تفسير القرطبي
القرطبي ج 6

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء السادس أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) وتم الكلام. ثم قال جل وعز " إلا من ظلم " استثناء ليس من الاول في موضع نصب، أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم. وقراءة الجمهور " ظلم " بضم الظاء وكسر اللام، ويجوز إسكانها. ومن قرأ " ظلم " بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحق وغيرهما على ما يأتي، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة. فعلى القراءة الاولى قالت طائفة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به. ثم أختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك، فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع (1) عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه (2) وبين ما يريد من ظلمي. فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء. وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له، فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم. وقال أيضا هو والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول. وقال ابن المستنير: " إلا من ظلم " معناه، إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح. والآية على هذا في الاكراه، وكذا قال قطرب: (1) كذا في الاصول: نهى، والظاهر ثبوت الواو: خبر. (2) في و، ا: حل بيني. (*)
[ 2 ]
" إلا من ظلم " يريد المكره، لانه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر، قال: ويجوز أن يكون المعنى " إلا من ظلم " على البدل، كأنه قال: لا يحب الله إلا من ظلم، أي لا يحب الله الظالم، فكأنه يقول: يحب من ظلم أي يأجر من ظلم. والتقدير على هذا القول: لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم، على البدل. وقال مجاهد: نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه. قال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الارض فلم يضيفه فنزلت " إلا من ظلم " ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد، قال: نزلت هذه الآية " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته. وقد استدل من أوجب الضيافة بهذه الآية، قالوا: لان الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها، وهو قول الليث بن سعد. والجمهور على أنها من مكارم الاخلاق وسيأتي بيانها في " هود " (1) والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع أقتصاد - إن كان مؤمنا كما قال الحسن، فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا، وقد تقدم في " البقرة " (2). وإن كان كافرا فأرسل لسانك وأدع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وقال: (اللهم عليك بفلان وفلان) سماهم. وإن كان مجاهرا بالظلم دعي (3) عليه جهرا، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم. وقد روي أبو داود عن عائشة قال: سرق لها شئ فجعلت تدعو عليه (4)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبخي عنه) (5) أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه. وروي أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (لي الواجد (6) ظلم يحل عرضه وعقوبته). قال ابن المبارك: يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس [ له ] (7). وفي صحيح مسلم (مطل الغنى ظلم). فالموسر المتمكن إذا طولب بالاداء ومطل ظلم، وذلك يبيح من (1) راجع ج 9 ص 64 (2) راجع ج 2 ص 360 (3) في ج وز: دعا. (4) أي السارق. (5) في ى: المعنى. (6) اللى: المطل. الواجد: القادر على أداء دينه. (7) من ج وز وك. (*)
[ 3 ]
عرضه أن يقال فيه: فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للامام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك، حكي معناه عن سفيان، وهو معنى قول ابن المبارك رضي الله عنهما. الثانية - وليس من هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن. الحديث. ولم يرد عليه واحد منهم، لانها كانت حكومة، كل واحد منهما يعتقدها لنفسه، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب، قاله ابن العربي. وقال علماؤنا: هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت، وأما إذا تفاوتت، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل (1) على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب، وهذا صحيح وعليه تدل الآثار. ووجه آخر - وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة ! فإن العم صنو (2) الاب، ولا شك أن الاب إذا أطلق هذه الالفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الاغلاظ والردع مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الامور، ثم أنضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينية، فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الامور، فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الاوجه، ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه، أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما. الثالثة - فأما من قرأ " ظلم " بالفتح في الظاء واللام - وهي قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي، وقراءة ابن أبي إسحق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب - فالمعنى: إلا من ظلم في فعل أو قول فأجهروا له بالسوء من القول، في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه، المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق: ألست نافقت ؟ إلا من ظلم، أي أقام على النفاق، ودل على هذا قوله تعالى: " إلا الذين تابوا ". قال ابن زيد: وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين (1) في ز: تسلط. (2) الصنو: المثل. (*)
[ 4 ]
أنهم في الدرك الاسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول، ثم قال لهم بعد ذلك: " ما يفعل الله بعذابكم " [ النساء: 147 ] على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والايمان. ثم قال للمؤمنين: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " في إقامته على النفاق، فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الاسفل من النار ؟ ونحو هذا من القول. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم استثنى استثناء منقطعا، أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك. قلت: وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم، فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم. وقال أبو إسحق الزجاج: يجوز أن يكون المعنى " إلا من ظلم " فقال سوءا، فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه، ويكون الاستثناء ليس من الاول. قلت: ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام: (خذوا على أيدي سفهائكم). وقوله: (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا: هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال: (تكفه عن الظلم). وقال الفراء: " إلا من ظلم " يعني ولا من ظلم. قوله تعالى: (وكان الله سميعا عليما) تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار. ثم أتبع هذا بقوله: " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء " فندب إلى العفو ورغب فيه. والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام، وقد تقدم في " آل عمران " (1) فضل العافين [ عن الناس ] (2). ففي هذه الالفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها. وقيل: إن عفوت فإن الله يعفو عنك. روي ابن المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جئت الامم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، يصدق هذا الحديث قوله تعالى: " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " [ الشورى: 40 ]. (3) (1) راجع ج 4 ص 207. (2) من ز. (3) راجع ج 16 ص 38. (*)
[ 5 ]
قوله تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إن الذين يكفرون) لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، اليهود والنصارى، إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبين أن الكفر به كفر بالكل، لانه ما من نبي إلا وقد أمر قومه بالايمان بحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الانبياء عليهم الصلاة والسلام. ومعنى (يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) أي بين الايمان بالله ورسله، فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفرا لان الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية. وكذلك التفريق بين رسله في الايمان بهم كفر، وهي: المسألة الثانية - لقوله تعالى: (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) وهم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، وقد تقدم هذا من قولهم في " البقرة " (1). ويقولون لعوامهم: لم نجد ذكر محمد في كتبنا. (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) أي يتخذوا بين الايمان والجحد طريقا، أي دينا مبتدعا بين الاسلام واليهودية. وقال: " ذلك " ولم يقل ذينك، لان ذلك تقع للاثنين ولو كان (2) ذينك لجاز. الثالثة - قوله تعالى: (أولئك هم الكافرين حقا) تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله، وإذا (1) راجع ج 2 ص 92 (2) في ك: ولو قال. أي في غير القرآن. (*)
[ 6 ]
كفروا برسوله فقد كفروا به عزوجل، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول، فلذلك صاروا الكافرين حقا. و (للكافرين) يقوم مقام المفعول الثاني لاعتدنا، أي أعتدنا لجميع أصنافهم (عذابا مهينا) أي مذلا. قوله تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152) يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. قوله تعالى: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وأتينا موسى سلطانا مبينا (153) سألت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة، تعنتا له صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله عزوجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا " فقالوا أرنا الله جهرة " أي عيانا، وقد تقدم في " البقرة " (1). و " جهرة " نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة، فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاءوا به من السؤال والظلم [ من ] (2) بعد ما رأوا من المعجزات. قوله تعالى: (ثم اتخذوا العجل) في الكلام حذف تقديره: فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل، وقد تقدم في " البقرة " (3) ويأتي ذكره في " طه " (4) [ إن شاء الله ] (5). (من بعد ما جاءتهم البينات) أي البراهين والدلالات والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها (1) راجع ج 1 ص 403. (2) من ز. (3) راجع ج 1 ص 396 (4) راجع ج 11 ص 23. (5) من ز. (*)
[ 7 ]
بأنه لا معبود إلا الله عزوجل. (فعفونا عن ذلك) أي عما كان منهم من التعنت. (وآتينا موسى سلطانا مبينا) أي حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها، وسميت سلطانا لان من جاء بها قاهر بالحجة، وهي قاهرة للقلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها. قوله تعالى: ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154) قوله تعالى: " ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم " أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة، وقد تقدم رفع الجبل ودخولهم الباب في " البقرة " (1). و " سجدا " نصب على الحال. وقرأ ورش وحده " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " بفتح العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في " البقرة " (2). والاصل فيه (3) وتعتدوا أدغمت التاء في الدال، قال النحاس: ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا، والذي يقرأ به إنما يروم (4) الخطأ. (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة. وقيل: عهد مؤكد باليمين فسمي غليظا لذلك. قوله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) " فبما نقضهم " خفض بالباء و " ما " زائدة مؤكدة كقوله: " فبما رحمة من الله " [ آل عمران: 159 ] وقد تقدم (5)، والباء متعلقة بمحذوف، التقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، عن قتادة وغيره. وحذف هذا لعلم السامع. وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: هو متعلق بما قبله، والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم (1) راجع ج 1 ص 410: ص 436 (2) راجع ج 1 ص 439 (3) أي فيما قرأ به ورش. (4) في ز: يدفعه. (5) راجع ج 4 ص 248 (*)
[ 8 ]
إلى قوله: " فبما نقضهم ميثاقهم " قال: ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم الانبياء وسائر ما بين من الاشياء التي ظلموا فيها أنفسهم. وأنكر ذلك الطبري وغيره، لان الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الانبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم بالبهتان. قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم، لانه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم، على ما تقدم في " البقرة " (1). [ قال ] (2) الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لان هذه القصة ممتدة إلى قوله: " فبظلم من الذين هادوا حرمنا " [ النساء: 160 ]. ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلي الله عليه وسلم. وقيل: المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم. وقيل: المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا، والفاء مقحمة. و " كفرهم " عطف، وكذا و " قتلهم ". والمراد " بآيات الله " كتبهم التي حرفوها. و " غلف " جمع غلاف، أي قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا. وقيل: هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف، أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول، وهو كقوله: " قلوبنا في أكنة " [ فصلت: 5 ] (3) وقد تقدم هذا في " البقرة " (4) وغرضهم بهذا درء (5) حجة الرسل. والطبع الختم، وقد تقدم في " البقرة " (6). " بكفرهم " أي جزاء لهم على كفرهم، كما قال: " بل لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " [ البقرة: 88 ] (7) أي إلا إيمانا قليلا أي ببعض الانبياء، وذلك غير نافع لهم. ثم كرر " وبكفرهم " ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر. وقيل: المعنى " وبكفرهم " بالمسيح، فحذف لدلالة ما بعده عليه، والعامل في " بكفرهم " هو العامل في " بنقضهم " لانه معطوف عليه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه " طبع ". والبهتان العظيم رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم. والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه وقد تقدم (7). [ والله سبحانه وتعالى أعلم ] (8). (1) راجع ج 1 ص 246. (2) من ك. (3) راجع ح 15 ص 339. (4) راجع ح 2 ص 25. (5) في ج: ر د. (6) راجع ج 1 ص 185. (7) راجع ج 5 ص 243 وص 381. (8) من ز. (*)
[ 9 ]
قوله تعالى: وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158) قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم) كسرت " إن " لانها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة. وقد تقدم في " آل عمران " أشتقاق لفظ المسيح. (رسول الله) بدل، وإن شئت على معنى أعني. (وما قتلوه وما صلبوه) رد لقولهم. (ولكن شبه لهم) أي ألقي شبهه على غيره كما تقدم في " آل عمران " (2). وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه، كما قال تعالى: (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه). والاخبار قيل: إنه عن جميعهم. وقيل: إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم، ومعنى أختلافهم قول بعضهم إنه إله، وبعضهم هو ابن الله. قاله الحسن: وقيل أختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى. وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه. وقيل: اختلافهم أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته. وقالت الملكانية: وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته. وقيل: أختلافهم هو أنهم قالوا: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ ! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ ! وقيل: أختلافهم هو أن اليهود قالوا: نحن قتلناه، لان يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى في قتله. وقالت طائفة من النصارى: بل قتلناه نحن. وقالت طائفة منهم: بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه. (ما لهم به من علم) من زائدة، وتم الكلام. ثم قال عزوجل: (إلا اتباع الظن) استثناء ليس من (1) راجع ج 4 ص 88 (2) راجع ج 4 ص 100 (*)
[ 10 ]
الاول في موضع نصب، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل، أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وأنشد سيبويه: وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير (1) وإلا العيس قوله تعالى: (وما قتلوه يقينا) قال ابن عباس والسدي: المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا، كقولك: قتلته علما إذا علمته علما تاما، فالهاء عائدة على الظن. قال أبو عبيد: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال: وما قتلوه فقط. وقيل: المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا، فالوقف على هذا على " يقينا ". وقيل: المعنى وما قتلوا عيسى، والوقف على " وما قتلوه " و " يقينا " نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما - أي قالوا هذا قولا يقينا، أو قال الله هذا قولا يقينا. والقول الآخر - أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا. النحاس: إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ، لانه لا يعمل ما بعد " بل " فيما قبلها لضعفها. وأجاز ابن الانباري الوقف على " وما قتلوه " على أن ينصب " يقينا " بفعل مضمر هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا. (بل رفعه الله إليه) ابتداء كلام مستأنف، أي إلى السماء، والله تعالى متعال عن المكان، وقد تقدم كيفية رفعه في " آل عمران " (2). (وكان الله عزيزا) أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس (3) بن أستيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. (حكيما) حكم عليهم باللعنة والغضب. قوله تعالى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159) قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته). قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: المعنى ليؤمنن بالمسيح " قبل موته " أي الكتابي، فالهاء الاولى عائدة على عيسى، والثانية على الكتابي، وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب (1) اليعافير: أولاد الظباء واحدها يعفور. والعيس بقر الوحش لبياضها والعيسي البياض وأصله في الابل استعاره للبقر. (2) راجع ج 4 ص 99 وما بعدها (3) في ج، ز، ك: نطوس بن أستينانوس. (*)
[ 11 ]
اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك، ولكنه إيمان لا ينفع، لانه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت، فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال: إني لاوتى بالاسير من اليهود والنصارى فأمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الايمان، فقال له شهر بن حوشب: إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه، فقال له الحجاج: من أين أخذت هذا ؟ قال: أخذته من محمد بن الحنفية، فقال له الحجاج: أخذت من عين صافية. وروي عن مجاهد أنه قال: ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته، فقيل له: إن غرق أو أحترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ؟ فقال: نعم ! وقيل: إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام، والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم (1) القيامة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري. وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: قبل موت عيسى، والله إنه لحي عند الله الآن، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون، ونحوه عن الضحاك وسعيد بن جبير. وقيل: " ليؤمنن به " أي بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر، لان هذه الاقاصيص أنزلت عليه والمقصود الايمان به، والايمان بعيسى يتضمن الايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا، إذ لا يجوز أن يفرق بينهم. وقيل: " ليؤمنن به " أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الايمان عند المعاينة. والتأويلان الاولان أظهر. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين)، ثم قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال أبو هريرة: قبل موت عيسى، يعيدها ثلاث مرات. وتقدير الآية عند سيبويه: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. وتقدير الكوفيين: وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به، وفيه قبح، لان فيه حذف الموصول، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم. (1) أي قرب قيام الساعة. (*)
[ 12 ]
قوله تعالى: (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه. قوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربوا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " فبظلم من الذين هادوا " قال الزجاج: هذا بدل من " فبما نقضهم ". والطيبات ما نصه في قوله تعالى: " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " [ الانعام: 146 ] (1). وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الاخبار عنه بأنه سبب التحريم. (وبصدهم عن سبيل الله) أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده، وقد مضى في " آل عمران " (2) أن أختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها. الثانية - قال ابن العربي: لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الاموال بالباطل، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا ؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز، وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد. والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة، قال الله تعالى: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " [ المائدة: 5 ] (3) (1) راجع ج 7 ص 124 (2) راجع ج 4 ص 134 وما بعدها. (3) راجع ص 75 من هذا الجزء. (*)
[ 13 ]
وهذا نص، وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله (1). والحاسم لداء الشك والخلاف أتفاق الامة على جواز التجارة مع أهل الحرب، وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم. فإن قيل: كان ذلك قبل النبوة، قلنا: إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت ذلك تواترا - ولا أعتذر عنه إذ بعث، ولا منع منه إذ نبئ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته، فقد كانوا يسافرون في فك الاسرى وذلك واجب، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره، وقد يجب وقد يكون ندبا، فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح. قوله تعالى: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما (162) قوله تعالى: " لكن الراسخون في العلم منهم " استثنى مؤمني أهل الكتاب، وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الاشياء كانت حراما في الاصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا، فنزل " لكن الراسخون في العلم " والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ الثبوت، وقد تقدم في " آل عمران " (2) والمراد عبد الله بن سلام وكعب الاحبار ونظراؤهما. " والمؤمنون " أي من المهاجرين والانصار، أصحاب محمد عليه السلام. " والمقيمين الصلاة " وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة: " والمقيمون " على العطف، وكذا هو في حرف عبد الله، وأما حرف أبي فهو فيه " والمقيمين " كما في المصاحف. واختلف في نصبه على أقوال ستة، أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح، أي وأعني المقيمين، قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك " والمقيمين الصلاة " وأنشد: (1) يلاحظ هذا على شهرته، مع ما صح أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتفريق سبعة دنانير كانت له عند عائشة رضى الله عنها وهو في حال الاحتضار. راجع نهاية الارب ج 18 ص 380 (2) راجع ج 4 ص 16 وما بعدها. (*)
[ 14 ]
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم * إلا نميرا أطاعت أمر غاويها ويروى (أمر مرشدهم). الظاعنين (1) ولما يظعنوا أحدا * والقائلون لمن دار نخليها وأنشد: (2) لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك * والطيبون معاقد الازر قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في " المقيمين ". وقال الكسائي: " والمقيمين " معطوف على " ما ". قال النحاس قال الاخفش: وهذا بعيد، لان المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين. وحكى محمد بن جرير (3) أنه قيل له: إن المقيمين ههنا الملائكة عليهم السلام، لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار، واختار هذا القول، وحكى أن النصب على المدح بعيد، لان المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الراسخين في " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " فلا ينتصب " المقيمين " على المدح. قال النحاس: ومذهب سيبويه في قوله: " والمؤتون " رفع بالابتداء. وقال غيره: هو مرفوع على إضمار مبتدإ، أي هم المؤتون الزكاة. وقيل: " والمقيمين " عطف على الكاف التي في " قبلك ". أي من قبلك ومن قبل المقيمين. وقيل: " المقيمين " عطف على الكاف التي في " إليك ". وقيل: هو عطف على الهاء والميم، أي منهم ومن المقيمين، وهذه الاجوبة الثلاثة لا تجوز، لان فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض. والجواب السادس - ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية وعن قوله: " إن هذان لساحران " [ طه: 63 ] (4) وقوله: " والصابئون " (5) في [ المائدة: 69 ]، فقالت للسائل: يابن أخي (6) الكتاب أخطئوا. وقال (1) قوله: (الظاعنين ولما يظعنوا أحدا) أي يخافون من عدوهم لقلتهم وذلهم فيظعنون، ولا يخاف منهم عدوهم فيظعن عن دارهم خوفا منهم. وقوله: (لمن دار نخليها) أي إذا ظعنوا عن دار لم يعرفوا من يحلها بعدهم لخوفهم من جميع القبائل. والبيتان لابن خياط. (2) البيتان لخزنق بنت عفان من بني قيس، وصفت قومها بالظهور على العدو، ونحر الجزر للاضياف والملازمة للحرب: والعفة عن الفواحش. (3) في الاصول: محمد بن يزيد. (4) راجع ج 11 ص 215 (5) راجع ج 246 من هذا الجزء. (6) في الطبري (بابن أختي). (*)
[ 15 ]
أبان بن عثمان: كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون " ثم قال له: ما أكتب ؟ فقيل له: اكتب " والمقيمين الصلاة " فمن ثم وقع هذا. قال القشيري: وهذا المسلك باطل، لان الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل. وأصح هذه الاقوال قول سيبويه وهو قول الخليل، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري، [ والله أعلم ] (1). قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا (163) قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) هذا متصل بقوله: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " [ النساء: 153 ]، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الانبياء. وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحق: نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله. والوحي إعلام في خفاء، يقال: وحى إليه بالكلام يحي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء. " إلى نوح " قدمه لانه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع. وقيل غير هذا، ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أول نبي بعثه الله [ تبارك (2) وتعالى ] في الارض إدريس واسمه أخنوخ (3)، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك (4) بن متوشلخ (5) بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا، وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسمعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحق بن إبراهيم (1) من ك. (2) في ج وز. (3) أخنوخ: (بفتح الهمزة) وحكى صاحب تاج العروس عن شيخه (بالضم). (4) لمك: بفتحتين. وقيل: (بفتح فسكون). (روح المعاني). أين هذا مع قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم. وما روى أن شيث بن آدم أنزل عليه خمسون صحيفة. مصححه. (5) متوشلخ (بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة وقيل: بفتح الميم وضم المثناه الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة (روح المعاني). (*)
[ 16 ]
فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحق ثم يوسف ابن يعقوب ثم شعيب بن يوبب (1)، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو (2) خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان ابن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس (3)، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا ابن يعقوب، قال: وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط (4)، ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزبير: كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة: هود وصالح وإسمعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين (4)، وإنما سموا عربا لانه لم يتكلم بالعربية غيرهم. قوله تعالى: (والنبيين من بعده) هذا يتناول جميع الانبياء، ثم قال: " وأوحينا إلى إبراهيم " فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم، كقوله تعالى: " وملائكته ورسله وجبريل ومكيال " (5) ثم قال: (وعيسى وأيوب) قدم عيسى على قوم كانوا قبله، لان الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود. وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه، ومثله قوله تعالى: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح " (6) [ الاحزاب: 7 ] الآية، ونوح مشتق من النوح، وقد تقدم ذكره موعبا في " آل عمران " (7) وانصرف وهو اسم أعجمي، لانه على ثلاثة أحرف فخف، فأما إبراهيم وإسمعيل [ وإسحق ] (8) فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الالف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة، فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ " ويونس " بكسر النون وكذا " يوسف " يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يأنس ويآسف. ومن لم يهمز قال: يوانس (1) يوبب: (بمثناة تحتيه وواو موحدتين) بوزن جعفر. (روح المعاني). (2) في ز: ثم خضرون. (3) في ز: ثم إلياس ثم بشير الخ. ولا يعرف في الانبياء بشير. (4) ذكروا من أنبياء العرب حنظلة ابن صفوان رسول إلى أصحاب الرس. وخالد بن سنان العبسي. (5) راجع ج 2 ص 36. (6) راجع ج 14 ص 126 (7) راجع ج 4 ص 62 (8) الزيادة عن (إعراب القرآن) للنحاس. (*)
[ 17 ]
ويواسف. وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بفتح النون والسين، قال المهدوي: وكأن " يونس " في الاصل فعل مبني للفاعل، و " يونس " فعل مبني للمفعول، فسمي بهما. قوله تعالى: (وآتينا داود زبورا) الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب والحلوب. وقرأ حمزة " زبورا " بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور، كما يقال: هذا الدرهم ضرب الامير أي مضروبه، والاصل في الكلمة التوثيق، يقال: بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به. وكان داود عليه السلام حسن الصوت، فإذا أخذ في قراءة الزبور أجتمع إليه الانس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده، روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع، وسيأتي (1). وفي الحديث: (الزرقة في العين يمن) وكان داود أزرق. قوله تعالى: ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) قوله تعالى: " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل " يعني بمكة. " ورسلا " منصوب بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا، لان معنى " وأوحينا إلى نوح " وأرسلنا نوحا. وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه " قصصناهم " أي وقصصنا رسلا، ومثله ما أنشد سيبويه: (2) أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به * وحدي وأخشى الرياح والمطرا (1) راجع ج 11 ص 330. (2) البيتان للربيع بن ضبع الفزاري، وهو أحد المعمرين، وصف فيهما انتهاء شبيبته وذهاب قوته. (*)
[ 18 ]
أي وأخشى الذئب. وفي حرف أبي " ورسل " بالرفع على تقدير ومنهم رسل. ثم قيل: إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر. قالت اليهود: ذكر محمد الانبياء ولم يذكر موسى، فنزلت " وكلم الله موسى تكليما " " تكليما " مصدر معناه التأكيد، يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر: * امتلا الحوض وقال قطني * أن يقول: قال قولا، فكذا لما قال: " تكليما " وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل. وقال وهب بن منبه: إن موسى عليه السلام قال: " يا رب بم أتخذتني كليما " ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه، فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه، من أجل ذلك أتخذتك كليما. قوله تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان اله عزيزا حكيما (165) قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين) هو نصب على البدل من " ورسلا قد قصصناهم " ويجوز أن يكون على إضمار فعل، ويجوز نصبه على الحال، أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا. (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا، وما أنزلت علينا كتابا، وفي التنزيل: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " (1) [ الاسراء: 15 ]، وقوله تعالى: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع (2) آياتك " [ طه: 134 ] وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شئ من ناحية العقل. وروي عن كعب الاحبار أنه قال: كان الانبياء ألفي ألف ومائتي (3) ألف. وقال مقاتل: (4) كان الانبياء (1) راجع ج 10 ص 230. (2) راجع ج 11 ص 264. (3) في ك: مائة. (4) هذه الرواية نسبها (البحر) و (روح المعاني) إلى كعب الاحبار. (*)
[ 19 ]
ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت على أثر ثمانية آلاف من الانبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل) ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له، ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحق عن الحارث الاعور عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت الانبياء وكم كان المرسلون ؟ قال: (كانت الانبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلثمائة وثلاثة عشر). قلت: هذا أصح ما روي في ذلك، خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له. قوله تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166) قوله تعالى: " لكن الله يشهد " رفع بالابتداء، وإن شئت شددت النون ونصبت. وفي الكلام حذف دل عليه الكلام، كأن الكفار قالوا: ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل " لكن الله يشهد ". ومعنى (أنزله بعلمه) أي وهو يعلم أنك أهل لانزاله عليك، ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم. (والملائكة يشهدون) ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم. (وكفى بالله شهيدا) أي كفى الله شاهدا، والباء زائدة. قوله تعالى: إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا (167) قوله تعالى: (إن الذين كفروا) يعني اليهود [ أي ظلموا ] (1). (وصدوا عن سبيل الله) أي عن أتباع [ الرسول ] (2) محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم: ما نجد صفته (3) في كتابنا، وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ. (قد ضلوا ضلالا بعيدا) لانهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الاسلام. (1) من ك. (2) من ز. (3) في ك: صفاته. (*)
[ 20 ]
قوله تعالى: إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا (169) قوله تعالى: (إن الذين كفروا وظلموا) يعني اليهود، أي ظلموا محمدا بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم. (لم يكن الله ليغفر لهم) هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب. قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والارض وكان الله عليما حكيما (170) قوله تعالى: (يا أيها الناس) هذا خطاب للكل. (قد جاءكم الرسول) يريد محمدا عليه الصلاة والسلام. (بالحق) بالقرآن. وقيل: بالدين الحق، وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الباء للتعدية، أي جاءكم ومعه الحق، فهو في موضع الحال. قوله تعالى: (فآمنوا خيرا لكم) في الكلام إضمار، أي وأتوا خيرا لكم، هذا مذهب سيبويه، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف، أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم. قوله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا (171)
[ 21 ]
قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) نهى عن الغلو. والغلو التجاوز في الحد، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الامر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها (1)، ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا، فالافراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين، وقال الشاعر: وأوف ولا تسوف حقك كله * وصافح فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شئ من الامر وأقتصد * كلا طرفي قصد الامور ذميم وقال آخر: عليك بأوساط الامور فإنها * نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام: (لا تطروني (2) كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله). قوله تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) أي لا تقولوا إن له شريكا أو أبناء ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال: " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته " وفيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: " إنما المسيح " المسيح رفع بالابتداء، و " عيسى " بدل منه وكذا " ابن مريم ". ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى: إنما المسيح ابن مريم. ودل بقوله: " عيسى ابن مريم " على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الاله أن يكون قديما لا محدثا. ويكون " رسول الله " خبرا بعد خبر. الثانية: لم يذكر الله عزوجل امرأة وسماها بأسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران، فإنه ذكر أسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الاشياخ، فإن الملوك والاشراف (1) اللدات (جمع لدة كعدة): الترب، وهو الذي ولد معك وتربى. (2) الاطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. (*)
[ 22 ]
لا يذكرون حرائرهم في الملا، ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والاهل والعيال ونحو ذلك، فإن ذكروا الاماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها، فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم يكن عنها بالاموة والعبودية التي هي صفة لها، وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها. الثالثة - أعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه (1) منسوبا للام استشعرت القلوب ما يجب عليها أعتقاده من نفي الاب عنه، وتنزيه الام الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله. والله أعلم. قوله تعالى: (وكلمته ألقاها إلى مريم) أي هو مكون بكلمة " كن " فكان بشرا من غير أب، والعرب تسمى الشئ باسم الشئ إذا كان صادرا عنه. وقيل: " كلمته " بشارة الله تعالى مريم عليها السلام، ورسالته إليها على لسان جبريل [ عليه السلام ] (2)، وذلك قوله: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه " (3) [ آل عمران: 45 ]. وقيل: " الكلمة " ههنا بمعنى الآية، قال الله تعالى: " وصدقت بكلمات ربها " (4) [ التحريم: 12 ] و " ما نفدت كلمات الله " (5) [ لقمان: 27 ]. وكان لعيسى أربعة أسماء، المسيح وعيسى وكلمة وروح، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن. ومعنى " ألقاها إلى مريم " أمر بها مريم (6). قوله تعالى: (وروح منه). هذا الذي أوقع النصارى في الاضلال، فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا، وعنه أجوبة ثمانية: الاول - قال أبي بن كعب: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام، فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام، فلهذا قال: " وروح منه ". وقيل: هذه الاضافة للتفضيل وإن كان جميع الارواح من خلقه، وهذا كقوله: " وطهر بيتي للطائفين " (7) [ الحج: 26 ]، وقيل: قد يسمى من تظهر منه الاشياء العجيبة روحا، وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله. وكان عيسى يبرئ الاكمه والابرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم. وقيل: (1) في ج: ذكره. (2) من ك. (3) راجع ج 4 ص 88 (4) راجع ج 18 ص 2 3 (5) راجع ج 14 ص 76 (6) في البحر: ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها. (7) راجع ج 2 ص 110 (*)
[ 23 ]
يسمى روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ روحا، لانه ريح يخرج من الروح. قال الشاعر - هو ذو الرمة -: فقلت له أرفعها إليك وأحيها * بروحك (1) وأقتته لها قيتة قدرا وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله، وعلى هذا يكون " وروح منه " معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في " ألقاها " التقدير: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم. وقيل: " روح منه (2) " أي من خلقه، كما قال: " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه " [ الجاثية: 13 ] أي من خلقه. وقيل: " روح منه " أي رحمة منه، فكان عيسى رحمة من الله لمن أتبعه، ومنه قوله تعالى: " وأيدهم بروح منه " (3) [ المجادلة: 22 ] أي برحمة، وقرئ: " فروح وريحان " (3). وقيل: " وروح منه " وبرهان منه، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسله) أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها. (ولا تقولوا) آلهتنا " ثلاثة " عن الزجاج. قال ابن عباس: يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه. وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة، كقوله تعالى: " سيقولون ثلاثة " (4) [ الكهف: 22 ]. [ قال ] (5) أبو علي: التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف. والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالاقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الاقانيم بالاب والابن وروح القدس، فيعنون بالاب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين. ومحصول كلامهم يئول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته، وقالوا: قد علمنا خروج هذه الامور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالالهية، فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به (1) بروحك: بنفخك. (واقتته لها قيتة): يأمره بالرفق والنفخ القليل في النار. وأن يطعمها حطبا قليلا قليلا. (2) راجع ج 16 ص 160 (3) راجع ج 17 ص 308، ص 232 (4) راجع ج 10 ص 322 (5) من ك. (*)
[ 24 ]
كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك، فإن أعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به، وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا، لانهم معارضون بموسى عليه السلام، وما كان يجري على يديه من الامور العظام، مثل قلب العصا ثعبانا، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى، وغير ذلك، وكذلك ما جرى على يد الانبياء، فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شئ من ذلك لعيسى، فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن، ويكذبون من أتى به، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر. وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الاسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى، يصلون إلى القبلة، ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا، ونحن مغبونون (1) إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار، وكان له فرس يقال لها العقاب، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى: أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الانجيل، فخرج وقال: نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى بن مريم إله، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله. وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك، ثم دعا رجلا يقال له الملك (2) فقال له، إن الاله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له: أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي وأتقرب (1) في ج وز مفتونون. (2) كذا في الاصول: والذي في كتاب (الملل والنحل) الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر ببلاد الروم واستولى عليها. في (صبح الاعشى) الملكانية هم اتباع ملكان الذي ظهر ببلاد الروم، فهو ملكا أو ملكان. وسيأتي ذكر الملكانية ص 118 (*)
[ 25 ]
بها، فأدع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه، فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث، فهذا كان سبب شركهم فيما يقال، والله أعلم. وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى: " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " [ المائدة: 14 ] (1) وسيأتي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (انتهوا خيرا لكم) " خيرا " منصوب عند سيبويه بإضمار فعل، كأنه قال: ائتوا خيرا لكم، لانه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم، قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره " انتهوا خيرا لكم " لانك إذا قلت: ائته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في آخر، وأنشد: فواعديه سرحتى (2) مالك * أو الربا بينهما أسهلا ومذهب أبي عبيدة: انتهوا يكن خيرا لكم، قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لانه يضمر الشرط وجوابه (3)، وهذا لا يوجد في كلام العرب. ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف، قال علي بن سليمان: هذا خطأ فاحش، لانه يكون المعنى: انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم. قوله تعالى: (إنما الله إله واحد) هذا ابتداء وخبر، و " واحد " نعت له. ويجوز أن يكون " إله " بدلا من اسم الله عزوجل و " واحد " خبره، التقدير إنما المعبود واحد. (سبحانه أن يكون له ولد) أي تنزيها (4) عن أن يكون له ولد، فلما سقط " عن " كان " أن " في محل النصب بنزع الخافض، أي كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له، ولا شبيه لله عزوجل. (له ما في السموات وما في الارض) فلا شريك له، وعيسى [ ومريم ] (5) من جملة ما في السموات وما في الارض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له. (وكفى بالله وكيلا) أي لاوليائه، وقد تقدم. (1) راجع ص 116 من هذا الجزء. (2) البيت لعمر بن أبي ربيعة، و (سرحتا مالك): موضع بعينه: والسرحتان شجرتان شهر الموضع بهما، والزبا: جمع ربوة وهي المشرف من الارض. (3) في السمين: لان تقدير إن تؤمنوا يكن الايمان خيرا لكم. (4) في ك تنزيه. (5) من ز. (*)
[ 26 ]
قوله تعالى: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173) قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح) أي لن يأنف ولن يحتشم. (أن يكون عبدا لله) أي من أن يكون، فهو في موضع نصب. وقرأ الحسن: (إن يكون) بكسر الهمزة على أنها نفى هو (1) بمعنى (ما) والمعنى ما يكون له ولد وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة (2). (ولا الملائكة المقربون) أي من رحمة الله ورضاه، فدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الانبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وكذا (ولا أقول إني ملك (3)) وقد تقدمت الاشارة إلى هذا المعنى في (البقرة) (4). (ومن يستنكف) أي يأنف (عن عبادته ويستكبر) فلا يفعلها. (فسيحشرهم إليه) أي إلى المحشر. (جميعا) فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) إلى قوله: (نصيرا). وأصل " يستنكف " نكف، فالياء والسين والتاء زوائد، يقال: نكفت من الشئ واستنكفت منه وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه، ومنه الحديث سئل عن " سبحان الله " فقال: (إنكاف الله من كل سوء) يعني تنزيهه وتقديسه عن الانداد والاولاد. وقال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك، ومنه الحديث (ما ينكف العرق عن جبينه) أي ما ينقطع، ومنه الحديث (جاء بجيش لا ينكف آخره) أي لا ينقطع آخره. وقيل: هو من النكف وهو العيب، (1) من ز. (2) في مختصر الشواذ لابن خالويه: إن يكون بكسر الهمزة ورفع يكون. الحسن وقتادة وأبو وافد يجعل إن بمعنى ما. (3) راجع ج 9 ص 27. (4) راجع ج 1 ص 289. (*)
[ 27 ]
يقال: ما عليه في هذا الامر (1) نكف ولا وكف أي عيب: أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها. قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، عن الثوري، وسماه برهانا لان معه البرهان وهو المعجزة. وقال مجاهد: البرهان ههنا الحجة، والمعنى متقارب، فإن المعجزات حجته صلى الله عليه وسلم. والنور المنزل هو القرآن، عن الحسن، وسماه نورا لان به تتبين الاحكام ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين، أي واضح بين. قوله تعالى: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175) قوله تعالى: " فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به " أي بالقرآن عن معاصيه، وإذا أعتصموا بكتابه [ فقد ] (2) أعتصموا به وبنبيه. وقيل: " أعتصموا به " أي بالله. والعصمة الامتناع، وقد تقدم (3) (ويهديهم) أي وهو يهديهم، فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله. (إليه) أي إلى ثوابه. وقيل: إلى الحق ليعرفوه. (صراطا مستقيما) أي دينا مستقيما. و " صراطا " منصوب بإضمار فعل دل عليه " ويهديهم " التقدير، ويعرفهم صراطا مستقيما. وقيل: هو مفعول ثان على تقدير، ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما. وقيل: هو حال. والهاء في " إليه " قيل: هي للقرآن، وقيل: للفضل، وقيل: للفضل والرحمة، لانهما بمعنى الثواب. وقيل: هي لله عزوجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه. أبو علي: الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عزوجل، والمعنى ويهديهم إلى صراطه، فإذا جعلنا " صراطا مستقيما " نصبا على الحال كانت الحال من (1) في ج: من نكف. (2) في ج وز. (3) راجع ج 4 ص 156 (*)
[ 28 ]
هذا المحذوف. وفي قوله: (وفضل) دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه، إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا. والله أعلم. قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مث حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم (176) فيه خمس مسائل: الاولى - قال البراء بن عازب: هذه آخر آية نزلت من القرآن، كذا في كتاب مسلم. وقيل: نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم متجهز لحجة الوداع، ونزلت بسبب جابر، قال جابر ابن عبد الله: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي علي، فتوضأ [ رسول (1) الله صلى الله عليه وسلم ] ثم صب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " رواه مسلم، وقال: آخر آية نزلت: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " [ البقرة: 281 ] (2) وقد تقدم. ومضى في أول السورة الكلام في " الكلالة " مستوفى، (3) وأن المراد بالاخوة هنا الاخوة للاب والام [ أو للاب ] (4) وكان لجابر تسع أخوات. الثانية - قوله تعالى: " إن أمرؤ هلك ليس له ولد " أي ليس له ولد ولا والد، فأكتفي بذكر أحدهما، قال الجرجاني: لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود، فالوالد يسمى، والدا لانه ولد، والمولود يسمى ولدا لانه ولد، كالذرية فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد، قال الله تعالى: " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون " (5) [ يس: 41 ]. (1) من ك. (2) راجع ج 3 ص 375. (3) راجع ج 5 ص 76 وما بعدها. (4) من ج وز وك. (5) راجع ج 15 ص 34 (*)
[ 29 ]
الثالثة - والجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الاخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ، غير ابن عباس، فإنه كان لا يجعل الاخوات عصبة البنات، وإليه ذهب داود وطائفة، وحجتهم ظاهر قول الله تعالى: " إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ولم يورث الاخت إلا إذا لم يكن للميت ولد، قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الاخت مع وجودها. وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الاسود بن يزيد: أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين. الرابعة - هذه الآية تسمى بآية الصيف، لانها نزلت في زمن الصيف، قال عمر: إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عنها ] (1) فما أغلظ لي في شئ ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال: (يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء). وعنه رضي الله عنه قال: ثلاث لان يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة والربا والخلافة، خرجه ابن ماجه في سننه. الخامسة - طعن بعض الرافضة بقول عمر: (والله لا أدع) الحديث. السادسة - قوله تعالى: (يبين الله لكم ان تضلوا) قال الكسائي: المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا. قال أبو عبيد، فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة) فاستحسنه. قال النحاس: والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة، وهذا القول عند البصريين خطأ [ صراح ] (1)، [ لانهم ] (2) لا يجيزون إضمار لا، والمعنى عندهم: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ثم حذف، كما قال: " واسأل القرية " (3) [ يوسف: 82 ] وكذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أي كراهية أن يوافق من الله إجابة. (والله بكل شئ عليم) تقدم في غير موضع. والله أعلم تمت سورة " النساء " والحمد لله الذي وفق. (1) من ك. (2) الزيادة عن (إعراب القرآن) للنحاس. (3) راجع ج 9 ص 245. (*)
[ 30 ]
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر تفسير سورة المائدة بحول الله تعالى وقوته، وهي مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال: (يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة). قال ابن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده، أما إنا نقول: سورة " المائدة، ونعمت الفائدة " فلا نأثره عن أحد ولكنه كلام حسن. وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب). ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح وهو قوله تعالى: " ولا يجر منكم شنآن قوم " [ المائدة: 2 ] الآية. وكل ما أنزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الاسفار. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وقال أبو ميسرة: " المائدة " من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها، وهى: " المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " [ المائدة: 3 ]، " وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام "، " وما علمتم من الجوارح مكلبين " [ المائدة: 4 ]، " وطعام الذين أوتوا الكتاب " [ المائدة: 5 ] " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " [ المائدة: 5 ]، وتمام الطهور " إذا قمتم إلى الصلاة " [ المائدة: 6 ]، " والسارق والسارقة " [ المائدة: 38 ]، " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " [ المائدة: 95 ] إلى قوله: " عزيز ذو انتقام " [ المائدة: 95 ] و " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " [ المائدة: 103 ]. وقوله تعالى: " شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " [ المائدة: 106 ] الآية. قلت: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله عزوجل: " وإذا ناديتم إلى الصلاة " [ المائدة: 58 ] ليس للاذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة " الجمعة " فمخصوص بالجمعة،
[ 31 ]
وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة " المائدة " في حجة الوداع وقال: (يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) ونحوه عن عائشة رضي الله عنها موقوفا، قال جبير بن نفير: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: هل تقرأ سورة " المائدة " ؟ فقلت: نعم، فقالت: فإنها من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وقال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله: " ولا الشهر الحرام ولا الهدي " [ المائدة: 2 ] الآية. وقال بعضهم: نسخ منها " أو آخران من غيركم " [ المائدة: 106 ]. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) قال علقمة: كل ما في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " فهو مدني و " يا أيها الناس " [ النساء: 1 ] فهو مكي، وهذا خرج على الاكثر، وقد تقدم. (1) وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الاول: الامر بالوفاء بالعقود، الثاني: تحليل بهيمة الانعام، الثالث - استثناء ما يلي بعد ذلك، الرابع - استثناء حال الاحرام فيما يصاد، الخامس - ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم أعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم ! أعمل مثل بعضه، فأحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة " المائدة " فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، (1) راجع ج 1 ص 229. (*)
[ 32 ]
ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد. الثانية - قوله تعالى: (أوفوا) يقال: وفي وأوفى لغتان ! قال الله تعالى: " ومن أوفى بعهده من الله " (1) [ التوبة: 111 ]، وقال تعالى: " وإبراهيم الذي وفى " (2) [ النجم: 37 ] وقال الشاعر: (3) أما ابن طوق فقد أوفى بذمته * كما وفى بقلاص النجم حاديها فجمع بين اللغتين. (بالعقود) العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل (4) فهو يستعمل في المعاني والاجسام، قال الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (5) فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه، من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الامور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة، وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الاسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الامة، قال ابن العربي. ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب، لقوله تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه " [ آل عمران: 187 ] (6). قال ابن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت. وقيل: هي عامة وهو الصحيح، فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب، لان بينهم وبين الله عقدا في أداء الامانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، (7) فإنهم مأمورون بذلك في قوله: " أوفوا بالعقود " وغير موضع. قال ابن عباس: " أوفوا بالعقود " معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الاشياء، وكذلك قال مجاهد وغيره. وقال ابن شهاب: (1) راجع ج 8 ص 266 (2) راجع ج 17 ص 112 (3) هو طفيل الغنوي وقلاص النجم: هي العشرون نجما التي ساقها الدبران في خطبة الثريا كما تزعم العرب. (4) كذا في الاصول وفي حاشية الجمل عن القرطبي: عقدت الغل. (5) العناج: خيط أو سير يشد في أسفل الدلو ثم يشد في عروتها: والكرب الحبل الذي يشد على الدلو بعد المنين، وهو الحبل الاول: فإذا انقطع المنين بقى الكرب. وقيل: غير هذا. وهذه أمثال ضربها الحطيئة لايفائهم بالعهد. (6) راجع ج 4 ص 304 (7) في ز: ويعم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي حاشية الجمل عن القرطبي: وهم من أمة محمد. الخ. قلت: يعني أمة غير الاجابة. مصححه. (*)
[ 33 ]
قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: (هذا بيان للناس من الله ورسوله " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " فكتب الآيات فيها إلى قوله: " إن الله سريع الحساب " [ المائدة: 4 ]). وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون عند شروطهم) وقال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله، فإن ظهر فيها ما يخالف رد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). ذكر ابن إسحق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان - لشرفه ونسبه - فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار [ عبد الله ] (1) بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى (2) به في الاسلام لاجبت). وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة) لانه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم، فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الاسلام والحمد لله. قال ابن إسحق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين ابن علي في مال له - لسلطان الوليد، فإنه كان أميرا على المدينة - فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لاقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لادعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لاقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا، وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. الثالثة - قوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الانعام) الخطاب لكل من ألتزم الايمان على وجهه وكماله، وكانت للعرب سنن في الانعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي (1) من ج وز. (2) في الروض الانف: لو دعيت إليه. (*)
[ 34 ]
بيانها، فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الاوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلية. واختلف في معنى " بهيمة الانعام " والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لابهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له. و " الانعام ": الابل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها (1)، قال الله تعالى: " والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع " [ النحل: 5 ] إلى قوله: " وتحمل أثقالكم " [ النحل: 7 ] (2)، وقال تعالى: " ومن الانعام حمولة وفرشا " (3) [ الانعام: 142 ] يعني كبارا وصغارا، ثم بينها فقال: " ثمانية أزواج " [ الانعام: 143 ] إلى قوله: " أم كنتم شهداء " [ البقرة: 133 ] وقال تعالى: " وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها " (2) [ النحل: 80 ] يعني الغنم " وأوبارها " يعني الابل " وأشعارها " يعني المعز، فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الانعام لهذه الاجناس، الابل والبقر والغنم، وهو قول ابن عباس والحسن. قال الهروي: وإذا قيل النعم فهو الابل خاصة. وقال الطبري: وقال قوم " بهيمة الانعام " وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن السدي والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال: أحلت لكم الانعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الانعام هي الثمانية الازواج، وما أنضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها، وكأن المفترس كالاسد وكل ذي ناب خارج عن حد الانعام، فبهيمة الانعام هي الراعي من ذوات الاربع. قلت: فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لانها راعية غير مفترسة وليس كذلك، لان الله تعالى قال: " والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع " [ النحل: 5 ] ثم عطف عليها قوله: " والخيل والبغال والحمير " [ النحل: 8 ] فلما استأنف ذكرها وعطفها على الانعام دل على أنها ليست منها، والله أعلم وقيل: " بهيمة الانعام " ما لم يكن صيدا، لان الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الاول. وروى عن عبد الله بن عمر أنه قال: " بهيمة الانعام " الاجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الامهات، فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفيه بعد، (1) في مفردات الراغب: أن تسمية الابل بذلك لانها عندهم أعظم نعمة. ولا يقال لها أنعام حتى يكون في جملتها الابل. (2) راجع ج 10 ص 68. وص 152. (3) راجع ج 7 ص 111. (*)
[ 35 ]
لان الله تعالى قال: " إلا ما يتلى عليكم " وليس في الاجنة ما يستثنى، قال مالك: ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه، فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل: هو ذكي. وقيل: ليس بذكي، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى: الرابعة - قوله تعالى: (إلا ما يتلى عليكم) أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة " [ المائدة: 3 ] وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكل ذي ناب من السباع حرام) (1). فإن قيل: الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة، قلنا: كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله، والدليل عليه أمران: أحدهما: حديث العسيف (لاقضين بينكما بكتاب الله) والرجم ليس منصوصا في كتاب الله. الثاني: حديث ابن مسعود: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، الحديث. وسيأتي في سورة " الحشر " (2). ويحتمل " إلا ما يتلى عليكم " الآن أو " ما يتلى عليكم " فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة. الخامسة - قوله تعالى: (غير محلي الصيد) أي ما كان صيدا فهو حلال في الاحلال دون الاحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين. واختلف النحاة في " إلا ما يتلى " هل هو استثناء أو لا ؟ فقال البصريون: هو استثناء من " بهيمة الانعام " و " غير محلي الصيد " استثناء آخر أيضا منه، فالاستثناء ان جميعا من قوله: " بهيمة الانعام " وهي المستثنى منها، التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله: " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط " (3) [ الحجر: 58 - 59 ] على ما يأتي. وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله عزوجل: " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الاحرام، لانه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى: " إلا ما يتلى عليكم " (1) رواية مسلم والنسائي: (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام). (2) راجع ج 18 ص 17. (3) راجع ج 10 ص 36. (*)
[ 36 ]
مستثنى من الاباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الانعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم. وأجاز الفراء أن يكون " إلا ما يتلى عليكم " في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من [ أسماء ] (1) الاجناس نحو جاء القوم إلا زيد. والنصب عنده بأن " غير محلي الصيد " نصب على الحال مما في " أوفوا "، قال الاخفش: يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد. وقال غيره: حال من الكاف والميم في " لكم " والتقدير: أحلت لكم بهيمة الانعام غير محلي الصيد. ثم قيل: يجوز أن يرجع الاحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الاحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الاحرام، كما تقول: أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة. فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى: غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا. السادسة - قوله تعالى: (وأنتم حرم) يعني الاحرام بالحج والعمرة، يقال: رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج، ومنه قول الشاعر: (2) فقلت لها فيئي إليك فإنني * حرام وأني بعد ذاك لبيب أي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما. ويقال: أحرم دخل في الحرم، فيحرم صيد الحرم أيضا. وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب " حرم " بسكون الراء، وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه. السابعة - قوله تعالى: (إن الله يحكم ما يريد) تقوية لهذه الاحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل " يحكم ما يريد " " لا معقب لحكمه " (3) [ الرعد: 41 ] يشرع ما يشاء كما يشاء. (1) الزيادة عن ابن عطية. (2) هو المضرب بن كعب بن زهير. (3) راجع ج 9 ص 334. (*)
[ 37 ]
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجر منكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (لا تحلوا شعائر الله) خطاب للمؤمنين حقا، أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الامور. والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة. وقال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة، وهو أحسن. والشعيرة البدنة تهدى، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي. والاشعار الاعلام من طريق الاحساس، يقال: أشعر هديه أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي، ومنه المشاعر المعالم، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات. ومنه الشعر، لانه يكون بحيث يقع الشعور، ومنه الشاعر، لانه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره، ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه، فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله، وعلى قول جميع مناسك الحج، قال ابن عباس. وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر. وقال الشاعر: (1) نقتلهم جيلا فجيلا تراهم * شعائر قربان بها يتقرب وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالى: " لا تحلوا شعائر الله ". وقال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كله، كقوله: " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " (2) [ الحج: 32 ] أي دين الله. (1) البيت كما رواه اللسان وفي أ وج وز: نقاتلهم - بهم نتقرب. (2) راجع ج 12 ص 56. (*)
[ 38 ]
قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه. وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي وهي: الثانية - فأجازه الجمهور، ثم اختلفوا في أي جهة يشعر، فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: يكون في الجانب الايمن، وروي عن ابن عمر. وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الايمن، أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح. وروي أنه أشعر بدنه من الجانب الايسر، قال أبو عمر بن عبد البر: هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس، والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس، قال: ولا يصح عنه غيره. وصفحة السنام جانبه، والسنام أعلى الظهر. وقالت طائفة: يكون في الجانب الايسر، وهو قول مالك، وقال: لا بأس به في الجانب الايمن. وقال مجاهد: من أي الجانبين شاء، وبه قال أحمد في أحد قوليه. ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال: إنه تعذيب للحيوان، والحديث يرد عليه، وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم، وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والانكار حين لم ير الاشعار فقال: كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء. قلت: والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية الاشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح، لان الاشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا. ولابي حنيفة أن الاشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا، وكانوا لا يعرفون الهدى إلا بالاشعار ثم زال لزوال العذر، هكذا روي عن ابن عباس. وحكى عن الشيخ الامام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال: يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية (1)، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى (1) اسراية: هي من قول الفقهاء. سرى الجرح إلى النفس أي دام ألمه حتى حدث منه الموت. كما يستفاد من المصباح. (*)
[ 39 ]
الله عليه وسلم فهو حسن، وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي. فهذا أعتذار علماء الحنفية لابي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الاشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه، قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما، لان مباشرة المكروه لا تعد من المناسك. الثالثة - قوله تعالى: (ولا الشهر الحرام) اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الاشهر الحرم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة (1) سرد، يأتي بيانها في " براءة " (2)، والمعنى: لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها، فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسئ، وكذلك قوله: " ولا الهدي ولا القلائد " أي لا تستحلوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة. فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد. الرابعة - قوله تعالى: (ولا الهدى ولا القلائد) الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية وهدية وهدي. فمن قال: أراد بالشعائر المناسك قال: ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها. ومن قال: الشعائر الهدي قال: إن الشعائر ما كان مشعرا أي معلما بإسالة الدم من سنامه، والهدي ما لم يشعر، أكتفى فيه بالتقليد. وقيل: الفرق أن الشعائر هي البدن من الانعام. والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى. وقال الجمهور: الهدي عاما في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة) إلى أن قال: (كالمهدي بيضة) فسماها هديا، وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة، وكذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به، إلا أن الاطلاق إنما ينصرف إلى أحد الاصناف الثلاثة من الابل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا إنما تلقى من عرف الشرع في قوله تعالى: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " (3) [ البقرة: 196 ] وأراد به الشاة، وقال تعالى: " يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة " (4) [ المائدة: 95 ] وقال تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج (1) سرد: متتابعة. (2) راجع ج 8 ص 71. (3) راجع ج 2 ص 365. (4) راجع ص 312 من هذا الجزء. (*)
[ 40 ]
فما استيسر من الهدي " [ البقرة: 196 ] وأقله شاة عند الفقهاء. وقال مالك: إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي. " والقلائد " ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد ثم نسخ. قال ابن عباس: آيتان نسختا من " المائدة " آية القلائد وقوله: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " [ المائدة: 42 ] فأما القلائد فنسخها الامر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا. وأما الاخرى فنسخها قوله تعالى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة: 49 ] على ما يأتي. وقيل: أراد بالقلائد نفس القلائد، فهو نهى عن أخذ لحاء (1) شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للامن، قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير. والله أعلم. وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض. وأتفق الفقهاء على أن من قال: لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة. وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه، من نعل أو غيره، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الاسلام، وهي سنة البقر والغنم. قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها، أخرجه البخاري ومسلم، وإلى هذا صار جماعة من العلماء: الشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وابن حبيب، وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الاسود به عن عائشة رضي الله عنها، فالقول به أولى. والله أعلم. وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن، قاله ابن عمر، وبه قال مالك. وقال الشافعي: تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا. وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر، وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام، وهي أشبه بالغنم منها بالابل. والله أعلم. الخامسة - وأتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الاحرام وساقها أنه يصير محرما، قال الله تعالى: " لا تحلوا شعائر الله " إلى أن قال: " فاصطادوا " ولم يذكر الاحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الاحرام. (1) لحاء الشجر: قشره. (*)
[ 41 ]
السادسة - فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما، لحديث عائشة قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ أحله الله له حتى نحر الهدي، أخرجه البخاري، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق وجمهور العلماء. وروي عن ابن عباس أنه قال: يصير محرما، قال ابن عباس: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، رواه البخاري، وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي، وأحتجوا بحديث جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لاخرج قميصي من رأسي) وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة. في إسناده عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة (1) وهو ضعيف. فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون: لا يصير محرما، لان تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر، لانه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن، فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم. وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي. العهن الصوف المصبوغ، ومنه قوله تعالى: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " [ القارعة: 5 ] (2). السابعة - ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر، لانه قد وجب، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه، بخلاف الاضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول، فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال: جعلت هذه الشاة أضحية تعينت، وعليه، إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها، فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحق. وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت، إنما الابدال في الواجب. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا ضلت فقد أجزأت. ومن (1) في التهذيب: (ابن بنت أبي لبيبة). (2) راجع ج 20 ص 165. (*)
[ 42 ]
مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي. وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال. وقال الاوزاعي: تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الاضحية فتباع في دينه. ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الاكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث. وما أصاب الاضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي، هذا تحصيل مذهب مالك. وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل، والاول أصوب. والله أعلم. الثامنة - قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) يعني القاصدين له، من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الاعمش: " ولا آمي البيت الحرام " بالاضافة كقوله: " غير محلي الصيد " والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة، وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بقلادة، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (1) [ التوبة: 5 ] وقوله: " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " [ التوبة: 28 ] فلا يمكن المشرك من الحج، ولا يؤمن في الاشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج، روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره. وقال قوم: الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين. والنهي عام في الشهر الحرام وغيره، ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا، وهذا يتمشى على قول عطاء، فإن المعنى لا تحلوا معالم الله، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه، ولذلك قال أبو ميسرة: هي محكمة. وقال مجاهد: لم ينسخ منها إلا " القلائد " وكان الرجل يتقلد بشئ من لحاء الحرم (2) فلا يقرب فنسخ ذلك. وقال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم. وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون: يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن " ولا آمين البيت الحرام ". وقيل: (1) راجع ج 8 ص 71 وص 103. (2) أي لحاء شجر الحرم. (*)
[ 43 ]
كان هذا لامر شريح بن ضبيعة البكري (1) - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله عليه وسلم وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم كما ذكرنا. وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخلف خيله خارج المدينة فقال: إلام تدعو الناس ؟ فقال: (إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) فقال: حسن، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلى أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه: (يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان) ثم خرج من عنده فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم). فمر بسرح (2) المدينة فاستاقه، فطلبوه فعجزوا عنه، فانطلق وهو يقول: قد لفها الليل بسواق حطم (3) * ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم (4) * باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم (5) * خدلج الساقين خفاق القدم (7) فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضية (8) سمع تلبية حجاج اليمامة فقال: (هذا الحطم وأصحابه). وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة (9)، فتوجهوا في طلبه، فنزلت الآية، أي لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين، ذكره ابن عباس. التاسعة - وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى: " لا تحلوا شعائر الله " يوجب إتمام أمور المناسك، ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه، ثم عليه القضاء في السنة الثانية. قال أبو الليث السمرقندي: وقوله تعالى: (ولا الشهر الحرام) منسوخ بقوله: (وقاتلوا المشركين كافة) (10) وقوله: (ولا الهدي ولا القلائد) محكم لم ينسخ فكل من قلد الهدي (1) في ز: الكندي وفي أسباب النزول للواحدي: نزلت في الخطيم واسمه شريح بن ضبيع الكندي. (2) السرح: المال السائم. (3) رجل حطم وحطمة: إذا كان قليل الرحمة للماشية يهشم بعضها ببعض. (4) الوضم: كل شئ يوضع عليه اللحم من خشب أو حصير يوقى به من الارض. (5) الزلم: (بفتح الزاي وضمها) القدح، والجمع الازلام وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. (6) خدلج الساقين: عظيمهما. (7) خفاق القدم: عريض صدر القدمين. (8) القضية: قضاء العمرة التي أحصر عنها. (9) في ج وز: الكعبة. (10) راجع ج 8 ص 136. (*)
[ 44 ]
ونوى الاحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية فهذه الاحكام معطوف بعضها على بعض بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ. العاشرة - قوله تعالى: (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والارباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم. وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله، وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار. قال ابن عطية: هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم، لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويردون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الايمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان. وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع، إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة " براءة ". الحادية عشرة - قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالاحرام، حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة " أفعل " الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب، وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره، لان المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا، دليله قوله تعالى: " فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين " (1) [ التوبة: 5 ] فهذه " أفعل " على الوجوب، لان المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الاباحة هناك وما كان مثله من قوله: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا " (2) [ الجمعة: 10 ] " فإذا تطهرن فأتوهن " (3) من النظر إلى المعنى والاجماع، لا من صيغة الامر. والله أعلم. الثانية عشرة - قوله تعالى: (ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام) أي لا يحملنكم، عن ابن عباس وقتادة، وهو قول الكسائي وأبي العباس. وهو يتعدى إلى مفعولين، يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه، قال الشاعر: (4) ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا (1) راجع ج 8 ص 71. (2) راجع ج 18 ص 108. (3) راجع ج 3 ص 90. (4) هو أبو أسماء بن الضريبة ويقال: هو عطية بن عفيف. وطعنت (بفتح التاء) لانه يخاطب كرزا العقيلي ويرثيه وقبل البيت: يا كرز إنك قد قتلت بفارس * بطل إذا هاب الكماة وجببوا وكان كرز قد طعن أبا عيينة وهو حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري. (اللسان). (*)
[ 45 ]
وقال الاخفش: أي ولا يحقنكم. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى " لا يجر منكم " أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال عليه السلام: (أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) وقد مضى القول في هذا. ونظير هذه الآية " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " [ البقرة: 194 ] وقد تقدم مستوفى (1). ويقال: فلان جريمة أهله أي كاسبهم، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب. وأجرم فلان أي أكتسب الاثم. ومنه قول الشاعر: (2) جريمة ناهض في رأس نيق * ترى لعظام ما جمعت صليبا معناه كاسب قوت، والصليب الودك (3)، وهذا هو الاصل في بناء ج ر م. قال ابن فارس: يقال جرم وأجرم، ولا جرم بمنزلة قولك: لا بد ولا محالة، وأصلها من جرم أي أكتسب، قال: * جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا * وقال أخر: يا أيها المشتكي عكلا (4) وما جرمت * إلى القبائل من قتل وإباس ويقال: جرم يجرم جرما إذا قطع، قال الرماني علي بن عيسى: وهو الاصل، فجرم بمعنى حمل على الشئ لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لان الحق يقطع عليه. وقال الخليل: " لا جرم أن لهم النار " (5) [ النحل: 62 ] لقد حق أن لهم العذاب. وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد، أي أكتسب. وقرأ ابن مسعود " يجر منكم " بضم الياء، والمعنى أيضا لا يكسبنكم، ولا يعرف البصريون الضم، وإنما يقولون: جرم لا غير. والشنآن البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها، يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا (1) راجع ج 2 ص 356 وما بعدها. (2) هو أبوخراش الهذلي يذكر عقابا شبه فرسه بها والناهض فرخ العقاب والنبق أرفع موضع في الجبل. (3) الودك: دسم اللحم. (4) عكل (بالضم): أبو قبيلة فيهم غباوة اسمه عوف بن عبد مناة حضنته أمة تدعى عكل فلقب بها. (القاموس). (5) راجع ج 10 ص 120. (*)
[ 46 ]
وشنآنا بجزم النون، كل ذلك إذا أبغضته، أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا، والمراد بغضكم قوما، فأضاف المصدر إلى المفعول. قال ابن زيد: لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون: نصدهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية، أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدوهم " أن صدوكم " أصحابهم، بفتح الهمزة مفعول من أجله، أي لان صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة " إن صدوكم " وهو أختيار أبي عبيد. وروى عن الاعمش " إن يصدوكم ". قال ابن عطية: فإن للجزاء، أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل. والقراءة الاولى أمكن في المعنى. وقال النحاس: وأما " إن صدوكم " بكسر " إن " فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لاشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية، وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده، كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل، وإن فتحت كان للماضي، فوجب على هذا ألا يجوز إلا " أن صدوكم ". وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا، لان قوله: " لا تحلوا شعائر الله " إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام، فوجب من هذا فتح " أن " لانه لما مضى. (أن تعتدوا) في موضع نصب، لانه مفعول به، أي لا يجر منكم شنآن قوم الاعتداء. وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد " شنآن " بإسكان النون، لان المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة، وخالفهما غيرهما وقال: ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) قال الاخفش: هو مقطوع من أول الكلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى، أي ليعن بعضكم بعضا، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى وأعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله). وقد قيل:
[ 47 ]
الدال على الشر كصانعه. ثم قيل: البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر. قال ابن عطية: وفي هذا تسامح ما، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز. وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له، لان في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته. وقال ابن خويزمنداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم (1)، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة (المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم). ويجب الاعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه. ثم نهى فقال. (ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) وهو الحكم اللاحق عن الجرائم (2)، وعن " العدوان " وهو ظلم الناس. ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: (واتقوا الله إن الله شديد العقاب). قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وإن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم (3) (1) في ز: فيعلمهم ويفتيهم. وفيها: كاليد الواحدة تتكافؤ دماءهم الخ. (2) تفسير (للاثم) كما في (ابن عطية). (*)
[ 48 ]
فيه ست وعشرون (1) مسألة: الاولى - قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) تقدم القول فيه في البقرة (2). الثانية - قوله تعالى: (والمنخنقة) هي التي تموت خنقا، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمى أو أتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه. وذكر قتادة: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها، وذكر نحوه ابن عباس. الثالثة - قوله تعالى: (والموقوذة) الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية، عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي، يقال منه: وقذه يقده وقذا وهو وقيذ. والوقذ شدة الضرب، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه. وقال الضحاك: كانوا يضربون الانعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها، ومنه المقتولة بقوس البندق. وقال الفرزدق: شغارة (3) تقذ الفصيل برجلها * فطارة لقوادم الابكار وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض (4) الصيد فأصيب، فقال: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله) وفي رواية (فإنه وقيذ). قال أبو عمر: اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما روى عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الاوزاعي في المعراض، كله خزق أو لم يخزق، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر (1) كذا في الاصول وهي سبع وعشرون. (2) راجع ج 2 ص 216 وما بعدها. (3) الشغارة: هي الناقة ترفع قوائهما لتضرب. الفطر: الحلب بالسبابة والوسطى ويستعين بطرف الابهام. وخلفا الضرع المقدمان: هما القادمان وجمعه القوادم. والابكار تحلب فطرا لانه لا يستمكن أن يحلبها ضبا لقصر الخلف لانها صغار. (4) المعراض: سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده. (5) خزق السهم: نفذ في الرمية والمعنى: نفذ وأسال الدم لانه ربما قتال بعرضه ولا يجوز. (*)
[ 49 ]
ومكحول لا يرون به بأسا، قال أبو عمر: هكذا ذكر الاوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه. والاصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه (وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ) الرابعة - قوله تعالى (والمتردية) المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت، كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها. وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الارض حرم أيضا، لانه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم، ومنه الحديث (وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) أخرجه مسلم. وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف، فأما هذه الاسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها، وبقيت هذه كلها ميتة، وهذا كله من المحكم المتفق عليه. وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والاكل. الخامسة - قوله تعالى: (والنطيحة) النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى. وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة، لان الشاتين قد تتناطحان فتموتان. وقيل: نطيحة ولم يقل نطيح، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال: كف خضيب ولحية دهين، لكن ذكر الهاء ههنا لان الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به، يقال: شاة نطيح وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول: رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم، لانك لو لم تذكر الهاء فقلت: رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة. وقرأ أبو ميسرة " والمنطوحة ". السادسة - قوله تعالى: (وما أكل السبع) يريد كل ما أفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالاسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها، هذه كلها سباع. يقال: سبع فلان فلانا أي عضه بسنه، وسبعه أي عابه ووقع فيه. وفي الكلام إضمار، أي وما أكل منه
[ 50 ]
السبع، لان ما أكله السبع فقد فنى. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الاسد، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حيوة " السبع " بسكون الباء، وهي لغة لاهل نجد. وقال حسان في عتبة بن أبي لهب: من يرجع العام إلى أهله * فما أكيل السبع بالراجع وقرأ ابن مسعود: " وأكيلة السبع " وقرأ عبد الله بن عباس: " وأكيل السبع ". السابعة - قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم) نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء. وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة، فإن الذكاة عاملة فيه، لان حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له. روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الاسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى أنتثر قصبها (1) فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال: كل وما أنتثر من قصبها فلا تأكل. قال إسحق بن راهويه: السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس، فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم، وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة، قال إسحق: ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء. قلت: وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك، وهو قول ابن وهب والاشهر من مذهب الشافعي. قال المزني: وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه، وهو قول المدنيين، والمشهور من قول مالك، وهو الذي ذكره عبد الوهاب في تلقينه، وروي عن زيد بن ثابت، ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب إسمعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين. والاستثناء على هذا القول منقطع، أي حرمت عليكم هذه الاشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم. قال ابن العربي: اختلف قول مالك (1) في ا: ثم انتثر. والقصب: المعى، والجمع أقصاب. (*)
[ 51 ]
في هذه الاشياء، فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة، والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب فليأكل، وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره، فهو أولى من الروايات النادرة. وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة، وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لو أتسق النظر، وسلمت من الشبهة الفكر !. وقال أبو عمرو: قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك، وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها، وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية. [ والله أعلم ] (1). الثامنة - قوله تعالى: " ذكيتم " الذكاة في كلام العرب الذبح، قاله قطرب. وقال ابن سيده في [ المحكم ] والعرب تقول (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، قال ابن عطية: وهذا إنما هو حديث. وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قول الشاعر: * يذكيها الاسل * قلت: الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). وبه يقول جماعة أهل العلم، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله، لان ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) دليل على أن الجنين غير الام، وهو يقول: لو أعتقت أمة حامل أن عتقه عتق أمه، وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه، لانه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين، على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن أصحابه، وما عليه جل الناس مستغنى به عن [ قول كل (3) قائل ]. وأجمع أهل العلم على (1) من ج وز وك. (2) الاسل هنا: الرماح والنبل. (3) من ك. (*)
[ 52 ]
أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له، واختلفوا إذا ذكيت الام وفي بطنها جنين، فقال مالك وجميع أصحابه: ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك، فإن سبقهم بنفسه أكل. وقال ابن القاسم: ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم، فأمرت أهلي أن يشووه. وقال عبد الله بن كعب بن مالك. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. قال ابن المنذر: وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد ابن المسيب والشافعي وأحمد وإسحق. قال القاضي أبو الوليد الباجي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر " إلا أنه حديث ضعيف، فمذهب مالك هو الصحيح من الاقوال الذي عليه عامة فقهاء الامصار. وبالله التوفيق. التاسعة - قوله تعالى: " ذكيتم " الذكاة في اللغة أصلها التمام، ومنه تمام السن. والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح (1) بسنة، وذلك تمام استكمال القوة. ويقال: ذكى يذكي، والعرب تقول: جري (2) المذكيات غلاب. والذكاء حدة القلب، وقال الشاعر: (3) يفضله إذا اجتهدوا عليه * تمام السن منه والذكاء والذكاء سرعة الفطنة، والفعل منه ذكي يذكى ذكا، والذكوة ما تذكو به النار، وأذكيت الحرب والنار أوقدتهما. وذكاء اسم الشمس، وذلك أنها تذكو كالنار، والصبح ابن ذكاء لانه من ضوئها. فمعنى " ذكيتم " أدركتم ذكاته على التمام. ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب، يقال: رائحة ذكية، فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب، لانه يتسارع إليه التجفيف، وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما " ذكاة الارض يبسها " يريد (1) قرح الفرس قروحا: إذا انتهت أسنانه، وإنما تنتهى في خمس سنين. (2) المعنى: جرى للسان القرح من الخيل أن تغالب الجرى غلابا. (3) هو زهير. (*)
[ 53 ]
طهارتها من النجاسة، فالذكاة في الذبيحة لها، وإباحة [ لاكلها فجعل يبس الارض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة ] (1) الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة وهو قول أهل العراق. وإذا تقرر هذا فأعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الاوداج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه، على ما يأتي بيانه. العاشرة - واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة، فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الاوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم، على هذا تواترت الآثار، وقال به فقهاء الامصار. والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين، لان ذلك يصير خنقا، وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق، فأما المنزوعان فإذا فريا الاوداج فجائز الذكاة بهما عندهم. وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال، منزوعة أو غير منزوعة، منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد، وروي عن الشافعي، وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فندكي بالليط ؟. وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الانصار عن معاذ ابن سعد أو سعد بن معاذ: أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع (2) فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (لا بأس بها وكلوها). وفي مصنف أبي داود: أنذبح بالمروة (3) وشقة (4) العصا ؟ قال: (أعجل وأرن (5) ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة) الحديث أخرجه مسلم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي. الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر. والشطير (1) من ج وز وك. (2) السلع: الشق في الجبل. (3) المروة: حجر أبيض براق يجعل منه كالسكين. (4) في ج وك وز: شعبة. (5) أرن: أعجل، قال النووي: أرن (بفتح الهمزة وكسر الراء وإسكان النون) وروى (باسكان الراء وكسر النون) وروى أرنى (باسكان الراء وزيادة ياء). وقال الخطابي: أرن على وزن أعجل وهو بمعناه، وهو من النشاط والخفة، أي أعجل ذبحها لئلا تموت حتفا. (*)
[ 54 ]
فلقة العود، وقد يمكن بها الذبح لان لها جانبا دقيقا. والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر، وعكسه الشظاظ (1) ينحر به، لانه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح. الحادية عشرة - قال مالك وجماعة: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمرئ ولا يحتاج إلى الودجين، لانهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت. ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الاوداج وهو مذهب أبي حنيفة، وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله: (ما أنهر الدم). وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والودجين والمرئ، وهو قول أبي ثور (2)، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث. ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ؟ على قولين. الثانية عشرة - وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة، واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها (3) إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين: وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل، وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل. وقال الشافعي: تؤكل، لان المقصود قد حصل. وهذا ينبني على أصل، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد، وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة (4) وقال: (إنما الذكاة في الحلق واللبة) فبين محلها وعين موضعها، وقال مبينا لفائدتها: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل). فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد، فلم تؤكل لذلك. والله أعلم. الثالثة عشرة - واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة، فقيل: يجزئه. وقيل: لا يجزئه، والاول أصح لانه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها. (1) الشظاظ: خشيبة محددة الطرف تدخل في عروتي الجوالقين لتجمع بينهما عند حملهما على البعير. (2) في ك: ابن أبي ثور. (3) في ج وك وز: حازها. (4) اللبة: اللهزمة التي فوق الصدر وفيها تنحر الابل. (*)
[ 55 ]
الرابعة عشرة - ويستحب إلا يذبح إلا من ترضى حاله، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي، ولا يذبح نسكا إلا مسلم، فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه، ولا يجوز في تحصيل المذهب، وقد أجازه أشهب. الخامسة عشرة - وما استوحش من الانسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الانسي، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد، وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة. وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم، وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم، وتمامه بعد قوله: (فمدى الحبشة) قال: وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه الابل أوابد (1) كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شئ فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه). وبه قال أبو حنيفة والشافعي، قال الشافعي: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة، وأحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي العشراء عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال: (لو طعنت في فخذها لاجزأ عنك). قال يزيد بن هارون: وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن (2) أبي داود، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه. قال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش. وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة، وهو قول أنفرد به عن مالك وأصحابه. قال أبو عمر: قول الشافعي أظهر في أهل العلم، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي، لحديث رافع بن خديج، وهو قول ابن عباس وابن مسعود، ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الانسي، لانه صار مقدورا عليه، فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي. (1) الاوابد (جمع آبدة): وهي التي قد توحشت ونفرت من الانسى. (2) في ز: رواه أبو داود. لكن في التهذيب: قال أبو داود سمعه منى أحمد بن حنبل. (*)
[ 56 ]
قلت: أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره، لقوله: (فحبسه) ولم يقل إن السهم قتله، وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الاحوال فلا يراعى النادر منه، وإنما يكون ذلك في الصيد. وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه، فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر. والله أعلم. وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي: " حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لابي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. واختلفوا في اسم أبي العشراء، فقال بعضهم: اسمه أسامة ابن قهطم، ويقال: اسمه يسار بن برز - ويقال: بلز - ويقال: اسمه عطارد نسب إلى جده ". فهذا سند مجهول لا حجة فيه، ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة، إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور، فظاهره ليس بمراد قطعا. وتأويل أبي داود وابن حبيب له غير متفق عليه، فلا يكون فيه حجة، والله أعلم. قال أبو عمر: وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم (1) يند الانسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا. وهذا لا حجة فيه، لان إجماعهم إنما أنعقد على مقدور عليه، وهذا غير مقدور عليه. السادسة عشرة - ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام: (إن الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم عن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب) فذكره. قال علماؤنا: إحسان الذبح في البهائم الرفق بها، فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الاباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة، والاجهاز (2)، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنة، والشكر له بالنعمة، بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء (1) كذا في الاصول. لعل أصل العبارة: لوند. الخ. (2) أجهزت على الجريح: إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه. (*)
[ 57 ]
لحرمه علينا. وقال ربيعة: من إحسان الذبح إلا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها، وحكي جوازه عن مالك، والاول أحسن. وأما حسن القتلة فعام في كل شئ من التذكية والقصاص والحدود وغيرها. وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، زاد ابن عيسى في حديثه (وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الاوداج ثم تترك فتموت). السابعة عشرة - قوله تعالى: (وما ذبح على النصب) قال ابن فارس: " النصب " حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، وهو النصب أيضا. والنصائب حجارة تنصب حوالى شفير البئر فتجعل عضائد، وغبار منتصب مرتفع. وقيل: " النصب " جمع، واحده نصاب كحمار وحمر. وقيل: هو اسم مفرد والجمع أنصاب، وكانت ثلاثمائة وستين حجرا. وقرأ طلحة " النصب " بجزم الصاد. وروي عن ابن عمر " النصب " بفتح النون وجزم الصاد. الجحدري: بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب، كالاجمال والاجبال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالى مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الاسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الافعال، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك، فأنزل الله تعالى: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " (1) [ الحج: 37 ] ونزلت " وما ذبح على النصب " المعنى: والنية فيها تعظيم النصب لا أن (2) الذبح عليها غير جائز، وقال الاعشى: وذا النصب (3) المنصوب لا تنسكنه * لعافية (4) والله ربك فاعبدا وقيل: " على " بمعنى اللام، أي لاجلها، قال قطرب قال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شئ واحد. قال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الامر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. (1) راجع ج 12 ص 65. (2) في ك وز: لان الذبح عليها غير جائز. (3) وذا النصب بمعنى إياك وذا النصب. (اللسان). (4) في ا وج: لعاقبة، وفي الديوان: بعاقبة. (*)
[ 58 ]
الثامنة عشرة - قوله تعالى: (وأن تستقسموا بالازلام) معطوف على ما قبله، و " أن " في محل رفع، أي وحرم عليكم الاستقسام. والازلام قداح الميسر، واحدها زلم وزلم، قال: * بات يقاسيها غلام كالزلم (1) * وقال آخر، فجمع: فلئن جذيمة قتلت سرواتها * فنساؤها يضربن بالازلام وذكر محمد بن جرير: أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الازلام حصى بيض كانوا يضربون بها. قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشطرنج. فأما قول لبيد: * تزل عن الثرى أزلامها (2) * فقالوا: أراد أظلاف البقرة الوحشية. والازلام العرب ثلاثة أنواع: منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها أفعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شئ عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شئ أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وأنتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شئ عليه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لانهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون، كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي. ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل نجم كذا. وقال جل وعز: " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " (3) الآية [ لقمان: 34 ]. وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله. والنوع الثاني - سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه العقل من أم الديات، وفي آخر " منكم " وفي آخر " من غيركم "، وفي آخر " ملصق " (4)، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك، (1) تقدم الكلام عليه في غير موضع، راجع قداح الميسر في ج 3 ص 58. (2) البيت بتمامه: حتى إذا حسر الظلام وأسفرت * بكرت تزل عن الثرى (أزلامها) (3) راجع ج 14 ص 82. (4) كان العرب إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه (منكم) كان منهم وسيطا، وإن خرج (من غيركم) كان حليفا، وإن خرج (ملصق) كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف. (سيرة ابن هشام). (*)
[ 59 ]
وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة، الخبر المشهور ذكره ابن إسحق. وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم، على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل. والنوع الثالث: هو قداح المسير وهي عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف (1). وقال مجاهد: الازلام هي كعاب (2) فارس والروم التي يتقامرون بها. وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا، وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الالعاب فهو استقسام بما هو في معنى الازلام حرام كله، وهو ضرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب. قال ابن خويز منداد: ولهذا نهى أصحابنا عن الامور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورقاع الفأل في أشباه ذلك. وقال الكيا الطبري: وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا، فليس للازلام في تعريف المغيبات أثر، فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الاقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الاخبار الصحيحة، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالازلام، فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الامور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شئ يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا، فظهر أفتراق البابين. التاسعة عشرة - وليس من هذا الباب طلب الفأل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح، أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح غريب، وإنما كان يعجبه الفأل لانه (1) في ك: لمتحرف. (2) كعاب (جمع كعب): وهو فص كفص النرد. (*)
[ 60 ]
تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الامل، فيحسن الظن بالله عزوجل، وقد قال: (أنا عند ظن عبدي بي). وكان عليه السلام يكره الطيرة، لانها من أعمال أهل الشرك، ولانها تجلب ظن السوء بالله عزوجل. قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شئ سواه. وقال الاصمعي: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم، أو يكون باغيا (1) فيسمع يا واجد، وهذا معنى حديث الترمذي، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طيرة وخيرها الفأل)، قيل: يا رسول الله وما الفأل ؟ قال: (الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم). وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى. روى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا، من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة. الموفية عشرين - قوله تعالى: (ذلك فسق) إشارة إلى الاستقسام بالازلام. والفسق الخروج، وقد تقدم (2). وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات، وكل شئ منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود، إذ قال: " أوفوا بالعقود " [ المائدة: 1 ]. الحادية والعشرون - قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا. قال الضحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، ويقال: سنة ثمان، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ". وفي " يئس " لغتان، يئس ييئس يأسا، وأيس يأيس (1) الباغى: الذى يطلب الشئ الضال. (2) راجع ج 1 ص 244 وما بعدها. (*)
[ 61 ]
إياسا وإياسة، قاله النضر بن شميل. (فلا تخشوهم واخشوني) أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج، فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم " الآية، على ما نبينه. روى الائمة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية ؟ قال: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " فقال عمر: إني لاعلم اليوم الذي أنزلت فيه [ والمكان الذي أنزلت فيه ] (1)، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة. لفظ مسلم. وعند النسائي ليلة جمعة. وروى أنها لما نزلت في يوم الحج الاكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك) ؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شئ إلا نقص. فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: (صدقت). وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة. قلت: القول الاول أصح، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء (1)، فكاد (2) عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت. و " اليوم " قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه، تقول: فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة، وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم. والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا، فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم، قاله ابن عباس والسدي. وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل (1) من ج وك وز. العضباء: اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. (2) في ز: كادت. وهي لغة تهامة. (*)
[ 62 ]
بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج، إذا لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة. وقيل: " أكملت لكم دينكم " بأن أهلكت [ لكم ] (1) عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول: قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: " وأتممت عليكم نعمتي " أي بإكمال الشرائع والاحكام وإظهار دين الاسلام كما وعدتكم، إذ قلت: ولاتم نعمتي عليكم " [ البقرة: 150 ] وهي دخول مكة آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى. الرابعة والعشرون - لعل قائلا يقول: قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الاوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والانصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص، ومعلوم أن النقص عيب، ودين الله تعالى قيم، كما قال تعالى: " دينا قيما " (2) [ الانعام: 161 ] فالجواب أن يقال له: لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له: أرأيت نقصان الشهر هل كون عيبا، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره " (3) [ فاطر: 11 ] أهو عيب له، ونقصان أيام الحيض عن المعهود، ونقصان أيام الحمل، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الاجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " يخرج على وجهين: أحدهما - أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد (1) من ك. (2) راجع ج 7 ص 153. (3) راجع ج 14 ص 332. (*)
[ 63 ]
فيقال [ له ] (1): إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه، كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره، ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر). ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال: كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه. وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل، ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا، هذا في شرائع الاسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده. والله أعلم. والوجه الآخر: أنه أراد بقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره، فحجوا، فاستجمع لهم الدين أداء لاركانه وقياما بفرائضه، فإنه يقول عليه السلام: (بني الاسلام على خمس) الحديث. وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " فإنما أراد أكمل وضعه لهم وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام. الخامسة والعشرون - قوله تعالى: " ورضيت لكم الاسلام دينا " أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا، فإنه تعالى لم يزل راضيا بالاسلام لنا دينا، فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره. و " دينا " نصب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان. وقيل: المعنى ورضيت عنكم إذا أنقدتم (2) لي بالدين الذي شرعته لكم. ويحتمل أن يريد " رضيت لكم الاسلام دينا " أي ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية (3) لا أنسخ منه شيئا. والله أعلم. و " الاسلام " في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى: (1) من ك. (2) في ك: أقررتم. (3) في كل الاصول: إلى آخر الآية. والصواب ما في البحر لابي حيان: إلى آخر الابد لا ينسخ منه شئ. (*)
[ 64 ]
" إن الدين عند الله الاسلام " [ آل عمران: 19 ] وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام، وهو الايمان والاعمال والشعب. السادسة والعشرون - قوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة) يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية. والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام. والخمص ضمور البطن. ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث، قال الاعشى: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم * وجاراتكم غرثى (1) يبتن خمائصا أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن. وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره: والبطن ذو عكن (2) خميص لين * والنحر تنفجه (3) بثدي مقعد وفي الحديث: (خماص البطون جفاف الظهور). الخماص جمع الخميص البطن، وهو الضامر. أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس، ومنه الحديث: (إن الطير تغدو خماصا وتروج بطانا). والخميصة أيضا ثوب، قال الاصمعي: الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سوداء، كانت من لباس الناس. وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة (4). السابعة والعشرن - قوله تعالى: (غير متجانف لاثم) أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى " غير باغ ولا عاد " [ البقرة: 173 ] وقد تقدم. والجنف الميل، والاثم الحرام، ومنه قول عمر (5) رضي الله عنه: ما تجانفنا فيه لاثم، أي ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه: وكل مائل فهو متجانف وجنف. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي " متجنف " دون ألف، وهو أبلغ في المعنى، لان شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه، وتفاعل إنما هو محاكاة الشئ (1) غرثى: جوعي. (2) العكن والاعكان: الاطواء في البطن من السمن. (3) نفج ثدى المرأة قميصها إذا رفعه. (4) راجع ج 2 ص 224 وما بعدها وص 231. (5) كان قد أفطر الناس في رمضان ثم ظهرت الشمس فقال: نقيضه ما تجانفنا.. الخ. (*)
[ 65 ]
والتقرب منه، ألا ترى أنك إذا قلت: تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل، وإذا قلت: تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون الرجل وتصون، وتعاقل وتعقل، فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده، قاله قتادة والشافعي. (فإن الله غفور رحيم) أي فإن الله له غفور رحيم فحذف، وأنشد سيبويه: (1) قد أصبحت أم الخيار تدعى * علي ذنبا كله لم أصنع أراد لم أصنعه فحذف. والله أعلم. قوله تعالى: يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (4) فيه ثمانى عشرة مسألة (2): الاولى - قوله تعالى: (يسألونك) الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية. الثانية - قوله تعالى: (ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) " ما " في موضع رفع بالابتداء، والخبر " أحل لهم " و " ذا " زائدة، وإن شئت كانت بمعنى الذي، ويكون الخبر " قل أحل لكم الطيبات " وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب. وقيل: ما التذه آكله وشاربه ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. وقيل: الطيبات الذبائح، لانها طابت بالتذكية. الثالثة - قوله تعالى: (وما علمتم) أي وصيد ما علمتم، ففي الكلام إضمار لا بد منه، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسئول عنه متنا ولا للمعلم من الجوارح المكلبين، (1) الرجز لابي النجم العجلي، وأم الخيار امرأته. (2) هكذا في الاصول، والمذكور تسع عشرة مسألة. (*)
[ 66 ]
وذلك ليس مذهبا لاحد، فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الاباحة بالمعلم، وسيأتي ما للعلماء في أكل الكلب في " الانعام " (1) إن شاء الله تعالى. وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الاباحة تتناول ما علمناه من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل، وهو الاكل من الجوارح أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير، وكان لعدي كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام، وكان أسماء أكلبه سلهب وغلاب والمختلس والمتناعس، قال السهيلي: وخامس أشك، قال فيه أخطب، أو قال فيه وثاب. الرابعة - أجمعت الامة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فينشلي إذا أشلي (2) ويجيب إذ دعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده، وأثر فيه بجرح أو تنييب، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف، فإن أنخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف. فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الامة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب. يقال: جرح فلان واجترح إذا اكتسب، ومنه الجارحة لانها يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات. وقال الاعشى: ذا جبار (3) منضجا ميسمه * يذكر الجارح ما كان اجترح وفي التنزيل " ويعلم ما جرحتم بالنهار (4) " [ الانعام: 60 ] وقال: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات (5) " [ الجاثية: 21 ]. الخامسة - قوله تعالى: (مكلبين) معنى " مكلبين " أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب. وقيل: معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، قال الرماني: وكلا (1) راجع ج 7 ص 115. (2) أشليت الكلب على الصيد دعوته فأرسلته، وقيل: أغريته. (3) الجبار: الهدر. الميسم: اسم لاثر الوسم وهو الكى والمعنى: أن من أهجوه يبقى هجوي له ظاهرا ولا يستطيع رفعه. والشطر الاول في الاصول (ذات جد منضج ميسمها)، والتصويب عن (الصبح المنير في شعر أبي بصير). (4) راجع ج 7 ص 5. (5) راجع ج 16 ص 165. (*)
[ 67 ]
القولين محتمل. وليس في " مكلبين " دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة، لانه بمنزلة قوله: " مؤمنين " وإن كان قد تمسك به من قصر الاباحة على الكلاب خاصة. روي عن ابن عمر فيما حكى ابن المنذر عنه قال: وأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال، وإلا فلا تطعمه. قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي يحل صيده قال: لا، إلا أن تدرك ذكاته. وقال الضحاك والسدي: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " هي الكلاب خاصة، فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي. وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال إسحق بن راهويه، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، أما من منع صيد الكلب الاسود فلقوله صلى الله عليه وسلم: (الكلب الاسود شيطان)، أخرجه مسلم. احتج الجمهور بعموم الآية، واحتجوا أيضا في جواز صيد البازي بما ذكر من سبب النزول، وبما خرجه الترمذي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: (ما أمسك عليك فكل). في إسناده مجالد ولا يعرف إلا من جهته وهو ضعيف. وبالمعنى وهو أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير، وهذا هو القياس في معنى الاصل، كقياس السيف على المدية والامة على العبد، وقد تقدم. السادسة - وإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا بد للصائد أن يقصد عند الارسال التذكية والاباحة، وهذا لا يختلف فيه، لقوله عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل) وهذا يقتضي النية والتسمية، فلو قصد مع ذلك اللهو فكرهه مالك وأجازه ابن عبد الحكم، وهو ظاهر قول الليث: ما رأيت حقا أشبه بباطل منه، يعني الصيد، فأما لو فعله بغير نية التذكية فهو حرام، لانه من باب الفساد وإتلاف حيوان لغير منفعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة. وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الارسال، لقوله: (وذكرت اسم الله) فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد، وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث. وذهبت جماعة
[ 68 ]
من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا، وحملوا الامر بالتسمية على الندب. وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال: لا تؤكل مع العمد وتؤكل مع السهو، وهو قول فقهاء الامصار، وأحد قولي الشافعي، وستأتي هذه المسألة في " الانعام " (1) إن شاء الله تعالى. ثم لابد أن يكون انبعاث الكلب بإرسال من يد الصائد بحيث يكون زمامه بيده. فيخلي عنه ويغريه عليه فينبعث، أو يكون الجارح ساكنا مع رؤيته الصيد فلا يتحرك له إلا بالاغراء من الصائد، فهذا بمنزلة ما زمامه بيده فأطلقه مغريا له على أحد القولين، فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولا إغراء فلا يجوز صيده ولا يحل أكله عند الجمهور ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، لانه إنما صاد لنفسه من غير إرسال وأمسك عليها، ولا صنع للصائد فيه، فلا ينسب إرساله إليه، لانه لا يصدق عليه قوله عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك المعلم). وقال عطاء بن أبي رباح والاوزاعي: يؤكل صيده إذا كان أخرجه للصيد. السابعة - قرأ الجمهور " علمتم " بفتح العين واللام. وابن عباس ومحمد بن الحنفية بضم العين وكسر اللام، أي من أمر الجوارح والصيد بها. والجوارح الكواسب، وسميت أعضاء الانسان جوارح لانها تكسب وتتصرف. وقيل: سميت جوارح لانها تجرح وتسيل الدم، فهو مأخوذ من الجراح، وهذا ضعيف، وأهل اللغة على خلافه، وحكاه ابن المنذر عن قوم. و " مكلبين " قراءة الجمهور بفتح الكاف وشد اللام، والمكلب معلم الكلاب ومضريها (2). ويقال لمن يعلم غير الكلب: مكلب، لانه يرد ذلك الحيوان كالكلب، حكاه بعضهم. ويقال للصائد: مكلب فعلى هذا معناه صائدين. وقيل: المكلب صاحب الكلاب، يقال: كلب فهو مكلب وكلاب. وقرأ الحسن " مكلبين " بسكون الكاف وتخفيف اللام، ومعناه أصحاب كلاب، يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته، وأكلب كثرت كلابه، وأنشد الاصمعي (3): وكل فتى وإن أمشى فأثرى * ستخلجه عن الدنيا منون (1) راجع ج 7 ص 75. (2) مولعها بالصيد. (3) البيت للنابغة. تخلجه تنتزعه (*)
[ 69 ]
الثامنة - قوله تعالى: (تعلمونهن مما علمكم الله) أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح، إذ هو جمع جارحة. ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما: أن يأتمر إذا أمر (1) وينزجر إذا زجر، لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش. واختلف فيما يصاد به من الطير، فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور. وذكر ابن حبيب أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت، فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت. وقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري، لان أكثر الحيوان بطبعه ينشلي (2). وقد شرط الشافعي وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه. وقال الشافعي: المعلم هو الذي إذا أشلاه صاحبه انشلى، وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه، فإذا فعل هذا مرارا وقال أهل العرف: صار معلما فهو المعلم. وعن الشافعي أيضا والكوفيين: إذا أشلي فانشلى وإذا أخذ حبس وفعل ذلك مرة بعد مرة أكل صيده في الثالثة. ومن العلماء من قال: يفعل ذلك ثلاث مرات ويؤكل صيده في الرابعة. ومنهم من قال: إذا فعل [ ذلك ] (3) مرة فهو معلم ويؤكل صيده في الثانية. التاسعة - قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) أي حبسن لكم. واختلف العلماء في تأويله، فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعي وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور والنعمان وأصحابه: المعنى ولم يأكل، فإن أكل لم يؤكل ما بقي، لانه أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه. والفهد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه. وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وسلمان الفارسي وأبو هريرة أيضا: المعنى وإن أكل، فإذا أكل الجارح كلبا كان أو فهدا أو طيرا أكل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلا بضعة، وهذا قول مالك وجميع أصحابه، وهو القول الثاني للشافعي، وهو القياس. وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما: حديث عدي في الكلب المعلم (وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه) أخرجه مسلم. الثاني - (1) في ك: إذا أرسل. (2) يغرى. (3) من ج وك. (*)
[ 70 ]
حديث أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك) أخرجه أبو داود، وروى عن عدي ولا يصح، والصحيح عنه حديث مسلم، ولما تعارضت الروايتان رام بعض أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع، وحديث الاباحة على الجواز، وقالوا: إن عديا كان موسعا عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالكف ورعا، وأبا ثعلبة كان محتاجا فأفتاه بالجواز، والله أعلم. وقد دل على صحة هذا التأويل قول عليه الصلاة والسلام في حديث عدي: (فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) هذا تأويل علمائنا. وقال أبو عمر في كتاب " الاستذكار ": وقد عارض حديث عدي هذا حديث أبي ثعلبة، والظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ له، فقوله: وإن أكل يا رسول الله ؟ قال: (وإن أكل). قلت: هذا فيه نظر، لان التاريخ مجهول، والجمع بين الحديثين أولى ما لم يعلم التاريخ، والله أعلم. وأما أصحاب الشافعي فقالوا: إن كان الاكل عن فرط جوع من الكلب أكل وإلا لم يؤكل، فإن ذلك من سوء تعليمه. وقد روي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب والفهد فمنعوه، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه، قال النخعي والثوري وأصحاب الرأي وحماد بن أبي سليمان، وحكي عن ابن عباس وقالوا: الكلب والفهد يمكن ضربه وزجره، والطير لا يمكن ذلك فيه، وحد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى فينشلي، لا يمكن فيه أكثر من ذلك، والضرب يؤذيه. العاشرة - والجمهور من العلماء عل أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل، قال عطاء: ليس شرب الدم بأكل، وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الاكل، وهي: الحادية عشرة - فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يختلف في هذا، لقوله عليه الصلاة والسلام:
[ 71 ]
(وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل - في رواية - فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره). فأما لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه. فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله، وكذلك لا يؤكل ما رمى بسهم فتردى من جبل أو غرق في ماء، لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي: (وإن رميت بسهمك فأذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك). وهذا نص. الثانية عشرة - لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع لم يؤكل، لانه مات خنقا فأشبه أن يذبح بسكين كالة فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه. ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل، وكان مقصرا في الذكاة، لانه قد صار مقدورا على ذبحه، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه. ولو أخذه ثم مات قبل أن يخرج السكين، أو تناولها وهي معه جاز أكله، ولو لم تكن السكين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل. وقال الشافعي: فيما نالته الجوارح ولم تدمه قولان أحدهما - إلا يؤكل حتى يجرح، لقوله تعالى: " من الجوارح " وهو قول ابن القاسم، والآخر - أنه حل وهو قول أشهب، قال أشهب: إن مات من صدمة الكلب أكل. الثالثة عشرة - قوله: (فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل) ونحوه في حديث أبي ثعلبة الذي خرجه أبو داود، غير أنه زاد (فكله بعد ثلاث ما لم ينتن) يعارضه قوله عليه السلام: (كل ما أصميت ودع ما أنميت). فالاصماء ما قتل مسرعا وأنت تراه، والانماء أن ترمي الصيد فيغيب عنك فيموت وأنت لا تراه، يقال: قد أنميت الرمية فنمت تنمي إذا غابت ثم ماتت قال امرؤ القيس: فهو لا تنمي رميته * ماله لا عد من نفره وقد اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال: يؤكل، وسواء قتله السهم أو الكلب. الثاني: لا يؤكل شئ من ذلك إذا غاب، لقوله: (كل ما أصميت ودع ما أنميت).
[ 72 ]
وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوام. الثالث: الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل، ووجهه أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يشكل، والجارح على جهات متعددة فيشكل، والثلاثة الاقوال لعلمائنا. وقال مالك في غير الموطأ: إذا بات الصيد ثم أصابه ميتا لم ينفذ البازي أو الكلب أو السهم مقاتله لم يأكله، قال أبو عمر: فهذا يدلك على أنه إذا بلغ مقاتله كان حلالا عنده أكله وإن بات، إلا أنه يكرهه إذا بات، لما جاء عن ابن عباس: " وإن غاب عنك ليلة فلا تأكل " ونحوه عن الثوري قال: إذا غاب عنك يوما كرهت أكله. وقال الشافعي: القياس ألا يأكله إذا غاب عنه مصرعه. وقال الاوزاعي: إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا من كلبه فليأكله، ونحوه قال أشهب وعبد الملك وأصبغ، قالوا: جائز أكل الصيد وإن بات إذا نفذت مقاتله، وقوله في الحديث: (ما لم ينتن) تعليل، لانه إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجها الطباع فيكره أكلها، فلو أكلها لجاز، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم الاهالة (1) السنخة وهي المنتنة. وقيل: هو معلل بما يخاف منه الضرر على آكله، وعلى هذا التعليل يكون أكله محرما إن كان الخوف محققا، والله أعلم. الرابعة عشرة - واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهودي والنصراني إذا كان معلما، فكرهه الحسن البصري، وأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر ابن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحق، وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصائد مسلما، قالوا: وذلك مثل شفرته. وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الامة على جواز صيده غير مالك، وفرق بين ذلك وبين ذبيحته، وتلا: " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " (2) [ المائدة: 94 ]، قال: فلم يذكر الله في هذا اليهود ولا النصارى. وقال ابن وهب وأشهب: صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبحه، وهم قوم بين اليهود والنصارى (1) روى أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام فقدم إليه إهالة سنخة وخبز شعير. الاهالة: الدسم ما كان، والسنخة المتغيرة الريح. (2) راجع ص 299 من هذا الجزء. (*)
[ 73 ]
ولا دين لهم. وأما إن كان الصائد مجوسا فمنع من أكله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور الناس. وقال أبو ثور فيها قولان: أحدهما - كقول هؤلاء، والآخر: أن المجوس من أهل الكتاب وأن صيدهم جائز. ولو أصطاد السكران أو ذبح لم يؤكل صيده ولا ذبيحته، لان الذكاة تحتاج إلى قصد، والسكران لا قصد له. الخامسة عشرة: واختلف النحاة في " من " في قوله تعالى: " مما أمسكن عليكم " فقال الاخفش: هي زائدة كقوله: " كلوا من ثمره " (1) [ الانعام: 141 ]. وخطأه البصريون وقالوا: " من " لا تزاد في الاثبات وإنما تزاد في النفي والاستفهام، وقوله: " من ثمره "، " يكفر عنكم من سيئاتكم " (2) [ البقرة: 271 ] و " يغفر لكم من ذنوبكم (3) " [ الاحقاف: 31 ] للتبعيض، أجاب فقال: قد قال: " يغفر لكم ذنوبكم (3) " [ نوح: 4 ] بإسقاط " من " فدل على زيادتها في الايجاب، أجيب بأن " من " ههنا للتبعيض، لانه إنما يحل من الصيد اللحم دون الفرث والدم. قلت: هذا ليس بمراد ولا معهود في الاكل فيعكر على ما قال. ويحتمل أن يريد " مما أمسكن " أي مما أبقته الجوارح لكم، وهذا على قول من قال: لو أكل الكلب الفريسة لم يضر وبسبب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل الجارح منه على ما تقدم. السادسة عشرة: ودلت الآية على جواز أتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة وزادت الحرث والماشية، وقد كان أول الاسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية (4) من البادية يتبعها، روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أقتني كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان). وروي أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط). قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة، كان صاحب زرع، فقد دلت السنة على ما ذكرنا، وجعل النقص من أجر من أقتناها على غير ذلك من المنفعة، إما لترويع الكلب المسلمين (1) راجع ج 7 ص 99. (2) راجع ج 3 ص 332. (3) راجع ج 18 ص 299 وص 86. (4) المرية: هي مصغر المرأة، والاصل المريئة. (*)
[ 74 ]
وتشويشه عليهم بنباحه - كما قال بعض شعراء البصرة، وقد نزل بعمار فسمع لكلابه نباحا فأنشأ يقول: نزلنا بعمار (1) فأشلى كلابه * علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل فقلت لاصحابي أسر إليهم * إذا اليوم أم يوم القيامة أطول - أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه، والله أعلم. وقال في إحدى الروايتين: (قيراطان) وفي الاخرى (قيراط) وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، كالاسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال: (عليكم بالاسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان) أخرجه مسلم. ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان، وبغيرهما قيراط، والله أعلم. وأما المباح أتخاذه فلا ينقص أجر متخذه كالفرس والهر، ويجوز بيعه وشراؤه، حتى قال سحنون: ويحج بثمنه. وكلب الماشية المباح أتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك أتخاذها لسراق الماشية والزرع والدار في البادية. السابعة عشرة - وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل، لان الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالانسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيما إذا عمل بما علم، وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لكل شئ قيمة وقيمة المرء ما يحسنه. الثامنة عشرة - قوله تعالى: (واذكروا اسم الله عليه) أمر بالتسمية، قيل: عند الارسال على الصيد، وفقه الصيد والذبح في [ معنى ] (2) التسمية واحد، يأتي بيانه في " الانعام " (3). وقيل: المراد بالتسمية هنا التسمية عند الاكل، وهو الاظهر. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله (1) البيت لزيادة الاعجم. وعمار اسم شخص، وروى في (اللسان): اتينا أبا عمرو... الخ. (2) من ج وك وز. (3) راجع ج 7 ص 75. (*)
[ 75 ]
عليه وسلم قال لعمر بن أبي سلمة: (يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك). وروي من حديث حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليستحل الطعام إلا يذكر اسم الله عليه) الحديث. فإن نسي التسمية أول الاكل فليسم آخره، وروى النسائي عن أمية ابن مخشي - وكان من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل ولم يسم الله، فلما كان في آخر لقمة قال: بسم الله أوله وآخره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى قاء ما أكله). التاسعة عشرة - قوله تعالى: (واتقوا الله) أمر بالتقوى على الجملة، والاشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الاوامر. وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شئ علما وأحصى كل شئ عددا، فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب، ولهذا قال: " وكفى بنا حاسبين " (1) [ الانبياء: 47 ] فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة. ويحتمل أن يكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال: إن حساب الله لكم سريع إتيانه، إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة، فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتقوا الله. قوله تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات) أي " اليوم أكملت لكم دينكم " و " اليوم أحل لكم الطيبات " فأعاد تأكيدا أي أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها، وكانت (1) راجع ج 11 ص 293. (*)
[ 76 ]
الطيبات أبيحت للمسلمين قبل نزول هذه الآية، فهذا جواب سؤالهم إذ قالوا: ماذا أحل لنا ؟. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم كما يقال: هذه أيام فلان، أي هذا أوان ظهوركم وشيوع الاسلام، فقد أكملت بهذا دينكم، وأحللت لكم الطيبات. وقد تقدم ذكر الطيبات في الآية قبل هذا. الثانية - قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) ابتداء وخبر. والطعام اسم لما يؤكل والذبائح منه، وهو هنا خاص بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل. وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب، قال ابن عباس قال الله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " (1) [ الانعام: 121 ]، ثم استثنى فقال: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " يعني ذبيحة اليهودي والنصراني، وإن كان النصراني يقول عند الذبح: باسم المسيح واليهودي يقول: باسم عزير، وذلك لانهم يذبحون على الملة. وقال عطاء: كل من ذبيحة النصراني وإن قال باسم المسيح، لان الله عزوجل قد أباح ذبائحهم، وقد علم ما يقولون. وقال القاسم بن مخيمرة: كل من ذبيحته وإن قال باسم سرجس (2) - اسم كنيسة لهم - وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول، وروي عن صحابيين: عن أبي الدرداء وعبادة ابن الصامت. وقالت طائفة: إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عزوجل فلا تأكل، وقال بهذا من الصحابة علي وعائشة وابن عمر، وهو قول طاوس والحسن متمسكين بقوله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق " [ الانعام: 121 ]. وقال مالك: أكره ذلك، ولم يحرمه. قلت: العجب من الكيا الطبري الذي حكى الاتفاق على جواز ذبيحة أهل الكتاب، ثم أخذ يستدل بذلك على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط فقال: ولا شك أنهم لا يسمون على الذبيحة إلا الاله الذي ليس معبودا حقيقة مثل المسيح وعزير، ولو سموا الاله حقيقة لم تكن تسميتهم على طريق العبادة، وإنما كان على طريق آخر، واشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل، ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة، إذا لم تتصور منه العبادة، ولان النصراني إنما يذبح على اسم المسيح، وقد حكم الله بحل ذبائحهم مطلقا، وفي ذلك دليل على أن (1) راجع ج 7 ص 74. (2) ولعل الصواب: جرجس. (*)
[ 77 ]
التسمية لا تشترط أصلا كما يقول الشافعي، وسيأتي ما في هذا للعلماء في " الانعام " (1) إن شاء الله تعالى. الثالثة - ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبر جائز أكله، إذ لا يضر فيه تملك أحد. والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين: أحدهما - ما فيه محاولة صنعة لا تعلق للدين بها، كخبز الدقيق، وعصر الزيت ونحوه، فهذا إن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز. والضرب الثاني - هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج إلى الدين والنية، فلما كان القياس إلا تجوز ذبائحهم - كما نقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة - رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الامة، وأخرجها النص عن القياس على ما ذكرناه من قول ابن عباس، والله أعلم. الرابعة - واختلف العلماء أيضا فيما ذكوه هل تعمل الذكاة فيما حرم عليهم أولا ؟ على قولين، فالجمهور على أنها عاملة في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه، لانه مذكى. وقالت جماعة من أهل العلم: إنما حل لنا من ذبيحتهم ما حل لهم، لان ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم، فمنعت هذه الطائفة الطريف (2)، والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب، وقصرت لفظ الطعام على البعض، وحملته الاولى على العموم في جميع ما يؤكل. وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك. قال أبو عمر: وكره مالك شحوم اليهود وأكل ما نحروا من الابل، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا، وسيأتي هذا في " الانعام " (3) إن شاء الله تعالى، وكان مالك رحمه الله يكره ما ذبحوه إذا وجد ما ذبحه المسلم، وكره أن يكون لهم أسواق يبيعون فيها ما يذبحون، وهذا منه رحمه الله تنزه. الخامسة - وأما المجوس فالعلماء مجمعون - إلا من شذ منهم - على أن ذبائحهم لا تؤكل ولا يتزوج منهم، لانهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء. ولا بأس بأكل (1) ج 7 ص 75 و (2) كلمة عبرية، في الخرشى على (مختصر خليل) (الطريقة): هي أن توجد الذبيحة فاسدة الرئة أي ملتصقة بظهر الحيوان، وإنما كانت الطريقة عندهم محرمة لان ذلك علامة على أنها لا تعيش من ذلك فلا تعمل فيها الذكاة عندهم بمنزلة منفوذة المقاتل عندنا. (3) ج 7 ص 124. (*)
[ 78 ]
طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الاوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة، إلا الجبن، لما فيه من إنفحة (1) الميتة. فإن كان أبو الصبي مجوسيا وأمه كتابية فحكمه حكم أبيه عند مالك، وعند غيره لا تؤكل ذبيحة الصبي إذا كان أحد أبويه ممن لا تؤكل ذبيحته. السادسة - وأما ذبيحة نصارى بني تغلب وذبائح كل دخيل في اليهودية والنصرانية فكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب، لانهم عرب، ويقول: إنهم لم يتمسكوا بشئ من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهو قول الشافعي، وعلى هذا فليس ينهى عن ذبائح النصارى المحققين منهم. وقال جمهور الامة: إن ذبيحة كل نصراني حلال، سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهودي. واحتج ابن عباس بقوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " (2) [ المائدة: 51 ]، فلو لم تكن بنو تغلب من النصارى إلا بتوليهم إياهم لاكلت ذبائحهم. السابعة - ولا بأس بالاكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى، لانهم لا يتوقون النجاسات ويأكلون الميتات، فإذا طبخوا في تلك القدور تنجست، وربما سرت النجاسات في أجزاء قدور الفخار، فإذا طبخ فيها بعد ذلك توقع مخالطة تلك الاجزاء النجسة للمطبوخ في القدر ثانية، فاقتضى الورع الكف عنها. وروي عن ابن عباس أنه قال: إن كان الاناء من نحاس أو حديد غسل، وإن كان من فخار أغلي فيه الماء ثم غسل - هذا إذا احتيج إليه - وقاله مالك، فأما ما يستعملونه لغير الطبخ فلا بأس باستعماله من غير غسل، لما روى الدارقطني عن عمر أنه توضأ من بيت نصراني في حق نصرانية (3)، وهو صحيح وسيأتي في " الفرقان (4) " بكماله. وفي صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة ؟ ؟ الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل كتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك ؟ قال: (أما ما ذكرت (1) الانفحة (بكسر الهمزة وفتح الفاء): كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش، يستخرج منه شئ لونه أصفر يوضع على اللبن فيتجبن. (2) راجع ص 216 من هذا الجزء. (3) الحق والحقة (بالضم): وعاء من خشب أو عاج. (4) راجع ج 13 ص 44. (*)
[ 79 ]
أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها) ثم ذكر الحديث. الثامنة - قوله تعالى: (وطعامكم حل لهم) دليل على أنهم مخاطبون بتفاصيل شرعنا، أي إذا اشتروا منا اللحم يحل لهم اللحم ويحل لنا الثمن المأخوذ منهم. التاسعة - قوله تعالى: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) الآية. قد تقدم معناها في " البقرة " (1) و " النساء " (2) والحمد لله. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ". هو على العهد دون دار الحرب فيكون خاصا. وقال غيره: يجوز نكاح الذمية والحربية لعموم الآية. وروي عن ابن عباس أنه قال: " المحصنات " العفيفات العاقلات. وقال الشعبي: هو أن تحصن فرجها فلا تزني، وتغتسل من الجنابة. وقرأ الشعبي " والمحصنات " بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقال مجاهد: " المحصنات " الحرائر، قال أبو عبيد: يذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب، لقوله تعالى: " فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " (2) [ النساء: 25 ] وهذا القول الذي عليه جلة العلماء. العاشرة - قوله تعالى: (ومن يكفر بالايمان) قيل: لما قال تعالى: " المحصنات من الذين أوتوا الكتاب " قال نساء أهل الكتاب: لولا أن الله تعالى رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا، فنزلت " ومن يكفر الايمان " أي بما أنزل على محمد. وقال أبو الهيثم: الباء صلة، أي ومن يكفر الايمان أي يجحده (فقد حبط عمله). وقرأ ابن السميقع " فقد حبط " بفتح الباء. وقيل: لما ذكرت فرائض وأحكام يلزم القيام بها، ذكر الوعيد على مخالفتها، لما في ذلك من تأكيد الزجر عن تضييعها. وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى: ومن يكفر بالله، قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الايمان. وقال الشيخ أبو الحسن الاشعري: ولا يجوز أن يسمى الله إيمانا خلافا للحشوية والسالمية، لان (1) راجع ج 3 ص 69 وما بعدها. (2) راجع ج 5 ص 120. (*)
[ 80 ]
الايمان مصدر آمن يؤمن إيمانا، واسم الفاعل منه مؤمن، والايمان التصديق، والتصديق لا يكون إلا كلاما، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاما (1). قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6) فيه اثنتان وثلاثون مسألة: الاولى - ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع، وهي آية الوضوء. قال ابن عطية: لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا، فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم. وقد ذكرنا في آية " النساء " (2) خلاف هذا، والله أعلم. ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة، فإن هذه الرخصة من إتمام النعم. الثانية - واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله: " إذا قمتم إلى الصلاة " على أقوال، فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة سواء كان القائم متطهرا أو محدثا، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وكان علي يفعله ويتلو هذه الآية، ذكره أبو محمد الدارمي (3) في مسنده. وروي مثله عن عكرمة. وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة. (1) في نسخة ز ما نصه: [ وجد في ورقة بخط المصنف من ههنا إلى آخر الصفحة: قوله تعالى (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله). العلماء أي أجر عمله وثوابه لان الكفر وإن وقع والعياذ بالله منه وأحبط ما تقدم من إيمانه ينقلب الوجود منه معدوما من أصله وإنما يحبط أجره ويبطل ثوابه وفي إجماع المسلمين على إثبات الردة ما دل على ثبوت الايمان قبله فبان بهذا أن الكفر إذا طرأ على الايمان قطعه من حيث وجد إلى أن مضى. حبط أجره لا أن عينه تحبط فيصير كأن لم يكن وينقلب الموجود منه حقيقة معدودا وهذا واضح والله أعلم ] (2) راجع ج 5 ص 214. (3) الدارمي (بكسر الراء): نسبه إلى دارم، بطن من تميم. (*)
[ 81 ]
قلت: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها. وقالت طائفة: الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل (1): إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه، فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك، فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو للقيام إلى الصلاة فقط دون سائر الاعمال. وقالت طائفة: المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل، وحملوا الامر على الندب، وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضئون لكل صلاة طلبا للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد، إرادة البيان لامته صلى الله عليه وسلم. قلت: وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك، فإن الامر إذا ورد، مقتضاه الوجوب، لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم، على ما هو معروف من سيرتهم. وقال آخرون: إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة، وهذا غلط لحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، وأن أمته كانت على خلاف ذلك، وسيأتي، ولحديث سويد ابن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء (2) العصر والمغرب بوضوء واحد، وذلك في غزوة خيبر، وهي سنة ست، وقيل: سنة سبع، وفتح مكة كان في سنة ثمان، وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه، وأخرجه البخاري ومسلم، فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة. فإن قيل: فقد روى مسلم عن بريدة بن الحصيب (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر رضي الله عنه: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن (1) كذا في الاصول. والغسيل هو حنظلة رضى الله عنه نفر حين سمع الهائعة وهو جنب فاستشهد فغسلته الملائكة. (2) الصهباء: موقع قرب خيبر. (3) في أسد الغابة: الحصيب بضم المهملة وفتح الصاد. (*)
[ 82 ]
تصنعه، فقال: (عمدا صنعته يا عمر). فلم سأله عمر واستفهمه ؟ قيل له: إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر، والله أعلم. وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر، قال حميد: قلت لانس: وكيف كنتم تصنعون أنتم ؟ قال: كنا نتوضأ وضوءا واحدا، قال: حديث حسن صحيح، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الوضوء على الوضوء نور) فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة، وقد سلم عليه وجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال: (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر) رواه الدارقطني. وقال السدي وزيد بن أسلم: معنى الآية " إذا قمتم إلى الصلاة " يريد من المضاجع يعني النوم، والقصد بهذا التأويل أن يعم الاحداث بالذكر، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا ؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير، التقدير: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - يعنى الملامسة الصغرى - فاغسلوا، فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر. ثم قال: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " فهذا حكم نوع آخر، ثم قال للنوعين جميعا: " وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " [ النساء: 43 ]. وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره. وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله: فاطهروا " ودخلت الملامسة الصغرى في قوله " محدثين ". ثم ذكر بعد قوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " حكم عادم الماء من النوعين جميعا، وكانت الملامسة هي الجماع، ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما ذكر الواجد، وهذا تأويل الشافعي وغيره، وعليه تجئ أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى الاشعري [ وغيرهم ] (1). قلت: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية، والله أعلم. ومعنى " إذا قمتم " إذا أردتم، كما قال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ " (2) [ النحل: 98 ]، أي إذا أردت، لان الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن. (1) من ج وك وز. (2) راجع ج 10 ص 174. (*)
[ 83 ]
الثالثة - قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) [ ذكر تعالى أربعة أعضاء: الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن. والله [ أعلم ] (1) ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه، وإمرار اليد عليه، وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بيناه في " النساء " (2). وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده، ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال: غسل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم، فإذا حصل كفى. والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض، فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، ومن الاذن إلى الاذن في العرض، وهذا في الامرد، وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفا أو كثيفا، فإن كان الاول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس، ثم ما زاد على الذقن من الشعر واسترسل من اللحية، فقال سحنون عن ابن القاسم: سمعت مالكا سئل: هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء ؟ قال: نعم، وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله. وذكر ابن القاسم أيضا عن مالك قال: يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها، قال: وهي مثل أصابع الرجلين. قال ابن عبد الحكم: تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة. وذكر ابن خويزمنداد: أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، إلا شئ روى عن سعيد بن جبير، قوله: ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها، وما بال الامرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية ؟ قال الطحاوي: التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم. فكذلك الوضوء. قال أبو عمر: من جعل غسل اللحية كلها واجبا جعلها وجها، لان الوجه مأخوذ من المواجهة، والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد، فوجب غسلها بظاهر القرآن لانها بدل من البشرة. (1) هذه الزيادة من ك وز. (2) راجع ج 5 ص 209 وما بعدها. (*)
[ 84 ]
قلت: واختار هذا القول ابن العربي وقال: وبه أقول، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته، خرجه الترمذي وغيره، فعين المحتمل بالفعل. وحكى ابن المنذر عن إسحق أن من ترك تخليل لحيته عامدا أعاد. وروى الترمذي عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، قال: هذا حديث حسن صحيح، قال أبو عمر: ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الاصل المأمور بغسله البشرة، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله، فيكون غسل اللحية بدلا منه. واختلفوا أيضا في غسل ما وراء العذار إلى الاذن، فروى ابن وهب عن مالك قال: ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من فقهاء الامصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: البياض بين العذار والاذن من الوجه. وغسله واجب، ونحوه قال الشافعي وأحمد. وقيل: يغسل البياض استحبابا، قال ابن العربي: والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا للامرد لا للمعذر (1). قلت: وهو اختيار القاضي عبد الوهاب، وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا ؟ والله أعلم. وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الامر بغسل الوجه باطن الانف والفم أم لا ؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل، إلا أن أحمد قال: يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة. وقال عامة الفقهاء: هما سنتان في الوضوء والغسل، لان الامر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون، ولا اتفق الجميع عليه، والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه. وقد مضى هذا المعنى في " النساء " (2). وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله، إلا ما روى عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه، وإنما سقط غسلهما للتأذي (1) عذر الغلام: نبت شعر عذاره. (2) راجع ج 5 ص 212 وما بعدها. (*)
[ 85 ]
بذلك والحرج به، قال ابن العربي: ولذلك كان عبد الله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك، وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر، وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو: " أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله " والله أعلم. الرابعة - وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية، لقوله عليه السلام: (إنما الاعمال بالنيات). قال البخاري: فدخل فيه الايمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والاحكام، وقال الله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته " (1) [ الاسراء: 84 ]، يعني على نيته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن جهاد ونية). وقال كثير من الشافعية: لا حاجة إلى نية، وهو قول الحنفية، قالوا: لا تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لاعيانها ولم تجعل سببا لغيرها، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الامر إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط، فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء. احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل، أن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به، فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما، قصد أداء الواجب، وصح في الحديث أن الوضوء يكفر، فلو صح بغير نية لما كفر. وقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " (2) [ البينة: 5 ]. الخامسة - قال ابن العربي قال بعض علمائنا: إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه، وإن عزبت نيته في الطريق [ ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق ] (3) بطلت النية. قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال: (1) راجع ج 10 ص 321. (2) راجع ج 20 ص 144. (3) من ج وى وز. (*)
[ 86 ]
يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير، ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها !، اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء، وقد اختلف فيها قول مالك، فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الائمة فيها، وهي أصل مقصود، فكيف يحمل الاصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه ! هل هذا إلا غاية الغباوة ؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لما كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه. السادسة - قوله تعالى: " وأيديكم إلى المرافق " واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد، فقال قوم: نعم، لان ما بعد " إلى " إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه، قاله سيبويه وغيره، وقد مضى هذا في " البقرة " (1) مبينا. وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل، والروايتان مرويتان عن مالك، الثانية لاشهب، والاولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح، لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وقد قال بعضهم: إن " إلى " بمعنى مع، كقولهم: الذود إلى الذود إبل (2)، أي مع الذود، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في " النساء " (3)، ولان اليد عند العرب تقع على أطراف الاصابع إلى الكتف، وكذلك الرجل تقع على الاصابع إلى أصل الفخذ، فالمرفق داخل تحت اسم اليد، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد، فلما قال: " إلى " اقتطع من حد المرافق عن الغسل، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الاصول لغة ومعنى، قال ابن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال: إن قوله " إلى المرافق " حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيه، ولذلك تدخل المرافق في الغسل. قلت: وما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن (1) راجع ج 2 ص 327. (2) هذا مثل معناه: القليل يضم إلى القليل فيصير كثيرا. والذود القطيع من الابل الثلاث إلى التسع: وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، وقيل: من ثلاث إلى خمس عشرة، وقيل غير ذلك. (3) راجع ج 5 ص 10. (*)
[ 87 ]
حيث يبلغ الوضوء). قال القاضي عياض: والناس مجمعون على خلاف هذا، وألا يتعدى بالوضوء حدوده، لقوله عليه السلام: (فمن زاد فقد تعدى وظلم). وقال غيره: كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به، ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام: (أنتم الغر (1) المحجلون) ومن قوله: (تبلغ الحلية) كما ذكر. السابعة - قوله تعالى: " وامسحوا برءوسكم " تقدم في " النساء " (2) أن المسح لفظ مشترك. وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله عزوجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والانف والفم، وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه، فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال: أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه ؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الاذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري حيث قال: هما من الوجه يغسلان معه، وخلافا للشعبي، حيث قال: ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس، وهو قول الحسن وإسحق، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي، وسيأتي بيان حجتهما، وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس الجبل، وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر: إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري * وغودر عند الملتقى ثم سائري الثامنة - واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا، ثلاثة لابي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا، والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه. وأجمع العلماء على أن من مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه، والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض: والمعنى وامسحوا رءوسكم. وقيل: دخولها حسن كدخولها في التيمم (1) الغر (جمع الاغر) من الغرة، بياض الوجه: يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة. (2) راجع ج 5 ص 238 وما بعدها. (*)
[ 88 ]
في قوله: " فامسحوا بوجوهكم " فلو كان معناها التبعيض لافادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع. وقيل: إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: وامسحوا رءوسكم لاجزأ المسح باليد إمرارا من غير شئ على الرأس، فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء، فكأنه قال: وامسحوا برءوسكم الماء، وذلك فصيح في اللغة على وجهين، إما على القلب كما أنشد سيبويه: كنواح ريش حمامة بخدية * ومسحت باللثتين عصف الاثمد واللثة هي الممسوحة بعصف الاثمد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر: (2) مثل القنافذ هداجون قد بلغت * نجران أو بلغت سوأتهم هجر فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء. وقال الشافعي: احتمل قول الله تعالى: " وامسحوا برءوسكم " بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عزوجل: " فامسحوا بوجوهكم " في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه ؟ قيل له: مسح الوجه في التيمم بدل من غسله، فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل، فهذا فرق ما بينهما. أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الاعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لاجل المشقات والاخطار، ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة، أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة، فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة، والله أعلم. (1) البيت لخفاف بن ندبة السلمى، وصف فيه شفتي المرأة، فشبههما بنواحي ريش الحمامة في الرقة واللطافة. الاستدارة، وأراد لثاتها تضرب إلى السمرة كأنها مسحت بالاثمد وعصف الاثمد ما سحق منه. (2) البيت للاخطل يهجو جريرا، والقنافذ جمع قنفذ وهو حيوان معروف يضرب به المثل في سرى الليل. والهداج المرتعش في مشيه والمعنى: أن رهط جرير كالقنافذ لمشيهم في الليل للسرقة والفجور. (*)
[ 89 ]
التاسعة - وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ. وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثا، وروى عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء. وكان ابن سيرين يمسح مرتين. قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، قالوا فيها: ومسح برأسه ولم يذكروا عددا. العاشرة - واختلفوا من أين يبدأ بمسحه، فقال مالك: يبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى مقدمه، على حديث عبد الله بن زيد أخرجه مسلم، وبه يقول الشافعي وابن حنبل. وكان الحسن بن حي يقول: يبدأ بمؤخر الرأس، على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء، وهو حديث يختلف في ألفاظه، وهو يدور على عبد الله بن محمد ابن عقيل وليس بالحافظ عندهم، أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبد الله عن الربيع، وروي ابن عجلان عنه عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته، ورويت هذه الصفة (1) عن ابن عمر، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه. وأصح ما في هذا الباب حديث عبد الله ابن زيد، وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس. وروي عن إبراهيم والشعبي [ أنهما ] (2) قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك. ومسح عمر اليافوخ فقط. والاجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا، وعلى الاجزاء إن مسح بيد واحدة. واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس، فالمشهور أن ذلك يجزئ، وهو قول سفيان الثوري، قال سفيان: إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه. وقيل: إن ذلك لا يجزئ، لانه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يختلف في الاجزاء. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع، واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الاجماع على أن المسحة الاولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة. وقيل: هو فرض. (1) في ا: القصة. (2) من ك. (*)
[ 90 ]
الحادية عشرة - فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي: لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه، إلا ما أخبرنا الامام فخر الاسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس ابن القاص من أصحابهم قال: لا يجزئه، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من أتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله: " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا " (1) [ الروم: 7 ] وقال تعالى: " أم بظاهر من القول " (2) [ الرعد: 33 ] وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أمر وزيادة. فإن قيل: هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به، قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل، وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح. الثانية عشرة - وأما الاذنان فهما الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم، ثم اختلفوا في تجديد الماء، فقال مالك وأحمد: يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس، على ما فعل ابن عمر، وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء، وقال: هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس، لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج، وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي. وقال الثوري وأبو حنيفة: يمسحان مع الرأس بماء واحد، وروى عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة والتابعين. وقال داود: إن مسح أذنيه فحسن، وإلا فلا شئ عليه، إذ ليستا مذكورتين في القرآن. قيل له: اسم الرأس تضمنهما كما بيناه. وقد جاءت الاحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صماخيه، وإنما يدل عدم ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين، وثبتت سنة مسحهما بالسنة. وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال: إن ترك مسح أذنيه لم يجزه. وقال أحمد: إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد. وروي عن علي ابن زياد من أصحاب مالك أنه قال: من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد، وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر، ولو كان كذلك لم يعرف (1) راجع ج 14 ص 7. (2) راجع ج 9 ص 321. (*)
[ 91 ]
الفرض الواجب من غيره، والله أعلم. احتج من قال: هما من الوجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره) فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه. وفى مصنف أبي داود من حديث عثمان: فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثم قال: أين السائلون عن الوضوء ؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. احتج من قال: يغسل ظاهرهما مع الوجه، وباطنها يمسح مع الرأس بأن الله عزوجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس، فما واجهك من الاذنين وجب غسله، لانه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لانه من الرأس، وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم. احتج من قال: هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي: (فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج أذنيه) الحديث أخرجه مالك. الثالثة عشرة - قوله تعالى: " وأرجلكم " قرأ نافع وابن عامر والكسائي " وأرجلكم " بالنصب، وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ " وأرجلكم " بالرفع وهي قراءة الحسن والاعمش سليمان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة " وأرجلكم " بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون، فمن قرأ بالنصب جعل العامل " اغسلوا " وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، واللازم من قوله في غير ما حديث، وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته (ويل للاعقاب من النار أسبغوا الوضوء). ثم إن الله حدهما فقال: " إلى الكعبين " كما قال في اليدين " إلى المرافق " فدل على وجوب غسلهما، والله أعلم. ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض.
[ 92 ]
قلت: قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. وروي أن الحجاج خطب بالاهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شئ من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله وتعالى " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ". قال: وكان إذا مسح رجليه بلهما، وروي عن أنس أيضا أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا، ويلغي ما كان مسحا. وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين (1)، قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه، أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل. قلت: وهو الصحيح، فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل، قال الهروي: أخبرنا الازهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الانصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال: [ للرجل ] (2) إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح، ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل، بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الاحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الائمة، ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على [ أنه ] (3) مفعول قبل الرجلين، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم، فلما كان الرأس مفعولا قبل (1) كالروايتين في الخبر، يعمل بهما إذا لم يتناقضا. ابن العربي. (2) من ك وج. (3) من ج وز و ك. (*)
[ 93 ]
الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير. وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - علي (وأرجلكم) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال: (وأرجلكم) هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. وروى أبو إسحق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: اغسلوا الاقدام إلى الكعبين. وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرآ (وأرجلكم) بالنصب. وقد قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيدا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن. فإن قيل: إن المسح على الخفين منسوخ بسورة (المائدة) - وقد قاله ابن عباس، ورد المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك [ في رواية عنه ] (1) - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن: حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين، وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، قال إبراهيم النخعي: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث، لان إسلام جرير كان بعد نزول (المائدة) وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبد الحميد ابن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان، وأن (المائدة) نزلت في ذي الحجة يوم عرفات، وهذا حديث لا يثبت لوهاه، وإنما نزل منها يوم عرفة " اليوم أكملت لكم دينكم " على ما تقدم، قال أحمد بن حنبل: أنا أستحسن حديث جرير في المسح على الخفين، لان إسلامه كان بعد نزول (المائدة) وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم، ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت: سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. (1) من ك. (*)
[ 94 ]
وأما مالك فما روي عنه من الانكار فهو منكر لا يصح، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال: إني كنت أخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما بجب عليه. وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال: لا أمسح في حضر ولا سفر. قال أحمد: كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال: حبب إلى الوضوء، ونحوه عن أبي أيوب. وقال أحمد رضي الله عنه: فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه، وصلينا خلفه ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع، فلا يصلى خلفه. [ والله أعلم ] (1) وقد قيل: إن قوله " وأرجلكم " معطوف على اللفظ دون المعنى، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب، وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى: " يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس " (2) [ الرحمن: 35 ] بالجر لان النحاس الدخان. وقال: " بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ " (3) [ البروج: 21 - 22 ] بالجر. قال امرؤ القيس: * كبير أناس في بجاد مزمل (4) * فخفض مزمل بالجوار، وأن المزمل الرجل وإعرابه الرفع، قال زهير: لعب الزمان بها وغيرها * بعدي سوافي (5) المور والقطر قال أبو حاتم: كان الوجه القطر بالرفع ولكنه جره على جوار المور، كما قالت العرب: هذا جحر ضب خرب، فجروه وإنما هو رفع. وهذا مذهب الاخفش وأبي عبيدة ورده النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم، لان الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وإنما هو غلط ونظيره الاقواء. قلت: والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام (ويل للاعقاب وبطون الاقدام من النار) فخوفنا بذكر النار (6) على (1) من ك. (2) قراءة ابن كثير. راجع ج 17 ص 168. (3) راجع ج 19 ص 296. (4) صدر البيت: * كان أبانا في أفانين دقه * والبجاد الكساء المخطط، والمزمل المدثر في الثياب. والمعنى أن ما ألبسه الخبل من المطر، وأحاط به إلى رأسه كشيخ في كساء مخطط. (5) السوافي جمع سافية وهي الريح الشديدة التي تسفى التراب أي تطيره، والمور التراب. (6) كذا في ج وز وك. وهي رواية أحمد. (*)
[ 95 ]
مخالفة مراد الله عزوجل، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما، فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح، إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح. ودليل آخر من وجهة الاجماع، وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه. ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما، وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه، فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا، وأن العامل في قوله " وأرجلكم " قوله: " فاغسلوا " والعرب قد تعطف الشئ على الشئ بفعل ينفرد به أحدهما تقول: أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن، ومنه قول الشاعر: * علفتها تبنا وماء باردا (1) * وقال آخر: ورأيت زوجك في الوغى (2) * متقلدا سيفا ورمحا وقال آخر: (3) * وأطفلت * بالجلهتين ظباؤها ونعامها * وقال آخر: * شراب ألبان وتمر وإقط * التقدير: علفتها تبنا وسقيتها ماء. ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا. وأطفلت بالجلهتين ظباؤها وفرخت نعامها، والنعام لا يطفل إنما يفرخ. وأطفلت كان لها أطفال، والجلهتان (1) رجز مشهور لم يعرف قائله وعجز البيت (حتى شتت همالة عيناها) وبعضهم أورد لها صدرا وجعل المذكور هكذا: لما حططت الرجل عنها واردا * علفتها تبنا وماء باردا (2) كذا بالاصول، وروى في (خزانة الادب) و (كتاب سيبويه): * ياليت زوجك قد غدا... الخ (3) البيت للبيد ورواه (اللسان) في باب (جله) و (طفل) هكذا: فعلا فروع الايهقان وأطفلت * بالجلهتين ظبارها ونعامها (*)
[ 96 ]
جنبتا الوادي. وشراب ألبان وآكل تمر، فيكون قوله: " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم " عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى والمراد الغسل، والله أعلم. الرابعة عشرة - قوله تعالى: " إلى الكعبين " روى البخاري: حدثني موسى قال أنبأنا وهيب عن عمرو - هو ابن يحيى - عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور (1) من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق. واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا (2)، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله " وامسحوا برءوسكم " زائدة لقوله: فمسح رأسه ولم يقل برأسه، وأن مسح الرأس مرة، وقد جاء مبينا في كتاب مسلم من حديث عبد الله بن زيد في تفسير قوله: فأقبل بهما وأدبر، وبدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وأنكر الاصمعي قول الناس: إن الكعب في ظهر القدم، قاله في (الصحاح) وروي عن ابن القاسم، وبه قال محمد بن الحسن، قال ابن عطية: ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا، ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام، وقال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس [ الكعب ] (3) بالظاهر في وجه القدم. قلت: هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة، وكعبت المرأة إذا فلك ثديها، وكعب القناة أنبوبها، وأنبوب ما بين كل عقدتين (1) التور إناء يشرب فيه، أو طست أو قدح أو مثل القدر من صفر أو حجارة. (2) الذي في صحيح البخاري: ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين. (3) الزيادة عن ابن عطية. (*)
[ 97 ]
كعب، وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها، ومنه الحديث (1). (والله لا يزال كعبك عاليا). وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبودواد عن النعمان بن بشير (والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم) قال: فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه. والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب، والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم، ومنه الحديث (ويل للعراقيب من النار) يعني إذا لم تغسل، كما قال: (ويل للاعقاب وبطون الاقدام من النار). الخامسة عشرة - قال ابن وهب عن مالك: ليس على أحد تخليل أصابع رجليه في الوضوء ولا في الغسل، ولا خير في الجفاء والغلو، قال ابن وهب: تخليل أصابع الرجلين مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين، وقال ابن القاسم عن مالك: من لم يخلل أصابع رجليه فلا شئ عليه. وقال محمد بن خالد عن ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ على نهر فحرك رجليه: إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه، قال ابن القاسم: وإن قدر على غسل إحداهما بالاخرى أجزأه. قلت: الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين، فإن الانسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه، وهذا يقتضي العموم. وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب عن ابن لهيعة والليث بن سعد عن يزيد بن عمرو الغفاري عن أبي عبد الرحمن الحبلي (2) عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين أصابع رجليه، قال ابن وهب، فقال لي مالك: إن هذا لحسن، وما سمعته قط إلا الساعة، قال ابن وهب: وسمعته سئل (1) هو حديث (قيلة) بنت مخرمة العنبرية، هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع حريث بن حسان تريد الصحبة. راجع (الاصابة في تمييز الصحابة). (بضم المهملة والموحدة. (*)
[ 98 ]
بعد ذلك عن تخليل الاصابع في الوضوء فأمر به. وقد روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خللوا بين الاصابع لا تخللها النار) وهذا نص في الوعيد على ترك التخليل، فثبت ما قلناه. والله الموفق. السادسة عشرة - ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الاعضاء، وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه، ولا فصل بفعل ليس منه، واختلف العلماء في ذلك، فقال ابن أبي سلمة وابن وهب: ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمدا أو ناسيا لم يجزه. وقال ابن عبد الحكم: يجزئه ناسيا ومتعمدا. وقال مالك في " المدونة " وكتاب محمد: إن الموالاة ساقطة، وبه قال الشافعي. وقال مالك وابن القاسم: إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزئه ناسيا، وقال مالك في رواية ابن حبيب: يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح، فهذه خمسة أقوال ابتنيت (1) على أصلين: الاول - أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الاعضاء عند القيام إلى الصلاة. والثاني - أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة، وهذا أصح. والله أعلم. السابعة عشرة - وتتضمن ألفاظ الآية أيضا الترتيب وقد اختلف فيه، فقال الابهري: الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي يجزئ، واختلف في العامد فقيل: يجزئ ويرتب في المستقبل. وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزئ لانه عابث، وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه، وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحق وأبو ثور، وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الاعادة لما صلى بذلك الوضوء. وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن " الواو " لا توجب التعقيب ولا تعطى رتبة، وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والاوزاعي والليث بن سعد والمزني وداود بن علي، قال الكيا الطبري ظاهر قوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " يقتضي الاجزاء فرق أو جمع أو والى على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي، (1) في ج وز: أثبتت. (*)
[ 99 ]
وهو مذهب الاكثرين من العلماء (1). قال أبو عمر: إلا أن مالكا يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة، ولا يرى ذلك واجبا عليه، هذا تحصيل مذهبه. وقد روى علي بن زياد عن مالك قال: من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة، قال علي ثم قال بعد ذلك: لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف. وسبب الخلاف ما قال بعضهم: إن " الفاء " توجب التعقيب في قوله: " فاغسلوا " فإنها لما كانت جوابا للشرط ربطت المشروط به، فاقتضت الترتيب في الجميع، وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه، وإنما كنت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط معنى واحدا، فإذا كانت جملا كلها جوابا لم تبال بأيها بدأت، إذ المطلوب تحصيلها. قيل: إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو، وليس كذلك لانك تقول: تقاتل زيد وعمرو، وتخاصم بكر وخالد، فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب. والصحيح أن يقال: إن الترتيب متلقي من وجوه أربعة: الاول - أن يبدأ بما بدأ الله به كم قال عليه الصلاة والسلام حين حج: (نبدأ بما بدأ الله به). الثاني - من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون. الثالث - من تشبيه الوضوء بالصلاة. الرابع - من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. احتج من أجاز ذلك بالاجماع على أن لا ترتيب في غسل أعضاء الجنابة، فكذلك غسل أعضاء الوضوء، لان المعنى في ذلك الغسل لا التبدية. وروي عن علي أنه قال: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت. وعن عبد الله بن مسعود قال: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك، قال الدارقطني: هذا مرسل ولا يثبت، والاولى وجوب الترتيب. والله أعلم. الثامنة عشرة - إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك، لان التيمم إنما جاء في الاصل لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء. احتج الجمهور بقوله تعالى: " فلم تجدوا ماء فتيمموا " وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم. (1) في ز: علمائنا. (*)
[ 100 ]
التاسعة عشرة - وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة، لانه قال: " إذ قمتم إلى الصلاة " ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وهي رواية أشهب عن مالك. وقال ابن وهب عن مالك: إزالتها واجبة في الذكر والنسيان، وهو قول الشافعي. وقال ابن القاسم: تجب إزالتها مع الذكر، وتسقط مع النسيان. وقال أبو حنيفة: تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي (1) - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال - قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه. والصحيح رواية ابن وهب، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله) ولا يعذب إلا على ترك الواجب، ولا حجة في ظاهر القرآن، لان الله سبحانه وتعالى إنما بين من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة، ولم يتعرض لازالة النجاسة ولا غيرها. الموفية عشرين - ودلت الآية أيضا على المسح على الخفين كما بينا، ولمالك في ذلك ثلاث روايات: الانكار مطلقا كما يقوله الخوارج، وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة. وقد تقدم. الثانية - يمسح في السفر دون الحضر، لان أكثر الاحاديث بالمسح إنما هي في السفر، وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر، أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال: فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف (2) حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه، فأشار إلى فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ - زاد في رواية - فتوضأ ومسح على خفيه. ومثله حديث شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة، - وهي الرواية الثالثة - يمسح حضرا وسفرا، وقد تقدم ذكرها. (1) ذكر الدميري ضربا من النقود يقال لها البغلية، قال: إن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية. (2) السباطة الموضع الذي يرمى فيه التراب وما يكنس من المنازل، وإضافتها إلى القوم إضافة تخصيص لا ملك، لانها كانت مواتا مباحة. (*)
[ 101 ]
الحادية والعشرون - ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت، وهو قول الليث بن سعد، قال ابن وهب سمعت مالكا يقول: ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت. وروي أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال: (نعم) قال: يوما ؟ قال: (يوما) قال: ويومين ؟ قال: (ويومين) قال: وثلاثة [ أيام ] ؟ (1) قال: (نعم وما شئت) في رواية (نعم وما بدا لك). قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبري: يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام على حديث شريح وما كان مثله، وروي عن مالك في رسالته إلى هرون أو بعض الخلفاء، وأنكرها (2) أصحابه. الثانية والعشرون - والمسح عند جميعهم لمن لبس خفيه على وضوء، لحديث المغيرة ابن شعبة أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير - الحديث - وفيه، فأهويت لانزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ومسح عليهما. ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم، وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحدث. وشذ داود فقال: المراد بالطهارة ها هنا هي الطهارة من النجس فقط، فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين. وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة. الثالثة والعشرون - ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خرق يسير: قال ابن خويزمنداد: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه، ويكون مثله يمشى فيه. وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري، وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة. وقال الاوزاعي: يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم، وهو قول الطبري. وقال أبو حنيفة: إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح، ولا يمسح ذا ظهر ثلاث، وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف. ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت (1) الزيادة عن أبي داود. (2) في ج وز وك: أنكره. (*)
[ 102 ]
لا تسلم من الخرق اليسير، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم. وروي عن الشافعي إذا كان الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه. وقال الحسن بن حي: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شئ من القدم لم يمسح، قال أبو عمر: هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين، وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وهي: الرابعة والعشرون - ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين، وهو أحد قولي مالك. وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين. وفي كتاب أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين، قال أبو داود: وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لان المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وروي هذا الحديث عن أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل. قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب [ وأبو ] (1) مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، رضي الله عنهم أجمعين. قلت: وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدارمي في مسنده حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحق عن عبد خير (2) قال: رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين فوسع ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، قال أبو محمد الدارمي رحمه الله: هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى: " فامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ". قلت: وقول علي - رضي الله عنه - لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين، أخرجه أبو داود عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. قال (1) التصويب عن (كتاب) أبي داود. وفي الاصل (ابن مسعود). (2) كان اسمه (عبد شر) فغيره النبي صلى الله عليه وسلم (الاصابة). (*)
[ 103 ]
مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما: إن ذلك يجزئه، إلا أن مالكا قال: من فعل ذلك أعاد في الوقت، ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه، وكان عليه الاعادة في الوقت وبعده، وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلا شئ روي عن أشهب أنه قال: باطن الخفين وظاهرهما سواء، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يعد إلا في الوقت. وروي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما، والمشهور من مذهبه أنه من مسح بطونهما واقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح. وقال أبو حنيفة والثوري: يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحق وجماعة، والمختار عند مالك والشافعي وأصحابهما مسح الاعلى والاسفل، وهو قول ابن عمر وابن شهاب، لما رواه أبو داود والدارقطني عن المغيرة بن شعبة قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله، قال أبو داود: روي أن ثورا لم يسمع هذا الحديث من رجاء بن حيوة. الخامسة والعشرون - واختلفوا فيمن نزع خفيه وقد مسح عليهما على أقوال ثلاثة: الاول - يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء، قاله مالك والليث، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وروي عن الاوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه. الثاني - يستأنف الوضوء، قاله الحسن بن حي وروى عن الاوزاعي والنخعي. الثالث - ليس عليه شئ ويصلى كما هو، قاله ابن أبي ليلى والحسن البصري، وهي رواية عن إبراهيم النخعي رضي الله عنهم. السادسة والعشرون - قوله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقد مضى في " النساء " (1) معنى الجنب. و " اطهروا " أمر بالاغتسال بالماء، ولذلك رأى عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقال الجمهور من الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله: " أو لامستم (1) راجع ج 5 ص 204. (*)
[ 104 ]
النساء " والملامسة هنا الجماع، وقد صح عن عمرو ابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم. وحديث عمران بن حصين نص في ذلك، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال: (يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم) فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. قال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) أخرجه البخاري. السابعة والعشرون - قوله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط) تقدم في " النساء " (1) مستوفى، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هناك، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة، فإن الغائط كناية عن الاحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في " النساء " فهو عام، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالاحداث المعتادة الخارجة. على الوجه المعتاد، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود، أو خرج المعتاد على وجه السلس والمرض لم يكن شئ من ذلك ناقضا. وإنما صاروا إلى اللفظ، لان اللفظ مهما تقرر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الاطلاق، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيدا عن الذهن، فصار غير مدلول له، وصار الحال فيه كالحال في الدابة، فإنها إذا أطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الاربع، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهرا. والمخالف يقول: لا يلزم من أسبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد، فإن تناول اللفظ لهما واحد وضعا، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصدا، والاول أصح، وتتمته في كتب الاصول. الثامنة والعشرون - قوله تعالى: (أو لامستم النساء) روي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: القبلة من اللمس، وكل ما دون الجماع لمس، وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال: لانه قد ذكر في أول الآية ما يجب على من جامع في قوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا ". وقال عبد الله بن عباس: اللمس والمس والغشيان الجماع، ولكنه عزوجل يكني. وقال (1) راجع ج 5 ص 212. (*)
[ 105 ]
مجاهد في قوله عزوجل: " وإذا مروا باللغو مروا كراما " (1) [ الفرقان: 72 ] قال: إذا ذكروا النكاح كنوا عنه، وقد مضى في " النساء " (2) القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله. التاسعة والعشرون - قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) قد تقدم في " النساء " (2) أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط، وهو الذي يقال فيه: إنه إن لم يجد ماء ولا ترابا وخشي خروج الوقت، اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال: الاول - قال ابن خويزمنداد: الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شئ عليه، قال: ورواه المدنيون عن مالك، قال: وهو الصحيح من المذهب. وقال ابن القاسم: يصلي ويعيد، وهو قول الشافعي. وقال أشهب: يصلي ولا يعيد. وقال أصبغ: لا يصلي ولا يقضي (3)، وبه قال أبو حنيفة (4). قال أبو عمر بن عبد البر: ما أعرف كيف أقدم ابن خويزمنداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين. وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله: وليسوا على ماء - الحديث - ولم يذكر أنهم صلوا، وهذا لا حجة فيه. وقد ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة، وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء. قال أبو ثور: وهو القياس. قلت: وقد احتج المزني فيما ذكره الكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم، والتيمم متى لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا. ومنه قال المزني: ولا إعادة، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها، قال أبو عمر: ولا ينبغي حمله على المغمى عليه لان المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله. وقال ابن القاسم وسائر العلماء: الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله، فإذا زال المانع له توضأ (1) راجع ج 13 ص 79. (2) راجع ج 5 ص 223، ص 228 وما بعدها. (3) راجع ج 3 ص 225 ففيها نقيض هذا. (4) كذا في الاصول. ولعله قول مهجور لابي حنيفة، وإلا فإنه لا يقول بعدم القضاء، بل قال: يؤخر الصلاة فقط، والراجح من مذهبه قول صاحبيه من أن فاقد الطهورين يصلى صلاة صورية ويعيد متى قدر. (*)
[ 106 ]
أو تيمم وصلى. وعن الشافعي روايتان، المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد، قال المزني: إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد، وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري. وقال زفر بن الهذيل: المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا. وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم. وقال أبو عمر: من قال يصلي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور، قالوا: وقوله عليه السلام: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) لمن قدر على طهور، فأما من لم يقدر فليس كذلك، لان الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلي كما قدر في الوقت ثم يعيد، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعا. وذهب الذين قالوا لا يصلي لظاهر هذا الحديث، وهو قول مالك وابن نافع وأصبغ قالوا: من عدم الماء والصعيد لم يصل ولم يقض إن خرج وقت الصلاة، لان عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شئ في الذمة فلا يقضي، قاله غير (1) أبي عمر، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب. الموفية ثلاثين - قوله تعالى: (فتيمموا صعيدا طيبا) قد مضى في " النساء " (2) اختلافهم في الصعيد، وحديث عمران بن حصين نص على ما يقوله مالك، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك، فلما قال: (عليك بالصعيد) أحاله على وجه الارض. والله أعلم. (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) تقدم في " النساء " (2) الكلام فيه فتأمله هناك. الحادية والثلاثون - وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب: قال صلى الله عليه وسلم: (الطهور (3) شطر الايمان) أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الاشعري، وقد تقدم في " البقرة " الكلام فيه، قال ابن العربي: والوضوء أصل في الدين، وطهارة المسلمين، وخصوصا لهذه الامة في العالمين. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال: (هذا وضوئي ووضوء الانبياء من قبلي (1) في ك: قاله أبو عمر. (2) راجع ج 5 ص 236، ص 238 فما بعدها. (3) الطهور (بالضم) التطهير و (بالفتح) الماء كالوضوء والوضوء. وقال سيبويه: الطهور (بالفتح) يطلق على الماء والمصدر معا، وعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها. (النهاية) لابن الاثير. (*)
[ 107 ]
ووضوء أبي إبراهيم) وذلك لا يصح، قال غيره: ليس هذا بمعارض لقوله عليه السلام: (لكم (1) سيما ليست لغيركم) فإنهم كانوا يتوضئون، وإنما الذي خص به هذه الامة الغرة والتحجيل لا بالوضوء، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الامة شرفا لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الامم، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الانبياء، والله أعلم. قال أبو عمر (2): وقد يجوز أن يكون الانبياء يتوضئون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم، كما جاء عن موسى عليه السلام قال: " يا رب أجد أمة كلهم كالانبياء فاجعلها أمتي " فقال له: " تلك أمة محمد " في حديث فيه طول. وقد روى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الاحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى رؤيا في المنام أن الناس قد جمعوا للحساب، ثم دعي الانبياء مع كل نبي أمته، وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما، ولمن اتبعه من أمته نورا واحدا يمشي به، حتى دعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نور كله يراه كل من نظر إليه، وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الانبياء، فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدثك بهذا الحديث وما علمك به ؟ فأخبره أنها رؤيا، فأنشده كعب، الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك ؟ فقال: نعم والله لقد رأيت ذلك، فقال كعب: والذي نفسي بيده - أو قال والذي بعث محمدا بالحق - إن هذه لصفة أحمد وأمته، وصفة الانبياء في كتاب الله، لكأن ما تقوله من التوراة. أسنده في كتاب " التمهيد " قال أبو عمر: وقد قيل إن سائر الامم كانوا يتوضئون والله أعلم، وهذا لا أعرفه من وجه صحيح. وخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن (3) فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر السماء حتى يخرج نقيا من الذنوب). وحديث مالك عن عبد الله الصنابحي (1) علامة. (2) في ا وج: ابن عمر. وهو خطا الناسخ. (3) هو شك من الراوي، وكذا قوله: " مع الماء أو مع آثر قطر الماء ". النووي. (*)
[ 108 ]
كمل (1)، والصواب أبو عبد الله لا عبد الله، وهو مما وهم فيه مالك، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة تابعي شامي كبير لادراكه أول خلافة أبي بكر قال أبو عبد الله الصنابحي: قدمت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجحفة إذا براكب قلنا له ما الخبر ؟ قال: دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام. وهذه الاحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عبسة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام، وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية، لانه شرع لمحو الاثم ورفع الدرجات عند الله تعالى. الثانية والثلاثون - قوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) أي من ضيق في الدين، دليله قوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (2) [ الحج: 78 ]. و " من " صلة أي ليجعل عليكم حرجا. (ولكن يريد ليطهركم) أي من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة والصنابحي. وقيل: من الحدث والجنابة. وقيل: لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة. وقرأ سعيد بن المسيب " ليطهركم " والمعنى واحد، كما يقال: نجاه وأنجاه. " وليتم نعمته عليكم " أي بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر. وقيل: بتبيان الشرائع. وقيل: بغفران الذنوب، وفي الخبر (تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار). " لعلكم تشكرون " أي لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته. قوله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (7) قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به). قيل: هو الميثاق الذي في قوله عزوجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم " (3) [ الاعراف: 172 ]، قاله مجاهد وغيره. ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الصادق به، فيجوز أن نؤمر بالوفاء به. وقيل: هو خطاب لليهود بحفظ ما أخذ عليهم في التوراة، والذي عليه الجمهور من المفسرين كابن عباس والسدي (1) الحديث أخرجه مالك في (الموطأ). (2) راجع ج 12 ص 99. (3) راجع ج 7 ص 313. (*)
[ 109 ]
هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا: سمعنا وأطعنا، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة، وأضافه تعالى إلى نفسه كما قال: " إنما يبايعون الله " (1) [ الفتح: 10 ] فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه، وكان أول من بايعه البراء بن معرور، وكان له في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشد لعقد أمره، وهو القائل: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (2)، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. الخبر المشهور في سيرة ابن إسحق. ويأتي ذكر بيعة الرضوان في موضعها (1). وقد اتصل هذا بقوله تعالى: " أوفوا بالعقود " [ المائدة: 1 ] فوفوا بما قالوا، جزاهم الله تعالى عن نبيهم وعن الاسلام خيرا، ورضي الله عنهم وأرضاهم. (واتقوا الله) أي في مخالفته أنه عالم بكل شئ. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بأياتنا أولئك أصحاب الجحيم (10) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين) الآية تقدم معناها في " النساء " (3). والمعنى: أتمم عليكم نعمتي فكونوا قوامين لله، أي لاجل ثواب الله، فقوموا بحقه، وأشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم، وحيف على أعدائكم. (ولا يجر منكم شنآن قوم) على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق. وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى (1) راجع ج 16 ص 267، وص 274. في ك وج وه‍: بيعة الشجرة. (2) أزرنا أي نساءنا وأهلنا كنى عنهن بالارز. وقيل: أراد أنفسنا. راجع (سيرة ابن هشام) ج 1 ص 293 طبع أوربا. (3) راجع ج 5 ص 410. (*)
[ 110 ]
ونفوذ شهادته عليه، لانه أمر بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لامره بالعدل فيه وجه. ودلت الآية أيضا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لايصال الغم والحزن إليهم، وإليه أشار عبد الله بن رواحة بقوله في القصة المشهورة (1)، هذا معنى الآية. وتقدم في صدر هذه السورة (2) معنى قوله: " لا يجر منكم شنآن قوم ". وقرئ " ولا يجر منكم " قال الكسائي: هما لغتان. وقال الزجاج: معنى " لا يجرمنكم " لا يدخلنكم في الجرم، كما تقول: آثمني أي أدخلني في الاثم. ومعنى (هو أقرب للتقوى) أي لان تتقوا الله. وقيل: لان تتقوا النار. ومعنى (لهم مغفرة وأجر عظيم) أي قال الله في حق المؤمنين: " لهم مغفرة وأجر عظيم " أي لا تعرف كنهه أفهام الخلق، كما قال: " فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين " (3) [ السجدة: 17 ]. وإذا قال الله تعالى: " أجر عظيم " و " أجر كريم " [ يس: 11 ] و " أجر كبير " [ هود: 11 ] فمن ذا الذي يقدر قدره ؟. ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله: " لهم مغفرة " وهو في موضع نصب، لانه وقع موقع الموعود به، على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد، كما قال الشاعر (4): وجدنا الصالحين لهم جزاء * وجنات وعينا سلسبيلا وموضع الجملة نصب، ولذلك عطف عليها بالنصب. وقيل: هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفا، على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به. وهذا المعنى عن الحسن. (والذين كفروا) نزلت في بني النضير. وقيل: في جميع الكفار. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) (1) كذا في كل الاصول، ويبدو فيه سقط. والمراد بالقصة - والله أعلم - ما حدث لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع الروض الانف ج 2 ص 82. (2) راجع ص 44 من هذا الجزء. (3) راجع ج 14 ص 103. (4) هو عبد العزيز الكلابي. (*)
[ 111 ]
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) قال جماعة: نزلت بسبب فعل الاعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط (1) سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يعصمك مني يا محمد ؟ كما تقدم في " النساء " (2). وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه (3). وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم. وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات. وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث ابن الحارث (بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها [ راء و ] ثاء مثلثة) وقد ضم بعضهم الغين، والاول أصح. وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث، وذكر أنه أسلم كما تقدم. وذكر (4) محمد بن إسحق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير. وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة. والله أعلم. وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه وسلم الله فمنعه الله منهم. قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق. " أن يبسطوا إليكم أيديهم " أي بالسوء " فكف أيديهم عنكم " أي منعهم. قوله تعالى: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجري من تحتها الانهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل (12) (1) اخترط السيف سله من غمده. (2) راجع ج 5 ص 372. (3) أي لم يعاقب الاعرابي استئلافا للكفار. (4) في ج وه‍ وك: وحكى. (*)
[ 112 ]
قوله تعالى: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قال ابن عطية: هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوى أن الآية المتقدمة في كف الايدي إنما كانت في بني النضير، واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الاجماع على أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها. والنقاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة، ومنه قيل في عمر رضي الله عنه: إنه كان لنقابا. فالنقباء الضمان، واحدهم نقيب، وهو شاهد القوم وضمينهم، يقال: نقب عليهم، وهو حسن النقيبة أي حسن الخليقة. والنقب والنقب الطريق في الجبل. وإنما قيل: نقيب لانه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. وقال قوم: النقباء الامناء على قومهم، وهذا كله قريب بعضه من بعض. والنقيب أكبر مكانة من العريف. قال عطاء بن يسار: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة، ذكره الدارمي في مسنده. قال قتادة - رحمه الله - وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله، ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة، بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان. فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا، وسماهم النقباء اقتداء بموسى صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع والسدي وغيرهما: إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم، فساروا ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوه عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم، فأطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة - على ما يأتي - وظنوا أنهم لا قبل لهم بها، فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم، ففشا الخبر حتى أعوج أمر بني إسرائيل فقالوا: " أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " [ المائدة: 24 ]. الثانية - ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية، فتركب عليه الاحكام، ويرتبط به الحلال والحرام، وقد جاء
[ 113 ]
[ أيضا ] مثله في الاسلام، قال صلى الله عليه وسلم لهوازن: (ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم). أخرجه البخاري. الثالثة - وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس. والتجسس: التبحث. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينا (1)، أخرجه مسلم. وسيأتي حكم الجاسوس في " الممتحنة " (2) إن شاء الله تعالى. وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في " المحبر " (3) فقال: من سبط روبيل شموع بن ركوب، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف، ومن سبط أفراثيم ابن يوسف يوشع بن النون، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو، ومن سبط ربالون كرابيل ابن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدي بن سوشا، ومن سبط دان عمائيل بن كسل، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا، ومن سبط كاذ كوال ابن موخى، فالمؤمنان منهم يوشع وكالب، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم، قاله الماوردي. وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن (4) إسحق فلينظروا هناك. قوله تعالى: (وقال الله إنى معكم لئن أقمتم الصلاة) الآية. قال الربيع بن أنس: قال ذلك للنقباء. وقال غيره: قال ذلك لجميع بني إسرائيل. وكسرت " إن " لانها مبتدأة. " معكم " منصوب لانه ظرف، أي بالنصر والعون. ثم ابتدأ فقال: " لئن أقمتم الصلاة " إلى أن قال " لاكفرن عنكم سيئاتكم " أي إن فعلتم ذلك (ولادخلنكم جنات). واللام في " لئن " لام توكيد ومعناها القسم، وكذا " لاكفرن عنكم "، " ولادخلنكم ". وقيل: المعنى (1) كان ذلك في غزوة بدر قيل: هو ابن عمرو الانصاري أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لتقصى أنباء عير أبي سفيان. (2) راجع ج 18 ص 53. (3) قال أبو حيان في (البحر): ذكر محمد بن حبيب في (المحبر) أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة، بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا تنضبط أيضا. وفي هامش الطبري: وقع تحريف واختلاف بين كتب التاريخ في أسماء الاسباط والنقباء منهم فلتحرر. (4) راجع سيرة ابن هشام ج 1 ص 297 طبع أوربا. (*)
[ 114 ]
لئن أقمتم الصلاة لاكفرن عنكم سيئاتكم، وتضمن شرطا آخر لقوله: " لاكفرن " أي إن فعلتم ذلك لاكفرن. وقيل: قوله " لئن أقمتم الصلاة " جزاء لقوله: " إني معكم " وشرط لقوله: " لاكفرن " والتعزير: التعظيم والتوقير، وأنشد أبو عبيدة: وكم من ماجد لهم كريم * ومن ليث يعزر في الندي أي يعظم ويوقر. والتعزير: الضرب دون الحد، والرد، تقول: عزرت فلانا إذا أدبته ورددته عن القبيح. فقوله: " عزرتموهم " أي رددتم عنهم أعداءهم. (وأقرضتم الله قرضا حسنا) يعني الصدقات، ولم يقل إقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله: (والله أنبتكم من الارض نباتا) (1)، (فتقبلها ربها بقبول حسن) وقد تقدم (2). ثم قيل: (حسنا) أي طيبة بها نفوسكم. وقيل: يبتغون بها وجه الله. وقيل: حلالا. وقيل: (قرضا) اسم لا مصدر. (فمن كفر بعد ذلك منكم) أي بعد الميثاق. (فقد ضل سواء السبيل) أي أخطأ قصد الطريق. والله أعلم. قوله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (13) قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) أي فبنقضهم ميثاقهم، " ما " زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم، وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد، كما قال: * لشئ ما يسود من يسود * (1) راجع ج 18 ص 305. (2) راجع ج 4 ص 69. (*)
[ 115 ]
فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. (لعناهم) قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ. عطاء: أبعدناهم واللعن الابعاد والطرد من الرحمة. (وجعلنا قلوبهم قاسية) أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله، والقاسية والعاتية بمعنى واحد. وقرأ الكسائي وحمزة: " قسية " بتشديد الياء من غير ألف، وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب. والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه. وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة، فمعنى " قسية " على هذا ليست بخالصة الايمان، أي فيها نفاق. قال النحاس: وهذا قول حسن، لانه يقال: درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره. يقال: درهم قسي (مخفف السين مشدد الياء) مثال شقي أي زائف، ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد: لها صواهل في صم السلام كما * صاح القسيات في أيدي الصياريف (1) يصف وقع المساحي (2) في الحجارة. وقال الاصمعي وأبو عبيد: درهم قسي كأنه معرب قاشي. قال القشيري: وهذا بعيد، لانه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا، لان ما قلت نقرته يقسو ويصلب. وقرأ الاعمش: " قسية " بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية، من قسى يقسى لا من قسا يقسو. وقرأ الباقون على وزن فاعلة، وهو اختيار أبي عبيد، وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية. قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة. فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الايمان والتوفيق لطاعتي، لان القوم لم يوصفوا بشئ من الايمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش. قال الراجز: * قد قسوت وقست لداتي * (يحرفون الكلم عن مواضعه) أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام. وقيل: معناه يبدلون حروفه. و " يحرفون " في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين. (1) البيت لابي زيد الطائي. والصواهل (جمع الصاهلة) مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل وهو الصوت. (2) المساحي (جمع مسحاة): وهي المجرفة من الحديد. (*)
[ 116 ]
وقرأ السلمي والنخعي " الكلام " بالالف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. (ونسوا حظا مما ذكروا به) أي نسوا عهد الله الذي أخذه الانبياء عليهم من الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.، وبيان نعته. " ولا تزال تطلع " أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف " على خائنة منهم " والخائنة الخيانة، قال قتادة. وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة. وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة. وقد تقع " خائنة " للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة، فخائنة على هذا للمبالغة، يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة. قال الشاعر: (1) حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن * للغدر خائنة مغل الاصبع قال ابن عباس: " على خائنة " أي معصية. وقيل: كذب وفجور. وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حرب [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] (2)، كيوم الاحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. (إلا قليلا منهم) لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في " خائنة منهم ". (فاعف عنهم واصفح) في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة. والقول الآخر أنه منسوخ بآية السيف. وقيل: بقوله عزوجل " وإما تخافن من قوم خيانة " (3) [ الانفال: 58 ]. قوله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا (1) هو الكلابي يخاطب قرينا أخا عمير الحنفي وكان له عنده دم. وقبله: أقرين إنك لو رأيت فوارسى * نعما يبتن إلى جوانب صلقع (اللسان). (2) من ج وك. (3) راجع ج 8 ص 31. (*)
[ 117 ]
عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) قوله تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) أي في التوحيد والايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو مكتوب في الانجيل. (فنسوا حظا) وهو الايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أي لم يعملوا بما أمروا به وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعنى " أخذنا ميثاقهم " هو كقولك: أخذت من زيد ثوبه ودرهمه، قاله الاخفش. ورتبة " الذين " أن تكون بعد " أخذنا " وقبل الميثاق، فيكون التقدير: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، لانه في موضع المفعول الثاني لاخذنا. وتقديره عند الكوفيين: ومن الذين قالوا إنا نصارى من أخذنا ميثاقه، فالهاء والميم تعودان على " من " المحذوفة، وعلى القول الاول تعودان على " الذين ". ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألينها لبست من الثياب، لئلا يتقدم مضمر على ظاهر. وفي قولهم: " إنا نصارى " ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها، روي معناه عن الحسن. قوله تعالى: (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) أي هيجنا. وقيل: ألصقنا بهم، مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشئ بالشئ كالصمغ وشبهه. يقال: غري بالشئ يغرى غرا " بفتح الغين " مقصورا وغراء " بكسر الغين " ممدودا إذا أولع به كأنه التصق به. وحكى الرماني: الاغراء تسليط بعضهم على بعض. وقيل: الاغراء التحريش، وأصله اللصوق، يقال: غريت بالرجل غرا - مقصور وممدود مفتوح الاول - إذ لصقت به. وقال كثير: إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا * غراء ومدتها حوافل نهل (1) (1) كذا بالاصول والذي في (اللسان). إذا قلت أسلو غارت العين بالبكا * غراء ومدتها مدامع حفل (*)
[ 118 ]
وأغريت زيدا بكذا حتى غري به، ومنه الغراء الذي يغري به للصوقه، فالاغراء بالشئ الالصاق به من جهة التسليط عليه. وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد. " بينهم " ظرف للعداوة. " والبغضاء " البغض. أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما. عن السدي وقتادة: بعضهم لبعض عدو. وقيل: أشار إلى افتراق النصارى خاصة، قاله الربيع بن أنس، لانهم أقرب مذكور، وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية، أي كفر بعضهم بعضا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى " أغرينا بينهم العداوة والبغضاء " أن الله عزوجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لانهم كفار. وقوله: (وسوف ينبئهم الله) تهديد لهم، أي سيلقون جزاء نقض الميثاق. قوله تعالى: (يا أهل الكتاب) الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب، فجميعهم مخاطبون. (قد جاءكم رسولنا) محمد صلى الله عليه وسلم. (يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) أي من كتبكم، من الايمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة، فإنهم كانوا يخفونها. (ويعفو عن كثير) أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. وقيل: " ويعفو عن كثير " يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به. وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا ؟ فأعرض عنه رسول الله عليه وسلم ولم يبين، وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لاصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول: لانه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه. " قد جاءكم من الله نور " أي ضياء، قيل: الاسلام. وقيل: محمد عليه السلام، عن الزجاج. (وكتاب مبين) أي القرآن، فإنه يبين الاحكام، وقد تقدم. (1) (يهدى به الله من اتبع رضوانه) أي ما رضيه الله. (سبل السلام) طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة، وهي الجنة. وقال الحسن والسدي: " السلام " الله عزوجل، فالمعنى دين الله - وهو الاسلام - كما قال: " إن الدين (1) راجع ص 27 من هذا الجزء. (*)
[ 119 ]
عند الله الاسلام " (1) [ آل عمران: 19 ]. (ويخرجهم من الظلمات إلى النور) أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الاسلام والهدايات. (بإذنه) أي بتوفيقه وإرادته. قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا ولله ملك السموات والارض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير (17) قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم) تقدم في آخر " النساء " (2) بيانه والقول فيه. وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به، لانهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا. (قل فمن يملك من الله شيئا) أي من أمر الله. و " يملك " بمعنى يقدر، من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه. أي فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا ؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها، فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده. (ولله ملك السموات والارض وما بينهما) والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للالهية. وقال " وما بينهما " ولم يقل وما بينهن، لانه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي: طرقا فتلك هماهمي (3) أقريهما * قلصا (4) لواقح كالقسي وحولا (5) فقال: " طرقا " ثم قال: " فتلك هماهمي ". (يخلق ما يشاء) عيسى من أم بلا أب آية لعباده. (1) راجع ج 4 ص 43. (2) راجع ص 21 وما بعدها من هذا الجزء. (3) الهماهم: بمعنى الهموم. (4) قلص (جمع قلوص): وهي الفتية من الابل. (5) حول (جمع حائل): وهي التي حمل عليها فلم تلقح، وقيل هي الناقة التي تحمل سنة أو سنتين أو سنوات. (*)
[ 120 ]
قوله تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناؤا الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والارض وما بينهما وإليه المصير. (18) قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) قال ابن عباس: خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه، فنزلت الآية. قال ابن إسحق: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عزوجل وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد ؟، نحن أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله عزوجل فيهم " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم " إلى آخر الآية. قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع ابن حريملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا من بعده، فأنزل الله عزوجل: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " إلى قوله: " والله على كل شئ قدير ". السدي: زعمت اليهود أن الله عزوجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بكري من الولد. قال غيره: والنصارى قالت نحن أبناء الله، لان في الانجيل حكاية عن عيسى " أذهب إلى أبي وأبيكم ". وقيل: المعنى: نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف. وبالجملة. فإنهم رأوا لانفسهم فضلا، فرد عليهم قولهم فقال (فلم يعذبكم بذنوبكم) فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين، إما أن يقولوا هو يعذبنا، فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحباءه، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه، فذلك دليل على كذبكم - وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف - أو يقولوا
[ 121 ]
: لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم. وقيل: معنى " يعذبكم " عذبكم، فهو بمعنى المضي، أي فلم مسخكم قردة وخنازير ؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم ؟ لان الله سبحانه لا يحتج عليهم بشئ لم يكن بعد، لانهم ربما يقولون لا نعذب غدا، بل يحتج عليهم بما عرفوه. ثم قال: (بل أنتم بشر ممن خلق) أي كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويجازي كلا بما عمل. (يغفر لمن يشاء) أي لمن تاب من اليهود. (ويعذب من يشاء) من مات عليها. (ولله ملك السموات والارض) فلا شريك له يعارضه. (وإليه المصير) أي يئول أمر العباد إليه في الآخرة. قوله تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير (19) قوله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. (يبين لكم) انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدا ما جاءنا رسول. (على فترة من الرسل) أي سكون، يقال فتر الشئ سكن. وقيل: " على فترة " على انقطاع ما بين النبيين، عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني، قال: والاصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله وفترته عنه. ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان من السخونة إلى البرد. وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر. وفتور البدن كفتور الماء. والفتر ما بين السبابة والابهام إذا فتحتهما. والمعنى، أي مضت للرسل مدة قبله. واختلف في قدر مدة تلك الفترة، فذكر محمد بن سعد في كتاب " الطبقات " عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة (1) سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل (1) على المشهور. وفي الاصول: ألف سنة وتسعماية. (*)
[ 122 ]
سوى من أرسل من غيرهم. وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " (1) [ يس: 14 ] والذي عزز به " شمعون " وكان من الحواريين. وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة. وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وبينهما أربعة أنبياء، واحد (2) من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان. قال القشيري: ومثل هذا مما لم لا يعلم إلا بخبر صدق. وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة، وقاله مقاتل والضحاك ووهب ابن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة. وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن سعد عن عكرمة قال: بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الاسلام. قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الاسلمي عن غير واحد قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين. والله أعلم. (أن تقولوا) أي لئلا أو كراهية أن تقولوا، فهو في موضع نصب. " ما جاءنا من بشير " أي مبشر. " ولا نذير " أي منذر. ويجوز " من بشير ولا نذير " على الموضع (3). قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود، يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أن محمدا رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته، فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير، فنزلت الآية. (والله على كل شئ قدير) على إرسال من شاء من خلقه. وقيل: قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه. (1) راجع ج 15 ص 13. (2) راجع هامش ص 16 من هذا الجزء. (3) وزيادة (من) في الفاعل للمبالغة في نفى المجئ. (روح المعاني). (*)
[ 123 ]
قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وأتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين (20) يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون (22) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون (24) قال رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين (26) قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم) تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه، فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام، وهو تسلية له، أي يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا قصة موسى. وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ " يا قوم اذكروا " بضم الميم، وكذلك ما أشبهه، وتقديره يأيها القوم. (إذ جعل فيكم أنبياء) لم ينصرف، لانه فيه ألف التأنيث. (وجعلكم ملوكا) أي تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذكم منه بالغرق، فهم ملوك بهذا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما. قال السدي: ملك
[ 124 ]
كل واحد منهم نفسه وأهله وماله. وقال قتادة: إنما قال: " وجعلكم ملوكا " لانا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لان القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الامم في معنى التمليك فقط. وقيل: جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن، روي معناه عن جماعة من أهل العلم. قال ابن عباس: إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك. وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك، وهو قول عبد الله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال: نعم. قال: ألك منزل تسكنه ؟ قال: نعم. قال: فأنت من الاغنياء. قال: فإن لي خادما. قال: فأنت من الملوك. قال ابن العربي: وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دارا وخادما باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام، لانه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام، ولا يوصفون بالعجز عن الاعتاق. وقال ابن عباس ومجاهد: جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر (1) والغمام، أي هم مخدومون كالملوك. وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل، وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيينة، وزادوا الزوجة، وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له بيت - أو قال منزل - يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك، ذكره النحاس. ويقال: من استغنى عن غيره فهو ملك، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما جيزت له الدنيا بحذافيرها). قوله تعالى: (وآتاكم) أي أعطاكم (ما لم يؤت أحدا من العالمين). والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين، وهو وجه الكلام. مجاهد: والمراد بالايتاء المن (1) هي إخراج المياه العذبة من الحجر بالتفجير. (*)
[ 125 ]
والسلوى والحجر والغمام. وقيل: كثرة الانبياء فيهم، والآيات التي جاءتهم. وقيل: قلوبا سليمة من الغل والغش. وقيل: إحلال الغنائم والانتفاع بها. قلت: وهذا القول مردود، فإن الغنائم لم تحل لاحد إلا لهذه الامة على ما ثبت في الصحيح، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الامر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه. ومعنى " من العالمين " أي عالمي زمانكم، عن الحسن. وقال ابن جبير وأبو مالك: الخطاب لامة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله. وتظاهرت الاخبار أن دمشق قاعدة الجبارين. و " المقدسة " معناه المطهرة. مجاهد: المباركة، والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه. قتادة: هي الشام. مجاهد: الطور وما حوله. ابن عباس والسدي وابن زيد: هي أريحاء. قال الزجاج: دمشق وفلسطين وبعض: الاردن. وقول قتادة يجمع هذا كله. (التي كتب الله لكم) أي فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم. ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا: لا علم لنا بتلك الديار، فبعث بأمر الله اثنى عشر نقيبا، من كل سبط رجل يتجسسون الاخبار على ما تقدم، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة، وهم ذوو أجسام هائلة، حتى قيل: إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال: إن هؤلاء يريدون قتالنا، فقال لهم الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا، على ما تقدم. وقيل: إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الارض عنقودا فقيل: حمله رجل واحد، وقيل: حمله النقباء الاثنا عشر. قلت: وهذا أشبه، فإنه يقال: إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة (1). (1) قال الالوسى: هذه الاخبار عندي كأخبار (عوج بن عوق) وهي حديث خرافة. (*)
[ 126 ]
قلت: ولا تعارض بين هذا والاول، فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال: في حجره - هو عوج (1) بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا، على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى. وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصف في قول مقاتل. وقال الكلبي: كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا، والله أعلم. فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب ابن يوقنا، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم. قوله تعالى: (ولا ترتدوا على أدباركم) أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين. وقيل: لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته، والمعنى واحد. قوله تعالى: (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) أي عظام الاجسام طوال، وقد تقدم، يقال: نخلة جبارة أي طويلة. والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر. وقال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد، فأصله على هذا من الاجبار وهو الاكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، وأجبره أي أكرهه. وقيل: هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو باطل. وقيل: إن جبر العظم راجع إلى معنى الاكراه. قال الفراء: لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين، جبار من أجبر ودراك من أدرك. ثم قيل: كان هؤلاء من بقايا عاد. وقيل: هم من ولد عيصو بن إسحق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الاعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف (2) ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا، قاله ابن عمر، وكان يحتجن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله. وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف (1) عوج بن عناق: هكذا في الاصول. والذي ذكر في القاموس مادة (عوق) (وعوق كنوح والد عوج الطويل ومن قال: عوج بن عنق فقد أخطأ) وقال في شرحه: (هذا الذي خطأه هو المشهور على الالسنة قال شيخنا: وزعم قوم من حفاظ التواريخ أن عنق هي أم عوج وعوق أبوه فلا خطأ ولا غلط، وفي شعر عرقلة الدمشقي المذكور في بدائع البدائه المتوفى سنة 567 (أعور الرجال يمشي: خلف عوج بن عناق) وهو ثقة عارف. (عن القاموس وشرحه). (2) في ج وه‍ وك وز: ثلاثة آلاف وعشرون ألفا. الخ. (*)
[ 127 ]
وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته. وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله. وقيل: بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم (1) سنة. ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحق والطبري ومكي وغيرهم. وقال الكلبي: عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت. والله أعلم. قوله تعالى (وإنا لن ندخلها) يعني البلدة إيلياء، ويقال: أريحاء (حتى يخرجوا منها) أي حتى يسلموها لنا من غير قتال. وقيل: قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان، فإنهم قالوا: " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " قوله تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون) قال ابن عباس وغيره: هما يوشع وكالب ابن يوقنا ويقال ابن قانيا، وكانا من الاثني عشر نقيبا. و " يخافون " أي من الجبارين. قتادة: يخافون الله تعالى. وقال الضحاك: هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى، فمعنى " يخافون " على هذا أي من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله. وقيل: يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم. وقرأ مجاهد وابن جبير " يخافون " بضم الياء، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى. (أنعم الله عليهما) أي بالاسلام أو باليقين والصلاح. (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب. ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله. ثم قالا: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) مصدقين به، فإنه ينصركم. ثم قيل على القول الاول: لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة، وقالوا: نصدقكما وندع قول عشرة ! ثم قالوا لموسى: (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها) وهذا عناد وحيد عن (1) أي صار لهم جسرا يعبرون عليه. كل ما ذكره المؤلف في هذا المقام من الاسرائيليات التي لا يعول عليها. (*)
[ 128 ]
القتال، وإياس من النصر. ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا " فاذهب أنت وربك) وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك. وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة، وهو معنى قول الحسن، لانه قال: هو كفر منهم بالله، وهو الاظهر في معنى الكلام. وقيل: أي إن نصرة ربك [ لك ] (1) أحق من نصرتنا، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا، فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر، لانهم شكوا في رسالته. وقيل المعنى: أذهب أنت فقاتل وليعنك ربك. وقيل: أرادوا بالرب هرون، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه. وبالجملة فقد فسقوا بقولهم، لقوله تعالى: " فلا تأس على القوم الفاسقين " أي لا تحزن عليهم. (إنا ههنا قاعدون) أي لا نبرح ولا نقاتل. ويجوز " قاعدين " على الحال، لان الكلام قد تم قبله. قوله تعالى: (قال رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخي) لانه كان يطيعه. وقيل المعنى: إني لا أملك إلا نفسي، ثم ابتدأ فقال: " وأخي ". أي وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه، فأخي على القول الاول في موضع نصب عطفا على نفسي، وعلى الثاني في موضع رفع، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء، أي إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا. وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا. (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) يقال: بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم ؟ ففيه أجوبة، الاول - بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان، ولذلك ألقوا في التيه. الثاني - بطلب التمييز أي ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب، وقيل المعنى: فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به، ومنه قول تعالى: " فيها يفرق كل أمر حكيم " (2) [ الدخان: 4 ] أي يقضي. وقد فعل لما أماتهم في التيه. وقيل: إنما أراد في الآخرة، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار، والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الاحوال قول الشاعر: يا رب فافرق بينه وبيني * أشد ما فرقت بين اثنين (1) من ج. (2) راجع ج 16 ص 126. (*)
[ 129 ]
وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ: " فافرق " بكسر الراء. قوله تعالى: " قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض " استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة. وأصل التيه في اللغة الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير. وتيهته وتوهته بالياء والواو، والياء أكثر. والارض التيهاء التي لا يهتدى فيها، وأرض تيه وتيهاء ومنها قال: (1) * تيه أتاويه على السقاط * وقال آخر: بتيهاء قفر والمطي كأنها * قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل: في قدر ستة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا، فكانوا سيارة لا قرار لهم. واختلف هل كان معهم موسى وهرون ؟ فقيل: لا، لان التيه عقوبة، وكانت سنو (2) التيه بعدد أيام العجل، فقوبلوا على كل يوم سنة، وقد قال: " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ". وقيل: كانا معهم لكن سهل الله الامر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم. ومعنى " محرمة " أي أنهم ممنوعون من دخولها، كما يقال: حرم الله وجهك على النار، وحرمت عليك دخول الدار، فهو تحريم منع لا تحريم شرع، عن أكثر أهل التفسير، كما قال الشاعر: جالت لتصرعني فقلت لها اقصري * إني امرؤ صرعي عليك حرام أي أنا فارس فلا يمكنك صرعى. وقال أبو علي: يجوز أن يكون تحريم تعبد. ويقال: كيف يجوز على جماعة كثيرة (3) من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها ؟ فالجواب - قال أبو علي: قد يكون ذلك بأن يحول الله الارض التي هم عليها إذا ناموا فيردهم (1) هو العجاج. يصف أرضا مجهولة ليس بها علامات يهتدي بها، وأتاويه أفاعيل من تيه. والسقاط كل من سقط عليه، وهم الذين لا يصبرون ولا يجدون الواحد ساقط: وصدر البيت: * وبسطه بسعة البساط * والبساط المكان الواسع من الارض. وقيل هذا البيت: وبلدة بعيدة النياط * مجهولة تغتال خطو الخاطى (2) في ج، سنون. (3) في ج: كبيرة. (*)
[ 130 ]
إلى المكان الذي ابتدءوا منه. وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والاسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة. " أربعين " ظرف زمان للتيه، في قول الحسن وقتادة، قالا: ولم يدخلها أحد منهم، فالوقف على هذا على " عليهم ". وقال الربيع ابن أنس وغيره: إن " أربعين سنة " ظرف للتحريم، فالوقف على هذا على " أربعين سنة "، فعلى الاول إنما دخلها أولادهم، قاله ابن عباس. ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها. وعلى الثاني - فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها. وروي عن ابن عباس أن موسى وهرون ماتا في التيه. قال غيره: ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده، وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم، وكان ذلك دليلا على قبولها، فإن كان فيها غلول لم تأكله، وجاءت السباع والوحوش فأكلته، فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال: إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال: فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال: عند الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب (1)، فنزلت النار فأكلت الغنائم. وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون، فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن غور عاجز، عرف باسم الغال، وكان اسمه عاجزا. قلت: ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا، وقد تقدم حكمه (2) في ملتنا. وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غزا نبي من الانبياء) الحديث أخرجه مسلم وفيه قال: (فغزا فأدنى للقرية (3) حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم أحبسها (4) على شيئا (1) كقدره أو كصورته من ذهب كان غله وأخفاه. (2) راجع ج 4 ص 254 وما بعدها. (3) لفظ البخاري (فذنا من القرية) ولعل ما هنا على حذف المفعول أي قرب جيوشه وجموعه لها. النووي. (4) أي امنعها من السير زمانا حتى يتيسر لي الفتح نهارا. (*)
[ 131 ]
فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال: فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه - قال - فلصقت [ يده ] بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول) وذكر نحو ما تقدم. قال علماؤنا: والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لاجل السبت، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم، فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة بخبر موسى عليه الصلاة والسلام، على ما يقال. والله أعلم. وفي هذا الحديث يقول عليه السلام: (فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا) ذلك بأن الله عزوجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا. وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى: " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها. وممن قال إن موسى عليه [ الصلاة ] (1) والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الاودي، وزاد: وهرون، وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هرون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هرون ؟ فقال: مات، قالوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا له، وكان محبا في بني إسرائيل، فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله، فانطلق بهم إلى قبره فنادي يا هرون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال: أنا قاتلك ؟ قال: لا، ولكني مت، قال: فعد إلى مضجعك، وانصرف. وقال الحسن: إن موسى لم يمت بالتيه. وقال غيره: إن موسى فتح أريحاء، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق. قال الثعلبي: وهو أصح الاقاويل. قلت: قد روى مسلم عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه [ الصلاة و ] (1) السلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال: " أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " قال: فرد الله إليه عينه وقال: " ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة " قال: " أي رب ثم مه "، قال: " ثم الموت " قال: " فالآن "، فسأل الله أن (1) من ج. (*)
[ 132 ]
يدنيه من الارض المقدسة رمية بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثم لاريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الاحمر) فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الاسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم، ولعل ذلك لئلا يعبد، والله أعلم. ويعني بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق. واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال، منها: أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لانه يؤدي إلى أن ما يراه الانبياء من صور الملائكة لا حقيقة له. ومنها: أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة. ومنها: أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها، وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن، لانه حقيقة في العين والصك، قاله الامام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: " يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت، وأيضا قوله في الرواية الاخرى: " أجب ربك " يدل على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها: أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذ غضب طلع الدخان من قلنسوته (1) ورفع شعر بدنه جبته، وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت. قال ابن العربي: وهذا كما ترى، فإن الانبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الاقوال: أن موسى عليه [ الصلاة و ] (2) السلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجئ الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من (أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخبره) فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت، إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت (1) القلنسوة: ما يلبس على الرأس. (2) من ج. (*)
[ 133 ]
واستسلم. والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها، وفي الصحيح غنية عنها. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له: كيف وجدت الموت ؟ فقال: " كشاة تسلخ وهي حية ". وهذا صحيح معنى، قال: صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن للموت سكرات) على ما بيناه في كتاب " التذكرة ". وقوله: " فلا تأس على القوم الفاسقين " أي لا تحزن. والاسى الحزن، أسى يأسى أسى أي حزن، قال: (1) * يقولون لا تهلك أسى وتحمل * قوله تعالى: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) الآية. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لاخيه. المعنى: إن هم هؤلاء اليهود بالفتك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الانبياء، وقتل قابيل هابيل، والشر قديم. أي ذكرهم هذه القصة فهي قصة صدق، لا كالاحاديث الموضوعة، وفي ذلك تبكيت لمن خالف الاسلام، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. واختلف في ابني آدم، فقال الحسن البصري: ليسا لصلبه، كانا رجلين من بني إسرائيل - ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود - وكان بينهما خصومة، فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ابن عطية: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب ؟ والصحيح أنهما ابناه لصلبه، هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما، وهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل - لانه كان (1) هو امرؤ القيس، وصدر البيت: (وقوفا بها صحبي على مطيهم). (*)
[ 134 ]
صاحب زرع - واختارها من أردإ زرعه، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها. وكان قربان هابيل كبشا - لانه كان صاحب غنم - أخذه من أجود غنمه. " فتقبل " فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام، قاله سعيد بن جبير وغيره. فلما تقبل قربان هابيل لانه كان مؤمنا - قال له قابيل حسدا: أنه كان كافرا - أتمشي على الارض يراك الناس أفضل مني ! " لاقتلنك " وقيل: سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى - إلا شيثا عليه السلام فإنها ولدته منفردا عوضا من هابيل على ما يأتي، واسمه هبة الله، لان جبريل عليه السلام قال لحواء لما ولدته: هذا هبة الله لك بدل هابيل. وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين (1) ومائة سنة - وكان يزوج الذكر من هذا البطن الانثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توءمته، فولدت مع قابيل أختا جميلة واسمها إقليمياء، ومع هابيل أختا ليست كذلك واسمها ليوذا، فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على التقريب، قال جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود. وروي أن آدم حضر ذلك. والله أعلم. وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق: إن آدم لم يكن يزوج ابنته من ابنه، ولو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان دين آدم إلا يكن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الارض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا فسماها عناقا فبغت، وهي أول من بغى على وجه الارض، فسلط الله عليها من قتلها، ثم ولدت لآدم قابيل، ثم ولدت له هابيل، فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنية من ولد الجن، يقال لها: جمالة في صورة إنسية، وأوحى الله إلى آدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه. فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حورية (2) في صفة إنسية وخلق لها رحما، وكان اسمها بزلة، فلما نظر إليها هابيل أحبها، فأوحى الله إلى آدم أن زوج بزلة من هابيل ففعل. فقال قابيل: يا أبت ألست أكبر من أخي ؟ قال: نعم. قال: فكنت أحق بما فعلت به منه ! فقال له آدم: يا بني إن الله قد أمرني بذلك، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فقال: لا والله، ولكنك آثرته علي. فقال آدم: " فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل ". (1) في ج وى: ثمانين. (2) في ج وى: حوراء. (*)
[ 135 ]
قلت: هذه القضية عن جعفر ما أظنها تصح، وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن. والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " (1) [ النساء: 1 ]. وهذا كالنص ثم نسخ ذلك، حسبما تقدم بيانه في سورة " البقرة " (2). وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا، أولهم قابيل وتوءمته إقليمياء، وآخرهم عبد المغيث. ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا. وما روي عن جعفر - من قوله: فولدت بنتا وأنها بغت - فيقال: مع من بغت ؟ أمع جني تسول (3) لها ! ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر، وذلك معدوم. والله أعلم. الثانية: وفي قول هابيل " قال إنما يتقبل الله من المتقين " كلام قبله محذوف، لانه لما قال له قابيل: " لاقتلنك " قال له: ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ؟، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني، أما إني أتقيته وكنت على لاحب (4) الحق وإنما يتقبل الله من المتقين. قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة [ العليا ] (5) من القبول والختم بالرحمة، علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا. وقال عدي (6) بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الامة الصلاة. قلت: وهذا خاص في نوع من العبادات. وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لاعطينه ولئن استعاذني لاعيذنه وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته). (1) را ج‍ ج 5 ص 2. (2) راجع ج 2 ص 62 فما بعدها. (3) في ى: نزل بها. (4) لاحب: واضح. (5) من ك وه‍ وج وزوى. (6) في ك: علي. (*)
[ 136 ]
قوله تعالى: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لاقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاؤا الظالمين (29) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (لئن بسطت إلي يدك) الآية. أي لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك، فهذا استسلام منه. وفي الخبر: (إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم). وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يارسول: إن دخل علي بيتي وبسط يده [ إلي ] (1) ليقتلني ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن كخير ابني آدم) وتلا هذه الآية " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ". قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا، وألا يمتنع ممن يريد قتله. قال علماؤنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا. وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والاصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر (2)، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة، على ما بيناه في كتاب " التذكرة ". وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج. قال ابن عطية: وهذا هو الاظهر، ومن ها هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر، لانه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا، ويرضى بأن يظلم ليجازي في الآخرة، ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه. وقيل: المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي، وعلى هذا قيل: كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ومدافعة الانسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي. وقيل: لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل. وقيل: أراد لئن بسطت إلى يدك ظلما فما أنا بظالم، إني أخاف الله رب العالمين. (1) من ج وى وز ك. (2) حديث أبي ذر: راجع أحكام الجصاص ج 1 ص 402 ط الاستانة. ففيه الحديث بتمامه. (*)
[ 137 ]
الثانية قوله تعالى: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) قيل: معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) وكأن هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك، فالاثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي. وقيل: المعنى " بإثمي " الذي يختص بي فيما فرطت (1)، أي يؤخذ من سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلك، وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه). أخرجه مسلم بمعناه، وقد تقدم، ويعضده قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم (2)). وهذا بين لا إشكال فيه. وقيل: المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى: " وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم " (3) [ النحل: 15 ] أي لئلا تميد بكم. وقول تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا " (4) [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا فحذف " لا ". قلت: وهذا ضعيف، لقوله عليه السلام: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها لانه أول من سن القتل)، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل، ولهذا قال أكثر العلماء: إن المعنى، ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة أكثر المفسرين. وقيل: هو استفهام، أي أو إني أريد ؟ على جهة الانكار، كقوله تعالى: " وتلك نعمة " (5) أي أو تلك نعمة ؟ وهذا لان إرادة القتل معصية. [ حكاه القشيري ] (6) وسئل أبو الحسن بن كيسان: كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار ؟ فقال: إنما وقعت الارادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل، والمعنى: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني لامتنعن من ذلك مريدا للثواب، فقيل له: فكيف قال: بإثمي وإثمك، وأي إثم له إذا قتل ؟ فقال: فيه ثلاثة أجوبة، أحدها - أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من (1) في ج وى: فرط لي. (2) راجع ج 13 ص 330. (3) راجع ج 10 ص 90. (4) راجع عن 29 من هذا الجزء. (5) راجع ج 13 ص 93. (6) من ج وى وك وز وه‍. (*)
[ 138 ]
أجله لم يتقبل قربانك، ويروى هذا القول عن مجاهد. والوجه الآخر - أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي، لانه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل. والوجه الثالث - أنه لو بسط يده إليه أثم، فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع على صاحبه. فصار هذا مثل قولك: المال بينه وبين زيد، أي المال بينهما، فالمعنى أن تبوء بإثمنا. وأصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل. " وباءوا بغضب من الله " [ البقرة: 61 ] أي رجعوا. وقد مضى في " البقرة " (1) مستوفى. وقال الشاعر: (2) ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي * محارمنا لا يبؤ (3) الدم بالدم أي لا يرجع الدم بالدم في القود. (فتكون من أصحاب النار) دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. وقد استدل بقول هابيل لاخيه قابيل: " فتكون من أصحاب النار " على أنه كان كافرا، لان لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن. وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى " من أصحاب النار " مدة كونك فيها. والله أعلم. قوله تعالى: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فطوعت له نفسه ". أي سولت وسهلت نفسه عليه الامر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل [ له ] (4) يقال: طاع الشئ يطوع أي سهل وانقاد. وطوعه فلان له أي سهله. قال الهروي: طوعت وأطاعت (5) واحد، يقال: طاع له كذا إذا أتاه طوعا. وقيل: طاوعته نفسه في قتل أخيه، فنزع الخافض فانتصب. وروي أنه (1) راجع ج 1 ص 430. (2) هو جابر بن جبير التغلبي. (3) هكذا روى في كتاب سيبويه، وساقه شاهدا على جزم (يبؤ) في جواب الاستفهام وقال في شواهده: التقدير انته عنا لا يبؤ الدم بالدم - أي - إن انتهت عنا ولم تقتل منا لم يقتل واحد بآخر. وروى في (اللسان) بغير هذا. (4) من ج، و، ز، ه‍. (5) في ك: وطاوعت، وفي ز، و، ه‍: وطاعت. (*)
[ 139 ]
جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر - أو حيوان غيره - فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل، قال ابن جريج ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وابن مسعود: وجده نائما فشدخ رأسه بحجر وكان ذلك في ثور - جبل بمكة - قاله ابن عباس. وقيل: عند عقبة حراء، حكاه محمد بن جرير الطبري. وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الاعظم. وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة. ويقال: إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه، لان الانسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ويمكن إتلافها، فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند. والله أعلم. ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه، ففعل القاتل بأخيه كذلك. والسوءة يراد بها العورة، وقيل: يراد بها جيفة المقتول، ثم إنه هرب إلى أرض عدن من اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان أخيك لانه كان يعبد النار، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من عبد النار فيما قيل. والله أعلم. وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الاطعمة، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الارض، فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الارض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل. وقيل: إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم، فلما وصل إليه قال له: أين هابيل ؟ فقال: لا أدري كأنك وكلتني بحفظه. فقال له آدم: أفعلتها ؟ ! والله إن دمه لينادي، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل. فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما. ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك، حتى جاءه ملك فقال له: حياك الله يا آدم وبياك. فقال: ما بياك ؟ قال: أضحكك، قاله مجاهد (1) وسالم بن أبي الجعد. ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا، وتفسيره هبة الله، أي خلفا من هابيل. وقال مقاتل: كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم (2)، فلما قتل قابيل هابيل هربوا (3)، فلحقت الطيور بالهواء، والوحوش بالبرية، و [ لحقت ] (4) السباع بالغياض. وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال: (1) مجاهد ساقط من ج، ز، و. (2) في ك: بابن آدم. (3) كذا في الاصول. (4) من ك. (*)
[ 140 ]
تغيرت البلاد ومن عليها * فوجه الارض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون * وقل بشاشة الوجه المليح في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره. قال ابن عطية: هكذا هو الشعر بنصب " بشاشة " وكف التنوين. قال القشيري وغيره قال ابن عباس: ما قال آدم الشعر، وإن محمدا والانبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال: إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث، فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان، فترجم عنه يعرب بالعربية (1) وجعله شعرا (2). الثانية - روي من حديث أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال: (يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه). وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها لانه كان أول من سن القتل). وهذا نص على التعليل، وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود، لانه أول من عصى به، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والاهواء، قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الاسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). وهذا نص في الخير والشر. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الائمة المضلون). وهذا كله صريح، ونص صحيح في معنى الآية، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية، لان أدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهى عنه، ولا يكون عليه شئ من أوزار من عصى بأكل ما نهى عنه ولا شربه ممن بعده بالاجماع، لان آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه، (1) في ج، ز، و، ه‍: بالعبرانية وهو خطأ. (2) قال الالوسى: ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والاولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة. وقال أبو حيان في البحر: ويروى بنصب (بشاشة) من غير تنوين على التمييز ورفع (الوجه المليح) وليس بلحن. (*)
[ 141 ]
فصار كمن لم يجن. ووجه آخر: فإنه أكل ناسيا على الصحيح من الاقوال، كما بيناه في " البقرة " (1) والناسي غير آثم ولا مؤاخذ. الثالثة - تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسه به رحما، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الاذية عنه. الرابعة - قوله تعالى: (فأصبح من الخاسرين) أي ممن خسر حسناته. وقال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال ابن عطية: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: " فأصبح من الخاسرين " وإلا فالخسران يعم خسران الدنيا والآخرة. قلت: ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر، فيكون المعنى " فأصبح من الخاسرين " أي في الدنيا. والله أعلم. قوله تعالى: فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوءة أخيه يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (31) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فبعث الله غرابا يبحث في الارض) قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه. وكان ابن ادم هذا أول من قتل. وقيل: إن الغراب بحث الارض على طعمه (2) ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه، لانه من عادة الغراب فعل ذلك، فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه. وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب، ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة، قاله مجاهد. وروى ابن القاسم عن مالك (3) (1) راجع ج 1 ص 306، وهذا هو اللائق بالعصمة النبوية. (2) طعمه: أكله. (3) في ك، ز: عن محمد. (*)
[ 142 ]
أنه حمله سنة واحدة، وقاله ابن عباس. وقيل: حتى أروح (1) ولا يدري ما يصنع به إلى أن أقتدى بالغراب كما تقدم. وفي الخبر عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له). وقال قوم: كان قابيل يعلم الدفن، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه، فقال عند ذلك: " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين " حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة، وقيل: إنما ندمه كان على فقده لا على قتله، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه. أو ندم ولم يستمر ندمه، فقال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه. ويقال: إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه. ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه. ويقال: دعا عليه آدم فانخسفت به الارض. ويقال: إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش، فكان إذا ظفر به وقذه (2) حتى يموت ثم يأكله. قال ابن عباس: فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار، وذلك قوله تعالى: " ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والانس " [ فصلت: 29 ] [ الآية ] (3) فإبليس رأس الكافرين من الجن، وقابيل رأس الخطيئة من الانس، على ما يأتي بيانه في " حم فصلت " (3) إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة، والله بكل ذلك أعلم وأحكم. وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهلت سنة المواراة، وكذلك حكى الطبري عن [ ابن ] (4) إسحق عن بعض أهل العلم بما في كتب الاوائل. و [ قوله ] (5) (1) أروح: أنتن. (2) الوقذ: الضرب الشديد. (3) من ج وك وه‍. راجع ج 15 ص 355 (4) من ج. (5) من ك. (*)
[ 143 ]
" يبحث " معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره. ومن هذا سميت سورة " براءة " البحوث (1)، لانها فتشت عن المنافقين، ومن ذلك قول الشاعر: إن الناس غطوني تغطيت عنهم * وإن بحثوني كان (2) فيهم مباحث وفي المثل: لا تكن كالباحث على الشفرة، قال الشاعر: فكانت كعنز السوء قامت برجلها * إلى مدية مدفونة تستثيرها الثانية - بعث الله الغراب حكمة، ليرى ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله تعالى: " ثم أماته فأقبره " (3) [ عبس: 21 ] فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق، فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين. وأخص الناس به الاقربون الذين يلونه، ثم الجيرة، ثم سائر المسلمين. وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: (أذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني) فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي. الثالثة - ويستحب في القبر سعته وإحسانه، لما رواه ابن ماجة عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احفروا وأوسعوا وأحسنوا). وروي عن الادرع السلمي قال: جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل قراءته عالية، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: هذا مراء (4)، قال: فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله). قال: وحضر حفرته فقال: (أوسعوا له وسع الله عليه) فقال بعض أصحابه: [ يا رسول الله ] (5) لقد حزنت عليه ؟ فقال: (أجل إنه كان يحب الله ورسوله)، أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد. (1) البحوث (بضم الباء) جمع بحث، وقال ابن الاثير: رأيت في (الفائق) سورة (البحوث) بفتح (الباء) فإن صحت فهي فعول من أبنية المبالعة، ويكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. (2) كذا في ابن عطية، والذي في الاصول: كنت فيهم مباحث. (3) راجع ج 19 ص 215 (4) من الرياء وكأنه عليه الصلاة والسلام أعرض عن كلامه تنبيها على أنه خطأ، ثم بين في وقت آخر أن الامر على خلاف ما زعم. (هامش ابن ماجة). (5) الزيادة عن (ابن ماجة). (*)
[ 144 ]
قال أبو عمر بن عبد البر: أدرع السلمي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا، وروى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري، و ؟ ؟ هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار الانصاري، كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه هشاما، واستشهد أبوه عامر يوم أحد. سكن هشام البصرة ومات بها، ذكر هذا في كتاب الصحابة. الرابعة - ثم قيل: اللحد أفضل من الشق، فإنه الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد (1) والآخر لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما. والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة، وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق. واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب، قال سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي هلك فيه: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى اله عليه وسلم. أخرجه مسلم. وروى ابن ماجة وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا). الخامسة - روى ابن ماجة عن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخذ في تسوية [ اللبن على ] (2) اللحد قال: اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جاف الارض عن جنبيها، وصعد روحها ولقها منك رضوانا. قلت يا ابن عمر أشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك ؟ قال: إني إذا لقادر على القول ! بل شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله (1) يلحد كيمنع، أو من ألحد. (2) الزيادة عن (ابن ماجة). (*)
[ 145 ]
صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا. فهذا ما تعلق في معنى الآية من الاحكام. والاصل في " يا ويلتي " يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف. وقرأ الحسن على الاصل بالياء، والاول أفصح، لان حذف الياء في النداء أكثر. وهي كلمة تدعو بها العرب عند الهلاك، قال سيبويه. وقال الاصمعي: " ويل " بعد. وقرأ الحسن: " أعجزت " بكسر الجيم. قال النحاس: وهي لغة شاذة، إنما يقال عجزت المرأة إذا عظمت عجيزتها، وعجزت عن الشئ عجزا ومعجزة ومعجزة. والله أعلم. قوله تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم أن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون (32) قوله تعالى: (من أجل ذلك) أي من جراء ذلك القاتل وجريرته. وقال الزجاج: أي من جنايته، يقال: أجل الرجل على أهله شرا يأجل أجلا إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذ. قال الخنوت: (1) وأهل خباء صالح كنت بينهم * قد احتربوا في عاجل أنا آجله أي جانيه، وقيل: أنا جاره عليهم. وقال عدي بن زيد: أجل أن الله قد فضلكم * فوق من أحكا (2) صلبا بإزار وأصله الجر، ومنه الاجل لانه وقت يجر إليه العقد الاول. ومنه الآجل نقيض العاجل، وهو بمعنى يجر إليه أمر متقدم. ومنه أجل بمعنى نعم. لانه انقياد إلى ما جر إليه. ومنه الاجل (3) للقطيع من بقر الوحش، لان بعضه ينجر إلى بعض، قاله الرماني. وقرأ يزيد بن (1) قال في البحر: نسبه ابن عطية لخوات بن جبير وكذا في اللسان. والبيت في ديوان زهير. وفي ج، ز، ك، ه‍،: ذات بينهم. (2) أحكأ العقدة: شدها وأحكمها. والمعنى: فضلكم الله على من ائتزر فشد صلبه بإزار، أي فوق الناس أجمعين. (3) في الاصول: الآجال وهو جمع. (*)
[ 146 ]
القعقاع أبو جعفر: " من أجل ذلك " بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة، والاصل " من إجل ذلك " فألقيت كسرة الهمزة على النون وحذفت الهمزة. ثم قيل: يجوز أن يكون قوله: " من أجل ذلك " متعلقا بقوله: " من النادمين " [ المائدة: 31 ]، فالوقف على قوله: " من أجل ذلك ". ويجوز أن يكون متعلقا بما بعده وهو " كتبنا ". ف‍ " من أجل " ابتداء كلام والتمام " من النادمين "، وعلى هذا أكثر الناس، أي من سبب هذه النازلة كتبنا. وخص بني إسرائيل بالذكر - وقد تقدمتهم أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظورا - لانهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الانفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلظ الامر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء. ومعنى " بغير نفس " أي بغير أن يقتل نفسا فيستحق القتل. وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا. " أو فساد في الارض " أي شرك، وقيل: قطع طريق. وقرأ الحسن - " أو فسادا " بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عليه أول الكلام تقديره، أو أحدث فسادا، والدليل عليه قوله: " من قتل نفسا بغير نفس " لانه من أعظم الفساد. وقرأ العامة - " فساد " بالجر على معنى أو بغير فساد. (فكأنما قتل الناس جميعا) اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لاجل أن عقاب من قتل الناس جميعا أكثر من عقاب من قتل واحدا، فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا أنه قال: المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا، ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا. المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ. وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه
[ 147 ]
جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، يقول: لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك (1)، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه. وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا، قال: ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله، وقاله الحسن أيضا، أي هو العفو بعد المقدرة. وقيل: المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لانه قد وتر الجميع، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، أي يجب على الكل شكره. وقيل: جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع، وله أن يحكم بما يريد. وقيل: كان هذا مختصا ببني إسرائيل تغليظا عليهم. قال ابن عطية: وعلى الجملة فالتشبيه على ما قيل واقع كله، والمنتهك في واحد ملحوظ بعين منتهك الجميع، ومثاله رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته، وطعم الآخر ثمر شجرته كلها، فقد استويا في الحنث. وقيل: المعنى أن من استحل واحدا فقد استحل الجميع، لانه أنكر الشرع. وفي قوله تعالى: (ومن أحياها) تجوز، فإنه عبارة عن الترك والانقاذ من هلكة، وإلا فالاحياء حقيقة - الذي هو الاختراع - إنما هو لله تعالى. وإنما هذا الاحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين: " أنا أحيي وأميت " (2) [ البقرة: 258 ] فسمى الترك إحياء. ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله. قوله تعالى: إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34) (1) أي لم يزد على ذلك من العذاب، كما في الطبري. (2) راجع ج 3 ص 283. (*)
[ 148 ]
فيه خمس عشرة مسألة الاولى: اختلف الناس في سبب [ نزول ] (1) هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين، روى الائمة واللفظ لابي داود عن أنس بن مالك: أن قوما من عكل (2) - أو قال من عرينة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا (3) المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم، فلما ارتفع النهار حتى جئ بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر (4) أعينهم وألقوا في الحرة (5) يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم (6)، وفي رواية: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة (7) فأتي بهم قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا " الآية. وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم (8) الارض بفيه عطشا حتى ماتوا. وفي البخاري قال جرير بن عبد الله في حديثه: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا (9) على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جرير: فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النار). وقد حكى أهل التواريخ والسير: أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا. وكان اسمه يسار وكان نوبيا. وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة. وفي بعض الروايات عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار (1) من ك. (2) عكل (بضم العين المهملة وسكون الكاف): قبيلة مشهورة. (3) أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها. (النهاية) لابن الاثير. (4) سمر عين فلان: سملها (فقأها). (5) الحرة (بفتح الحاء وتشديد الراء): أرض خارج المدينة ذات حجارة سود. (6) حسم العرق: قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه. (7) القافة (جمع (قائف) وهو الذي يتبع الاثر. (8) كدمه: عضه بأدنى فمه. (9) في ووا: وقد أشرفنا. (*)
[ 149 ]
بعد ما قتلهم. وروي عن ابن عباس والضحاك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الارض. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله: " غفور رحيم " نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ (1) منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وممن قال: إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " (2) [ الانفال: 38 ] وقوله عليه [ الصلاة و ] (3) السلام: (الاسلام يهدم ما قبله) أخرجه مسلم، والصحيح الاول لنصوص الاحاديث الثابتة في ذلك. وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الارض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله جل ثناؤه: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الاسلام. وحكى الطبري عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، فوقف الامر على هذه الحدود. وروى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني حديث أنس، ذكره أبو داود. وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ، (4) إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عزوجل في ذلك، فأنزل الله تعالى في ذلك " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا " الآية. أخرجه أبو داود. قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد. وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل، لان ذلك وقع في مرتدين، (1) في مصنف أبي داود: تاب، بدل: أخذ. (2) راجع ج 7 ص 401. (3) من ج. (4) من ك وهو الصواب، وفي ه‍ وج وا وز ول: لم يجز. (*)
[ 150 ]
لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال: إنما سمل [ النبي صلى الله عليه وسلم ] (1) أعين أولئك لانهم سملوا أعين الرعاة، فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن. قلت: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي، ولذلك قال الله تعالى: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة. والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، ولا يصلب أيضا، فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد. وقال تعالى في حق الكفار: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " [ الانفال: 38 ]. وقال في المحاربين: " إلا الذين تابوا " الآية، وهذا بين. وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب، قال الله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (2) [ البقرة: 194 ] فمثلوا فمثل بهم، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم. وحكى الطبري عن السدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك، فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدا، فإن الاخبار الثابتة وردت بالسمل، وفي صحيح البخاري: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم. ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الاسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. وفي قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " استعارة ومجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الاضداد والانداد. والمعنى: يحاربون أولياء الله، فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذايتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " [ البقرة: 245 ] حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة (استطعمتك فلم تطعمني). الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في " البقرة " (3). (1) من ج وك وه‍. (2) راجع ج 2 ص 354 (3) راجع ج 3 ص 240. (*)
[ 151 ]
الثانية - واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة (1) ولا ذحل (2) ولا عداوة، قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة، وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعي وأبي ثور، قال ابن المنذر: كذلك هو لان كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لاحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر، هذا قول سفيان الثوري وإسحق والنعمان. والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا. الثالثة - واختلفوا في حكم المحارب، فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله، فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي، قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال أبو يوسف: إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة، قال الليث: بالحربة مصلوبا. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه (3)، قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شئ. ونحوه قول الاوزاعي. وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لان هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام، قال: وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو (1) نأرت نائرة في الناس: هاجت هائجة. (2) الذحل: الثأر. (3) في ك: لم يقطع وصلبه. (*)
[ 152 ]
حبس. وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي. وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والاكل والشرب، وحكي عن الشافعي: أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وقال أبو ثور: الامام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال: الامام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الاحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية، قال ابن عباس: ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار، وهذا القول أشعر (1) بظاهر الآية، فإن أهل القول الاول الذين قالوا إن " أو " للترتيب - وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى، وليس كذلك الآية ولا معنى " أو " في اللغة، قال النحاس. واحتج الاولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال: " من أخاف السبيل وأخذ المال فأقطع به للاخذ ورجله للاخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه ". قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الاخذ بأيسر [ العذاب و ] (2) والعقاب استحسانا. الرابعة - قوله تعالى: " أو ينفوا من الارض " اختلف في معناه، فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الاسلام هربا ممن يطلبه، عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه، وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد والزهري أيضا. وقال مالك أيضا: ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني. وقال [ مالك أيضا و ] (2) الكوفيون: نفيهم سجنهم فينفي من سعة الدنيا إلى (1) في ج وك: أسعد. (2) من ك. (*)
[ 153 ]
ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الارض إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الاموات فيها ولا الاحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم، والظاهر أن الارض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب الناس قديما الارض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه الحديث (1) (الذي ناء بصدره ونحو الارض المقدسة). وينبغي للامام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب [ فظن أنه لا يعود إلى جناية ] (2) سرح، فال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا على الاغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح (3)، لان نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح. الخامسة - قوله تعالى: " أو ينفوا من الارض " النفي أصله الاهلاك، ومنه الاثبات والنفي، فالنفي الاهلاك بالاعدام، ومنه النفاية لردي المتاع، ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو. قال الراجز: (4) كأن متنيه (5) من النفي * مواقع الطير على الصفي السادسة - قال ابن خويزمنداد: ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق. وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب ربع دينار، قال ابن العربي قال الشافعي (1) هو حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا. وناء بمعنى نهض، ويحتمل أنه بمعنى بعد (النهاية لابن الاثير). (2) من ك. (3) من ك. وفي ج، هه، ز: الراجح. (4) هو الاخيل. (5) جاء في (اللسان) مادة نفى أن الصحيح (كأن متنى) لان بعده (من طول إشرافي على الطوى). ومتنا الظهر مكتنفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم. والصفى (بضم الصاد وكسرها) جمع صفا مقصور، وصفا جمع صفاة وهي الحجر ؟ الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا. وفسر بأنه شبه الماء وقد وقع على ظهر المستقى بذرق الطائر على الصفى. (*)
[ 154 ]
وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق، وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح، فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يوقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة، ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه، وقياس الاعلى بالادنى والادنى بالاسفل وذلك عكس القياس. وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب. قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين. قلت: اليفع (1) أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ، والحضيض الحفرة في أسفل الوادي، كذا قال أهل اللغة. السابعة - ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل، وللشافعي قولان: أحدهما - أنها تعتبر المكافأة لانه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص، وهذا ضعيف، لان القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال، قال الله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا " فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الارض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنئ. الثامنة - وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع. وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل، وهذا أيضا ضعيف، فإن من حضر (1) اليفع بمعنى اليفاع. (*)
[ 155 ]
الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم، وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة، فالمحارب أولى. التاسعة - وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الامام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته، ولا يدفف (1) منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل، فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لاحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال، وما أتلفوه من مال لاحد غرموه، ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي: العاشرة - لم يكن للامام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين، فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لاوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وإنما أخذ ما بأيديهم من الاموال وضمنوا قيمه ما استهلكوا، لان ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الامام عنده حتى يعلم صاحبه. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يطلب به، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الاموال والدم عنه كتابا منشورا، قال ابن خويزمنداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال، هل يتبع دينا بما أخذ، أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق ؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء. (1) دفف على الجريح أجهز عليه. (*)
[ 156 ]
الحادية عشرة - وجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شئ، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الامام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى. قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها، واجتلبنا دررها، ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي: الثانية عشرة - وتفسير مجاهد لها، قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة، وليس بصحيح، فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا محصنا. وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الاموال وقد دخل في معنى قوله تعالى: " ويسعون في الارض فسادا ". الثالثة عشرة - قال علماؤنا: ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي ؟ قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا علي. قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا علي قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا علي قال: (فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار) وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال: (فلا تعطه مالك) قال: أرأيت إن قاتلني ؟ قال: (فقاتله) قال: أرأيت إن قتلني ؟ قال: (فأنت شهيد) قال: فإن قتلته ؟ قال: (هو في النار). قال ابن المنذر: وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم: إن
[ 157 ]
للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما، للاخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان، فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه، للاخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فيها الامر بالصبر على ما يكون منهم، من الجور والظلم، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة. قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشئ الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون ؟ وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الامر بقتالهم لانه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر ؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال. والله أعلم. الرابعة عشرة - قوله تعالى: " ذلك لهم خزي في الدنيا " لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر، لان فيها سد سبيل الكسب على الناس، لان أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الارض، كما قال عزوجل: " وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله " (1) [ المزمل: 20 ] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو [ له ] (2) كفارة) والله أعلم. ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الانفاذ بالمشيئة (1) راجع ج 19 ص 50. (2) الزيادة عن ابن عطية. (*)
[ 158 ]
كقوله تعالى: " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " (1) [ النساء: 116 ] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية (2). الخامسة عشرة - قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) استثنى عزوجل التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله: " فاعلموا أن الله غفور رحيم ". أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط. ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه. وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف، لانه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالاجماع. وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لانهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الامام، أو لانه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم، كالمتلبس بالعذاب من الامم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب، فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة " يونس " (3)، فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا. والله أعلم. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (35) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (36) (1) راجع ج 5 ص 385. (2) كذا في الاصل وفي تفسير ابن عطية. والذي في البحر: (وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ولكن في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد) وهو أوضح. (3) راجع ج 8 ص 383. (*)
[ 159 ]
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) الوسيلة هي القربة عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت، قال عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك تكحلي وتخضبي والجمع الوسائل، قال: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل ويقال: منه سلت أسأل أي طلبت، وهما يتساولان أي يطلب كل واحد من صاحبه، فالاصل الطلب، والوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها، والوسيلة درجة في الجنة، وهي التي جاء الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة). قوله تعالى: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (37) قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبد الله إنكم يا أصحاب محمد تقولون إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول: " وما هم بخارجين منها " فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصا والخاص عاما، إنما هذا في الكفار خاصة، فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة. و " مقيم " معناه دائم ثابت لا يزول ولا يحول، قال الشاعر: فإن لكم بيوم الشعب مني * عذابا دائما لكم مقيما قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38) فيه سبع وعشرون (1) مسألة: الاولى - قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) الآية. لما ذكر تعالى أخذ الاموال بطريق السعي في الارض والفساد ذكر حكم السارق من غير حراب على ما يأتي (1) كذا في كل الاصول، غير أنها ست وعشرون سقط المسألة الثالثة عشرة ما عدا: ل. سقط منها المسألة السادسة والعشرون. (*)
[ 160 ]
بيانه أثناء الباب، وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب. وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الاسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الاسد من بنى مخزوم، وقطع أبو بكر يد اليمنى (1) الذي سرق العقد، وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن ابن سمرة ولا خلاف فيه. وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك، لقوله عليه السلام (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) فبين انه إنما أراد بقوله: " والسارق والسارقة " بعض السراق دون بعض، فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، أو فيما قيمته ربع دينار، وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال عمر ابن عبد العزيز والليث والشافعي وأبو ثور، وقال مالك: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما. والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر، فجعل مالك الذهب والورق كل واحد منهما أصلا بنفسه، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور. وقال أحمد وإسحق: إن سرق ذهبا فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة كانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو ما صار إليه مالك في القول الآخر، والحجة للاول حديث ابن عمر أن رجلا سرق حجفة (2)، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم. وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه، وترك حديث ابن عمر لما رآه - والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم، فابن عمر يقول: ثلاثة دراهم، وابن عباس يقول: عشرة دراهم، وأنس يقول: خمسة دراهم، (1) هو رجل من أهل اليمن أقطع اليد والرجل سرق عقدا لاسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضى الله عنه فقطع يده اليسرى. (2) الحجفة بالتحريك: الترس، وقيل: هي من الجلود خاصة كالدرقة. (*)
[ 161 ]
وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه، ورفعه (1) من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته، قاله أبو عمر وغيره. وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه، وهو قول إسحق، فقف على هذين الاصلين فهما عمدة الباب، وما أصح ما قيل فيه. وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو دينارا ذهبا عينا أو وزنا، ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل، وحجتهم حديث ابن عباس، قال: قوم المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم، أخرجهما الدارقطني وغيره. وفي المسألة قول رابع، وهو ما رواه الدارقطني عن عمر قال: لا تقطع الخمس إلا في خمس، وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة، وقال أنس بن مالك: قطع أبو بكر - رحمه الله - في مجن قيمته خمسة دراهم. وقول خامس: وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا، روي عن أبي هريرة وأبى سعيد الخدري. وقول سادس: وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه، قاله عثمان البتي. وذكر الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم. وقول سابع: وهو أن اليد تقطع في كل ماله قيمة على ظاهر الآية، هذا قول الخوارج، وروي عن الحسن البصري، وهى إحدى الروايات الثلاث عنه، والثانية كما روي عن عمر، والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال: تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد ؟ فاتفق رأينا على درهمين. وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك، فإن قيل: قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير (2)، فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام: (من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص (3) قطاة بنى الله له بيتا في الجنة). (1) حديث عائشة صحيح عند الاباضية مرفوع كما في مسند الربيع. وحديث المجن أيضا فيه عن أبي سعيد الخدري الآتي بأربعة دراهم إلا أن العمل بحديث عائشة. (2) من ع. (3) مفحص القطاة حيث تفرخ فيه من الارض. (*)
[ 162 ]
وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر، وذلك أنه إذا ضرى بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الاعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم. قلت: كحبال السفينة وشبه ذلك. والله أعلم. الثانية - اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع. وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا جمع الثياب في البيت قطع. وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار اتفاقا صحيحا. والحمد لله. الثالثة - الحزر هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شئ بحسب حاله على ما يأتي بيانه. قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لاهل العلم، وإنما ذلك كالاجماع من أهل العلم. وحكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع في ثمر معلق (1) ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن) قال أبو عمر: هذا حديث يتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، وعبد الله هذا ثقة عند الجميع، وكان أحمد يثني عليه. وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: (من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة (2) فلا شئ عليه ومن خرج بشئ منه فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة) وفي رواية (وجلدات نكال) بدل (والعقوبة). قال العلماء: ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع. قال أبو عمر: قوله (غرامة مثليه) منسوخ لا أعلم أحد من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب ابن أبي بلتعة، خرج مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل. والذي عليه الناس في الغرم بالمثل، (1) الثمر المعلق: الثمر في الاشجار. وحريسة الجبل: ما يحرس بالجبل. والجرين: البيدر موضع يداس فيه البر وقد يكون للتمر والعنب. (2) الخبنة: الحجزة في السراويل، والوعاء يحمل فيه الشئ أيضا وما يحمل تحت الابط. (*)
[ 163 ]
لقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (1) [ البقرة: 194 ]. وروى أبو داود عن صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة (2) لي ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت أتقطع من أجل ثلاثين درهما ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: (فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به) ؟. ومن جهة النظر أن الاموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين، ثم الحكمة الاولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا، وبقيت الاطماع متعلقة بها، والآمال محومة عليها، فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق، ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم، فإذا أحرزها مالكها فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الامكان للانسان، فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والادب. الرابعة - فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه، فلا يخلو، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أولا إلا بتعاونهم، فإذا كان الاول فاختلف فيه علماؤنا على قولين: أحدهما يقطع فيه، والثاني لا يقطع فيه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، قالا: لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب، لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] (3): (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم. ووجه القطع في إحدى الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل، قال ابن العربي: وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء، لئلا يتعاون على سفكها الاعداء، فكذلك في الاموال مثله، لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما. وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء، ذكره ابن العربي. (1) راجع ج 2 ص 354. (2) الخميصة: ثوب خزا وصوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة. (3) من ع وج. (*)
[ 164 ]
الخامسة - فإن اشتركوا في السرقة بأن نقب واحد الحرز وأخرج آخر، فإن كانا متعاونين قطعا. وإن انفرد كل (1) منهما بفعله دون اتفاق بينهما، بأن يجئ آخر فيخرج فلا قطع على واحد منهما. وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالاخراج فالقطع عليه خاصة، وقال الشافعي: لا قطع، لان هذا نقب ولم يسرق، والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة. وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع. ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة. السادسة - ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز فأدخل الآخر يده فأخذه فعليه القطع، ويعاقب الاول، وقال أشهب: يقطعان. وإن وضعه خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ، وإن وضعه في وسط النقب فأخذه الآخر والتقت أيديهما في النقب قطعا جميعا. السابعة - والقبر والمسجد حرز، فيقطع النباش عند الاكثر، وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، لانه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له، لان الميت لا يملك. ومنهم من ينكر السرقة، لانه ليس فيه ساكن، وإنما تكون السرقة بحيث تتقى الاعين، ويتحفظ من الناس، وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر. وقال الجمهور: هو سارق لانه تدرع الليل لباسا وأتقى الاعين، وقصد وقتا لا ناظر فيه ولا ماز عليه، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد، وخلو البلد من جميعهم. وأما قولهم: إن القبر غير حرز فباطل، لان حرز كل شئ بحسب حاله الممكنة فيه. وأما قولهم: إن الميت لا يملك فباطل أيضا، لانه لا يجوز ترك الميت عاريا فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حرز. وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا " (2) [ المرسلات: 25 - 26 ] ليسكن فيها حيا، ويدفن فيها ميتا. وأما قولهم: [ إنه ] (3) عرضة للتلف، فكل ما يلبسه الحي أيضا معرض للتلف والاخلاق بلباسه، إلا أن أحد الامرين أعجل من الثاني، وقد روى أبو داود عن أبي ذر قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت (4) فيه بالوصيف)، يعني (1) في ج وه‍ وز وك: كل واحد. (2) راجع ج 19 ص 158 (3) من ك وج وع. (4) البيت هنا القبر. والوصيف الخادم غلاما كان أو جارية. والمعنى، أن الموت يكثر حتى يشترى موضع قبر بعبد. (*)
[ 165 ]
القبر، قلت: الله ورسوله أعلم قال: (عليك بالصبر) قال حماد: فبهذا قال من قال تقطع يد السارق، لانه دخل على الميت بيته. وأما المسجد، فمن سرق حصره قطع، رواه عيسى عن ابن القاسم، وإن لم يكن للمسجد باب، ورآها محرزة. وإن سرق الابواب قطع أيضا، وروي عن ابن القاسم أيضا إن كانت سرقته للحصر نهارا لم يقطع، وإن كان تسور عليها ليلا قطع، وذكر عن سحنون إن كانت حصره خيط بعضها إلى بعض قطع، وإلا لم يقطع. قال أصبغ: يقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه، كما لو سرق بابه مستسرا أو خشبة من سقفه أو من جوائزه (1). وقال أشهب في كتاب محمد: لا قطع في شئ من حصر المسجد وقناديله وبلاطه. الثامنة - واختلف العلماء هل يكون غرم مع القطع أم لا ؟ فقال أبو حنيفة: لا يجتمع الغرم مع القطع بحال، لان الله سبحانه قال: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله " ولم يذكر غرما. وقال الشافعي: يغرم قيمة السرقة موسرا كان أو معسرا، وتكون دينا عليه إذا أيسر أداه، وهو قول أحمد وإسحق. وأما علماؤنا مالك وأصحابه فقالوا: إن كانت العين قائمة ردها، وإن تلفت فإن كان موسرا غرم، وإن كان معسرا لم يتبع به دينا ولم يكن عليه شئ، وروى مالك (2) مثل ذلك عن الزهري، قال الشيخ أبو إسحق: وقد قيل إنه يتبع بها دينا مع القطع موسرا كان أو معسرا، قال: وهو قول غير واحد [ من علمائنا ] (3) من أهل المدينة، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية والكفارة، ثم قال: وبهذا أقول. واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه) وأسنده في كتابه. وقال بعضهم: إن الاتباع بالغرم عقوبة، والقطع عقوبة، ولا تجتمع عقوبتان، وعليه عول القاضي عبد الوهاب. والصحيح قول الشافعي ومن وافقه، قال الشافعي: يغرم السارق ما سرق موسرا كان أو معسرا، قطع أو لم يقطع، وكذلك إذا قطع الطريق، قال: ولا يسقط (1) الجائز من البيت الخشبة التي تحمل خشب البيت، والجمع أجوزة وجوزان وجوائز. (2) سقط (مالك) من ج وه‍ وك وع. (3) من ك. (*)
[ 166 ]
الحد لله ما أتلف للعباد، وأما ما احتج به علماؤنا من الحديث (إذا كان معسرا) فيه احتج الكوفيون وهو قول الطبري، ولا حجة فيه، رواه النسائي والدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف. قال أبو عمر: هذا حديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة، وقال ابن العربي: وهذا حديث باطل. وقال الطبري: القياس أن عليه غرم ما استهلك. ولكن تركنا ذلك اتباعا للاثر في ذلك. قال أبو عمر: ترك القياس لضعيف الاثر غير جائز، لان الضعيف لا يوجب حكما. التاسعة - واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه، فقال علماؤنا: يقطع. وقال الشافعي: لا يقطع، لانه سرق من غير مالك ومن غير حرز. وقال علماؤنا: حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، ويد السارق كلايد، كالغاصب لو سرق منه المال المغصوب قطع، فإن قيل: اجعلوا حرزه كلا حرز، قلنا: الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز. العاشرة - واختلفوا إذا كرر السرقة بعد القطع في العين المسروقة، فقال الاكثر: يقطع. وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه. وعموم القرآن يوجب عليه القطع، وهو يرد قوله. وقال أبو حنيفة أيضا في السارق يملك الشئ المسروق بشراء أو هبة قبل القطع: فإنه لا يقطع، والله تعالى يقول: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شئ. الحادية عشرة - قرأ الجمهور " والسارق " بالرفع. قال سيبويه: المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة. وقيل: الرفع فيهما على الابتداء والخبر " فاقطعوا أيديهما ". وليس القصد إلى معين إذ لو قصد معينا لوجب النصب، تقول: زيدا اضربه، بل هو كقولك: من سرق فاقطع يده. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار. وقرئ " والسارق " بالنصب فيهما على تقدير اقطعوا السارق والسارقة، وهو اختيار سيبويه، لان الفعل بالامر أولى، قال سيبويه رحمه الله تعالى: الوجه في كلام العرب النصب، كما تقول: زيدا اضربه، ولكن
[ 167 ]
العامة أبت إلا الرفع، يعني عامة القراء وجلهم، فأنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين. وقرأ ابن مسعود " والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم " وهو يقوي قراءة الجماعة. والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشئ المسروق، والمصدر من سرق يسرق سرقا بفتح الراء. قاله الجوهري. وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشئ في خفية من الاعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر. قال ابن عرفة: السارق عند العرب هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس (1)، فإن تمنع (2) بما في يده فهو غاصب. قلت: وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته) قالوا: وكيف يسرق صلاته ؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها) خرجه الموطأ وغيره، فسماه سارقا وإن كان ليس سارقا من حيث [ هو ] (3) موضع الاشتقاق، فإنه ليس قيه مسارقة الاعين غالبا. الثانية عشرة - قوله تعالى: " فاقطعوا " القطع معناه الابانة والازالة، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشئ المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته. فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف، وهي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده، وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال، لان العبد وماله لسيده. ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده لانه آخذ لماله، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة (4): غلامكم سرق متاعكم. وذكر الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي) قال: لم يرفعه غير فهد بن سليمان، والصواب [ أنه ] (5) موقوف. وذكر ابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سرق (1) المحترس الذي يسرق حريسة الجبل. (2) من ع. (3) من ج. (4) الخليفة عمر ابن الخطاب - رضى الله عنه - والسارق كان غلاما لعبد الله بن عمرو الحضرمي سرق مرآة لامرأته ثمنها ستون درهما. (5) من ك. (*)
[ 168 ]
العبد فبيعوه ولو بنش (1)) أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال ابن ماجة: وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس، أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه. وقال: (مال الله سرق بعضه بعضا) وجبارة بن المغلس متروك، قاله أبو زرعة الرازي. ولا قطع على صبي ولا مجنون. ويجب على الذمي والمعاهد، والحربي إذا دخل بأمان. وأما ما يعتبر في الشئ المسروق فأربعة أوصاف، وهي النصاب وقد مضى القول فيه، وأن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشا الحر الصغير عند مالك، وابن القاسم، وقيل: لا قطع عليه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، لانه ليس بمال. وقال علماؤنا: هو من أعظم المال، ولم يقطع السارق في المال لعينه. وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد. وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب. قال ابن القاسم: ولا يقطع سارق الكلب، وقال أشهب: ذلك في المنهي عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه. قال: ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم. وقال ابن حبيب قال أصبغ: إن سرق الاضحية قبل الذبح قطع، وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع. وإن كان مما يجوز اتخاذ أصله وبيعه، فصنع منه ما لا يجوز استعماله كالطنبور والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر، فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع. وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة. وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصابا قطع فيه. الوصف الثالث، ألا يكون للسارق فيه ملك، كمن سرق ما رهنه (1) النش: (بفتح النون وتشديد الشين) عشرون درهما ويطلق على النصف من كل شئ فالمراد البيع ولو بنصف القيمة. (*)
[ 169 ]
أو ما استأجره، ولا شبهة ملك، على اختلاف بين علمائنا وغيرهم في مراعاة شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال لان له فيه نصيبا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل سرق (1) مغفرا من الخمس فلم ير عليه قطعا وقال: له فيه نصيب. وعلى هذا مذهب الجماعة في بيت المال. وقيل: يجب عليه القطع تعلقا بعموم لفظ آية (2) السرقة. وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والاعجمي الكبير، لان ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه لا يقطع فيه. وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشئ المسروق. وجملة القول فيه أن كل شئ له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شئ معه حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئا، وإن كان قبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الامام وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية، ألا ترى أن الامام قد يجوز أن يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس، أو يفرقه في بلد دون بلد آخر ويمنع منه قوما دون قوم، ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه. وكذلك المغانم لا تخلو: أن تتعين بالقسمة، فهو ما ذكرناه في بيت المال، أو تتعين بنفس التناول لمن شهد الوقعة، فيجب أن يراعي قدر ما سرق، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم يقطع (3). الرابعة عشرة - وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله أم لا، سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة، كان معها أهلها أم لا، فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ، ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه فإنه حرز لها. والسفينة حرز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فربطها حرز، (1) المغفر (بكسر الميم): زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة. (2) من ع. (3) كل الاصول لم تذكر الثالثة عشرة، إلا ك، ثم سقط منها التاسعة عشرة. (*)
[ 170 ]
وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة، كالدابة بباب المسجد معها حافظ، إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلا فيربطوها فهو حرز لها كان صاحبها معها أم لا. الخامسة عشرة - ولا خلاف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار وإن لم يدخل بها بيته ولا خرج بها من الدار. ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار، لان قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء، إلا أن تكون دابة في مربطها أو ما يشبهها من المتاع. السادسة عشرة - ولا يقطع الابوان بسرقة مال ابنهما، لقوله عليه السلام: (أنت ومالك لابيك). ويقطع في سرقة مالهما، لانه لا شبهة له فيه. وقيل: لا يقطع، وهو قول ابن وهب وأشهب، لان الابن ينبسط في مال أبيه في العادة، ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فلان لا يقطع ابنه في ماله أولى. واختلفوا في الجد، فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع. وقال أشهب: يقطع. وقول مالك أصح لانه أب، قال مالك: أحب إلى ألا يقطع الاجداد من قبل الاب والام وإن لم تجب لهم نفقة. قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات. قال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق من جوع أصابه. وقال أبو حنيفة: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والاخت وغيرهم، وهو قول الثوري. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحق: يقطع من سرق من هؤلاء. وقال أبو ثور: يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد، إلا أن يجمعوا على شئ فيسلم للاجماع [ والله أعلم ] (1). السابعة عشرة - واختلفوا في سارق المصحف، فقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور: يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد، وبه قال ابن القاسم. وقال النعمان: لا يقطع من سرق مصحفا. قال ابن المنذر: يقطع سارق المصحف. واختلفوا في الطرار (2) يطر النفقة من الكم، فقالت طائفة: يقطع من طر من داخل الكم أو من خارج، وهو قول مالك (1) في ك. (2) الطرار: هو الذي يشق كم الرجل ويسل ما فيه، من الطر وهو القطع والشق. (*)
[ 171 ]
والاوزاعي وأبي ثور ويعقوب. قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع. وقال الحسن: يقطع. قال ابن المنذر: يقطع على أي جهة طر. الثامنة عشرة - واختلفوا في قطع اليد في السفر، وإقامة الحدود في أرض الحرب، فقال مالك والليث بن سعد: تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق بين دار الحرب والاسلام. وقال الاوزاعي: يقيم من غزا على جيش - وإن لم يكن أمير مصر من الامصار - الحدود في عسكره غير القطع. وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره. استدل الاوزاعي ومن قال بقوله بحديث جنادة بن أبي أمية قال: كنا مع بسر بن أرطأة في البحر، فأتى بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية (1)، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقطع الايدي في الغزو) (2) ولولا ذلك لقطعته. يسر هذا [ يقال ] (3) ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت له أخبار سوء في جانب علي وأصحابه، وهو الذي ذبح طفلين (4) لعبدالله بن العباس ففقدت أمهما عقلها فهامت على وجهها، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى ابن معين: كان بسر بن أرطأة رجل سوء. استدل من قال بالقطع بعموم القرآن، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وأولى ما يحتج به لمن منع القطع في أرض الحرب والحدود: مخافة أن يلحق ذلك بالشرك. والله أعلم. التاسعة عشرة - فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع ؟ فقال الكافة: تقطع من الرسغ والرجل من المفصل، ويحسم الساق إذا قطع. وقال بعضهم: يقطع إلى المرفق. وقيل: إلى المنكب، لان اسم اليد يتناول ذلك. وقال علي رضي الله عنه: تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب (5)، وبه قال أحمد وأبو ثور. قال ابن المنذر: وقد روينا (1) البختية: الانثى من الجمال البخت وهي جمال طوال الاعناق واللفظة معربة. (2) في التهذيب: وأسد الغابة (في السفر). (3) من ج وع. (4) كذا في الاصول. وفي التهذيب: وأسد الغابة: قتل عبد الرحمن وقثم ابني عبيدالله بن العباس. (5) العقب: مؤخر المقدم. (*)
[ 172 ]
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يد رجل فقال: (أحسموها) وفي إسناده مقال، واستحب ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما، وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف. الموفية عشرين - لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولا، ثم اختلفوا إن سرق ثانية، فقال مالك وأهل المدينة والشافعي وأبو ثور وغيرهم: تقطع رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن سرق خامسة يعزر ويحبس. وفال أبو مصعب من علمائنا: يقتل بعد الرابعة، واحتج بحديث خرجه النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال: (اقتلوه) فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، قال: [ (اقتلوه) (1)، قالوا: يا رسول إنما سرق، قال ]: (اقطعوا يده)، قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضا [ الخامسة ] (2) فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: (اقتلوه) ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه، منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الامارة فقال: أمروني عليكم فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه. وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال: (اقتلوه). قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة. رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال: هذا حديث منكر وأحد رواته (3) ليس بالقوي. ولا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا. قال ابن المنذر: ثبت عن أبي بكر وعمر [ رضي الله عنهما ] (4) أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل. وقيل: تقطع في الثانية رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها، ثم إذا عاد عزر وحبس، وروي عن علي بن أبي طالب، وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل. قال الزهري: لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل. وفال عطاء: تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع: ذكره ابن العربي وقال: أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافه. (1) من ك، ه‍، ز. (2) من ك، ه‍، ز. (3) هو مصعب بن ثابت. (النسائي). (4) من ع. (*)
[ 173 ]
الحادية والعشرون - واختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد السارق اليمنى فتقطع يساره، فقال قتادة: قد أقيم عليه الحد ولا يزاد عليه، وبه قال مالك: إذا أخطأ القاطع فقطع شماله، وبه قال أصحاب الرأي استحسانا. وقال أبو ثور: على الحزاز (1) الدية لانه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع (2). قال ابن المنذر: ليس يخلو قطع يسار السارق من أحد معنيين، إما أن يكون القاطع عمد ذلك فعليه القود، أو يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع، وقطع يمين السارق يجب، ولا يجوز إزالة ما أوجب الله سبحانه بتعدي معتد أو خطأ مخطئ. وقال الثوري في الذي يقتص منه في يمينه فيقدم شماله فتقطع، قال: تقطع يمينه أيضا. قال ابن المنذر: وهذا صحيح. وقالت طائفة: تقطع يمينه إذا برئ، وذلك أنه هو أتلف يساره، ولا شئ على القاطع في قول أصحاب الرأي، وقياس قول الشافعي. وتقطع يمينه إذا برئت. وقال قتادة والشعبي: لا شئ على القاطع وحسبه ما قطع منه. الثانية والعشرون - وتعلق يد السارق في عنقه، قال عبد الله بن محيريز سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو ؟ فقال: جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه، أخرجه الترمذي - وقال: حديث حسن غريب - وأبو داود والنسائي. الثالثة والعشرون - إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا، فقال مالك: يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع [ ويقتل ] (3)، لانهما حقان لمستحقين فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو اختيار ابن العربي. الرابعة والعشرون - قوله تعالى: " أيديهما " لما قال " أيديهما " ولم يقل يديهما تكلم علماء اللسان (4) في ذلك - قال ابن العربي: وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم (5) - فقال الخليل بن أحمد والفراء: كل شئ يوجد من خلق الانسان إذا أضيف إلى اثنين جمع تقول: هشمت رؤوسهما وأشبعت بطونهما، و " إن تتوبا إلى الله فقد (1) في ك، ع: الجزار. (2) في ج، ز، ك، ه‍: إلا أن يمنع منه إجماع. (3) من ع. (4) في ج، ع: البيان. (5) زاد ابن العربي (من غير تحقيق لكلامهم). (*)
[ 174 ]
صغت قلوبكما " (1) [ التحريم: 4 ]، ولهذا قال: " فاقطعوا أيديهما " ولم يقل يديهما. والمراد فاقطعوا يمينا من هذا ويمينا من هذا. ويجوز في اللغة، فاقطعوا يديهما وهو الاصل، وقد قال الشاعر (2) فجمع بين اللغتين: ومهمهين قذفين مرتين * ظهراهما مثل ظهور الترسين وقيل: فعل هذا لانه لا يشكل. وقال سيبويه: إذا كان مفردا قد يجمع إذا أردت به التثنية، وحكي عن العرب، وضعا رحالهما. ويريد [ به ] (3) رحلي راحلتيهما، قال ابن العربي: وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك، بل تقطع الايدي والارجل، فيعود قوله " أيديهما " (4) إلى أربعة وهي جمع في الاثنين، وهما تثنية فيأتي الكلام على فصاحته، ولو قال: فاقطعوا أيديهم لكان وجها، لان السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة، وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى. الخامسة والعشرون - قوله تعالى: (جزاء بما كسبا) مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا وكذا (نكالا من الله) يقال: نكلت به إذا فعلت به ما يوجب أن ينكل به عن ذلك الفعل. (والله عزيز) لا يغالب (حكيم) فيما يفعله، وقد تقدم. السادسة والعشرون - قوله تعالى: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح " شرط، وجوابه " فإن الله يتوب عليه ". ومعنى " من بعد ظلمه " من بعد السرقة، فإن الله يتجاوز عنه. والقطع لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق. وقاله بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولا. وتعلقوا بقول الله تعالى: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " وذلك استثناء من الوجوب، فوجب حمل جميع الحدود عليه. وقال علماؤنا: هذا بعينه دليلنا، لان الله سبحانه وتعالى لما ذكر حد المحارب قال: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " وعطف عليه حد السارق وقال فيه: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه " فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما. قال ابن العربي: ويا معشر (1) راجع ج 18 ص 188. (2) راجع ج 5 ص 73. (3) من ج. (4) كذا في الاصول إلا ا، فيعود قول مالك إلى أربعة. (*)
[ 175 ]
الشافعية سبحان الله ! أين الدقائق الفقهية (1)، والحكم الشرعية، التي تستنبطونها من غوامض المسائل ؟ ! ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدى بسلاحه، الذي يفتقر الامام معه إلى الايجاف بالخيل والركاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الاسلام، فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الامام، فما الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم ؟ ! أو كيف يجوز أن يقال: يقاس على المحارب وقد فرقت بينهما الحكمة والحالة ! هذا مالا يليق بمثلكم يا معشر المحققين. وإذا ثبت أن الحد لا يسقط بالتوبة، فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له. " وأصلح " أي كما تاب عن السرقة تاب عن كل ذنب. وقيل: " وأصلح " أي ترك المعصية بالكلية، فأما من ترك السرقة بالزنى أو التهود بالتنصر فهذا ليس بتوبة، وتوبة الله على العبد أن يوفقه للتوبة. وقيل: أن تقبل منه التوبة. السابعة والعشرون - يقال: بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السارقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب أن يقال: لما كان حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضعين، هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة " النور " (2) من البداية بها على الزاني إن شاء الله. ثم جعل الله حد السرقة قطع اليد لتناول المال، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان: أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية (3)، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه. الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر: وقطع الذكر في الزنى باطن. الثالث - أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطاله. والله أعلم. قوله تعالى: ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شئ قدير (40) (1) في ك: الفهمية. (2) راجع ج‍ 12 ص 159. (3) في ك وج: الباقية. (*)
[ 176 ]
قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض) الآية. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، أي لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول قائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد. وقيل: أي له أن يحكم بما يريد، فلهذا فرق بين المحارب وبين السارق غير المحارب. وقد تقدم نظائر هذه الآية والكلام فيها فلا معنى لاعادتها والله الموفق. هذا ما يتعلق بآية السرقة من بعض أحكام السرقة. والله أعلم. قوله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم أخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فأحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41) فيه ثمان مسائل الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك) الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال: قيل نزلت في بني قريظة والنضير، قتل قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم، وإنما يعطونهم الدية على ما يأتي بيانه، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري، فساءهم ذلك ولم يقبلوا. وقيل، إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريضة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح (1). وقيل: إنها نزلت في زني اليهوديين وقصة الرجم، وهذا أصح الاقوال، رواه (1) كان ذلك يوم حصارهم، فسألوه ما الامر ؟ وعلام ننزل من الحكم ؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح (*)
[ 177 ]
الائمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. قال أبو داود عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم (ائتوني بأعلم رجلين منكم) فجاءوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى (كيف تجدان أمر هذين في التوراة) ؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما. قال: (فما يمنعكما أن ترجموهما)، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود (1)، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما. وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه، فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم)، فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية، والاعتناق زنية، والقبلة زنية، فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو ذاك). وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما (2) مجلودا، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم) قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم) قال: لا - ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك - نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شئ نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى: " يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " إلى قوله: " إن أوتيتم هذا فخذوه " يقول: ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم (1) في ج وع وك: باليهود. (2) حممه محميما: طلى وجهه بالفحم. (*)
[ 178 ]
والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عزوجل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " [ المائدة 44 ]، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " [ المائدة: 45 ]، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " [ المائدة: 47 ] في الكفار كلها. هكذا في هذه الرواية (مر على النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي حديث ابن عمر: أتي بيهودي ويهودية فد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود، قل: (ما تجدون في التوراة على من زنى) الحديث. وفي رواية، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زنيا. وفي كتاب أيي داود من حديث ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف (1) فأتاهم في بيت المدراس (2) فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بيننا. ولا تعارض في شئ من هذا كله، وهي كلها قصة واحدة، وفد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فأنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: (أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن)، فقالوا: يحمم وجهه ويجبه ويجلد، والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ (3) به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. وساق الحديث إلى أن قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإني أحكم بما في التوراة) فأمر به فرجما. (1) القف: علم لواد من أودية المدينة عليه مال لاهلها. (2) المدراس هو البيت الذي يدرسون فيه، ومفعال غريب في المكان. (اللسان). ومدراس أيضا صاحب دراسة كتبهم. (3) ألظ به النشدة: ألح في سؤاله وألزمه إياها. (*)
[ 179 ]
الثانية - والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة. واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الاسلام ليس شرطا في الاحصان. فهذه مسائل أربع. فإذا ترافع أهل الذمة إلى الامام، فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف. وأما إذا لم يكن كذلك فالامام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكا رأى الاعراض [ عنهم ] (1) أولى، فإن حكم حكم [ بينهم ] (2) بحكم الاسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال، وهو قول الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم، وروي عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي، لقوله تعالى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة: 49 ] على ما يأتي بيانه [ بعد ] (3)، احتج مالك بقوله تعالى: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " [ المائدة: 42 ] وهي نص في التخيير. قال ابن القاسم: إذا جاء الاساقفة والزانيان فالحاكم مخير، لان إنفاذ الحكم حق للاساقفة. والمخالف يقول: لا يلتفت إلى الاساقفة. قال ابن العربي: وهو الاصح، لان مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ، ولم يعتبر رضا الحاكم. فالكتابيون بذلك أولى. وقال عيسى عن ابن القاسم: لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب. قال ابن العربي: وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره: أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم المرأة الزانية بسرة، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم أسألوا محمدا عن هذا، فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه [ منه ] (4) واقبلوه، وإن أفتاكم به فاحذروه (3)، الحديث. قال ابن العربي: وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا، وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم، فلا حجة لرواية عيسى في هذا، وعنهم أخبر الله تعالى بقوله: " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ولما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع، فكل من حكم رجلا في الدين وهي: الثالثة - فأصله هذه الآية. قال مالك: إذا حكم رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكون جورا بينا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه [ صوابا ] (5). قال (1) من ج وه‍ وع. (2) من ع وك. (3) من ك وع. (4) من ج وك وه‍ وع. (5) من ع وك. (*)
[ 180 ]
ابن العربي: وذلك في الاموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان، والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه، وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية، ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج (1) الحمر، فلا بد من فاصل، فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج، وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة. وقال الشافعي وغيره: التحكيم جائز وإنما هو فتوى. وقال بعض العلماء: إنما كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم، لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به، ألا ترى أنه قال: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) وأن ذلك كان حين قدم المدينة، ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك. وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالاجماع، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به. وقد يحتمل أن بكون حصول طريق العلم بذلك الوحي، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا قولهما مجردا، فبين له [ النبي ] (2) صلى الله عليه وسلم، وأخبر بمشروعية الرجم، ومبدؤه ذلك الوقت، فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة، وبين أن ذلك حكم شريعته، وأن التوراة حكم الله سبحانه، لقوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا " [ المائدة: 44 ] (3) وهو من الانبياء. وقد قال عنه أبو هريرة: (فإني أحكم بما في التوراة) والله أعلم. الرابعة - والجمهور على رد شهادة الذمي، لانه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذا لم يوجد مسلم على ما يأتي بيانه آخر السورة. فإن قيل: فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين (4): فالجواب، أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا لا حاكما (5). وهذا على التأويل الاول، وعلى (1) من ع. (2) من ك، ع. (3) راجع ص 88، ص 349 من هذا الجزء، (4) في ع: في رجم. (5) في ك وع: منفذا لاحكامها. (*)
[ 181 ]
ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بتلك الواقعة، إذ لم يسمع في الصدر الاول من قبل شهادتهم في مثل ذلك. والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: " لا يحزنك " قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي. والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين، وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه، ومحزون بني عليه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. واحتزن وتحزن بمعنى. والمعنى في الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر، فإن الله قد وعدك النصر عليهم. السادسة - قوله تعالى: (من الذين قالوا آمنا بأفواههم) وهم المنافقون (ولم تؤمن قلوبهم) أي لم يضمروا في قلوبهم الايمان كما نطقت به ألسنتهم (ومن الذين هادوا) يعنى يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام، ثم ابتدأ فقال " سماعون للكذب " أي هم سماعون، ومثله " طوافون عليكم " (1) [ النور: 58 ]. وقيل الابتداء من قوله: " ومن الذين هادوا " أي ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب، أي قابلون لكذب رؤسائهم من تحريف التوراة. وقيل: أي يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك، فكان فيهم من يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكذب عليه عند عامتهم، ويقبح صورته في أعينهم، وهو معنى قوله (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) وكان في المنافقين من يفعل هذا. قال الفراء: ويجوز سماعين وطوافين، كما قال: " ملعونين أينما ثقفوا " (2) وكما قال: " إن المتقين في جنات ونعيم " (3) [ الطور: 17 ] ثم قال: " فاكهين " " آخذين " (3). وقال سفيان بن عيينة: إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله: " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ولم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهم مع علمه بهم، لانه لم يكن حينئذ تقررت الاحكام ولا تمكن الاسلام. وسيأتي حكم الجاسوس في " الممتحنة " (4) إن شاء الله تعالى. السابعة - قوله تعالى: (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) أي يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عزوجل، وبين أحكامه، فقالوا: (1) راجع ج 12 ص 306. (2) راجع ج 14 ص 245. (3) راجع ج 17 ص 64 وص 75. (4) راجع ج 18 ص 53. (*)
[ 182 ]
شرعه ترك الرجم، وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله عزوجل. و " يحرفون " في موضع الصفة لقوله " سماعون " وليس بحال من الضمير الذي في " يأتوك " لانهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا، والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف. والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم، ولذلك كان حمل المعنى على " من الذين هادوا " فريق سماعون أشبه. (يقولون) في موصع الحال من المضمر في " يحرفون ". (إن أوتيتم هذا فخذوه) أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد فأقبلوا وإلا فلا. الثامنة - قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته) أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة. (فلن تملك له من الله شيئا) أي فلن تنفعه. (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) بيان منه عزوجل أنه قضى عليهم بالكفر. ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ردا على من قال خلاف ذلك على ما تقدم، أي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم. (لهم في الدنيا خزي) قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم، ثم أحضرت التوراة فوجد فيها الرجم. وقيل: خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل. والله أعلم. قوله تعالى: سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فأحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فأحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (سماعون للكذب) كرره تأكيدا وتفخيما، وقد تقدم (1). الثانية - قوله تعالى: (أكالون للسحت) على التكثير. والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة، قال الله تعالى: " فيسحتكم بعذاب " (2). وقال الفرزدق: (1) راجع ج 11 ص 211. (2) في ج وز: وقد تقدم في البقرة. (*)
[ 183 ]
وعض زمان يا بن مروان لم يدع * من المال إلا مسحتا (1) أو مجلف (2) كذا الرواية. أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى، لان معنى لم يدع لم يبق. ويقال للحالق: أسحت أي استأصل. وسمي المال الحرام سحتا لانه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. وقال الفراء: أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. وقيل: سمي الحرام سحتا لانه يسحت مروءة الانسان. قلت: والقول الاول أولى، لان بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له. قال ابن مسعود وغيره: السحت الرشا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رشوة الحاكم من السحت. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به) قالوا: يا رسول الله وما السحت ؟ قال: (الرشوة في الحكم). وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لاخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها. وقال ابن خويزمنداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها. ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام. وقال أبو حنيفة: إذا آرتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك. قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله، لان أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن اله الراشي والمرتشي). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السحت الرشوة وحلوان (3) الكاهن والاستجعال في القضية (4). وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شئ ؟ فقال: لا، إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقا فد لزمك، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك (1) ويروى: (إلا مسحت) ومن رواه كذلك جعل (معنى لم يدع) لم يتقار. (اللسان) مادة سحت. (2) المجلف: الذي بقيت منه بقية. (3) هو ما يعطي على الكهانة. (3) في ج، ك، ع، ز: الاستعجال في المعصية. (*)
[ 184 ]
فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ، لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الاثم على القابض دون الدافع، قال المهدوي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه. قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته. وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة فأمر له [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] (1) بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه، قال ابن عبد البر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا [ ولا ] (1) عوضا لشئ من الباطل. وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه. والسحت والسحت لغتان قرئ بهما، قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين، والباقون بضم السين وحدها. وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع " أكالون للسحت " بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته، يقال: أسحت وسحت بمعنى واحد. وقال الزجاج: سحته ذهب به قليلا قليلا. قوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) هذا تخيير من الله تعالى، ذكره القشيري، وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود. ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا ؟ قولان للشافعي، وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي. واختلفوا في الذميين، فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير، روى ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك (1) من ج وك وه‍ وع. (*)
[ 185 ]
والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى، فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما. وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال: يجلدان ولا يرجمان. وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا. قال ابن خويزمنداد: ولا يرسل الامام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم. فإن حكم بينهم حكم بحكم الاسلام. وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم، لان في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم، ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا، ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات، لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين. وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم [ بذلك ] (1) إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات، لان فيها وجها من المظالم وقطع الفساد. والله أعلم. وفي الآية قول ثان: وهو ما ووي عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله " وأن على الحاكم أن يحكم بينهم، وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. وروي عن عكرمة أنه قال: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسختها آية أخرى " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة: 49 ]. وقال مجاهد: لم ينسخ من " المائدة " إلا آيتان، قوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسختها " وأن احكم بينهم بما أنزل الله "، وقوله: " لا تحلوا شعائر الله " (2) [ المائدة: 2 ] نسختها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (3) [ التوبة: 5 ]. وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. قال (1) من ع. (2) راجع ص 37 من هذا الجزء. (3) راجع ج 8 ص 72. (*)
[ 186 ]
السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا. وقال النحاس في " الناسخ والمنسوخ " له قول تعالى: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " منسوخ، لانه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الادعى لهم والاصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الاسلام أنزل الله عز وجل " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ". وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر ابن عبد العزيز والسدي، وهو الصحيح من قول الشافعي، قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه، لقوله عزوجل: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1) [ التوبة: 29 ]. قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات، لانه إذا كان معنى قوله: " وهم صاغرون " أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة. وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الامام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم. وقال الباقون: يحكم، فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس، ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة، لانهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الامام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه. قال النحاس: ولمن قال بإنها منسوخة من الكوفيين قول آخر، منهم من يقول: على الامام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عزوجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عزوجل: " وأن احكم بينهم " يحتمل أمرين: أحدهما - وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك. والآخر - وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا، فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى: " يا أيها (1) راجع ج 8 ص 109. (*)
[ 187 ]
الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " (1) [ النساء: 135 ]. وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال: (أهكذا حد الزاني عندكم) فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (سألت بالله أهكذا حد الزاني فيكم) فقال: لا. الحديث، وقد تقدم. قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث. فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبد البر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج، لان في درج الحديث تفسير قوله عزوجل: " إن أتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " [ المائدة: 41 ] يقول: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكموه. وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره. فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه. قيل له: حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته. ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم. قوله تعالى: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق (2) من تمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " النفس بالنفس، ونزلت: " أفحكم الجاهلية يبغون " [ المائدة: 50 ]. قوله تعالى: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43) (1) راجع ج 5 ص 410. (2) الوسق: ستون صاعا. (*)
[ 188 ]
قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) قال الحسن: هو الرجم. وقال قتادة: هو القود. ويقال: هل يدل قوله تعالى: " فيها حكم الله " على أنه لم ينسخ ؟ الجواب - وقال أبو علي: نعم، لانه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت وقوله: (وما أولئك بالمؤمنين) أي بحكمك أنه من عند الله. وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر، وهذه حالة اليهود. قوله تعالى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بأياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور). أي بيان وضياء وتعريف أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق. " هدى " في موضع رفع بالابتداء " ونور " عطف عليه (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) قيل: المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة، وأن اليهود قالت: إن الانبياء كانوا يهودا. وقالت النصارى: كانوا نصارى، فبين الله عزوجل كذبهم. وعمنى (أسلموا) صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى [ زمان ] (1) عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي، ويقال: أربعة آلاف. ويقال: أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة. وقيل: معنى " أسلموا " خضعوا وانقادوا لامر الله فيما بعثوا به. وقيل: أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد. ومعنى " (للذين هادوا) على الذين هادوا فاللام بمعنى (على). وقيل: المعنى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وعليهم، فحذف (عليهم). و " الذين أسلموا " ههنا نعت فيه معنى المدح مثل (1) من ع وك. (*)
[ 189 ]
" بسم الله الرحمن الرحيم ". " هادوا " أي تابوا من الكفر. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والاحبار، أي ويحكم بها الربانيون وهم الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره، عن ابن عباس وغيره. وقد تقدم في آل عمران (1). وقال أبو رزين: الربانيون العلماء الحكماء والاحبار. قال ابن عباس: هم الفقهاء: والحبر والحبر الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وهو التحسين، فهم يحبرون العلم أي يبينونه ويزينونه، وهو محبر في صدورهم. قال مجاهد: الربانيون فوق العلماء. والالف واللام للمبالغة. قال الجوهري: والحبر والحبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح: لانه يجمع على أفعال دون (2) الفعول، قال الفراء: هو حبر بالكسر يقال ذلك للعالم. وقال الثوري: سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا ؟ فقال: يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال: " واسأل القرية " (3) [ يوسف: 82 ] أي أهل القرية. قال: فسألت الاصمعي فقال ليس هذا بشئ، إنما سمي حبرا لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر (4) أي صفرة أو سواد. وقال أبو العباس: سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لانه يحبر به أي يحقق به. وقال أبو عبيد: والذي عندي في واحد الاحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر. والحبر أيضا الاثر والجمع حبور، عن يعقوب. (بما استحفظوا من كتاب الله) أي استودعوا من علمه. والباء متعلقة ب‍ " - الربانيين والاحبار " كأنه قال: والعلماء بما استحفظوا. أو تكون متعلقة ب‍ " - يحكم " أي يحكمون بما استحفظوا. (وكانوا عليه شهداء) أي على الكتاب بأنه من عند الله. ابن عباس: شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة (فلا تخشوا الناس) أي في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهار الرجم (واخشون) أي في كتمان ذلك، فالخطاب لعلماء اليهود. وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقا وجب عليه ولم يظهره. وتقدم معنى " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " مستوفى (5). (1) راجع ج 4 ص 122. (2) في القاموس: ج أحبار وحبور. (3) راجع ج 9 ص 245. (4) في ج وع وك: حبرة. في المصباح: الحبر بفتحتين صفرة اخ. (5) راجع ج 1 ص 334. (*)
[ 190 ]
قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون) نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار، أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار. وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر، فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الاول، إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس، قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء، منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله: " للذين هادوا "، فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك، ألا ترى أن بعده " وكتبنا عليهم " فهذا الضمير لليهود بإجماع، وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. فإن قال قائل: " من " إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها ؟ قيل له: " من " هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الادلة، والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا، ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل ؟ قال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل. وقيل: " الكافرون " للمسلمين، و " الظالمون " لليهود، و " الفاسقون " للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لانه ظاهر الآيات. وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعب أيضا. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر، (1) (1) قال في البحر: يعني أن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر. قلت: هو كفر النعمة عند الاباضية. (*)
[ 191 ]
وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر، وعزي هذا إلى الحسن والسدي. وقال الحسن أيضا: أخذ الله عزوجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا. قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45) فيه ثلاثون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك، فضلوا، فكانت دية النضيري أكثر، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي، ويقتل به القرظي فلما جاء الاسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فحكم بالاستواء، فقالت بنو النضير: قد حططت منا، فنزلت هذه الآية. و " كتبنا " بمعنى فرضنا. وقد تقدم. وكان شرعهم القصاص أو العفو، وما كان فيهم الدية، كما تقدم في " البقرة " (1) بيانه. وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال: يقتل المسلم بالذمي، لانه نفس بنفس، وقد تقدم في " البقرة " (1) بيان هذا. وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ ؟ فقال: لا، إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده) وأيضا فإن الآية إنما جاءت (1) راجع ج 2 ص 244، 246. (*)
[ 192 ]
للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين. وقالت الشافعية: هذا خبر عن شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا، وقد مضى في " البقرة " (1) في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك. ووجه رابع: وهو أنه تعالى قال: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " وكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة، لان الجزية فئ وغنيم أفاءها الله على المؤمنين، ولم يجعل الفئ لاحد قبل هذه الامة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه، فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ، فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس، إذ يشير إلى قوم معينين، ويقول: إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم (2) بالنفس، فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم على هذا الوجه -: النفس بالنفس، وليس في كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة. الثانية - قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة: إذا جرح أو قطع الاذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به، لان الله تعالى قال: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين " فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل. وقال علماؤنا: إن قصد به المثلة فعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف، وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب، لان النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين، حسبما تقدم بيانه في هذه السورة (3). الثالثة - قوله تعالى: والعين بالعين " قرأ نافع وعاصم والاعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف، ويجوز تخفيف " أن " ورفع الكل بالابتداء والعطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح. وكان الكسائي وأبو عبيد يقرءآن " والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح " بالرفع فيها كلها. قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هرون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن (1) راجع ج 2 ص 244. (2) في ع: أن النفس بالنفس بينهم. (3) راجع ص 148 من هذا الجزء. (*)
[ 193 ]
أنس النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " وكتبنا عليهم فيها أن (1) النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص ". والرفع من ثلاث جهات، بالابتداء والخبر، وعلى المعنى على موضع " أن النفس "، لان المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس. والوجه الثالث - قاله الزجاج - يكون عطفا على المضمر في النفس، لان الضمير في النفس في موضع رفع، لان التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالاسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام، حكم في المسلمين، (2) وهذا أصح القولين، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم " والعين بالعين " وكذا ما بعده. والخطاب للمسلمين أمروا بهذا. ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها، كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به. الرابعة -: هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله: " والعين بالعين " على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقال: تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية، لعموم قوله تعالى: " والسن بالسن ". والذين خالفوه وهم علماء الامة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى (3) مع الرضا، وذلك يبين لنا أن المراد بقوله: " والعين بالعين " استيفاء ما يماثله من الجاني، فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الاحوال كلها، وهذا لا ريب فيه. الخامسة - وأجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية، وفي العين الواحدة نصف الدية. وفى عين الاعور إذا فقئت الدية كاملة، روي ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحق. وقيل: نصف الدية، روي [ ذلك ] (4) عن عبد الله بن المغفل ومسروق والنخعي، وبه قال الثوري (1) في البحر: بتخفيف أن. الخ، ثم قال: يحتمل أن وجهين أحدهما أن تكون مصدرية. الخ. (2) أي وبيان حكم جديد في المسلمين. كما في (روح المعاني). (3) كذا في الاصول وصوابه: إلا مع الرضا. كما في البحر. (4) من ع وك. (*)
[ 194 ]
والشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: وبه نقول، لان في الحديث (في العينين الدية) ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية. قال ابن العربي: وهو القياس الظاهر، ولكن علماؤنا قالوا: إن منفعة الاعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك، فوجب عليه مثل ديته. السادسة - واختلفوا في الاعور يفقأ عين صحيح، فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه، وعليه الدية كاملة، وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل. وقال مالك: إن شاء اقتص فتركه أعمى، وإن شاء أخذ الدية كاملة (دية عين (1) الاعور). وقال النخعي: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: عليه القصاص، وروي ذلك عن علي أيضا، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل، واختاره ابن المنذر وابن العربي، لان الله تعالى قال: " والعين بالعين " وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية، ففي العين نصف الدية، والقصاص بين صحيح العين والاعور كهيئته بين سائر الناس. ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك، ومتمسك مالك أن الادلة لما تعارضت خير المجني عليه. فال ابن العربي: والاخذ بعموم القرآن أولى، فإنه أسلم عند الله تعالى. السابعة - واختلفوا في عين الاعور التي لا يبصر بها، فروي عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها مائة دينار. وعن عمر بن الخطاب أنه قال: فيها ثلث ديتها، وبه قال إسحق. وقال مجاهد: فيها نصف ديتها. وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان: فيها حكومة، قال ابن المنذر: وبه نقول لانه الاقل مما قيل. الثامنة - وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية، ويستوي فيه الاعمش (2) والاخفش (3). وفي إبطاله من إحداهما مع بقائها النصف. قال ابن المنذر وأحسن (1) كذا في الاصول إلا ع: دية غير الاعور. وهو الوجه. (2) العمش (محركة) ضعف البصر مع سيلان الدمع في أكثر الاوقات. (3) الخفش (محركة): ضعف في البصر خلقة وضيق في العين أو فساد في الجفون بلا وجع، أو أن يبصر باالليل دون النهار وفي يوم غيم دون صحو. (*)
[ 195 ]
ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب: أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره، ثم أمر بخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الاخرى فغطيت وفتحت الصحيحة، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء، فأعطي ما نقص من بصره من مال الآخر، وهذا على مذهب الشافعي، وهو قول علمائنا، وهي: التاسعة - ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر، إذ غير ممكن الوصول إليه. وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الاخرى قطنة، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها، روي عن علي رضي الله عنه، ذكره المهدوي وابن العربي. واختلف في جفن العين، فقال زيد بن ثابت: فيه ربع الدية، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي هاشم (1) والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن الشعبي أنه قال: في الجفن الاعلى ثلث الدية وفي الجفن الاسفل ثلثا الدية، وبه قال مالك. العشرة - قوله تعالى: (والانف بالانف) جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي الانف إذا أوعب جدعا الدية). قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به، والقصاص من الانف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الاعضاء على كتاب الله تعالى. واختلفوا في كسر الانف. فكان مالك يرى في العمد منه القود، وفي الخطأ الاجتهاد. وروى ابن نافع أنه لا دية للانف حتى يستأصله من أصله. قال أبو إسحق التونسي: وهذا شاذ، والمعروف الاول. وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحساب من المارن. قال ابن المنذر: وما قطع من الانف فبحسابه، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي، وبه قال الشافعي. قال أبو عمر: واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الانف، فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة، ثم إن قطع منه شئ بعد ذلك ففيه () سقط أبو هاشم من ك وع، وهو الرماني من أقران الثوري. وفي ج: ابن هاشم. (2) أي استؤصل قطعه. (*)
[ 196 ]
حكومة. قال مالك: الذي فيه الدية من الانف أن يقطع المارن، وهو دون العظم. قال ابن القاسم: وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الانف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية، كالحشفة فيها الدية: وفي استئصال الذكر الدية. الحادية عشرة - قال ابن القاسم: وإذا خرم الانف أو كسر فبرئ على عثم (1) ففيه الاجتهاد، وليس فيه دية معلومة. وإن برئ على غير عثم فلا شئ فيه. قال: وليس الانف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة (2) تبرأ على غير عثم فيكون فيها ديتها، لان تلك جاءت بها السنة، وليس في خرم الانف أثر. قال: والانف عظم منفرد ليس فيه موضحة. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف،. والمارن ما لان من الانف، وكذلك قال الخليل وغيره. قال أبو عمر: وأظن روثته مارنه، وأرنبته طرفه. وقد قيل: الارنبة والروثة والعرتمة طرف الانف. والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة. الثانية عشرة - قوله تعالى: (والاذن بالاذن) قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل: عليه حكومة، وإنما تكون عليه الدية في السمع، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر. وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة، على ما تقدم. وقال أشهب: إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة، يقاس ذلك، فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك. قال أشهب: ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجل مثله، فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شئ. وقال عيسى بن دينار: إذا اختلف قوله عقل له الاقل مع يمينه. (1) العثم، الجبر على غير استواء. (2) الموضحة: هي التي بلغت العظم فأوضحت عنه. وقيل: هي التي تقشر الجلدة التي بين اللحم والعظم أو تشقها حتى تبدو وضح العظم. (*)
[ 197 ]
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (والسن بالسن) قال ابن المنذر: وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال: (كتاب الله القصاص). وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في السن خمس من الابل). قال ابن المنذر: فبظاهر هذا الحديث نقول، لا فضل للثنايا منها على الانياب والاضراس والرباعيات (1)، لدخولها كلها في ظاهر الحديث، وبه يقول الاكثر من أهل العلم. وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شئ عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحق والنعمان وابن الحسن، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية. وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض، وذلك خمسون دينارا، قيمة كل فريضة عشرة دنانير. وفي الاضراس ببعير بعير. وكان عطاء يقول: في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء، والاضراس سواء، قال أبو عمر: أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الاضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الاضراس عشرون ضرسا، والاسنان اثنا عشر سنا: أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب، فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا، في الاسنان خمسة خمسة، وفي الاضراس بعير بعير. وعلى قول معاوية في الاضراس والاسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة، تصير الدية ستين ومائة بعير. وعلى قول سعيد بن المسيب بعيرين بعيرين في الاضراس وهي عشرون ضرسا. يجب لها أربعون. وفي الاسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة فذلك ستون، وهي تتمة المائة بعير، وهي الدية كاملة من الابل. والاختلاف بينهم إنما هو في الاضراس لا في الاسنان. قال أبو عمر: واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الاسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري، بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وفي السن خمس من الابل) (1) الرباعية (كثمانية): والسن التي بين الثنية والناب. (*)
[ 198 ]
والضرس سن من الاسنان. روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاصابع سواء والاسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء) وهذا نص أخرجه أبو داود. وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء. قال أبو عمر: على هذه الآثار جماعة فقهاء الامصار وجمهور أهل العلم أن الاصابع في الدية كلها سواء، وأن الاسنان في الدية كلها سواء، الثنايا والاضراس والانياب لا يفضل شئ منها على شئ، على ما في كتاب عمرو بن حزم. ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال: اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح: الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما. قال أبو عمر: على هذا العمل اليوم في جميع الامصار. والله أعلم. الرابعة عشرة - فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد، وبه قال أبو حنيفة، وروي عن زيد بن ثابت، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها، وبه قال أحمد وإسحق. وقال الشافعي وأبو ثور: فيها حكومة. قال ابن العربي: وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق، فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء، فلا خلاف في وجوب الدية، ثم إن كان بقي من منفعتها شئ أو جميعه لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة، وما روي عن عمر [ رضي الله عنه ] (1) فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها. الخامسة عشرة - واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر (2)، فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شئ على القالع، إلا أن مالكا والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال النعمان. قال ابن المنذر: (1) من ع. (2) أثغر الغلام: سقطت أسنانه الرواضع. (*)
[ 199 ]
يستأنى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما، على ظاهر الحديث، وإن نبتت رد الارش. وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يستأنى بها سنة، روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبد العزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي. ولم يجعل الشافع لهذا (1) مدة معلومة. السادسة عشرة - إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت، فقال مالك لا يرد ما أخذ. وقال الكوفيون: يرد إذا نبتت. وللشافعي قولان: يرد ولا يرد، لان هذا نبات لم تجربه عادة، ولا يثبت الحكم بالنادر، هذا قول علمائنا. تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد، أصله سن الصغير. قال الشافعي: ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما. قال ابن المنذر: هذا أصح القولين، لان كل واحد منهما قالع سن، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن (2) خمسا من الابل. السابعة عشرة - فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شئ فيها عندنا. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة، وقاله ابن المسيب وعطاء. ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لانها ميتة، وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله. وقال عطاء: يجبره السلطان على قلعها لانها ميتة ألصقها. قال ابن العربي: وهذا غلط، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها، لان النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للاعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها. قلت: ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه، قال ابن المنذر: واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت، فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح: لا بأس بذلك. وقال الثوري وأحمد وإسحق: تقلع، لان القصاص للشين. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة، ويجبره السلطان على القلع. (1) في ع وك: لها. (2) في ع: فيها. (*)
[ 200 ]
الثامنة عشرة - فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة، وبه قال فقهاء الامصار. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث الدية. قال ابن العربي: وليس في التقدير دليل، فالحكومة أعدل. قال ابن المنذر: ولا يصح ما روي عن زيد، وقد روي عن علي أنه قال: في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه، وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما. قلت: وهنا انتهى ما نص الله عزوجل عليه من الاعضاء، ولم يذكر الشفتين واللسان وهي: التاسعة عشرة - فقال الجمهور: وفي الشفتين الدية، وفي كل واحدة منهما نص الدية لا فضل للعليا منهما على السفلي. وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري: في الشفة العليا ثلث الدية، وفي الشفة السفلي ثلثا الدية. وقال ابن المنذر: وبالقول الاول أقول، للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي الشفتين الدية) ولان في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة. وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك. وأما اللسان فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في اللسان الدية). وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به، قاله ابن المنذر. الموفية عشرين - واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا، ويذهب من الكلام بعضه، فقال أكثر أهل العلم: ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس في اللسان قود لعدم الاحاطة باستيفاء القود. فإن أمكن فالقود هو الاصل. الحادية والعشرون - واختلفوا في لسان الاخرس يقطع، فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه: فيه حكومة. قال ابن المنذر: وفيه قولان شاذان: أحدهما - قول النخعي أن فيه الدية. والآخر - قول قتادة أن فيه ثلث الدية. فال ابن المنذر: والقول الاول أصح، لانه الاقل مما قيل. قال
[ 201 ]
ابن العربي: نص الله سبحانه على أمهات الاعضاء وترك باقيها للقياس عليها، فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت، وكذلك كل عضو بطلت (1) منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (والجروح قصاص) أي مقاصة، وقد تقدم في " البقرة " (2). ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص. ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه. وهذا كله في العمد، فأما الخطأ فالدية، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح. وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القصاص القصاص)، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ ! والله لا يقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله) قالت: [ لا ] (3) والله لا يقتص منها أبدا، [ قال ] (4) فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره). قلت: المجروح في هذا الحديث جارية، والجرح كسر ثنيتها، أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية فلانة ؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. قال: وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والارش، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره). وخرجه أبو داود أيضا، وقال سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يقتص من السن ؟ قال: تبرد. (1) في ع. ذهبت. (2) راجع ج 2 ص 244 فما بعدها. (3) الزيادة عن صحيح مسلم. (4) من ج وع وك. (*)
[ 202 ]
قلت: ولا تعارض بين الحديثين، فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما. وفى هذا ما يدل على كرامات الاولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر (1) إن شاء الله تعالى. [ فنسأل الله التثبت على الايمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة ] (2). الثالثة والعشرون - أجمع العلماء على أن قوله تعالى: " والسن بالسن " أنه في العمد، فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس. واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا، فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة، ففي ذلك الدية. وقال الكوفيون: لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن، لقوله تعالى: " والسن بالسن " وهو قول الليث والشافعي. قال الشافعي: لا يكون كسر ككسر أبدا، فهو ممنوع. قال الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فكذلك في سائر العظام. والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم، فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه، لخوف ذهاب النفس منه. قال ابن المنذر: ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث، والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر. قلت: ويدل على هذا أيضا قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (3) [ البقرة: 194 ]، وقوله: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (4) [ النحل: 126 ] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي. [ والله (2) أعلم ] وبالله التوفيق. الرابعة والعشرون - قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة، وما جاء عن غيره في الشجاج. قال الاصمعي وغيره: دخل كلام بعضهم في بعض، أول الشجاج - الحارصة وهي: التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه قليلا - ومنه قيل: حرص القصار الثوب إذا شقه، وقد يقال لها: الحرصة أيضا. ثم الباضعة - وهي: التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد. ثم المتلاحمة - وهي: التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق. (1) هي قصته المشهورة مع سيدنا موسى عليهما السلام وستأتي في سورة (الكهف) إن شاء الله. ج 11 ص 16 فما بعد. (2) من ع. (3) راجع ج 2 ص 354. (4) راجع ج 10 ص 200 (*)
[ 203 ]
والسمحاق: جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم. وقال الواقدي: هي عندنا الملطى. وقال غيره: هي الملطاة، قال: وهي التي جاء فيها الحديث (يقضى في الملطاة بدمها). ثم الموضحة - وهي: التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح (1) العظم، فتلك الموضحة. قال أبو عبيد: وليس في شئ من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة، لانه ليس منها شئ له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها. ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم. ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء. ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس، يعني الدماغ. فال أبو عبيد ويقال في قوله: (ويقضى في الملطاة بدمها) أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها. قال: وسائر الشجاج [ عندنا ] (2) يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ. قال أبو عبيد: والامر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها ؟ أنه ؟ يستأنى بها، حدثنا هشيم عن حصين قال: قال عمر بن عبد العزيز: ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح. وقال الحسن البصري: ليس فيما دون الموضحة قصاص. وقال مالك: القصاص فيما دون الموضحة الملطي والدامية والباضعة وما أشبه ذلك، وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عبيد: الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم. والدامعة: أن يسيل منها دم. وليس فيما دون الموضحة قصاص. وقال الجوهري: والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل. وقال علماؤنا: الدامية هي التي تسيل الدم. ولا قصاص فيما بعد الموضحة، من الهاشمة للعظم، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ. وفي هاشمة الجسد القصاص، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه. وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم: لا قود فيها، لانها لا بد تعود منقلة. وقال أشهب: فيها القصاص، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها. وأما الاطراف فيجب (1) وضح العظم بياضه. (2) من ع. (*)
[ 204 ]
القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها. وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والاذنين والذكر والاجفان والشفتين، لانها تقبل التقدير. وفي اللسان روايتان. والقصاص في كسر العظام، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه. وفي كسر عظام العضد القصاص. وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه، وفعل ذلك عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بمكة. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله، وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا، وقال: إنه الامر المجمع عليه عندهم (1)، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فكسرها يقاد منه. الخامسة والعشرون - قال العلماء: الشجاج في الرأس، والجراح في البدن. وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيا ذكر ابن المنذر، واختلفوا في ذلك الارش. وما دون الموضحة شجاج خمس: الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق، فقال مالك والشافعي وأحمد [ وإسحاق ] (2) وأصحاب الرأي في الدامية حكومة، وفي الباضعة حكومة، وفي المتلاحمة حكومة. وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الابل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة، أو يضرب حتى يغن (3) ولا يفهم الدية كاملة، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة، وفي جفن العين ربع (4) الدية. وفي حلمة الثدي ربع الدية. قال ابن المنذر: وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد. وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيها نصف الموضحة. وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي فيها حكومة، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد. ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الابل، على ما في حديث عمرو بن حزم، وفيه: وفي الموضحة خمس. وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه. واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس، فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء. وقال بقولهما (1) في ع: عندنا. (2) من ج وك وه‍ وع، ز. (3) يغن أي يخرج صوته من خياشيمه. وفي ك، ع: يجن. وسقط من ج. أو يضرب الخ. (4) في ع: الدية كاملة. (*)
[ 205 ]
جماعة من التابعين، وبه يقول الشافعي وإسحق. وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس. وقال أحمد: موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها. وقال مالك: المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ، قال: والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة. قال مالك: والانف ليس من الرأس وليس فيه موضحة، وكذلك اللحى الاسفل ليس فيه موضحة. وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه، فقال أشهب وابن القاسم: ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد، وليس فيها أرش معلوم. قال ابن المنذر: هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحق، وبه نقول. وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الانسان فيها خمس وعشرون دينارا. قال أبو عمر: واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة. وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة. قال ابن المنذر: ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد. وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا. وقال أبو ثور: إن اختلفوا فيه ففيها حكومة. قال ابن المنذر: النظر يدل على هذا، إذ لا سنة فيها ولا إجماع. وقال القاضي أبو الوليد الباجي: فيها ما في الموضحة، فإن صارت منقلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية. قال ابن المنذر: ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الابل. وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت، وبه قال قتادة وعبيدالله بن الحسن والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: فيها ألف درهم، ومرادهم عشر الدية. وأما المنقلة فقال ابن المنذر: جاء ؟ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في المنقلة خمس عشرة من الابل) وأجمع أهل العلم على القول به. قال ابن المنذر: وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل
[ 206 ]
منها العظام. وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - أن المنقلة لا قود فيها، وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة. قال ابن المنذر: والاول أولى، لاني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في المأمومة ثلث الدية). وأجمع [ عوام ] (1) أهل العلم على القول به، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال: إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية، وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدية، وهذا قول شاذ، وبالقول الاول أقول ؟ ؟ واختلفوا ؟ ؟ في القود من المأمومة، فقال كثير من أهل العلم: لا قود فيها، وروي عن ابن ؟ ؟ الزبير ؟ ؟ أنه ؟ ؟ أقص ؟ ؟ من المأمومة، فأنكر ذلك الناس. وقال عطاء: ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ؟ ؟ ابن الزبير. وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال: إذا كانت عمدا ففيها ثلثا الدية، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدية. والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة، فإن نفذت من جهتين عندهم جائفتان، وفيها من الدية الثلثان. قال أشهب: وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر. بدية جائفتين. وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون: لا قصاص في الجائفة. قال ابن المنذر: وبه نقول. السادسة والعشرون - واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها، فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن [ رضى الله عنهم ] (2) أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها. وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك، وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث. وقال الليث: إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها (3)، للخوف (4) على العين ويعاقبه السلطان. وإن كانت على الخد ففيها القود. وقالت طائفة: لا قصاص في اللطمة، روي هذا عن الحسن وقتادة. وهو قول مالك والكوفيين والشافعي، واحتج مالك في ذلك فقال: ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي، وليس العبد الاسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة، وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة. (1) من ع وك. (2) من ع. (3) في ج. ك. ه‍: فلا قصاص. (4) في ك: للخوف فيها. (*)
[ 207 ]
السابعة والعشرون - واختلفوا في القود من ضرب السوط، فقال الليث [ والحسن ] (1): يقاد منه، ويزاد عليه للتعدي (2). وقال ابن القاسم: يقاد منه. ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح، قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة. وقال ابن المنذر: وما أصيب (3) به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القود، وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث. وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة (4)، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط. واقتص شريح من سوط وخموش. وقال ابن بطال: وحديث لد (5) النبي صلى الله عليه وسلم لاهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح. الثامنة والعشرون - واختلفوا في عقل جراحات النساء، ففي " الموطأ " عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية [ الرجل ] (6)، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته. قال ابن بكير قال مالك: فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل. قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير [ والزهري ] (7) وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبد الملك ابن الماجشون. وقالت طائفة: دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر، روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه، واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله، وبه نقول. التاسعة والعشرون - قال القاضي عبد الوهاب: وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة، كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر ؟ ؟ الرأس وثديي ؟ ؟ الرجل وأليته (8). وصفة (1) من ع وك. (2) في ع: لاجل التعدي. (3) في ع: أصبت. (4) الدرة (بالكسر): التي يضرب بها. (5) اللد: أن يؤخد بلسان الصبي ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ إلى أحد شقيه ويوجر في الآخر الدواء في الصدف بين اللسان وبين الشدق. وحديث اللد أنه لد - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فلما أفاق قال: " لا يبقى في البيت أحد إلا لد " فعل ذلك عقوبة لهم لانهم لدوه بغير إذنه. (6) من ك وع. يريد أن ما دون ثلث الدية عقلها فيه كعقل الرجل، حتى إذا بلغت في عقل ما جنى عليها ثلث الدية كان عقلها نصف عقل الرجل. وقوله: (إصبعها كإصبعه... الخ) يريد أن عقل هذه كلها دون الثلث فلذلك ساوت فيه الرجل (الموطأ). (7) من ج وك وه‍ وع. (8) في ع وك: أليتيه. (*)
[ 208 ]
الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم، قال: ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة. وقيل: بل يقبل قول عدل واحد. والله سبحانه أعلم. فهذه جمل من أحكام الجراحات والاعضاء تضمنها معنى هذه الآية، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية [ بمنه وكرمه ] (1). الموفية ثلاثين - قوله تعالى: (فمن تصدق به فهو كفارة له) شرط وجوابه، أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدق. وقيل: هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة، لانه يقوم مقام أخذ الحق منه، وأجر المتصدق عليه. وقد ذكر ابن عباس القولين، وعلى الاول أكثر الصحابة ومن بعدهم، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما، والاول أظهر لان العائد فيه يرجع إلى مذكور، وهو " من ". وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يصاب بشئ من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة). قال ابن العربي: والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل، فلا معنى له. قوله تعالى: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47) قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم) أي جعلنا عيسى يقفو آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا. (مصدقا لما بين يديه) يعني التوراة، فإنه رأى التوراة حقا، ورأى وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ. " مصدقا " نصب على الحال من عيسى. (فيه هدى) في موضع رفع بالابتداء. " ونور " عطف عليه. " ومصدقا " فيه وجهان، يجوز أن يكون (1) من ع وك. (*)
[ 209 ]
لعيسى وتعطفه على مصدقا الاول، ويجوز أن يكون حالا من الانجيل، ويكون التقدير: وآتيناه الانجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا. (وهدى وموعظة) عطف على " مصدقا " أي هاديا وواعظا. " للمتقين " وخصهم لانهم المنتفعون بهما. ويجوز رفعهما على العطف على قوله: " فيه هدى ونور ". قوله تعالى: (وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه) قرأ الاعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي. والباقون بالجزم على الامر، فعلى الاول تكون اللام متعلقة بقوله: " وآتيناه " فلا يجوز الوقف، أي وآتيناه الانجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه. ومن قرأه على الامر فهو كقوله: " وأن احكم بينهم " [ المائدة: 49 ] فهو إلزام مستأنف يبتدأ به، أي ليحكم أهل الانجيل أي في ذلك الوقت، فأما الآن فهو منسوخ. وقيل: هذا أمر للنصارى الآن بالايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن في الانجيل وجوب الايمان به، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الاصول. قال مكي: والاختيار الجزم، لان الجماعة عليه، ولان ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لاهل الانجيل. فال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان، لان الله عزوجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه، وأمر (1) بالعمل بما فيه، فصحتا جميعا. قوله تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48) قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب) الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. و " الكتاب " القرآن (بالحق) أي [ هو ] (2) بالامر الحق (مصدقا) حال (لما بين يديه من الكتاب) أي من (1) من ع. وفي ك وج: أمر. (2) من ج. (*)
[ 210 ]
جنس الكتب. (ومهيمنا عليه) أي عاليا عليها ومرتفعا. وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي في كثرة الثواب، على ما تقدمت إليه الاشارة في " الفاتحة " (1) وهو اختيار ابن الحصار في كتاب شرح السنة له. وقد ذكرنا ما ذكره في كتابنا في شرح الاسماء [ الحسنى ] (2) والحمد لله. وقال قتادة: المهيمن معناه المشاهد. وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدق، ومنه قول الشاعر: إن الكتاب مهيمن لنبينا * والحق يعرفه ذوو الالباب وقال ابن عباس: " ومهيمنا عليه " أي مؤتمنا عليه. قال سعيد بن جبير: القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب، وعن ابن عباس والحسن أيضا: المهيمن الامين. قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء، كما قيل في أرقت الماء هرقت، وقاله الزجاج أيضا وأبو علي. وقد صرف فقيل: هيمن يهين هيمنة، وهو مهيمن بمعنى كان أمينا. الجوهري: هو من آمن غيره من الخوف، وأصله أأمن فهو مؤامن بهمزتين، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن، ثم صيرت الاولى هاء كما قالوا: هراق الماء وأراقه، يقال منه: هيمن على الشئ يهيمن إذا كان له حافظا، فهو مهيمن، عن أبى عبيد. وقرأ مجاهد وابن محيصن: " ومهيمنا عليه " بفتح الميم. قال مجاهد: أي محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن. قوله تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله) يوجب الحكم، فقيل: هذا نسخ للتخيير في قوله: " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " وقيل: ليس هذا وجوبا، والمعنى: فاحكم بينهم إن شئت، إذ لا يجب علينا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذمة. وفي أهل الذمة تردد وقد مضى الكلام فيه. وقيل: أراد فاحكم بين الخلق، فهذا كان واجبا عليه. قوله تعالى: (ولا تتبع أهواءهم) فيه مسئلتان (3): الاولى - قوله تعالى: (ولا تتبع أهواءهم) يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما جاءك من الحق، يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان * (1) راجع ج 1 ص 109. (2) من ع. (3) كذا في الاصول ولم يذكر المصنف الثانية ولعلها قوله تعالى: (لكل جعلنا) الآية. (*)
[ 211 ]
الاحكام. والاهواء جمع هوى، ولا يجمع أهوية، وقد تقدم في " البقرة " (1). فنهاه عن أن يتبعهم فيما يريدونه، وهو يدل على بطلان قول من قال: تقوم الخمر على من أتلفها عليهم، لانها ليست مالا لهم فتكون مضمونة على متلفها، لان إيجاب ضمانها على متلفها حكم بموجب أهواء اليهود، وقد أمرنا بخلاف ذلك. ومعنى (عما جاءك) على ما جاءك. (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) يدل على عدم التعلق بشرائع الاولين. والشرعة والشريعة الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن. والشارع الطريق الاعظم. والشرعة أيضا الوتر، والجمع شرع وشرع وشراع جمع الجمع، عن أبي عبيد، فهو مشترك. والمنهاج الطريق المستمر، وهو النهج والمنهج، أي البين، قال الراجز: من يك ذا شك فهذا فلج * ماء رواء (2) وطريق نهج وقال أبو العباس محمد بن يزيد: الشريعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما " شرعة ومنهاجا " سنة وسبيلا. ومعنى الآية أنه جعل التوراة لاهلها، والانجيل لاهله، والقرآن لاهله، وهذا في الشرائع والعبادات، والاصل التوحيد لا اختلاف فيه، روي معنى ذلك عن قتادة. وقال مجاهد: الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام، وقد نسخ به كل ما سواه. قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) أي لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحق، فبين أنه أراد بالاختلاف إيمان قوم وكفر قوم. (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) في الكلام حذف تتعلق به لام كي، أي ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم، والابتلاء الاختبار. قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) أي سارعوا إلى الطاعات، وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها إلا في الصلاة في أول (1) راجع ج 2 ص 24. (2) (ما رواه) ممدود مفتوح الراء أي عذب ؟ ؟ ؟ ؟ (*)
[ 212 ]
الوقت فإن أبا حنيفة يرى أن الاولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه، قاله الكيا (1). وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر، وقد تقدم جميع هذا في " البقرة " (2). (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) أي بما اختلفتم فيه، وتزول الشكوك. قوله تعالى: وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) تقدم الكلام فيها، وأنها ناسخة للتخيير. قال ابن العربي: وهذه دعوى عريضة، فإن شروط النسخ أربعة: منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين، فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للاخرى، وبقي الامر على حاله. قلت: قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول، فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " إن شئت، لانه قد تقدم ذكر التخيير له، فآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الاول عليه، لانه معطوف عليه، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله، إذ لا معنى لذلك ولا يصح، فلا بد من أن يكون قوله: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " معطوفا على ما قبله من قوله: " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ومن قوله: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فمعنى " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم، فهو كله محكم غير منسوخ، لان الناسخ لا يكون مرتبطا بالمنسوخ معطوفا عليه، فالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ، قاله مكي رحمه اله. " وأن احكم " في موضع نصب عطفا على الكتاب، أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله، أي بحكم الله الذي أنزله (1) في ع: الطبري. وهو الكيا الطبري. (2) راجع ج 2 ص 280. (*)
[ 213 ]
إليك في كتابه. (واحذرهم أن يفتنوك) " أن " بدل من الهاء والميم في " واحذرهم " وهو بدل اشتمال. أو مفعول من أجله، أي من أجل أن يفتنوك. وعن ابن إسحق قال ابن عباس: اجتمع قوم من الاحبار منهم ابن صوريا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس ابن عدي وقالوا: اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر، فأتوه فقالوا: قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فتحاكمهم إليك، فأقض لنا عليهم حتى نؤمن بك، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدم، ثم يختلف معناها، فقوله تعالى هنا " يفتنوك " معناه يصدوك ويردوك، وتكون الفتنة بمعنى الشرك، ومنه قوله: " والفتنة أكبر من القتل (1) " وقوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (2) ". وتكون والفتنة بمعنى العبرة، كقوله: " لا تجعلنا فتنة للذين كفروا (3) ". و (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين " [ يونس: 85 ] (4). وتكون الفتنة الصد عن السبيل كما في هذه الآية. وتكرير " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " للتأكيد، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله. وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم، لانه قال: " أن يفتنوك " وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد. وقيل: الخطاب له والمراد غيره. وسيأتي بيان هذا في " الانعام " إن شاء الله تعالى ومعنى (عن بعض ما أنزل الله إليك) عن كل ما أنزل الله إليك. والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر: * أو يعتبط بعض النفوس حمامها * ويروى " أو يرتبط ". أراد كل النفوس، وعليه حملوا قوله تعالى: " ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه " (6) [ الزخرف: 63 ]. قال ابن العربي: والصحيح أن " بعض " على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل. والله أعلم. (1) راجع 3 ص 40. (2) راجع ج 7 ص 404 وص 351 ج 2. (3) راجع ج 18 ص 56. (4) راجع ج 8 ص 370. (5) هو لبيد، وصدره: (تراك أمكنة إذا لم أرضها). وفي اللسان: (أو يتعلق) ابن سيده: (وليس هذا عندي على ما ذهب إليه أهل اللغة من أن البعض في معنى الكل، هذا نقض، ولا دليل في هذا البيت لانه إنما عنى ببعض النفوس نفسه). (6) راجع ج 16 ص 107. (*)
[ 214 ]
قوله تعالى: (فإن تولوا) أي فإن أبوا حكمك وأعرضوا عنه (فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم) أي يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل، وكذلك كان. وإنما قال: " ببعض " لان المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم. (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) يعني اليهود. قوله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون) " أفحكم " نصب ب‍ " - يبغون " والمعنى: أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع، كما تقدم في غير موضع، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الاقوياء الاغنياء، فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل. الثانية - روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية " أفحكم الجاهلية يبغون " فكان طاوس يقول: ليس لاحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وبه قال أهل الظاهر. وروي عن أحمد بن حنبل مثله، وكرهه، الثوري وابن المبارك وإسحق، فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يرد، وأجاز ذلك مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي، واستدلوا بفعل الصديق في نحله عائشة دون سائر ولده، وبقوله عليه السلام: (فارجعه) (1) وقوله: (فأشهد على هذا غيري). وأحتج الاولون بقوله عليه السلام لبشير: (ألك ولد سوى هذا) قال نعم، فقال: (أكلهم وهبت له مثل هذا) فقال لا، (1) ذكر النسائي من حديث النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد جاء بابنه النعمان فقال: يارسول الله إنى نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل بنيك نحلت) قال: لا. قال: " فارجعه " قلت: هذا في جميع الاصول وهو كما يرى دليل للاولين كما سيأتي. (*)
[ 215 ]
قال: (فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور) في رواية (وإني لا أشهد إلا على حق). قالوا: وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز. وقول: (أشهد على هذا غيري) ليس إذنا في الشهادة وإنما هو زجر عنها، لانه عليه السلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه. وأما فعل أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله قد كان نحل أولاده نحلا يعادل ذلك. فإن قيل: الاصل تصرف الانسان في ماله مطلقا، قيل له: الاصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الاصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص. وفي الاصول أن الصحيح بناء العام على الخاص، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محرم، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). قال النعمان: فرجع أبي فرد تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها (1) الاب بالانفاق وقوله: (فارجعه) محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ، كما قال عليه السلام (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود مفسوخ. وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في المنع. الثالثة - قرأ ابن وثاب والنخعي " أفحكم " بالرفع على معنى يبغونه، فحذف الهاء كما حذفها أبو النجم في قوله: قد أصبحت أم الخيار تدعي * على ذنبا كله لم أصنع فيمن روى " كله " بالرفع. ويجوز أن يكون التقدير: أفحكم الجاهلية حكم يبغونه، فحذف الموصوف. وقرأ الحسن وقتادة والاعرج والاعمش " أفحكم " بنصب الحاء والكاف وفتح الميم، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحكم، وإنما المراد الحكم، فكأنه قال: أفحكم حكم الجاهلية يبغون. وقد يكون الحكم والحاكم في اللغة واحدا وكأنهم يريدون (1) يعتصر: يرتجع. (*)
[ 216 ]
الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية، فيكون المراد بالحكم الشيوع والجنس، إذ لا يراد به حاكم بعينه، وجاز وقوع المضاف جنسا كما جاز في قولهم: منعت مصر (1) إردبها، وشبهه. وقرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء، الباقون بالياء. وقوله تعالى: (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) هذا استفهام على جهة الانكار بمعنى: لا أحد أحسن، فهذا أبتداء وخبر. و " حكما " نصب على البيان. [ لقوله ] (2) " لقوم يوقنون " أي عند قوم يوقنون. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين (51) فيه مسئلتان: الاولى - " اليهود والنصارى أولياء " مفعولان ل‍ [ تتخذوا ] (2)، وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا، وقد مضى في " آل عمران " (3) بيان ذلك. ثم قيل: المراد به المنافقون، المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين. وقيل: نزلت في أبي لبابة، عن عكرمة. قال السدي: نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، فتبرأ عبادة [ رضي الله عنه ] (4) من موالاة اليهود، وتمسك بها ابن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر. (بعضهم أولياء بعض) مبتدأ وخبره، وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض. (1) الاردب مكيال معروف لاهل مصر، وفي الحديث " ؟ ؟ ؟ ؟ العراق درهمها وقفيزها ومنعت مصر إردبها وعدتم من حيث بدأتم ". (اللسان). (2) من ك وع. (3) راجع ج 4 ص 188. (4) من ع. (*)
[ 217 ]
الثانية - قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم) أي يعضدهم على المسلمين (فإنه منهم) بين تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " (1) [ هود: 113 ] وقال تعالى في " آل عمران ": " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " (2) [ آل عمران: 28 ] وقال تعالى: " لا تتخذوا بطانة من دونكم " (2) [ آل عمران: 118 ] وقد مضى القول فيه. وقيل: إن معنى " بعضهم أولياء بعض " أي في النصرة " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " شرط وجوابه، أي لانه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم. قوله تعالى: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (52) ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين اقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين (53) قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض) شك ونفاق، وقد تقدم في " البقرة " (3) والمراد ابن أبي وأصحابه (يسارعون فيهم) أي في موالاتهم ومعاونتهم. (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) أي يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميروننا ولا يفضلوا علينا، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الامر لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول أشبه بالمعنى، كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الامر، ويدل عليه قوله عزوجل: " فعسى الله أن يأتي بالفتح "، وقال الشاعر: يرد عنك القدر المقدورا * ودائرات الدهر أن تدورا (1) راجع ج 9 ص 107. (2) راجع ج 4 ص 57 و 178. (3) راجع ج 1 ص 197. (*)
[ 218 ]
يعنى دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم. واختلف في معنى الفتح، فقيل: الفتح الفصل والحكم، عن قتادة وغيره. قال ابن عباس: أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير. وقال أبو علي: هو فتح بلاد المشركين على المسلمين. وقال السدي: يعني بالفتح فتح مكة. (أو أمر من عنده) قال السدي: هو الجزية. الحسن: إظهار أمر المنافقين والاخبار بأسمائهم والامر بقتلهم. وقيل: الخصب والسعة للمسلمين (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) أي فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذا رأوا نصر الله للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب. قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا). وقرأ أهل المدينة وأهل الشام: " يقول " بغير واو. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: " ويقول " بالواو والنصب عطفا على " أن يأتي " عند أكثر النحويين، التقدير: فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول. وقيل: هو عطف على المعنى، لان معنى " عسى الله أن يأتي بالفتح " وعسى ن يأتي الله بالفتح، إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو، لانه لا يصح المعنى إذا قلت: وعسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا. فإذا قدرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حسن، لانه يصير التقدير: عسى أن يأتي وعسى أن يقوم، ويكون من باب قوله: ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا (1) وفيه قول ثالث - وهو أن تعطفه على الفتح، كما قال الشاعر: * للبس عباءة وتقر عيني * (2) ويجوز أن يجعل " أن يأتي " بدلا من اسم الله جل ذكره، فيصير التقدير: عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا. وقرأ الكوفيون " ويقول الذين آمنوا " بالرفع على القطع من الاول. (أهؤلاء) إشارة إلى المنافقين. (أقسموا بالله) حلفوا واجتهدوا في الايمان. (إنهم لمعكم) (1) يروى هكذا في الاصول. وفي اللسان وشرح الشواهد لسيبويه: (ياليت زوجك قد غدا). (2) تمام البيت: (أحب إلى من لبس الشفوف). (*)
[ 219 ]
أي قالوا إنهم، ويجوز " أنهم " [ نصب ] (1) ب‍ " - أقسموا " أي قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهدا أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد. ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض، أي هؤلاء الذين كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك (2) الله اليوم سترهم. (حبطت أعمالهم) بطلت بنفاقهم. (فأصبحوا خاسرين) أي خاسرين الثواب. وقيل: خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وإجلائهم. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (54) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " من يرتد منكم عن دينه " شرط وجوابه " فسوف ". وقراءة أهل المدينة والشام " من يرتدد " بدالين. الباقون " من يرتد ". وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم: إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا، فكان على ما أخبر بعد مدة، وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحق: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد، مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثى (3)، وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها، قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي، فقاتل الصديق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم (4) وسباهم، على ما هو مشهور من أخبارهم. (1) من ع وك. (2) في ج وك وع: انهتك سترهم. (3) جواثا مهموز: اسم حصن بالبحرين. وفي الحديث " أول جمعة جمعت بعد المدينة بجواثا. (النهاية). (4) في ج وك وز وع: فقتلهم. (*)
[ 220 ]
الثانية - قوله تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) في موضع النعت. قال الحسن وقتادة وغيرهما: نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه. وقال السدي: نزلت في الانصار. وقيل: هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك (1) الوقت، وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية، وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة، ومن أشجع. وقيل: إنها نزلت في الاشعريين، ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الاشعريين، وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الاسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن، هذا أصح ما قيل في نزولها. والله أعلم. وروى الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك " بإسناده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الاشعري لما نزلت هذه الآية فقال: (هم قوم هذا) قال القشيري: فأتباع أبي الحسن من قومه، لان كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الاتباع. الثالثة - قوله تعالى: (أذلة على المؤمنين) " أذلة " نعت لقوم، وكذلك (أعزة) أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم، من قولهم: دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شئ. ويغلظون على الكافرين ويعادونهم. قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته، قال الله تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم " (2) [ الفتح: 29 ]. ويجوز " أذلة " بالنصب على الحال، أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال، وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له (3). الرابعة - قوله تعالى: (يجاهدون في سبيل الله) في موضع الصفة أيضا. (ولا يخافون لومة لائم) بخلاف المنافقين يخافون الدوائر، فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لانهم جاهدوا في الله عزوجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي (1) في ك وع: وقت نزول الآية، وهم أحياء. الخ. (2) راجع ج 16 ص 292. (3) راجع ج 4 ص 59 وما بعدها. (*)
[ 221 ]
لله تعالى. وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة. والله أعلم. (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ابتداء وخبر. (والله واسع عليم) أي واسع الفضل، عليم بمصالح خلقه. قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون (55) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " قال جابر بن عبد الله قال عبد الله ابن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. " والذين " عام في جميع المؤمنين. وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (1) بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " هل هو علي بن أبي طالب ؟ فقال: علي من المؤمنين، يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين. قال النحاس: وهذا قول بين، لان " الذين " لجماعة. وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وقال في رواية أخرى: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاله مجاهد والسدي، وحملهم على ذلك قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) وهي: المسألة الثانية - وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه خاتم، فأشار إلى السائل [ بيده ] (2) حتى أخذه. قال الكيا الطبري: وهذا يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، فإن التصدق بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة ولم تبطل به الصلاة. وقوله: " ويؤتون الزكاة وهم راكعون " يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة.، فإن عليا تصدق بخاتمه في الركوع، وهو نظير قوله تعالى: " وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " (3) [ الروم: 39 ] وقد (1) من ع. كذا في التهذيب. (2) من ز، وفي ج وا ول: به. (3) راجع ج 14 ص 36. (*)
[ 222 ]
انتظم الفرض والنفل، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل، كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الامرين. قلت: فالمراد على هذا بالزكاة التصدق بالخاتم، وحمل لفظ الزكاة على التصدق بالخاتم فيه بعد، لان الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة المفروضة على ما تقدم بيانه في أول سورة " البقرة " (1). وأيضا فإن قبله " يقيمون الصلاة " ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها، والمراد صلاة الفرض. ثم قال: " وهم راكعون " أي النفل. وقيل: أفرد الركوع بالذكر تشريفا. وقيل: المؤمنون وقت نزول الآية كانوا بين متمم للصلاة وبين راكع. وقال ابن خويزمنداد قوله تعالى: " ويؤتون الزكاة وهم راكعون " تضمنت جواز العمل اليسير في الصلاة، وذلك أن هذا خرج مخرج المدح، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحا، وقد روي أن [ علي بن أبي طالب ] رضي الله عنه أعطى السائل شيئا وهو في الصلاة، وقد يجوز أن يكون هذه صلاة تطوع، وذلك أنه مكروه في الفرض. ويحتمل أن يكون المدح متوجها على اجتماع حالتين، كأنه وصف من يعتقد وجوب الصلاة والزكاة، فعبر عن الصلاة بالركوع، وعن الاعتقاد للوجوب بالفعل، كما تقول: المسلمون هم المصلون، ولا تريد أنهم في تلك الحال مصلون ولا يوجه المدح حال الصلاة، فإنما يريد من يفعل هذا الفعل ويعتقده. قوله تعالى: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56) قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله. وقيل: أي ومن يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين. (فإن حزب الله هم الغالبون) قال الحسن: حزب الله جند الله. وقال غيره: أنصار الله قال الشاعر: * وكيف أضوى (3) وبلال حزبي * (1) راجع ج 1 ص 179. (2) من ج وك وع. (3) أضوى: أي أستضعف وأضام، من الشئ الضاوي. (الطبري). وفي ع: وكيف أخزى. (*)
[ 223 ]
أي ناصري. والمؤمنون حزب الله، فلا جرم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والاجلاء وضرب الجزية. والحزب الصنف من الناس. وأصله من النائبة من قولهم: حزبه كذا أي نابه، فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها. وحزب الرجل أصحابه. والحزب الورد، ومنه الحديث (فمن فاته حزبه من الليل). وقد حزبت القرآن. والحزب الطائفة. وتحزبوا اجتمعوا. والاحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الانبياء (1). وحزبه أمر أي أصابه. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57) فيه مسألتان: الاولى: روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) إلى آخر الآيات. وتقدم معنى الهزؤ في " البقرة " (2). " من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " قرأه أبو عمرو والكسائي بالخفض بمعنى ومن الكفار. قال الكسائي: وفي حرف أبي رحمه الله " ومن الكفار "، و " من " ههنا لبيان الجنس، والنصب أوضح (3) وأبين. قاله النحاس. وقيل: هو معطوف على أقرب العاملين منه وهو قوله: " من الذين أوتوا الكتاب " فنهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزوا ولعبا. ومن نصب عطف على " الذين " الاول في قوله: " لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا والكفار أولياء " أي لا تتخذوا هؤلاء وهؤلاء أولياء، فالموصوف بالهزؤ واللعب في هذه القراءة اليهود لا غير. والمنهي عن اتخاذهم أولياء اليهود والمشركون، وكلاهما في القراءة بالخفض موصوف بالهزؤ واللعب. قال مكي: ولولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض، لقوته في الاعراب وفي المعنى والتفسير والقرب من المعطوف (1) في ه‍ ع: الاعداء. (2) راجع ج 1 ص 446. (3) في ج: أفصح. (*)
[ 224 ]
عليه. وقيل: المعنى لا تتخذوا المشركين والمنافقين أولياء، بدليل قولهم: " إنما نحن مستهزئون " (1) [ البقرة: 14 ] والمشركون كلهم كفار، لكن يطلق في الغالب لفظ الكفار على المشركين، فلهذا فصل ذكر أهل الكتاب من الكافرين. الثانية - قال ابن خويزمنداد: هذه الآية مثل قوله تعالى: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " [ المائدة: 51 ]، و " لا تتخذوا بطانة من دونكم " (2) [ آل عمران: 118 ] تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك. وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا: نسير معك، فقال [ عليه الصلاة والسلام ] (3): (إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين) وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي. وأبو حنيفة جوز الانتصار بهم على المشركين للمسلمين، وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من السنة ذلك. والله أعلم. قوله تعالى: وإذ ناديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58) فيه أثنتا عشرة مسألة: الاولى - قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا وقالوا في حق الاذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الامم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير ؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر. وقيل: إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون، تجهيلا لاهلها، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها. وقيل: إنهم كانوا يرون المنادي إليها بمنزلة اللاعب الهازئ بفعلها، جهلا منهم بمنزلتها، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله سبحانه: " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا " (4) [ فصلت: 33 ] والنداء الدعاء برفع الصوت، وفد يضم مثل الدعاء والرغاء. وناداه مناداة ونداء أي صاح به. وتنادوا أي نادى (1) راجع ج 1 ص 206. (2) راجع ج 4 ص 178. (3) من ج وع. (4) راجع ج 15 ص 359. (*)
[ 225 ]
بعضهم بعضا. وتنادوا أي جلسوا في النادي، وناداه جالسه في النادي. وليس في كتاب الله تعالى ذكر الاذان إلا في هذه الآية، أما أنه ذكر في الجمعة على الاختصاص. الثانية - قال العلماء: ولم يكن الاذان بمكة فبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون " الصلاة جامعة " فلم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالاذان، وبقي (1) " الصلاة جامعة " للامر يعرض. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهمه أمر الاذان حتى أريه عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع الاذان ليلة الاسراء في السماء، وأما رؤيا عبد الله بن زيد الخزرجي الانصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فمشهورة، وأن عبد الله بن زيد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليلا طرقه به، وأن عمر [ رضي الله عنه ] (2) قال: إذا أصبحت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح " الصلاة خير من النوم " فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما أرى الانصاري، ذكره ابن سعد عن ابن عمر. وذكر الدارقطني رحمه الله أن الصديق رضي الله عنه أري الاذان، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بالاذان قبل أن يخبره الانصاري، ذكره في كتاب " المدبج " له في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصديق وحديث أبي بكر عنه. الثالثة - واختلف العلماء في وجوب الاذان والاقامة، فأما مالك وأصحابه فإن الاذان عندهم إنما بجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، وقد نص على ذلك مالك في موطئه. واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين: أحدهما: سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى مصر من القرى. وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي، وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل مصر الاذان عامدين أعادوا الصلاة، قال أبو عمر: ولا أعلم اختلافا في وجوب الاذان جملة على أهل المصر، لان الاذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الاسلام ودار الكفر، وكان رسول الله صلى الله (1) في ز: بقيت. (2) من ع. (*)
[ 226 ]
عليه وسلم إذا بعث سرية قال لهم: (إذا سمعتم الاذان فأمسكوا وكفوا وإن لم تسمعوا الاذان فأغيروا - أو قال - فشنوا الغارة). وفي صحيح مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار الحديث وقال عطاء ومجاهد والاوزاعي وداود: الاذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية. قال الطبري: الاذان سنة وليس بواجب. وذكر عن أشهب عن مالك: إن ترك الاذان مسافر عمدا فعليه إعادة الصلاة. وكره الكوفيون أن يصلي المسافر بغير أذان ولا إقامة، قالوا: وأما [ ساكن ] (1) المصر فيستحب له أن يؤذن ويقيم، فإن استجزأ (2) بأذان الناس وإقامتهم أجزأه. وقال الثوري: تجزئه الاقامة عن الاذان في السفر، وإن شئت أذنت وأقمت. وقال أحمد بن حنبل: يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث. وقال داود: الاذان واجب على كل مسافر في خاصته والاقامة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولصاحبه: " إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما) خرجه البخاري وهو قول أهل الظاهر. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولابن عم له: (إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما). قال ابن المنذر: فالاذان والاقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر، لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاذان وأمره على الوجوب (3). قال أبو عمر: واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الاذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته، وكذلك لو ترك الاقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه (4) الاقامة. واحتج الشافعي في أن الاذان غير واجب [ وليس ] (5) فرضا من فروض الصلاة بسقوط الاذان للواحد عند الجمع بعرفة والمزدلفة، وتحصيل مذهب مالك في الاذان في السفر كالشافعي سواء. الرابعة - واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الاذان مثنى والاقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الاول، وذلك محفوظ من روايات الثقات في حديث أبي محذورة (6)، (1) من ع. (2) في ع: اجتزى. (3) في ج، ك، ع، ز، على الفرض. (4) من ج، ع. (5) من ك. (6) هو: أبو محذورة سمرة بن معير: مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحسن الناس أذانا وأنداهم صوتا. (*)
[ 227 ]
وفي حديث عبد الله بن زيد، قال: وهي زيادة يجب قبولها. وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره. قال أصحابه: وكذلك هو الآن عندهم، وما ذهب إليه مالك موجود أيضا في أحاديث صحاح في أذان أبي محذورة، وفي أذان عبد الله بن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظي إلى زمانهم. واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الاذان، وذلك رجوع المؤذن إذا قال: " أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين " رجع فمد من صوته جهده. ولا خلاف بين مالك والشافعي في الاقامة إلا قوله: " قد قامت الصلاة " فإن مالكا يقولها مرة، والشافعي مرتين، واكثر العلماء على ما قال الشافعي، وبه جاءت الآثار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي: الاذان والاقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الاذان وأول الاقامة " الله أكبر " أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الاذان، وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله ابن زيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم (1) حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد بينهما قعدة، فسمع بلال بذلك فقام وأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى، رواه الاعمش وغيره عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق. قال أبو إسحق السبيعي: كان أصحاب علي وعبد الله يشفعون الاذان والاقامة، فهذا أذان الكوفيين، متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا، كما يتوارث الحجازيون، فأذانهم تربيع التكبير مثل المكيين. ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة، وأشهد أن محمدا رسول الله مرة واحدة، ثم حي على الصلاة مرة، ثم حي على الفلاح مرة، ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله - الاذان كله - مرتين مرتين إلى آخره. قال أبو عمر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوه على الاباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز، لانه قد ثبت عن رسول الله (1) الجذم (بكسر الجيم وسكون الذال): الاصل، أراد بقية حائط أو قطعة من حائط. وفي ع: حرم. (*)
[ 228 ]
صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء قال: الله أكبر مرتين في أول الاذان، ومن شاء قال ذلك أربعا، ومن شاء رجع في أذانه، ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنى الاقامة، ومن شاء أفردها (1)، إلا قوله: " قد قامت الصلاة " فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال ! !. الخامسة - واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح - وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم - فقال مالك والثوري والليث: يقول المؤذن في صلاة الصبح - بعد قوله: حي على الفلاح مرتين - الصلاة خير من النوم مرتين، وهو قول الشافعي بالعراق، وقال بمصر: لا يقول ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقوله بعد الفراغ من الاذان إن شاء، وقد روي عنهم أن ذلك في نفس الاذان، وعليه الناس في صلاة الفجر. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي محذورة أنه أمره أن يقول في أذان الصبح (الصلاة خير من النوم). وروي عنه أيضا ذلك من حديث عبد الله بن زيد. وروى عن أنس أنه قال: من السنة أن يقال في الفجر " الصلاة خير من النوم ". وروي عن ابن عمر أنه كان يقوله، وأما قول مالك في " الموطأ " أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره [ عمر ] (2) أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يحتج بها وتعلم صحتها، وإنما فيه حديث هشام ابن عروة عن رجل يقال له " إسمعيل " فأعرفه، ذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له " إسمعيل " قال: جاء المؤذن يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال " الصلاة خير من النوم " فأعجب به عمر وقال للمؤذن: " أقرها في أذانك ". قال أبو عمر: والمعنى فيه عندي أنه قال له: نداء الصبح موضع القول بها لا ههنا، كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الامير كما أحدثه الامراء بعد. قال أبو عمر: وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه، لان التثويب في صلاة الصبح أشهر عند العلماء، والعامة من أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه جهل [ شيئا ] (3) سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) كذا في الاصول. (2) الزيادة عن موطأ مالك. (3) من ع. (*)
[ 229 ]
وأمر به مؤذنيه، بالمدينة بلالا، وبمكة أبا محذورة، فهو محفوظ معروف في تأذين بلال، وأذان أبي محذورة في صلاة (1) الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، مشهور عند العلماء. روى وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت " حي على الفلاح " فقل: الصلاة خير من النوم، فإنه أذان بلال، ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر، ولا سمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها. السادسة - وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبي ثور، وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم). وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن: لا يؤدن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما) وقياسا على سائر الصلوات. وقالت طائفة من أهل الحديث: إذا كان للمسجد مؤذنان أذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر. السابعة - واختلفوا في المؤذن يؤذن ويقيم غيره، فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أنه لا بأس بذلك، لحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقيه على بلال، فأذن بلال، ثم أمر عبد الله ابن زيد فأقام. وقال الثوري والليث والشافعي: من أذن فهو يقيم، لحديث عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن [ زياد ] (2) بن الحرث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول الصبح أمرني فأذنت، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم). قال أبو عمر: (1) كذا في ك وز وج وع. وفي ا، ل: أذان. (2) بالاصل، (عبد الله بن الحرث الصدائي) وهو خطأ والتصويب عن كتب المصطلح والترمذي في سند هذا الحديث. (*)
[ 230 ]
عبد الرحمن بن زياد هو الافريقي، وأكثرهم يضعفونه، وليس يروي هذا الحديث غيره، والاول أحسن إسنادا إن شاء الله تعالى. وإن صح حديث الافريقي فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه، فالقول به أولى لانه نص في موضع الخلاف، وهو متأخر عن قصة عبد الله ابن زيد مع بلال، والآخر، فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الاقامة، فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع، والحمد لله. الثامنة - وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه، ولا يطرب (1) به كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الاطراب، فيرجعون فيه الترجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا بما به يصول. روى الدارقطني من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الاذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن). ويستقبل في أذانه القبلة عند جماعة من (2) العلماء، ويلوي رأسه يمينا وشمالا في " حي على الصلاة حي على الفلاح " عند كثير من أهل العلم. قال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يسمع الناس، وبه قال إسحق، والافضل أن يكون متطهرا. التاسعة - ويستحب لسامع الاذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز، لحديث أبي سعيد (3)، وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله، قال أشهد أن إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة). وفيه عن سعد بن أبي وقاص عن (1) التطريب مد الصوت وتحسينه. (2) في ع وه‍: جماعة العلماء. (3) الظاهر حديث ابن عمر لانه صح عنه: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول " الحديث في مسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وأحمد. (*)
[ 231 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالاسلام دينا غفر له ما تقدم من ذنبه). العاشرة - وأما فضل الاذان والمؤذن فقد جاءت فيه أيضا آثار صحاح، منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين) الحديث. وحسبك أنه شعار الاسلام، وعلم على الايمان كما تقدم. وأما المؤذن فروى مسلم عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة). وهذه إشارة إلى الامن من هول ذلك اليوم. والله أعلم. والعرب تكني بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم، كما قال قائلهم: (1) * طوال (2) أنضية الاعناق واللمم * وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة). وفي سنن ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار) وفيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة). قال أبو حاتم: هذا الاسناد منكر والحديث صحيح. وعن عثمان بن أبي العاص قال: كان آخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا) حديث ثابت. الحادية عشرة - واختلفوا في أخذ الاجرة على الاذان، فكره ذلك القاسم (3) بن عبد الرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال: لا بأس به. وقال الاوازعي: ذلك مكروه، (1) قيل: هو لليلى الاخيلية: ويروى للشمردل بن شريك اليربوعي، وهو عجز بيت وصدره: (يشبهون ملوكا في تجلتهم، - ويروى - يشبهون سيوفا في صرائمهم). والنضى ما بين الرأس والكاهل من العنق. واللمة (بالكسر): الشعر المجاوز شحمه الاذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمة. قال في (اللسان): والصحيح (والامم) جمع أمة وهي القامة لان الكهول لا تمدح بطول اللمم إنما تمدح به النساء والاحداث. (2) رواية اللسان: وطول أنضية. (3) في ع وك: القاسم بن محمد. (*)
[ 232 ]
ولا بأس بأخذ الرزق على ذلك من بيت المال. وقال الشافعي: لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر: لا يجوز أخذ الاجرة على الاذان. وقد استدل علماؤنا بأخذ الاجرة بحديث أبي محذورة، وفيه نظر، أخرجه النسائي وابن ماجة وغيرهما قال: خرجت في نفر فكنا ببعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون (1) فصرخنا نحكيه نهزأ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه فقال: (أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع) فأشار إلى القوم كلهم وصدقوا فأرسل كلهم وحبسني وقال لي: (قم فأذن) فقمت ولا شئ أكره إلي من [ أمر ] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: (قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر ألله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله)، ثم قال لي: (ارفع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله)، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شئ من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه، ثم على (3) ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك وبارك عليك)، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، قال: (قد أمرتك). فذهب كل شئ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لفظ ابن ماجة. (1) متنكبون: اسم فاعل من تنكب عنه أي عدل عنه، أي معرضون متجنبون. وفي ج: متنكرون. (2) من ج وك وز وع. (3) في ج وك وع: بين. (*)
[ 233 ]
الثانية عشرة - قوله تعالى: (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح. روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: " أشهد أن محمدا رسول الله " قال: حرق الكاذب، فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه، فكانت عبرة للخلق " والبلاء موكل بالمنطق " وقد كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا، فلا يؤخروا بعد ذلك، ذكره ابن العربي. قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59) قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60) قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) قال ابن عباس رضي الله عنه: جاء نفر من اليهود - فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام، فقال: (نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل إلى قوله: " ونحن له مسلمون ") [ البقرة: 133 ]، فلما ذكر عيسى عليه السلام. جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم، فنزلت هذه الآية وما بعدها، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الاذان، فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالنبوة، والمتناقض دين من فرق بين أنبياء الله لا دين من يؤمن بالكل. ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها. و " تنقمون " معناه تسخطون، وقيل: تكرهون
[ 234 ]
وقيل: تنكرون، والمعنى متقارب، يقال: نقم من كذا ينقم ونقم ينقم، والاول أكثر، قال عبد الله بن قيس الرقيات: ما نقموا من بني أمية إلا * أنهم يحلمون إن غضبوا وفي التنزيل " وما نقموا منهم " (1) [ البروج: 8 ] ويقال: نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم إذا عتبت عليه، يقال: ما نقمت عليه الاحسان. قال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الامر أيضا ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت: نقمة والجمع نقم، مثل نعمة ونعم، (إلا أن آمنا بالله) في موضع نصب ب‍ " - تنقمون " و " تنقمون " بمعنى تعيبون، أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق. (وأن أكثركم فاسقون) أي في ترككم الايمان، وخروجكم عن امتثال أمر الله، فقيل هو مثل قول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر. وقيل: أي لان أكثركم فاسقون تنقمون منا ذلك. قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك) أي بشر من نقمكم علينا. وقيل: بشر ما تريدون لنا من المكروه، وهذا جواب قولهم: ما نعرف دينا شرا من دينكم. " مثوبة " نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك، ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر، كما قال الشاعر: (2) وكنت إذا جاري دعا لمضوفة * أشمر حتى ينصف الساق مئزري وقيل: مفعلة كقولك مكرمة ومعقلة. (من لعنه الله) " من " في موضع رفع، كما قال: " بشر من ذلكم النار " (3) [ الحج: 72 ] والتقدير: هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله، ويجوز أن تكون في موضع خفض على (1) راجع ج 19 ص 292. (2) هو: أبو جندب الهزلي. والمضوفة: الامر يشق منه ويخاف. (3) راجع ج 12 ص 95. (*)
[ 235 ]
البدل من شر والتقدير: هل أنبئكم بمن لعنه الله، والمراد اليهود. وقد تقدم القول في الطاغوت (1)، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، والموصول محذوف عند الفراء. وقال البصريون: لا يجوز حذف الموصول، والمعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت. وقرأ ابن وثاب النخعي " أنبئكم " بالتخفيف. وقرأ حمزة: " عبد الطاغوت " بضم الباء وكسر التاء، جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس (2) وحذر، وأصله الصفة، ومنه قول النابغة. (3) من وحش وجرة موشي أكارعه * طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد بضم الراء. ونصبه ب‍ " - جعل "، أي جعل منم عبدا للطاغوت، وأضاف عبد إلى الطاغوت فخفضه. وجعل بمعنى خلق، والمعنى: وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت. وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء، وجعلوه فعلا ماضيا، وعطفوه على فعل ماضي وهو غضب ولعن، والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت، أو منصوبا ب‍ " - جعل "، أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ " من " دون معناها. وقرأ أبي وابن مسعود " وعبدوا الطاغوت " على المعنى. ابن عباس: " وعبد الطاغوت "، فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال: رهن ورهن، وسقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال: مثال ومثل، ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف، ويجوز أن يكون جمع عابد كبازل وبزل، والمعنى: وخدم الطاغوت. وعن ابن عباس أيضا " وعبد الطاغوت " (4) جعله جمع عابد كما يقال: شاهد وشهد وغايب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت (1) راجع ج 3 ص 281 وما بعدها. (2) الندس (بفتح فضم أو فتح فكسر): الفهم الكيس. (3) هو الذبياني، ووجرة: موضع بين مكة والبصرة، قال الاصمعي: هي أربعون ميلا ليس فيها منزل، فهي مرت للوحش. والوشى في ألوان البهائم بياض في سواد في بياض - طاوي: ضامر. المصير: المصران. والصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. والفرد والفرد (بفتح الراء وضمها): أي هو منقطع القرين لا مثيل له في جودته. (4) قال ابن عطية: وهذه القراءة تتخرج على أنه أراد و (عبدا) منونا ثم حذف للالتقاء كما قال: (ولا ذاكر الله). (*)
[ 236 ]
للمبالغة، جمع عابد أيضا، كعامل وعمال، وضارب وضراب. وذكر محبوب أن البصريين قرءوا: (وعباد الطاغوت) جمع عابد أيضا، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي (1) (وعبد الطاغوت) على المفعول، والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم. وقرأ عون العقيلي وابن بريدة: (2) (وعابد الطاغوت) على التوحيد، وهو يؤدي عن جماعة. وقرأ ابن مسعود أيضا (وعبد (3) الطاغوت) وعنه أيضا [ وأبي ] (4) (وعبدت الطاغوت) على تأنيث الجماعة، كما قال تعالى: (قالت الاعراب) (5) [ الحجرات: 14 ] وقرأ عبيد بن عمير: (وأعبد الطاغوت) مثل كلب وأكلب. فهذه اثنا عشر وجها. قوله تعالى: " أولئك شر مكانا " لان مكانهم النار، وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم. وقال الزجاج: أولئك شر مكانا على قولكم. النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر. وقيل: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا عليكم. وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله. ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر: فلعنة الله على اليهود * إن اليهود إخوة القرود قوله تعالى: وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61) وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (62) لولا ينههم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون (63) (1) راجع هامش ج 4 ص 1 في ضبط (الرؤاسى). (2) في ابن عطية والشواذ قراءة ابن بريدة (بفتح الدال) و (ضم الدال) قراءة العقيلي ولعله يقرأ كالعقيلي في رواية أخرى عنه. (3) قال ابن عطية: (بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء) اسم مفرد يراد به الجمع كحطم ولبد. (4) من ج‍ وك وع وز. (5) راجع ج 16 ص 348. (*)
[ 237 ]
قوله تعالى: (وإذا جاءوكم قالوا آمنا) الآية. هذه صفة المنافقين، والمعنى أنهم لم ينتفعوا بشئ مما سمعوه، بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. " والله أعلم بما كانوا يكتمون " أي من نفاقهم. وقيل: المراد اليهود الذين قالوا: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي. قوله تعالى: (وترى كثيرا منهم) يعني من اليهود. " يسارعون في الاثم والعدوان " أي يسابقون في المعاصي والظلم " وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون " قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار) (لولا) بمعنى أفلا. (ينهاهم) يزجرهم. (الربانيون) علماء النصارى. (والاحبار) علماء اليهود قاله الحسن. وقيل الكل في اليهود، لان هذه الآيات فيهم. ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال: (لبئس ما كانوا يصنعون) كما وبخ من يسارع في الاثم بقوله: " لبئس ما كانوا يعملون " ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد مضى القول في هذا المعنى في (البقرة) (1) و (وآل عمران) (2). وروى سفيان ابن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال: يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه: (أن به فابدأ فإنه لم يتمعر (3) وجهه في ساعة قط). وفي صحيح الترمذي: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده). وسيأتي. والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة، يقال: سيف صنيع إذا جود عمله. قوله تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغينا وكفرا وألقينا بينهم العدوة والبغضاء (1) راجع ج 1 ص 365 وما بعدها. (2) راجع ج 4 ص 47. (3) تمعر وجهه: تغير. (*)
[ 238 ]
إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين (64) قوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة). قال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء [ لعنه الله ] (1)، وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قل ما لهم، فقالوا: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء، فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا. وقال الحسن: المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا. وقيل: إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) (2) ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا: إن إله محمد فقير، وربما قالوا: بخيل، وهذا معنى قولهم: (يد الله مغلولة) فهذا على التمثيل كقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) (3) [ الاسراء: 29 ]. ويقال للبخيل: جعد الانامل، ومقبوض الكف، وكز الاصابع، ومغلول اليد، قال الشاعر: كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها * وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعدا أنامله * كأنما وجهه بالخل منضوح واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى: " وخذ بيدك ضغثا " (4) [ ص: 44 ] هذا محال على الله تعالى. وتكون للنعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوة، قال الله عزوجل: " واذكر عبدنا داود ذا الايد " (4) [ ص: 17 ]، أي ذا القوة وتكون يد الملك والقدرة، قال الله تعالى: " قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " (5) [ آل عمران: 73 ]. وتكون بمعنى الصلة، قال الله تعالى: " مما عملت أيدينا أنعاما " (4) [ يس: 71 ] أي مما عملنا نحن. وقال: " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " (2) [ البقرة: 237 ] أي الذي له عقدة النكاح. وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومن قوله عليه السلام: (يد الله مع القاضى حتى يقضي والقاسم حتى يقسم). وتكون لاضافة الفعل إلى المخبر عند تشريفا له وتكريما، قال الله تعالى: " يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " (4) [ ص: 75 ] فلا يجوز أن يحمل على الجارحة، لان الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوة والملك (1) من ع. (2) راجع ج 3 ص 237، 204. (3) راجع ج 10 ص 249. (4) راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228. (5) راجع ج 4 ص 112. (*)
[ 239 ]
والنعمة والصلة، لان الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم وعدوه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه، لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن تحمل (1) على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة، ومثله ما روى أنه [ عز اسمه وتعالى علاه وجد أنه ] (2) كتب التوراة بيده، وغرس دار الكرامة [ بيده ] (3) لاهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها. قوله تعالى: (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) حذفت الضمة من الياء لثقلها، أي غلت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاء عليهم، وكذا " ولعنوا بما قالوا " والمقصود تعليمنا كما قال: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " (4) [ الفتح: 27 ]، علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله: " تبت يدا أبي لهب " (5) [ المسد: 1 ] وقيل: المراد أنهم أبخل الخلق، فلا ترى يهوديا غير لئيم. وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو، أي قالوا: يد الله مغلولة وغلت أيديهم. واللعن بالابعاد، وقد تقدم. قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) ابتداء وخبر، أي بل نعمته مبسوطة، فاليد بمعنى النعمة. قال بعضهم: هذا غلط، لقوله: " بل يداه مبسوطتان " فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان ؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد، فيكون مثل قوله عليه السلام: (مثل المنافق كالشاة العائرة (6) بين الغنمين). فأحد الجنسين نعمة الدنيا، والثاني نعمة الآخرة. وقيل: نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، كما قال: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " (7) [ لقمان: 20 ]. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سئ عملك). وقيل: نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما. وقيل: إن النعمة (8) للمبالغة، كقول العرب: (لبيك وسعديك) وليس يريد الاقتصار على مرتين، وقد يقول القائل: ما لي بهذا الامر يد أو قوة. قال السدي، معنى قوله (يداه) قوتاه بالثواب (1) كذا في الاصول إلا في ج، ز: تحملا. ولا وجه للتثنية هنا. (2) من ز. (3) من ع. (4) راجع ج 16 ص 289. (5) راجع ج 20 ص 234. (6) العائرة بين الغنمين: أي المترددة بين قطيعين، لا تدرى أيهما تتبع. (7) راجع ج 14 ص 73. (8) تلك عبارة الاصول، أو صوابها ما في الجصاص: إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة كقولك الخ. راجع ج 2 ص 448. (*)
[ 240 ]
والعقاب، بخلاف ما قالت اليهود: إن يده مقبوضة عن عذابهم. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملاى لا يغيضها سحاء الليل والنهار (1) أرأيتم ما أنفق مذ خلق السموات والارض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الاخرى القبض (2) يرفع ويخفض). السح الصب الكثير. وبغيض ينقص، ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره: " والله يقبض ويبسط " (3) [ البقرة: ]. وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود " بل يداه بسطان " (4) [ المائدة: ] حكاه الاخفش، وقال يقال: يد بسطة، أي منطلقة منبسطة. (ينفق كيف يشاء) أي يرزق كما يريد. ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة، أي قدرته شاملة، فإن شاء وسع وإن شاء قتر. (وليزيدن كثيرا منهم) لام قسم. (ما أنزل إليك من ربك) أي بالذي أنزل إليك. (طغيانا وكفرا) أي إذا نزل شئ من القرآن فكفروا ازداد كفرهم. (وألقينا بينهم) قال مجاهد: أي بين اليهود والنصارى، لانه قال قبل هذا " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " [ المائدة: 51 ]. وقيل: أي ألقينا بين طوائف اليهود، كما قال: " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " (5) [ الحشر: 14 ] فهم متباغضون متفقين، فهم أبغض خلق الله إلى الناس. (كلما أوقدوا نار للحرب) يريد اليهود. و " كلما " ظرف أي كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم. وقيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين، فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي أهاجوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم " أطفأها الله " وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار. قال قتادة: أذلهم الله عزوجل، فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي (1) " الليل والنهار " قال النووي: هو بنصب الليل والنهار ورفعهما، النصب على الظرف، والرفع على الفاعل. قال في هامش مسلم: لكن على تقدير النصب ماذا يكون الفاعل في (لا يغيضها) لم يذكره، ولو كانت الرواية (لا يغيضها سح الليل والنهار) بالاضافة لبان الفاعل كما في رواية زهير بن حرب " لا يغيضها شئ ". (2) الفيض: ضبطوه (بالفاء والياء) ومعناه الاحسان، و (بالقاف والباء) ومعناه الموت. (3) راجع ج 3 ص 237. (4) كذا في البحر وفي الشواذ لابن خالوية: بسطتان. بضم السين. (5) راجع ج 18 ص 35. (*)
[ 241 ]
المجوس، ثم قال عزوجل: (ويسعون في الارض فسادا) أي يسعون في إبطال الاسلام، وذلك من أعظم الفساد، والله أعلم. وقيل: المراد بالنار هنا نار الغضب، أي كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النقوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يضعفوا وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدى نبيه صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66) قوله تعالى: (ولو أن أهل الكتاب) (أن) في موضع رفع، وكذا " ولو أنهم أقاموا التوراة ". (آمنوا) صدقوا. (واتقوا) أي الشرك والمعاصي. (لكفرنا عنهم) اللام جواب (لو). وكفرنا غطينا، وقد تقدم. وإقامة التوراة والانجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما، وقد تقدم هذا المعنى في (البقرة) (1) مستوفى. (وما أنزل إليهم من ربهم) أي القرآن. وقيل: كتب أنبيائهم. (لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) قال ابن عباس وغيره: يعنى المطر والنبات، وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب. وقيل: المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولاكلوا أكلا متواصلا، وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا، ونظير هذه الآية " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " (2) [ الطلاق: 2 ] " وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا " (3) [ الجن: 16 ] " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " (4) [ الاعراف: 96 ] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال: " لئن شكرتم لازيدنكم " (5) [ إبراهيم: 7 ] ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا - وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام اقتصدوا فلم (1) راجع ج 1 ص 437 وما بعدها. (2) راجع ج 18 ص 159. (3) راجع ج 19 ص 16. (4) راجع ج 7 ص 253. (5) راجع ج 9 ص 342. (*)
[ 242 ]
يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام (1) إلا ما يليق بهما. وقد: أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين، والله أعلم. والاقتصاد الاعتدال في العمل، وهو من القصد، والقصد إتيان الشئ، تقول: قصدته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى. (ساء ما يعملون) أي بئس شئ عملوه، كذبوا الرسل، وحرفوا الكتب وأكلوا السحت. قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين (67) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك). قيل: معناه أظهر التبليغ، لانه كان في أول الاسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا، وفي ذلك نزلت: " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " (2) [ الانفال: 64 ] فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين، لان المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عزوجل: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الاسدية [ رضي الله عنها ] (3). وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم، قال ابن عباس: المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته، وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه، وفي صحيح مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك (1) كذا في ج وك وع. (2) راجع ج 8 ص 42. (3) من ع. (*)
[ 243 ]
أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحى فقد كذب، والله تعالى يقول: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه. الثانية - قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) دليل على نبوته، لان الله عزوجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط (1) سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني ؟ فقال: " الله "، فذعرت يد الاعرابي وسقط السيف من يده، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، ذكره المهدوي. وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث ابن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه، فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " (2) [ المائدة: 11 ] مستوفى، وفي " النساء " أيضا في ذكر صلاة الخوف. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا (4) في يده فقال لي من يمنعك مني - قال - قلت الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني - قال - قلت الله قال فشام (5) السيف فها هو ذا جالس " ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني (1) اخترط سيفه: استله. (2) راجع ص 111 من هذا الجزء. وج 5 ص 372. (3) العضاه: شجر عظيم له شوك، وقيل: أعظم الشجر. (4) صلتا: أي مجردا من غمده. وفي ك: صلت. (5) شام السيف. أي غمده ورده في غمده، يقال: شام السيف إذا سله وإذا أغمده، فهو من الاضداد. والمراد هنا أغمده. (*)
[ 244 ]
فأنزل الله هذه الآية) وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: " والله يعصمك من الناس " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عماه (1) إن الله قد عصمني من الجن والانس فلا احتاج إلى من يحرسني ". قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع، ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: " ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة " قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة (2) سلاح، فقال: " من هذا " ؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما جاء بك " ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح، فقال: " من هذا " ؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه (3) ونزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة آدم وقال: " انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله ". وقرأ أهل المدينة: " رسالاته " على الجمع. وأبو عمرو وأهل الكوفة: " رسالته " على التوحيد، قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والافراد يدل على الكثرة، فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (4) [ إبراهيم: 34 ]. (إن الله لا يهدى القوم الكافرين) أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره " ما على الرسول إلا البلاغ " (5) [ المائدة: 99 ] والله أعلم. (1) من ك وع وج. (2) خشخشة سلاح: أي صوت سلاح صدم بعضه بعضا. (3) الغطيط: هو صوت النائم المرتفع. (4) راجع ج 9 ص 367. (5) راجع ص 327 من هذا الجزء. (*)
[ 245 ]
قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تقر أن التوراة حق من عند الله ؟ قال: [ بلى ]. فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها، فنزلت الآية، أي لستم على شئ من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الايمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما، وقال أبو علي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما. الثانية - قوله تعالى: (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم. والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه. وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى: " كلا إن الانسان ليطغى " (1) [ العلق: 6 ] أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق. الثالثة - قوله تعالى: (فلا تأس على القوم الكافرين) أي لا تحزن عليهم. أسي يأسى أسى إذا حزن. قال: * وانحلبت عيناه من فرط الاسى * وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن، لانه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. وقد مضى هذا المعنى في آخر (آل عمران) (2) مستوفى. (1) راجع ج 20 ص 122. (2) راجع ج 4 ص 284 وما بعدها. (*)
[ 246 ]
قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمنا بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69) تقدم الكلام فلا معنى لاعادته. " والذين هادوا " معطوف، وكذا " والصابئون " معطوف على المضمر في " هادوا " في قول الكسائي والاخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الاخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين، إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة الاخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في " والصابئون " لان " إن " ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر، و " الذين " هنا لا يتبين فيه الاعراب فجرى على جهة واحدة الامران (1)، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام. قال الزجاج: وسبيل ما يتبين فيه الاعراب وما لا يتبين فيه الاعراب واحد. وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد (2) سيبويه وهو نظيره: وإلا فاعلموا أنا وأنتم * بغاة ما بقينا في شقاق وقال ضابئ البرجمي: فمن يك أمسى بالمدينة رحله * فإني وقيار (3) بها لغريب وقيل: " إن " بمعنى " نعم " فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات: (1) في ع: فجرى على جهة واحدة، ألا ترى أن جاز رفع الصابئين الخ. (2) البيت لبشر بن أبي حازم. والبغاة: جمع باغ وهو الساعي بالفساد. والشقاق: الخلاف. (3) قيار: قيل اسم جمل ضابئ، وقيل: اسم فرسه. يقول: من كان بالمدينة بيته ومنزله، فلست منها ولا لي بها منزل. (*)
[ 247 ]
بكر العواذل في الصبا * ح يلمنني وألومهنه ويقلن شيب قد علا * ك وقد كبرت فقلت إنه قال الاخفش: (إنه) بمعنى (نعم)، وهذه (الهاء) أدخلت للسكت. قوله تعالى: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون (70) قوله تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا). قد تقدم في (البقرة) (1) معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به. والمعنى في هذه [ الآية ] (2) لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود. وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله: " أوفوا بالعقود " [ المائدة: 1 ]. (كلما جاءهم) أي اليهود (رسول بما لا تهوى أنفسهم) لا يوافق هواهم (فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) أي كذبوا فريقا وقتلوا فريقا، فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الانبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الانبياء. وإنما قال: " يقتلون " لمراعاة رأس الآية. وقيل: أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر. وقيل: فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و " يقتلون " نعت لفريق. والله أعلم. قوله تعالى: وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون (71) قوله تعالى: (وحسبوا ألا تكون فتنة) المعنى، ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عزوجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الامهال. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " تكون " بالرفع، ونصب (1) راجع ج 1 ص 246 وما بعدها. (2) من ج وع وك وه‍. (*)
[ 248 ]
الباقون، فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن. و " أن " مخففة من الثقيلة ودخول " لا " عوض من التخفيف، وحذف الضمير لانهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه، ففصلوا بينهما (بلا). ومن نصب جعل " أن " ناصبة للفعل، وبقي حسب على بابه من الشك وغيره. قال سيبويه: حسبت ألا يقول ذلك، أي حسبت أنه قال ذلك. وإن شئت نصبت، قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسب وأخواتها أجود كما قال: (1) ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وألا يشهد اللهو أمثالي وإنما صار الرفع أجود، لان حسب وأخواتها بمنزلة العلم لانه (2) شئ ثابت. قوله تعالى: (فعموا) أي عن الهدى. (وصموا) أي عن سماع الحق، لانهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. (ثم تاب الله عليهم) في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان " تاب الله عليهم " أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة. (ثم عموا وصموا كثير منهم) أي عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، فارتفع " كثير " على البدل من الواو. وقال الاخفش سعيد: كما تقول رأيت قومك ثلثيهم. وإن شئت كان على إضمار مبتدإ أي العمي والصم كثير منهم. وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير. وجواب رابع أن يكون على لغة من قال: (أكلوني البراغيث) وعليه قول الشاعر: ولكن ديافي أبوه وأمه * بحوران يعصرن السليط أقاربه ومن هذا المعنى قوله: " وأسروا النجوى (4) الذين ظلموا " [ الانبياء: 3 ]. ويجوز في غير القرآن (كثيرا) بالنصب يكون نعتا لمصدر محذوف. (1) البيت لامرئ القيس ويروى في ديوانه (ألا يحسن اللهو). وبسباسة امرأة من بني أسد. (2) في ج وع: في أنه. (3) البيت للفرزدق يهجو عمرو بن عفراء. ودياف قرية بالشام، وقيل: بالجزيرة، وأهلها نبط الشام. والسليط: الزيت. (4) راجع ج 11 ص 268. (*)
[ 249 ]
قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأوه النار وما للظالمين من أنصار (72) قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم) هذا قول اليعقوبية فرد الله عليهم ذلك بحجة قاطعة مما يقرون به، فقال: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) أي إذا كان المسيح يقول: يا رب ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها ؟ هذا محال. (إنه من يشرك بالله) قيل: وهو من قول عيسى. وقيل: ابتداء كلام من الله تعالى. والاشراك أن يعتقد معه موجدا. وقد مضى في (آل عمران) (1) القول في اشتقاق المسيح فلا معنى لاعادته. (وما للظالمين من أنصار). قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب إليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه، والله غفور رحيم (74) قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة). أي أحد ثلاثة. ولا يجوز فيه التنوين، عن الزجاج وغيره. وفيه للعرب مذهب آخر، يقولون: رابع ثلاثة، فعلى هذا يجوز الجر والنصب، لان معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه منهم. وكذلك إذا قلت: ثالث اثنين، (2) جاز التنوين. وهذا قول فرق النصارى من الملكية (3) والنسطورية واليعقوبية، لانهم يقولون أب وابن وروح القدس إله واحد، ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم. وما كان هكذا صح أن (1) راجع ج 4 ص 88 وما بعدها. (2) في ع: ثالث اثنين بالتنوين. (3) كذا في الاصول وتقدم أنهم الملكائية. (*)
[ 250 ]
يحكى بالعبارة اللازمة، وذلك أنهم يقولون: إن الابن إله والاب إله وروح القدس إله. وقد تقدم القول في هذا في (النساء) (1) فأكفرهم الله بقولهم هذا، [ وقال (1) ]: (وما من إله إلا إله واحد) أي أن الاله لا يتعدد وهم يلزمهم القول بثلاثة آلهة كما تقدم، وإن لم يصرحوا بذلك لفظا، وقد مضى في (البقرة) (3) معنى الواحد. و (من) زائدة. ويجوز في غير القرآن (إلها واحدا) على الاستثناء. وأجاز الكسائي الخفض على البدل. قوله تعالى: (وإن لم ينتهوا) أي يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. (أفلا يتوبون) تقرير وتوبيخ، أي فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم، والمراد الكفرة منهم. وإنما خص الكفرة بالذكر لانهم القائلون بذلك دون المؤمنين. قوله تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون (75) قوله تعالى: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) ابتداء وخبر، أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل، فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها، فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم، ثم بالغ في الحجة فقال: " وأمه صديقة " ابتداء وخبر " كانا يأكلان الطعام " أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين، ولم يدفع هذا أحد منهم، فمتى يصلح المربوب لان يكون ربا ؟ ! وقولهم: كان يأكل (4) بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال: اللاهوت مخالط لكل محدث. وقال بعض المفسرين في قوله: " كانا يأكلان الطعام " إنه كناية عن الغائط والبول. وفى هذا دلالة (1) راجع ص 23 وما بعدها من هذا الجزء. (2) من ج، ك، ع، ه‍. (3) راجع ج 2 ص 190. (4) في ع: يأكل الطعام. الخ. (*)
[ 251 ]
على أنهما بشران. وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى: " وأمه صديقة ". قلت: وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام، وقد مضى في " آل عمران " (1) ما يدل على هذا. والله أعلم. وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به، عن الحسن وغيره. والله أعلم. قوله تعالى: (انظر كيف نبين لهم الآيات) أي الدلالات. (ثم انظر أنى يؤفكون) أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان، يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه. وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة. قوله تعالى: قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76) قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) زيادة في البيان وإقامة حجة [ عليهم ] (2)، أي أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، لا يملك لاحد ضرا ولا نفعا وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الاحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها ؟. (والله هو السميع العليم) أي لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع. ومن كانت هذه صفته فهو الاله على الحقيقة. والله أعلم. قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77) (1) راجع ج 4 ص 82 وما بعدها (2) من ع وك. (*)
[ 252 ]
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى، غلو اليهود قولهم في عيسى، ليس ولد رشدة (1)، وغلو النصارى قولهم: إنه إله. والغلو مجاوزة الحد، وقد تقدم في (النساء) (2) بيانه. قوله تعالى: (ولا تتبعوا أهواء قوم) الاهواء جمع هوى وقد تقدم في (البقرة) (3). وسمي الهوى هوى لانه يهوى بصاحبه في النار. " قد ضلوا من قبل " قال مجاهد والحسن: يعني اليهود. (وأضلوا كثيرا) أي أضلوا كثيرا من الناس. (وضلوا عن سواء السبيل) أي عن قصد طريق محمد صلى الله عليه وسلم. وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد، والمراد الاسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى. قوله تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم) فيه مسألة واحدة: وهي جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الانبياء. وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم. ومعنى " على لسان داود وعيسى بن مريم " أي لعنوا في الزبور والانجيل، فإن الزبور لسان داود، والانجيل لسان عيسى أي لعنهم الله في الكتابين. وقد تقدم اشتقاقهما. قال مجاهد وقتادة وغيرهما. لعنهم مسخهم قردة وخنازير. قال أبو مالك: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة. والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. وقال ابن عباس: الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة بعد نزولها. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: لعن الاسلاف والاخلاف ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم على لسان داود وعيسى، لانهما أعلما أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث فلعنا من يكفر به. (1) ولد رشدة (بكسر الراء وقد تفتح): أي ولد نكاح. (2) راجع ص 21 من هذا الجزء. (3) راجع ج 2 ص 24 وما بعدها. (*)
[ 253 ]
قوله تعالى: (ذلك بما عصوا). ذلك في موضع رفع بالابتداء أي ذلك اللعن بما عصوا، أي بعصيانهم. ويجوز أن يكون على إضمار مبتدإ، أي الامر ذلك. ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا ذلك بهم لعصيانهم واعتدائهم. قوله تعالى: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) قوله تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه). فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " كانوا لا يتناهون " أي لا ينهى بعضهم بعضا: " لبئس ما كانوا يفعلون " ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم. خرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " إلى قوله: " فاسقون " ثم قال: [ كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم ] وخرجه الترمذي أيضا. ومعنى لتأطرنه لتردنه. الثانية: قال ابن عطية: والاجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا. وقال بعض الاصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضا
[ 254 ]
واستدلوا بهذه الآية، قالوا: لان قوله: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله في الانكار على اليهود: " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا " " وما " من قوله: " ما كانوا " يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها، التقدير لبئس شيئا كانوا يفعلونه. أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي. قوله تعالى: ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفورا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) قوله تعالى: (ترى كثيرا منهم) أي من اليهود، قيل: كعب بن الاشرف وأصحابه. وقال مجاهد: يعني المنافقين (يتولون الذين كفروا) أي المشركين، وليسوا على دينهم. (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم) أي سولت وزينت. وقيل: المعنى لبئس ما قدموا لانفسهم ومعادهم. (أن سخط الله عليهم) " أن " في موضع رفع على إضمار مبتدأ كقولك: بئس رجلا زيد. وقيل: بدل من " ما " في [ قوله ] (1) " لبئس " على أن تكون " ما " نكرة فتكون رفعا أيضا. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى لان سخط الله عليهم: " وفي العذاب هم خالدون " ابتداء وخبر. قوله تعالى: ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما إتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81) قوله تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله. (ولكن كثيرا منهم فاسقون) أي خارجون عن الايمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم. (1) من ع. (*)
[ 255 ]
قوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) قوله تعالى " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود " اللام لام قسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل. " عداوة " نصب على البيان وكذا " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الاولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم، وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب. فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعه بهدايا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم. ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة (مريم) فقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " وقرأ " إلى الشاهدين " رواه أبو داود. قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، أن الهجرة الاولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة، وساق الحديث بطوله. وذكر البيهقي عن ابن إسحق قال: قدم على النبي
[ 256 ]
صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد (1) فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عزوجل، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تظهر (2) مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا أنفسنا خيرا. فيقال: إن النفر النصارى من أهل نجران، ويقال: إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " (3) [ القصص: 52 ] إلى قوله: " لا نبتغي الجاهلين " [ القصص: 55 ] وقيل: إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام [ وهم ] (4) بحيراء (5) الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن (6)، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " يس " إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع. وقال سعيد ابن جبير: وأنزل الله فيهم أيضا " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " [ القصص: 52 ] إلى قوله " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " [ القصص: 54 ] إلى آخر الآية. وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية وستون من (1) في ج، ك، ه‍، ع: في المجلس. (2) في ع. تطل. (3) راجع ج 13 ص 296. (4) عن (البحر) (وروح المعاني). (5) بحيراء الراهب: كأمير ممدودا وفي رواية بالالف المقصورة. (6) الاصول محرفة في ذكر الاسماء وصوبت عن (البحر) و (روح المعاني). في ج، ك، ع: تمام: نشيم بدل أبرهة وقثم. (*)
[ 257 ]
أهل الشام. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم. قوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا) واحد " القسيسين " قس وقسيس، قاله قطرب. والقسيس العالم، وأصله من قس إذا تتبع الشئ فطلبه، قال (1) الراجز: * يصبحن عن قس الاذى غوافلا * وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها. والقس النميمة. والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد. ويقال في جمع قسيس مكسرا: قساوسة (2) أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة. والاصل قساسسة فأبدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها. ولفظ القسيس إما أن يكون عربيا، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب كما تقدم. وقال أبو بكر الانباري: حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد، قال: حدثت عن معاوية بن هشام عن نصير الطائي عن الصلت عن حامية بن رباب (3) قال: قلت لسلمان " بأن منهم قسيسين ورهبانا " فقال: دع القسيسين في الصوامع والمحراب أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " بأن منهم صديقين ورهبانا ". وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الانجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وكانوا أربعة نفر الذين غيروه، لوقاس ومرقوس ويحنس ومقبوس (4)، وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة، فمن كان على دينه وهديه فهو قسيس. قوله تعالى: (ورهبانا) الرهبان جمع راهب كركبان وراكب. قال النابغة: (1) الرجز لرؤية بن العجاج يصف نساء عفيفات لا يتتبعن النمائم. (2) كذا في الاصول وهو موافق لما في (القاموس) وبها يظهر قوله بعد: (أبدل من إحدى السينين واو)، وفي (اللسان): قساقسة على مثال مهالبة. ويؤخذ من شرح (القاموس) أن فيه الجمعين. (3) كذا في الاصول، وفي ابن كثير: جاثمة بن رئاب. (4) كذا في كل الاصول: ولعل الصواب: متيوس. وهو متى. لان أنا جيلهم المعتمدة أربعة لكل من لوقا ومرقص ويوحنا ومتى إنجيل. (*)
[ 258 ]
لو أنها عرضت لاشمط راهب * عبد الاله صرورة (1) متعبد لرنا لرؤيتها وحسن حديثها * ولخاله رشدا وإن لم يرشد والفعل منه رهب الله يرهبه أي خافه رهبا ورهبا ورهبة. والرهبانية والترهب التعبد في صومعة. قال أبو عبيد: وقد يكون (رهبان) للواحد والجمع، قال الفراء: ويجمع (رهبان) إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين كقربان وقرابين، قال جرير في الجمع: رهبان مدين لو رأوك تنزلوا * والعصم من شعف العقول الفادر الفادر المسن من الوعول. ويقال: العظيم، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة، قال الجوهري. وقال آخر في التوحيد: لو أبصرت رهبان دير في الجبل * لانحدر الرهبان يسعى ويصل من الصلاة. والرهابة على وزن السحابة عظم في الصدر مشرف على البطن مثل اللسان. وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال: (وأنهم لا يستكبرون) أي عن الانقياد إلى الحق قوله تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " أي بالدمع وهو في موضع الحال، وكذا " يقولون ". وقال امرؤ القيس: ففاضت دموع العين مني صبابة * على النحر حتى بل دمعي محملي (2) وخبر مستفيض إذا كثر وانتشر كفيض الماء عن الكثرة. وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموتون، كما قال تعالى: " الله نزل (1) الصرورة: الذي لم يأت النساء كأنه أصر على تركهن وفي الحديث " لا صرورة في الاسلام " وهو التبتل. (2) المحمل (كمرجل) علاقة السيف. (*)
[ 259 ]
أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " (1) [ الزمر: 23 ] وقال: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " وفي (الانفال) (2) يأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وبين الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وبين أن أقربهم مودة النصارى. والله أعلم. قوله تعالى: " فاكتبنا مع الشاهدين " أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق من قوله عزوجل: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " (3) [ البقرة: 143 ] عن ابن عباس وابن جريج. وقال الحسن: الذين يشهدون بالايمان. وقال أبو علي: الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك. ومعنى " فاكتبنا " اجعلنا، فيكون بمنزلة ما قد كتب ودون. قوله تعالى: وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق) بين استبصارهم في الدين، أي يقولون وما لنا لا نؤمن، أي وما لنا تاركين الايمان. ف‍ " - نؤمن " في موضع نصب على الحال. (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: " أن الارض يرثها عبادي الصالحون " (4) [ الانبياء: 105 ] يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الكلام إضمار أي نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة. وقيل: " مع " بمعنى (في) كما تذكر (في) بمعنى (مع) تقول: كنت فيمن لقي الامير، أي مع من لقي الامير. والطمع يكون مخففا وغير مخفف، يقال: طمع فيه طمعا وطماعة وطماعية مخفف فهو طمع. قوله تعالى: فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86) (1) راجع ج 15 ص 248. (2) راجع ج 7 ص 365. (3) راجع ج 2 ص 153. (4) راجع ج 11 ص 349. (*)
[ 260 ]
قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا جنات) دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم، فأجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم - وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة. ثم قال: (والذين كفروا) من اليهود والنصارى ومن المشركين (وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) والجحيم النار الشديدة الاتقاد. يقال: جحم فلان النار إذا شدد إيقادها. ويقال أيضا لعين الاسد: جحمة، لشدة اتقادها. ويقال ذلك للحرب قال الشاعر: والحرب لا يبقى لجا * حمها التخيل والمراح (1) إلا الفتى الصبار في * النجدات والفرس الوقاح (2) قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ولا تعتدوا). فيه خمس مسائل: الاولى - أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود و عبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الاسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك (3) ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الارض، ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والاخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول وهي: (1) في ع: لا تبقى. المزاح. (2) وقح الحافر صلب. (3) الودك: الدسم. (*)
[ 261 ]
الثانية - خرج مسلم عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: " وما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وخرجه البخاري عن أنس أيضا ولفظه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها - فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. فقال أحدهم: [ أما ] (1) أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم (1) الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أنتم الذين (2) قلتم كذا وكذا أما والله إني لاخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ". وخرجا عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج الامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة، قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه، قال: فمر رجل بغار فيه شئ من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا، قال: لو أني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا، قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة (3) أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة ". (1) من ك وه‍ وع. (2) في ج وع وك: أنتم القائلون. (3) الغدوة المرة من الغدو، وهو سير أول النهار، نقيض الرواح. (*)
[ 262 ]
الثالثة - قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والاحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه، قال الطبري: لا يجوز لاحد من المسلمين تحريم شئ مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شئ مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة لامته، واتبعه على منهاجه الائمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. قال الطبري: فإن ظن ظان أن الخير (1) في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ، وذلك أن الاولى بالانسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شئ أضر للجسم من المطاعم الرديئة لانها مفسدة لعقله ومضعفة لادواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته. وقد جاء رجل إلى الحسن البصري، فقال: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال: ولم ؟ قال: يقول لا يؤدي شكره، فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد ؟ فقال: نعم. فقال: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج. قال ابن العربي قال علماؤنا: هذا إذا كان الدين قواما، ولم يكن المال حراما، فأما إذا فسد الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل، وترك اللذات أولى، وإذا وجد الحلال فحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعلى. قال المهلب: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الامم يوم القيامة، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر النسل. (1) في ج وك: الفضل. (*)
[ 263 ]
الرابعة: قوله تعالى: " ولا تعتدوا " قيل: المعنى لا تعتدوا فتحلوا (1) ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين، أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا فتحلوا حراما، قاله الحسن البصري. وقيل: معناه التأكيد لقوله: " تحرموا "، قاله السدي وعكرمة وغيرهما، أي لا تحرموا ما أحل الله وشرع. والاول أولى. والله أعلم. الخامسة - من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحل الله فلا شئ عليه، ولا كفارة في شئ من ذلك عند مالك، إلا أنه إن نوى بتحريم الامة عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد [ بعد عتقها ] (2). وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنه تطلق عليه ثلاثا، وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية، وحرام من كنايات الطلاق. وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة (التحريم) (3) إن شاء الله تعالى. وقال أبو حنيفة: إن من حرم شيئا صار محرما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة، وهذا بعيد والآية ترد عليه. وقال سعيد بن جبير. لغو اليمين تحريم الحلال. وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي. قوله تعالى: وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88) قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) فيه مسألة واحدة: الاكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالاكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك. وخص الاكل بالذكر، لانه أعظم المقصود وأخص الانتفاعات بالانسان. وسيأتي بيان حكم الاكل والشرب واللباس في " الاعراف " (4) [ إن شاء الله تعالى ] (5). وأما شهوة الاشياء الملذة، ومنازعة النفس إلى طلب الانواع الشهية، فمذاهب الناس في تمكين النفس منها مختلفة، فمنهم من يرى صرف النفس عنها وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى ليذل له قيادها، ويهون عليه (1) في ل: وتقتحموا. (2) من ج وك وع. (3) راجع ج 18 ص 177. (4) راجع ج 7 ص 189. (5) من ج وك وع. (*)
[ 264 ]
عنادها، فإنه إذا أعطاها المراد يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها. حكي أن أبا حازم كان يمر على الفاكهة فيشتهيها فيقول: موعدك الجنة. وقال آخرون: تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها ونشاطها بإدراك إرادتها. وقال آخرون: بل التوسط في ذلك أولى، لان في إعطائها ذلك مرة ومنعها أخرى جمع بين الامرين، وذلك النصف من غير شين. وتقدم معنى الاعتداء والرزق في " البقرة " (1) والحمد لله. قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم أياته لعلكم تشكرون (89) فيه سبع وأربعون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) تقدم معنى اللغو في " البقرة " (2) ومعنى " في أيمانكم " أي من أيمانكم، والايمان جمع يمين. وقيل: ويمين فعيل من اليمن وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك، لانها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أيمان وأيمن. قال زهير: * فتجمع أيمن منا ومنكم (3) * الثانية - واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس: سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حلفوا على ذلك فلما نزلت " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قالوا: كيف نصنع بأيماننا ؟ فنزلت هذه الآية. (1) راجع ج 1 ص 177 في (الرزق) وص 432 (في الاعتداء) من الجزء نفسه. (2) راجع ج 3 ص 99 وما بعدها. (3) عجز البيت: بمقسمة تمور بها الدماء. (*)
[ 265 ]
والمعنى على هذا القول، إذا أتيتم ؟ ؟ باليمين ثم ألغيتموها - أي أسقطتم حكمها بالتكفير وكفرتم - فلا يؤاخذكم الله بذلك، وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه، أي فلم تكفروا، فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا. وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغوا في أنه لا يحرم، فقال: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " أي بتحريم الحلال. وروي أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل. فقال: أعشيتم ضيفي ؟ فقالوا: انتظرناك، فقال: لا والله لا آكله الليلة، فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل، وقال أيتامه: ونحن لا نأكل، فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: " أطعت الرحمن وعصيت الشيطان " فنزلت الآية. الثالثة - الايمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال: الايمان أربعة، يمينان يكفران ويمينان لا يكفران، فاليمينان اللذان يكفران فالرجل الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول والله لافعلن كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوري في (جامعه) وذكره المروزي عنه أيضا، قال سفيان: الايمان أربعة، يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل، أو يقول والله لافعلن ثم لا يفعل، ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل، قال المروزي: أما اليمينان الاوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان، وأما اليمينان الاخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما، فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه
[ 266 ]
فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد، وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفارة. قال المروزي: وليس قول الشافعي في هذا بالقوي. قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل هذا وكذا وقد فعل متعمدا للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء، مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد ابن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد. وكان الشافعي يقول يكفر، قال: وقد روي عن بعض التابعين مثل [ قول ] (1) الشافعي. قال المروزي: أميل إلى قول مالك وأحمد. قال: فأما يمين اللغو الذي اتفق عامة العلماء على أنها لغو فهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير منعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة. الرابعة - قوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) مخفف القاف من العقد، والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع، قال الشاعر: (2) قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل، أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم. فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي. وقرئ " عاقدتم " بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الاكثر، وقد يكون الثاني من حلف لاجله في كلام وقع معه، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الايمان، لان عاقد قريب من معنى عاهد فعدي بحرف الجر، لما كان في معنى عاهد، وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، قال الله تعالى: " ومن أوفى بما عاهد عليه الله " (3) [ الفتح: 10 ] وهذا كما عديت " ناديتم إلى الصلاة " بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيدا " وناديناه من جانب الطور الايمن " (4) [ مريم: 52 ] لكن لما كانت بمعنى دعوت عدي بإلى، قال الله تعالى: " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله " (5) [ فصلت: 33 ] ثم اتسع في قوله تعالى: " عاقدتم عليه الايمان " (6). فحذف حرف الجر، فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه، (1) في ج، ك، ع. (2) البيت للحطيئة يمدح قوما عقدوا لجارهم عهدا فوفوا به ولم يخفروه. وقد تقدم شرحه بهامش ص 32 من هذا الجزء. (3) راجع ج 16 ص 277. (4) راجع ج 11 ص 113. (5) راجع ج 15 ص 359. (6) كذا في الاصول إلا ز، ففيه: في قوله عاقدتم... الخ. (*)
[ 267 ]
ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر (1) " [ الحجر: 94 ]. أو يكون فاعل بمعنى فعل كما قال تعالى: " قاتلهم الله " (2) [ التوبة: 30 ] أي قتلهم. وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى (فاعلت) كقولهم: سافرت وظاهرت. وقرئ " عقدتم " بتشديد القاف. قال مجاهد: معناه تعمدتم أي قصدتم. وروي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر. وهذا يرده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ] فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر. قال أبو عبيد: التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا. وهذا قول خلاف الاجماع. روى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة. قيل: لنافع ما معنى وكد اليمين ؟ قال: أن يحلف على الشئ مرارا. الخامسة - اختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا ؟ فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها. وقال الشافعي: هي يمين منعقدة، لانها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة. والصحيح الاول. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الاوزاعي ومن وافقه من أهل الشام، وهو قول الثوري وأهل العراق، وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور وأبو عبيد، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة، قال أبو بكر: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وقوله: " فليكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير " يدل على أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله. وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفر وإن أثم وعمد الحلف بالله كاذبا، هذا قول الشافعي. قال أبو بكر: ولا نعلم خبرا يدل على هذا القول، (1) راجع ج 10 ص 61. (2) راجع ج 8 ص 116. (*)
[ 268 ]
والكتاب والسنة دالان على القول الاول، قال الله تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " (1) [ البقرة: 224 ] قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره ألا يعتل بالله وليكفر عن يمينه. والاخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين. قال ابن العربي: الآية وردت بقسمين: لغو ومنعقدة، وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تعلق عليه كفارة. قلت: خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال: " الاشراك بالله " قال: ثم ماذا ؟ قال: " عقوق الوالدين " قال: ثم ماذا ؟ قال: [ اليمين الغموس ] قلت: وما اليمين الغموس ؟ قال: [ التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب ]. وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ] فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يارسول الله ؟ قال: [ وإن كان قضيبا من أراك ] ومن حديث عبد الله بن مسعود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ من حلف على يمين صبر (2) يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان ] فنزلت " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " (3) [ آل عمران: 77 ] إلى آخر الآية ولم يذكر كفارة، فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه، ولقى الله وهو عنه راض، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه، وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله تعالى، والتهاون بها وتعظيم الدنيا ؟ فأهان ما عظمه الله، وعظم ما حقره الله وحسبك. ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغموس غموسا لانها تغمس صاحبها في النار. السادسة - الحالف بألا يفعل على بر ما لم يفعل، فإن فعل حنث ولزمته الكفارة لوجود المخالفة منه، وكذلك إذا قال إن فعلت. وإذا حلف بأن ليفعلن فإنه في الحال على حنث لوجود المخالفة، فإن فعل بر، وكذلك إن قال إن لم أفعل. (1) راجع ج 3 ص 96. (2) اليمين الصبر التي ألزم بها وأكره عليها. والصبر الاكراه، يقال: صبر الحاكم فلانا على يمين صبرا أي أكرهه. (3) راجع ج 4 ص 119. (*)
[ 269 ]
السابعة - قول الحالف: لافعلن، وإن لم أفعل، بمنزلة الامر وقوله: لا أفعل، وإن فعلت، بمنزلة النهي. ففي الاول لا يبر حتى يفعل جميع المحلوف عليه: مثاله لآكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبر حتى يأكل جميعه: لان كل جزء منه محلوف عليه. فإن قال: والله لآكلن - مطلقا - فإنه يبر بأقل جزء مما يقع عليه الاسم، لادخال ماهية الاكل في الوجود. وأما في النهي فإنه يحنث بأقل ما ينطلق عليه الاسم، لان مقتضاه ألا يدخل فرد من أفراد المنهى عنه في الوجود، فإن حلف ألا يدخل دارا فأدخل إحدى رجليه حنث، والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غلظ جهة التحريم بأول الاسم في قوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " (1) [ النساء: 22 ]، فمن عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه، ولم يكتف في جهة التحليل بأول الاسم فقال: [ لا حتى تذوقي عسيلته ]. الثامنة - المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرحمن والرحيم والسميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته، لانها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات. روى الترمذي والنسائي وغيرهما أن جبريل عليه السلام لما نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، وكذلك قال في النار: وعزتك لا يسمع بها أحدا فيدخلها. وخرجا أيضا وغيرهما عن ابن عمر قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم [ لا ومقلب القلوب ] وفى رواية [ لا ومصرف القلوب ] وأجمع أهل العلم على أن من حلف فقال: والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة. قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وإسحق وأصحاب الرأي يقولون: من حلف باسم من أسماء الله وحنث فعليه الكفارة، وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافا. قلت: قد نقل (في باب ذكر الحلف بالقرآن)، وقال يعقوب: من حلف بالرحمن فحنث فلا كفارة عليه. قلت: والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه. (1) راجع ج 5 ص 103. (*)
[ 270 ]
التاسعة - واختلفوا في وحق الله وعظمة الله وقدرة الله وعلم الله ولعمر الله وايم الله، فقال مالك: كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي: في وحق الله وجلال الله وعظمة الله وقدرة الله، يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين، لانه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية. وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين. وقال أصحاب الرأي إذا قال: وعظمة الله وعزة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله فحنث فعليه الكفارة. وقال الحسن في وحق الله: ليست بيمين ولا كفارة فيها، وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرازي. وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين. وقال بعض أصحابه: هي يمين. وقال الطحاوي: ليست بيمين، وكذا إذا قال: وعلم الله لم يكن يمينا في قول أبي حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال: يكون يمينا. قال ابن العربي: والذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحدث فلا يكون يمينا. وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدور، فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم. قال ابن المنذر: وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ وايم الله أن كان لخليقا للامارة ] في قصة زيد وابنه أسامة. وكان ابن عباس يقول: وايم الله، وكذلك قال ابن عمر. وقال إسحق: إذا أراد بآيم الله يمينا كانت يمينا بالارادة وعقد القلب. العاشرة - واختلفوا في الحلف بالقرآن، فقال ابن مسعود: عليه بكل آية يمين، وبه قال الحسن البصري وابن المبارك. وقال أحمد: ما أعلم شيئا يدفعه. وقال أبو عبيد: يكون يمينا واحدة. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه. وكان قتادة يحلف بالمصحف. وقال أحمد وإسحق لا نكره ذلك. الحادية عشرة - لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه، لانه حلف بما لا يتم الايمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله. وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله
[ 271 ]
عليه وسلم: [ ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] وهذا حصر في عدم الحلف بكل شئ سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا. ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالانداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون ] ثم ينتقض عليه بمن قال: وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه، وقد حلف بما لا يتم الايمان إلا به. الثانية عشرة - روى الائمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق ]. وخرج النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: كنا نذكر بعض الامر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت: وفي رواية قلت هجرا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: [ قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد ]. قال العلماء: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة، وتذكيرا من الغفلة، وإتماما للنعمة. وخص اللات بالذكر لانها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها، وكذا من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات، لانهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل. الثالثة عشرة - قال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو برئ من الاسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله: إنها يمين تلزم فيها الكفارة، ولا تلزم فيما إذا قال: واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الايمان. ومتمسكه ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت: هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها
[ 272 ]
في سبيل الله، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت ؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما. وخرج أيضا عنه قال: قالت مولاتي لافرقن بينك وبين امرأتك، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك، قال: فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت: إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي، فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها: إن هذا لا يحل لك، قال: فرجعت إليها، قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال: ها هنا هاروت وماروت، فقالت: إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة. قال: فمم تأكلين ؟ قالت: وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية، فقال: إن تهودت قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت، قالت: فما تأمرني ؟ قال: تكفري عن يمينك، وتجمعين بين فتاك وفتاتك. وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال: أقسم بالله أنها يمين. واختلفوا إذا قال أقسم أو أشهد ليكون كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانا تكفر. وقال أبو حنيفة والاوزاعي والحسن والنخعي: هي أيمان في الموضعين. وقال الشافعي: لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى، هذه رواية المزني عنه. وروى عنه الربيع مثل قول مالك. الرابعة عشرة - إذا قال: أقسمت عليك لتفعلن، فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين، وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفا. الخامشة عشرة - من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته لا شئ عليه، لانها أيمان غير جائزة، وحلف بغير الله تعالى. السادسة عشرة - إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء. وقال ابن الماجشون: الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين. قال ابن القاسم: هي حل لليمين، وقال ابن العربي: وهو مذهب فقهاء الامصار وهو الصحيح، وشرطه أن يكون متصلا منطوقا
[ 273 ]
به لفظا، لما رواه النسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث ] فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه. وقال محمد بن المواز: يكون الاستثناء مقترنا باليمين اعتقادا ولو بآخر حرف، قال: فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك، لان اليمين فرغت عارية من الاستثناء، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي، وهذا يرده الحديث [ من حلف فاستثنى ] والفاء، للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم. وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل. وقال ابن خويزمنداد: واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه، فقال بعض أصحابنا: يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له. وقال بعضهم: لا يصح حتى يسمع المحلوف له. وقال بعضهم: يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له. قال ابن خويزمنداد: وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه، فلان الايمان تعتبر بالنيات، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه، فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره، وإنما قلنا لا يصح بحال فلان ذلك حق للمحلوف له، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه، وجب ألا يكون له فيها حكم. وقال ابن عباس: يدرك الاستثناء اليمين بعد سنة، وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " (1) [ الفرقان: 68 ] الآية، فلما كان بعد عام نزل " إلا من تاب " [ مريم: 60 ]. وقال مجاهد: من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه. وقال سعيد بن جبير: إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه. وقال طاوس: له أن يستثني ما دام في مجلسه. وقال قتادة: إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه. وقال أحمد بن حنبل وإسحق: يستثني ما دام في ذلك الامر. وقال عطاء: له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة. السابعة عشرة - قال ابن العربي: أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها، لان الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وفي لوحه، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله (1) راجع ج 13 ص 75. (*)
[ 274 ]
ذلك فيها، أما أنه يتركب عليها فرع حسن، وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار، وأنت طالق إن دخلت الدار، واستثنى في يمينه الاول إن شاء الله في قلبه، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد، ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف [ له ] (1)، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه، وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة (2)، فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا. قلت: وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الاولى وأخفى الثانية، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابا وأخفى الاستثناء. والله أعلم. قال ابن العربي: وكان أبو الفضل المراغي (3) يقرأ بمدينة السلام (4)، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه، فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل، فقرأ فيها ما لو أن واحدا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم، فحمد الله ورحل على دابة قماشه (5) وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان، وتقدمه الكري (6) بالدابة وأقام هو على فامي (7) يبتاع منه سفرته (8)، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر: أما سمعت العالم يقول - يعني الواعظ - أن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظللت فيه متفكرا، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لايوب: " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " (9) [ ص: 44 ] وما الذي يمنعه من أن يقول: قل إن شاء الله ! فلما سمعه يقول ذلك قال: بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة ؟ لا أفعله أبدا، واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات. (1) الزيادة عن ابن العربي. (2) في ع: النية فإن حضرته نية. الخ. (3) نسبة إلى المراغة، وهي بلدة مشهورة من بلاد أذربيجان. (4) مدينة السلام بغداد وقيل: سميت بذلك لان دجلة يقال لها وادى السلام وقيل: سماها المنصور بذلك تفاؤلا بالسلامة. وتسمى أيضا بدار السلام على التشبيه بالجنة. (معجم البلدان). (5) القماشن: متاع البيت. (6) الكرى: المستأجر. (7) الفامي هاهنا الخباز. (8) السفرة: طعام يتخذه المسافر. (9) راجع ج 15 ص 212. (*)
[ 275 ]
الثامنة عشرة - الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى، ولا خلاف في هذا. واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله، فقال الشافعي وأبو حنيفة: الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى - قال أبو عمر: ما أجمعوا عليه فهو الحق، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عزوجل لا في غير ذلك. التاسعة عشرة - قوله تعالى: (فكفارته) اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزئ أم لا ؟ - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال: أحدها: يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ بوجه، وهي رواية أشهب عن مالك، وجه الجواز ما رواه أبو موسى الاشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) خرجه أبو داود، ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة، لقوله تعالى: " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها، وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث. ووجه المنع ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير) زاد النسائي (وليكفر عن يمينه ] ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الاثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها، وكان معنى قوله تعالى: " إذا حلفتم " أي إذا حلفتم وحنثتم. وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات. وقال الشافعي: تجزئ بالاطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصوم، لان عمل البدن لا يقوم قبل وقته. ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة، وهو القول الثالث. الموفية عشرين - ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها، وعقب عند عدمها بالصيام، وبدأ بالطعام لانه كان الافضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم،
[ 276 ]
ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير، قال ابن العربي: والذي عندي أنها تكون بحسب الحال، فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل، لانك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم، وكذلك الكسوة تليه، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم. الحادية والعشرون - قوله تعالى: (إطعام عشرة مساكين) لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه، لقوله تعالى: " وهو يطعم ولا يطعم " (1) [ الانعام: 14 ] وفي الحديث (أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس)، ولانه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك، أصله الكسوة. وقال أبو حنيفة: لو غداهم وعشاهم جاز، وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا، قال ابن الماجشون: إن التمكين من الطعام إطعام، قال الله تعالى: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " (2) [ الانسان: 8 ] فبأي وجه أطعمه دخل في الآية. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) قد تقدم في (البقرة) (3) أن الوسط بمعنى الاعلى والخيار، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين. ومنه الحديث [ خير الامور أوسطها ]. وخرج ابن ماجة، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة، فنزلت: " من أوسط ما تطعمون أهليكم ". وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين. الثالثة والعشرون - الاطعام عند مالك مد لكل واحد من المساكين العشرة، إن كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال الشافعي وأهل المدينة. قال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الاصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم، وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رباح. واختلف (1) راجع ص 396 من هذا الجزء. (2) راجع ج 19 ص 125. (3) راجع ج 2 ص 153 وما بعدها. (*)
[ 277 ]
إذا كان بغيرها، فقال ابن القاسم: يجزئه المد بكل مكان. وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف. وأشهب بمد وثلث، قال: وإن مدا وثلثا لوسط من عيش الامصار في الغداء والعشاء. وقال أبو حنيفة: يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا، على حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر، أو صاع من شعير عن كل رأس، أو صاع بر بين اثنين. وبه أخذ سفيان وابن المبارك، وروي عن علي وعمر وابن عمر وعائشة، [ رضي الله عنهم ] (1) وبه قال سعيد بن المسيب، وهو قول عامة فقهاء العراق، لما رواه ابن عباس قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر [ من أوسط ما تطعمون (2) أهليكم ]، خرجه ابن ماجه في سننه. الرابعة والعشرون - لا يجوز أن يطعم غنيا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك: لا يعجبني أن يطعمه، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه، فإن أطعم غنيا جاهلا بغناه ففي (المدونة) وغير كتاب لا يجزئ، وفي (الاسدية) أنه يجزئ. الخامسة والعشرون - ويخرج الرجل مما يأكل، قال ابن العربي: وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا: إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس، وهذا سهو بين، فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ صاعا من طعام صاعا من شعير ] ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل، وهذا مما لا خفاء فيه. السادسة والعشرون - قال مالك: إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لانهم يختلفون في الاكل، ولكن يعطي كل مسكين مدا. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة، يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم، قال أبو عمر: وهو قول أئمة الفتوى بالامصار. (1) من ع. (2) هذه الزيادة غير موجودة في ابن ماجه في هذا الحديث. (*)
[ 278 ]
السابعة والعشرون - قال ابن حبيب: ولا يجزئ الخبز قفارا (1) بل يعطي معه إدامه زيتا أو كشكا أو كامخا أو ما تيسر، قال ابن العربي: هذه زيادة ما أراها واجبة أما أنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر - نعم - واللحم، وأما تعيين الادام للطعام فلا سبيل إليه، لان اللفظ لا يتضمنه. قلت: نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل، وما كان في معناه من الجبن والكشك كما قال ابن حبيب. والله أعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ نعم الادام الخل ] وقال الحسن البصري: إن أطعمهم خبزا ولحما، أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه، وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول، وروى ذلك عن انس ابن مالك. الثامنة والعشرون - لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي. وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، فمنهم من أجاز ذلك، وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولا، فإن اسم المسكين يتناوله. وقال آخرون: يجوز دفع ذلك إليه في أيام، وإن تعدد الايام يقوم مقام أعداد المساكين. وقال أبو حنيفة: يجزئه ذلك، لان المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر. لواحد أجزأه. ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه، فيغفر للمكفر بسبب ذلك. والله أعلم. التاسعة والعشرون - قوله تعالى: (فكفارته) الضمير على الصناعة النحوية عائد على (ما) ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون مصدرية. أو يعود على أثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه. (1) خبز قفار: غير مأدوم مأخوذ من البلد الذي لا شئ فيه. (2) الكامخ: نوع من الادم، معرب. (3) في ع وك: يطعمهم. (*)
[ 279 ]
الموفية ثلاثين - قوله تعالى: " أهليكم " هو جمع أهل على السلامة. وقرأ جعفر ابن محمد الصادق: (أهاليكم) وهذا جمع مكسر، قال أبو الفتح: أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات، والعرب تقول: أهل وأهلة. قال الشاعر: (1) وأهلة ود قد تبريت ودهم * وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي يقول: تعرضت لودهم، قاله ابن السكيت. الحادية والثلاثون - قوله تعالى: (أو كسوتهم) قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة. وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني: (أو كإسوتهم) يعني كإسوة أهلك. والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد، فأما في حق النساء فأقل ما يجزئهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار. قال ابن القاسم في (العتبية): تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، والصغير كسوة كبير، قياسا على الطعام. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والاوزاعي: أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد، وفي رواية أبي الفرج عن مالك، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة: ما يستر جميع البدن، بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك. وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: نعم الثوب التبان (2)، أسنده الطبري. وقال الحكم بن عتيبة تجزئ عمامة يلف بها رأسه، وهو قول الثوري. قال ابن العربي: وما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الجوع فأقول به، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه، والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه. قلت: قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم: لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيا (3) به كالكساء والملحفة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء. (1) هو أبو الطمحان القيني: يقول: رب من هو أهل للود قد تعرضت له، وبذلت له في ذلك طاقتي من نائل. في التاج: بذلي ونائلي. وفي اللسان: في الحمد جهدي ونائلي. (2) التبان (بالضم والتشديد): سراويل صغير مقدار شبر، يستر العورة المغلظة. (3) في ج: يتردى به، وفي ع: يوتزر به. (*)
[ 280 ]
وروي عن أبى موسى الاشعري أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين (1)، وبه قال الحسن وابن سيرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي والله أعلم. الثانية والثلاثون - لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجزئ، وهو يقول: تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة ! قال ابن العربي: وعمدته أن الغرض سد الخلة، ورفع الحاجة، فالقيمة تجزئ فيه. قلنا: إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة ؟ [ وأين ] (2) نص القرآن على الاعيان الثلاثة، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ؟ ! الثالثة والعشرون - إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد لم يجزه. وقال أبو حنيفة: يجزئه، لانه مسكين يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية. قلنا: هذا يخصه بأن يقول جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر، أصله الزكاة، وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد، فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي. والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني. الرابعة والثلاثون - قوله تعالى: (أو تحرير رقبة) التحرير الاخراج من الرق، ويستعمل في الاسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها. ومنه قول أم مريم: " إني نذرت لك ما في بطني محررا (3) " [ آل عمران: 35 ] أي من شغوب الدنيا ونحوها. ومن ذلك قول الفرزدق بن غالب: أبني غدانة إنني حررتكم * فوهبتكم لعطية بن جعال أي حررتكم من الهجاء. وخص الرقبة من الانسان، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغل والتوثق غالبا من الحيوان، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها. الخامسة والثلاثون - لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره، ولا عتاقة بعضها، ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة ولا تدبير، ولا تكون أم ولد ولا من يعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة، (1) أي ثوبان لكل مسكين. (2) الزيادة عن ابن العربي. (3) راجع ج 4 ص 65 (*)
[ 281 ]
خلافا لداود في تجويزه إعتاق المعيبة. وقال أبو حنيفة: يجوز عتق الكافرة، لان مطلق اللفظ يقتضيها. ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة، وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ. وإنما قلنا: لا يكون فيها شرك، لقوله تعالى: " فتحرير رقبة " [ النساء: 92 ] وبعض الرقبة ليس برقبة. وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق، لان التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم. وإنما قلنا: سليمة، لقوله تعالى: " فتحرير رقبة " والاطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ما من مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج ] وهذا نص. وقد روي في الاعور قولان في المذهب، كذلك في الاصم والخصي. السادسة والثلاثون - من أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف كانت الكفارة باقية عليه، بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء، أو ليشتري به رقبة فتلف، لم يكن عليه غيره لامتثال الامر. السابعة والثلاثون - اختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف، فقال الشافعي وأبو ثور: كفارات الايمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث، وكذلك قال مالك إن أوصى بها. الثامنة والثلاثون - من حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر فلم يكفر حتى أيسر، أو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث. التاسعة والثلاثون - روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لان يلج أحدكم بيمينه في أهله (1) آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله) اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه، وإن لزم من ذلك حرج ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة (1) (في أهله) أي في قطيعتهم كالحلف على ألا يكلمهم وذكر الاهل في هذا المقام للمبالغة. راجع شرح الحديث في هامش ص مسلم ط الآستانة ج 5 ص 88. (*)
[ 282 ]
أو آجلة، فإن كان شئ من ذلك فالاولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة، ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " (1) [ البقرة: 224 ] وقال عليه السلام: [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير ] أي الذي هو أكثر خيرا. الموفية أربعين - روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ اليمين على نية المستحلف ] قال العلماء: معناه أن من وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نيته، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين، وهو معنى قوله في الحديث الآخر: [ يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ]. وروي [ يصدقك به صاحبك ] خرجه مسلم أيضا. قال مالك: من حلف لطالبه في حق له عليه، واستثنى في يمينه، أو حرك لسانه أو شفتيه، أو تكلم به، لم ينفعه استثناؤه ذلك، لان النية نية المحلوف له، لان اليمين حق له، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف، لانها مستوفاة منه. هذا تحصيل مذهبه وقوله. الحادية والاربعون - قوله تعالى: (فمن لم يجد) معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة، من الاطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع، فإذا عدم هذه الثلاثة الاشياء صام. والعدم يكون بوجهين أما بمغيب المال [ عنه ] (2) أو عدمه، فالاول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه، فقيل: ينتظر إلى بلده، قال ابن العربي: وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام، لان الوجوب قد تقرر في الذمة [ والشرط من ] (3) العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الامر، فليكفر مكانه لعجزه عن الانواع الثلاثة، لقوله تعالى: " فمن لم يجد ". وقيل: من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد. وقيل: هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه، وبه قال الشافعي واختاره الطبري، وهو مذهب مالك وأصحابه. وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم، قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إنه إن كان للحانث (1) راجع ج 3 ص 96. (2) من ج وه‍ وع وك. (3) الزيادة عن ابن العربي. (*)
[ 283 ]
فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه. وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد. وقال أحمد وإسحق: إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه. وقال أبو عبيد: إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله وكسوة تكون لكفايتهم، ثم يكون بعد ذلك مالكا لقدر الكفارة فهو عندنا واجد. قال ابن المنذر: قول أبي عبيد حسن. الثانية والاربعون - قوله تعالى: قرأها ابن مسعود (متتابعات) فيقيد بها المطلق، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار، واعتبارا بقراءة عبد الله. وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئه التفريق، لان التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما. الثالثة والاربعون - من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيا فقال مالك: عليه القضاء، وقال الشافعي: لا قضاء عليه، على ما تقدم بيانه في الصيام في (البقرة) (1). الرابعة والاربعون - هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق. واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث، فكان سفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غير ذلك، واختلف فيه قول مالك، فحكى عنه ابن نافع أنه قال: لا يكفر العبد بالعتق، لانه لا يكون له الولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، وأصوب ذلك أن يصوم. وحكى ابن القاسم عنه أن قال: إن أطعم أو كسا بإذن السيد فما هو بالبين، وفي قلبي منه شئ. الخامسة والاربعون - قوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم) أي تغطية أيمانكم، وكفرت الشئ غطيته وسترته وقد تقدم. ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف في تركه. (1) راجع ج 2 ص 322، وما بعدها. (*)
[ 284 ]
وترجم ابن ماجه في سننه (من قال كفارتها تركها) حدثنا علي بن محمد حدثنا عبد الله بن نمير عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصلح فبره ألا يتم على ذلك ] (1) وأسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها ]. قلت: ويعتضد هذا بقصة الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام، وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه، وحلف الضيف - أو الاضياف - ألا يطعمه أو لا يطعموه حتى يطعمه، فقال أبو بكر: كان هذا من الشيطان، فدعا بالطعام فأكل وأكلوا. خرجه البخاري، وزاد مسلم قال: فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يارسول الله، بروا وحنثت، قال: فأخبره، قال: [ بل أنت أبرهم وأخيرهم ] قال: ولم تبلغني كفارة. السادسة والاربعون - واختلفوا في كفارة غير اليمين بالله عز وجل، فقال مالك: من حلف بصدقة ماله أخرج ثلثه. وقال الشافعي: عليه كفارة يمين، وبه قال إسحق وأبو ثور، وروى عن عمر وعائشة رضي الله عنهما. وقال الشعبي وعطاء وطاوس: لا شئ عليه. وأما اليمين بالمشي إلى مكة فعليه أن يفي به عند مالك وأبي حنيفة. وتجزئه كفارة يمين عند الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور. وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد: لا شئ عليه، قال ابن عبد البر: أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عزوجل، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين. وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبد الصمد، وذكر له أنه قول الليث بن سعد. والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه، وهو قول مالك. وأما الحالف بالعتق فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول مالك والشافعي وغيرهما. وروي (1) ظاهره أنه البر شرعا فلا حاجة معه إلى كفارة أخرى لكن الاحاديث المشهورة تدل على وجوب الكفارة، فالحديث إن صح يحمل على إنه بمنزلة البر في كونه مطلوبا شرعا. (هامش ابن ماجة). (*)
[ 285 ]
عن ابن عمر وابن عباس وعائشة أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق - وقال عطاء: يتصدق بشئ. قال المهدوي: وأجمع من يعتمد على قوله من العلماء على أن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث. السابعة والاربعون - قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم) أي بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم. وقيل: أي بترك الحلف، فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات. (لعلكم تشكرون) تقدم معنى (الشكر) و (لعل) في (البقرة) (1) والحمد لله. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون (91) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين (92) فيه سبع عشرة مسألة: الاولى: قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا " خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الاشياء، إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نفى (2) منها في نفوس كثير من المؤمنين. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم. وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة. (1) راجع ج 1 ص 226 وما بعدها في (لعل) وص 397 وما بعدها في (الشكر). (2) نفى: بقية. (*)
[ 286 ]
وتقدم اشتقاقها (1). وأما " الميسر " فقد مضى في " البقرة " (1) القول فيه. وأما الانصاب فقيل: هي الاصنام. وقيل: هي النرد والشطرنج، ويأتي بيانهما في سورة " يونس " عند قوله تعالى: " فماذا بعد الحق إلا الضلال " [ يونس: 32 ] (2). وأما الازلام فهي القداح، وقد مضى في أول السورة القول فيها. ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الاصنام، يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا، فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره. الثانية - تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة، فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " (1) [ البقرة: 219 ] أي في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " [ النساء: 43 ] (3) فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس " الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر. وقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب، فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: انتهينا انتهينا. وقد مضى في " البقرة " (1) و " النساء " (3). وروى أبو داود عن ابن عباس قال: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " [ النساء: 43 ]، و " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " [ البقرة: 219 ] نسختها التي في المائدة " إنما الخمر والميسر والانصاب ". وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت في آيات من القرآن، وفيه قال: وأتيت على نفر من الانصار، فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا، (1) راجع ج 3 ص 51 - 52. (2) راجع ج 8 ص 335. (3) راجع ج 5 ص 191. (*)
[ 287 ]
وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي [ عندهم ] (1) وزق من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الانصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الانصار، قال: فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره (2) وكان أنف سعد مفزورا - فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر - " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ". الثالثة - هذه الاحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه، يدل عليه آية النساء " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " [ النساء: 43 ] على ما تقدم. وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر ؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه، لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لما قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لابي على عقبيه القهقري وخرج عنه. وهذا خلاف ما قاله الاصوليون وحكوه فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة، لان الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه. والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: " رجس " قال ابن عباس في هذه الآية: (رجس) سخط وقد يقال للنتن والعذرة والاقذار رجس. والرجز بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة (1) الزيادة عن (صحيح مسلم). (2) فزره: شقه. (*)
[ 288 ]
لا غير. والرجس يقال للامرين. ومعنى " من عمل الشيطان " أي بحمله عليه وتزيينه. وقيل: هو الذي كان عمل مبادئ هذه الامور بنفسه حتى اقتدى به فيها. الخامسة - قوله تعالى: " فاجتنبوه " يريد ابعدوه واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الامور، واقترنت بصيغة الامر مع نصوص الاحاديث وإجماع الامة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة " المائدة " نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: " قل لا أجد " (1) وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روى ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حرمت الخمر، وجعلت عدلا (2) للشرك، يعني أنه قرنها بالذبح للانصاب وذلك شرك. ثم علق " لعلكم تفلحون " فعلق الفلاح بالامر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب. والله أعلم. السادسة - فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والامر باجتنابها، الحكم بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة، قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق. والجواب، أن الصحابة فعلت ذلك، لانه لم يكن لهم سروب (3) ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور. وأيضا فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا (1) راجع ج 7 ص 115. (2) عدل: مثل ونظير. (3) السرب: حفيرة تحت الارض. (*)
[ 289 ]
يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق (1) المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك. والله أعلم. فإن قيل: التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشئ محرما أن يكون نجسا، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس، قلنا: قوله تعالى: " رجس " يدل على نجاستها، فإن الرجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة، فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك ؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والاقيسة. وسيأتي في سورة " الحج " (2) ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى. السابعة - قوله: " فاجتنبوه " يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشئ بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الاحاديث الواردة في الباب. وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم (3) راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ هل علمت أن الله حرمها ] قال: لا، قال: فسار رجلا (4) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ بم ساررته ] قال: أمرته ببيعها، فقال: [ إن الذي حرم شربها حرم بيعها ]، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها، فهذا حديث يدل على ما ذكرناه، إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة. [ هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ] الحديث. الثامنة - أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله، ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة، والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك. (1) في ج وع وك. وفي ا: طريق. (2) راجع ج 12 ص 53. (3) الرواية: القربة التي فيها الخمر سماها مرة براوية ومرة بمزادة وهما بمعنى. وربما قالوا مزاد بغير (هاء) كما وقع في بعض النسخ. (4) في ج وع وك: إنسانا. (*)
[ 290 ]
التاسعة - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لاحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة (1) حتى يذهب ما فيها، لان الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا. وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال: [ لا ] ونهى عن ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد. وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي (2) أو غيرها وهو قول الثوري والاوزاعي والليث بن سعد والكوفيين. وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز. وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال: لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده. قال أبو عمر: احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء، وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح. وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر، وليس في رأي أحد حجة مع السنة. وبالله التوفيق. وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الاسلام عند نزول تحريمها، لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك. وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والامر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت. وروى أشهب عن مالك قال: إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله، وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكم في كتابه. والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها، ولكن ليهريقها. العاشرة - لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال. وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه. (1) في ب: المزادتين، ما فيهما. (2) أي بممارسة آدمي وعمله. (*)
[ 291 ]
الحادية عشرة - ذكر ابن خويزمنداد أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص، ويطفأ بها حريق، وهذا نقل لا يعرف لمالك، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة. ولو جاز ملكها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها. وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها. والحمد لله. الثانية عشرة - هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار، لان الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " الآية. ثم قال: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء " الآية. فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى، قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس. ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لاجل ما اشتركا فيه من المعاني. وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر ثم كان حراما مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر (1)، فإن كانت الخمر إنما حرمت لانها تسكر فتصد بالاسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لانه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة. والله أعلم. الثالثة عشرة - مهدي الراوية (2) يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكا بالاباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ - كما يقوله بعض الاصوليين - بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث، وهو الصحيح، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه، (1) في ج وع وك: مقام. (2) كذا في ج وع وى وا وه‍ ووفي ك: هذه الرواية تدل. الخ. ولعل أصل العبارة: حديث مهدي الراوية... الخ. (*)
[ 292 ]
بل بين له الحكم، ولانه مخاطب بالعمل بالاول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لاهل قباء (1)، إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة. وقد تقدم في سورة (البقرة) (2) والحمد لله، وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر (3). وقد مضى في صدر هذه السورة القول في الانصاب (4) والازلام. والحمد لله. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر). الآية. أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء (5) بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها، ونهانا عنها. روي أن قبيلتين من الانصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم (6) يقول: لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن، فأنزل الله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء " الآية. الخامسة عشرة - قوله تعالى: (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) يقول: إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي، وروي: بعبد الرحمن كما تقدم في " النساء " (7). وقال عبيد الله بن عمر: سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر ؟ وعن النرد أهو ميسر ؟ فقال: كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. قال أبو عبيد: تأول قوله تعالى: " ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ". السادسة عشرة - قوله تعالى: (فهل أنتم منتهون) لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال: انتهينا. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت، فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة. (1) قباء قرية على بعد ميلين من المدينة. (2) راجع ج 2 ص 148 وما بعدها. (3) راجع ج ص 51 وما بعدها. (4) راجع ص 57 وما بعدها من هذا الجزء. (5) في ج وك: بيننا. (6) في ج وع: الرجل. (7) راجع ج 5 ص 200. (*)
[ 293 ]
السابعة عشرة - قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا) تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للامر، وكف عن المنهي عنه، وحسن عطف " وأطيعوا الله " لما كان في الكلام المتقدم معنى انتهوا. وكرر " وأطيعوا " في ذكر الرسول تأكيدا. ثم حذر في مخالفة الامر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة، فقال: " فإن توليتم " أي خالفتم (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع. قوله تعالى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93) فيه تسع مسائل: الاولى - قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ؟ - ونحو هذا - فنزلت الآية. روى البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر (1) مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت ! قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت، فقال: اذهب فأهرقها - وكان الخمر من الفضيخ (2) - قال: فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية. الثانية - هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الاولى فنزلت " وما كان الله ليضيع إيمانكم " (3) [ البقرة: 143 ]. ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه (1) أي النبي صلى الله عليه وسلم. (2) الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار، والمفضوخ هو المشدوخ. (3) راجع ج 2 ص 157. (*)
[ 294 ]
شئ، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح، لان المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الاباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لاجل شرب الخمر المتقدم، فرفع الله ذلك التوهم بقوله: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية. الثالثة - هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه، لان الصحابة [ رحمهم (1) الله ] هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره، وقد قال الحكمي: لنا خمر وليست خمر كرم * ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا * وفات ثمارها أيدي الجناة ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي: أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيدالله عن شيبان عن الاعمش عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: [ الزبيب والتمر هو الخمر ]. وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه - وحسبك به عالما باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر، يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه. وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا، وقال الشاعر: تركت النبيذ لاهل النبيذ * وصرت حليفا لمن عابه شراب يدنس عرض الفتى * ويفتح للشر أبوابه (1) من ب وج وك. (*)
[ 295 ]
الرابعة - قال الامام أبو عبد الله المازري: ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا نيئا، كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حد، فأما المستخرج من العنب المسكر النئ فهو الذي انعقد الاجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الاسكار، وفي المطبوخ المستخرج من العنب، فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب النئ، فأما المطبوخ منهما، والنئ والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الاسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والاعناب على تفصيل، فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد، وأما النئ منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه، وهذا كله ما لم يقع الاسكار، فإن وقع الاسكار استوى الجميع. قال شيخنا الفقيه الامام أبو العباس [ أحمد ] (1) رضي الله عنه: العجب من المخالفين في هذه المسألة، فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه، فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل ؟ فلا بد أن يقال: لانه داعية إلى الكثير، أو للتعبد، فحينئذ يقال لهم: كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضا، إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك. وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس، لان الفرع فيه مساو للاصل في جميع أوصافه، وهذا كما يقوله في قياس الامة على العبد في سراية العتق. ثم العجب من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ! فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الامة، لاحاديث لا يصح شئ منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم، وليس في الصحيح شئ منها. وسيأتي في سورة " النحل " (2) تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى. (1) من ك. (2) راجع ج 10 ص 127. (*)
[ 296 ]
الخامسة: قوله تعالى: " طعموا " أصل هذه اللفظة في الاكل، يقال: طعم الطعام وشرب الشراب، لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما، قال الشاعر: نعاما بوجرة (1) صعر الخدو * د لا تطعم النوم إلا صياما وقد تقدم القول في " البقرة " (2) في قوله تعالى: " ومن لم يطعمه " [ البقرة: 249 ] بما فيه الكفاية. السادسة - قال ابن خويزمنداد: تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات، والانتفاع بكل لذيذ من مطعم ومشرب ومنكح وإن بولغ فيه وتنوهي في ثمنه. وهذه الآية نظير قوله تعالى: " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة: 87 ] ونظير قوله: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " (3) [ الاعراف: 32 ]. السابعة - قوله تعالى: (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين). فيه أربعة أقوال: الاول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار، والمعنى اتقوا شربها، وآمنوا بتحريمها، والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم، والثالث على معنى الاحسان إلى الاتقاء. والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم (4)، وأحسنوا العمل. الثالث - اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، ومعنى الثالث ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا. وقال محمد بن جرير: الاتقاء (5) الاول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول، والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني، الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالاحسان، والتقرب بالنوافل. (1) وجرة: موضع بين مكة والبصرة، يقول الشاعر: هي صائمة منه لا تطعمه، وروى في اللسان (لا تطعم الماء) وقال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه. وقبله: فأما بنو عامر بالنار * غداة لقونا فكانوا نعاما (2) راجع ج 3 ص 252. (3) راجع ج 7 ص 195. (4) في ع: أعمارهم. (5) لعل قول ابن جرير هو الرابع. (*)
[ 297 ]
الثامنة - قوله تعالى: (ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات، فضله بأجر الاحسان. التاسعة - قد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضى الله عنهم، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمر (1). وكان ختن (2) عمر بن الخطاب، خال عبد الله وحفصة، وولاه عمر بن الخطاب على البحرين، ثم عزله بشهادة الجارود - سيد عبد القيس - عليه بشرب الخمر. روى الدارقطني قال حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثني سعيد ابن عفير، حدثني يحيى بن فليح بن سليمان، قال حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس: أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالايدي والنعال والعصى حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتى برجل من المهاجرين الاولين وقد شرب فأمر به أن يجلد، فقال لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله ! فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك ؟ فقال له: إن الله تعالى يقول في كتابه: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد [ كلها ] (3)، فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول، فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا لمن غبر وحجة على الناس، لان الله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " الآية، ثم قرأ حتى أنفذ الآية الاخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الآية، فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر، فقال عمر: صدقت ماذا ترون ؟ فقال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا (1) عمر: عاش زمانا طويلا. (2) الختن (بالتحريك): الصهر، أو كل ما كان من قبل المرأة كالاب والاخ. (3) من ع. (*)
[ 298 ]
هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة. وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس قال: لما قدم الجارود من البحرين قال: يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا، وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك، فقال عمر: من يشهد على ما تقول ؟ فقال: أبو هريرة، فدعا عمر أبا هريرة فقال: علام تشهد يا أبا هريرة ؟ فقال: لم أره حين شرب، ورأيته سكران يقئ، فقال عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر، فقال: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصم ؟ فقال الجارود: أنا شهيد، قال: قد كنت أديت الشهادة، ثم قال لعمر: إني أنشدك الله ! فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لاسوءنك، فقال الجارود: أما والله ما ذلك بالحق، أن يشرب ابن عمك وتسوءني ! فأوعده عمر، فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، فقال قدامة: والله لو شربت - كما يقولون - ما كان لك أن تجلدني يا عمر. قال: ولم يا قدامة ؟ قال: لان الله سبحانه يقول: " ليس على آمنوا وعملوا الصالحات جناح " فيما طعموا " الآية إلى " المحسنين ". فقال عمر: أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا (3)، فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يوما فقال لاصحابه: ما ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا، فقال عمر: إنه والله لان يلقى الله تحت السوط، أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي ! والله لاجلدنه، ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لاسلم: أخذتك دقرارة (4) أهلك، ائتوني بسوط غير هذا. قال: فجاءه أسلم بسوط تام، فأمر عمر بقدامة فجلد، (1) البرقاني (بفتح الموحدة وسكون الراء): هذه النسبة إلى قرية كانت بنواحي خوارزم وخربت، وصارت مزرعة. (الانساب) للسمعاني. (2) تنطع في الكلام: تعمق وغالى. (3) وجع: مريض. (4) الدقرارة (واحدة الدقارير): وهي الاباطيل وعادات السوء، أراد أن عادة السوء التي هي عادة قومك، وهي العدول عن الحق والعميل بالباطل (؟ ؟ ؟ ؟) وعرضت لك فعملت بها، وكان أسلم عبدا بجاويا. (*)
[ 299 ]
فغاضب قدامة عمر وهجره، فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا عن حجهم ونزل عمر بالسقيا (1) ونام بها فلما استيقظ عمر قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله لارى في النوم أنه جاءني آت فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما. قال أيوب ابن أبي تميمة: لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره. قال ابن العربي: فهذا يدلك على تأويل الآية، وما ذكر فيه عن ابن عباس من حديث الدارقطني، وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح، وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حد على الخمر أحد، فكان هذا من أفسد تأويل، وقد خفي على قدامة، وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما، قال الشاعر: وإن حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوه إلا بكيت على عمر وروي عن علي [ رضي الله (3) عنه ] أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية، فأجمع علي وعمر على أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا، ذكره الكيا الطبري. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94) فيه ثماني مسائل الاولى: قوله تعالى: " ليبلونكم الله " أي ليختبرنكم، والابتلاء الاختبار. وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، مستعملا جدا، فابتلاهم الله فيه مع الاحرام والحرم، كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت. وقيل: إنها نزلت عام الحديبية، أحرم بعض الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض (1) السقيا (بالضم): موضع بين المدينة ووادي الصفراء. (2) الشجو: الهم والحزن. (3) من ع. (*)
[ 300 ]
صيد اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم، واشتبهت أحكامه عليهم، فأنزل الله هذه الآية بيانا لاحكام أحوالهم وأفعالهم، ومحظورات حجهم وعمرتهم. الثانية - اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما - أنهم المحلون، قاله مالك. الثاني: أنهم المحرمون قاله ابن عباس، وتعلق بقوله تعالى: " ليبلونكم " فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الاحرام. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم، فإن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد، وما شرع له من وصفه في كيفية الاصطياد. والصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس محلهم ومحرمهم، لقوله تعالى: " ليبلونكم الله " أي: ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة. الثالثة - قوله تعالى: " بشئ من الصيد " يريد ببعض الصيد، فمن للتبعيض، وهو صيد البر خاصة، ولم يعم الصيد كله لان للبحر صيدا، قال الطبري وغيره. وأراد بالصيد المصيد، لقوله: " تناله أيديكم ". الرابعة - قوله تعالى: " تناله أيديكم ورماحكم " بيان لحكم صغار الصيد وكباره. وقرأ ابن وثاب والنخعي: " يناله " بالياء منقوطة من تحت. قال مجاهد: الايدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد. وقال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " وكل شئ يناله الانسان بيده أو برمحه أو بشئ من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى. الخامسة - خص الله تعالى الايدي بالذكر لانها عظم (1) التصرف في الاصطياد، وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لانها عظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه، وقد مضى القول فيما يصاد به من الجوارح والسهام في أول السورة (2) بما فيه الكفاية والحمد لله. (1) أي معظمه. (2) راجع ص 65 فما بعد من هذا الجزء. (*)
[ 301 ]
السادسة - ما وقع في الفخ والحبالة فلربها، فإن ألجأ الصيد إليها أحد ولولاها لم يتهيأ له أخذه فربها فيه شريكه. وما وقع في الجبح (1) المنصوب في الجبل من ذباب النحل فهو كالحبالة والفخ، وحمام الابرجة ترد على أربابها إن استطيع ذلك، وكذلك نحل الجباح، وقد روي عن مالك. وقال بعض أصحابه: إنه ليس على من حصل الحمام أو النحل عنده أن يرده. ولو ألجأت الكلاب صيدا فدخل في بيت أحد أو داره فهو للصائد مرسل الكلاب دون صاحب البيت، ولو دخل في البيت من غير اضطرار الكلاب له فهو لرب البيت. السابعة - احتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لان المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا، وهو قول أبي حنيفة. الثامنة - كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى: " تناله أيديكم ورماحكم " يعني أهل الايمان، لقوله تعالى في صدر الآية: " يا أيها الذين آمنوا " فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه جمهور أهل العلم، لقوله تعالى: " يا أيها الذين أتوا الكتاب حل لكم " [ المائدة: 94 ] وهو عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما تضمنت أكل طعامهم، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه. قلت: هذا بناء على أن الصيد ليس مشروعا عندهم فلا يكون من طعامهم، فيسقط عنا هذا الالزام، فأما إن كان مشروعا عندهم في دينهم فيلزمنا أكله لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم. والله أعلم. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك (1) الجبح (بجيم مثلثة وموحدة ساكنة): خلية العسل ويجمع على (أجبح وجبوح وجباح). (*)
[ 302 ]
صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (95) فيه ثلاثون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد " الآية. وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الانصاري (1) - كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ". الثانية - قوله تعالى: (لا تقتلوا الصيد) القتل هو كل فعل يفيت الروح، وهو أنواع: منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه، فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتا للروح. الثالثة - من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه جزاء ما أكل، يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شئ عليه سوى الاستغفار، لانه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى، ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار. وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه، لان قتله كان من محظورات الاحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى. الرابعة - لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد ذكاة، وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الانعام، فأفاد مقصوده من حل الاكل، أصله ذبح الحلال. قلنا: قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد، إذ الاهلية لا تستفاد (1) كذا بالاصل، واسمه في (التهذيب) وغيره: كعب بن عمرو... الخ. (*)
[ 303 ]
عقلا، وإنما يفيدها الشرع، وذلك بإذنه في الذبح، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد، لقوله: " لا تقتلوا الصيد " فقد انتفت الاهلية بالنهي. وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله، وإنما يأكل منه غيره عندكم، فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره، لان الفرع تبع للاصل في أحكامه، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لاصله. الخامسة - قوله تعالى: " الصيد " مصدر عومل معاملة الاسماء، فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى: " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " [ المائدة: 96 ] فأباح صيد البحر إباحة مطلقة، على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى. السادسة - اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه، فقال مالك: كل شئ لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها، وهي مثل فراخ الغربان. ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الاغلب، مثل الاسد والذئب والنمر والفهد، وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة. قال إسمعيل: إنما ذلك لقوله عليه السلام: [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] الحديث، فسماهن فساقا، ووصفهن بأفعالهن، لان الفاسق فاعل [ للفسق ] (1)، والصغار لا فعل لهن، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر، فلا تدخل في هذا النعت. قال [ القاضي ] (1) إسمعيل: الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس. قال: ومن ذلك الحية والعقرب، لانه يخاف منهما، وكذلك الحدأة والغراب، لانهما يخطفان اللحم من أيدي الناس. قال ابن بكير: إنما أذن في قتل العقرب لانها ذات حمة (2)، وفي الفأرة لقرضها السقاء (3) والحذاء اللذين بهما قوام المسافر. وفي الغراب (1) من ك. (2) الحمة: السم أو الابرة تضرب بها العقرب والزنبور ونحو ذلك. (3) السقاء: القربة. (*)
[ 304 ]
لوقوعه على الظهر (1) ونقبه عن لحومها، وقد روي عن مالك أنه قال: لا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا. قال [ القاضي ] (2) إسمعيل: واختلف في الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي. قال: فإذا عرض الزنبور لاحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شئ في قتله، وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور. وقال مالك: يطعم قاتله شيئا، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه. وقال أصحاب الرأي: لا شئ على قاتل هذه كلها. وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما، وإن قتل غيره من السباع فداه. قال: فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شئ عليه، قال: ولا شئ عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر، وبه قال الاوزاعي والثوري والحسن، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شئ فيدخل في معناها. قلت: العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله ! وقال زفر ابن الهذيل: لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه، لانه عجماء فكان فعله هدرا، وهذا رد للحديث ومخالفة له. وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله، وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السمع وهو المتولد بين الذئب والضبع، قال: وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم (3) وما لا يؤكل لحمه شئ، لان هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى: " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " [ المائدة: 96 ] فدل أن الصيد (1) الظهر: الابل الذإتي يحمل عليها ويركب. (2) من ك. (3) الحلم - بالتحريك - يجمع (الحلمة) وهي الصغيرة من اللقردان. وقيل: الضخم منها. (*)
[ 305 ]
الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الاحرام حلالا، حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع، فإن قيل: فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل ؟ قيل له: ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه، لان في طرح القملة إماطة الاذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي، قاله أبو عمر. السابعة - روى الائمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور). اللفظ للبخاري، وبه قال أحمد وإسحق. وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الابقع والفأرة والكلب العقور والحديا ]. وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا: لا يقتل من الغربان إلا الابقع خاصة، لانه تقييد مطلق. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ ويرمي الغراب ولا يقتله ]. وبه قال مجاهد. وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر، والله أعلم. وعند أبي داود والترمذي: والسبع العادي، وهذا تنبيه على العلة. الثامنة - قوله تعالى: (وأنتم حرم) عام في النوعين من الرجال والنساء، الاحرار والعبيد، يقال: رجل حرام وامرأة حرام، وجمع ذلك حرم، كقولهم: قذال وقذل. وأحرم الرجل دخل في الحرم، كما يقال: أسهل دخل في السهل. وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الاحرام بالاشتراك لا بالعموم. يقال: رجل حرام إذا دخل في الاشهر الحرم أو في الحرم، أو تلبس بالاحرام، إلا أن تحريم الزمان خرج بالاجماع عن أن يكون معتبرا، وبقي تحريم المكان وحالة الاحرام على أصل التكليف، قاله ابن العربي. التاسعة - حرم المكان حرمان، حرم المدينة وحرم مكة - وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم
[ 306 ]
المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لاحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما. وقال ابن أبي ذئب: عليه الجزاء. وقال سعد: جزاؤه أخذ سلبه، وروي عن الشافعي. وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرم، وكذلك قطع شجرها. واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه ]. وأخذ سعد سلب من فعل ذلك. قال: وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس - ما فعل النفير، فلم ينكر صيده وإمساكه - وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الاول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم. وكذلك حديث عائشة، أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض، فلم يترمرم (1) كراهية أن يؤذيه. ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسب أن أبا هريرة قال: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ما بين لابتيها (2) حرام ] فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة. وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس - وهو طائر - من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة، دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد. ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: [ اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى (3) خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ] ولانه حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا قول أقيس عندي (1) أي سكن ولم يتحرك. (2) لابتا المدينة هما حرتان يكتنفانها. (3) الخلي: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع. (*)
[ 307 ]
على أصولنا، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام. ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب - في المشهور من قول الشافعي - عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: [ المدينة حرم ما بين عير إلى ثور (1) فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ] (2) فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة. وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به، لما روى عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا - أو يخبطه - فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم، فقوله: (نفلنيه) ظاهره الخصوص. والله أعلم. العاشرة - قوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمدا) ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي، والمتعمد هنا هو القاصد للشئ مع العلم بالاحرام. والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: الاول - ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا. الثاني: أن قوله: " متعمدا " خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة. الثالث - أنه لا شئ على المخطئ والناسي، وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد ابن جبير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود. وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل على أن غيره بخلافه. وزاد بأن قال: الاصل براءة الذمة فمن (1) عير جبل بناحية المدينة، أما ثور فيرى بعض أهل الحديث أن ذكره هنا وهم من الراوي، وإنما هو جبل بمكة، والصحيح (من عير إلى أحد) وهي رواية قليلة. وقدر بعض: حرم المدينة مقدار ما بين عير وثور. وفي (النووي) قال القاضي: أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لانهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ. (2) لا يقبل منه صرف ولا عدل: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقيل: الصرف النافلة والعدل الفريضة. وقيل: غير ذلك. (*)
[ 308 ]
ادعى شغلها فعليه الدليل. الرابع - أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان، قاله ابن عباس وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة. الخامس - أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لاحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك: " ومن عاد فينتقم الله منه ". قال: ولو كان ذاكرا لاحرامه لوجبت عليه العقوبة لاول مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لاحرامه، قال مجاهد: فإن كان ذاكرا لاحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها، قال: ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه. ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للاحرام أو ناسيا له، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان، وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا، ويستغفر الله، وحجه تام، وبه قال ابن زيد. ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: [ هي صيد ] وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقال ابن بكير من علمائنا: قوله سبحانه: " متعمدا " لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد " متعمدا " ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة، وأن الصيد فيه كفارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ. والله أعلم. الحادية عشرة - فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، لقول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لاجل ذلك لازم له. وروي عن ابن عباس قال: لا يحكم عليه مرتين في الاسلام، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، لقوله تعالى: " ومن عاد فينتقم الله منه ". وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد
[ 309 ]
وشريح. ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الاحرام، وتوجه الخطاب عليه في دين الاسلام. الثانية عشرة - قوله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم) فيه أربع قراءات، " فجزاء مثل " برفع جزاء وتنوينه، و " مثل " على الصفة، والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم. وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه. و " جزاء " بالرفع غير منون و " مثل " بالاضافة أي فعليه جزاء مثل ما قتل، و " مثل " مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك. ونظير هذا قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات " (1) [ الانعام: 122 ] التقدير كمن هو في الظلمات، وقوله " ليس كمثله شئ " (2) [ الشورى: 11 ] أي ليس كهو شئ (3). وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل، إذ الشئ لا يضاف إلى نفسه. وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والاضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول. وهو قول الشافعي على ما يأتي. وقوله: " من النعم " صفة لجزاء على القراءتين جميعا. وقرأ الحسن " من النعم " بإسكان العين وهي لغة. وقرأ عبد الرحمن " فجزاء " بالرفع والتنوين " مثل " بالنصب، قال أبو الفتح: " مثل " منصوبة بنفس الجزاء، والمعنى أن يجزى مثل ما قتل. وقرأ ابن مسعود والاعمش " فجزاؤه مثل " بإظهار (هاء)، ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل. الثالثة عشرة - الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى. وفي (المدونة): من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال: لا جزاء عليه. [ قال ] (4) وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شئ عليه. وقيل: عليه من الجزاء بقدر ما نقصه. ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه. ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد، أو تركه محوفا (5) عليه فعليه جزاؤه كاملا. (1) راجع ج 7 ص 78. (2) راجع ج 16 ص 7. (3) من ب، ى وسقطت الجملة مع الآية من ج، ك، ه‍، ع، ز، وفي أ، و، ل: ليس هو كشئ. (4) من ك. (5) من ع، ك. في ج، أ: مخوفا. (*)
[ 310 ]
الرابعة عشرة - ما يجزي من الصيد شيئان: دواب وطير، فيجزى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، وبه قال الشافعي. وأقل ما يجزي عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية، وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام. وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة، فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسلف في ذلك. والدبسي (1) والفواخت والقمري وذوات الاطواق كله حمام. وحكى ابن عبد الحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة، قال: وكذلك حمام الحرم، قال: وفي حمام الحل حكومة. وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر. وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشئ، فإن المثل هو الاصل في الوجوب، وهذا بين وعليه تخرج قراءة الاضافة (فجزاء مثل). احتج أبو حنيفة فقال: لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا، في النعامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به، لان ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر، وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه، ويضطرب وجه النظر عليه. ودليلنا عليه قول الله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " الآية. فالمثل يقتضى بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنى، ثم قال: " من النعم " فبين جنس المثل، ثم قال: " يحكم به ذوا عدل منكم " وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم، لانه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه، ثم قال: " هديا بالغ الكعبة " والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، فصح ما ذكرناه. والحمد لله. وقولهم: لو كان الشبه معتبرا لما أوقفه على عدلين، فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص. (1) الدبسي: نوع من الفواخت. (*)
[ 311 ]
الخامسة عشرة - من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره، وهو قول عطاء. ولا يفدى عند مالك شئ بعناق (1) ولا جفرة، قال مالك: وذلك مثل الدية، الصغير والكبير فيها سواء. وفي الضب عنده واليربوع (2) قيمتهما طعاما. ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد، وفي اعتبار الجذع والثني، ويقول بقول عمر: في الارنب عناق وفي اليربوع جفرة، رواه مالك موقوفا. وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الارنب عناق وفي اليربوع جفرة ] قال: والجفرة التي قد ارتعت. وفي طريق آخر قلت لابي الزبير: وما الجفرة ؟ قال: التي قد فطمت ورعت. خرجه الدارقطني. وقال الشافعي: في النعامة بدنة، وفي فرخها فصيل، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخله (3) عجل، لان الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات. قال ابن العربي: وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا، قالوا: ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية، فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف. ودليلنا قوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " ولم يفصل بين صغير وكبير. وقوله: " هديا " يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الاطلاق. وذلك يقتضي الهدي التام. والله أعلم. السادسة عشرة - في بيض النعامة عشر ثمن البدنة عند مالك. وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة. قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر، فان استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة. روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه، خرجه الدارقطني. وروي عن أبي هريرة (4) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين ]. (1) العناق: الانثى من أولاد المعز. (2) اليربوع: دويبة فوق الفأر. (3) في كل الاصول: سخلة. والسخل ولد الضأن والمعز. أما ولد حمار الوحش فهو الجحش والهنبر والدوبل والقلو واللكع. (4) كذا في ب، ج، ع. (*)
[ 312 ]
السابعة عشرة - وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، دون ما يراد له من الاغراض (1)، لان المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره. ولان الناس قائلان - أي على مذهبين - معتبر للقيمة في جميع الصيد، ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم، فقد تضمن ذلك الاجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له. وأما الفيل فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان، وهي بيض خراسانية، فإذا لم يوجد شئ من هذه الابل فينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام. وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لاجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر. الثامنة عشرة - قوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) روى مالك عن عبد الملك ابن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية (2)، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى ؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله، هل تقرأ سورة " المائدة " ؟ فقال: لا، قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي ؟ فقال: لا، فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة " المائدة " لاوجعتك ضربا، ثم قال: إن الله سبحانه يقول في كتابه: " يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة " وهذا عبد الرحمن بن عوف. التاسعة عشرة - إذا اتفق الحكمان لزم الحكم، وبه قال الحسن والشافعي. وإن اختلفا نظر في غيرهما. وقال محمد بن المواز: لا يأخذ بأرفع من قوليهما، لانه عمل بغير تحكيم. وكذلك (1) في ى: الاغراض. بمعجمة. وباقي الاصول بمهملة. (2) الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجبل. (*)
[ 313 ]
لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام، لانه أمر قد لزم، قال ابن شعبان. وقال ابن القاسم: إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز. وقال ابن وهب رحمه الله في (العتبية): من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد، كما خيره الله في أن يخرج " هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لانها أدنى الهدي، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه، أو يصوم مكان كل مد يوما، وكذلك قال مالك في (المدونة). الموفية عشرين - ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنا. وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة، ويجتزأ في هذه الاربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم. الحادية والعشرون - لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه: يكون الجاني أحد الحكمين، وهذا تسامح منه، فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر، وإفساد للمعنى، لان حكم المرء لنفسه لا يجوز، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره، لانه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين. الثانية والعشرون - إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد جزاء كامل. وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن. وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها (1) بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال: عليكم كلكم كبش، قالوا: أو على كل واحد منا كبش، قال: إنكم لمعزز بكم (2)، عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد (1) الحذف: الرمى. (2) كان الموالي قد سألوا قبل ابن عمر - رضى الله عنه - صحابها فأمر لكل واحد منهم بكفارة، ثم سألوا ابن عمر، وأخبروه بفتيا الذي أفناهم، فقال: إنكم لمعزز بكم... الخ. (*)
[ 314 ]
عليكم. وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا قال: عليهم كبش يتخارجونه (1) بينهم. ودليلنا قول الله سبحانه: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " وهذا خطاب لكل قاتل. وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم، فثبت ما قلناه. الثالثة والعشرون - قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم (2) محلون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم، فإن ذلك لا يختلف. وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالاحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي، فهو هاتك لها في الحالتين. وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال: السر فيه أن الجناية في الاحرام على العبادة، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلون [ صيدا ] (3) في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة، فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة. قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا. الرابعة والعشرون - قوله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الاشعار والتقليد، ويرسل من الحل إلى مكة، وينحر ويتصدق به فيها، لقوله: " هديا بالغ الكعبة " ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد، فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه. (1) يتخارج بمعنى يخرج كل واحد منهم نصيبه من ثمنه. (2) من ع. (3) الزيادة عن ابن العربي. (*)
[ 315 ]
الخامسة والعشرون - قوله تعالى: (أو كفارة طعام مساكين) الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي. قال ابن وهب قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أنه يقوم الصيد الذي أصاب، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما. وقال ابن القاسم عنه: إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه، والصواب الاول. وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله، قال عنه: وهو في هذه الثلاثة بالخيار، أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا. وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء، لان " أو " للتخيير. قال مالك: كل شئ في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك، أي ذلك أحب أن يفعل فعل. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام، وإن قتل إيلا (1) أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة (2)، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما. والطعام مد مد لشبعهم. وقال إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة، قالوا: والمعنى " أو كفار طعام " إن لم يجد الهدي. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به، وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم، ثم قومت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما، وقال: إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام، فمن لم يجد طعاما، فإنه يجد جزاءه. وأسنده أيضا عن السدي. ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره. السادسة والعشرون - اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف، فقال قوم: يوم الاتلاف. وقال آخرون: يوم القضاء. وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين، من يوم الاتلاف إلى يوم الحكم. قال ابن العربي: واختلف علماؤنا كاختلافهم، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الاتلاف، والدليل على ذلك أن الوجود كان حقا للمتلف عليه، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله، وذلك في وقت العدم. (1) الابل قيل: هو (مثلث الهمزة) والوجه الكسر، وهو الذكر من الاوعال. (2) في ع وك وى: فعليه بدله من الطعام ثلاثين مسكينا. (*)
[ 316 ]
السابعة والعشرون - أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة، لقوله تعالى: " هديا بالغ الكعبة ". وأما الاطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الاصابة، وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي. وقال عطاء: ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء، وهو قول مالك في الصوم، ولا خلاف فيه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ولا يجوز إخراج شئ من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام. وقال حماد وأبو حنيفة: يكفر بموضع الاصابة مطلقا. وقال الطبري: يكفر حيث شاء مطلقا، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر، ولا أثر فيه. وأما من قال يصوم حيث شاء، فلان الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها. وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة، فلانه بدل عن الهدي أو نظير له، والهدي حق لمساكين مكة، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قال إنه يكون بكل موضع، فاعتبار بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع. والله أعلم. الثامنة والعشرون - قوله تعالى: (أو عدل ذلك صياما) العدل والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل، قاله الكسائي. وقال الفراء: عدل الشئ بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكسائي، تقول: عندي عدل دراهمك من الدراهم، وعندي عدل دراهمك من الثياب، والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان، وهو قول البصريين. ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد. قال مالك: يصوم عن كل مد يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة، وبه قال الشافعي. وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد، فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده. وهذا قول حسن احتاط فيه لانه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الاطعام. ومن أهله العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين، قالوا: لانها أعلى الكفارات. واختاره ابن العربي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يصوم عن كل مدين يوما أعتبارا بفدية الاذى.
[ 317 ]
التاسعة والعشرون - قوله تعالى: (ليذوق وبال أمره) الذوق هنا مستعار كقوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " (1) [ الدخان: 49 ]. وقال: " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " (2) [ النحل: 112 ]. وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة. ومنه الحديث (ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا). الحديث والوبال سوء العاقبة. والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله. وطعام وبيل إذا كان ثقيلا، ومنه قوله: (3) * عقيلة شيخ كالوبيل يلندد * (4) وعبر بأمره عن جميع حاله. الموفية ثلاثين - قوله تعالى: (عفا الله عما سلف) يعني في جاهليتكم من قتلكم الصيد، قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه. وقيل: قبل نزول الكفارة. (ومن عاد) يعني للمنهي (5) (فينتقم الله منه) أي بالكفارة. وقيل: المعنى " فينتقم الله منه " يعني في الآخرة إن كان مستحلا، ويكفر في ظاهر الحكم. وقال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه، وقيل له: اذهب ينتقم الله منك، أي ذنبك أعظم من أن يكفر، كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهله العلم لعظم إثمها. والمتورعون يتقون النقمة بالتكفير. وقد روي عن ابن عباس: يملا ظهره سوطا حتى يموت. وروي عن زيد ابن أبي المعلى: أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه، ثم عاد فأنزل الله عزوجل نارا من السماء فأحرقته، وهذه عبرة للامة وكف للمعتدين عن المعصية. قوله تعالى: (والله عزيز ذو انتقام) " عزيز " أي منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده. " ذو انتقام " ممن عصاه إن شاء. قوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96) فيه ثلاث عشرة مسألة: (1) راجع ج 16 ص 151. (2) راجع ج 10 ص 193. (3) الشعر لطرفه، وصدر البيت: * فمرت كهاة ذات خيف جلالة * (4) اليلندد: الشديد الخصومة. (5) كذا في ه‍، ع: وفي ج، ى: للنهى. (*)
[ 318 ]
الاولى - قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) هذا حكم بتحليل صيد البحر، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب. وقد مضى القول في البحر في " البقرة " والحمد لله. و " متاعا " نصب على المصدر أي متعتم به متاعا. الثانية - قوله تعالى: (وطعامه) الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده، والبر وحده، والتمر وحده، واللبن وحده، وقد يطلق على النوم كما تقدم، وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه، أسند الدارقطني عن ابن عباس في قول الله عزوجل: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة " - الآية - صيده ما صيد وطعامه ما لفظ [ البحر ] (2). وروي عن أبي هريرة مثله، وهو قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين. وروي عن ابن عباس طعامه ميتته، وهو في ذلك المعنى. وروي عنه أنه قال: طعامه ما ملح منه وبقي، وقاله معه جماعة. وقال قوم: طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره. الثالثة - قال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك، ولا يؤكل شئ من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية أبي إسحق الفزاري عنه. وكره الحسن أكل الطافي من السمك. وروي عن علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] (3) أنه كرهه، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري (4)، وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال: الجراد والحيتان ذكي، فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر (5) أنه كرهه، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، واحتجوا بعموم قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة " [ المائدة: 3 ]. وبما رواه (1) راجع ج 1 ص 388. (2) الزيادة عن (الدارقطني) في رواية ابن عباس. (3) من ع. (4) الجري: ضرب من السمك في ظهره طول وفي فمه سعة وليس له عظم إلا عظم اللحيين والسلسلة. (5) في ج: ابن زيد. (*)
[ 319 ]
أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ كلوا ما حسر (1) عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه ]. قال الدارقطني: تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به. وروى سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، قال الدارقطني: لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان (2) وعبد الرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم، رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب. وكذلك رواه أيوب السختياني، وعبيد الله بن عمر وابن جريج، وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفا قال أبو داود: وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الدارقطني: وروي عن إسمعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا، ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسمعيل ابن أمية ووقفه غيره. وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والاوزاعي والثوري في رواية الاشجعي: يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتا، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ]. وأصح ما في هذا الباب من جهة الاسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له: [ العنبر ] وهو من أثبت الاحاديث خرجه الصحيحان. وفيه: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: [ هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شئ فتطعمونا ] فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله، لفظ مسلم. وأسند الدارقطني عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها. وأسند عنه أيضا أنه قال: أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء. وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال: أطيبة هي لم تتغير ؟ (1) حسر ونضب وجزر بمعنى. (2) كذا في الاصول عدا: ل. فقد سقط منها. (*)
[ 320 ]
قالوا: نعم قال: فكلوها وارفعوا نصيبي منها، وكان صائما. وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال: اهدوها إلي. وقال عمر بن الخطاب: الحوت ذكي والجراد ذكي كله، رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية، وهو حجة للجمهور، إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال: أنتم تقولون خنزيرا ! وقال الشافعي: لا بأس بخنزير الماء وقال الليث: ليس بميتة البحر بأس. قال: وكذلك كلب الماء وفرس الماء. قال: ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء. الرابعة - اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا ؟ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم: كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه، وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان. الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضفدع، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك. والصحيح أكل ذلك كله، لانه نص على الخنزير في جواز أكله، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل. ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب. قال ابن عطية: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في " المدونة " فإنه قال: الضفادع من صيد البحر. وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه يراعي أكثر عيش الحيوان، سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر ؟ فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه، وهو قول أبي حنيفة. والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب. قال ابن العربي: الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه، لانه تعارض فيه دليلان، دليله تحليل ودليل تحريم، فيغلب دليل التحريم احتياطا. والله أعلم. (1) القرش: دابة مفترسة من دواب البحر الملح. والدلفين بالضم دابة بحرية تنجي الغريق، والعامة تقول: الدرفيل. (*)
[ 321 ]
الخامسة - قوله تعالى: (وللسيارة) فيه قولان: أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام، كما أحله لمن سافر. الثاني - أن السيارة هم الذين يركبونه، كما جاء في حديث مالك والنسائي: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] قال ابن العربي قاله علماؤنا: فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم [ نعم ] لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش، لان الجواب مرتبط بالسؤال، فكان يكون محالا عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة، وبيان الشرع فقال: [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ]. قلت: وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، إلا ما نص بالتخصيص عليه، كقوله لابي بردة في العناق: [ ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك ]. السادسة - قوله تعالى: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) التحريم ليس صفة للاعيان، إنما يتعلق بالافعال فمعنى قوله: " وحرم عليكم صيد البر " أي فعل الصيد، وهو المنع من الاصطياد، أو يكون الصيد بمعنى المصيد، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم، وهو الاظهر لاجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك، لعموم قوله تعالى: " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي. السابعة - اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحق، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني
[ 322 ]
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم ] قال أبو عيسى: هذا أحسن حديث في الباب، وقال النسائي: عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه. وبه قال الحسن بن صالح والاوزاعي، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه. والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقول عثمان لاصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم: كلوا فلستم مثلي لانه صيد من أجلي وبه قالت طائفة من أهل المدينة، وروي عن مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " فحرم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي - واسمه زيد بن كعب - عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق، من حديث مالك وغيره. وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه [ إنما هي طعمة أطعمكموها الله ]. وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الاحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد، لعموم قوله تعالى: " وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما ". قال ابن عباس: هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر ابن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه قال إسحق. واحتجوا بحديث الصعب ابن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا، وهو بالابواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال: [ إنا لم نرده عليك إلا إنا حرم ] خرجه الائمة واللفظ لمالك. قال أبو عمر: وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش، وقال سعيد بن جبير
[ 323 ]
في حديثه: عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت، وقال مقسم في حديثه رجل حمار وحش. وقال عطاء في حديثه: أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال: [ إنا حرم ]. وقال طاوس في حديثه: عضدا من لحم صيد، حدث به إسمعيل عن علي بن المديني (1)، عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم. قال إسمعيل: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لكان أكله جائزا، قال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث: فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت. قال إسمعيل: إنما تأول سليمان هذا الحديث لانه يحتاج إلى تأويل، فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل، لان المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه، قال إسمعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الاحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة [ فيها ] (2) إن شاء الله تعالى. الثامنة - إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وبه قال أبو ثور، [ وروي ] عن مجاهد وعبد الله بن الحرث مثله وروي عن مالك. وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر: عليه أن يرسله، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن. وجه القول بإرساله قوله تعالى: " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " وهذا عام في الملك والتصرف كله. ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الاحرام فلا يمنع من استدامة ملكه، أصله النكاح. التاسعة - فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه، وأكل لحمه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال، كالامساك والشراء ولا خلاف فيها. (1) هذه النسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم كان أصله منها ونزل على البصرة. (الانساب). (2) من ى. (3) من ع. (*)
[ 324 ]
العاشرة - إذا دل المحرم حلا على صيد فقتله الحلال اختلف فيه، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شئ عليه، وهو قول ابن الماجشون. وقال الكوفيون وأحمد وإسحق وجماعة من الصحابة والتابعين: عليه الجزاء، لان المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض، فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة. الحادية عشرة - واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر، فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاء. وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل، لقوله تعالى: " ومن قتله منكم متعمدا " فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره، ولانه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة: [ هل أشرتم أو أعنتم ] ؟ وهذا يدل على وجوب الجزاء. والاول أصح. والله أعلم. الثانية عشرة - إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء، لانه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين: الجزاء نظرا إلى الاصل، ونفيه نظرا إلى الفرع. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير. والله أعلم. قوله تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض وأن الله بكل شئ عليم (97) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (جعل الله الكعبة) جعل هنا بمعنى خلق وقد تقدم. وقد سميت الكعبة كعبة لانها مربعة وأكثر بيوت العرب مدورة وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها
[ 325 ]
وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، مستديرا كان أو غير مستدير. ومنه كعب القدم وكعوب القناة. وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها. والبيت سمي بذلك لانها ذات سقف وجدار، وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن. وسماه سبحانه حراما بتحريمه إياه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ] وقد تقدم أكثر هذا مستوفى والحمد لله. الثانية - قوله تعالى: (قياما للناس) أي صلاحا ومعاشا، لامن الناس بها، وعلى هذا يكون " قياما " بمعنى يقومون بها. وقيل: " قياما " أي يقومون بشرائعها. وقرأ ابن عامر وعاصم " قيما " وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقد قيل: " قوام ". قال العلماء: والحكمة في جعل الله تعالى هذه الاشياء قياما للناس، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر، والسلب والغارة والقتل والثأر، فلم يكن بد في الحكمة الالهية، والمشيئة الاولية من كاف يدوم معه (1) الحال ووازع يحمد معه المآل. قال الله تعالى: " إني جاعل في الارض خليفة " (2) [ البقرة: 30 ] فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعل أمورهم إلى واحد يزعهم (3) عن التنازع، ويحملهم على التآلف من التقاطع، ويرد الظالم عن المظلوم، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه. روى ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: ما يزع الامام أكثر مما يزع القرآن، ذكره أبو عمر رحمه الله. وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة، فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة، لتجري على رأيه الامور، ويكف الله به عادية الجمهور (4)، فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه. قال الله تعالى: " أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " (5) [ العنكبوت: 67 ]. قال العلماء: فلما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله كل خائف جعله الله الشهر الحرام ملجأ آخر وهي: (1) في ج، ك، ب وع: مع. (2) راجع ج 1 ص 271. (3) في ك: يزجرهم. (4) في الاصول: الامور. والتصويب من ابن العربي. (5) راجع ج 13 ص 363. (*)
[ 326 ]
الثالثة - وهو اسم جنس، والمراد الاشهر الثلاثة (1) بإجماع من العرب، فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا - أي نفسا - ولا يطلبون فيها دما ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. واقتطعوا فيها ثلث الزمان. ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة ومجالا للسياحة في الامن والاستراحة، وجعلوا منها واحدا منفردا في نصف العام دركا للاحترام، وهو شهر رجب الاصم ويسمى مضر، وإنما قيل له: [ رجب ] (2) الاصم، لانه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، ويسمى منصل الاسنة، لانهم كانوا ينزعون فيه الاسنة من الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف ابن الاحوص: وشهر بني أمية والهدايا * إذا سيقت مضرجها الدماء وسماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر الله، أي شهر آل الله، وكان يقال لاهله الحرم: آل الله. ويحتمل أن يريد شهر الله، لان الله متنه (3) وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه. وسيأتي في " براءة " (4) أسماء الشهور إن شاء الله. ثم يسر لهم الالهام، وشرع (5) على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد، وهي: الرابعة - فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما، أو علقوا عليه نعلا، أو فعل ذلك الرجل بنفسه من التقليد - على ما تقدم بيانه أول السورة - لم يروعه أحد حيث لقيه، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه حتى جاء الله بالاسلام وبين الحق بمحمد عليه السلام، فانتظم الدين في سلكه، وعاد الحق إلى نصابه، فأسندت الامامة إليه، وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض " (6) [ النور: 55 ] الآية. وقد مضى في " البقرة " (7) أحكام الامامة فلا معنى لاعادتها. الخامسة - قوله تعالى: (ذلك لتعلموا) " ذلك " إشارة إلى جعل الله هذه الامور قياما، والمعنى فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والارض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم. (1) كذا في الاصول وصوابه: الاربعة. (2) من ب وج وك وه‍ وع. (3) في ب وج وك وه‍ وز: سنه. (4) راجع ج 8 ص 132 فما بعدها. (5) في ب وج وك وه‍ وز: أو شرعا. أي يسر إلهاما أو شرعا. الخ. (6) راجع ج 12 ص 297. (7) راجع ج 1 ص 263 فما بعدها. (*)
[ 327 ]
قوله تعالى: اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (98) قوله تعالى: (اعلموا أن الله شديد العقاب) تخويف (وأن الله غفور رحيم) ترجية. وقد تقدم هذا المعنى. قوله تعالى: ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99) قوله تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ) أي ليس له الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ وفي هذا رد على القدرية كما تقدم. وأصله البلاغ البلوغ، وهو الوصول. بلغ يبلغ بلوغا، وأبلغه إبلاغا، وتبلغ تبلغا، وبالغه مبالغة، وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لانها إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ. وتبالغ الرجل إذا تعاطى البلاغة وليس ببليغ، وفي هذا بلاغ أي كفاية، لانه يبلغ مقدار الحاجة. (والله يعلم ما تبدون) أي تظهرونه، يقال: بدا السر وأبداه صاحبه يبديه. (وما تكتمون) أي ما تسرونه وتخفونه في قلوبكم من الكفر والنفاق. قوله تعالى: قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الالباب لعلكم تفلحون (100) قوله تعالى: (قل لا يستوى الخبيث والطيب). فيه ثلاث مسائل: الاولى: قال الحسن: " الخبيث والطيب " الحلال والحرام. وقال السدي: المؤمن والكافر. وقيل: المطيع والعاصي. وقيل: الردئ والجيد، وهذا على ضرب المثال. والصحيح أن اللفظ عام في جميع الامور، يتصور في المكاسب والاعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع (1) جميل العاقبة. قال الله تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه (1) في ج: نافع حميد جميل. الخ. (*)
[ 328 ]
والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " (1) [ الاعراف: 58 ]. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملو الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " (2) [ ص: 28 ] وقوله " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " (3) [ الجاثية: 21 ]، فالخبيث لا يساوي الطيب مقدارا ولا إنفاقا، ولا مكانا ولا ذهابا، فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشمال، والطيب في الجنة، والخبيث في النار وهذا بين. وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة (4) واحدة، ومثله الاستقامة وضدها الاعوجاج. ولما كان هذا وهي: الثانية - قال بعض علمائنا: إن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن، فيستوي في إمضائه مع البيع الصحيح، بل يفسخ أبدا، ويرد الثمن على المبتاع إن كان قبضه، وإن تلف في يده ضمنه، لانه لم يقبضه على الامانة، وإنما قبضه بشبهة عقد. وقيل: لا يفسخ نظرا إلى أن البيع إذا فسخ ورد بعد الفوت يكون فيه ضرر وغبن على البائع، فتكون السلعة تساوي مائة وترد عليه وهي تساوي عشرين، ولا عقوبة في الاموال. والاول أصح لعموم الآية، ولقوله عليه السلام: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ]. قلت: وإذا تتبع هذا المعنى في عدم الاستواء في مسائل الفقه تعددت وكثرت، فمن ذلك الغاصب وهي: الثالثة - إذا بنى في البقعة المغصوبة أو غرس إنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس، لانه خبيث، وردها، خلافا لابي حنيفة في قوله: لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده قوله عليه السلام: [ ليس لعرق ظالم (5) حق ]. قال هشام: العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره ليستحقها بذلك. قال مالك: العرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس في غير حق. قال مالك: من غصب أرضا فزرعها، أو أكراها، أو دارا فسكنها (1) راجع ج 7 ص 231. (2) راجع ج 15 ص 191. (3) راجع ج 16 ص 165. (4) في ب وج وك وه‍ وع: حرمة. (5) الرواية (لعرق) بالتنوين، وهو على حذف مضاف أي لذي عرق ظالم، فجعل العرق نفسه ظالما والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق. وإن روى (عرق) بالاضافة فيكون الظالم صاحب العرق والحق للعرق وهو أحد عروق الشجرة. (غاية النهاية). (*)
[ 329 ]
أو أكراها، ثم استحقها ربها أن على الغاصب كراء ما سكن ورد ما أخذ في الكراء. واختلف قوله إذا لم يسكنها أو لم يزرع الارض وعطلها، فالمشهور من مذهبه أنه ليس عليه فيه شئ، وقد روى عنه أنه عليه كراء ذلك كله. واختاره الوقار (1)، وهو مذهب الشافعي، لقوله عليه السلام: [ ليس لعرق ظالم حق ] وروى أبو داود عن أبي الزبير أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الارض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها، وأنها لتضرب أصولها بالفؤس حتى أخرجت منها وإنها لنخل عم (2). وهذا نص. قال ابن حبيب: والحكم فيه أن يكون صاحب الارض مخيرا على الظالم، إن شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعا، وإن شاء نزعه من أرضه، وأجر النزع على الغاصب. وروى الدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من بنى في رباع (3) قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض ] قال علماؤنا: إنما تكون له القيمة، لانه بنى في موضع يملك منفعته. وذلك كمن بنى أو غرس بشبهة فله حق، إن شاء رب المال أن يدفع إليه قيمته قائما، وإن أبى قيل للذي بنى أو غرس: ادفع إليه قيمة أرضه براحا (4)، فإن أبى كانا شريكين. قال ابن الماجشون: وتفسير اشتراكهما أن تقوم الارض براحا، ثم تقوم بعمارتها فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحا كان العامل شريكا لرب الارض فيها، إن أحبا قسما أو حبسا. قال ابن الجهم (5): فإذا دفع رب الارض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كراؤها فيما مضى من السنين. وقد روي عن ابن القاسم وغيره أنه إذا بنى رجل في أرض رجل بإذنه ثم وجب له إخراجه، فإنه يعطيه قيمة بنائه مقلوعا. والاول أصح لقوله عليه السلام: (فله القيمة) وعليه أكثر الفقهاء. الرابعة - قوله تعالى: (ولو أعجبك كثرة الخبيث) قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه الخبيث. وقيل: المراد به النبي (1) هو زكريا بن يحيى المصري. (2) عم: أي تامة. في طولها والتفافها، واحدتها عميمة وأصلها عمم فسكن وأدغم. (3) رباع (جمع ربع): وهو المنزل. (4) البراح: (بالفتح): المتسع من الارض لا زرع فيه ولا شجر. (5) في ك: أبو الجهم. (*)
[ 330 ]
صلى الله عليه وسلم نفسه، وإعجابه له أنه صار عنده عجبا مما يشاهده من كثرة الكفار والمال الحرام، وقلة المؤمنين والمال الحلال. (فاتقوا الله يا أولي الالباب لعلكم تفلحون) تقدم معناه. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (102) فيه عشر مسائل: الاولى: روى البخاري ومسلم وغيرهما - واللفظ للبخاري - عن أنس قال قال رجل: يا نبي الله، من أبي ؟ قال: " أبوك فلان " [ قال ] (1) فنزلت " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " (2) الآية. وخرج أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: [ فوالله لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ] فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يارسول الله ؟ قال: [ النار ]. فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله فقال: [ أبوك حذافة ] وذكر الحديث قال ابن عبد البر: عبد الله بن حذافة أسلم قديما، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا وكانت فيه دعابة (3)، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم، ولما قال من أبي يا رسول الله، قال: [ أبوك حذافة ] قالت له أمه: ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ! فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به. وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (4) [ آل عمران: 97 ]. قالوا: يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام ؟ قال: [ لا ولو قلت نعم لوجبت ]، فأنزل الله تعالى: (1) من ج وب وه‍ وع. (2) من ب وج وه‍ وع. (3) الدعابة: المزاح. (4) راجع ج 4 ص 137. (*)
[ 331 ]
" يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " إلى آخر الآية. واللفظ للدارقطني سئل البخاري عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن إلا أنه مرسل، أبو البختري لم يدرك عليا، واسمه سعيد. وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يا أيها الناس كتب عليكم الحج ] فقام رجل فقال: في كل عام يارسول الله ؟ (1) فأعرض عنه، ثم عاد فقال: في كل عام يا رسول الله ؟ فقال: (ومن القائل) ؟ قالوا: فلان، قال: [ والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم ] فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " الآية. وقال الحسن البصري في هذه الآية: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه. وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وهو قول سعيد بن جبير، وقال: ألا ترى أن بعده: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " [ المائدة: 103 ]. قلت: وفي الصحيح والمسند كفاية. ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض. والله أعلم. و " أشياء " وزنه أفعال، ولم يصرف لانه مشبه بحمراء، قاله الكسائي. وقيل: وزنه أفعلاء، كقولك: هين وأهوناء، عن الفراء والاخفش ويصغر فيقال: أشياء، قال المازني: يجب أن يصغر شييات كما يصغر أصدقاء، في المؤنث صديقات وفي المذكر صديقون. الثانية - قال ابن عون: سألت نافعا عن قوله تعالى " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " فقال: لم تزل المسائل منذ قط تكره. روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إن الله حرم عليكم عقوق الامهات وواد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ]. قال كثير (2) من العلماء: المراد (1) بحدف ؟ ؟ الاستفهام في هذه الرواية كما في الدارقطني. (2) في ك: جماعة. (*)
[ 332 ]
بقوله [ وكثرة السؤال ] التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والاغلوطات وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف (1)، ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسئول لها. قال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الامير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الاموال والحوائج إلحاحا واستكثارا، وقاله أيضا مالك وقيل: المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم. وهذا مثل قوله تعالى: " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا " (2) [ الحجرات: 12 ]. قال ابن خويزمنداد: ولذلك قال [ بعض ] (3) أصحابنا متى قدم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عرض عليه شئ يشتريه لم يسأل من أين هو، وحمل أمور المسلمين على السلامة والصحة. قلت: والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها. والله أعلم. (4) الثالثة - قال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك، لان هذه الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه، ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا. قلت قوله: اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح، وإنما كان الاولى به أن يقول: ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل، لكنه جرى على عادته، وإنما قلنا كان أولى به، لانه قد كان قوم من السلف يكرهها. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن، ذكره الدارمي في مسنده، وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الانصاري كان يقول إذا سئل عن الامر: أكان هذا ؟ فإن قالوا: نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا: لم يكن قال فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال: (1) أي لا يجب إلا ببيان، قال ابن العربي قوله تعالى: (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) يشهد لكونها من باب التكليف الذي لا يبينه إلا نزول القرآن وجعل نزول القرآن سببا لوجوب الجواب. (2) راجع ج 16 ص 330. (3) من ع. (4) وجد في ى سند عن الشيخة شهدة بنت أبي نصر الدينوري لحادثة تركناه لوروده في ج 10 ص 5. (*)
[ 333 ]
هل كان هذا بعد ؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم. قال الدارمي: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، قال حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن " يسألونك عن الشهر الحرام " (1) [ البقرة: 217 ]، " ويسألونك عن المحيض " [ البقرة: 222 ] [ وشبهه ] (2) ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. الرابعة - قال ابن عبد البر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي (3) السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الادلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد، فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها، ونشدت في مظانها، والله يفتح في صوابها. الخامسة - قوله تعالى: (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) فيه غموض، وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال ثم قال: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " فأباحه لهم، فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في " عنها " ترجع إلى أشياء أخر، كقوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " [ المؤمنون: 12 ] يعني آدم، ثم قال: " ثم جعلناه نطفة " (4) [ المؤمنون: 13 ] أي ابن آدم، لان آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الانسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال، فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم، فقد أباح هذا النوع من السؤال: ومثاله أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، (1) راجع ج 3 ص 40 وص 80. (2) من ك. (3) العى: الجهل. (4) راجع ج 12 ص 108. (*)
[ 334 ]
ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل، فسألوا عنها فنزل " واللآئي يئسن من المحيض " (1) [ الطلاق: 4 ]. فالنهي إذا في شئ لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، فأما ما مست الحاجة إليه فلا. السادسة - قوله تعالى: (عفا الله عنها) أي عن المسألة التي سلفت منهم. وقيل: عن الاشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها. وقيل: العفو بمعنى الترك، أي تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه ساءكم. وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله، ثم يتلو هذه الآية. وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ] والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير، أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما. وقيل: ليس فيه تقديم ولا تأخير، بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعودوا لامثالها. فقوله: " عنها " أي عن المسألة، أو عن السؤالات كما ذكرناه. السابعة - قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الامم. والله أعلم. الثامنة - إن قال قائل: ما ذكرتم من كراهية السؤال والنهى عنه، يعارضه قوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " (3) [ النحل: 43 ] فالجواب، أن هذا الذي أمر الله به عباده (1) راجع ج 18 ص 162. (2) في ك: وقد فرضا. (3) راجع ج 10. (*)
[ 335 ]
هو ما تقرر وثبت وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذي جاء فيه النهي هو ما لم يتعبد الله عباده به، ولم يذكره في كتابه. والله أعلم. التاسعة - روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته ]. قال القشيري أبو نصر: ولو لم يسأل العجلاني عن الزنى لما ثبت اللعان. قال أبو الفرج الجوزي: هذا محمول على من سأل عن الشئ عنتا وعبثا فعوقب بسوء قصده بتحريم ما سأل عنه، والتحريم يعم. العاشرة - قال علماؤنا: لا تعلق للقدرية بهذا الحديث في أن الله تعالى يفعل شيئا من أجل شئ وبسببه، تعالى الله عن ذلك، فإن الله على كله شئ قدير، وهو بكل شئ عليم، بل السبب والداعي فعل من أفعاله، لكن سبق القضاء والقدر أن يحرم الشئ المسئول عنه إذا وقع السؤال فيه، لا أن السؤال موجب للتحريم، وعلة له، ومثله كثير " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " [ الانبياء: 23 ]. (1) قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ما جعل الله). جعل هنا بمعنى سمى، كما قال تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا " (2) [ الزخرف: 3 ] أي سميناه. والمعنى في هذه الآية ما سمى الله، ولا سن ذلك حكما، ولا تعبد به شرعا، بيد أنه قضى به علما، وأوجده بقدرته وإرادته خلقا، فإن الله خالق كل شئ من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية. الثانية - قوله تعالى: " من بحيرة ولا سائبة " " من " زائدة. والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي على وزن النطيحة والذبيحة. وفي الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. وأما السائبة فهي التي كانوا (1) راجع ج 11 ص 278. (2) راجع ج 16 ص 61. (*)
[ 336 ]
يسيبونها لآلهتهم. وقيل: البحيرة لغة هي الناقة المشقوقة الاذن، يقال بحرت أذن الناقة أي شققتها شقا واسعا، والناقة بحيرة ومبحورة، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البجيرة هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة (1) بحيرة. قال ابن إسحق: البحيرة هي ابنة السائبة، والسائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلي سبيلها مع أمها، فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعي: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت، قال: محرمة لا يطعم الناس لحمها * ولا نحن في شئ كذاك البحائر وقال ابن عزيز (2): البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها - أي شقوه (3) - وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها - وقاله عكرمة - فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تجس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد، وقال به أبو عبيد، قال الشاعر: وسائبة لله تنمي (4) تشكرا * إن الله عافى عامرا أو مجاشعا وقد يسيبون غير الناقة، وكانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه ولاء. وقيل: السائبة هي المخلاة لا قيد عليها، ولا راعي لها، فاعل بمعنى مفعول، نحو " عيشة راضية " أي مرضية. من سابت الحية وانسابت، قال الشاعر: عقرتم ناقة كانت لربي * وسائبة فقوموا للعقاب وأما الوصيلة والحام، فقال ابن وهب قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الابل والغنم يسيبونها، فأما الحام فمن الابل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس (1) قال ابن عطية: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر. (2) كذا في ج وا وك. ولعله أبو بكر محمد بن عزيز - كزبير - السجستاني صاحب غريب القرآن وصحح بأنه عزير بزاء وراء مهملة، كما في ى وب وز، والتاج مادة عزز وفيه عزا هذا التعريف لابن عرفة عن الازهري. (3) كذا في الاصول. والاذن مؤنثة. (4) نمت الناقة سمنت. (*)
[ 337 ]
وسيبوه، وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة في الغنم، قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الانثى حراما على النساء إلا أن يموت منهما شئ فيأكله الرجال والنساء. والحامي الفحل إذا ركب ولد ولده. قال: حماها أبو قابوس في عز ملكه * كما قد حمى أولاد أولاده الفحل ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهر فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء. وقال ابن إسحق: الوصيلة الشاة إذا أتامت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الاناث، إلا أن يموت شئ منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم. الثالثة - روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه (1) في النار وكان أول من سيب السوائب ] وفي رواية [ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار ]. وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاكثم بن الجون: [ رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ] فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال: [ لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسمعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي ] وفي رواية: [ رأيته رجلا قصيرا أشعر له وفرة (2) يجر قضبه في النار ]. وفي رواية ابن القاسم وغيره عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إنه يؤذي أهله النار بريحه ]. مرسل ذكره ابن العربي وقيل: إن أول من ابتدع ذلك جنادة بن عوف. والله أعلم. وفي الصحيح كفاية. وروى ابن إسحق: أن سبب نصب الاوثان (3)، وتغيير دين إبراهيم عليه السلام (1) القصب: المعي. (2) الوفرة - شعر الرأس إذا وصل شحمة الاذن. (3) في ك: الاصنام. (*)
[ 338 ]
عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب (1) من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق - ويقال عملاق - بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الاصنام فقال لهم: ما هذه الاصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا: هذه أصنام نستمطر بها فنمطر، ونستنصر بها فننصر، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه ؟ فأعطوه صنما يقال له: (هبل) فقدم به مكة فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه " ما جعل الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ". " ولكن الذين كفروا " يعني من قريش وخزاعة ومشركي العرب " يفترون على الله الكذب " بقولهم: إن الله أمر بتحريمها، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لرضا ربهم في طاعة الله، وطاعة الله إنما تعلم من قوله، ولم يكن عندهم من الله بذلك قول، فكان ذلك مما يفترونه على الله. وقالوا: " ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا " [ الانعام: 139 ] يعني من الولد والالبان " ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة " [ الانعام: 139 ] يعني إن وضعته ميتا اشترك فيه الرجال والنساء، فذلك قوله عزوجل: " فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم " [ الانعام: 139 ] أي بكذبهم العذاب في الآخرة " إنه حكيم عليم " (2) [ الانعام: 139 ] أي بالتحريم والتحليل. وأنزل عليه: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون " (3) [ يونس: 59 ] وأنزل عليه: " ثمانية أزواج " (2) [ الانعام: 143 ] وأنزل عليه: " وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه " (2) [ الانعام: 138 ] الآية. الرابعة - تعلق أبو حنيفة رضي الله عنه في منعه الاحباس ورده الاوقاف، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعله من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة والفرق بين. ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال: هذه تكون حبسا، لا يجتنى ثمرها، ولا تزرع أرضها، ولا ينتفع منها بنفع، لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة. وقد قال علقمة لمن سأله عن هذه الاشياء: ما تريد إلى شئ كان من عمل أهله الجاهلية وقد ذهب. وقال نحوه ابن زيد. وجمهور العلماء على القول بجواز الاحباس والاوقاف ما عدا أبا حنيفة (1) مآب (بهمزة مفتوحة بعدها ألف): مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. (معجم ياقوت). (2) راجع ج 7 ص 95. (3) راجع ج 8 ص 354. (*)
[ 339 ]
وأبا يوسف وزفر، وهو قول شريح إلا أن أبا يوسف رجع عن قول أبى حنيفة في ذلك لما حدثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ احبس الاصل وسبل الثمرة ] (1). وبه يحتج كل من أجاز الاحباس، وهو حديث صحيح قاله أبو عمر. وأيضا فإن المسألة إجماع من الصحابة وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الاوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروى أن أبا يوسف قال لمالك بحضرة الرشيد: إن الحبس لا يجوز، فقال له مالك: هذه الاحباس أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه. وأما ما احتج به أبو حنيفة من الآية فلا حجة فيه، لان الله سبحانه إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع، وإذهاب نعمة الله تعالى، وإزالة المصلحة التي للعباد في تلك الابل. وبهذا فارقت هذه الامور الاحباس والاوقاف. ومما احتج به أبو حنيفة وزفر ما رواه عطاء عن ابن المسيب قال: سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر (2) من ولده فقال: لا حبس عن فرائض الله، قالوا: فهذا شريح قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين حكم بذلك. واحتج أيضا بما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى، عن عكرمة عن ابن عباس، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدما أنزلت سورة " النساء " وأنزل الله فيها الفرائض: ينهى عن الحبس. قال الطبري: الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته على ما أذن الله به على لسان نبيه وعمل به الائمة الراشدون رضي الله عنهم ليس من الحبس عن فرائض الله، ولا حجة في قول شريح ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق، وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله في آخر عمره، وأخوه غير معروف فلا حجة فيه، قاله ابن القصار. فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الارض بالوقف عن ملك أربابها لا إلى ملك مالك ؟ قال الطحاوي يقال لهم: وما ينكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الارض يجعلها (1) أي اجعلها وقفا: وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه. (2) في ك: الآخرين. (*)
[ 340 ]
صاحبها مسجدا للمسلمين، ويخلي بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير مالك، ولكن إلى الله تعالى، وكذلك السقايات والجسور والقناطر، فما ألزمت مخالفك في حجتك عليه يلزمك في هذا كله. والله أعلم. الخامسة - اختلف المجيزون للحبس فيما للمحبس من التصرف، فقال الشافعي: ويحرم على الموقف ملكه كما يحرم عليه ملك رقبة العبد، إلا أنه جائز له أن يتولى صدقته، وتكون بيده ليفرقها ويسلبها فيما أخرجها فيه، لان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يزل يلي صدقته - فيما بلغنا - حتى قبضه الله عزوجل قال: وكذلك علي وفاطمة رضي الله عنهما كانا يليان صدقاتهما، وبه قال أبو يوسف وقال مالك: من حبس أرضا أو نخلا أو دارا على المساكين وكانت بيده يقوم بها ويكريها ويقسمها في المساكين حتى مات والحبس في يديه، أنه ليس بحبس ما لم يجزه غيره وهو ميراث، والربع (1) عنده والحوائط والارض لا ينفذ حبسها، ولا يتم حوزها، حتى يتولاه غير من حبسه، بخلاف الخيل والسلاح، هذا محصل مذهبه عند جماعة أصحابه (2)، وبه قال ابن أبي ليلى. السادسة - لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه، لانه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشئ منه رجوع في صدقته، وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو أن يفتقر المحبس (3)، أو ورثته فيجوز لهم الاكل منه. ذكر ابن حبيب عن مالك قال: من حبس أصلا تجري غلته على المساكين فإن ولده يعطون منه إذا آفتقروا - كانوا يوم حبس أغنياء أو فقراء - غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس ولكن يبقى منه سهم للمساكين ليبقى عليه اسم الحبس، ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على سبيل المسكنة، وليس على حق لهم دون المساكين. السابعة - عتق السائبة جائز، وهو أن يقول السيد لعبده أنت حر وينوي العتق، أو يقول: أعتقتك سائبة، فالمشهور من مذهب مالك عند جماعة أصحابه أن ولاءه لجماعة المسلمين، وعتقه نافذ، هكذا روى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وغيرهم، وبه (1) الربع: محلة القوم ومنزلهم. (2) في ك: عند جماعة من.. الخ. (3) في ج: للحبس. (*)
[ 341 ]
قال ابن وهب، وروى ابن وهب عن مالك قال: لا يعتق أحد سائبة، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته، قال ابن عبد البر: وهذا عند كل من ذهب مذهبه، إنما هو محمول على كراهة عتق السائبة لا غير، فإن وقع نفذ وكان الحكم فيه ما ذكرناه. وروى ابن وهب أيضا وابن القاسم عن مالك أنه قال: أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه، فإن وقع نفذ وكان ميراثا لجماعة المسلمين، وعقله عليهم. وقال أصبغ: لا بأس بعتق السائبة ابتداء، ذهب إلى المشهور من مذهب مالك، وله احتج إسمعيل [ القاضي ] (1) ابن إسحق وإياه تقلد. ومن حجته في ذلك أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم، وأن عبد الله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا سائبة. وروي ابن شهاب وربيعة وأبي الزناد وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي العالية وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم. قلت: أبو العالية الرياحي البصري التميمي (2) - رضى الله عنه - ممن أعتق سائبة، أعتقته مولاة له من بني رياح سائبة لوجه الله تعالى، وطافت به على حلق المسجد، واسمه رفيع بن مهران، وقال ابن نافع: لا سائبة اليوم في الاسلام، ومن أعتق سائبة كان ولاؤه له، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن الماجشون، ومال إليه ابن العربي، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: [ من أعتق سائبة فولاؤه له ] وبقوله: [ إنما الولاء لمن أعتق ]. فنفى أن يكون الولاء لغير معتق، واحتجوا بقوله تعالى: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة " وبالحديث [ لا سائبة في الاسلام ] وبما رواه أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل قال: قال رجل لعبد الله: إني أعتقت غلاما لي سائبة فماذا ترى فيه ؟ فقال عبد الله: إن أهل الاسلام لا يسيبون، إنما كانت تسيب الجاهلية، أنت وارثه وولي نعمته. قوله تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104) (1) من ك. (2) في الاصول: التيمي. والصواب ما أثبت. (*)
[ 342 ]
قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) الآية تقدم معناها والكلام عليها في " البقرة " (1) فلا معنى لاعادتها. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105) فيه أربع مسائل: الاولى - قال علماؤنا: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الانسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى. الثانية: قوله تعالى: " عليكم أنفسكم " معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي، تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا، ولا يجوز عليه زيدا، بل إنما يجرى هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ عليك زيدا أي خذ زيدا، وعندك عمرا (2) أي حضرك، ودونك (2) زيدا أي قرب منك، وأنشد: * يا أيها المائح (3) دلوي دونكا * وأما قوله: عليه رجلا ليسني، فشاذ. الثالثة - روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (1) راجع ج 2 ص 210 وما بعدها. (2) كذا في الاصول. والمتبادر أن هذا إغراء، أي خذه. (3) المانح: هو الذي ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها فيملا الدلو. وتمامه: * إني رأيت الناس يحمدونكا *
[ 343 ]
[ إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ]. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قال إسحق بن إبراهيم (1) سمعت عمرو بن علي يقول سمعت وكيعا يقول: لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد، قلت: ولا إسمعيل عن قيس، قال: إن إسمعيل روى عن قيس موقوفا. قال النقاش: وهذا إفراط من وكيع، رواه شعبة عن سفيان وإسحق عن إسمعيل مرفوعا، وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال: أية آية ؟ قلت: قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ بل ] (2) ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ]. وفي رواية قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال: [ بل أجر خمسين منكم ]. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عبد البر قوله: [ بل منكم ] هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها، وقد تقدم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا ] قال: هذا حديث غريب. وروى عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية، قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الايام فلم تأمر ولم تنه ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: [ ليبلغ الشاهد الغائب ] ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. في رواية عن ابن عمر بعد قوله: [ ليبلغ الشاهد الغائب ] فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية (1) في ك: ابن راهويه. وهو ابن إبراهيم. (2) الزيادة عن الترمذي. (*)
[ 344 ]
لاقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا، لم يقبل منهم. وقال ابن المبارك قوله تعالى: " عليكم أنفسكم " خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهله دينكم، كقوله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم " فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضا، ولينه بعضكم بعضا، فهو دليل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وهذا لان الامر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم، وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير. وقال سعيد بن المسيب: معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن خويزمنداد: تضمنت الآية اشتغال الانسان بخاصة نفسه، وتركه التعرض لمعائب الناس، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى: " كل نفس بما كسبت رهينة " (1) [ المدثر: 38 ]، " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (2) [ الانعام: 164 ]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ كن جليس (3) بيتك وعليك بخاصة نفسك ]. ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه. قلت: قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة: قال حدثنا بكر بن سوادة الجذامي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك ]. قال علماؤنا: إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان، وفساد الاحوال، وقلة المعينين. وقال جابر بن زيد: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب، عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين، لا يضركم ضلال الاسلاف إذا اهتديتم، قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت، فأنزل الله الآية بسبب ذلك. وقيل: الآية في أهل الاهواء الذين لا ينفعهم الوعظ، فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم. وقيل: نزلت في الاسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم، فقيل لمن بقي على الاسلام: عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم. وقال: سعيد بن جبير: هي (1) راجع ج 19 ص 85. (2) راجع ج 7 ص 157. (3) في ب، ع، ه‍: حلس بالمهملة: وهو بساط في البيت، وحلس بيته إذا لم يبرح مكانه. (*)
[ 345 ]
في أهل الكتاب - وقال مجاهد: في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم، يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية. وقيل: هي منسوخة بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، قاله المهدوي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله. قلت: قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية. قال غيره: الناسخ منها قوله: " إذا اهتديتم " والهدى هنا هو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم. الرابعة - الامر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا ف‍ " عليكم أنفسكم " محكم (1) واجب أن يوقف عنده. ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم، وعلى هذا جماعة أهل (2) العلم فاعلمه. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلوة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين (106) فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاولين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لن (1) في ج، ك: حكم. (2) في ك: من أهل العلم. (*)
[ 346 ]
الظالمين (107) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمن بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين (108) فيه سبع وعشرون مسألة: الاولى - قال مكي - رحمه الله -: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما، قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الثلج (1) في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله. قلت: ما ذكره مكي - رحمه الله - ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء. روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي [ بن بداء ] (2) يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما (3) من فضة مخوصا بالذهب، ؟ ؟ فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما كتمتما ولا اطلعتما) ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا، قال: فأخذوا الجام، وفيهم نزلت هذه الآية. لفظ الدارقطني. وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء - وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الاسلام، فأتيا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل ابن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم (1) ثلجت النفس بالشئ ثلجا اشتقت به واطمأنت إليه، وقيل: عرفته وسرت به. 2) من ع. (3) الجام إناء من فضة، وجام مخوص أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل. (*)
[ 347 ]
اقتسمناها أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره، قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع (1) به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى قوله " بعد أيمانهم " فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تميم وأخيه عدي، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج مع تميم وأخيه عدي، وذكر الحديث. وذكر النقاش قال: نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي، كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي، ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال: أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال، منقوشا (2) مموها بالذهب، وذكر الحديث. وذكره سنيد وقال: فلما قدموا الشام مرض بديل وكان مسلما، الحديث. الثانية - وقوله تعالى: " شهادة بينكم " ورد " شهد " في كتاب الله تعالى بأنواع (3) مختلفة: منها قوله تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " [ البقرة: 282 ] قيل: معناه أحضروا. ومنها " شهد " بمعنى قضى أي أعلم، قاله أبو عبيدة كقوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " (4) [ آل عمران: 18 ]. ومنها " شهد " بمعنى أقر، كقوله تعالى: " والملائكة يشهدون " (5) [ النساء: 166 ]. ومنها " شهد " بمعنى حكم، قال الله تعالى: " وشهد شاهد من أهلها " (6) [ يوسف: 26 ]. ومنها " شهد " بمعنى حلف، كما في اللعان. " وشهد " (1) يقطع: يعظم. (2) في ع: موشا بالذهب. (3) أراد بمعان. (4) راجع ج 4 ص 40. (5) راجع ج 6 ص 19. (6) راجع ج 9 ص 172. (*)
[ 348 ]
بمعنى وصى، كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ". وقيل: معناها هنا الحضور للوصية، يقال: شهدت وصية فلان أي حضرتها. وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين، فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال. وسميت اليمين شهادة، لانه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين. الثالثة - قوله تعالى: " بينكم " قيل: معناه ما بينكم فحذفت " ما " وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسما على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة، كما قال * يوما شهدناه سليما وعامرا (1) * أراد شهدنا فيه. وقال تعالى: " بل مكر الليل والنهار " (2) [ سبأ: 33 ] أي مكركم فيهما. وأنشد: تصافح من لاقيت لي ذا عداوة * صفاحا وعني بين عينيك منزوي أراد ما بين عينيك فحذف، ومنه قوله تعالى: " هذا فراق بيني وبينك " (3) [ الكهف: 78 ] أي ما بيني وبينك. الرابعة - قوله تعالى: (إذا حضر) معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت (4). وهذا كقوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " (5) [ النحل: 98 ]. وكقوله: " إذا طلقتم النساء فطلقوهن " (6) [ الطلاق: 1 ] ومثله كثير. والعامل في " إذا " المصدر الذي هو " شهادة ". الخامسة - قوله تعالى: (حين الوصية اثنان) " حين " ظرف زمان والعامل فيه " حضر " وقوله: " اثنان " يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك: " ذوا عدل " بين أنه أراد رجلين، لانه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن " ذواتا " (7) [ الرحمن: 48 ] لا يصلح إلا للمؤنث. وارتفع " اثنان " على أنه خبر المبتدأ الذي هو " شهادة " (1) هذا صدر بيت لرجل من بني عامر، وتمامه: * قليل سواى الطعن النهال نوافله * وسلم عامر قبيلتان من قيس عيلان. (2) راجع ج 14 ص 302. (3) راجع ج 11 ص 24. (4) في ك: لميت. (5) راجع ج 10 ص 174. (6) راجع ج 18 ص 148. (7) راجع ج 17 ص 178. (*)
[ 349 ]
قال أبو علي " شهادة " رفع بالابتداء والخبر في قوله: " اثنان " التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقام المضاف (1) إليه مقامه، كما قال تعالى: " وأزواجه أمهاتهم " (2) [ الاحزاب: 6 ] أي مثل أمهاتهم. ويجوز أن يرتفع " اثنان " ب‍ " - شهادة "، التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان. السادسة - قوله تعالى: (ذوا عدل منكم) " ذوا عدل " صفة لقوله: " اثنان " و " منكم " صفة بعد صفة. وقوله: " أو آخران من غيركم " أي أو شهادة آخرين من غيركم، فمن غيركم صفة لآخرين. وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: الاول - أن الكاف والميم في قوله: " منكم " ضمير للمسلمين " وآخران من غيركم " للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الاشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الاحاديث. وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، أبو موسى الاشعري وعبد الله بن قيس (3)، وعبد الله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الارض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة (4) أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما. هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الاشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر، وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني، وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم. وقال به من الفقهاء سقيان الثوري، ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به. واختاره أحمد بن حنبل وقال: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر (1) ينبغي بناء الفعل للمجهول. (2) راجع ج 14 ص 121. (3) كذا في الاصول. وابن قيس هو أبو موسى. ولعل الصواب عبد الله بن مسعود كما يستفاد من أحكام الجصاص. (4) كذا في ب، ج، ع، ك، ه‍، ز وفي ا: الشهادة. (*)
[ 350 ]
عند عدم المسلمين كلهم يقولون " منكم " من المؤمنين ومعنى " من غيركم " يعني الكفار. قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت (1) ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الاوثان وأنواع الكفرة. والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما. القول الثاني - أن قوله سبحانه: " أو آخران من غيركم " منسوخ، هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك، والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى: " ممن ترضون من الشهداء " (2) [ البقرة: 282 ] وقوله: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " (2) [ الطلاق: 2 ]، فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل، وأن فيها " ممن ترضون من الشهداء " فهو ناسخ لذلك، ولم يكن الاسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت شهادة أهله الكتاب، وهو اليوم طبق الارض فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز، والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم. قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه، وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم، وأما مع وجود مسلم فلا، ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل، وقد قال بالاول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره، ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة " المائدة " من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ، فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات، ولانه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما قالوه ناسخ. القول الثالث - أن الآية لا نسخ فيها، قاله الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله: " منكم " أي من عشيرتكم وقرابتكم، لانهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان (3). (1) المتبادر أن العبارة: إن الآية نزلت في حادثة ولا مؤمن الخ. (2) راجع ج 3 ص 395، وص 157 ج 18. (3) في ك: عن الشنآن. (*)
[ 351 ]
ومعنى قوله: (أو آخران من غيركم) أي من غير القرابة والعشيرة، قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية، وذلك أن معنى " آخر " في العربية من جنس الاول، تقول: مررت بكريم وكريم آخر، فقوله " آخر " يدل على أنه من جنس الاول، ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر، ولا مررت برجل وحمار آخر، فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: " أو آخران من غيركم " أي عدلان، والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قول من قال " من غيركم " من غير عشيرتكم من المسلمين. وهذا معنى حسن من جهة اللسان، وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله، لان المعنى عندهم " من غيركم " من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية " يأيها الذين آمنوا " فخوطب الجماعة من المؤمنين. السابعة - استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم، قال: ومعنى " أو آخران من غيركم " أي من غير أهل دينكم، فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض، فيقال له: أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية، لانها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها. فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق، ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه، وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلان تقبل على أهل الذمة أولى، ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين، فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه، وهذا ليس بشئ، لان قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين، فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الاصل فلان تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى. والله أعلم. الثامنة - قوله تعالى: (إن أنتم ضربتم في الارض) أي سافرتم، وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الارض " فأصابتكم مصيبة الموت " فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم، ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما،
[ 352 ]
وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة، أي تستوثقوا منهما، وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة، قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمي، ورزية كبرى، فأعظم منه الغفلة عنه، والاعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه قال: ] (1) (لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا). ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتا فنزل الاعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم ؟ ! ما لك لا تنبعث ؟ ! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة، ما شأنك ؟ ! ما الذي كان يحملك ؟ ! ما الذي كان يبعثك ؟ ! ما الذي صرعك ؟ ! ما الذي عن الحركة منعك ؟ ! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره. التاسعة - قوله تعالى: (تحبسونهما) قال أبو علي: " تحبسونهما " صفة ل‍ " آخران " واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: " إن أنتم ". وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق، والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلا، ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا، فإن خلي من عليه [ الحق ] (1) غاب واختفى وبطل الحق وتوي (2) فلم يكن بد من التوثق منه (3) فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا، وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل (4)، وهو دون الاول، لانه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره، ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق، أو تبين عسرته. العاشرة - فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق (5) استيفاؤه معجلا، لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه، ولاجل هذه الحكمة شرع السجن، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) من ع. (2) توى المال: ذهب فلم يرج. (3) في ع وك: به. (4) الحميل: الكفيل. (5) في ك: لم يمكن. (*)
[ 353 ]
قال: [ لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ]. قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. قال الخطابي: الحبس على ضربين، حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه، وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن. الحادية عشرة - قوله تعالى: (من بعد الصلاة) يريد صلاة العصر، قاله الاكثر من العلماء، لان أهل الاديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. وقال الحسن: صلاة الظهر. وقيل: أي صلاة كانت. وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران (1)، قاله السدي. وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به، لشهود الملائكة ذلك الوقت، وفي الصحيح [ من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقى الله وهو عليه غضبان ]. الثانية عشرة - وهذه الآية أصل في التغليظ في الايمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها - الزمان كما ذكرنا. الثاني - المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لابي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الاشياء ولا في (2) كثيرها، وإلى هذا القول ذهب البخاري - رحمه الله - حيث ترجم (باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره). وقال مالك والشافعي: ويجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر. الثالث - الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة، لان ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا، قال ابن العربي: والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان (2) قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس. (1) في ع: كانا كافرين. (2) من ى. (*)
[ 354 ]
قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه: [ فانطلق ليحلف ] القيام - والله أعلم - أخرجه مسلم. الرابع - التغليظ باللفظ، فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه، لقوله تعالى: " فيقسمان بالله " وقوله: " قل إي وربي " (1) [ يونس: 53 ] وقال: " وتالله لاكيدن أصنامكم " (2) [ الانبياء: 57 ] وقوله عليه السلام: [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ]. وقول الرجل: والله لا أزيد عليهن. وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل، والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - يعني لرجل حلفه [ احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شئ ] يعني للمدعي، قال أبو داود: أبويحيى اسمه زياد (3) كوفي ثقة ثبت. وقال الكوفيون: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين، فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور. وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف. قال ابن العربي: وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة. وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك [ ويرويه ] (4) عن ابن عباس، ولم يصح. قلت: وفي كتاب (المهذب) وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف (5) على المصحف، قال الشافعي: وهو حسن. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف (6). قلت: قد تقدم في الايمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف. وقال أحمد وإسحق: لا يكره ذلك، حكاه عنهما ابن المنذر. (1) راجع ج 8 ص 351 (2) راجع ج 11 ص 296 (3) هو أبويحيى زياد الاعرج مولى الانصار. (4) من الاصول. وفي ابن العربي: ويأثر أصحابه ذلك عن ابن عباس. (5) وفي ب وج وع وى وه‍: يستحلف. (6) في ب وع وه‍ وى: أو المصحف. (*)
[ 355 ]
الثالثة عشرة - اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق، فقال مالك: لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (فيقسمان بالله) الفاء في " فيقسمان " عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء، لان " تحبسونها " معناه احبسوهما، أي لليمين، فهو جواب الامر الذي دل عليه الكلام كأنه قال: إذا حبستموهما أقسما، قال ذو الرمة: وإنسان عيني يحسر الماء مرة * فيبدو وتارات يجم (1) فيغرق تقديره عندهم: إذا حسر بدا. الخامسة عشرة - واختلف من المراد بقوله: " فيقسمان " ؟ فقيل: الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما. قال ابن العربي مبطلا لهذا القول: والذي سمعت - وهو بدعة - عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق، وحينئذ يقضى له بالحق، وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه، هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ؟ ! هذا ما لا يلتفت إليه. قلت: وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لانهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال. السادسة عشرة - قوله تعالى (إن ارتبتم) شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين. قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى (1) يجم: يكثر فيه الماء. (*)
[ 356 ]
في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لاهلها روى أبو داود عن الشعبى أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء (1) هذه (2)، ولم يجد أحدا من المسلمين [ حضره ] (3) يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الاشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الاشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر: [ بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته ] فأمضى شهادتهما. قال ابن عطية: وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي، فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة. قال ابن العربي: يمين الريبة والتهمة على قسمين: أحدهما - ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين. الثاني - التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع، وقد تحققت ها هنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات. السابعة عشرة - الشرط في قوله: " إن ارتبتم " يتعلق بقوله: " تحبسونهما " لا بقوله " فيقسمان " لان هذا الحبس سبب القسم. الثامنة عشرة - قوله تعالى: (لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى) أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا. وإضمار القول كثير، كقوله: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم " (4) [ الرعد: 23 - 24 ] أي يقولون سلام عليكم. والاشتراء ها هنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل. (1) دقوقاء (بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة وتقصر): مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الاخبار والفتوح، كما بها وقعة للخوارج. (معجم البلدان). (2) كذا في الاصول. ويبدو أن فيه سقطا فليتأمل. (3) في ب وج وك وى وع وه‍. (4) راجع ج 9 ص 310 (*)
[ 357 ]
التاسعة عشرة - اللام في قوله: " لا نشتري " جواب لقوله: " فيقسمان " لان أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم، وهو " لا " و " ما " في النفي، " وإن " واللام في الايجاب. والهاء في " به " عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور، المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض. ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول، كما قال صلى الله عليه وسلم: [ واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ] فأعاد [ الضمير ] (1) على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة " النساء ". الموفية عشرين - قوله تعالى: " ثمنا " قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة، فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى، فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين، وعلى هذا الاصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به ؟ قال أبو حنيفة: لا يكون أولى به، وبناه على هذا الاصل، وقال: يكون صاحبها أسوة الغرماء. وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت. وقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفلس والموت. تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الاصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء، فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رءوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالاجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها. وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الائمة أبو داود وغيره. الحادية والعشرون - قوله تعالى: (ولا نكتم شهادة الله) أي ما أعلمنا الله من الشهادة. وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في (التحصيل) (3) وغيره. (1) من ك. (2) راجع ج 5 ص 50 ففيها: (فإنه ليس بينه) وهو الشاهد. والاصول جميعا: (بينها) فلا شاهد. (3) وهو تحصيل المنافع على كتاب الدرر اللوامع. في قراءة نافع. (*)
[ 358 ]
الثانية والعشرون - قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الاحكام. وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الاعراب قوله: " من الذين استحق عليهم الاوليان ". عثر على كذا أي اطلع عليه، يقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى: " وكذلك أعثرنا عليهم " (1) [ الكهف: 21 ]. لانهم كانوا يطلبونهم وقد خفى عليهم موضعهم، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشئ، ومنه قولهم: عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشئ صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه. وعثر الفرس عثارا قال الاعشى: بذات (2) لوث عفرناة إذا عثرت * فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا والعثير الغبار الساطع، لانه يقع على الوجه، والعثير الاثر الخفي لانه يوقع عليه من خفاء. والضمير في " أنهما " يعود على الوصيين اللذين ذكرا في قوله عزوجل: " اثنان " عن سعيد ابن جبير. وقيل: على الشاهدين، عن ابن عباس. و " استحقا " أي استوجبا " إثما " يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة. وقال أبو علي: الاثم هنا اسم الشئ المأخوذ، لان آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة. وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك، فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: (فاخران يقومان مقامهما) يعني في الايمان أو في الشهادة، وقال " آخران " بحسب أن الورثة كانا اثنين. وارتفع " آخران " بفعل مضمر. " يقومان " في موضع نعت. " مقامهما " مصدر، وتقديره: مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه الرابعة والعشرون - قوله تعالى: (من الذين استحق عليهم (3) الاوليان) قال ابن السري: المعنى استحق عليهم الايصاء، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه، لانه لا يجعل (1) راجع ج 10 ص 378 (2) ناقة ذات لوث أي قوة، وكذا عفرناة، والمعنى أنها لا تعثر لقوتها، فلو عثرت لقلت تعست. وقوله: (بذات لوث) متعلق ب‍ (- كلفت) في بيت قبله وهو: كلفت مجهولها نفسي وشايعني * همى عليها إذا ما آلها لمعا (اللسان) (3) قراءة نافع بالبناء للمفعول، وهي قراءة الجمهور. (*)
[ 359 ]
حرف بدلا من حرف، واختاره ابن العربي، وأيضا فإن التفسير عليه، لان المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية. و " الاوليان " بدل من قوله: " فآخران قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز. وقيل: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة، كقوله تعالى: " كمشكاة فيها مصباح " (1) [ النور: 35 ] ثم قال: " المصباح في زجاجة " [ النور: 35 ] ثم قال: " الزجاجة " [ النور: 35 ]. وقيل: وهو بدل من الضمير في " يقومان " كأنه قال: فيقوم الاوليان أو خبر ابتداء محذوف، التقدير: فآخران يقومان مقامهما هما الاوليان. وقال ابن عيسى: " الاوليان " مفعول " استحق " على حذف المضاف، أي استحق فيهم وبسببهم إثم الاوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل " على ملك سليمان " (2) [ البقرة: 102 ] أي في ملك سليمان. وقال الشاعر: متى ما تنكروها تعرفوها * على أقطارها علق نفيث (3) أي في أقطارها. وقرأ يحيى بن وثاب والاعمش وحمزة " الاولين " جمع أول على أنه بدل من " اللذين " أو من الهاء والميم في " عليهم " وقرأ حفص: " استحق " بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله " الاوليان " والمفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الاوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. وقيل: استحق عليهم الاوليان رد الايمان. وروي عن الحسن: " الاولان " وعن ابن سيرين: " الاولين " (4) قال النحاس: والقراءتان لحن، لا يقال في مثنى، مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن " الاولان ". الخامسة والعشرون - قوله تعالى: (فيقسمان بالله) أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين (أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الاناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما) فذلك قوله: (لشهادتنا أحق من شهادتهما) أي يميننا أحق من يمينهما، (1) راجع ج 12 ص 255. (2) راجع ج 2 ص 41 (3) نفث الجرح الدم إذا أظهره، والبيت لصخر الغى. (اللسان). (4) قال ابن عطية: على تثنية أول، والنصب على تقدير الاولين فالاولين في الرتبة. (*)
[ 360 ]
فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: " فشهادة أحدهم أربع شهادات " (1) [ النور: 6 ]. وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: قام رجلان من أولياء الميت فحلفا. " لشهادتنا أحق " ابتداء وخبر. وقوله: (وما اعتدينا) أي تجاوزنا الحق في قسمنا. (إنا إذا لمن الظالمين) أي إن كنا حلفنا على باطل، وأخذنا ما ليس لنا. السادسة والعشرون - قوله تعالى: " ذلك أدنى " ابتداء وخبر. " أن " في موضع نصب. " يأتوا " نصب ب‍ " - أن ". " أو يخافوا " عطف عليه. " أن ترد " في موضع نصب ب‍ " - يخافوا ". " إيمان بعد أيمانهم " قيل: الضمير في " يأتوا " و " يخافوا " راجع إلى الموصى إليهما، وهو الاليق بمساق الآية. وقيل: المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم. السابعة والعشرون - قوله تعالى: (واتقوا الله واسمعوا) أمر، ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له، متبعين أمر الله فيه. (والله لا يهدى القوم الفاسقين) فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم (2)، والله أعلم. قوله تعالى: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب (109) قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل) يقال: ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ؟ فالجواب - أنه اتصال الزجر عن الاظهار خلاف الابطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به. و " يوم " ظرف زمان والعامل فيه " واسمعوا " أي واسمعوا خبر يوم. وقيل: التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل، عن الزجاج. وقيل: التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل، والمعنى متقارب، والمراد التهديد والتخويف. (فيقول ماذا أجبتم) أي ما الذي أجابتكم به أممكم ؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى (1) راجع ج 12 ص 182 (2) راجع ج 1 ص 245 (*)
[ 361 ]
توحيدي ؟ " قالوا " أي فيقولون: " لا علم لنا " واختلف أهل التأويل في المعنى المراد بقولهم: " لا علم لنا " فقيل: معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا، لان ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، فحذف، عن ابن عباس ومجاهد بخلاف. وقال ابن عباس أيضا: معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقيل: إنهم يذهلون (1) من هول ذلك ويفزعون من (2) الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم فيقولون: " لا علم لنا " قاله الحسن ومجاهد والسدي. قال النحاس: وهذا لا يصح، لان الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قلت: هذا في أكثر مواطن القيامة، ففي الخبر [ إن جهنم إذا جئ بها زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا جثا لركبتيه ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة ]. قلت: فإن كان السؤال عند زفرة جهنم - كما قاله بعضهم - فقول مجاهد والحسن صحيح، والله أعلم. قال النحاس: والصحيح في هذا أن المعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار، فيقولون: لا علم لنا، فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها. وقال ابن جريج: معنى قوله: " ماذا أجبتم " ماذا عملوا بعدكم ؟ قالوا: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ". قال أبو عبيد: ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ يرد علي أقوام الحوض فيختلجون (3) فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ]. وكسر الغين [ من الغيوب ] (4) حمزة [ والكساءي ] (5) وأبو بكر، وضم الباقون. قال الماوردي فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم ؟ فعنه جوابان: أحدهما - أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني - أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رءوس الاشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم. (1) في ك: يرهبون. (2) في ب وج وه‍ وع وى: عن. (3) أي يجتذبون ويقتطعون. (4) من ك. (5) من ك وع. والذى في السمين وروح المعاني: أبو بكر وحمزة. (*)
[ 362 ]
قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110) قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك) هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا، قاله المهدوي. و " عيسى " يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون " ابن مريم " نداء ثانيا، ويجوز أن يكون في موضع نصب، لانه نداء منصوب كما قال: (1) * يا حكم بن المنذر بن الجارود * ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال (2). وقوله تعالى: " اذكر نعمتي عليك " إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لامرين: أحدهما: ليتلو على الامم ما خصهما به من الكرامة، وميزهما به من علو المنزلة. الثاني - ليؤكد به حجته، ويرد به جاحده. ثم أخذ في تعديد (3) نعمه فقال: " إذ أيدتك " يعني قويتك، مأخوذ من الايد وهو القوة، وقد تقدم (4). وفي " روح القدس " (1) الرجز لرجل من بني الحرماز، يمدح به أحد بني المنذر بن الجارود العبدي و (حكم) هذا أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك. وسمى جده الجارود لانه أغار على قوم فاكتسح أموالهم فشبه بالسيل الذي يجرد ما مر به. وتمامه: سرادق المجد عليك ممدود. (شواهد سيبويه). (2) الطوال: هو محمد بن أحمد بن عبد الله الطوال النحوي من أهل الكوفة أحد أصحاب الكسائي قال ثعلب: وكان حاذقا بإلقاء العربية. توفى سنة 243. (بغية الوعاة). (3) في ك: أخذ بعدد. (4) راجع ج 2 ص 24. (*)
[ 363 ]
وجهان: أحدهما: أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله " وروح منه " (1) [ النساء: 171 ] الثاني: أنه جبريل عليه السلام وهو الاصح، كما تقدم في " البقرة ". (تكلم الناس) يعني وتكلم الناس في المهد صبيا، وفي الكهولة نبيا، وقد تقدم ما في هذا في [ آل عمران ] (3) فلا معنى لاعادته. " كففت " معناه دفعت وصرفت " بني إسرائيل عنك " حين هموا بقتلك. " إذ جئتهم بالبينات " أي الدلالات والمعجزات، وهي المذكورة في الآية. (فقال الذين كفروا) يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك. (إن هذا) أي المعجزات. (إلا سحر مبين). وقرأ حمزة والكسائي " ساحر " أي إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر. قوله تعالى: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون (111) قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) قد تقدم القول في معاني هذه الآية (3). والوحي في كلام العرب معناه الالهام ويكون على أقسام: وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحى بمعنى الالهام كما في هذه الآية، أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم، ومنه قوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل " (4) [ النحل: 68 ] " وأوحينا إلى أم موسى " (5) [ القصص: 7 ] ووحي بمعنى الاعلام في اليقظة والمنام. قال أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت، " وإلى " صلة يقال: وحى وأوحى بمعنى، قال الله تعالى: " بأن ربك أوحى لها " (6) [ الزلزلة: 5 ] وقال العجاج: * وحى لها القرار فاستقرت (7) أي أمرها بالقرار فاستقرت. وقيل: " أوحيت " هنا بمعنى أمرتهم. وقيل: بينت لهم. (وأشهد بأننا مسلمون) على الاصل، ومن العرب من يحذف إحدى النونين، أي واشهد يا رب. وقيل: يا عيسى بأننا مسلمون لله. (1) راجع ص 22 من هذا الجزء. (2) راجع ج 2 ص 44. (3) راجع ج 4 ص 90 وص 97. وما بعدها. (4) راجع ج 10 ص 133. (5) راجع ج 11 ص 250 (6) راجع ج 20 ص 149. (7) أي الارض، وصدر البيت: * بإذنه الارض وما تعتت * (*)
[ 364 ]
قوله تعالى: إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قوله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم " على ما تقدم من الاعراب. " هل يستطيع ربك ". قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بالنصب. وأدغم الكسائي اللام من " هل " في التاء. وقرأ الباقون بالياء، " ربك " بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الاولى، فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته " أن ينزل " فيستطيع بمعنى يطيع، كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عزوجل، ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قلت: وهذا فيه نظر، لان الحواريين خلصان الانبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: " من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله " [ الصف: 14 ] (1). وقال عليه السلام: [ لكل نبي حواري وحواري الزبير ] ومعلوم أن الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الاعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط (2)، وكما قال من قال من قوم موسى: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " [ الاعراف: 138 ] على ما يأتي بيانه في " الاعراف " (3) إن شاء الله تعالى. وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لانهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي (1) راجع ج 18 ص 89. (2) ذات أنواط: شجرة بعينها كانت تعبد في الجاهلية قال ابن الاثير: كان المشركون ينوطون بها سلاحهم أي يعلقونه بها، ويعكفون حولها. (3) راجع ج 7 ص 273. (*)
[ 365 ]
وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: " رب أرني كيف تحيي الموتى " [ البقرة: 260 ] على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، لان علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شئ من ذلك، ولذلك قال الحواريون: " وتطمئن قلوبنا " كما قال إبراهيم: " ولكن ليطمئن قلبي " (1) [ البقرة: 260 ] قلت: وهذا تأويل حسن، وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين، على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين: " هل يستطيع ربك ". ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره، قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى: " هل يستطيع ربك " ليس بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال، وأدب مع الله تعالى، إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا (2) لكل أحد، والحواريون هم (3) كانوا خيرة من آمن بعيسى، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شئ ممكن ؟ ! وأما قراءة " التاء " فقيل: المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد - رضي الله عنهما، قالت عائشة رضي الله عنها: كان القوم أعلم بالله عزوجل من أن يقولوا " هل يستطيع ربك " [ قالت: (4) ] ولكن " هل تستطيع ربك ". وروي عنها أيضا أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا: " هل تستطيع ربك " وعن معاذ بن جبل قال: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم " هل تستطيع ربك " قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء " هل تسطيع ربك " وقال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله. وقيل: هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله، والمعنى متقارب، ولا بد من محذوف كما قال: " واسأل (1) راجع ج 3 ص 297. (2) في ع: وقوعه لكل. الخ. (3) في ه‍: هم هم كانوا. (4) من ب وج وك وع. (*)
[ 366 ]
القرية " (1) [ يوسف: 82 ] وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف. (قال اتقوا الله) أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال، فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات، إذ كان الله عزوجل إنما يفعل الاصلح لعباده. (إن كنتم مؤمنين) أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى. قوله تعالى: قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) قوله تعالى: " قالوا نريد أن نأكل منها " نصب بأن " وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " عطف كله، بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفى قولهم: " نأكل منها " وجهان: أحدهما - أنهم أرادوا الاكل منها للحاجة الداعية إليها، وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة، إذ كانوا زمنى أو عميانا، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: " قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له: " نريد أن نأكل منها " الآية. الثاني - " نأكل منها " لننال (2) بركتها لا لحاجة دعتهم إليها، قال الماوردي: وهذا أشبه، لانهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال [ وقولهم: ] (3) " وتطمئن قلوبنا " يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا. الثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا (4). الثالث: تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا، ذكرها الماوردي وقال المهدوي: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا. قال الثعلبي: نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا. " ونعلم أن قد صدقتنا " (1) راجع ج 9 ص 246. (2) في ع: فننال. (3) من ك. (4) كذا في ك وفي البحر: أعوانا لك وفي ب وج وى: لدعوانا. وفي ع: لندعو. وفي ه‍: لدعائنا. (*)
[ 367 ]
بأنك رسول الله " ونكون عليها من الشاهدين " لله بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة. وقيل: " ونكون عليها من الشاهدين " لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم. قوله تعالى: قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114) قوله تعالى: (قال عيسى بن مريم اللهم ربنا) الاصل عند سيبويه يا الله، والميمان بدل من " يا " " ربنا " نداء ثان، لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لانه قد أشبه الاصوات من أجل ما لحقه. (أنزل علينا مائدة) المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل: خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه، فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة أنشده الاخفش: تهدي رءوس المترفين الانداد * إلى أمير المؤمنين الممتاد أي المستعطى المسئول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لانه يؤكل على المائدة، كقولهم للمطر سماء. وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم: ماد الشئ إذا مال وتحرك (1) قال الشاعر: لعلك باك إن تغنت حمامة * يميد بها غصن من الايك مائل وقال آخر: وأقلقني قتل الكناني بعده * فكادت بي الارض الفضاء تميد ومنه قوله تعالى: " وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم " (2) [ النحل: 15 ]. وقال أبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة، مثل " عيشة راضية " (3) [ الحاقة: 21 ] بمعنى مرضية و " ماء دافق " (4) [ الطارق: 6 ] أي مدفوق. قوله تعالى: (تكون لنا عيدا) " تكون " نعت لمائدة وليس بجواب. (1) في ى: تحرف. (2) راجع ج 10 ص 90. (3) راجع ج 18 ص 270 (4) راجع ج 20 ص 4. (*)
[ 368 ]
وقرأ الاعمش " تكن " على الجواب، والمعنى: يكون يوم نزولها " عيدا لاولنا " أي لاول أمتنا وآخرها فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الاحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الاحد عيدا. والعيد واحد الاعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قاله الجوهري. وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والاضحى: عيدا لانهما يعودان كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع (1) كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الانباري: سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم، ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا ننفذ الصبيان إلى المكاتب. وقيل: سمي عيدا لان كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم. وقيل: سمي بذلك لانه يوم شريف تشبيها بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية قال: * عيدية أرهنت فيها الدنانير * وقد تقدم. وقرأ زيد بن ثابت " لاولانا وأخرانا " على الجمع (3) قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل [ منها ] (4) أولهم (وآية منك) يعني دلالة وحجة. (وإرزقنا) أي أعطنا. (وأنت خير الرازقين) أي خير من أعطى ورزق، لانك الغني الحميد. قوله تعالى: قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115) (1) في البحر: يجمع الناس لانهم. الخ. وفي ب وع وه‍ وى: مجمع. (2) هو رذاذ الكلبي - كما في اللسان - وصدر البيت: * ظلت تجوب بها البلدان ناجية * (3) صوبت هذه القراءة عن البحر وغيره من كتب التفسير قال صاحب البحر: وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري (لاولانا وأخرانا) أنثوا على معنى الامة والجماعة. والذي بالاصول: ج وك وب وى وز وه‍: (لاولينا وآخرينا). (4) من ك وع. (*)
[ 369 ]
قوله تعالى " قال الله إني منزلها عليكم " هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى: " فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ". واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا ؟ فالذي عليه الجمهور - وهو الحق - نزولها لقوله تعالى: " إني منزلها عليكم ". وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لانبيائه. وقيل: وعدهم بالاجابة فلما قال لهم: " فمن يكفر بعد منكم " الآية استعفوا منها، واستغفروا الله وقالوا: لا نريد هذا، قاله الحسن. وهذا القول الذي قبله خطأ والصواب أنها نزلت. قال ابن عباس: إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل: [ صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم ] فصاموا ثلاثين يوما وقالوا: يا عيسى لو عملنا لاحد فقضينا عملنا [ لاطعمنا ] (1)، وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات (2) فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي [ الحكيم ] (3) في " نوادر الاصول " له: حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هرون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: لما سألت الحواريون عيسى بن مريم - صلوات الله وسلامه عليه - المائدة قام فوضع ثياب الصوف ولبس ثياب المسوح - وهو سربال من مسوح أسود ولحاف أسود - فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب والابهام بالابهام، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم طأطأ رأسه خاشعا لله ثم أرسل عينيه يبكى حتى جرى الدمع (1) الزيادة عن (روح المعاني) وغيره من كتب التفسير. (2) أحوات (جمع حوت): وهو نوع من السمك المعروف. (3) من ع. (*)
[ 370 ]
على لحيته وجعل يقطر على صدره ثم قال: " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إنى منزلها عليكم " الاية فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها والناس ينظرون إليها، فقال عيسى: [ اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطى ] فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى فخر عيسى ساجدا والحواريون معه وهم يجدون لها رائحة طيبة ولم يكونوا يجدون [ مثلها ] (1) قبل ذلك فقال عيسى: [ أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها ] فقال الحواريون: يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى - صلوات الله عليه - فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صلاة جديدة ودعا دعاء كثيرا ثم جلس إلى السفرة فكشف عنها فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم وقد نضد حولها من كل البقول ما عدا الكراث وعند رأسها ملح وخل وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمانات وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر زيتون. قال الثعلبي: على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث بيض وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد. فبلغ ذلك اليهود فجاءوا غما وكمدا ينظرون إليه فرأوا عجبا فقال شمعون - وهو رأس الحواريين - يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى صلوات الله عليه: [ أما افترقتم (2) بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا ]. فقال شمعون: وإله بني (3) إسرائيل ما أردت بذلك سوءا. فقالوا: يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى قال عيسى عليه السلام: [ يا سمكة احيي بإذن الله ] فاضطربت السمكة طرية تبص (4) عيناها، ففزع الحواريون فقال عيسى: [ ما لي أراكم تسألون عن الشئ فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا ] وقال: [ لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا (1) الزيادة عن الدر المنثور. (2) في الدر المنثور في رواية: (أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون وتنتهوا عن تنقير المسائل)... الخ. وفي تفسير ابن عطية (ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات). (3) في ع وه‍ وب: إلاه إسرائيل. (4) تبص: تلمع. وفي ب، ج، ك، ى: تبصبص. (*)
[ 371 ]
ولا من طعام الجنة ولكنه شئ ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها كوني فكانت ] فقال عيسى: [ يا سمكة عودي كما كنت ] فعادت مشوية كما كانت فقال الحواريون: يا روح الله كن أول من يأكل منها، فقال عيسى: [ معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها ] فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مثلة (1) وفتنة فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذمين والمقعدين والعميان وأهل الماء الاصفر، وقال: [ كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله عليه ] وقال: [ يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم ] فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلثمائة يتجشئون (2) فبرئ كل سقيم أكل منه، واستغنى كله فقير أكل منه حتى الممات فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاءوا يأكلون منه فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ترعى يوما وتشرب يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحا فلا تزال حتى يفئ الفئ موضعه وقال الثعلبي: فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفئ طارت صعدا فيأكل منها الناس ثم ترجع إلى السماء والناس ينظرون إلى ظلها حتى تتوارى عنهم فلما تم أربعون يوما أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام [ يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الاغنياء ] فتمارى (3) الاغنياء في ذلك وعادوا الفقراء [ وشكوا ] (4) وشككوا الناس فقال الله يا عيسى: [ إني آخذ بشرطي ] فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة يطلبونها بالاكباء والاكباء هي الكناسة واحدها كبا (5) بعدما كانوا يأكلون الطعام الطيب وينامون على الفرش اللينة فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا على عيسى يبكون، وجاءت الخنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم فعرفهم عيسى فجعل يقول: [ ألست بفلان ] ؟ فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام فلبثوا كذلك سبعة أيام ومنهم من يقول: أربعة أيام، (1) مثلة: عقوبة. (2) جشأ وتجشأ: أخرج صوتا من فمه عند الشبع. (3) تمارى: شك. (4) من ك، ى، ج، ب. (5) كبا (بالكسر والقصر) كالى. (*)
[ 372 ]
ثم دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم فأصبحوا لا يدرى أين ذهبوا ؟ الارض ابتلعتهم أو ما صنعوا ؟ !. قلت: في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده. وعن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا وقال ابن عطية: كانوا يجدون في السمك طيب كله طعام، وذكره الثعلبي. وقال عمار بن ياسر وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه: أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا. وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير ] قال أبو عيسى: هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا. وقال سعيد بن جبير: أنزل على المائدة كل شئ إلا الخبز واللحم. وقال عطاء: نزل عليها كل شئ إلا السمك واللحم. وقال كعب: نزلت المائدة منكوسة (1) من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والارض عليها كل طعام إلا اللحم. قلت: هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها، لانه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير والله أعلم والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه. وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل قال كعب: اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى فقال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم قالوا: نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان، ورياضا خضرا وعبقريا قال: فدعا الله فإذا (1) نكسه: قلبه وجعل أسفله أعلاه. (*)
[ 373 ]
عين ساحة ورياض خضر وعبقري. ثم قال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ثم قال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم، فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال: فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت وذكر تمام الخبر. مسألة: جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سفرة لا مائدة ذات قوائم والسفرة مائدة النبي صلى الله عليه وسلم وموائد العرب خرج أبو عبد الله الترمذي [ الحكيم ] (1): حدثنا محمد بن [ بسار ] (2)، قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن يونس عن قتادة عن أنس قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق. قال: قلت لانس: فعلام كانوا يأكلون ؟ قال: على السفر قال محمد بن بشار: يونس هذا هو أبو الفرات الاسكاف. قلت: هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم وخرجه الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه: حسن غريب. قال الترمذي أبو عبد الله: الخوان هو شئ محدث فعلته الاعاجم وما كانت العرب لتمتهنها (3) وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لانها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة وإنما سمي السفر سفرا لاسفار الرجل بنفسه عن البيوت وقوله: ولا في سكرجة لانها أوعية الاصباغ (4)، وإنما الاصباغ للالوان ولم تكن من سماتهم الالوان وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم. وكان (5) يقول: " انهسوا (6) اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ " فإن قيل: فقد جاء ذكر المائدة في الاحاديث من ذلك حديث ابن عباس قال: لو كان الضب حراما (1) من ع. (2) الذى في الاصل: (محمد بن المثنى أبو موسى الزمن) وهو (محمد بن بشار) كما في الترمذي وكما سيأتي. (3) امتهن الشئ: استعمله للمهنة. (4) الاصباغ (جمع صبغ) وهو ما يؤتدم به من كل مائع كالخل وفي التنزيل: (وصبغ للآكلين). (5) أي النبي عليه الصلاة والسلام. رواه أحمد والترمذي والحاكم. (6) االنهس أخذ اللحم بأطراف الاسنان ونتفه وفي ى وج وز: انهشوا (نهشا) بالمعجمة وهي الرواية معناها أخذ اللحم بجميع الاسنان. (*)
[ 374 ]
ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه مسلم وغيره. وعن عائشة رضي الله عنها - قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة ] خرجه الثقات وقيل: إن المائدة كل شئ يمد ويبسط مثل المنديل والثوب وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعفة فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل: مائدة، والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا: سر كاتم وهو مكتوم وعيشة راضية وهي مرضية وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا: رجل مشئوم وإنما هو شائم وحجاب مستور وإنما هو ساتر قال فالخوان هو المرتفع عن الارض بقوائمه والمائدة ما مد وبسط (1) والسفرة ما أسفر عما في جوفه وذلك لانها مضمومة بمعاليقها وعن الحسن قال: الاكل على الخوان فعل الملوك وعلى المنديل فعل العجم وعلى السفرة فعل العرب وهو السنة [ والله أعلم ] (2). قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله). اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقال له هذا يوم القيامة. وقال السدي وقطرب. قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت، واحتجوا بقوله: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " [ المائدة: 118 ] فإن " إذ " في كلام العرب لما مضى. والاول أصح يدل عليه ما قبله من قوله: " يوم يجمع الله الرسل " [ المائدة: 109 ] الآية (1) في حاشية الجمل عن القرطبي: والمائدة ما مد وبسط من الثياب والمناديل. الخ. (2) عن ك. (*)
[ 375 ]
وما بعده " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " [ المائدة: 119 ]. وعلى هذا تكون " إذ " بمعنى " إذا " كقوله تعالى: " ولو ترى إذ فزعوا " (1) [ سبأ: 51 ] أي إذا فزعوا. وقال أبو النجم: ثم جزاه الله عني إذ جزى * جنات عدن في السموات العلا يعني إذا جزى. وقال الاسود بن جعفر الازدي: فالآن إذ هازلتهن فإنما * يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا يعني إذا هازلتهن فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لانه لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع. وفي التنزيل " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة " (2) [ الاعراف: 50 ] ومثله كثير وقد تقدم. واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين: أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع. الثاني - قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده، وادعوا عليه ما لم يقله. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لاجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له. قوله تعالى: (قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته) خرج الترمذي عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ فلقاه الله ] " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " الآية كلها. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لامرين أحدهما - تنزيها له عما أضيف إليه. الثاني - خضوعا لعزته وخوفا من سطوته. ويقال: إن الله تعالى لما قال لعيسى: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال: " سبحانك " ثم قال: " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " أي أن ادعى لنفسي ما ليس من حقها يعني أنني (1) راجع ج 14 ص 314. (2) راجع ج 7 ص 209. (*)
[ 376 ]
مربوب ولست برب وعابد ولست بمعبود. ثم قال: " إن كنت قلته فقد علمته " فرد ذلك إلى علمه وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها. ثم قال: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) أي تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك. وقيل: المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقيل: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل: تعلم سري ولا أعلم سرك لان السر موضعه النفس. وقيل: تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة قلت: والمعنى في هذه الاقوال متقارب أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك. (إنك أنت علام الغيوب) ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن قوله تعالى: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (117) قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) يعني في الدنيا بالتوحيد. (أن اعبدوا الله) " أن " لا موضع لها من الاعراب وهي مفسرة مثل " وانطلق الملا منهم أن امشوا " (1) [ ص: 6 ]. ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله. ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لانهم يستثقلون كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين قوله تعالى: (وكنت عليهم شهيدا) أي حفيظا بما أمرتهم. (ما دمت فيهم) " ما " في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) قيل: هذا يدل على أن الله عزوجل توفاه أن يرفعه وليس بشئ لان الاخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى (1) راجع ج 15 ص 151. (*)
[ 377 ]
فلما رفعتني إلى السماء. قال الحسن: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه: وفاة الموت وذلك قوله تعالى: " الله يتوفى الانفس حين موتها " (1) [ الزمر: 42 ] يعني وقت انقضاء أجلها. ووفاة النوم قال الله تعالى: " وهو الذي يتوفاكم بالليل " (2) [ الانعام: 60 ] يعني الذي ينيمكم. ووفاة الرفع قال الله تعالى: " يا عيسى إني متوفيك " (3) [ آل عمران: 55 ]. [ وقوله ] (4) " كنت أنت " [ " أنت هنا " ] (4) توكيد " الرقيب " خبر " كنت " ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم، وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة (5) لانها في موضع الرقيب من علو المكان. (وأنت على كل شئ شهيد) أي من مقالتي ومقالتهم وقيل: على من عصى وأطاع، خرج مسلم عن ابن عباس قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله [ حفاة ] (6) عراة غرلا (7) " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " [ الانبياء: 104 ] ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد. إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " قال: فيقال لي إنهم لم يزالوا [ مدبرين ] (8) مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم). قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118) قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " شرط وجوابه " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " مثله. روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلة حتى أصبح (9)، والآية: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ". (1) راجع ج 15 ص 260. (2) راجع ج 7 ص 5. (3) راجع ج 4 ص 99 (4) من ك. (5) في الاصول: الرقبة. والمثبت هو اللغة. (6) الزيادة عن صحيح مسلم. (7) غرل (جمع أغرل) أي غير مختونين والمراد - والله أعلم - إنهم يحشرون كما خلقوا لا شئ معهم ولا ينقص منهم شئ بل يتم لهم كل ما نقص منهم. (هامش مسلم). (8) من ك وه‍ وب وع. (9) أي يقرأ بآية يرددها في صلاته حتى أصبح. (*)
[ 378 ]
واختلف في تأويله فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك. وقيل: قاله على وجه التسليم لامره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر. وقيل الهاء والميم في " إن تعذبهم ". لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في " إن تغفر لهم " لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن. وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عزوجل لان الاخبار من الله عزوجل لا تنسخ. وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي. وقال: " فإنك أنت العزيز الحكيم " ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لامره والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لاوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء. وقد قرأ جماعة: " فإنك أنت الغفور الرحيم " وليست من المصحف. ذكره القاضي عياض في كتاب " الشفا " وقال أبو بكر الانباري: وقد طعن على القرآن من قال إن قوله: " إنك أنت العزيز الحكيم " ليس بمشاكل لقوله: " وإن تغفر لهم " لان الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم - والجواب - أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الاول تعلق وهو على ما أنزله الله عزوجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الامرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية
[ 379 ]
كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض. خرج مسلم [ من غير طريق ] (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عزوجل في إبراهيم " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " (2) [ إبراهيم: 36 ] وقال عيسى عليه السلام: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي) وبكى فقال الله عزوجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك " فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال - وهو أعلم - فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل [ له ] (3) إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ووجه الكلام على نسقه أولى لما بيناه. وبالله التوفيق قوله تعالى: قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (119) قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الايام لوقوع الجزاء فيه. وقيل: المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لانبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لانبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم. وقرأ نافع وابن محيصن " يوم " بالنصب. ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر (1) من: ك. (2) راجع ج 9 ص 368. (3) من ع. (*)
[ 380 ]
فيوم ينفع خبر ل‍ " - هذا " والجملة في موضع نصب بالقول. وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لانه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء. وقال إبراهيم بن السري: هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى بن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم ف‍ " يوم " ظرف للقول و " هذا " مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين. وقيل: التقدير قال الله عزوجل هذه الاشياء تنفع يوم القيامة. وقال الكسائي والفراء: بني يوم ها هنا على النصب لانه مضاف إلى غير اسم، كما تقول: مضى يومئذ وأنشد الكسائي: (1) على حين عاتبت المشيب على الصبا * وقلت ألما أصح والشيب وازع الزجاج: ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لان الفعل بمعنى المصدر. وقيل: يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو " هذا " لانه مشار به إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الاحداث تقول: القتال اليوم والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول. وقيل: يجوز أن يكون " هذا " في موضع رفع بالابتداء و " يوم " خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير: قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم. وفيه قراءة ثالثة " يوم ينفع " بالتنوين " الصادقين صدقهم " في الكلام حذف تقديره " فيه " مثل قوله: " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا " (2) [ البقرة: 48 ] وهي قراءة الاعمش. قوله تعالى: " لهم جنات " ابتداء وخبر. " تجري " في موضع الصفة. " من تحتها " أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم. ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب (1) البيت للنابغة والشاهد في إضافة (حين) إلى الفعل وبنائها معه على الفتح. (2) راجع ج 1 ص 376. (*)
[ 381 ]
بعده أبدا " ورضوا عنه " أي عن الجزاء الذي أثابهم به. (ذلك الفوز) أي الظفر (العظيم) أي الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف. قوله تعالى: لله ملك السموات والارض وما فيهم وهو على كل شئ قدير (120) قوله تعالى: (لله ملك السموات والارض) [ الآية ] (1) جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السموات والارض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين. ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السموات والارض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. تمت سورة " المائدة " بحمد الله تعالى. (1) من ب وج وك. (*)
[ 382 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الانعام وهي مكية في قول الاكثرين قال ابن عباس وقتادة: هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلنا بالمدينة، قوله تعالى: " وما قدروا الله حق قدره " [ الانعام: 91 ] نزلت في مالك بن الصيف وكعب ابن الاشرف اليهوديين والاخرى قوله: " وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات " [ الانعام: 141 ] نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الانصاري. وقال ابن جريج: نزلت في معاذ بن جبل وقاله الماوردي. وقال الثعلبي سورة " الانعام " مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة " وما قدروا الله حق قدره " إلى آخر ثلاث آيات و " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " [ الانعام: 151 ] إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي: أن قوله تعالى: " قل لا أجد " نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله. وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " [ الانعام: 59 ] نزلوا بها ليلا لهم زجل (1) بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم. وأسند أبو جعفر النحاس قال: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة ابن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل (2) بن مالك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت سورة الانعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح) والارض لهم ترتج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات (3). وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده عن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] قال: الانعام من نجائب (5) القرآن. وفيه عن كعب قال: فاتحة " التوراة " فاتحة الانعام وخاتمتها خاتمة (1) زجل: صوت رفيع عال. (2) في ج وب وى: أبي سهيل، وفي غيرهما: ابن سهيل. والصحيح ما أثبتناه عن التهذيب. (3) في ح الجمل عن القرطبي: ثم خر ساجدا. (4) من ع. (5) نجائب القرآن ونواجيه: أفاضل سوره. (النهاية). (*)
[ 383 ]
" هود ". وقاله وهب بن منبه أيضا. وذكر المهدوي قال المفسرون: إن " التوراة " افتتحت بقوله: " الحمد لله الذي خلق السموات والارض " [ الانعام: 1 ] الآية وختمت بقوله: " الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك " (1) [ الاسراء: 111 ] إلى آخر الآية. وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ ثلاث آيات من أول سورة " الانعام " إلى قوله: " ويعلم ما تكسبون " [ الانعام: 3 ] وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة (2) من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: " امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك ". وفي البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة " الانعام " " قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم " إلى قوله: " وما كانوا مهتدين " (3) [ الانعام: 140 ]. تنبيه - قال العلماء: هذه السورة أصل (4) في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لانها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لان فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات وسنزيد (5) ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى [ وعونه ] (6). قوله تعالى: الحمد لله الذى خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) فيه خمس مسائل. (1) راجع ج 10 ص 344 (2) المرزبة (بالتخفيف) ويقال لها: الارزبة (بالهمزة والتشديد). المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. (النهاية). (3) راجع ج 7 ص 96. (4) في ع: أمثل. (5) في ب وج وع وى: وستري ذلك مبينا. (6) من ك. (*)
[ 384 ]
الاولى - قوله تعالى " الحمد لله " بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه وإثبات الالوهية أي أن الحمد كله له فلا شريك له فإن قيل: فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره فيقال: لان لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون وقد تقدم معنى (الحمد) في الفاتحة (1). الثانية - قوله تعالى: (الذى خلق السموات والارض) أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال: الذي خلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع. والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود (2) وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين وبسط الارض وأودعها الارزاق والنبات وبث فيها من كل دابة آيات وجعل فيها الجبال أوتادا وسبلا فجاجا وأجرى فيها الانهار والبحار وفجر فيها العيون من الاحجار دلالات على وحدانيته، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار وبين بخلقه السماوات والارض أنه خالق كل شئ. الثالثة - خرج مسلم قال: حدثني سريج بن يونس وهرون بن عبد الله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني إسمعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله ابن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: (خلق الله عزوجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الاحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الاربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل). (1) راجع ج 1 ص 131 وما بعدها. (2) الاود: العوج. (*)
[ 385 ]
قلت: أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة، قال البيهقي: وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهل التفسير وأهل التواريخ. وزعم بعضهم أن إسمعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد وإبراهيم غير محتج به. وذكر محمد بن يحيى قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة (خلق الله التربة يوم السبت). فقال علي: هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسمعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى فقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع وقال لي: شبك بيدي أبو هريرة وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم [ رسول الله ] (1) صلى الله عليه وسلم فقال: (خلق الله الارض يوم السبت) فذكر الحديث بنحوه. قال علي بن المديني: وما أرى إسمعيل بن أمية أخذ هذا الامر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى قال البيهقي: وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف. وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد - وإسناده ضعيف - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عزوجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه) قال فقال عبد الله بن سلام: إن الله عزوجل ابتدأ الخلق فخلق الارض يوم الاحد ويوم الاثنين وخلق السموات يوم الثلاثاء ويوم الاربعاء وخلق الاقوات وما في الارض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم خرجه البيهقي. قلت: وفيه أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الاحد لا يوم السبت وكذلك تقدم في " البقرة " (2) عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم فيها الاختلاف أيما خلق أولا الارض أو السماء (2) مستوفى. والحمد لله. (1) من ج. (2) راجع ج 1 ص 255 - 256 وما بعدها. (*)
[ 386 ]
الرابعة - قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور) ذكر بعد خلق الجواهر خلق الاعراض لكون الجوهر لا يستغنى عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث. والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض وقد أتينا على ذكره في الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه " الواحد ". وسمي العرض عرضا لانه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال والجسم هو المجتمع وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الاول فقد دل عليها معنى الكتاب والسنة فلا معنى لانكارها. وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم وقتلوا بها خصومهم كما تقدم في " البقرة ". واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل وضياء النهار. وقال الحسن: الكفر والايمان قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر. قلت: اللفظ يعمه وفي التنزيل: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات " (1) [ الانعام: 122 ]. والارض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها وكذلك " والنور " ومثله " ثم يخرجكم طفلا " (2) [ غافر: 67 ] وقال الشاعر: * كلوا في بعض بطنكم تعفوا * وقد تقدم (3). وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية. قلت: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجمع والمفرد معطوفا على المفرد فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة والله أعلم وقيل: جمع " الظلمات " ووحد " النور " لان الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى. وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال: " جعل " هنا زائدة والعرب تزيد " جعل " في الكلام كقول الشاعر: وقد جعلت أرى الاثنين أربعة * والواحد (4) اثنين لما هدني الكبر (1) راجع ج 7 ص 78. (2) راجع ج 12 ص 11. (3) تمام البيت: * فإن زمانكم زمن خميص * يقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم حتى تعتادوا ذلك فإن الزمان ذو مخمصة وجدب. (4) ورد البيت في ج 1 ص 228 (والاربع اثنين) والصواب ما هنا. (*)
[ 387 ]
قال النحاس: جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد، وقد تقدم هذا المعنى ومحامل جعل في (البقرة) (1) مستوفى. الخامسة - قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) ابتداء وخبر والمعنى: ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا وهو الذي خلق هذه الاشياء وحده. قال ابن عطية: ف‍ " ثم " دالة على قبح فعل الكافرين لان المعنى: أن خلقه السموات والارض قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم. قوله تعالى: هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2) قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين) الآية خبر وفي معناه قولان: أحدهما وهو الاشهر وعليه من الخلق الاكثر أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله والفرع يضاف إلى أصله فلذلك قال: " خلقكم " بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده، هذا قول الحسن وقتادة وابن أبي نجيح والسدى والضحاك وابن زيد وغيرهم الثاني: أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الانسان منها ذكره النحاس. قلت: وبالجملة فلما ذكر عزوجل خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الانسان وجعل فيه ما في العالم الكبير على ما بيناه في " البقرة " (2) في آية التوحيد [ والله أعلم ] (3) والحمد لله. وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة عن ابن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ثم يقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال مخلقة قال: يا رب ما الرزق ما الاثر ما الاجل ؟ فيقول: انظر في أم الكتاب فينظر في اللوح (1) راجع ج 1 ص 228. (2) راجع ج 2 ص 202 وما بعدها. (3) من ع. (*)
[ 388 ]
المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته فذلك قوله تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم " (1) [ طه: 55 ]. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته ". قلت: وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين كما أخبر عزوجل في سورة " المؤمنون " (2) فتنتظم الآيات والاحاديث ويرتفع الاشكال والتعارض والله أعلم. وأما الاخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في [ البقرة ] (3) ذكره واشتقاقه ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنه ووفاته ذكر ابن سعد في " الطبقات " عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس ولد آدم وآدم من التراب) وعن سعيد بن جبير قال: خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء (4) قال الحسن: وخلق جؤجؤه (5) من ضرية قال الجوهري: ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب وعن ابن مسعود قال: إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الارض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شئ خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر وكل شئ خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن تقي (6) فمن ثم قال إبليس " أأسجد لمن خلقت طينا " (7) [ الاسراء: 61 ] لانه جاء بالطينة فسمي آدم، لانه خلق من أديم الارض. وعن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة. وعن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء قال فوطده إلى الارض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا. وعن أبي بن كعب قال: كان آدم عليه السلام طوالا (8) جعدا كأنه نخلة سحوق (9). وعن ابن عباس في حديث فيه طول - وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وتوفي على ذروة (1) راجع ج 11 ص 210. (2) راجع ج 12 ص 108. (3) راجع ج 1 ص 279. (4) دجناء (بالمد والقصر). ويروى بالحاء المهملة وهي مضبوطة في (اللسان) و (النهاية) بفتح الدال. وقال صاحب القاموس: (وهي بالضم والكسر). (5) الجؤجؤ: الصدر. (6) في ع: نبي. (7) راجع ج 10 ص 286. (8) الطوال (بالضم): المفرط الطول. (9) النخلة السحوق الطويلة. (*)
[ 389 ]
الجبل الذي أنزل عليه فقال شيث لجبريل عليهما السلام: " صل على آدم " فقال له جبريل عليه السلام: تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي الصلاة وخمس وعشرون تفضيلا لآدم. وقيل: كبر عليه أربعا فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة. ويقال: هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد ؟ الجواب نعم لانه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر لتسوية العقل بين ذلك في الحكم وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية. قوله تعالى: " ثم قضى أجلا " مفعول. " وأجل مسمى عنده " ابتداء وخبر. قال الضحاك: " أجلا " في الموت " وأجل مسمى عنده " أجل القيامة فالمعنى على هذا: حكم أجلا وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف (1) وقتادة - وهذا لفظ الحسن -: قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت " وأجل مسمى عنده " يعني الآخرة. وقيل: " قضى أجلا " ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم (وأجل مسمى) من الآخرة وقيل: " قضى أجلا " مما نعرفه من أوقات الاهلة والزرع وما أشبههما (2) " وأجل مسمى " أجل الموت لا يعلم الانسان متى يموت. وقال ابن عباس ومجاهد: معنى الآية " قضى أجلا " بقضاء الدنيا، " وأجل مسمى عنده " لابتداء الآخرة. وقيل: الاول قبض الارواح في النوم والثاني قبض الروح عند الموت عن ابن عباس أيضا. قوله تعالى: (ثم أنتم تمترون) ابتداء وخبر: أي تشكون في أنه إله واحد وقيل: تمارون في ذلك أي تجادلون جدال الشاكين (3) والتماري المجادلة على مذهب الشك ومنه قوله تعالى: " أفتمارونه على ما يرى " (4) [ النجم: 12 ]. (1) (في التهذيب): هو مصغر وفي القاموس: هو كأمير. (2) في ع وى: أشبهها. (3) في ع: المشركين. (4) راجع ج 17 ص 92. (*)
[ 390 ]
قوله تعالى: وهو الله في السموات وفي الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون (5) قوله تعالى: (وهو الله في السموات وفي الارض) يقال: ما عامل الاعراب في الظرف من " في السموات وفى الارض " ؟ ففيه أجوبة: أحدها - أي وهو الله المعظم أو المعبود في السموات وفي الارض، كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه. ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السموات وفي الارض، كما تقول: هو في حاجات الناس وفي الصلاة ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ويكون المعنى: وهو الله في السموات وهو الله في الارض. وقيل: المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الارض فلا يخفى عليه شئ، قال النحاس: وهذا (1) من أحسن ما قيل فيه. وقال محمد بن جرير: وهو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الارض فيعلم مقدم في الوجهين والاول أسلم وأبعد من الاشكال وقيل غير هذا. والقاعدة تنزيهه عزوجل عن الحركة والانتقال وشغل الامكنة. (ويعلم ما تكسبون) أي من خير وشر. والكسب الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ولهذا لا يقال لفعل الله كسب. قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية) أي علامة كانشقاق القمر ونحوها. و " من " لاستغراق الجنس، تقول: ما في الدار من أحد. (من آيات ربهم) " من " الثانية للتبعيض. و (معرضين) خبر " كانوا ". والاعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله عزوجل من خلق السموات والارض وما بينهما وأنه يرجع إلى قديم [ حي ] (2) غني عن جميع الاشياء قادر لا يعجزه شئ عالم لا يخفى عليه شئ من المعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم (3)، ليستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به (4). (1) في ك: وهذا أحسن. الخ. (2) من ك. (3) من ع. (4) في ع: يأتي. (*)
[ 391 ]
قوله تعالى: (فقد كذبوا) يعني مشركي مكة. (بالحق) يعني القرآن، وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم. (فسوف يأتيهم) أي يحل بهم العقاب، وأراد بالانباء وهي الاخبار العذاب، كقولك: اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب، والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه. وقيل: يوم القيامة. قوله تعالى: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الانهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (6) قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) " كم " في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله " ألم يروا " لان لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده من أجل أن له صدر الكلام. والمعنى: ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الامم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم أي ألم يعرفوا ذلك. والقرن الامة من الناس. والجمع القرون، قال الشاعر: إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم * وخلفت في قرن فأنت غريب فالقرن كل عالم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن به بعضهم إلى بعض، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس (1) قرني - يعني أصحابي (2) - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) هذا أصح ما قيل فيه. وقيل: المعنى من أهل قرن فحذف كقوله: " واسأل القرية " [ يوسف: 82 ]. فالقرن على هذا مدة من الزمان، قيل: ستون عاما وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله بن بسر: " تعيش قرنا " فعاش مائة سنة، ذكره النحاس. وأصل القرن الشئ الطالع كقرن ماله قرن من الحيوان. (مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم) خروج من الغيبة إلى الخطاب، عكسه " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين، (1) في ع: خيركم. وهي رواية في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. (2) في ك: الصحابة. (*)
[ 392 ]
بهم بريح طيبة " (1) [ يونس: 22 ]. وقال أهل البصرة. أخبر عنهم بقوله " ألم يروا " وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه، ثم خاطبهم معهم، والعرب تقول: قلت لعبدالله ما أكرمه: وقلت لعبدالله ما أكرمك، ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم. ويجوز مكنه ومكن له، فجاء باللغتين جميعا، أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا. (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) يريد المطر الكثير، عبر عنه بالسماء لانه من السماء ينزل، ومنه قول الشاعر: (2) * إذا سقط السماء بأرض قوم * و " مدرارا " بناء دال على التكثير، كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، ومئناث للمرأة التي تلد الاناث، يقال: در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصب " مدرارا " على الحال. (وجعلنا الانهار تجري من تحتهم) أي من تحت أشجارهم ومنازلهم، ومنه قول فرعون: " وهذه الانهار تجري من تحتي " (3) [ الزخرف: 51 ] والمعنى: وسعنا عليهم النعم فكفروها. (فأهلكناهم بذنوبهم) أي بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم. (وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) أي أوجدنا، فليحذر هؤلاء من الاهلاك أيضا. قوله تعالى: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) الآية. المعنى: ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا " في قرطاس ". وعن ابن عباس: كتابا معلقا بين السماء والارض وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين، أحدهما - على معنى نزل عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به. والآخر - ولو نزلنا كتابا في قرطاس يمسكه الله بين السماء والارض، (1) راجع ج 8 ص 324. (2) هو معود الحكماء - معاوية بن مالك - وفي ك: نزل السماء. وهي رواية: وهذا صدر بيت له، وتمامه * رعيناه إن كانوا غضابا * وسمى معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة: أعود مثلها الحكماء بعدي * إذا ما الحق في الحدثان نابا (3) راجع ج 16 ص 98. (*)
[ 393 ]
وقال: " نزلنا " على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والارض والكتاب مصدر بمعنى الكتابة فبين أن الكتابة في قرطاس، لانه غير معقول كتابة إلا (1) في قرطاس أي في صحيفة والقرطاس الصحيفة، ويقال: قرطاس بالضم، وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف. (فلمسوه بأيديهم) أي فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ليرتفع كل ارتياب ويزول عنهم كله إشكال، لعاندوا فيه وتابعوا (2) كفرهم، وقالوا: سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا، وهذه الآية جواب لقولهم: " حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " (3) [ الاسراء: 93 ] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به. قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا " (3) [ الاسراء: 90 ] الآية. قوله تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9) ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (10) قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) اقترحوا هذا أيضا. و " لولا " بمعنى هلا. (ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر) قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. مجاهد وعكرمة: لقامت الساعة. قال الحسن وقتادة: لاهلكوا بعذاب الاستئصال، لان الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال. (أي لا ينظرون) أي لا يمهلون ولا يؤخرون. قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالاجسام الكثيفة، لان كله جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم (1) في ب وع وى:: لا في قرطاس. (2) في ع: وبالغوا في كفرهم. (3) راجع ج 10 ص 327. (*)
[ 394 ]
من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم. وكانت الملائكة تأتي الانبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبى. أي لو أنزل ملك لرأوه في صورة رجل (1) كما جرت عادة الانبياء، ولو نزل على عادته لم يروه، فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون: هذا ساحر مثلك. وقال الزجاج: المعنى (وللبسنا عليهم) أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا (2) ويشككونهم، فأعلمهم الله عزوجل أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون. واللبس الخلط، يقال: لبست عليه الامر ألبسه لبسا أي خلطته، وأصله التستر بالثوب ونحوه وقال: " لبسنا " بالاضافة إلى نفسه على جهة الخلق، وقال " ما يلبسون " فأضاف إليهم على جهة الاكتساب. ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق " أي نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم. حاق بالشئ يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل، قال الله تعالى: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " (3) [ فاطر: 43 ] و " ما " في قوله: " ما كانوا " بمعنى الذي وقيل: بمعنى المصدر أي حاق بهم عاقبة استهزائهم. قوله تعالى: قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (11) قل لمن ما في السموات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12) قوله تعالى: (قل سيروا في الارض) أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين: سافروا في الارض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب (1) في ب و ع و ي: لا في قرطاس (2) في ع: يلبسون عليهم مثل هذا. (3) راجع ج 14 ص 357. (*)
[ 395 ]
وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الامم وأهل الديار، والعاقبة آخر الامر. والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل. قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والارض) هذا [ أيضا ] (1) احتجاج عليهم، المعنى قل لهم يا محمد: " لمن في السموات والارض " فإن قالوا لمن هو ؟ فقل [ هو ] " لله " المعنى: إذا ثبت أن له ما في السموات والارض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ويبعثهم بعد الموت. ولكنه " كتب على نفسه الرحمة " أي وعد بها فضلا منه وكرما فلذلك أمهل وذكر النفس هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وعده، وارتفاع الوسائط دونه، ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الاقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الانابة والتوبة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي) أي لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه مقتضاه خبر حق ووعد صدق " إن رحمتي تغلب غضبي " أي تسبقه وتزيد عليه. قوله تعالى: (ليجمعنكم) اللام لام القسم، والنون نون التأكيد. وقال الفراء وغيره: يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: " الرحمة " ويكون ما بعده مستأنفا على جهة التبيين، فيكون معنى " ليجمعنكم " ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم. وقيل: المعنى ليجمعنكم أي في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل: (إلى) بمعنى في، أي ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل: يجوز أن يكون موضع " ليجمعنكم " نصبا على البدل من الرحمة، فتكون اللام بمعنى (أن) المعنى: كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم، أي أن يجمعكم، وكذلك قال كثير من النحويين في قوله تعالى: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه " (2) [ يوسف: 35 ] أي أن يسجنوه. وقيل: موضعه نصب ب‍ (- كتب)، كما تكون (أن) في قوله عزوجل " كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة " [ الانعام: 54 ] وذلك أنه مفسر للرحمة بالامهال إلى يوم القيامة، عن الزجاج. (1) في ك. (2) راجع ج 9 ص 186. (*)
[ 396 ]
(لا ريب فيه) لا شك فيه. (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) ابتداء وخبر، قاله الزجاج، وهو أجود ما قيل فيه، تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء. وقال الاخفش: إن شئت كان (الذين) في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في (ليجمعنكم) أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم، وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ، لانه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لا يقال: مررت بك زيد ولا مررت بي زيد لان هذا لا يشكل فيبين. قال القتبي: يجوز أن يكون (الذين) جزاء على البدل من (المكذبين) الذين تقدم ذكرهم. أو على النعت لهم. وقيل: (الذين) نداء مفرد. قوله تعالى: وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13) قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والارض وهو يطعم ولا يطعم قل إنى أمرت أن كون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16) قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) أي ثبت، وهذا احتجاج عليهم أيضا. وقيل: نزلت الآية لانهم قالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا (1)، فقال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الاشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني. و (سكن) معناه هدأ واستقر، والمراد ما سكن وما تحرك، فحذف لعلم السامع. وقيل: خص الساكن بالذكر لان ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة. وقيل المعنى ما خلق، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها، فإنه يجري عليه الليل والنهار، وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق، وهذا أحسن ما قيل، لانه يجمع شتات الاقوال. (وهو السميع) لاصواتهم (العليم) بأسرارهم. (1) في ع: من أغنيائنا، فأخبرهم سبحانه. الخ. (*)
[ 397 ]
قوله تعالى: (قل أغير الله أتخذ وليا) مفعولان، لما دعوه إلى عبادة الاصنام دين آبائه أنزل الله تعالى " قل " يا محمد: " أغير الله اتخذ وليا " أي ربا ومعبودا وناصرا دون الله. (فاطر السموات والارض) بالخفض على النعت لاسم الله، وأجاز الاخفش الرفع على إضمار مبتدإ. وقال الزجاج: ويجوز النصب على المدح. أبو علي الفارسي: ويجوز نصبه على فعل مضمر كأنه قال: أترك فاطر السموات والارض ؟ لان قوله: " أغير الله اتخذ وليا " يدل على ترك الولاية له، وحسن إضماره لقوة هذه الدلالة. (وهو يطعم ولا يطعم) كذا قراءة العامة، أي يرزق ولا يرزق، دليله قوله تعالى: " ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون " (1) [ الذاريات: 57 ] وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والاعمش: وهو يطعم ولا يطعم، وهي قراءة حسنة، أي أنه يرزق عباده، وهو سبحانه غير محتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الغذاء. وقرئ بضم الياء وكسر العين في الفعلين، أي إن الله يطعم عباده ويرزقهم والولي (2) لا يطعم نفسه ولا من يتخذه. وقرئ بفتح الياء والعين في الاول أي الولي (ولا يطعم) بضم الياء وكسر العين. وخص الاطعام بالذكر دون غيره من ضروب الانعام، لان الحاجة إليه أمس لجميع الانام. (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أي استسلم لامر الله تعالى. وقيل: أول من أخلص أي من قومي وأمتي، عن الحسن وغيره. (ولا تكونن من المشركين) أي وقيل لي: " ولا تكونن من المشركين ". (قل إني أخاف إن عصيت ربي) أي بعبادة غيره أن يعذبني، والخوف توقع المكروه. قال ابن عباس: " أخاف " هنا بمعنى أعلم. (من يصرف عنه) أي العذاب " يومئذ " يوم القيامة " فقد رحمه " أي فاز ونجا ورحم. وقرأ الكوفيون " من يصرف " بفتح الياء وكسر الراء، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، لقوله: " قل لمن ما في السموات والارض قل لله " ولقوله: " فقد رحمه " ولم يقل رحم على المجهول، ولقراءة أبي " من يصرفه الله عنه " واختار سيبويه القراءة الاولى - قراءة أهل المدينة وأبي عمرو - قال سيبويه: وكلما قل الاضمار في الكلام كان أولى، فأما قراءة [ من قرأ ] (3) (1) راجع ج 17 ص 55. (2) الولى: الوثن. (3) من ك. (*)
[ 398 ]
" من يصرف " بفتح الياء فتقديره: من يصرف الله عنه العذاب، وإذا قرئ (من يصرف عنه) فتقديره: من يصرف عنه العذاب. (وذلك الفوز المبين) أي النجاة البينة. قوله تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير (17) قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) المس والكشف من صفات الاجسام، وهو هنا مجاز وتوسع، والمعنى: إن تنزل بك يا محمد شدة من فقر أو مرض فلا رافع وصارف له إلا هو، وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة (فهو على كل شئ قدير) من الخير والضر روى ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (يا غلام - أو يا بني - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن) ؟ فقلت: بلى، فقال: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشئ لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل الله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا) أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب (الفصل والوصل) وهو حديث صحيح، وقد خرجه الترمذي، وهذا أتم. قوله تعالى: وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18) قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ أنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون (19)
[ 399 ]
قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) القهر الغلبة، والقاهر الغالب، وأقهر الرجل إذا صير بحال المقهور الذليل، قال الشاعر: (1) تمنى حصين أن يسود جذاعه * فأمسى حصين قد أذل وأقهرا وقهر غلب. ومعنى (فوق عباده) فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد. (وهو الحكيم) في أمره (الخبير) بأعمال عباده، أي من اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به. قوله تعالى: (قل أي شئ أكبر شهادة) وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت الآية، عن الحسن وغيره. ولفظ (شئ) هنا واقع موقع اسم الله تعالى، المعنى الله أكبر شهادة أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، فهو شهيد بيني وبينكم على أني قد بلغتكم وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة. قوله تعالى: (وأوحى إلى هذا القرآن) أي والقرآن شاهد بنبوتي. (لانذرتكم به) يا أهل مكة. (ومن بلغ) أي ومن بلغه القرآن. فحذف (الهاء) لطول الكلام. وقيل: ومن بلغ الحلم. ودل بهذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد. وتبليغ القرآن والسنة مأمور بهما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغهما، فقال: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " (2) [ المائدة: 67 ]. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار). وفي الخبر أيضا، من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذ به أو تركه. وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والانس فهو نذير له. وقال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه. وقرأ أبو نهيك: (وأوحى إلي هذا القرآن) مسمى الفاعل، وهو معنى قراءة الجماعة. (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) استفهام توبيخ (1) هو المخبل السعدي يهجو الزبرقان وقومه وجذاع الرجل قومه. (2) راجع ص 242 من هذا الجزء. (*)
[ 400 ]
وتقريع. وقرئ (أئنكم) بهمزتين على الاصل. وإن خففت الثانية قلت: (أئنكم). وروى الاصمعي عن أبي عمرو ونافع (أئنكم)، وهذه لغة معروفة، تجعل بين الهمزتين ألف كراهة لالتقائهما، قال الشاعر: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل * وبين النقا آأنت أم أم سالم ومن قرأ " إنكم " على الخبر فعلى أنه قد حقق عليهم شركهم. وقال: " آلهة أخرى " ولم يقل: (أخر)، قال الفراء: لان الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، ومنه قوله: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " (2) [ طه: 51 ]، وقوله: " فما بال القرون الاولى " (3) [ طه: 51 ] ولو قال: الاول والآخر صح أيضا. (4) (قل لا أشهد) أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه ونظيره " فإن شهدوا فلا تشهد معهم " (5) [ الانعام: 150 ]. قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20) قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب). يريد اليهود والنصارى الذين عرفوا وعاندوا وقد تقدم معناه في (البقرة) (6). و (الذين) في موضع رفع بالابتداء. " يعرفونه " في موضع الخبر، أي يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، عن الحسن وقتادة، وهو قول الزجاج. وقيل: يعود على الكتاب، أي يعرفونه على ما يدل عليه، أي على الصفة التي هو بها من دلالته على صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وآله. " الذين خسروا أنفسهم " في موضع النعت، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره " فهم لا يؤمنون ". قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) (1) هو ذو الرمة والوعساء رملة لينة وجلاجل (بفتح الجيم) وفي كتاب سيبويه (بضمها) موضع بعينه. والنقا الكثيب من الرمل. (2) راجع ج 10 ص 342. (3) راجع ج 11 ص 205. (4) أي في غير القرآن. (5) راجع ج 7 ص 129. (6) راجع ج 2 ص 162 وما بعدها. (*)
[ 401 ]
قوله تعالى: (ومن أظلم) ابتداء وخبر أي لا أحد أظلم (ممن افترى) أي اختلق (على الله كذبا أو كذب بآياته) يريد القرآن والمعجزات. (إنه لا يفلح الظالمون) قيل: معناه في الدنيا، ثم استأنف فقال: " ويوم نحشرهم جميعا " على معنى واذكر " يوم نحشرهم ". وقيل: معناه أنه لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم، فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: (الظالمون) لانه متصل. وقيل: هو متعلق بما بعده وهو (انظر) أي انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم، أي كيف يكذبون يوم نحشرهم ؟. (ثم نقول الذين أشركوا أين شركاؤكم) سؤال إفضاح لا إفصاح (1). (الذين كنتم تزعمون) أي في أنهم شفعاء لكم عند الله بزعمكم، وأنها تقربكم منه زلفى، وهذا توبيخ لهم. قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو كذب. قوله تعالى: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23) قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم) الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي. (2) (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) تبرءوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لاهل الاخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله: " يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا " (3) [ النساء: 42 ]. وقال أبو إسحق الزجاج: تأويل هذه الآية لطيف جدا، أخبر الله عزوجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع (1) في ك: لا ايضاح. (2) في ه‍ وب وج وع: الدعاوى. (3) راجع ج 5 ص 198. (*)
[ 402 ]
في هلكة تبرأ منه، [ فيقال ] (1): ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه. وقال الحسن: هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، ومعنى (فتنتهم) عاقبة فتنتهم أي كفرهم. وقال قتادة: معناه معذرتهم. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (فيلقى العبد فيقول أي فل (2) ألم أكرمك وأسودك [ وأزوجك ] (3) وأسخر لك الخيل والابل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى [ أي رب ] (3) فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا، فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال فيقال ها هنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه). قوله تعالى: انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (24) قوله تعالى. (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) كذب المشركين قولهم: إن عبادة الاصنام تقربنا إلى الله زلفى، بل ظنوا ذلك وظنهم الخطأ لا يعذرهم ولا يزيل اسم الكذب عنهم، وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل، وجحدهم نفاقهم. (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي فانظر كيف ضل عنهم افتراؤهم أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم. وقيل: (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا، عن الحسن. وقيل: المعنى عزب عنهم افتراؤهم لدهشهم، وذهول عقولهم. (1) في الاصول (فيقول) والتصويب عن تفسير الفخر والالوسى. (2) (أي فل) قال النووي: (بضم الفاء وسكون اللام) ومعناه يا فلان وهو ترخيم على خلاف القياس وقيل: ليس ترخيما بل هي لغة بمعنى فلان لانه لا يقال إلا بسكون اللام ولو كان ترخيما لفتحوها أو ضموها. و (تربع) أي تأخذ ربع الغنيمة يريد ألم أجعلك رئيسا مطاعا لان الملك كان يأخذ ربع الغنيمة في الجاهلية دون أصحابه. وقيل: إن معناه تركتك مستريحا لا تحتاج إلى كلفة وطلب. (3) الزيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 403 ]
والنظر في قوله: (انظر) يراد به نظر الاعتبار، ثم قيل: " كذبوا " بمعنى يكذبون، فعبر عن المستقبل بالماضي، وجاز أن يكذبوا في الآخرة لانه موضع دهش وحيرة وذهول عقل. وقيل: لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة، لانها دار جزاء على ما كان في الدنيا - وعلى ذلك أكثر أهل النظر - وإنما ذلك في الدنيا، فمعنى " والله ربنا ما كنا مشركين " على هذا: ما كنا مشركين عند أنفسنا، وعلى جواز أن يكذبوا في الآخرة يعارضه قوله: (ولا يكتمون الله حديثا)، ولا معارضة ولا تناقض، لا يكتمون الله حديثا في بعض المواطن إذا شهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بعملهم، ويكذبون على أنفسهم في بعض المواطن قبل شهادة الجوارح على ما تقدم. والله أعلم. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: " والله ربنا ما كنا مشركين " قال: اعتذروا وحلفوا، وكذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة: وروي عن مجاهد أنه قال: لما رأوا أن الذنوب تغفر إلا الشرك بالله والناس يخرجون من النار قالوا: " والله ربنا ما كنا مشركين " وقيل: " والله ربنا ما كنا مشركين " أي علمنا أن الاحجار لا تضر ولا تنفع، وهذا وإن كان صحيحا من القول فقد صدقوا ولم يكتموا، ولكن لا يعذرون بهذا، فإن المعاند كافر غير معذور. ثم قيل في قوله: " ثم لم تكن فتنتهم " خمس قراءات: قرأ حمزة والكسائي " يكن " بالياء " فتنتهم " بالنصب خبر " يكن " " إلا أن قالوا " اسمها أي إلا قولهم، فهذه قراءة بينة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو " تكن " بالتاء " فتنتهم " بالنصب (إلا أن قالوا) أي إلا مقالتهم. وقرأ أبي وابن مسعود وما كان - بدل [ قوله ] (1) (ثم لم تكن) - فتنتهم إلا أن قالوا). وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية حفص، والاعمش من رواية المفضل، والحسن وقتادة وغيرهم (ثم لم تكن " بالتاء " فتنتهم " بالرفع اسم " تكن " والخبر " إلا أن قالوا " فهذه أربع قراءات. الخامسة: " ثم لم يكن " بالياء (فتنتهم)، [ رفع ] (1) ويذكر الفتنة لانها بمعنى الفتون، ومثله " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى " (2) [ البقرة: 275 ]. " والله " [ الواو ] (3) واو القسم " ربنا " نعت لله عزوجل، أو بدل. ومن نصب فعلى النداء أي يا ربنا وهي قراءة حسنة، لان فيها معنى الاستكانة والتضرع، إلا أنه فصل بين القسم وجوابه بالمنادى. (1) من ب وج وك وع. (2) راجع ج 3 ص 347. (3) من ك. (*)
[ 404 ]
قوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين () قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك). [ أفرد ] (1) على اللفظ يعني المشركين كفار مكة. (وجعلنا على قلوبهم أكنة) أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم. وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم. والاكنة الاغطية جمع كنان مثل الاسنة والسنان، والاعنة والعنان. كننت الشئ في كنه إذا صنته فيه. وأكننت الشئ أخفيته. والكنانة معروفة (2). والكنة (بفتح الكاف والنون) امرأة أبيك، ويقال: امرأة الابن أو الاخ، لانها في كنه. (أن يفقهوه) أي يفهموه وهو في موضع نصب، المعنى كراهية أن يفهموه، (3) أو لئلا يفهموه. (3) (وفي آذانهم وقرا) عطف عليه أي ثقلا، يقال منه: وقرت أذنه (بفتح الواو) توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين. وقد وقر الله أذنه يقرها وقرا، يقال: اللهم قر أذنه. وحكى أبو زيد عن العرب: أذن موقورة على ما لم يسم فاعله، فعلى هذا وقرت (بضم الواو). وقرأ طلحة بن مصرف (وقرا) بكسر الواو، أي جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمل، والوقر الحمل، يقال منه: نخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير. ورجل ذو قرة إذا كان وقورا بفتح الواو، ويقال منه: وقر الرجل (بقضم القاف) وقارا، ووقر (بفتح القاف) أيضا. قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) أخبر الله تعالى بعنادهم لانهم لما رأوا القمر منشقا قالوا: سحر، فأخبر الله عزوجل بردهم الآيات بغير حجة. (1) الزيادة عن ابن عطية أبو حيان: وحد الضمير في (يستمع) حملا على لفظ (من) وجمعه في (على قلوبهم) حملا على معناها. (2) يعني جعبة السهام وقبيلة من مضر وبها سميت أرض الكنانة. (3) في ج: يفقهوه. (*)
[ 405 ]
قوله تعالى: (حتى إذا جاءوك يجادلونك) مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، عن ابن عباس. " يقول الذين كفروا " يعني قريشا، قال ابن عباس: قالوا للنضر بن الحرث ]: ما يقول محمد ؟ قال: أرى تحريك شفتيه وما يقول إلا أساطير الاولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدثهم. وواحد الاساطير أسطار كأبيات (1) وأباييت، عن الزجاج. قال الاخفش: واحدها أسطورة كأحدوثة وأحاديث. أبو عبيدة: واحدها إسطارة. النحاس: واحدها أسطور مثل عثكول. (2) ويقال: هو جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، يقال: سطر وسطر. والسطر الشئ الممتد المؤلف كسطر الكتاب. القشيري: واحدها أسطير. وقيل: هو جمع لا واحد له كمذاكير وعباديد (3) وأبابيل أي ما سطره الاولون في الكتب. قال الجوهري وغيره: الاساطير الاباطيل والترهات. قلت: أنشدني بعض أشياخي: تطاول ليلي واعترتني وساوسي * لآت أتى بالترهات الاباطيل قوله تعالى: وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون (26) قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) النهي الزجر، والنأي البعد، وهو عام في جميع الكفار أي ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن إذاية محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عن الايمان به، عن ابن عباس أيضا. وروى أهل السير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل (1) كذا في ا وب وه‍ وك. وفي زوع: أنياب وأنابيب. وكلاهما جمع وجمع الجمع فليتأمل. (2) العثكول: العذق وقيل: الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان الكباسة. (3) العباديد والعبابيد بلا واحد من لفظهما: الفرق من الناس والخيل الذاهبون في كل وجه والآكام والطرق البعيدة. (*)
[ 406 ]
لعنه الله -: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته. فقام ابن الزبعري فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال: (يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي) فقال أبو طالب: من فعل هذا بك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن الزبعري، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل جللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا ؟ فقال: (عبد الله بن الزبعري)، فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول، فنزلت هذه الآية (وهم ينهون عنه وينأون عنه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم نزلت فيك آية) قال: وما هي ؟ قال: (تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي) فقال أبو طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة * وابشر بذاك وقر منك عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي * فلقد صدقت وكنت قبل أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا اولا الملامة أو حذار مسبة * لوجدتني سمحا بذاك يقينا (1) فقالوا: يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته ؟ قال: (نعم دفع عنه بذاك الغل ولم يقرن مع الشياطين ولم يدخل في جب الحيات والعقارب إنما عذابه في نعلين من نار [ في رجليه ] (2) يغلي منهما دماغه في رأسه وذلك أهون أهل النار عذابا). وأنزل الله على رسوله " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " (3) [ الاحقاف: 35 ]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: (قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة) قال: لولا تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لاقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " (4) [ القصص: 56 ] كذا الرواية المشهورة (الجزع) بالجيم والزاي ومعناه (1) في الواحدي وغيره: مبينا. (2) من ج وك وع وز وه‍. (3) راجع ج 16 ص 220. (4) راجع ج 13 ص 299. (*)
[ 407 ]
الخوف. وقال أبو عبيد (1): (الخرع) بالخاء المنقوطة والراء المهملة. [ قال ] (2) يعني الضعف والخور، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه). وأما عبد الله ابن الزبعري فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل عذره، وكان شاعرا مجيدا، فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره، منها قوله: منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم مما أتاني أن أحمد لامني * فيه فبت كأنني محموم يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة (3) سرح اليدين غشوم إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرني بها مخزوم وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الغواة وأمرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي ومخطئ هذه محروم مضت العداوة فانقضت أسبابها * وأتت أواصر بيننا وحلوم فاغفر فدى لك والداي كلاهما * زللي (4) فإنك راحم مرحوم وعليك من سمة المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم أعطاك بعد محبة برهانه * شرفا وبرهان الاله عظيم ولقد شهدت بأن دينك صادق * حقا وأنك في العباد جسيم والله يشهد أن أحمد مصطفى * مستقبل في الصالحين كريم قرم (5) علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم (1) في ك وى: أبو عبيدة. (2) من ج وك وب وز وه‍. (3) الناقة ذات السرعة والنشاط. والناقة الصلبة. راجع ج 5 ص 206. (4) في ب وج وك وز وه‍: وارحم. (5) السيد العظيم. (*)
[ 408 ]
وقيل: المعنى (ينهون عنه) أي هؤلاء الذين يستمعون ينهون عن القرآن (وينأون عنه). عن قتادة، فالهاء على القولين الاولين في (عنه) للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قول قتادة للقرآن. (وإن يهلكون إلا أنفسهم) (إن) نافية أي وما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدونهم. قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27 قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) [ أي إذ ] (1) وقفوا غدا و (إذ) قد تستعمل في موضع (إذا) و (إذا) في موضع (إذ) وما سيكون فكأنه كان، لان خبر الله تعالى حق وصدق، فلهذا عبر بالماضي. ومعنى (إذ وقفوا) حبسوا يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا. وقرأ ابن السميقع (إذ وقفوا) بفتح الواو والقاف من الوقوف. " على النار " أي هم فوقها على الصراط وهي تحتهم. وقيل: (على) بمعنى الباء، أي وقفوا بقربها وهم يعاينونها. وقال الضحاك: جمعوا، يعني على أبوابها. ويقال: وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم. وفي الخبر: أن الناس كلهم يوقفون على متن جهنم كأنها متن إهالة (2)، ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي. وقيل: (وقفوا) دخلوها - أعاذنا الله منها - فعلى بمعنى (في) أي وقفوا في النار. وجواب (لو) محذوف ليذهب الوهم إلى كل شئ فيكون أبلغ في التخويف، والمعنى: لو تراهم في تلك الحال لرأيت أسوأ حال، أو لرأيت منظرا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا وما كان مثل هذا التقدير. قوله تعالى: (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) بالرفع في الافعال الثلاثة عطفا قراءة أهل المدينة والكسائي، وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالضم (3). ابن عامر على رفع (نكذب) ونصب (ونكون) وكله داخل في معنى التمني، أي لا تمنوا الرد (1) من ب وج وع وى. (2) الاهالة الشحم المذاب ومتن الاهالة ظهرها إذا سكبت في الاناء، فشبه سكون جهنم قبل أن يصير فيها الكفار بذلك. (اللسان). (3) أي بالرفع في كلها كما في ابن عطية. (*)
[ 409 ]
وألا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. واختار سيبويه القطع في (ولا نكذب) فيكون غير داخل في التمني، المعنى: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب، أي لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال سيبويه: وهو مثل قوله دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني. واستدل أبو عمرو على خروجه من التمني بقوله: " وإنهم لكاذبون " لان الكذب لا يكون في التمني إنما يكون في الخبر. وقال من جعله داخلا في التمني: المعنى وإنهم لكاذبون في الدنيا في إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل. وقرأ حمزة وحفص بنصب (نكذب) و (نكون) جوابا للتمني، لانه غير واجب، وهما داخلان في التمني على معنى أنهم تمنوا الرد وترك التكذيب والكون مع المؤمنين. قال أبو إسحق: معنى (ولا نكذب) أي إن رددنا لم نكذب. والنصب في (الكذب) و (نكون) بإضمار (أن) كما ينصب في جواب الاستفهام والامر والنهي والعرض، لان جميعه غير واجب ولا واقع بعد، فينصب الجواب مع الواو كأنه عطف على مصدر الاول، كأنهم قالوا: يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء من الكذب، وكون من المؤمنين، فحملا على مصدر (نرد) لانقلاب المعنى إلى الرفع، ولم يكن بد من إضمار (أن) فيه يتم النصب في الفعلين. وقرأ ابن عامر (ونكون) بالنصب على جواب التمني كقولك: ليتك تصير إلينا ونكرمك، أي ليت مصيرك يقع وإكرامنا يقع، وأدخل الفعلين الاولين في التمني، أو أراد: ونحن لا نكرمك (1) على القطع على ما تقدم، يحتمل. وقرأ أبي (ولا (2) نكذب بآيات ربنا أبدا). وعنه وابن مسعود (يا ليتنا نرد فلا نكذب) بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في الجواب كما ينصب بالواو، عن الزجاج. وأكثر البصريين لا يجيزون الجواب إلا بالفاء. قوله تعالى: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (27) (1) في ك. (2) كذا في الاصول والذي في البحر: وقرأ أبي (فلا نكذب بآيات ربنا أبدا). (*)
[ 410 ]
قوله تعالى: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) بل إضراب عن تمنيهم وادعائهم الايمان لو ردوا. واختلفوا في معنى (بدا لهم) على أقوال بعد تعيين من المراد، فقيل: المراد المنافقون لان اسم الكفر مشتمل عليهم، فعاد الضمير على بعض المذكورين، قال النحاس: وهذا من الكلام العذب الفصيح. وقيل: المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يفطن بهم ضعفاؤهم، فيظهر يوم القيامة، ولهذا قال الحسن: (بدا لهم) أي بدا لبعضهم ما كان يخفيه عن بعض. وقيل: بل ظهر لهم ما كانوا يجحدونه من الشرك فيقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين (بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل). قاله أبوروق (1). وقيل: (بدا لهم) ما كانوا يكتمونه من الكفر، أي بدت أعمالهم السيئة كما قال: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " (2) [ الزمر: 47 ]. قال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه. وقيل: المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة، لان بعده " وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ". قوله تعالى: (ولو ردوا) قيل: بعد معاينة العذاب. وقيل: قبل معاينته. (لعادوا لما نهوا عنه) أي لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند. قوله تعالى: (وإنهم لكاذبون) إخبار عنهم، وحكاية عن الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث، كما قال: " وإن ربك ليحكم " (3) [ النحل: 124 ] فجعله حكاية عن الحال الآتية. وقيل: المعنى وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين. وقرأ يحيى ابن وثاب (ولو ردوا) بكسر الراء، لان الاصل رددوا فنقلت كسرة الدال على الراء. قوله تعالى: وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمعوثين (29) (1) أبوروق: (فتح الراء وسكون الواو وبعدها قاف) هو عطية بن الحرث الهمذاني الكوفي ذكره بن سعد في الطبقة الخامسة وقال: هو صاحب التفسير. (التهذيب). (2) راجع ج 15 ص 264. (3) راجع ج 10 ص 199. (*)
[ 411 ]
قوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا) ابتداء وخبر و (إن) نافية. (وما نحن) (نحن) اسم (ما) بمبعوثين " خبرها، وهذا ابتداء إخبار عنهم عما قالوه في الدنيا. قال ابن زيد: هو داخل في قوله: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " " وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا " أي لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال. وهذا يحمل على المعاند كما بيناه في حال إبليس، أو على أن الله (1) يلبس عليهم بعد ما عرفوا، وهذا شائع في العقل. قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) (وقفوا) أي حبسوا (على ربهم) أي على ما يكون من أمر الله فيهم. وقيل: (على) بمعنى (عند) أي عند ملائكته وجزائه، وحيث لا سلطان فيه لغير الله عزوجل، تقول: وقفت على فلان أي عنده، وجواب " لو " محذوف لعظم شأن الوقوف. (قال أليس هذا بالحق) تقرير وتوبيخ أي أليس هذا البعث كائنا موجودا ؟ ! " قالوا بلى " ويؤكدون اعترافهم بالقسم بقولهم: " وربنا ". وقيل: إن الملائكة تقول لهم بأمر الله أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا ؟ فيقولون: (بلى وربنا) إنه حق. " قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ". قوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31) قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) قيل: بالبعث بعد الموت وبالجزاء، دليله قوله عليه السلام: (من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) أي لقي جزاءه، لان من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية، ذهب (1) في ب وك وه‍ وع: الرب. (*)
[ 412 ]
إلى هذا القفال وغيره، قال القشيري: وهذا ليس بشئ، لان حمل اللقاء في موضع على الجزاء لدليل قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية، والكفار كانوا ينكرون الصانع، ومنكر الرؤية منكر للوجود ! قوله تعالى: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها. ومعنى (بغتة) فجأة، يقال: بغتهم الامر يبغتهم بغتا وبغتة. وهي نصب على الحال، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كما تقول: قتلته صبرا، وأنشد: (1) فلايا بلاي ما حملنا وليدنا * على ظهر محبوك ظماء مفاصله ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه، لا يقال: جاء فلان سرعة. قوله تعالى: (قالوا يا حسرتنا) وقع النداء على الحسرة وليست بمنادي في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التحسر، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمنادين في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء، قال سيبويه: كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك، وكذلك قولك يا حسرتي [ أي يا حسرتا ] (2) تعالى فهذا وقتك، وكذلك ما لا يصح نداؤه يجرى هذا المجرى، فهذا أبلغ من قولك تعجبت. ومنه قول الشاعر: * فيا عجبا من رحلها المتحمل (3) * وقيل: هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة، أي يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بي من الحسرة، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة، كقولك: لا أرينك ها هنا. فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة. (1) البيت لزهير بن أبي سلمى والشاهد فيه قوله: (لايا بلاى) ونصب على المصدر الموضوع في موضع الحال والتقدير حملنا وليدنا مبطئين ملتئين. وصف فرسا بالنشاط وشدة الخلق فيقول: إذا حملنا الغلام عليه ليصيد امتنع لنشاطه فلم نحمله إلا بعد إبطاء وجهد واللاى الابطاء المحبوك الشديد الخلق والظماء هنا القليلة اللحم - وهو المحمود منها - وأصل الظمأ العطش. (شواهد سيبويه). (2) من ب، ج، ك، ع. (3) شطر بيت من معلقة امرئ القيس وصدره: * ويوم عقرت للعذارى مطيتي * (*)
[ 413 ]
قوله تعالى: (على ما فرطنا فيها) أي في الساعة، أي في التقدمة لها، عن الحسن. و (فرطنا) معناه ضيعنا وأصله التقدم، يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه (أنا فرطكم على الحوض). ومنه الفارط أي المتقدم للماء، ومنه - في الدعاء للصبي - اللهم اجعله فرطا لابويه، فقولهم: (فرطنا) أي قدمنا العجز. وقيل: (فرطنا) أي جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا. (فيها) أي في الدنيا بترك العمل للساعة. وقال الطبري: (الهاء) راجعة إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الايمان بالكفر، [ والآخرة بالدنيا ] (1)، " قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها " أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها، لان الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع، دليله قوله: " فما ربحت تجارتهم " (2) [ البقرة: 16 ]. وقال السدي: على ما ضيعنا أي من عمل الجنة. وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: (يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون: (يا حسرتنا). قوله تعالى: (وهم يحملون أوزارهم) أي ذنوبهم جمع وزر. (على ظهورهم) مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا، يقال منه: وزر يزر، ووزر يوزر فهو وازر وموزور، وأصله من الوزر وهو الجبل. ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة (ارجعن موزورات غير مأجورات) قال أبو عبيد: والعامة تقول: (مأزورات) كأنه لا وجه له عنده، لانه من الوزر. قال أبو عبيد: ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي ثقلك. ومنه الوزير لانه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية: والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها. (ألا ساء ما يزرون) أي ما أسوأ الشئ الذي يحملونه. قوله تعالى: وما الحيوة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32) (1) في الاصول: والدنيا بالآخرة. (2) راجع ج 1 ص 210. (*)
[ 414 ]
فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) أي لقصر مدتها كما قال: ألا إنما الدنيا كأحلام نائم * وما خير عيش لا يكون بدائم تأمل إذا ما نلت بالامس لذة * فأفنيتها هل أنت إلا كحالم وقال آخر: فاعمل على مهل فإنك ميت * واكدح لنفسك أيها الانسان فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى * وكأن ما هو كائن قد كانا (1) وقيل: المعنى متاع الحياة الدنيا لعب ولهو، أي الذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له، فهو بمنزلة اللعب واللهو. ونظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فقال: أنا الملك الشاب، فقالت له جارية له: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للانسان ليس فيما بدا لنا منك عيب * كان (2) في الناس غير أنك فاني وقيل: معنى (لعب ولهو) باطل وغرور، كما قال: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (3) [ آل عمران: 185 ] فالمقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم: " إن هي إلا الحياة الدنيا ". واللعب معروف، والتلعابة الكثير اللعب، والملعب مكان اللعب، يقال: لعب يلعب. واللهو أيضا معروف، وكل ما شغلك فقد ألهاك، ولهوت من اللهو، وقيل: أصله الصرف عن الشئ، من قولهم: لهيت عنه، قال المهدوي: وفيه بعد، لان الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان، ولام الاول واو. الثانية - ليس من اللهو واللعب ما كان من أمور الآخرة، فإن حقيقة اللعب ما لا ينتفع به واللهو ما يلتهى به، وما كان مرادا للآخرة خارج عنهما، وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة (4) لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها. وقال محمود الوراق: (1) فيه إقواء. (2) في هامش ب: عابه الناس. (3) راجع ج 17 ص 255. (4) في ك: تجارة. (*)
[ 415 ]
لا تتبع الدنيا وأيامها * ذما وإن دارت بك الدائره من شرف الدنيا ومن فضلها * أن بها تستدرك الآخره وروى أبو عمر بن عبد البر عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أو أدى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الاجر وسائر الناس همج لا خير فيه) وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حديث حسن غريب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها). وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء). وقال الشاعر: تسمع (1) من الايام إن كنت حازما * فإنك منها بين ناه وآمر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه * فما فات من شئ فليس بضائر ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة * ولا وزن زف (2) من جناح لطائر فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن * ولا (3) رضى الدنيا جزاء لكافر وقال ابن عباس: هذه حياة الكافر لانه يزجيها (4) في غرور وباطل، فأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهوا ولعبا. قوله تعالى: (وللدار الآخرة خير) أي الجنة لبقائها، وسميت آخرة لتأخرها عنا، والدنيا لدنوها منا. وقرأ ابن عامر (ولدار الآخرة) بلام واحدة، والاضافة على تقدير حذف المضاف وإقامة الصفة مقامه، التقدير: ولدار الحياة الآخرة. وعلى قراءة الجمهور (وللدار الآخرة) اللام لام الابتداء، ورفع الدار بالابتداء، وجعل الآخرة نعتا لها والخبر (خير للذين) يقويه (1) كذا في الاصول. وهو المعنى المراد. وفي ط الاول: تمتع. (2) الزف (بالكسر): صغير الريش، وخص بعضهم به ريش النعام، وورد في أدب الدنيا والدين (وزن ذر). (3) كذا في الاصول. بل الدنيا جزاء الكافر لقوله عليه الصلاة والسلام " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ". (4) يزجى الايام يدافعها. (*)
[ 416 ]
" تلك الدار الآخرة " (1) [ القصص: 83 ] " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " (1) [ العنكبوت: 64 ]. فأتت الآخرة صفة للدار فيهما. (للذين يتقون) أي الشرك. (أفلا تعقلون) قرئ بالياء والتاء، أي أفلا يعقلون أن الامر هكذا فيزهدوا في الدنيا. والله أعلم. قوله تعالى: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33) ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإى المرسلين (34) قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) كسرت (إن) لدخول اللام. قال أبو ميسرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا: يا محمد والله ما نكذبك وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذب ما جئت به، فنزلت هذه الآية " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ثم آنسه بقوله: " ولقد كذبت رسل من قبلك " الآية. وقرئ " يكذبونك " مخففا ومشددا، قيل: هما بمعنى واحد كحزنته وأحزنته، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف، وهي قراءة علي رضي الله عنه، وروي عنه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله عزوجل " فإنهم لا يكذبونك " قال النحاس: وقد خولف أبو عبيد في هذا. وروي: لا نكذبك. فأنزل الله عزوجل: " لا يكذبونك ". ويقوي هذا أن رجلا قرأ على ابن عباس " فإنهم لا يكذبونك " مخففا فقال له ابن عباس: " فإنهم لا يكذبونك " لانهم كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم الامين. ومعنى " يكذبونك " عند أهل اللغة ينسبونك إلى الكذب، ويردون عليك ما قلت. ومعنى " لا يكذبونك " أي لا يجدونك تأتي بالكذب، كما تقول: أكذبته وجدته كذابا، وأبخلته وجدته بخيلا، أي لا يجدونك كذابا إن تدبروا ما جئت به. ويجوز أن يكون المعنى: لا يثبتون عليك أنك كاذب، لانه يقال: أكذبته (1) راجع ج 13 ص 320، ص 361. (*)
[ 417 ]
إذا احتججت عليه وبينت أنه كاذب. وعلى التشديد: لا يكذبونك بحجة ولا برهان، ودل على هذا " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ". قال النحاس: والقول في هذا مذهب أبي عبيد، واحتجاجه لازم، لان عليا كرم الله وجهه هو الذي روى الحديث، وقد صح عنه أنه قرأ بالتخفيف، وحكى الكسائي عن العرب: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه، وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب، وكذلك قال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب. قوله تعالى: (فصبروا على ما كذبوا) أي فاصبر كما صبروا. (وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) أي عوننا، أي فسيأتيك ما وعدت به. (ولا مبدل لكلمات الله) مبين لذلك النصر، أي ما وعد الله عزوجل به فلا يقدر أحد أن يدفعه، لا ناقض لحكمه، ولا خلف لوعده، و " لكل أجل كتاب " (1) [ الرعد: 38 ] " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " (2) [ غافر: 51 ] " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون " (2) [ الصافات: 171 - 173 ] " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي " (3) [ المجادلة: 21 ]. (ولقد جاءك من نبإ المرسلين) فاعل (جاءك) مضمر، المعنى: جاءك من نبإ المرسلين نبأ. قوله تعالى: وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجهلين (35) قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم) أي عظم عليك إعراضهم وتوليهم عن الايمان. (فإن استطعت) قدرت (أن تبتغي) تطلب (نفقا في الارض) أي سربا تخلص منه إلى مكان آخر، ومنه النافقاء لحجر اليربوع، وقد تقدم في " البقرة " (4) بيانه (5)، ومنه المنافق. وقد تقدك. (أو سلما) معطوف عليه، أي سببا إلى السماء، وهذا تمثيل، لان السلم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع، وهو مذكر، ولا يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث السلم. قال قتادة: السلم الدرج. الزجاج: وهو مشتق من السلامة كأنه (6) يسلمك إلى الموضع الذي (1) راجع ج 9 ص 327 (2) راجع ج 15 ص 322 وص 139 (3) راجع ج 17 ص 306 (4) راجع ج 1 ص 178. (5) في ك: " بناؤه ". (6) في ك: " لانه ". (*)
[ 418 ]
تريد. (فتأتيهم بآية) عطف عليه أي ليؤمنوا فافعل، فأضمر الجواب لعلم السامع. أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون، كما أنه لا يستطيع هداهم. (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) أي لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله ردا على القدرية. وقيل المعنى: أي لاراهم آية تضطرهم إلى الايمان، ولكنه أراد عزوجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن. (فلا تكونن من الجاهلين) أي من الذين أشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحل، أي لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين. وقيل: الخطاب له والمراد الامة، فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم. قوله تعالى: إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36) وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (37) قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون) أي سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون، قال معناه الحسن ومجاهد، وتم الكلام. ثم قال: (والموتى يبعثهم الله) وهم الكفار، عن الحسن ومجاهد، أي هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة. وقيل: الموتى كل من مات. " يبعثهم الله " أي للحساب، وعلى الاول بعثهم هدايتهم إلى الايمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن: هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الالجاء في الدنيا. قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) قال الحسن: (لولا) ها هنا بمعنى هلا، وقال الشاعر: (1) تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطري لولا الكمي المقنعا (1) هو الفرزدق يفتخر في شعره بكرم أبيه غالب وعقره مائة ناقة في معاقرة سحيم بن وثيل الرياحي في موضع يقال له (صوأر) على مسيرة يوم من الكوفة ولذلك يقول جرير أيضا: وقد سرني ألا تعد مجاشع * من المجد إلا عقر نيب بصوأر وبنو ضوطري تقال للقوم إذا كانوا لا يغنون غناء. (*)
[ 419 ]
وكان هذا منهم تعنتا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الوصف (1) وعلم الغيوب. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي لا يعلمون أن الله عزوجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواما يؤمنون به ولم يرد استئصالهم. وقيل: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن الله قادر على إنزالها. الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى أي جمع إلجاء. قوله تعالى: وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون (38) قوله تعالى: (وما من دابة في الارض) تقدم معنى الدابة والقول فيه في " البقرة " (2) وأصله الصفة، من دب يدب فهو داب إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو. (ولا طائر يطير بجناحيه) بخفض " طائر " عطفا على اللفظ. وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحق (ولا طائر) بالرفع عطفا على الموضع، و (من) زائدة، التقدير: وما دابة. " بجناحيه " تأكيد وإزالة للابهام، فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر، تقول للرجل: طرفي حاجتي، أي أسرع، فذكر (بجناحيه) ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز. وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ولو كان غير معتدل لكان يميل، فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و " ما يمسكهن إلا الله " (3) [ النحل: 79 ]. والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي، ومنه جنحت السفينة إذا مالت إلى ناحية الارض لاصقة بها فوقفت. وطائر الانسان عمله، وفي التنزيل " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " (3) [ الاسراء: 13 ]. (إلا أمم أمثالكم) أي هم جماعات مثلكم في أن الله عزوجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي (1) في ب وع: الرصف. وهو نظم الشئ بعضه إلى بعض. (2) راجع ج 2 ص 196. (3) راجع ج 10 ص 151، ص 229. (*)
[ 420 ]
أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. و (دابة) تقع على جميع ما دب، وخص بالذكر ما في الارض دون السماء لانه الذي يعرفونه ويعاينونه. وقيل: هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة، والمعنى: وما من دابة ولا طائر إلا وهو يسبح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار. وقال أبو هريرة: هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غدا ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول الله لها: كوني ترابا. وهذا اختيار الزجاج فإنه قال: (إلا أمم أمثالكم) في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول الاول أيضا. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالاسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، فهذا معنى المماثلة. واستحسن الخطابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك. وقال مجاهد في قوله عزوجل: " إلا أمم أمثالكم " قال أصناف لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون. وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة، وأنها تحشر وتنعم في الجنة، وتعوض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم، والصحيح " إلا أمم أمثالكم " في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله. وقول سفيان أيضا حسن، فإنه تشبيه واقع في الوجود. قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الاجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال الله تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " (1) [ النحل: 89 ] وقال: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " (1) [ النحل: 44 ] وقال: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (2) [ الحشر: 7 ] فأجمل في هذه الآية وآية (النحل) ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شئ إلا ذكره، إما تفصيلا وإما تأصيلا، وقال: " اليوم أكملت لكم دينكم " (3) [ المائدة: 3 ]. (1) راجع ج 10 ص 164، ص 108. (2) راجع ج 18 ص 17. (3) راجع ص 61 من هذا الجزء. (*)
[ 421 ]
قوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) أي للجزاء، كما سبق في خبر أبي هريرة، وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لتؤدن (1) الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء (2) من الشاة القرناء). ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة، وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم، وروي عن ابن عباس، قال ابن عباس في رواية: حشر الدواب والطير موتها، وقاله الضحاك، والاول أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح، وفي التنزيل " وإذا الوحوش حشرت " (3) [ التكوير: 5 ] وقول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان (4) عن يزيد ابن الاصم عنه: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شئ، فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرنا ثم يقول: (كوني ترابا) فذلك قوله تعالى: " ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " (3) [ النبأ: 40 ]. وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجزع قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف، فيقول الله تعالى لهن: (كن ترابا) فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراب. وقالت جماعة: هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تخلل كلام معترض وإقامة حجج، وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه، وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال: حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لما ركب على الحجر، وللعود لما خدش العود، قالوا: فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لان الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الاغبياء، قالوا: ولان القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا. قلت: الصحيح القول الاول لما ذكرناه من حديث أبي هريرة، وإن كان القلم لا يجري عليهم في الاحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به، وروي عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا ؟) قلت: (1) لتؤدن (بفتح الدال المشددة) وفي بعض النسخ بضمها فالحقوق بالرفع على الاول والنصب على الثاني. (2) الجلحاء: التي لا قرن لها. (3) راجع ج 19 ص 227 وص 186. (4) برقان (بالكفسر والضم). (القاموس). (*)
[ 422 ]
لا. قال: (لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما) وهذا نص، وقد زدناه بيانا في كتاب (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة). والله أعلم. قوله تعالى: والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39) قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41) قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم) ابتداء وخبر، أي عدموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم، فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون. وقد تقدم في (البقرة) (1). (في الظلمات) أي ظلمات الكفر. وقال أبو علي: يجوز أن يكون المعنى (صم وبكم) في الآخرة، فيكون حقيقة دون مجاز اللغة. (من يشإ الله يضلله) دل على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله. ألا ترى أنه قال: (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) أي على دين الاسلام لينفذ فيه فضله. وفيه إبطال لمذهب القدرية. والمشيئة راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه. قوله تعالى: " قل أرأيتكم " وقرأ نافع بتخفيف الهمزتين، يلقي حركة الاولى على ما قبلها، ويأتي بالثانية بين بين. وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوض منها ألفا. قال النحاس: وهذا عند أهل العربية غلط عليه، لان الياء ساكنة والالف ساكنة ولا يجتمع ساكنان. قال مكي: وقد روي عن ورش أنه أبدل من الهمزة ألفا، لان الرواية عنه أنه يمد الثانية، والمد لا يتمكن إلا مع البدل، والبدل فرع عن الاصول، والاصل أن تجعل (1) راجع ج 1 ص 214. (*)
[ 423 ]
الهمزة بين الهمزة المفتوحة والالف، وعليه كل من خفف الثانية غير ورش، وحسن جواز البدل في الهمزة وبعدها ساكن لان الاول حرف مد ولين، فالمد الذي يحدث مع الساكن يقوم مقام حركة يوصل بها إلى النطق بالساكن الثاني. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة (أرأيتكم) بتحقيق الهمزتين وأتوا بالكلمة على أصلها، والاصل الهمز، لان همزة الاستفهام دخلت على (رأيت) فالهمزة عين الفعل، والياء ساكنة لاتصال المضمر المرفوع بها. وقرأ عيسى بن عمر والكسائي (أريتكم) بحذف الهمزة الثانية. قال النحاس: وهذا بعيد في العربية، وإنما يجوز في الشعر، والعرب تقول: أرأيتك زيدا ما شأنه. ومذهب البصريين أن الكاف والميم للخطاب، لا حظ لهما في الاعراب، وهو اختبار الزجاج. ومذهب الكسائي والفراء وغيرهما أن الكاف والميم نصب بوقوع الرؤية عليهما، والمعنى أرأيتم أنفسكم، فإذا كانت للخطاب - زائدة للتأكيد - كان (إن) من قوله " إن أتاكم " في موضع نصب على المفعول لرأيت، وإذا كان اسما في موضع نصب ف‍ (- إن) في موضع المفعول الثاني، فالاول من رؤية العين لتعديها لمفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين. وقوله: (أو أتتكم الساعة) المعنى: أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها. ثم قال: (أغير الله تدعون إن كنتم صادقين) والآية في محاجة المشركين ممن اعترف أن له صانعا، أي أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية ؟ ! وكانوا يعبدون الاصنام ويدعون الله في صرف العذاب. قوله تعالى: (بل إياه تدعون) " بل " إضراب عن الاول وإيجاب للثاني. " إياه " نصب. ب‍ " - تدعون " (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) أي يكشف الضر الذي تدعون إلى كشفه إن شاء كشفه. (وتنسون ما تشركون) قيل: عند نزول العذاب. وقال الحسن: أي تعرضون عنه إعراض الناسي، وذلك لليأس من النجاة من قبله إذ لا ضرر فيه ولا نفع. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وتتركون. قال النحاس: مثل قوله: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " (1) [ طه: 115 ]. (1) راجع ج 11 ص 251. (*)
[ 424 ]
قوله تعالى: ولقد أرسلنا إلى آمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلكم يتضرعون (42) قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إضمار، أي أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا وفيه إضمار آخر يدل عليه الظاهر تقديره: فكذبوا فأخذناهم. وهذه الآية متصلة بما قبل اتصال الحال بحال قريبة منها، وذلك أن هؤلاء سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم في مخالفة أنبيائهم، فكانوا بعرض أن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم. ومعنى (بالبأساء) بالمصائب في الاموال (والضراء) في الابدان، هذا قول الاكثر، وقد يوضع كل واحد منهما موضع الآخر، ويؤدب الله عباده بالبأساء والضراء وبما شاء " لا يسأل عما يفعل " (1) [ الانبياء: 23 ]. قال ابن عطية: استدل العباد في تأديب أنفسهم بالبأساء في تفريق الاموال، والضراء في الحمل على الابدان بالجوع والعري بهذه الآية. قلت: هذه جهالة ممن فعلها وجعل هذه الآية أصلا لها، هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده أن يمتحنهم بها، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا ونكافئها قياسا عليها، فإنها المطية التي نبلغ عليها دار الكرامة، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة، وفى التنزيل: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا " (2) [ المؤمنون: 51 ] وقال: " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " (3) [ البقرة: 267 ]. " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " (4) [ البقرة: 172 ] فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب ويتجملون بها، وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا، على ما تقدم بيانه في (المائدة) (5) وسيأتي في (الاعراف) (6) من حكم اللباس وغيره، ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان في امتنان الله تعالى بالزروع والجنات وجميع الثمار والنبات والانعام التي سخرها وأباح لنا (1) راجع ج 11 ص 278. (2) راجع ج 12 ص 127. (3) راجع ج 3 ص 320. (4) راجع ج 2 ص 215. (5) راجع ص 263 وما بعدها من هذا الجزء. (6) راجع ج 7 ص 195. (*)
[ 425 ]
أكلها وشرب ألبانها والدف ء بأصوافها - إلى غير ذلك مما امتن به - كبير فائدة، فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء، وقد تقدم في آخر (البقرة) (1) بيان فضل المال ومنفعته والرد على من أبى من جمعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال مخافة الضعف على الابدان، ونهى عن إضاعة المال ردا على الاغنياء الجهال. قوله تعالى: (لعلهم يتضرعون) أي يدعون ويذلون، [ مأخوذ ] (2) من الضراعة وهي الذلة، يقال: ضرع فهو ضارع. قوله تعالى: فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45) قوله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) (لولا) تحضيض، وهي التي تلى الفعل بمعنى هلا، وهذا عتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب. ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع. والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدة، قال الله تعالى: " ادعوني استجب لكم " (3) [ غافر: 60 ] وقال: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي " [ غافر: 60 ] أي دعائي " سيدخلون جهنم داخرين " [ غافر: 60 ] وهذا وعيد شديد. (ولكن قست قلوبهم) أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والاصرار على المعصية، نسأل الله العافية. (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) أي أغواهم (4) بالمعاصي وحملهم عليها. (1) راجع ج 3 ص 417 وما بعدها. (2) من ب، ج، ك، ع. (3) راجع ج 15 ص 326. (4) في ج، ع، ى: أغراهم. (*)
[ 426 ]
قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) يقال: لم ذموا على النسيان وليس من فعلهم ؟ فالجواب: أن (نسوا) بمعنى تركوا ما ذكروا به، عن ابن عباس وابن جريج، وهو قول أبي علي، وذلك لان التارك للشئ إعراضا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي، كما يقال: تركه. في النسي. جواب آخر: وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك، كما جاز الذم على التعرض لسخط الله عزوجل وعقابه. ومعنى (فتحنا عليهم أبواب كل شئ) أي من النعم والخيرات، أي كثرنا لهم ذلك. والتقدير عند أهل العربية: فتحنا عليهم أبواب كل شئ كان مغلقا عنهم. (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك العطاء لا يبيد، وأنه دال على رضاء الله عزوجل عنهم (أخذناهم بغتة) أي استأصلناهم وسطونا بهم. و (بغتة) معناه فجأة، وهي الاخذ على غرة ومن غير تقدم أمارة، فإذا أخذ لانسان وهو غار غافل فقد أخذ بغتة، وأنكى شئ ما يفجأ من البغت. وقد قيل: إن التذكير الذي سلف - فأعرضوا عنه - قام مقام الامارة. والله أعلم. و (بغتة) مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه كما تقدم، فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال: " وأملي لهم إن كيدي متين " (1) [ الاعراف: 183 ] نعوذ بالله من سخطه ومكره. قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ". وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم) ثم تلا " فلما نسوا ما ذكروا به " الآية كلها. وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها (2) إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته). قوله تعالى: (فإذا هم مبلسون) المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال، قال العجاج: (1) راجع ج 7 ص 329. (2) في ج: في ذلك. (*)
[ 427 ]
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا (1) * قال نعم أعرفه وأبلسا أي تحير لهول ما رأى، ومن ذلك اشتق اسم إبليس، أبلس الرجل سكت، وأبلست الناقة وهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة، ضبعت الناق تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل. قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) الدابر الآخر، يقال: دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم في المجئ. وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود (من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبريا) (2) أي في آخر الوقت، والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيرهم فلم تبق لهم باقية. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت: فأهلكوا بعذاب حص دابرهم * فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا ومنه التدبير لانه إحكام عواقب الامور. (والحمد لله رب العالمين) قيل: على إهلاكهم وقيل: تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه. وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم، لما يعقب من قطع الدابر، إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمد من كل حامد. قوله تعالى: قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46) قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون (47) قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم). أي أذهب وانتزع. ووحد " سمعكم " لانه مصدر يدل على الجمع. (وختم) أي طبع. وقد تقدم في " البقرة " (3). (1) المكرس: الذي صار فيه الكرس والكرس (بالكسر): أبوال الابل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار والدمن. وأبلس: سكت غما. (2) دبريا: يروي (بفتح الباء وسكونها) وهو منسوب إلى الدبر آخر الشئ وفتح الباء من تغيرات النسب. (ابن الاثير). (3) راجع ج 1 ص 185. (*)
[ 428 ]
وجواب (إن) محذوف تقديره: فمن يأتيكم به، وموضعه نصب، لانها في موضع الحال كقولك: اضربه إن خرج أي خارجا. ثم قيل: المراد المعاني القائمة بهذه الجوارح، وقد يذهب الله الجوارح والاعراض جميعا فلا يبقي شيئا، قال الله تعالى: " من قبل أن نطمس وجوها " (1) [ النساء: 47 ] والآية احتجاج على الكفار. (من إله غير الله يأتيكم به) " من " رفع بالابتداء وخبرها " إله " و " غيره " صفة له، وكذلك " يأتيكم " موضعه رفع بأنه صفة " إله " ومخرجها مخرج الاستفهام، والجملة التي هي منها في موضع مفعولي رأيتم. ومعنى " أرأيتم ". علمتم، ووحد الضمير في (به) - وقد تقدم الذكر بالجمع - لان المعنى أي بالمأخوذ، فالهاء راجعة إلى المذكور. وقيل: على السمع بالتصريح، مثل قوله: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " (2) [ التوبة: 62 ] ودخلت الابصار والقلوب بدلالة التضمين. وقيل: " من إله غير الله يأتيكم ". بأحد هذه المذكورات. وقيل: على الهدى الذي تضمنه المعنى. وقرأ عبد الرحمن الاعرج (به انظر) بضم الهاء على الاصل، لان الاصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول: جئت معه. قال النقاش: في هذه الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا وفي غير آية، وقد مضى هذا في أول " البقرة (3) " مستوفى. وتصريف الآيات الاتيان بها من جهات، من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك. (ثم هم يصدفون) أي يعرضون. عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي، يقال: صدف عن الشئ إذا أعرض عنه صدفا وصدوفا فهو صادف. وصادفته مصادفة أي لقيته عن إعراض عن جهته، قال ابن الرقاع: إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه * وهن عن كل سوء يتقى صدف والصدف في البعير أن يميل خفه من اليد أو الرجل إلى الجانب الوحشي، فهم [ يصدفون (4) أي ] مائلون معرضون عن الحجج والدلالات. (1) راجع ج 5 ص 241. (2) راجع ج 8 ص 193. (3) راجع ج 1 ص 189. (4) من ع. (*)
[ 429 ]
قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة) الحسن: " بغتة " ليلا " أو جهرة " نهارا. وقيل: بغتة فجأة. وقال الكسائي: يقال بغتهم الامر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجأة. وقد تقدم. (هل يهلك إلا القوم الظالمون) نظيره " فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " (1) [ الاحقاف: 35 ] أي هل يهلك إلا أنتم لشرككم والظلم هنا بمعنى الشرك، كما قال لقمان لابنه: " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " (2) [ لقمان: 13 ]. قوله تعالى: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (48) قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) أي بالترغيب والترهيب. قال الحسن: مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة، يدل على ذلك قوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " (3) [ الاعراف: 96 ]. ومعنى (منذرين) مخوفين عقاب الله، فالمعنى: إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم. وقوله: (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). تقدم القول فيه. قوله تعالى: والذين كذبوا بأياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49) قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا) أي بالقرآن والمعجزات. وقيل: بمحمد عليه الصلاة والسلام. (يمسهم العذاب) أي يصيبهم (بما كانوا يفسقون) أي يكفرون. قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الاعمى والبصير أفلا تتفكرون (50) (1) راجع ج 16 ص 222. (2) راجع ج 14 ص 62. (3) راجع ج 7 ص 253. (*)
[ 430 ]
قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) هذا جواب لقولهم: " لولا نزل عليه آية من ربه " [ الانعام: 37 ]، فالمعنى ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات، ولا أعلم الغيب فأخبركم به. والخزانة ما يخزن فيه الشئ، ومنه الحديث (فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمانهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته). وخزائن الله مقدوراته، أي لا أملك أن أفعل [ كل ما ] (1) أريد مما تقترحون (ولا أعلم الغيب) أيضا (ولا أقول لكم إنى ملك) وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل، أي لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدل بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الانبياء. وقد مضى في " البقرة " (2) القول فيه فتأمله هناك. قوله تعالى: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. والصحيح أن الانبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلة الشرع. وسيأتي بيان هذا في " الاعراف " (3) وجواز اجتهاد الانبياء في (الانبياء) (4) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (قل هل يستوى الاعمى والبصير) أي الكافر والمؤمن، عن مجاهد [ وغيره ] (5). وقيل: الجاهل والعالم. (أفلا تتفكرون) أنهما لا يستويان. قوله تعالى: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51) قوله تعالى: (وأنذر به) أي بالقرآن. والانذار الاعلام وقد تقدم في " البقرة " (2). وقيل: " به " أي بالله. وقيل: باليوم الآخر. وخص " الذين يخافون أن يحشروا) لان الحجة عليهم أوجب، فهم خائفون من عذابه، لا أنهم يترددون في الحشر، فالمعنى " يخافون " (1) من ب وج وع. (2) راجع ج 1 ص 289 وص 184. (3) راجع ج 7 ص 171. (4) راجع ج 11 ص 309. (5) من ب، ج، ك، ع. (*)
[ 431 ]
يتوقعون عذاب الحشر. وقيل: " يخافون " يعلمون، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق. وقال الحسن: المراد المؤمنون. قال الزجاج: كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر. وقيل: الآية في المشركين أي أنذرهم بيوم القيامة. والاول أظهر. (ليس لهم من دونه) أي من غير الله (شفيع) هذا رد على اليهود والنصارى في زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا: " نحن أبناء الله وأحباؤه " [ المائدة: 18 ] والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار. ومن قال الآية في المؤمنين قال: شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن، وفي التنزيل: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " (1) [ الانبياء: 28 ]. " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " (2) [ سبأ: 23 ]. " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " (3) [ البقرة: 255 ]. (لعلهم يتقون) أي في المستقبل وهو الثبات على الايمان. قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين (52) قوله تعالى: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم " [ الآية ] (4). قال المشركون: ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء - يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا (5) - فاطردهم عنك، وطلبوا أن يكتب لهم بذلك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا عليا ليكتب، فقام الفقراء وجلسوا ناحية، فأنزل الله الآية. ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح: فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، وسيأتي ذكره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم، وإسلام قومهم، ورأى أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدرا، فمال إليه فأنزل الله الآية، فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد. روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله (1) راجع ج 11 ص 281. (2) راجع ج 14 ص 295. (3) راجع ج 3 ص 273. (4) من ج‍، ب، ك. (5) في ب وع وك وج وه‍: حسان. (*)
[ 432 ]
عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عزوجل " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ". قيل: المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن. وقيل: الذكر وقراءة القرآن. ويحتمل أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره، ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق. ويختموه بالدعاء طلبا للمغفرة. " يريدون وجهه " أي طاعته، والاخلاص فيها، أي يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره. وقيل: يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال: " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " (1) [ الرحمن: 27 ] وهو كقوله: " والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم " (2) [ الرعد: 22 ]. وخص الغداة والعشي بالذكر، لان الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره [ الله ] (3) في قوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم " [ الكهف: 28 ]، فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام، وقد أخرج هذا المعنى مبينا مكملا ابن ماجة في سننه عن خباب في قول الله عزوجل: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " إلى قوله: " فتكون من الظالمين " قال: جاء الاقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم، فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الاعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا - رضي الله عنه - ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال: (1) راجع ج 17 ص 164. (2) راجع ج 9 ص 310. (3) من ع. (*)
[ 433 ]
" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين " ثم ذكر الاقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فقال: " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " [ الانعام: 53 ] ثم قال: " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " [ الانعام: 54 ] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عزوجل " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " [ الكهف: 28 ] ولا تجالس الاشراف " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " [ الكهف: 28 ] يعني عيينة والاقرع، " واتبع هواه وكان أمره فرطا " (1) [ الكهف: 28 ]، أي هلاكا. قال: أمر عيينة والاقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي (2) حدثنا أسباط عن السدي عن أبي سعيد (3) الازدي وكان قارئ الازد عن أبي الكنود عن خباب، وأخرجه أيضا عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستة، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال، قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم فاطردهم، قال: فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عزوجل: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " الآية. وقرئ (بالغدوة) وسيأتي بيانه في (الكهف) (1) إن شاء الله. قوله تعالى: " ما عليك من حسابهم من شئ " أي من جزائهم ولا كفاية (4) أرزاقهم، أي جزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره. (من) الاولى للتبعيض، والثانية زائدة للتوكيد. وكذا " وما من حسابك عليهم من شئ " المعنى وإذا كان الامر كذلك فاقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين (1) راجع ج 10 ص 390 (2) العنقزي: ضبط (القاموس). (لب اللباب) بفتح القاف. وقال في التهذيب: هو بكسرها. (3) في ج، ك، ى، ع. ويقال: أبو سعد. (4) في ك: كفالة. (*)
[ 434 ]
والفضل، فإن فعلت كنت ظالما. وحاشاه من وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للاحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام، وهذا مثل قوله: " لئن أشركت ليحبطن عملك " (1) [ الزمر: 65 ] وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله. " فتطردهم " جواب النفي. " فتكون من الظالمين " نصب بالفاء في جواب النهي، المعنى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما من حسابك، عليهم من شئ فتطردهم، على التقديم والتأخير. والظلم أصله وضع الشئ في غير موضعه. وقد تقدم في " البقرة " (2) مستوفى. وقد حصل من قوة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه (3)، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه. قوله تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53) قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء. والفتنة الاختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين. (ليقولوا) نصب بلام كي، يعني الاشراف والاغنياء. (أهؤلاء) يعني الضعفاء والفقراء. (من الله عليهم من بيننا) قال النحاس: وهذا من المشكل، لانه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية ؟ لانه إن كان إنكارا فهو كفر منهم. وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المعنى اختبر الاغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الانكار: " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " والجواب الآخر: أنهم لما اختبروا بهذا فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الانكار، وصار مثل قوله: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " (4) [ القصص: 8 ]. (أليس الله بأعلم بالشاكرين) فيمن عليهم بالايمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر، وهذا استفهام تقرير، وهو جواب لقولهم: " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " وقل: المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الاسلام إذا هديته إليه. (1) راجع ج 15 ص 276. (2) راجع ج 1 ص 309. (3) في ج، ك، ى، ع، ه‍: أبويه. (4) راجع ج 15 ؟ ص 276. (*)
[ 435 ]
قوله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (54) قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى " سلام عليكم " سلمكم الله في دينكم وأنفسكم، نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام) فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام، وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ ! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك) فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم ؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي، فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في [ معنى ] (1) الآية. ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم، فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أبى بكر وعمر وعثمان وعلي [ رضي الله عنهم ] (2). وقال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم، فنزلت الآية. وروي عن أنس بن مالك مثله سواء. قوله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. (أنه من عمل منكم سوءا بجهالة) أي خطيئة من غير قصد، (1) من ج، وع، ك، وه وى. (2) من ك وى. (*)
[ 436 ]
قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الامر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، وقد مضى هذا المعنى في " النساء " (1) وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل. (فأنه غفور رحيم) قرأ بفتح " أن " من " فأنه " ابن عامر وعاصم، وكذلك " أنه من عمل " ووافقهما نافع في " أنه من عمل ". وقرأ الباقون بالكسر فيهما، فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للرحمة، و (إن) إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك. ومن فتحهما فالاولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشئ من الشئ وهو هو فأعمل فيها (كتب) كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل، وأما (فأنه غفور) بالفتح ففيه وجهان، أحدهما: أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: فله أنه غفور رحيم، لان ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله. الوجه الثاني: أن يضمر مبتدأ تكون (أن) وما عملت فيه خبره، تقديره: فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه، ولم يجز الاول، وأجازه أبو حاتم. وقيل: إن (كتب) عمل فيها، أي كتب ربكم أنه غفور رحيم. وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الاولى على الاستئناف، وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لكتب على ما تقدم. ومن فتح الاولى - وهو نافع - جعلها بدلا من الرحمة، واستأنف الثانية لانها بعد الفاء، وهي قراءة بينة. قوله تعالى: وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55) قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات) التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني، والمعنى: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل. (1) راجع ج 5 ص 92. (*)
[ 437 ]
وقال القتبي: " نفصل الآيات " نأتي بها شيئا بعد شئ، ولا ننزلها جملة متصلة. (ولتستبين سبيل المجرمين) يقال: هذه اللام تتعلق بالفعل فأين الفعل الذي تتعلق به ؟ فقال الكوفيون: هو مقدر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين، قال النحاس: وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه، والتقدير: وكذلك نفصل الآيات فصلناها. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى، أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء. (سبيل) برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين. فإن قيل: فقد كان النبي عليه السلام يستبينها ؟ فالجواب عند الزجاج - أن الخطاب للنبي عليه السلام خطاب لامته، فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل: فلم لم يذكر سبيل المؤمنين ؟ ففي هذا جوابان، أحدهما - أن يكون مثل قوله: " سرابيل تقيكم الحر " (1) [ النحل: 81 ] فالمعنى، وتقيكم البرد ثم حذف، وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف. والجواب الآخر - أن يقال: استبان الشئ واستبنته، وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين. والسبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكره، وأهل الحجاز تؤنثه، وفي التنزيل " وإن يروا سبيل الرشد " (2) [ الاعراف: 146 ] مذكر " لم تصدون عن سبيل الله " (3) [ آل عمران: 99 ] مؤنث، وكذلك قرئ (ولتستبين) بالياء والتاء، فالتاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. قوله تعالى: قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) قيل: " تدعون " بمعنى تعبدون. وقيل: تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة، أراد بذلك الاصنام. (قل لا أتبع أهواءكم) فيما طلبتموه من عبادة هذه الاشياء، ومن طرد من أردتم طرده. (قد ضللت إذا) أي قد ضللت إن اتبعت أهواءكم. (وما أنا من المهتدين) أي على طريق رشد وهدى. (1) راجع ج 10 ص 159. (2) راجع ج 7 ص 282. (3) راجع ج 4 ص 154. (*)
[ 438 ]
وقرئ " ضللت " بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو [ بن العلاء ] (1): ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة [ يحيى ] (2) بن وثاب وطلحة بن مصرف، والاولى هي الاصح والافصح، لانها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. وقال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله تعالى: " قل إن ضللت فإنما أضل على (3) نفسي " [ سبأ: 50 ] فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضللت بالكسر أضل. قوله تعالى: قل إنى على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57) قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي) أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى، ومنه البينة لانها تبين الحق وتظهره. (وكذبتم به) أي بالبينة لانها في معنى البيان، كما قال: " وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " [ النساء: 8 ] على ما بيناه هناك (4). وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لانه جرى ذكره. وقيل: بالعذاب. وقيل: بالقرآن. وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبد الله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه: أأقعد بعدما رجفت عظامي * وكان الموت أقرب ما يليني أجادل كل معترض خصيم * وأجعل دينه غرضا لديني فأترك ما علمت لرأي غيري * وليس الرأي كالعلم اليقين وما أنا والخصومة وهي شئ * يصرف في الشمال وفي اليمين وقد سنت لنا سنن قوام * يلحن بكل فج أو وجين (5) وكان الحق ليس به خفاء * أغر كغرة الفلق المبين (1) من ى، ك. (2) من ك. (3) راجع ج 14 ص 313. (4) راجع ج 5 ص 50. (5) الوجين: شط الوادي. (*)
[ 439 ]
وما عوض لنا منهاج جهم * بمنهاج ابن آمنة الامين فأما ما علمت فقد كفاني * وأما ما جهلت فجنبوني قوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به) أي العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم: " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " (1) [ الاسراء: 92 ] " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " (2) [ الانفال: 32 ]. وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها. (إن الحكم إلا لله) أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله. وقيل: الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. (يقص الحق) أي يقص القصص الحق، وبه استدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والاعرج وابن عباس، قال ابن عباس: قال الله عزوجل: " نحن نقص عليك أحسن القصص " [ يوسف: 3 ] (3). والباقون " يقض الحق " بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء (4)، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء، ودل على ذلك أن بعده (وهو خير الفاصلين) والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص، ويقوي ذلك قوله قبله: " إن الحكم إلا لله " ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود (إن الحكم إلا لله يقضي بالحق) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء. قال النحاس: هذا لا يلزم، لان معنى " يقضي " يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكي: وقراءة الصاد أحب إلي، لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولانه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم، لان مثل هذه الباء تحذف كثيرا. (1) راجع ج 10 ص 327. (2) راجع ج 7 ص 398. (3) راجع ج 9 ص 119. (4) قال الفخر الرازي (يقض) بغير ياء لانها سقطت لالتقاء الساكنين كما كتبوا (ستدع الزبانية) (فما تغن النذر). (*)
[ 440 ]
قوله تعالى: قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء (4)، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء، ودل على ذلك أن بعده (وهو خير الفاصلين) والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص، ويقوي ذلك قوله قبله: " إن الحكم إلا لله " ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود (إن الحكم إلا لله يقضي بالحق) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء. قال النحاس: هذا لا يلزم، لان معنى " يقضي " يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكي: وقراءة الصاد أحب إلي، لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولانه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم، لان مثل هذه الباء تحذف كثيرا. (1) راجع ج 10 ص 327. (2) راجع ج 7 ص 398. (3) راجع ج 9 ص 119. (4) قال الفخر الرازي (يقض) بغير ياء لانها سقطت لالتقاء الساكنين كما كتبوا (ستدع الزبانية) (فما تغن النذر). (*)
[ 440 ]
قوله تعالى: قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (58) قوله تعالى: " قل لو أن عندي ما تستعجلون به " أي من العذاب لانزلته بكم حتى ينقضي الامر إلى آخره. والاستعجال: تعجيل طلب الشئ قبل وقته. " والله أعلم بالظالمين " أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم. مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء السادس من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع، وأوله قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب)