِى مِنْهُ } أي من لدنه { رِزْقًا حَسَنًا } وهو ما رزقه من النبوّة والحكمة . وقيل { رِزْقًا حَسَنًا } حلالاً طيباً من غير بخس ولا تطفيف . فإن قلت : أين جواب { أَرَءيْتُمْ } وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوح ولوط؟ قلت : جوابه محذوف ، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه ، ومعنى الكلام ينادي عليه . والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبياً على الحقيقة ، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك يقال : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مول عنه ، وخالفني عنه إذا ولي عنه وأنت قاصده . ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه؟ فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً . ومنه قوله تعالى : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها ، لأستبد بها دونكم { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح } ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر { مَا استطعت } ظرف ، أي : مدّة استطاعتي للإصلاح ، وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهداً . أو بدل من الإصلاح ، أي : المقدار الذي استطعته منه . ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك : إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت . أو مفعول له كقوله :
ضَعِيفُ النِّكَايةِ أَعْدَاءَهُ ... أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم { وَمَا توفيقى إِلاَّ بالله } وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتي وأذر ، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده والمعنى : أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه ، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه ، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه .
(3/114)

وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
"جرم" مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد ، وإلى مفعولين تقول : جرم ذنباً وكسبه ، وجرمته ذنباً وكسبته إياه ، قال :
جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا ... ومنه قوله تعالى : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم } أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب . وقرأ ابن كثير بضم الياء ، من أجرمته ذنباً ، إذا جعلته جارماً له ، أي كاسباً ، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ، كما نقل : أكسبه المال ، من كسب المال . وكما لا فرق بين كسبته ما لا وأكسبته إياه ، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه . والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما . إلا أن المشهورة أفصح لفظاً ، كما إن كسبته ما لا أفصح من أكسبته . والمراد بالفصاحة : أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، وهم له أكثر استعمالاً . وقرأ أبو حيوة ، ورويت عن نافع : { مّثْلُ مَا أَصَابَ } ، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله :
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْب ... مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ
{ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } يعني أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم ، فهم أقرب الهالكين منكم . أو لا يبعدون منكم في الكفر والمساوي وما يستحق به الهلاك . فإن قلت : ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه؟ قلت : إما أن يراد : وما إهلاكهم ببعيد ، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد . ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد ، وقليل وكثير ، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما { رَحِيمٌ وَدُودٌ } عظيم الرحمة للتائبين ، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه ، من الإحسان والإجمال .
(3/115)

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{ مَا نَفْقَهُ } ما نفهم { كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ } لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له ، كقوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] . أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه ، فكأنهم لم يفقهوه . وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به ، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً ، لا ينفعهم كثير منه ، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء ، وقيل : كان ألثغ { فِينَا ضَعِيفًا } لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً . وعن الحسن { ضَعِيفاً } مهيناً . وقيل : { ضَعِيفاً } أعمى . وحمير تسمى المكفوف : ضعيفاً ، كما يسمى ضريراً ، وليس بسديد؛ لأنّ { فِينَا } يأباه . ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى ، لم يكن كلاماً؛ لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم ، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطاً . والرهط : من الثلاثة إلى العشرة . وقيل : إلى السبعة . وإنما قالوا : ولولاهم ، احتراماً لهم واعتداداً بهم؛ لأنهم كانوا على ملتهم ، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم { لرجمناك } لقتلناك شرّ قتلة { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي لا تعزّ علينا ولا تكرم ، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم . وإنما يعزّ علينا رهطك ، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا ، وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل ، كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز ، بل رهطك هم الأعزة علينا ، ولذلك قال في جوابهم : { أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } ولو قيل : وما عززت علينا ، لم يصح هذا الجواب . فإن قلت : فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله : { أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } قلت : تهاونهم به - وهو نبيّ الله - تهاون بالله ، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله . ألا ترى إلى قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] ، { واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً } ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به ، والظهريّ : منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب . ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس : أمسي { بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قد أحاط بأعمالكم علماً ، فلا يخفى عليه شيء منها { على مَكَانَتِكُمْ } لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان ، يقال : مكان ومكانة ، ومقام ومقامة . أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين . والمعنى : اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي . أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها { إِنّى عامل } على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني { مَن يَأْتِيهِ } يجوز أن تكون { مَن } استفهامية ، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها؛ كأنه قيل : سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه ، وأينا هو كاذب ، وأن تكون موصولة قد عمل فيها ، كأنه قيل : سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب .
(3/116)

فإن قلت : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : إدخال الفاء : وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها : وصل خفي تقديريّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر ، كأنهم قالوا : فماذا يكون إن عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال : سوف تعلمون ، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف ، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب ، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف ، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه { وارتقبوا } وانتظروا العاقبة وما أقول لكم { إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي منتظر . والرقيب بمعنى الراقب ، من رقبه ، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم . أو بمعنى المراقب ، كالعشير والنديم ، أو بمعنى المرتقب ، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع . فإن قلت : قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ، فكان القياس أن يقول : من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق . حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم ، قلت : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال : { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } يعني في زعمكم ودعواكم ، تجهيلا لهم . فإن قلت : ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد ، وذلك قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } [ هود : 81 ] ، { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب ، كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت . وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة . وإنما وقعتا مبتدأتين ، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة . الجاثم : اللازم لمكانه لا يريم ، كاللابد يعني أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين . البعد : بمعنى البعد وهو الهلاك ، كالرشد بمعنى الرشد . ألا ترى إلى قوله : { كَمَا بَعِدَتْ } ؟ وقرأ السلمي "بعدت" بضم العين ، والمعنى في البناءين واحد ، وهو نقيض القرب ، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره ، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا : وعد وأوعد ، وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتباراً لمعنى البعد من غير تخصيص ، كما يقال : ذهب فلان ومضى ، في معنى الموت . وقيل : معناه بعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها .
(3/117)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{ بآياتنا وسلطان مُّبِينٍ } فيه وجهان : أن يراد أنّ هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوّته ، وأن يراد بالسلطان المبين : العصا؛ لأنها أبهرها { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل ، وذلك أنه ادّعى الإلهية وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد ، ومثله بمعزل من الإلهية ذاتاً وأفعالاً ، فاتبعوه وسلموا له دعواه ، وتتابعوا على طاعته . والأمر الرشيد : الذي فيه رشد أي : وما في أمره رشد إنما هو غيّ صريح وضلال ظاهر مكشوف ، وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم ، لا من يضلهم ويغويهم . وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام ، وعلموا أن معه الرشد والحق ، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } أي كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدّمهم إلى النار وهم يتبعونه . ويجوز أن يريد بقوله : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } وما أمره بصالح حميد العاقبة . ويكون قوله : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } تفسيراً لذلك وإيضاحاً . أيّ : كيف يرشد أمر من هذه عاقبته . والرشد مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى ، كما استعمل الغيّ في كل ما يذم ويتسخط . ويقال : قدمه بمعنى تقدّمه . ومنه : قادمة الرحل ، كما يقال : قدمه بمعنى تقدّمه ، ومنه مقدّمة الجيش . وأقدم بمعنى تقدّم . ومنه مقدّم العين . فإن قلت : هلا قيل : يقدم قومه فيوردهم؟ ولم جيء بلفظ الماضي؟ قلت : لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به ، فكأنه قيل : يقدّمهم فيوردهم النار لا محالة . و { الورد } المورود . و { المورود } الذي وردوه شبه بالفارط الذي يتقدّم الواردة إلى الماء . وشبه أتباعه بالواردة ، ثم قيل : بئس الورد الذي يردونه النار؛ لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنار ضدّه { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه } في هذه الدنيا { لَّعْنَةُ } أي يلعنون في الدنيا ، ويلعنون في الآخرة { بِئْسَ الرفد المرفود } رفدهم . أي : بئس العون المعان . وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ، وقيل : بئس العطاء المعطى .
(3/118)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{ ذلك } مبتدأ { مِنْ أَنْبَاء القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } خبر بعد خبر ، أي : ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك { مِنْهَا } الضمير للقرى ، أي : بعضها باق وبعضها عافي الأثر ، كالزرع القائم على ساقه والذي حصد . فإن قلت : ما محمل هذه الجملة؟ قلت : هي مستأنفة لا محل لها { وَمَا ظلمناهم } بإهلاكنا إياهم { ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بارتكاب ما به أهلكوا { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ } فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله { يَدْعُونَ } يعبدون وهي حكاية حال ماضية . و { لَّمَّا } منصوب بما أغنت { أَمْرُ رَبّكَ } عذابه ونقمته { تَتْبِيبٍ } تخسير . يقال تبّ إذا خسر . وتببه غيره ، إذا أوقعه في الخسران .
(3/119)

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
محل الكاف الرفع ، تقديره : ومثل ذلك الأخذ { أَخْذُ رَبّكَ } والنصب فيمن قرأ : وكذلك أخذ ربك ، بلفظ الفعل . وقرىء : "إذ أخذ القرى" { وَهِىَ ظالمة } حال من القرى { أَلِيمٌ شَدِيدٌ } وجيع صعب على المأخوذ . وهذا تحذير من وخامة عاقبه الظلم لكل أهل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها ، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه . فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد ، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال .
(3/120)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
{ ذلك } إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم { لآيَةً لِّمَنْ خَافَ } لعبرة له ، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا ، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود ، فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى . ونحوه : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى } [ النازعات : 26 ] { ذلك } إشارة إلى يوم القيامة ، لأنّ عذاب الآخرة دلّ عليه . و { الناس } رفع باسم المفعول الذي هو مجموع كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس . فإن قلت لأي فائدة أوأثر اسم المفعول على فعله؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بدّ من أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع الناس له ، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة ، وهو أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس ، وأنهم لا ينفكون منه ، ونظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك ، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل ، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع } [ التغابن : 9 ] تعثر على صحة ما قلت لك . ومعنى يجمعون له : يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب { يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } مشهود فيه ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله :
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعامِراً ... أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد . والمراد بالمشهود : الذي كثر شاهدوه ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود ، وطعام محضور . قال :
في مَحْفَلٍ مِنْ نَوَاصِي النَّاسِ مَشْهُودِ ... فإن قلت : فما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه دون أن تجعله مشهوداً فيه ، كما قال الله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] ؟ قلت : الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام ، فإن جعلته مشهوداً في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها ، ولكن يجعل مشهوداً فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها ، ولم يجز أن يكون مشهوداً في نفسه؛ لأنّ سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده ، وكذلك قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] الشهر منتصب ظرفاً لا مفعولا به ، وكذلك الضمير في { فَلْيَصُمْهُ } والمعنى : فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه ، يعني : فمن كان منكم مقيماً حاضراً لوطنه في شهر رمضان فليصم فيه ، ولو نصبته مفعولاً فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر ، لا يشهده المقيم ، ويغيب عنه المسافر :
(3/121)

وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
الأجل : يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها ، فيقولون : انتهى الأجل ، وبلغ الأجل آخره ، ويقولون : حل الأجل { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 34 ] يراد آخر مدة التأجيل ، والعدّ إنما هو للمدّة لا لغايتها ومنتهاها ، فمعنى قوله : { وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف . وقرىء : "وما يؤخره" بالياء .
(3/122)

يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
قرىء : "يوم يأت" بغير ياء . ونحوه قولهم : لا أدر ، حكاه الخليل وسيبويه . وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل . فإن قلت : فاعل يأتي ما هو؟ قلت : الله عز وجل ، كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } [ البقرة : 210 ] ، { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } [ الأنعام : 158 ] ، { وَجَاء رَبُّكَ } [ الفجر : 22 ] وتعضده قراءة : "وما يؤخر" بالياء . وقوله : { بِإِذْنِهِ } ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم ، كقوله تعالى : { أو تَأْتِيَهُمُ الساعة } [ يوسف : 107 ] . فإن قلت : بما انتصب الظرف؟ قلت : إمّا أن ينتصب بلا تكلم . وإما بإضمار "اذكر" وإمّا بالانتهاء المحذوف في قوله : { إِلا لأجل معدود } [ هود : 104 ] أي ينتهي الأجل يوم يأتي ، فإن قلت : فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم ، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت : المراد إتيان هوله وشدائده { لاَ تَكَلَّمُ } لا تتكلم ، وهو نظير قوله : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] . فإن قلت : كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى : { يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] وقوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ، قلت : ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها : يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم { فَمِنْهُمْ } الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا؛ لأنّ ذلك معلوم ، ولأنّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } يدل عليه ، وقد مرّ ذكر الناس في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } [ هود : 103 ] والشقى الذي وجبت له النار لإساءته ، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه .
(3/123)

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
قراءة العامّة بفتح الشين . وعن الحسن "شقوا" بالضم ، كما قرىء : "سعدوا" والزفير : إخراج النفس . والشهيق : ردّه . قال الشماخ :
بَعِيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ ... زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ
{ مَا دَامَتِ السماوات والأرض } فيه وجهان ، أحدهما : أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد . والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وقوله : { وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } [ الزمر : 74 ] ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم : إمّا سماء يخلقها الله ، أو يظلهم العرش ، وكل ما أظلك فهو سماء . والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع . كقول العرب : ما دام تعار ، وما أقام ثبير ، وما لاح كوكب ، وغير ذلك من كلمات التأبيد . فإن قلت : فما معنى الاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } وقدثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء؟ قلت : هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم الجنة : وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده ، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار ، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم . وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم ، وهو رضوان الله ، كما قال : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ورضوان مّنَ الله } [ التوبة : 72 ] ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو ، فهو المراد بالاستثناء . والدليل عليه قوله : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ومعنى قوله في مقابلته : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له ، فتأمّله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة . إنّ المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة ، فإنّ الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم . وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص :
( 528 ) ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد؛ وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً ، وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث ، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار . وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين ، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه ، وتنبيهاً على أن نعقل عنه ، ولئن صح هذا عن ابن العاص ، فمعناه أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها ، وأقول : ما كان لابن عمرو في سيفيه ، ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ما يشغله عن تسيير هذا الحديث .
(3/124)

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{ غَيْرَ مَجْذُوذٍ } غير مقطوع ، ولكنه ممتدّ إلى غير نهاية ، كقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ فصلت : 8 ] لما قصّ قصص عبدة الأوثان ، وذكر ما أحلّ بهم من نقمه ، وما أعدّ لهم من عذابه قال : { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء } أي : فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذ القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرّضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال : { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابآؤهُم } يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين ، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلنّ بهم مثله ، وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية . و "ما" في مما ، وكما : يجوز أن تكون مصدرية وموصولة ، أي : من عبادتهم ، وكعبادتهم . أو مما يعبدون من الأوثان ، ومثل ما يعبدون منها { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم . فإن قلت : كيف نصب { غَيْرَ مَنقُوصٍ } حالاً عن النصيب الموفى؟ قلت : يجوز أن يوفى وهو ناقص ، ويوفى وهو كامل . ألا تراك تقول . وفيته شطر حقه ، وثلث حقه ، وحقه كاملاً وناقصاً .
(3/125)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
{ فاختلف فِيهِ } آمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف في القرآن { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ } يعني كلمة الإنظار إلى يوم القيامة { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } بين قوم موسى أو قومك . وهذه من جملة التسلية أيضاً .
(3/126)

وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{ وَإِنَّ كُلاًّ } التنوين عوض من المضاف إليه ، يعني : وإنّ كلهم ، وإنَّ جميع المختلفين فيه { لَيُوَفّيَنَّهُمْ } جواب قسم محذوف . واللام في { لَّمَّا } موطئة للقسم ، و { مَا } مزيدة والمعنى : وإنّ جميعهم والله ليوفينهم { رَبُّكَ أعمالهم } من حسن وقبيح وإيمان وجحود . وقرىء : "وإن كلا" بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة ، اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل . وقرأ أبيّ : "وإن كل لما ليوفينهم" على أنّ إن نافية . ولما بمعنى إلا . وقراءة عبد الله مفسرة لها . وإن كل إلا ليوفينهم ، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم "وإن كلا لما ليوفينهم" بالتنوين ، كقوله : { أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] والمعنى : وإن كلا ملمومين ، بمعنى مجموعين ، كأنه قيل : وإنّ كلا جميعاً ، كقوله : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] .
(3/127)

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
{ فاستقم كَمآ أُمِرْتَ } فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق ، غير عادل عنها { وَمَن تَابَ مَعَكَ } معطوف على المستتر في استقم . وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه . والمعنى : فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك { وَلاَ تَطْغَوْاْ } ولا تخرجوا عن حدود الله { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } عالم فهو مجازيكم به ، فاتقوه . وعن ابن عباس :
( 529 ) ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية . ولهذا قال : " شيبتني هود والواقعة وأخواتهما "
( 530 ) وروي أنّ أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب . فقال : " شيبتني هود " وعن بعضهم : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له : روي عنك أنك قلت : شيبتني هود . فقال : نعم . فقلت : ما الذي شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال : لا ، ولكن قوله : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } قال : افتقرْ إلى الله بصحة العزم .
(3/128)

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
قرىء : "ولا تركنوا" ، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء . وعن أبي عمرو : بكسر التاء وفتح الكاف ، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب علم يعلم . ونحوه قراءة من قرأ { فَتَمَسَّكُمُ النار } بكسر التاء . وقرأ ابن أبي عبلة : "ولا تُركِنوا" ، على البناء للمفعول ، من أركنه إذا أماله ، والنهي متناول للانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومدّ العين إلى زهرتهم . وذكرهم بما فيه تعظيم لهم . وتأمّل قوله : { وَلاَ تركنوا } فإن الركون هو الميل اليسير . وقوله : { إِلَى الذين ظَلَمُواْ } أي إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل إلى الظالمين . وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه ، فلما أفاق قيل له ، فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم ، فكيف بالظالم . وعن الحسن رحمه الله : جعل الله الدين بين لاءين : { وَلاَ تَطْغَوْاْ } [ هود : 112 ] ، { وَلاَ تَرْكَنُواْ } ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك : أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء ، قال الله سبحانه { لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] واعلم أنّ أيسر ما ارتكب وأخفّ ما احتملت : أنك آنست وحشة الظالم ، وسهلت سبيل الغي بدنوّك ممن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يُدخلون الشكّ بك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك ، فيما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] فإنك تعامل من لا يجهل ، ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيىء زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، والسلام . وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك . وعن الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً . وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة ، أحسن من قارىء على باب هؤلاء . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 531 ) " من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه "
(3/129)

ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية ، هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا ، فقيل له : يموت؟ فقال : دعه يموت . { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } حال من قوله : { فَتَمَسَّكُمُ } أي : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال . ومعناه : وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه ، لا يقدر على منعكم من غيره { ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } ثم لا ينصركم هو ، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم . فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : معناها الاستبعاد ، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له .
(3/130)

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{ طَرَفَىِ النهار } غدوة وعشية { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار ، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه ، وصلاة الغدوة : الفجر ، وصلاة العشية : الظهر والعصر؛ لأنّ ما بعد الزوال عشيّ . وصلاة الزلف : المغرب والعشاء . وانتصاب طرفي النهار على الظرف ، لأنهما مضافان إلى الوقت ، كقولك : أقمت عنده جميع النهار ، وأتيته نصف النهار وأوله وآخره ، تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه . ونحوه { وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] وقرىء : "وزُلُفا" ، بضمتين . وزلفا ، بسكون اللام . وزلفى : بوزن قربى . فالزلف : جمع زلفة ، كظلم في ظلمة . والزلف بالسكون : نحو بسرة وبسر . والزلف بضمتين نحو بسر في بسر . والزلفى بمعنى الزلفة ، كما أن القربى بمعنى القربة : وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل . وقيل : وزلفا من الليل : وقربا من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أي : أقم الصلاة طرفي النهار ، وأقم زلفا من الليل ، على معنى : وأقم صلاة تتقرّب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد تكفير الصغائر بالطاعات ، وفي الحديث :
( 532 ) " إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر " والثاني : إن الحسنات يذهبن السيئات ، بأن يكن لطفاً في تركها ، كقوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وقيل :
( 533 ) نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري ، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته ، فقال لها : إن في البيت أجود من هذا التمر . فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أنتظر أمر ربي ، فلما صلى صلاة العصر نزلت ، فقال : نعم ، اذهب فإنها كفارة لما عملت "
( 534 ) وروي أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال : استر على نفسك وتب إلى الله ، فأتى عمر رضي الله عنه فقال له مثل ذلك ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فقال عمر : أهذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
( 535 ) " توضأ وضوءاً حسناً وصل ركعتين { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } " { ذلك } إشارة إلى قوله { فاستقم } فما بعده { ذكرى لِلذكِرِينَ } عظة للمتعظين .
(3/131)

وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير ، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله ، كأنه قال : وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية ، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه ، فلا يتم شيء منه إلا به { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات .
(3/132)

فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون } فهلا كان وقد حكوا عن الخليل : كل "لولا" في القرآن فمعناها "هلا" إلا التي في الصافات ، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بالعراء } [ القلم : 49 ] ، { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } [ الفتح : 25 ] ، { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } [ الإسراء : 74 ] ، { أُوْلُواْ بَقِيَّتُ } أولو فضل وخير . وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلاً في الجودة والفضل . ويقال : فلان من بقية القوم ، أي من خيارهم . وبه فسر بيت الحماسة :
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا . ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه ، وقرىء : "أولو بقية" ، بوزن لقية ، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه :
( 536 ) "بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم " والبقية المرّة من مصدره . والمعنى : فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء منقطع ، معناه : ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون للنهي . و { مِنْ } في { مّمَّنْ أَنجَيْنَا } حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم ، بدليل قوله تعالى : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } [ الأعراف : 165 ] . فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت : إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام ، كان المعنى فاسداً؛ لأنه يكون تخصيصاً لأولى البقية على النهي عن الفساد ، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم ، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ماكان من القرون أولو بقية إلا قليلاً ، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } أراد بالذين ظلموا : تاركي النهي عن المنكرات ، أي : لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين ، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعقدوا هممهم بالشهوات ، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف ، من حب الرياسة والثروة ، وطلب أسباب العيش الهنيء . ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم . وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، "واتبع الذين ظلموا" ، يعني : واتبعوا جزاء ما أترفوا فيه . ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة : أنهم اتبعوا جزاء إترافهم . وهذا معنى قويّ لتقدم الإنجاء ، كأنه قيل : إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وهلك السائر .
(3/133)

فإن قلت : علام عطف قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } ؟ قلت : إن كان معناه : واتبعوا الشهوات ، كان معطوفاً على مضمر ، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا . وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف ، فالواو للحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم . فإن قلت : فقوله { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } ؟ قلت : على أترفوا أي : اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين؛ لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام . أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر . أو على اتبعوا ، أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك . ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون .
(3/134)

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
{ كَانَ } بمعنى صح واستقام . واللام لتأكيد النفي . و { بِظُلْمٍ } حال من الفاعل . والمعنى : واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها { وَأَهْلُهَا } قوم { مُصْلِحُونَ } تنزيهاً لذاته عن الظلم ، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم . وقيل : الظلم الشرك ، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر .
(3/135)

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أي ملة واحدة وهي ملة الإسلام ، كقوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الأنبياء : 92 ] وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار ، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق ، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ، فلذلك قال : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم ، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه { ولذلك خَلَقَهُمْ } ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأوّل وتضمنه ، يعني : ولذلك من التمكن والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم ، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } وهي قوله للملائكة { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } لعلمه بكثرة من يختار الباطل .
(3/136)

وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
{ وَكُلاًّ } التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل . وكل نبأ { نَقُصُّ عَلَيْكَ } و { مِنْ أَنْبَاء الرسل } بيان لكل . { وَمَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } بدل من كلا . ويجوز أن يكون المعنى : [ و ] كل واقتصاص نقصّ عليك ، على معنى : وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك ، يعني : على الأساليب المختلفة ، و { مَا نُثَبّتُ بِهِ } مفعول نقصّ . ومعنى تثبيت فؤاده : زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه ، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم { وَجَاءكَ فِى هذه الحق } أي في هذه السورة . أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق { وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } من أهل مكة وغيرهم { اعملوا } على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها { إِنَّا عَامِلُونَ وانتظروا } بنا الدوائر { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم .
(3/137)

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } لا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما ، فلا تخفى عليه أعمالكم { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ } فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك ، فينتقم لك منهم { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فإنه كافيك وكافلك { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } وقرىء : "تعملون" بالتاء : أي أنت وهم على تغليب المخاطب .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 537 ) " من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوحٍ ومَن كَذَّبَ به ، وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ذلك "
(3/138)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{ تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة . و { الكتاب المبين } السورة ، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم . أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر . أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم . أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف . فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف { أنزلناه } أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } وسمى بعض القرآن قرآناً ، لأنّ القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } [ فصلت : 44 ] . { القصص } على وجهين : يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص ، تقول : قصّ الحديث يقصه قصصاً ، كقولك : شله يشله شللاً ، إذا طرده . ويكون "فعلا" بمعنى "مفعول" كالنفض والحسب . ونحوه النبأ والخبر : في معنى المنبأ به والمخبر به . ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر ، كالخلق والصيد . وإن أريد المصدر ، فمعناه : نحن نقص عليك أحسن القصص { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } أي بإيحائنا إليك هذه السورة ، على أن يكون أحسن منصوباً نصب المصدر ، لإضافته إليه ، ويكون المقصوص محذوفاً؛ لأنّ قوله : { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } مغن عنه . ويجوز أن ينتصب هذا القرآن بنقصّ ، كأنه قيل : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك . والمراد بأحسن الاقتصاص : أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب . ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ، وألا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن . وإن أريد بالقصص المقصوص . فمعناه : نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث ، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه ، كما يقال في الرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم ، يراد في فنه . فإن قلت : ممّ اشتقاق القصص؟ قلت : من قصّ أثره إذا اتبعه ، لأنّ الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً ، كما يقال : تلا القرآن ، إذا قرأه ، لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية { وَإِن كُنتُ } إن مخففة من الثقيلة . واللام هي التي تفرق بينها وبين النافية . والضمير في { قَبْلِهِ } راجع إلى قوله : ما أوحينا والمعنى : وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه ، أي : من الجاهلين به ، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه .
(3/139)

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ } بدل من أحسن القصص ، وهو من بدل الاشتمال ، لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص ، فإذا قصَّ وقته فقد قص . أو بإضمار "اذكر" ويوسف اسم عبراني ، وقيل عربي وليس بصحيح؛ لأنه لو كان عربياً لانصرف لخلوّه عن سبب آخر سوى التعريف . فإن قلت : فما تقول فيمن قرأ : "يوسِف" بكسر السين ، أو "يوسَف" بفتحها ، هل يجوز على قراءته أن يقال "هو عربي" لأنه على وزن المضارع المبني للفاعل أو المفعول من آسف . وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل؟ قلت : لا؛ لأنّ القراءة المشهورة قامت بالشهادة ، على أن الكلمة أعجمية ، فلا تكون عربية تارة وأعجمية أخرى ، ونحو يوسف : يونس ، رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربي لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 538 ) " إذا قيل : من الكريم؟ فقولوا : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " { يا أبت } قرىء بالحركات الثلاث . فإن قلت : ما هذه التاء؟ قلت : تاء تأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة ، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف . فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر وشاة ذكر ، ورجل ربعة ، وغلام يفعة . فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت : لأنّ التأنيث والإضافة يتناسبان في أنّ كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره . فإن قلت فما هذه الكسرة؟ قلت : هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك : يا أبي ، قد زحلقت إلى التاء ، لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحاً : فإن قلت : فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء وتبقى التاء ساكنة؟ قلت : امتنع ذلك فيها ، لأنها اسم ، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب ، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرّك تخفيفاً ، لأنها حرف لين . وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير ، فلزم تحريكها . فإن قلت : يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوّض منه ، لأنها في حكم الياء ، إذا قلت : يا غلام ، فكما لا يجوز "يا أبتي" لا يجوز "يا أبت" . قلت الياء والكسرة قبلها شيآن والتاء عوض من أحد الشيئين ، وهو الياء والكسرة غير متعرض لها ، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه ، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير . ألا ترى إلى قولهم "يا أبتا" مع كون الألف فيه بدلا من التاء ، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء ، ولم يعد ذلك جمعاً بين العوض والمعوّض منه ، فالكسرة أبعد من ذلك .
(3/140)

فإن قلت : فقد دلت الكسرة في يا غلام على الإضافة؛ لأنها قرينة الياء ولصيقتها . فإن دلت على مثل ذلك في "يا أبت" فالتاء المعوّضة لغو : وجودها كعدمها . قلت : بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت يا أبي . فإن قلت : فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمها؟ قلت : أما من فتح فقد حذف الألف من "يا أبتا" واستبقى الفتحة قبلها ، كما فعل من حذف الياء في "يا غلام" ويجوز أن يقال : حركها بحركة الباء المعوض منها في قولك "يا أبي" . وأما من ضم فقد رأى اسماً في آخره تاء تأنيث ، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء فقال : "يا أبت" كما تقول "ياتبة" من غير اعتبار لكونها عوضاً من ياء الإضافة ، وقرىء : "إني رأيت" بتحريك الياء . "وأحد عشر" بسكون العين ، تخفيفاً لتوالي المتحركات فيما هو في حكم اسم واحد ، وكذا إلى تسعة عشر ، إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان ، ورأيت من الرؤيا ، لا من الرؤية ، لأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام؛ لأنّ الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة ، لكانت آية عظيمة ليعقوب عليه السلام ، ولما خفيت عليه وعلى الناس . فإن قلت : ما أسماء تلك الكواكب؟ قلت :
( 539 ) روى جابر أنّ يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أخبرني عن النجوم التي رآهنّ يوسف ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي "إن أخبرتك هل تسلم"؟ قال : نعم . قال : "جريان ، والطارق ، والذيال ، وقابس ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، ووثاب ، وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له" فقال اليهودي : إي والله ، إنها لأسماؤها .
وقيل : الشمس والقمر أبواه . وقيل : أبوه وخالته . والكواكب : إخوته وعن وهب أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة ، وإذا عصا صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها ، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له ، فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم ، فيبغوا لك الغوائل . وقيل : كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة . وقيل : ثمانون . فإن قلت لم أخر الشمس والقمر؟ قلت : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص ، بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع ، كما أخر جبريل ، وميكائيل عن الملائكة ، ثم عطفهما عليها لذلك ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر . فإن قلت : ما معنى تكرار رأيت قلت : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له ، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : { إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها؟ فقال : { رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } فإن قلت : فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين؟ قلت : لأنه لما وصفها بماهو خاص بالعقلاء وهو السجود . أجرى عليها حكمهم ، كأنها عاقلة ، وهذا كثير شائع في كلامهم ، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه ، فيعطى حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة .
(3/141)

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغاً من الحكمة ، ويصطفيه للنبوّة ، وينعم عليه بشرف الدارين ، كما فعل بآبائه ، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم ، والرؤيا بمعنى الرؤية؛ إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة ، فرق بينهما بحرفي التأنيث كما قيل : القربة والقربى . وقرىء : "روياك" بقلب الهمزة واواً . وسمع الكسائي : "رُيَّاك" و "رِيَّاك" بالإدغام وضم الراء وكسرها ، وهي ضعيفة؛ لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم "اتزر" من الإزار ، و "اتجر" من الأجر { فَيَكِيدُواْ } منصوب بإضمار "أن" والمعنى : إن قصصتها عليهم كادوك : فإن قلت : هلا قيل : فيكيدوك ، كما قيل : فكيدوني؟ قلت : ضمن معنى فعل يتعدى باللام ، ليفيد معنى فعل الكيد ، مع إفادة معنى الفعل المضمن ، فيكون آكد وأبلغ في التخويف ، وذلك نحو : فيحتالوا لك . ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر { عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء ، ولقوله { لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شرّ ، ليورّط من يحمله ، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله { وكذلك } ومثل ذلك الأجتباء { يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } يعني وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن ، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام . وقوله { وَيُعَلّمُكَ } كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه ، كأنه قيل : وهو يعلمك ويتمّ نعمته عليك . والاجتباء ، الاصطفاء ، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض : جمعته . والأحاديث : الرؤيا : لأنّ الرؤيا إما حديث نفس أو ملك أو شيطان . وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا ، وأصحهم عبارة لها . ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء ، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها . وسميت أحاديث؛ لأنه يحدث بها عن الله ورسله . فيقال : قال الله وقال الرسول كذا وكذا . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 185 ] ، { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة . ومعنى إتمام النعمة عليهم أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة ، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكاً . ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة . وقيل : أتمها على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من النار ، ومن ذبح الولد . وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح ، وفدائه بذبح عظيم ، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه . وقيل : علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب ، فلذلك قال { وعلى ءالِ يَعْقُوبَ } وقيل : لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا : ما رضي أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه .
(3/142)

وقيل : كان يعقوب مؤثراً له بزيادة المحبة والشفقة لصغره ولما يرى فيه من المخايل وكان إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه ، فتبالغ فيهم الحسد . وقيل : لما قص رؤياه على يعقوب قال : هذا أمر مشتت يجمع الله لك بعد دهر طويل . وآل يعقوب . أهله وهم نسله وغيرهم . وأصل آل : أهل ، بدليل تصغيره على أُهَيل ، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر . يقال : آل النبي ، وآل الملك . ولا يقال : آل الحائك ، ولا آل الحجام ، ولكن أهلهما . وأراد بالأبوين : الجد ، وأبا الجد؛ لأنهما في حكم الأب في الأصالة . ومن ثم يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينه وبين فلان عدّة . و { إبراهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } يعلم من يحق له الاجتباء { حَكِيمٌ } لا يتم نعمته إلا على من يستحقها .
(3/143)

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } أي في قصتهم وحديثهم { ءايات } علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء { لّلسَّائِلِينَ } لمن سأل عن قصتهم وعرفها . وقيل آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها ، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب . وقرىء : "آية" ، وفي بعض المصاحف : عبرة ، وقيل : إنما قص الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغي إخوته عليه ، لما رأى من بغي قومه عليه ليتأسى به . وقيل أساميهم : يهوذا : وروبيل ، وشمعون ، ولاوي ، وربالون ، ويشجر ، ودينة ، ودان ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر : السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب ، والأربعة الآخرون من سريتين : زلفة ، وبلهة . فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل ، فولدت له بنيامين ويوسف .
(3/144)

إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{ لِيُوسُفَ } اللام للابتداء . وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة . أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه { وَأَخُوهُ } هو بنيامين . وإنما قالوا أخوه وهم جيمعاً إخوته ، لأنّ أمّهما كانت واحدة . وقيل { أَحَبُّ } في الاثنين ، لأن أفعل من لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه ، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه "من" ولا بد من الفرق مع لام التعريف ، وإذا أضيف جاز الأمران . والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } واو الحال . يعني : أنه يفضلهما في المحبة علينا ، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه ، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما ، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما { إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } أي في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك . والعصبة والعصابة : العشرة فصاعداً . وقيل : إلى الأربعين ، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفون النوائب . وروى النزال بن سبرة عن عليّ رضي الله عنه : "ونحن عصبة" ، بالنصب . وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة . وعن ابن الأنباري هذا كما تقول العرب؛ إنما العامري عمته ، أي يتعهد عمته .
(3/145)

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{ اقتلوا يُوسُفَ } من جملة ما حكى بعد قوله : إذ قالوا : كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } وقيل : الآمر بالقتل شمعون ، وقيل : دان ، والباقين كانوا راضين ، فجعلوا آمرين { أَرْضًا } أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف ، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم . والمراد : سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها ، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم؛ لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه . ويجوز أن يراد بالوجه الذات ، كما قال تعالى : { ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } [ الرحمن : 27 ] وقيل { يَخْلُ لَكُمْ } يفرغ لكم من الشغل بيوسف { مِن بَعْدِهِ } من بعد يوسف ، أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب ، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا { قَوْمًا صالحين } تائبين إلى الله مما جنيتم عليه . أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه . أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم . و { تَكُونُواْ } إمّا مجزوم عطفاً على { يَخْلُ لَكُمْ } أو منصوب بإضمار أن والواو بمعنى مع ، كقوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] .
(3/146)

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{ قَائِلٌ مّنْهُمْ } هو يهوذا ، وكان أحسنهم فيه رأيا . وهو الذي قال : فلن أبرح الأرض . قال لهم : القتل عظيم { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله . قال المنخل :
وَإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بِسَيْرِي في الْعَشِيرَةِ والأَهْلِ
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها . وقرىء : "غيابات" على الجمع . و "غيابات" بالتشديد . وقرأ الجحدري "غيبة" والجب : البئر لم تطو ، لأن الأرض تجبّ جباً لا غير { يَلْتَقِطْهُ } يأخذه بعض السيارة بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق . وقرىء : "تلتقطه" بالتاء على المعنى؛ لأنّ بعض السيارة سيارة ، كقوله :
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... ومنه : ذهبت بعض أصابعه { إِن كُنتُمْ فاعلين } إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم ، فهذا هو الرأي .
(3/147)

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{ مالك لاَ تَأْمَنَّا } قريء بإظهار النونين ، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام . و "تيمنا" بكسر التاء مع الإدغام . والمعنى : لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم . وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه { نرتع } نتسع في أكل الفواكه وغيرها . وأصل الرتعة : الخصب والسعة . وقرىء : "نرتع" من ارتعى يرتعي . وقرىء : "يرتع ويلعب" بالياء ، ويرتع ، من أرتع ماشيته . وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بكسر العين ، ويلعب ، بالرفع على الابتداء . فإن قلت : كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت : كان لعبهم الاستباق والانتضال . ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو ، بدليل قوله { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } [ يوسف : 17 ] وإنما سموه لعباً لأنه في صورته .
(3/148)

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{ لَيَحْزُنُنِى } اللام لام الابتداء ، كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } [ النحل : 124 ] ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سبي المضارعة . اعتذر إليهم بشيئين ، أحدهما : أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه ، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة . والثاني : خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أوقلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم . وقيل : رأى في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره ، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة ، وفي أمثالهم : البلاء موكل بالمنطق . وقرىء : "الذئب" بالهمزة على الأصل وبالتخفيف . وقيل : اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة .
(3/149)

قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
القسم محذوف تقديره : والله { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب } واللام موطئة للقسم . وقوله : { إِنَّا إِذَا لخاسرون } جواب للقسم مجزىء عن جزاء الشرط ، والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } واو الحال : حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم - وحالهم أنهم عشرة رجال ، بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب - إنهم إذاً لقوم خاسرون ، أي هالكون ضعفاً وخوراً وعجزاً . أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم . أو مستحقون لأن يدعي عليهم بالخسارة والدّمار ، وأن يقال : خسرهم الله ودمّرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون . وقيل : إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشنا إذاً وخسرناها فإن قلت : قد اعتذر إليهم بعذرين ، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟ قلت : هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمّرين فأعاروه آذاناً صما ولم يعبؤوا به .
(3/150)

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ أَن يَجْعَلُوهُ } مفعول { أَجْمَعُواْ } من قولك : أجمع الأمر وأزمعه { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } [ يونس : 71 ] . وقرىء : "في غيابات" الجب : وقيل هو بئر بيت المقدس . وقيل : بأرض الأردنّ وقيل : بين مصر ومدين . وقيل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب . وجواب "لما" محذوف . ومعناه : فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، فقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرّية أظهروا له العدواة وأخذوا يهنونه ويضربونه ، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب ، حتى كادوا يقتلونه . فجعل يصيح : يا أبتاه ، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء ، فقال يهوذا : أما أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه؟ فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده ، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به ، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم ، فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك ، ودلوه في البئر ، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي ، فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركتهم ، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام . ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وجرّد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق ، وإسحاق إلى يعقوب ، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف ، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } قيل أُوحي إليه في الصغر كما أُوحي إلى يحيى وعيسى : وقيل كان إذا ذاك مدركاً . وعن الحسن : كان له سبع عشرة سنة { لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا } وإنما أُوحي إليه ليؤنس في الظلمة والوحشة ، ويبشر بما يؤول إليه أمره . ومعناه : لتتخلصن مما أنت فيه ، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك ، وبعد حالك عن أوهامهم ، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال ، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواع فوضعه على يده ، ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف ، وكان يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب ، وقلتم لأبيكم : أكله الذئب ، وبعتموه بثمن بخس . ويجوز أن يتعلق { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بقوله { وَأَوْحَيْنَا } على أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة ، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أنيس له وقرىء : "لننبئنهم" بالنون على أنه وعيد لهم . وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } متعلق بأوحينا لا غير .
(3/151)

وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
وعن الحسن "عشيا" على تصغير عشيّ يقال : لقيته عشيا وعشياناً ، وأصيلا وأصيلاناً ورواه ابن جني : عشى ، بضم العين والقصر . وقال عشوا من البكاء . وروي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية ، أما تراها تبكي؟ فقال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة : ولا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية . وروي أنه لما سمع صوتهم فزع وقال : ما لكم يا بنيّ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا . قال : فما لكم وأين يوسف؟ { قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نتسابق ، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل : والارتماء والترامي ، وغير ذلك . والمعنى : نتسابق في العدو أو في الرمي . وجاء في التفسير : ننتضل { بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } بمصدّق لنا { وَلَوْ كُنَّا صادقين } ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة ، لشدّة محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيء الظن بنا ، غير واثق بقولنا .
(3/152)

وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{ بِدَمٍ كَذِبٍ } ذي كذب . أو وصف بالمصدر مبالغة ، كأنه نفس الكذب وعينه ، كما يقال للكذاب : هو الكذب بعينه ، والزور بذاته . ونحوه .
فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأنْتُمْ بِهِ بُخْلُ ... وقرىء : "كذباً" نصباً على الحال ، بمعنى جاءوا به كاذبين ، ويجوز أن يكون مفعولاً له . وقرأت عائشة رضي الله عنها : كدب ، بالدال غير المعجمة ، أي كدر . وقيل : طري ، وقال ابن جني : أصله من الكدب وهو الفوف : البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث . كأنه دم قد أثر في قميصه . روي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها ، وزلّ عنهم أن يمزقوه . وروي أنّ يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه . وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات : كان دليلاً ليعقوب على كذبهم ، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً ، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر . فإن قلت : { على قَمِيصِهِ } ما محله؟ قلت : محله النصب على الظرف ، كأنه قيل : وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال . فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالا متقدمة؟ قلت : لا ، لأنّ حال المجرور لا تتقدم عليه { سَوَّلَتْ } سهلت من السول وهو الاسترخاء ، أي : سهلت { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } عظيماً ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم : استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص . أو أُوحي إليه بأنهم قصدوه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل ، وفي قراءة أبيّ : "فصبراً جميلاً" والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع :
( 540 ) [ "أنه الذي لا شكوى فيه " ومعناه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق . ] ألا ترى إلى قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] وقيل : لا أعايشكم على كآبة الوجه ، بل أكون لكم كما كنت وقيل : سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله تعالى إليه : يا يعقوب أتشكوني؟ قال : يا رب . خطيئة فاغفرها لي { والله المستعان } أي أستعينه { على } احتمال { مَا تَصِفُونَ } من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه .
(3/153)

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ } رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر ، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب ، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه ، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة . وقيل : كان ماؤها ملحاً . فعذب حين ألقي فيه يوسف { فَأَرْسَلُواْ } رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي ، ليطلب لهم الماء . والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم { يابشرى } نادى البشرى ، كأنه يقول : تعالى ، فهذا من آونتك وقرىء : "يا بشراي" على إضافتها إلى نفسه . وفي قراءة الحسن وغيره : "يا بشري" بالياء مكان الألف ، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم : يا سيدي ومولي . وعن نافع : يا بشراي بالسكون ، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه ، إلا أن يقصد الوقف . وقيل : لما أدلى دلوه أي أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل ، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون ، فقال : يا بشراي { هذا غُلاَمٌ } وقيل : ذهب به ، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به { وَأَسَرُّوهُ } الضمير للوارد وأصحابه : أخفوه من الرفقة . وقيل : أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب ، وقالوا لهم : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف ، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه . و { بضاعة } نصب على الحال ، أي : أخفوه متاعاً للتجارة . والبضاعة : ما بضع من المال للتجارة أي قطع { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } لم يخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم . أو : والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع .
(3/154)

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{ وَشَرَوْهُ } وباعوه { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } مبخوس ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً ، أو زيف ناقص العيار { دراهم } لا دنانير { مَّعْدُودَةً } قليلة تعدّ عدّاً ولا توزن ، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون ، ويعدّون ما دونها . وقيل للقليلة معدودة؛ لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها . وعن ابن عباس : كانت عشرين درهماً . وعن السدي : اثنين وعشرين { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بم باعه ، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن . ويجوز أن يكون معنى { وَشَرَوْهُ } واشتروه ، يعني الرفقة من إخوته { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين } لأنهم اعتقدوا أنه آن فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه . ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق . وقوله : { فِيهِ } ليس من صلة { الزاهدين } لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول . ألا تراك لا تقول : وكانوا زيداً من الضاربين ، وإنما هو بيان ، كأنه قيل : في أي شيء زهدوا؟ فقال : زهدوا فيه .
(3/155)

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{ الذى اشتراه } قيل هو قطفير أو أطفير ، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، والملك يؤمئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق ، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف ، فملك بعده قابوس بن مصعب ، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى ، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة . وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله : { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } [ غافر : 34 ] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف . وقيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين . وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه ، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً ، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً ، أي حسناً مرضياً ، بدليل قوله { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } [ يوسف : 23 ] والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة ، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ، ساكنة في كنفنا . ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة ، يراد : هل تطيب نفسك بثوائك عنده ، وهل يراعى حق نزولك به . واللام في { لاِمْرَأَتِهِ } متعلقةبقال ، لا باشتراه { عسى أَن يَنفَعَنَا } لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها ، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله ، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته . أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيماً لا يولد له ، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك . وقيل : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف ، فقال لامرأته { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا } والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها { ياأبت استجره } [ القصص : 26 ] وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما . وروي أنه سأله عن نفسه ، فأخبره بنسبه فعرفه { وكذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه ، والكاف منصوب تقديره : ومثل ذلك الإنجاء والعطف { مَكَّنَّا } له ، أي : كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز ، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكاً يتصرف فيها بأمره ونهيه { وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } على أمر نفسه : لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضي . أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره ، قد أراد إخوته به ما أرادوا ، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن الأمر كله بيد الله .
(3/156)

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قيل في الأشدّ : ثماني عشرة ، وعشرون ، وثلاث وثلاثون ، وأربعون . وقيل : أقصاه ثنتان وستون { حُكْمًا } حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه . وقيل : حكما بين الناس وفقها { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } تنبيه على أنه كان محسناً في عمله ، متقياً في عنفوان أمره ، وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه . وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله .
(3/157)

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
المراودة : مفاعلة ، من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعني : خادعته عن نفسه ، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها { وَغَلَّقَتِ الأبواب } قيل : كانت سبعة . وقرىء : "هَيت" بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء ، وبناؤها كبناء أين ، وعيط . وهيت كجير وهيت كحيث . وهئت بمعنى تهيأت يقال : هاء يهيء ، كجاء يجيء : إذا تهيأ . وهيئت لك واللام من صلة الفعل وأما في الأصوات فللبيان كأنه قيل : لك أقول هذا ، كما تقول : هلم لك { مَعَاذَ الله } أعوذ بالله معاذاً { إِنَّهُ } إن الشأن والحديث { ربى } سيدي ومالكي ، يريد قطفير { أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } حين قال لك أكرمي مثواه ، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } الذين يجازون الحسن بالسيء . وقيل : أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم . وقيل : أراد الله تعالى ، لأنه مسبب الأسباب .
(3/158)

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه ، قال :
همَمْتُ وَلَمْ أفعل وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكي حَلاَئِلُهْ
ومنه قولك : لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً . أي ولا أكاد أن أفعله كيداً ، ولا أهم بفعله هماً ، حكاه سيبويه ، ومنه : الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه . وقوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه . ولقد همت بمخالطته { وَهَمَّ بِهَا } وهمّ بمخالطتها { لَوْلا أَن رأى بُرْهَانَ رَبّهِ } جوابه محذوف ، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف؛ لأنّ قوله : { وَهَمَّ بِهَا } يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أني خفت الله ، معناه لولا أني خفت الله [ لقتلته ] . فإن قلت : كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصدٌ إليها؟ قلت المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه ، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم . وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته . ولو كان همه كهمها عن عزيمة ، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين . ويجوز أن يريد بقوله : { وَهَمَّ بِهَا } وشارف أن يهم بها ، كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله ، يريد مشارفة القتل ومشافهته . كأنه شرع فيه فإن قلت : قوله { وَهَمَّ بِهَا } داخل تحت حكم القسم في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أم هو خارج منه؟ قلت : الأمران جائزان . ومن حق القارىء إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ويبتدىء قوله : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ } وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين . فإن قلت : لم جعلت جواب لولا محذوفاً يدل عليه هم بها وهلا جعلته هو الجواب مقدماً فإن قلت : لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها ، من قبل أنه في حكم الشرط ، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة ، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض . وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز ، فإن قلت : فلم جعلت "لولا" متعلقة بهمّ بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني . فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً ، فكأنه قيل : ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت : نعم ما قلت ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } فكان إغفاله إلغاء له ، فوجب أن يكون التقدير ، ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها ، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه ، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها { لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ } فترك التوصل إلى حظه من الشهوة؛ فلذلك كانت "لولا" حقيقة بأن تعلق بهمّ بها وحده ، وقد فسرهمّ يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع ، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها ، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً : إياك وإياها ، فلم يكترث له ، فسمعه ثانياً فلم يعمل به ، فسمع ثالثاً : أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته .
(3/159)

وقيل : ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقيل : كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف ، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ ، وقيل : صيح به : يا يوسف ، لا تكن كالطائر : كان له ريش ، فلما زنى قعد لا ريش له . وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم ، مكتوب فيها { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين } [ الانفطار : 11 ] فلم ينصرف ، ثم رأى فيها { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] فلم ينته ، ثم رأى فيها { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } [ البقرة : 281 ] فلم ينجع فيه ، فقال الله لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل وهو يقول : يا يوسف ، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل : رأى تمثال العزيز . وقيل : قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت : أستحي منه أن يرانا . فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر ، ولا أستحي من السميع البصير ، العليم بذوات الصدور . وهذا ونحوه . مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه ، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل ، ولو وُجِدَت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكِرَت توبته واستغفاره ، كما نُعِيَت على آدم زلته ، وعلى داود ، وعلى نوح ، وعلى أيوب ، وعلى ذي النون ، وذُكِرت توبتهم واستغفارهم ، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً ، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض ، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أُولي القوّة والعزم ، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح ، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين ، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها ، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب صورة كاملة عليها ، ليجعل له لسان صدق في الآخرين ، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام ، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار ، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبي من أنبياء الله ، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها ، وفي أن ينهاه ربه ثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن ، وبالتوبيخ العظيم ، وبالوعيد الشديد ، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه ، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهي ولا ينتبه ، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره ، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقي بأدنى ما لقي به نبي الله مما ذكروا ، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرّك .
(3/160)

فيا له من مذهب ما أفحشه ، ومن ضلال ما أبينه { كذلك } الكاف منصوب المحل ، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه . أو مرفوعه ، أي الأمر مثل ذلك { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } من خيانة السيد { والفحشاء } من الزنا { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } الذين أخلصوا دينهم لله ، وبالفتح الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم . ويجوز أن يريد بالسوء . مقدّمات الفاحشة ، من القبلة والنظر بشهوة ، ونحو ذلك . وقوله : { مّنْ عِبَادِنَا } معناه بعض عبادنا ، أي : هو مخلص من جملة المخلصين . أو هو ناشىء منهم ، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم { إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ } [ ص : 46 ] .
(3/161)

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
{ واستبقا الباب } وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل ، كقوله { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] [ أو ] على تضمين "استبقا" معنى "ابتدرا" نفر منها يوسف ، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج . فإن قلت : كيف وجد الباب ، وقد جمعه في قوله { وَغَلَّقَتِ الأبواب } [ يوسف : 23 ] قلت : أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار ، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } اجتذبته من خلفه فانقد ، أي انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا } وصادفا بعلها وهو قطفير ، تقول المرأة لبعلها : سيدي . وقيل : إنما لم يقل سيدهما ، لأنّ ملك يوسف لم يصح ، فلم يكن سيداً له على الحقيقة . قيل : ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل . وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة . لما اطلع منها زوجها على تلك الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها : وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف ، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها ، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعاً . ألا ترى إلى قولها : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ } [ يوسف : 32 ] و "ما" نافية ، أي : ليس جزاؤه إلا السجن . ويجوز أن تكون استفهامية ، بمعنى : أي شيء جزاؤه إلا السجن ، كما تقول : مَنْ في الدار إلا زيد . فإن قلت : كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف ، وإنه أراد بها سوءاً؟ قلت : قصدت العموم ، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب ، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف . وقيل : العذاب الأليم الضرب بالسياط . ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال : { هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } ولولا ذلك لكتم عليها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } قيل كان ابن عمّ لها ، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها؛ لتكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة عنه . وقيل : هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب . وقيل كان حكيماً يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر ، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق . وقيل : كان ابن خال لها صبياً في المهد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 541 ) " تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى " فإن قلت : لم سمي قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ قلت : لما أدّى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمي شهادة : فإن قلت : الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت : لأنها قول من القول ، أو على إرادة القول ، كأنه قيل : وشهد شاهد فقال إن كان قميصه .
(3/162)

فإن قلت : إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته ، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة ، وأنه كان تابعها؟ قلت : من وجهين ، أحدهما : أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع . والثاني : أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه . وقرىء : "من قبل" ومن دبر ، بالضم على مذهب الغايات . والمعنى : من قبل القميص ومن دبره . وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل ، ومن جهة يقال لها دبر . وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ : "من قبل" و "من دبر" بالفتح ، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث . وقرئا بسكون العين . فإن قلت : كيف جاز الجمع بين "إن" الذي هو للاستقبال وبين "كان"؟ قلت : لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ ، ونحوه كقولك : إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل ، لمن يمتن عليك بإحسانه ، تريد : إن تمتن عليَّ أمتنَّ عليك { فَلَماَّ رَّءَا } يعني قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها { قَالَ إِنَّهُ } إن قولك { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا } أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف { مِن كَيْدِكُنَّ } الخطاب لها ولأمتها . وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال ، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة . ولهنّ في ذلك نيقة ورفق ، وبذلك يغلبن الرجال . ومنه قوله تعالى : { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } [ الفلق : 4 ] والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق وعن بعض العلماء : أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان ، لأنّ الله تعالى يقول : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] وقال للنساء : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } . { يُوسُفَ } حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله { أَعْرِضْ عَنْ هذا } الأمر واكتمه ولا تحدّث به { واستغفرى } أنت { لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } من جملة القوم المتعمدين للذنب . يقال : خطىء ، إذا أذنب متعمداً ، وإنما قال : { مِنَ الخاطئين } بلفظ التذكير تغليباً للذكور على الإناث ، وما كان العزيز إلا رجلاً حليماً . وروي أنه كان قليل الغيرة .
(3/163)

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ } وقال جماعة من النساء وكنّ خمساً : امرأة الساقي ، وامرأة الخباز ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب . والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللمة ، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث . وفيه لغتان : كسر النون وضمها { فِى المدينة } في مصر { امرأت العزيز } يردن قطفير ، والعزيز : الملك بلسان العرب { فتاها } غلامها . يقال : فتاي وفتاتي ، أي غلامي وجاريتي { شَغَفَهَا } خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد ، والشغاف حجاب القلب ، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب . قال النابغة :
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِج ... مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيهِ الأَصَابِعُ
وقرىء : "شعفها" بالعين ، من شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران ، قال :
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالي ... و { حَبّاً } نصب على التمييز { فِى ضلال مُّبِينٍ } في خطأ وبُعدٍ عن طريق الصواب { بِمَكْرِهِنَّ } باغتيابهنّ وسوء قالتهن ، وقولهنّ : امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها ، وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالِ غيبة ، كما يخفي الماكر مكره . وقيل : كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } دعتهنّ . قيل : دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } ما يتكئن عليه من نمارق ، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ : أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته ، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها ، لأن المتكىء إذا بهت لشيء وقعت يده على يده ، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ ، فتبكتهنّ بالحجة ، ولتهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر ، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه . وقيل : متكأ : مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين ، ولذلك .
( 542 ) " نهى أن يأكل الرجل متكئاً " وأتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن . وقيل : { مُتَّكَئاً } طعاماً ، من قولك اتكأنا عند فلان : طعمنا ، على سبيل الكناية؛ لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكىء عليها . قال جميل :
فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ واتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ
وعن مجاهد { مُتَّكَئاً } طعاماً يحزّ حزّا ، كأن المعنى يعتمد بالسكين؛ لأنّ القاطع يتكىء على المقطوع بالسكين . وقرىء : "متكا" بغير همز . وعن الحسن : "متكاء" بالمدّ ، كأنه مفتعال ، وذلك لإشباع فتحة الكاف ، كقوله "بمُنْتزاحِ" بمعنى بمنتزح . ونحوه "يَنْبَاعُ" بمعنى ينبع . وقرىء : "متكأ" وهو الأترج ، وأنشد :
فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِي أبِيهَا ... تَخُبُّ بِهَا العَثْمَثَةُ الْوِقَاحُ
وكانت أهدت أترجة على ناقة ، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين ، وحملا كالعدلين على جمل . وقيل : الزماورد وعن وهب : أترجا وموزاً وبطيخاً .
(3/164)

وقيل : أعتدت لهنَّ ما يقطع ، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه . وقرأ الأعرج : { مُتَّكَئاَ } مفعلاً ، من تكىء يتكأ ، إذا اتكأ { أَكْبَرْنَهُ } أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق . قيل : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 543 ) " مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء ، فقلت لجبريل : من هذا؟ فقال يوسف ، فقيل : يا رسول الله كيف رأيته؟ قال "كالقمر ليلة البدر "
وقيل : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشمس من الماء عليها . وقيل : ما كان أحد يستطيع وصف يوسف . وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه . وقيل : ورث الجمال من جدّته سارة . وقيل : أكبرن بمعنى حضن ، والهاء للسكت ، يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته : دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر ، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقَع ... فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ في الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ
{ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ، تريد : جرحتها { حاشا } كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء . تقول : أساء القوم حاشا زيد . قال :
حَاشَا أَبِي ثَوْبَانَ إنَّ بِه ... ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ
وهي حرف من حروف الجر ، فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى "حاشا الله" براءة الله وتنزيه الله ، وهي قراءة ابن مسعود ، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة . ومن قرأ : حاشا لله ، فنحو قولك : سقيا لك؛ كأنه قال : براءة ، ثم قال : لله ، لبيان من يبرأ وينزه . والدليل على تنزيل "حاشا" منزلة المصدر : قراءة أبي السمال : { حاشا لله } بالتنوين . وقراءة أبي عمرو " { حَاشَ للَّهِ } " بحذف الألف الآخرة . وقراءة الأعمش " { حشا لله } " بحذف الألف الأولى . وقرىء : "حاش لله" بسكون الشين ، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط ، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه . وقرىء : "حاشا الإله" . فإن قلت : فلم جاز في حاشا لله أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى : براءة لله؟ قلت : مراعاة لأصله الذي هو الحرفية . ألا ترى إلى قولهم : جلست من عن يمينه ، كيف تركوا "عن" غير معرب على أصله؟ وعلى قوله "غدت من عليه" منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى : تنزيه الله تعالى من صفات العجز ، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله . وأما قوله : { حَاشا للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } [ يوسف : 51 ] فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله { مَا هذا بَشَرًا } نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه ، لما عليه محاسن الصور ، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم ، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك ، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما ، وما ركز ذلك فيها إلا لأن الحقيقة كذلك ، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين ، ولا أجمع للخير من الملائكة ، إلا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك ، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق ، وجحودهم للعلوم الضرورية ، ومكابرتهم في كل باب ، وإعمال "ما" عمل "ليس" هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن .
(3/165)

ومنها قوله تعالى : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } [ المجادلة : 2 ] ومن قرأ على سليقته من بني تميم ، قرأ : "بشر" بالرفع . وهي في قراءة ابن مسعود . وقرىء : "ما هذا بشرى" أي ما هو بعبد مملوك لئيم { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } تقول هذا بشرى ، أي حاصل بشرى ، بمعنى : هذا بشرى . وتقول : هذا لك بشري أم بكري؟ والقراءة هي الأولى ، لموافقتها المصحف؛ ومطابقة بشر لملك { قَالَتْ فذلكن } ولم يقل فهذا وهو حاضر ، رفعاً لمنزلته في الحسن ، واستحقاق أن يحب ويفتتن به ، وربئاً بحاله واستبعاداً لمحله ، ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهنّ : عشقت عبدها الكنعاني . تقول : هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكنّ ، ثم لمتننى فيه . تعني : أنكن لم تصوّرنه بحق صورته ، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتني في الافتنان به . الاستعصام : بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها . ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب . وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه ، وبرهان لا شيء أنور منه ، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان . فإن قلت : الضمير في { ءَامُرُهُ } راجع إلى الموصول ، أم إلى يوسف؟ قلت : بل إلى الموصول . والمعنى : ما آمر به ، فحذف الجار كما في قولك : أمرتك الخير ، ويجوز أن تجعل "ما" مصدرية ، فيرجع إلى يوسف ومعناه : ولئن لم يفعل أمري إياه ، أي موجب أمري ومقتضاه . قرىء : "وليكونا" بالتشديد والتخفيف . والتخفيف أولى ، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف ، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة .
(3/166)

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
وقرىء : " { السجن } " بالفتح على المصدر . وقال { يَدْعُونَنِى } على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً ، لأنهنّ تنصحن له وزينّ له مطاوعتها ، وقلن له : إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار ، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال : ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلي من ركوب المعصية . فإن قلت : نزول السجن مشقة على النفس شديدة ، وما دعونه إليه لذة عظيمة ، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت : كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله ، وفي قبح المعصية ، وفي عاقبة كل واحدة منهما ، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ } فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته ، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر ، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أمل إليهنّ . والصبوة : الميل إلى الهوى . ومنها : الصبا؛ لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها وقرىء : "أصب إليهنّ" من الصبابة { مِنَ الجاهلين } من الذين لا يعملون بما يعلمون . لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء . أو من السفهاء ، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح . وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء ، لأنّ قوله { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى } فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف { السميع } لدعوات الملتجئين إليه { العليم } بأحوالهم وما يصلحهم .
(3/167)

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ بَدَا لَهُمْ } فاعله مضمر ، لدلالة ما يفسره عليه وهو : ليسجننه ، والمعنى : بدالهم بداء ، أي : ظهر لهم رأي ليسجننه ، والضمير في { لَهُمْ } للعزيز وأهله { مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات } وهي الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعة لها وجميلاً ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أوعدته به ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها . وفي قراءة الحسن : "لتسجننه" بالتاء على الخطاب : خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه ، أو العزيز وحده على وجه التعظيم { حتى حِينٍ } إلى زمان ، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه . وفي قراءة ابن مسعود "عتى حين" وهي لغة هذيل ، وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ : "عتى حين" فقال : من أقرأك؟ قال : ابن مسعود فكتب إليه : إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربياً وأنزله بلغة قريش ، فأقرىء الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل ، والسلام .
(3/168)

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ مَّعَ } يدل على معنى الصحبة واستحداثها ، تقول : خرجت مع الأمير ، تريد مصاحباً له ، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له { فَتَيَانَ } عبدان للملك : خبازه وشرابيه : رقي إليه أنهما يسمانه ، فأمر بهما إلى السجن ، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام { إِنّى أَرَانِى } يعني في المنام ، وهي حكاية حال ماضية { أَعْصِرُ خَمْرًا } يعني عنباً ، تسمية للعنب بما يؤول إليه . وقيل : الخمر - بلغة عمان - : اسم للعنب . وفي قراءة ابن مسعود "أعصر عنباً" { مّنَ المحسنين } من الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، أي : يجيدونها ، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له ، فقالا له ذلك . أو من العلماء ، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم . أو من المحسنين إلى أهل السجن . فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا . روي أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه ، وإذا أضاق وسع له ، وإذا احتاج جمع له . وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : أبشروا اصبروا تؤجروا ، إنّ لهذا لأجراً ، فقالوا : بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك ! لقد بورك لنا في جوارك ، فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم ، فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك ، ولكني أحسن جوارك ، فكن في أي بيوت السجن شئت . وروي أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك ، فقال : أنشدكما بالله أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء ، ثم أحبتني زوجة صاحبي فدخل عليّ من حبها بلاء ، فلا تحباني - بارك الله فيكما - وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي؛ إني أراني في بستان ، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب ، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك ، وسقيته . وقال الخباز : إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة ، وإذا سباع الطير تنهش منها . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } ؟ قلت : إلى ما قصا عليه . والضمير يجري مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل : نبئنا بتأويل ذلك .
(3/169)

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ، ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما ، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ، ويقبح إليهما الشرك بالله ، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة ، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك ، وفيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده - وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين - لم يكن من باب التزيكة { بِتَأْوِيلِهِ } ببيان ماهيته وكيفيته؛ لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه { ذلكما } إشارة لهما إلى التأويل ، أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } وأوحي به إليّ ولم أقله عن تكهن وتنجم { إِنّى تَرَكْتُ } يجوزأن يكون كلاماً مبتدأ ، وأن يكون تعليلاً لما قبله . أي علمني ذلك وأوحي إليّ؛ لأني رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية ، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون : أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم ، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة ، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها ، وهم الذين على ملة إبراهيم ، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء ، ويجوز أن يكون فيه تعريض بما مني به من جهتهم حين أودعوه السجن ، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته ، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبيّ يوحى إليه ، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله : { مَا كَانَ لَنَا } ما صحّ لنا معشر الأنبياء { أَن نُّشْرِكَ بالله } أي شيء كان من ملك أو جنيّ أو إنسيّ ، فضلاً [ عن ] أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر ، ثم قال { ذلك } التوحيد { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس } أي على الرسل وعلى المرسل إليهم؛ لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه { ولكن أَكْثَرَ الناس } المبعوث إليهم { لاَ يَشْكُرُونَ } فضل الله فيشركون ولا ينتبهون وقيل : إنَّ ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها . وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت ، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعاً لأهوائهم ، فيبقون كافرين غير شاكرين .
(3/170)

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{ ياصاحبى السجن } يريد يا صاحبيَّ في السجن ، فأضافهما إلى السجن كما تقول : يا سارق الليلة ، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة ، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب ، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام ، ونحوه قولك لصاحبيك : يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق ، ولا تريد أنهما صحبا الصدق ، ولكن كما تقول رجلا صدق ، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك . ويجوز أن يريد : يا ساكني السجن ، كقوله : { أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] { ءَأرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ } يريد التفرّق في العدد والتكاثر . يقول أأن تكون لكما أرباب شتى ، يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا { خَيْرٌ } لكما { أَمِ } أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية ، بل هو { القهار } الغالب ، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام { مَا تَعْبُدُونَ } خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر { إِلاَّ أَسْمَاء } يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة ، ثم طفقتم تعبدونها ، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها . ومعنى { سَمَّيْتُمُوهَا } سميتم بها . يقال : سميته بزيد ، وسميته زيداً { مَّا أَنزَلَ الله بِهَا } أي بتسميتها { مّن سلطان } من حجة { إِنِ الحكم } في أمر العبادة والدين { أَلاَ لِلَّهِ } ثم بين ما حكم به فقال { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم } الثابت الذي دلت عليه البراهين .
(3/171)

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{ أَمَّا أَحَدُكُمَا } يريد الشرابي { فَيَسْقِى رَبَّهُ } سيده . وقرأ عكرمة "فيسقي ربه" أي يسقي ما يروي به على البناء للمفعول . روي أنه قال للأوّل : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده؛ وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه ، وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل { قُضِىَ الأمر } قطع وتم ما { تَسْتَفْتِيَانِ } فيه من أمركما وشأنكما . فإن قلت : ما استفتيا في أمر واحد ، بل في أمرين مختلفين ، فما وجه التوحيد؟ قلت : المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك وما سجنا من أجله ، وظناً أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما ، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك ، فقال لهما : قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان ، أي : ما يجرّ إليه من العاقبة ، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر . وقيل : جحدا وقالا : ما رأينا شيئاً ، على ما روي أنهما تحالما له ، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما .
(3/172)

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{ ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ } الظانّ هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي ، ويكون الظنّ بمعنى اليقين { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } صفني عند الملك بصفتي ، وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشني من هذه الورطة { فَأَنْسَاهُ الشيطان } فأنسى الشرابي { ذِكْرَ رَبّهِ } أن يذكره لربه . وقيل فأنسي يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره { بِضْعَ سِنِينَ } البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين . فإن قلت : كيف يقدر الشيطان على الإنسان؟ قلت : يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان ، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره ، وأما الإنساء ابتداء فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] . فإن قلت : ما وجه إضافة الذكر إلى ربه إذا أريد به الملك؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول؟ قلت : قد لابسه في قولك : فأنساه الشيطان ذكر ربه ، أو عند ربه فجازت إضافته إليه ، لأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة . أو على تقدير : فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه ، فحذف المضاف الذي هو الإخبار . فإن قلت : لم أنكر على يوسف الاستعانة بغير الله في كشف ما كان فيه ، وقد قال الله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] وقال حكاية عن عيسى عليه السلام { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] وفي الحديث :
( 544 ) " الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم " . ( 545 ) " من فرّج عن مؤمن كربة فرّج الله عنه كربة من كربات الآخرة " وعن عائشة رضي الله عنها :
( 546 ) " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي ، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه " وهل ذلك إلا مثل التداوي بالأدوية والتقوّى بالأشربة والأطعمة . وإن كان ذلك لأنّ الملك كان كافراً ، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضارّ؟ قلت : كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلي ببلاء إلا إلى ربه ، ولا يعتضد إلا به ، خصوصاً إذا كان المعتضد به كافراً؛ لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا . وعن الحسن أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس .
(3/173)

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
لما دنا فرج يوسف ، رأى ملك مصر "الريان بن الوليد" رؤيا عجيبة هالته : رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس . وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان . ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها { سِمَانٍ } جمع سمين وسمينة ، وكذلك رجال ونسوة كرام . فإن قلت : هل من فرق بين إيقاع { سِمَانٍ } صفة للمميز وهو { بقرات } دون المميز وهو { سَبْعَ } وأن يقال : سبع بقرات سمانا؟ قلت : إذا أوقعتها صفة لبقرات . فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهنّ لا بجنسهنّ . ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن . فإن قلت : هلا قيل : سبع عجاف على الإضافة؟ قلت ، التمييز موضوع لبيان الجنس ، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده . فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب؟ قلت : الفارس والصاحب والراكب ونحوها : صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها . ألا تراك لا تقول : عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ . فإن قلت : ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه . ألا ترى أنه لم يقل بقرات سبع عجاف ، لوقوع العلم بأنّ المراد البقرات؟ قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل ، وقد وقع الاستغناء بقولك { سَبْعٌ عِجَافٌ } عما تقترحه من التمييز بالوصف . والعجف : الهزال الذي ليس بعده ، والسبب في وقوع "عجاف" جمعا "لعجفاء" وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال : حمله على سمان ، لأنه نقيضه ، ومن دأبهم حمل النظير على النظير ، والنقيض على النقيض . فإن قلت : هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر؟ قلت : الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله : { وَأُخَرَ يابسات } بمعنى وسبعاً أخر . فإن قلت : هل يجوز أن يعطف قوله { وَأُخَرَ يابسات } على { سنبلات خُضْرٍ } فيكون مجرور المحل؟ قلت : يؤدي إلى تدافع ، وهو أن عطفها على { سنبلات خُضْرٍ } يقتضي أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزاً للسبع المذكورة ، ولفظ الأخر يقتضي أن تكون غير السبع ، بيانه : أنك تقول : عندي سبعة رجال قيام وقعود ، بالجرّ ، فيصح؛ لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود ، على أنّ بعضهم قيام وبعضهم قعود؛ فلو قلت : عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود ، تدافع ففسد { ياأيها الملا } كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء .
(3/174)

واللام في قوله { لِلرُّؤْيَا } إما أن تكون للبيان ، كقوله { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] وإماأن تدخل؛ لأنّ العامل إذا تقدّم عليه معموله لم يكن في قوّته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه ، فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل ، إذا قلت : هو عابر للرؤيا؛ لانحطاطه عن الفعل في القوة . ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان ، كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه . و { تَعْبُرُونَ } خبر آخر ، أو حال ، وأن يضمن { تَعْبُرُونَ } معنى فعل يتعدى باللام ، كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا . وحقيقة "عبرت الرؤيا" ذكرت عاقبتها وآخر أمرها ، كما تقول : عبرت النهر ، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره . ونحوه : أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها . وعبرت الرؤيا - بالتخفيف ، هو الذي اعتمده الأثبات ، ورأيتهم ينكرون "عبرت" بالتشديد والتعبير والمعبر . وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب :
رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُهَا ... وَكُنْتُ للأَحْلاَمِ عَبَّارَا
(3/175)

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{ أضغاث أَحْلاَمٍ } تخاليطها وأباطيلها ، وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان . وأصل الأضغاث : ما جمع من أخلاط النبات وحزم ، الواحد : ضغث ، فاستعيرت لذلك ، والإضافة بمعنى "من" أي أضغاث من أحلام والمعنى : هي أضغاث أحلام . فإن قلت : ما هو إلا حلم واحد ، فلم قالوا : أضغاث أحلام فجمعوا؟ قلت : هو كما تقول : فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز ، لمن لا يركب إلا فرساً واحداً وما له إلا عمامة فردة ، تزيدا في الوصف ، فهؤلاء أيضاً تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان ، فجعلوه أضغاث أحلام . ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين } إما أن يريدوا بالأحلام المنامات الباطلة خاصة ، فيقولوا : ليس لها عندنا تأويل ، فإن التأويل إنما هو للمنامات الصحيحة الصالحة ، وإما أن يعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بنحارير .
(3/176)

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
قرىء : "وادكر" بالدال وهو الفصيح . وعن الحسن : "واذكر" ، بالذال المعجمة . والأصل تذكر ، أي تذكر الذي نجا من الفتيين من القتل يوسف وما شاهد منه { بَعْدَ أُمَّةٍ } بعد مدّة طويلة ، وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها ، تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه ، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك . وقرأ الأشهب العقيلي "بعد إمّة" بكسر الهمزة ، والإمّة النعمة . قال عدي :
ثُمَّ بَعْدَ الفَلاَحِ وَالْمُلْكِ وَالإِمَّ ... ةِ وَارَتْهُمُ هُنَاكَ القُبُورُ
أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة . وقرىء : "بعد أمه" بعد نسيان . يقال : أمه يأمه أمها ، إذا نسي . ومن قرأ بسكون الميم فقد خطىء { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أنا أخبركم به عمن عنده علمه . وفي قراءة الحسن : "أنا آتيكم بتأويله" { فَأَرْسِلُونِ } فابعثوني إليه لأسأله ، ومروني باستعباره وعن ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة .
(3/177)

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
المعنى فأرسلوه إلى يوسف ، فأتاه فقال { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } أيها البليغ في الصدق ، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوّل ، ولذلك كلمه كلام محترز فقال { لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } لأنه ليس على يقين من الرجوع ، فربما اخترم دونه ولا من علمهم فربما لم يعلموا ، أو معنى { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم ، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك .
(3/178)

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ تَزْرَعُونَ } خبر في معنى الأمر ، كقوله : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون } [ الصف : 11 ] وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به ، فيجعل كأنه يوجد ، فهو يخبر عنه . والدليل على كونه في معنى الأمر قوله : { فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } . { دَأَبًا } بسكون الهمزة وتحريكها ، وهما مصدرا : دأب في العمل ، وهو حال من المأمورين ، أي دائبين : إمّا على تدأبون دأباً ، وإمّا على إيقاع المصدر حالاً ، بمعنى : ذوي دأب { فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } لئلا يتسوس . و { يَأْكُلْنَ } من الإسناد المجازي : جعل أكل أهلهنّ مسنداً إليهنّ { تحصنون } تحرزون وتخبؤن { فِيهِ يُغَاثُ الناس } من الغوث أو من الغيث . يقال : غيثت البلاد ، إذا مطرت . ومنه قول الأعرابية : غثنا ماشئنا . { يَعْصِرُونَ } بالياء والتاء : يعصرون العنب والزيتون والسمسم . وقيل : يحلبون الضروع . وقرىء : "يعصرون" ، على البناء للمفعول ، من عصره إذا أنجاه ، وهو مطابق للإغاثة ويجوز أن يكون المبني للفاعل بمعنى ينجون ، كأنه قيل : فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم ، أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً وقيل { يَعْصِرُونَ } يمطرون ، من أعصرت السحابة . وفيه وجهان : إمّا أن يضمن أعصرت معنى مطرت ، فيعدّى تعديته . وإمّا أن يقال : الأصل أعصرت عليهم فحذف الجار وأوصل الفعل . تأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأنّ العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم ، وذلك من جهة الوحي . وعن قتادة : زاده الله علم سنة . فإن قلت : معلوم أنّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب ، وإلا لم توصف بالانتهاء ، فلم قلت إنّ علم ذلك من جهة الوحي؟ قلت : ذلك معلوم علماً مطلقاً لا مفصلاً . وقوله { فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } تفصيل لحال العام ، وذلك لا يعلم إلا بالوحي .
(3/179)