الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
/ المسألة الأولى : اعلم أنهم لما قالوا : {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَه ا } (يوسف : 78) وهو نهاية ما يمكنهم بذله فقال يوسف في جوابه : {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَه } (يوسف : 79) فانقطع طمعهم من يوسف عليه السلام في رده ، فعند هذا قال تعالى : {فَلَمَّا اسْتَيْـاَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا } وهو مبالغة في يأسهم من رده {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون ولا شبهة أن المراد يتشاورون ويتحيلون الرأي فيما وقعوا فيه ، لأنهم إنما أخذوا بنيامين من أبيهم بعد المواثيق المؤكدة وبعد أن كانوا متهمين في حق يوسف فلو لم يعيدوه إلى أبيهم لحصلت محن كثيرة : أحدها : أنه لو لم يعودوا إلى أبيهم وكان شيخاً كبيراً فبقاؤه وحده من غير أحد من أولاده محنة عظيمة. وثانيها : أن أهل بيتهم كانوا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة. وثالثها : أن يعقوب عليه السلام ربما كان يظن أن أولاده هلكوا بالكلية وذلك غم شديد ولو عادوا إلى أبيهم بدون بنيامين لعظم حياؤهم فإن ظاهر الأمر يوهم أنهم خانوه في هذا الابن كما أنهم خانوه في الابن الأول ، ولكان يوهم أيضاً أنهم ما أقاموا لتلك المواثيق المؤكدة وزنا ولا شك أن هذا الموضع موضع فكرة وحيرة ، وذلك يوجب التفاوض والتشاور طلباً للأصلح الأصوب فهذا هو المراد من قوله : {فَلَمَّا اسْتَيْـاَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا } .
جزء : 18 رقم الصفحة : 493
المسألة الثانية : قال الواحدي روي عن ابن كثير استياسوا {حَتَّى ا إِذَا اسْتَيْـاَسَ الرُّسُلُ} (يوسف : 110) بغير همز وفي ييئس لغتان يئس وييأس مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قلب العين إلى موضع الفاء فصار استعفل وأصله استيأس ثم خففت الهمزة. قال صاحب "الكشاف" : استيأسوا يئسوا ، وزيادة السين والتاء للمبالغة كما في قوله : (يوسف : 32) وقوله : {مِنْهُ خَلَصُوا } قال الواحدي : يقال خلص الشيء يخلص خلوصاً إذا ذهب عنه الشائب من غيره ، ثم فيه وجهان : الأول : قال الزجاج خلصوا أي انفردوا ، وليس معهم أخوهم ، والثاني : قال الباقون تميزوا عن الأجانب ، وهذا هو الأظهر. وأما قوله : {نَجِيًّا } فقال صاحب "الكشاف" : النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر. ومنه قوله تعالى : {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} (مريم : 52) وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل : النجوى بمعنى المتناجين ، فعلى هذا معنى {خَلَصُوا نَجِيًّا } اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم {نَجِيًّا } أي مناجياً. روي {نَجْوَى } أي فوجاً {نَجِيًّا } أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً ، وأحسن الوجوه أن يقال : إنهم تمحضوا تناجياً ، لأن من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار غير ذلك الشيء ، فلما أخذوا في التناجي على غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم ، صاروا نفس التناجي حقيقة.
أما قوله تعالى : {قَالَ كَبِيرُهُمْ} فقيل المراد كبيرهم في السن وهو روبيل ، وقيل كبيرهم في العقل / وهو يهودا ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف ، ثم حكى تعالى عن هذا الكبير أنه قال : {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما قال يوسف عليه السلام : {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَه } (يوسف : 79) غضب يهودا ، وكان إذا غضب وصاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت ويقوم شعره على جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فقال لبعض إخوته اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف عليه السلام لابن صغير له مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف عليه السلام رجله على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط فعنده قال يا أيها العزيز ، فلما أيسوا من قبول الشفاعة تذاكروا وقالوا : إن أبانا قد أخذ علينا موثقاً عظيماً من الله. وأيضاً نحن متهمون بواقعة يوسف فكيف المخلص من هذه الورطة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 493
(1/2547)

المسألة الثانية : لفظ ما في قوله : {مَا فَرَّطتُمْ} فيها وجوه : الأول : أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام ، ولم تحفظوا عهد أبيكم. الثاني : أن تكون مصدرية ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف ، وهو من قبل. ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف ، الثالث : النصب عطفاً على مفعول {أَلَمْ تَعْلَمُوا } والتقدير : ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقكم وتفريطكم من قبل في يوسف. الرابع : أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة ، ومحله الرفع والنصب على الوجهين المذكورين ، ثم قال : {فَلَنْ أَبْرَحَ الارْضَ} أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم الله لي بالخروج منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين ، لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق ، وبالجملة فالمراد ظهور عذر يزول معه حياؤه وخجله من أبيه أو غيره قاله انقطاعاً إلى الله تعالى في إظهار عذره بوجه من الوجوه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 493
495
/ واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت ، والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال : {فَلَنْ أَبْرَحَ الارْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى } قيل إنه روبيل ، وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب.
فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة ، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي ، فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم.
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعاً في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم ، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع ، وأما قوله : وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر ، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأما هذا الصواع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق ، فشهدوا بناء على هذا الظن ، ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم : {وَمَا شَهِدْنَآ إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـافِظِينَ} .
والوجه الثاني : في الجواب أن تقدير الكلام {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن. قال تعالى : {إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود : 87) أي عند نفسك ، وقال تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا.
الوجه الثالث : في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40).
جزء : 18 رقم الصفحة : 495
الوجه الرابع : أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئاً يوهم ذلك.
الوجه الخامس : أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} بالتشديد ، أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة ، إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراآت لا تدفع السؤال ، لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة ، والقراءة الحقة هي هذه. أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقياً سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح ، فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة / أما قوله : {وَمَا شَهِدْنَآ إِلا بِمَا عَلِمْنَا} فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى : {وَمَا شَهِدْنَآ إِلا بِمَا عَلِمْنَا} وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال : إذا علمت مثل الشمس فاشهد ، وذلك أيضاً يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضاً عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة.
(1/2548)

إذا ثبت هذا فنقول : الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس ، وأما قوله : {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـافِظِينَ} ففيه وجوه : الأول : أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله ، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. والثاني : قال عكرمة معناه : لعل الصواع دس في متاعه بالليل ، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات. والثالث : قال مجاهد والحسن وقتادة : وما كنا نعلم أن ابنك يسرق ، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقاً من الله في رده إليك. والرابع : نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم : فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق ، بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام : أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله : {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـافِظِينَ} إشارة إلى هذا المعنى.
فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول.
جزء : 18 رقم الصفحة : 495
قلنا : لعله كان ذلك الحكم مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافراً.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا } .
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا} والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم ، بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش ، ثم فيه قولان : الأول : المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار ، وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات. والثاني : قال أبو بكر الأنباري المعنى : اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً كاملاً فقد يقال فيه ، سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه ، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي / ما بقي للشك فيه مجال.
أما قوله : {وَالْعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا } فقال المفسرون كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا : سلهم عن هذه الواقعة. ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا : {وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ} يعني سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون ، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده وأنا صادق في ذلك يعني فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 495
496
اعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع من أبنائه ذلك الكلام لم يصدقهم فيما ذكروا كما في واقعة يوسف فقال : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة إلا أنه قال في واقعة يوسف عليه السلام : {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف : 18) وقال ههنا : {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم إن قوله : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } ليس المراد منه ههنا الكذب والاحتيال كما في قوله في واقعة يوسف عليه السلام حين قال : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } لكنه عنى سولت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم علي في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله إنما جاء على خلاف تقديركم وقيل : بل المعنى سولت لكم أنفسكم أمراً خيلت لكم أنفسكم أنه سرق وما سرق.
(1/2549)

المسألة الثانية : قيل إن روبيل لما عزم على الإقامة بمصر أمره الملك أن يذهب مع إخوته فقال أتركوني وإلا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا وتضع حملها فقال يوسف دعوه ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال : يا بني لا تخرجوا من عندي مرة إلا ونقص بعضكم ، ذهبتم مرة فنقص يوسف ، وفي الثانية نقص شمعون ، وفي هذه الثالثة نقص روبيل وبنيامين ، ثم بكى وقال : عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً وإنما حكم بهذا الحكم لوجوه : الأول : أنه لما طال حزنه وبلاؤه ومحنته علم أنه تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب فقال ذلك / على سبيل حسن الظن برحمة الله. والثاني : لعله تعالى قد أخبره من بعد محنة يوسف أنه حي أو ظهرت له علامات ذلك وإنما قال : {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } لأنهم حين ذهبوا بيوسف كانوا إثني عشر فضاع يوسف وبقي أحد عشر ، ولما أرسلهم إلى مصر عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال : {فَلَنْ أَبْرَحَ الارْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى } (يوسف : 80) فلما كان الغائبون ثلاثة لا جرم {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } .
جزء : 18 رقم الصفحة : 496
ثم قال : {إِنَّه هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} يعني هو العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 496
502
واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جداً وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم.
أما المقام الأول : وهو أنه أعرض عنهم ، وفر منهم فهو قوله : {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ} .
واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على / يوسف عليه السلام : {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى ا إِلَيْهِ أَخَاه قَالَ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه :
الوجه الأول : أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع وقال متمم بن نويرة :
وقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى
فدعني فهذا كله قبر مالك
وذلك لأنه إذا رأى قبراً فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه ، فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى. وقال آخر :
فلم تنسني أو في المصيبات بعده
ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
والوجه الثاني : أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل ، فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام ، فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد.
الوجه الثالث : أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا ، وكان الأسف عليه أسفاً على الكل. الرابع : أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها. وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه ، وأما السبب الحقيقي فما كان معلوماً له ، وأيضاً أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت ، فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
المسألة الثانية : من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} قال : لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية من الله وأنه لا يجوز ، والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل ، وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه ، وهو المراد من قوله : {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} ثم أمسك لسانه عن النياحة ، وذكر مالا ينبغي ، وهو المراد من قوله : {فَهُوَ كَظِيمٌ} ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله : {إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ} وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء العظيم. روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل / هل لك علم بيعقوب ؟
قال نعم قال : وكيف حزنه ؟
قال : حزن سبعين ثكلى وهي التي لها ولد واحد ثم يموت. قال : فهل له فيه أجر ؟
قال : نعم أجر مائة شهيد.
(1/2550)

فإن قيل : روي عن محمد بن علي الباقر قال : مر بيعقوب شيخ كبير فقال له أنت إبراهيم فقال : أنا ابن ابنه والهموم غيرتني وذهبت بحسني وقوتي ، فأوحى الله تعالى إليه : "حتى متى تشكوني إلى عبادي وعزتي وجلالي لو لم تشكني لأبدلنك لحماً خيراً من لحمك ودماً خيراً من دمك" فكان من بعد يقول : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "كان ليعقوب أخ مواخ" فقال له : ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك فقال الذي أذهب بصري البكاء على يوسف وقوس ظهري الحزن على بنيامين ، فأوحى الله تعالى إليه "أما تستحي تشكوني إلى غيري" فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، فقال يا رب أما ترحم الشيخ الكبير قوست ظهري ، وأذهبت بصري ، فاردد عليَّ ريحانتي يوسف وبنيامين فأتاه جبريل عليه السلام بالبشرى وقال : لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاماً للمساكين ، فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين ، وكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء نادى مناديه من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب ، وإذا كان صائماً نادى مثله عند الإفطار. وروي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر ، فقال له رجل : ما هذا الذي أراه بك ، قال طول الزمان وكثرة الأحزان ، فأوحى الله إليه "أتشكوني يا يعقوب" فقال : يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
قلنا : إنا قد دللنا على أنه لم يأت إلا بالصبر والثبات وترك النياحة. وروي أن ملك الموت دخل على يعقوب عليه السلام فقال له : جئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي فقال : لا ، ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك ، وأما البكاء فليس من المعاصي. وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام : بكى على ولده إبراهيم عليه السلام وقال : "إن القلب ليحزن والعين تدمع ، ولا نقول : ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون" وأيضاً فاستيلاء الحزن على الإنسان ليس باختياره ، فلا يكون ذلك داخلاً تحت التكليف وأما التأوه وإرسال البكاء فقد يصير بحيث لا يقدر على دفعه ، وأما ما ورد في الروايات التي ذكرتم فالمعاتبة فيها إنما كانت لأجل أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأيضاً ففيه دقيقة أخرى وهي أن الإنسان إذا كان في موضع التحير والتردد لا بد وأن يرجع إلى الله تعالى ، فيعقوب عليه السلام ما كان يعلم أن يوسف بقي حياً أم صار ميتاً ، فكان متوقفاً فيه وبسبب توقفه كان يكثر الرجوع إلى الله تعالى وينقطع قلبه عن الالتفات عن كل ما سوى الله تعالى إلا في هذه الواقعة ، وكان أحواله في هذه الواقعة مختلفة ، فربما صار في بعض الأوقات مستغرق الهم بذكر الله تعالى ، فإن عن تذكر هذا الواقعة ، فكان ذكرها كلا سواها ، / فلهذا السبب صارت هذا الواقعة بالنسبة إليه ، جارية مجرى الإلقاء في النار للخليل عليه السلام ومجرى الذبح لابنه الذبيح.
فإن قيل : أليس أن الأولى عند نزول المصيبة الشديدة أن يقول : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة : 156) حتى يستوجب الثواب العظيم المذكور في قوله : {أُوالَـا ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌا وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة : 157).
قلنا : قال بعض المفسرين إنه لم يعط الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة فأكرمهم الله تعالى إذا أصابتهم مصيبة وهذا عندي ضعيف لأن قوله : {إِنَّا لِلَّهِ} إشارة إلى أنا مملوكون لله وهو الذي خلقنا وأوجدنا ، وقوله : {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة ، ومن المحال أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك فمن عرف عند نزول بعض المصائب به أنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى الله تعالى/ فهناك تحصل السلوة التامة عند تلك المصيبة ، ومن المحال أن يكون لمؤمن بالله غير عارف بذلك.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
المسألة الثالثة : قوله : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} نداء الأسف وهو كقوله : "يا عجباً" والتقدير كأنه ينادي الأسف ويقول : هذا وقت حصولك وأوان مجيئك وقد قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة منها في تفسير قوله : {حَـاشَ لِلَّهِ} (يوسف : 31) والأسف الحزن على ما فات. قال الليث : إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت أسيف أي حزني ومتأسف أيضاً. قال الزجاج : الأصل إلا أن ياء الإضافة يجوز إبدالها بالألف لخفة الألف والفتحة.
ثم قال تعالى : {عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} وفيه وجهان :
(1/2551)

الوجه الأول : أنه لما قال يا أسفى على يوسف غلبه البكاء ، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء وقوله : {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} كناية عن غلبة البكاء ، والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسناً ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل ، فكان ما ذكرناه أولى وهذا للتفسير مع الدليل رواه الواحدي في "البسيط" عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والوجه الثاني : أن المراد هو العمى قال مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين حتى كشف الله تعالى عنه بقميص يوسف عليه السلام وهو قوله : {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} (يوسف : 93) قيل إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام حينما كان في السجن فقال إن بصر أبيك ذهب من / الحزن عليك فوضع يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني ولم أك حزناً على أبي ، والقائلون بهذا التأويل قالوا : الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى ، فالحزن كان سبباً للعمى بهذه الواسطة ، وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى ، لأنه يورث كدورة في سوداء العين ، ومنهم من قال : ما عمي لكنه صار بحيث يدرك إدراكاً ضعيفاً. قيل : ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون عاماً ، وما كان على وجه الأرض عبداً أكرم على الله تعالى من يعقوب عليه السلام.
أما قوله تعالى : {مِنَ الْحُزْنِ} فاعلم أنه قرىء {مِنَ الْحُزْنِ} بضم الحاء وسكون الزاي ، وقرأ الحسن بفتح الحاء والزاي. قال الواحدي : واختلفوا في الحزن والحزن فقال قوم : الحزن البكاء والحزن ضد الفرح ، وقال قوم : هما لغتان يقال أصابه حزن شديد ، وحزن شديد ، وهو مذهب أكثر أهل اللغة ، وروى يونس عن أبي عمرو قال : إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاي كقوله : {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} (التوبة : 92) وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع ضموا الحاء كقوله : {مِنَ الْحُزْنِ} وقوله : {أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ} قال هو في موضع رفع الابتداء.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
وأما قوله تعالى : {فَهُوَ كَظِيمٌ} فيجوز أن يكون بمعنى الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره قال ابن قتيبة : ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم ، ومعناه المملوء من الحزن مع سد طريق نفسه المصدور من كظم السقاء إذا اشتد على ملئه ، ويجوز أيضاً أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده.
واعلم أن أشرف أعضاء الإنسان هذه الثلاثة ، فبين تعالى أنها كانت غريقة في الغم فاللسان كان مشغولاً بقوله : والعين بالبكاء والبياض والقلب بالغم الشديد الذي يشبه الوعاء المملوء الذي شد ولا يمكن خروج الماء منه وهذه مبالغة في وصف ذلك الغم.
أما قوله تعالى : {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَـالِكِينَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن السكيت يقال : ما زلت أفعله وما فتئت أفعله وما برحت أفعله ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد. قال ابن قتيبة يقال : ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتوأ إذا نسيته وانقطعت عنه قال النحويون وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا : ما تفتؤا ولا تفتؤ وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو والله لتفعلن فلما كان بغير اللام والنون عرف أن كلمة لا مضمرة وأنشدوا قول امرىء القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعداً
/ والمعنى : لا أبرح قاعداً ومثله كثير. وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة لا تزال تذكره ، وعن مجاهد لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين.
المسألة الثانية : حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب ، وقوله : حرضت فلاناً على فلان تأويله أفسدته وأحميته عليه ، وقال تعالى : {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } (الأنفال : 65).
إذا عرفت هذا فنقول : وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد. وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة وجاءت القراءة بهما معاً.
(1/2552)

إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين فيه عبارات : أحدها : الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله. وثانيهما : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال : الفاسد الدنف. وثالثها : أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات ، وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ : {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} بضم الحاء وتسكين الراء قال يعني مثل عود الأشنان ، وقوله : {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَـالِكِينَ} أي من الأموات ، ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم كأنهم قالوا : أنت الآن في بلاء شديد ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً ؟
قلنا : إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر.
فإن قيل : القائلون بهذا الكلام وهو قوله : {تَاللَّهِ} من هم ؟
قلنا : الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم ، بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه.
ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال : {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ} يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم وإنما أذكره في حضرة الله تعالى ، والإنسان إذا بث شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين كما قال عليه الصلاة والسلام : "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك" والله هو الموفق ، والبث هو التفريق قال الله تعالى : {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} (البقرة : 164) فالحزن إذا ستره الإنسان كان هماً وإذا ذكره لغيره كان بثاً وقالوا : البث أشد الحزن / والحزن أشد الهم ، وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستولياً عليه وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى كان ذلك بثاً وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزاً عنه وهو قد استولى على الإنسان ، فقوله : {بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ} أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله ، وقرأ الحسن : {وَحُزْنِى } بفتحتين وحزني بضمتين ، قيل : دخل على يعقوب رجل وقال : يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سناً عالياً فقال الذي بي لكثرة غمومي ، فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ، فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفرها له/ وكان بعد ذلك إذا سئل قال : {إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ} وروي أنه أوحى الله إليه إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه ، وإن أحب خلقي إليَّ الأنبياء والمساكين فاصنع طعاماً وادع إليه المساكين ، وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت.
ثم قال يعقوب عليه السلام : {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه. وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً : أحدها : أن ملك الموت أتاه فقال له : يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف ؟
قال لا يا نبي الله ثم أشار إلى جانب مصر وقال : أطلبه ههنا ، وثانيها : أنه علم أن رؤيا يوسف صادقة ، لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطىء ، وثالثها : لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه ، ولكنه تعالى ما عين الوقت فلهذا بقي في القلق ، ورابعها : قال السدي : لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله طمع أن يكون هو يوسف وقال : يبعد أن يظهر في الكفار مثله ، وخامسها : علم قطعاً أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فهذا جملة الكلام في المقام الأول.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
والمقام الثاني : أنه رجع إلى أولاده وتكلم معهم على سبيل اللطف وهو قوله : {تَعْلَمُونَ * يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} .
واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه : تحسسوا من يوسف ، والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر ، قال أبو بكر الأنباري يقال : تحسست عن فلان ولا يقال من فلان ، وقيل : ههنا من يوسف لأنه أقام من مقام عن ، قال : ويجوز أن يقال : من للتبعيض ، والمعنى تحسسوا خبراً من أخبار يوسف ، واستعلموا بعض أخبار يوسف / فذكرت كلمة {مِّنْ} لما فيها من الدلالة على التجيض ، وقرىء {تَجَسَّسُوا } بالجيم كما قرىء بهما في الحجرات.
(1/2553)

ثم قال : {وَلا تَا يـاَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّه } قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو الحاء يفيد الحركة والاهتزاز ، فكلما يهتز انسان له ويلتذ بوجوده فهو روح. وقال ابن عباس : لا تيئسوا من روح الله يريد من رحمة الله ، وعن قتادة : من فضل الله ، وقال ابن زيد : من فرج الله ، وهذه الألفاظ متقاربة ، وقرأ الحسن وقتادة : من روح الله بالضم أي من رحمته.
ثم قال : {يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَا يـاَسُواْ مِن} قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء.
واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم بل هو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة ، وكل واحد منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً والله أعلم ، وقد بقي من مباحث هذه الآية سؤالات :
السؤال الأول : أن بلوغ يعقوب في حب يوسف إلى هذا الحد العظيم لا يليق إلا بمن كان غافلاً عن الله ، فإن من عرف الله أحبه ومن أحب الله لم يتفرغ قلبه لحب شيء سوى الله تعالى ، وأيضاً القلب الواحد لا يتسع للحب المستغرق لشيئين ، فلما كان قلبه مستغرقاً في حب ولده امتنع أن يقال : إنه كان مستغرقاً في حب الله تعالى.
والسؤال الثاني : أن عند استيلاء الحزن الشديد عليه كان من الواجب أن يشتغل بذكر الله تعالى/ وبالتفويض إليه والتسليم لقضائه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
وأما قوله : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} فذلك لا يليق بأهل الدين والعلم فضلاً عن أكابر الأنبياء.
والسؤال الثالث : لا شك أن يعقوب كان من أكابر الأنبياء ، وكان أبوه وجده وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الدنيا ، ومن كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة صعبة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية ، بل لا بد وأن يبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وبقي يعقوب على حزنه الشديد وأسفه العظيم ، وكان يوسف في مصر وكان يعقوب في بعض بلاد الشام قريباً من مصر ، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة مخفية.
السؤال الرابع : لم لم يبعث يوسف عليه السلام أحداً إلى يعقوب ويعلمه أنه في الحياة وفي / السلامة ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً كان يمكنه إرسال الرسول إليه وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع الرسول.
والسؤال الخامس : كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يضع الصاع في وعاء أخيه ثم يستخرجه منه ويلصق به تهمة السرقة مع أنه كان بريئاً عنها.
السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التهمة به وفي حبسه عند نفسه مع أنه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى.
والجواب عن الأول : أن مثل هذه المحنة الشديدة تزيل عن القلب كل ما سواه من الخواطر. ثم إن صاحب هذه المحنة الشديدة يكون كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدعاء والتضرع فيصير ذلك سبباً لكمال الاستغراق.
والجواب عن الثاني : أن الداعي الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة فتارة كان يقول : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} (يوسف : 84) وتارة كان يقول : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف : 18) وأما بقية الأسئلة فالقاضي أجاب عنها بجواب كلي حسن ، فقال هذه الوقائع التي نقلت إلينا إما يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن فإن كان الأول فلا إشكال ، وإن كان الثاني فنقول : كان ذلك الزمان زمان الأنبياء عليهم السلام وخرق العادة في هذا الزمان غير مستبعد ، فلم يمتنع أن يقال : إن بلدة يعقوب عليه السلام مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه السلام ، ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل نقض العادة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 502
505
اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن ههنا محذوفاً والتقدير : أن يعقوب لما قال لبنيه : {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له : {هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} .
فإن قيل : إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل ؟
(1/2554)

قلنا : لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا : نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا. فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة وقالوا {هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} والعزيز هو الملك القادر المنيع {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم {وَجِئْنَا بِبِضَـاعَةٍ مُّزْجَـاـاةٍ} وفيه أبحاث :
البحث الأول : معنى الإزجاء في اللغة ، الدفع قليلاً قليلاً ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب. قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا} (النور : 43) وزجيت فلاناً بالقول دافعته ، وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة.
والبحث الثاني : إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعاً والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن : البضاعة المزجاة القليلة ، وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام ، وقيل : خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة ، وقيل : متاع الأعراب الصوف والسمن. وقيل : الحبة الخضراء ، وقيل : الأقط ، وقيل : النعال والأدم ، وقيل : سويق المقل ، وقيل : صوف المعز ، وقيل : إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس.
جزء : 18 رقم الصفحة : 505
البحث الثالث : في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة ؟
وفيه وجوه : الأول : قال الزجاج : هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل ، والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان ، وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام ، الثاني : قال أبو عبيد : إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة ، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها / قال وهي من الأزجاء ، والأزجاء عند العرب السوق والدفع. الثالث : ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها. الرابع : قال الكلبي : مزجاة لغة العجم ، وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري : لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوباً إلى القبط.
البحث الرابع : قرأ حمزة والكسائي مزجاة بالإمالة ، لأن أصله الياء ، والباقون بالنصب والتفخيم.
واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له : {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} والمراد أن يساهلهم إما بإن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الرديء مقام الجيد ، ثم قالوا : {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسع بالجيد ، واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلباً منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلّم بهذه الآية وعلى هذا التقدير ، كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة ، وأنكر الباقون ذلك وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغاثة به عمن سواه ، وروي عن الحسن ومجاهد : أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علي ، قالوا : لأن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب ، وإنما يقول : اللهم أعطني أو تفضل ، فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي ، وأجاز الليث أن يقال للسائل : متصدق وأباه الأكثرون. وروي أنهم لما قالوا : {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وقيل : دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر. أما بعد : فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه الله وجعلها برداً وسلاماً عليه ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا : إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً ، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك. فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف.
/
جزء : 18 رقم الصفحة : 505
(1/2555)

ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال : {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف. وقيل : إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف ، وقوله : {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} استفهام يفيد تعظيم الواقعة ، ومعناه : ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه ، وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت ؟
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (يوسف : 15) وأما قوله : {وَأَخِيهِ} فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه ، وأيضاً كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه : {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ } (يوسف : 77) وأما قوله : {إِذْ أَنتُمْ جَـاهِلُونَ} فهو يجري مجرى العذر كأنه قال : أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور ، يعني والآن لستم كذلك ، ونظيره ما يقال في تفسير قوله تعالى : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الأنفطار : 6) قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا ههنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفاً للأمر عليهم. ثم إن إخوته قالوا : {أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُا قَالَ أَنَا يُوسُفُ} قرأ ابن كثير {إِنَّكَ} على لفظ الخبر ، وقرأ نافع {أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُ } بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع ، والباقون بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام ، وقرأ أبي {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَـاهِلُونَ} فحصل من هذه القراءات أن من القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر. أما الأولون فقالوا : إن يوسف لما قال لهم : {هَلْ عَلِمْتُم} وتبسم فأبصروا ثناياه ، وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف ، فقالوا له استفهاماً {أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُ } ويدل على صحة الاستفهام أنه {قَالَ أَنَا يُوسُفُ} وإنما أجابهم عما استفهموا عنه. وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه ، وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة ، فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة ، فقالوا : {إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله : {قَالَ أَنَا يُوسُفُ} فيه بحثان :
جزء : 18 رقم الصفحة : 505
البحث الأول : اللام لام الابتداء ، وأنت مبتدأ ويوسف خبره ، والجملة خبر إن.
البحث الثاني : أنه إنما صرح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته وماعوضه الله من / الظفر والنصر ؛ فكأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون ، ولهذا قال : {وَهَـاذَآ أَخِى } مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول : وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله تعالى كما ترون وقوله : {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ } قال ابن عباس رضي الله عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله : {إِنَّه مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} معناه : من يتق معاصي الله ويصبر على أذى الناس {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} والمعنى : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين. وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقياً ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذباً منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء.
المسألة الثانية : قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل : {إِنَّه مَن يَتَّقِ} بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل "من" بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله : {وَيَصْبِرْ} في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلباً للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 505
507
(1/2556)

اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن الله تعالى منَّ عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه الله صدقوه فيه ، واعترفوا له بالفضل والمزية {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَـاطِاِينَ} قال الأصمعي : يقال : آثرك إيثاراً ، أي فضلك الله ، وفلان آثر عبد فلان ، إذا كان يؤثره بفضله وصلته ، والمعنى : لقد فضلك الله علينا بالعلم / والحلم والعقل والفضل والحسن والملك ، واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء ، لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا : {تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائداً عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة.
وأما قوله : {وَإِن كُنَّا لَخَـاطِاِينَ} قيل الخاطىء هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وفرق بين الخاطىء والمخطىء ، فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطىء ، ولا يقال إنه خاطىء وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب ، وقال أبو علي الجبائي : إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك ، لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنباً فلا يعتذر منه ، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ، ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه :
الوجه الأول : أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي.
الوجه الثاني : هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه ، والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى ، فعلمنا أن الإنسان أيضاً قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 507
واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين قال يوسف : {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } وفيه بحثان :
البحث الأول : التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها"أي ولا يعيرها بالزنا ، فقوله : {لا تَثْرِيبَ} أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} وقوله يعقوب : {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى } (يوسف : 98).
البحث الثاني : إن قوله : {الْيَوْمَ} متعلق بماذا وفيه قولان :
/ القول الأول : إنه متعلق بقوله : {لا تَثْرِيبَ} أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام/ وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقاً لأن قوله : {لا تَثْرِيبَ} نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية ، فكان ذلك مفيداً للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال : {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } والمراد منه الدعاء.
(1/2557)

والقول الثاني : أن قوله : {الْيَوْمَ} متعلق بقوله : {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } كأنه لما نفى التثريب مطلقاً بشرهم بأن الله غفر ذنبهم في هذا اليوم ، وذلك لأنهم لما انكسروا وخجلوا واعترفوا وتابوا فالله قبل توبتهم وغفر ذنبهم ، فلذلك قال : {الْيَوْمَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح ، وقال لقريش : "ما تروني فاعلاً بكم" فقالوا نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت ، فقال : "أقول ما قال أخي يوسف لا تقريب عليكم اليوم" وروي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاتل عليه : {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } ففعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "غفر الله لك ولمن علمك" وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك لما صدر منا من الإساءة إليك ، فقال يوسف عليه السلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظروني بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما جئتم وعلم الناس أنكم إخوتي وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام.
جزء : 18 رقم الصفحة : 507
ثم قال يوسف عليه السلام : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَـاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} قال المفسرون : لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه فقالوا ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه ، قال المحققون : إنما عرف أن إلقاء ذلك القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ولولا الوحي لما عرف ذلك ، لأن العقل لا يدل عليه ويمكن أن يقال : لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء وضيق القلب ضعف بصره فإذا ألقي عليه قميصه فلا بد أن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد ، وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي ، فحينئذ يقوى بصره ، ويزول عنه ذلك النقصان ، فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى ، وقوله : {يَأْتِ بَصِيرًا} أي يصير بصيراً ويشهد له {فَارْتَدَّ بَصِيرًا } (يوسف : 96) ويقال : المراد يأت إلي وهو بصير ، وإنما أفرده بالذكر تعظيماً له ، وقال في الباقين : {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} قال / الكلبي : كان أهله نحواً من سبعين إنساناً وقال مسروق دخل قوم يوسف عليه السلام مصر. وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة ، وروي أن يهودا حمل الكتاب وقال أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته. وقيل حمله وهو حاف وحاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 507
509
(1/2558)

يقال : فصل فلان من عند فلان فصولاً إذا خرج من عنده. وفصل مني إليه كتاباً إذا أنفذ به إليه. وفصل يكون لازماً ومتعدياً وإذا كان لازماً فمصدره الفصول وإذا كان متعدياً فمصدره الفصل قال لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال يعقوب عليه السلام لمن حضر عنده من أهله وقرابته وولد ولده {إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَا لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ} ولم يكن هذا القول مع أولاده لأنهم كانوا غائبين بدليل أنه عليه السلام قال لهم : {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} (يوسف : 87) واختلفوا في قدر المسافة فقيل : مسيرة ثمانية أيام ، وقيل عشرة أيام ، وقيل ثمانون فرسخاً. واختلفوا في كيفية وصول تلك الرائحة إليه ، فقال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص ، فمن ثم قال : {إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } وروى الواحدي بإسناده عن أنس بن مالك / عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : أما قوله : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَـاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} (يوسف : 93) فإن نمروذ الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل عليه جبريل عليه السلام بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه ، فكسا إبراهيم عليه السلام ذلك القميص إسحاق وكساه إسحق يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه فألقى في الجب القميص في عنقه فذلك قوله : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَـاذَا} والتحقيق أن يقال : إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما والأقرب أنه ليعقوب عليه السلام حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي ، فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له. قال أهل المعاني : إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة ومجيء وقت الروح والفرح من المكان البعيد ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل ومعنى : لأجد ريح يوسف أشم وعبر عنه بالوجود لأنه وجدان له بحاسة الشم ، وقوله :
جزء : 18 رقم الصفحة : 509
(1/2559)

{لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ} قال أبو بكر ابن الأنباري : أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه ، وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب "الكشاف" : يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة ، لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله : {لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ} أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف ، ولما ذكر يعقوب ذلك قال الحاضرون عنده : {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـالِكَ الْقَدِيمِ} وفي الضلال ههنا وجوه : الأول : قال مقاتل : يعني بالضلال ههنا الشقاء/ يعني شقاء الدنيا والمعنى : إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف ، واحتج مقاتل بقوله : {إِنَّآ إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} (القمر : 24) يعنون لفي شقاء دنيانا ، وقال قتادة : لفي ضلالك القديم ، أي لفي حبك القديم لا تنساه ولا تذهل عنه وهو كقولهم : {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (يوسف : 8) ثم قال قتادة : قد قالوا كلمة غليظة ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله ، وقال الحسن إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات وقد كان يعقوب في ولوعه بذكره ، ذاهباً عن الرشد والصواب وقوله : {فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ} في "أن" قولان : الأول : أنه لا موضع لها من الإعراب وقد تذكر تارة كما ههنا ، وقد تحذف كقوله : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} (هود : 74) والمذهبان جميعاً موجودان في أشعار العرب. والثاني : قال البصريون هي مع "ما" في موضع رفع بالفعل المضمر تقديره : فلما ظهر أن جاء البشير ، أي ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال جمهور المفسرين البشير هو يهودا قال أنا ذهبت بالقميص الملطخ بالدم وقلت إن يوسف أكله / الذئب فأذهب اليوم بالقميص فأفرحه كما أحزنته قوله : {أَلْقَـاـاهُ عَلَى وَجْهِه } أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو يقال ألقاه يعقوب على وجه نفسه {فَارْتَدَّ بَصِيرًا } أي رجع بصيراً ومعنى الارتداد انقلاب الشيء إلى حالة قد كان عليها وقوله : {فَارْتَدَّ بَصِيرًا } أي صيره الله بصيراً كما يقال طالت النخلة والله تعالى أطالها واختلفوا فيه فقال بعضهم : إنه كان قد عمي بالكلية فالله تعالى جعله بصيراً في هذا الوقت. وقال آخرون : بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء وكثرة الأحزان ، فلما ألقوا القميص على وجهه ، وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه ، فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه ، فعند هذا قال :
جزء : 18 رقم الصفحة : 509
{أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} والمراد علمه بحياة يوسف من جهة الرؤيا ، لأن هذا المعنى هو الذي له تعلق بما تقدم ، وهو إشارة إلى ما تقدم من قوله : {إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (يوسف : 86) روي أنه سأل البشير وقال : كيف يوسف قال هو ملك مصر ، قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة ، ثم إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه {قَالُوا يَـا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَـاطِاِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى ا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وظاهر الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال ، بل وعدهم بأنه يستغفر لهم بعد ذلك ، واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : والأكثرون أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر ، لأن هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة. الثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : في رواية أخرى أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة ، لأنها أوفق الأوقات للإجابة. الثالث : أراد أن يعرف أنهم هل تابوا في الحقيقة أم لا ، وهل حصلت توبتهم مقرونة بالإخلاص التام أم لا. الرابع : استغفر لهم في الحال ، وقوله : {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ} معناه أني أداوم على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل ، فقد روي أنه كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة ، وقيل : قام إلى الصلاة في وقت فلما فرغ رفع يده إلى السماء وقال : "اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عليه ، واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف عليه السلام" فأوحى الله تعالى إليه : قد غفرت لك ولهم أجمعين. وروي أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا ليعقوب وقد غلبهم الخوف والبكاء : ما يغني عنا إن لم يغفر لنا ، فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو ، وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى قل صبرهم فظنوا أنها الهلكة فنزل جبريل عليه السلام وقال : "إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة" وقد اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور.
جزء : 18 رقم الصفحة : 509
514
(1/2560)

/ اعلم أنه روي أن يوسف عليه السلام وجه إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم تلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر. قال : لا هذا ولدك يوسف فذهب يوسف يبدأ بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب عليه السلام : السلام عليك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى والمقاتلون منهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ.
أما قوله : {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ} ففيه بحثان :
البحث الأول : في المراد بقوله أبويه قولان : الأول : المراد أبوه وأمه ، وعلى هذا القول فقيل إن أمه كانت باقية حية إلى ذلك الوقت ، وقيل إنها كانت قد ماتت ، إلا أن الله تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقاً لرؤية يوسف عليه السلام.
والقول الثاني : أن المراد أبوه وخالته ، لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين ، وقيل : بنيامين بالعبرانية ابن الوجع ، ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى بأحد الأبوين ، لأن / الرابة تدعى ، إما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب ، ومنه قوله تعالى : {وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ} (البقرة : 133).
البحث الثاني : آوى إليه أبويه ضمهما إليهما واعتنقهما.
فإن قيل : ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر ؟
قلنا : كأنه حين استقبلهم نزل بهم في بيت هناك أو خيمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال لهم : {ادْخُلُوا مِصْرَ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 514
أما قوله : {دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى ا إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ففيه أبحاث :
البحث الأول : قال السدي إنه قال : هذا القول قبل دخولهم مصر ؛ لأنه كان قد استقبلهم وهذا هو الذي قررناه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بقوله : {ادْخُلُوا مِصْرَ} أي أقيموا بها آمنين ، سمى الإقامة دخولاً لاقتران أحدهما بالآخر.
البحث الثاني : الاستثناء وهو قول : {إِن شَآءَ اللَّهُ} فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول ، والمعنى : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ، ونظيره قوله تعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ} (الفتح : 27) وقيل إنه عائد إلى الدخول على القول الذي ذكرناه إنه قال لهم هذا الكلام قبل أن دخلوا مصر.
البحث الثالث : معنى قوله : {ءَامِنِينَ} يعني على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحداً ، وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر وقيل آمنين من القحط والشدة والفاقة ، وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف.
أما قوله : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قال أهل اللغة : العرش السرير الرفيع قال تعالى : {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل : 23) والمراد بالعرش ههنا السرير الذي كان يجلس عليه يوسف/ وأما قوله : {وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا } ففيه إشكال ، وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة عظيم قال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } (الإسراء : 23) فقرن حق الوالدين بحق نفسه ، وأيضاً أنه كان شيخاً ، والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ.
والقول الثالث : أنه كان من أكابر الأنبياء ويوسف وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه.
والقول الرابع : أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال.
/ والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجداً لله تعالى ، وحاصل الكلام : أن ذلك السجود كان سجوداً للشكر فالمسجود له هو الله ، إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا } مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير ، ثم سجدوا له ، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع.
جزء : 18 رقم الصفحة : 514
فإن قالوا : فهذا التأويل لا يطابق قوله : {وَقَالَ يَـا أَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـاىَ مِن قَبْلُ} والمراد منه قوله : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} (يوسف : 4).
(1/2561)

قلنا : بل هذا مطابق ويكون المراد من قوله : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} لأجلي أي أنها سجدت لله لطلب مصلحتي وللسعي في إعلاء منصبي ، وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال. وعندي أن هذا التأويل متعين ، لأنه لا يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة.
والوجه الثاني : في الجواب أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه. وهذا التأويل حسن فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليت إلى الكعبة. قال حسان شعراً :
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة ، وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله : {وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا } أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه.
الوجه الثالث : في الجواب قد يسمى التواضع سجوداً كقوله :
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
وكان المراد ههنا التواضع إلا أن هذا مشكل ، لأنه تعالى قال : {وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا } والخرور إلى السجدة مشعر بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى : {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (الفرقان : 73) يعني لم يمروا.
الوجه الرابع : في الجواب أن نقول : الضمير في قوله : {وَخَرُّوا لَه } غير عائد إلى الأبوين لا محالة ، وإلا لقال : وخروا له ساجدين ، بل الضمير عائد إلى إخوته ، وإلى سائر من كان يدخل / عليه لأجل التهنئة ، والتقدير : ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما ، وأما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين.
فإن قالوا : فهذا لا يلائم قوله : {وَقَالَ يَـا أَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـاىَ مِن قَبْلُ} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 514
قلنا : إن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر ، تعبير عن تعظيم الأكابر من الناس له ولا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له ، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير مساوياً لأصل الرؤيا في الصفة والصورة فلم يوجبه أحد من العقلاء.
الوجه الخامس : في الجواب لعل الفعل الدال على التحية والإكرام في ذلك الوقت هو السجود ، وكان مقصودهم من السجود تعظيمه ، وهذا في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب ، فلو كان الأمر كما قلتم ، لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه السلام.
والوجه السادس : فيه أن يقال : لعل إخوته حملتهم الأنفة والاستعلاء على أن لا يسجدوا له على سبيل التواضع ، وعلم يعقوب عليه السلام أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران الفتن ولظهور الأحقاد القديمة بعد كمونها فهو عليه السلام مع جلالة قدره وعظم حقه بسبب الأبوة والشيخوخة والتقدم في الدين والنبوة والعلم فعل ذلك السجود ، حتى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال الأنفة والنفرة عن قلوبهم ألا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسباً فإذا أراد ترتيبه مكنه في إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سبباً في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذا ههنا.
الوجه السابع : لعل الله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم لحكمة لا يعرفها إلا هو ، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن الله أمره بذلك سكت.
ثم حكى تعالى أن يوسف لما رأى هذه الحالة : {وَقَالَ يَـا أَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـاىَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا } وفيه بحثان :
البحث الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه ، وقال ليعقوب هذا تأويل رؤياي من قبل ، وأقول : هذا يقوي الجواب السابع كأنه يقول : يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا / أمر أمرت به وتكليف كلفت به ، فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف وحكاها ليعقوب سبباً لوجوب ذلك السجود ، فلهذا السبب حكى ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما رأى ذلك هاله واقشعر جلده ولكنه لم يقل شيئاً ، وأقول : لا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب كأنه قيل له : إنك كنت دائم الرغبة في وصاله ودائم الحزن بسبب فراقه ، فإذا وجدته فاسجد له ، فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد. والله أعلم بحقائق الأمور.
جزء : 18 رقم الصفحة : 514
(1/2562)

البحث الثاني : اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة ، وقيل : سبعون ، وقيل : أربعون ، وهو قول الأكثرين ، ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة ، وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة ، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه ، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة والله أعلم بحقائق الأمور.
ثم قال : {وَقَدْ أَحْسَنَ بِى } أي إلي يقال : أحسن بي وإليه. قال كثير :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن ثقلت
إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه : الأول : أنه قال لإخوته {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جاراً مجري الكرم/ الثاني : أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً ، أما لما خرج من السجن صيروه ملكاً فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً ، الثالث : أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة ، الرابع : قال الواحدي : النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به ، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس ، وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سبباً للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم قال : {وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية قولان :
القول الأول : جاء بكم من البدو أي من البداية ، وقال الواحدي : البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدواً ، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال : بدو / وحضر وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية.
والقول الثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها ، ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها قال ابن الأنباري : بدا اسم موضع معروف يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثير فقال :
وأنت التي حببت شعباً إلى بدا
إلى وأوطاني بلاد سواهما
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال : غار القوم غوراً إذا أتوا الغور فكان معنى الآية وجاء بكم من قصد بدا ، وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلى ههنا كلام قاله الواحدي في "البسيط".
جزء : 18 رقم الصفحة : 514
المسألة الثانية : تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى ، لأن خروج العبد من السجن أضافه إلى نفسه بقوله : {إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ} ومجيئهم من البدو وأضافه إلى نفسه سبحانه بقوله : {وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل الله تعالى وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار الله تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر.
ثم قال : {مِنا بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَـانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } قال صاحب "الكشاف" : {نَّزَغَ} أفسد بيننا وأغوى وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري : يقال : نزغه ونسغه إذا نخسه.
واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي : احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا : لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ، ولو كان ذلك أيضاً من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم.
والجواب : أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز ، لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي وقد أخبر الله عنه فقال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (إبراهيم : 22) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك. وأيضاً فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشيطان فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حق الإنسان ، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان وليس إيضاً بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة ، ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع/ وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من الله تعالى ، ثم الذي / يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله : {إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} صريح في أن الكل من الله تعالى.
(1/2563)

ثم قال : {إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } والمعنى أن حصول الاجتماع بين يوسف وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه فحصل وإن كان في غاية البعد عن الحصول.
جزء : 18 رقم الصفحة : 514
ثم قال : {إِنَّه هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أعني أن كونه لطيفاً في أفعاله إنما كان لأجل أنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب وحكيم أي محكم في فعله ، حاكم في قضائه ، حكيم في أفعاله مبرأ عن العبث والباطل والله أعلم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 514
518
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أن يوسف عليه السلام أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الذهب والفضة وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح ، فلما أدخله مخازن القراطيس قال يا بني ما أغفلك ، عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال : نهاني جبريل عليه السلام عنه قال سله عن السبب قال : أنت أبسط إليه فسأله فقال جبريل عليه السلام : أمرني الله بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلا خفتني وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ولما قربت وفاته أوصى إليه أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة ، فعند ذلك تمنى ملك الآخرة فتمنى الموت. وقيل : ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه الله طيباً طاهراً ، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحب أن يدفه في محلتهم حتى هموا بالقتال فرأوا أن الأصلح أن يعملوا له صندوقاً من مرمر ويجعلوه فيه ويدفنوه في النيل بمكان يمر الماء عليه ثم يصل إلى مصر لتصل بركته إلى كل أحد ، وولد له افراثيم وميشا ، وولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ، ثم دفن يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى / فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه.
المسألة الثانية : من في قوله : {مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } للتبعيض ، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل. قال الأصم : إنما قال من الملك ، لأنه كان ذو ملك فوقه.
واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة : المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس ، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام ، فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة فلا يكون لها تأثير في شيء أصلاً ، وهذان القسمان متباعدان جداً ويتوسطهما قسم ثالث ، وهو الذي يؤثر ويتأثر ، وهو عالم الأرواح ، فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال الله ، ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه ، فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه ، وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة. وقوله تعالى : {قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ} إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام وقوله : {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال الله ، ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء ، امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه ، فكان الحاصل في الحقيقة بعضاً من أبعاض الملك ، وبعضاً من أبعاض العلم ، فلهذا السبب ذكر فيه كلمة "من" لأنها دالة على التبعيض ، ثم قال : {فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وفيه أبحاث :
جزء : 18 رقم الصفحة : 518
البحث الأول : في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة. قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها. قال أهل اللغة : أصل الفطر في اللغة الشق يقال : فطر ناب البعير إذ بدا وفطرت الشيء فانفطر ، أي شققته فانشق ، وتفطر الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت ، هذا أصله في اللغة ، ثم صار عبارة عن الإيجاد ، لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم وخرج ذلك الشيء منه.
(1/2564)

البحث الثاني : أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه ، إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه : أحدها : أنه قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (فاطر : 1) ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال : {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ} (فصلت : 11) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض. وثانيها : أنه قال تعالى : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (الروم : 30) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب. قال تعالى : / {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } (طه : 55) وثالثها : أن الشيء إنما يكون حاصلاً عند حصول مادته وصورته مثل الكوز ، فإنه إنما يكون موجوداً إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة ، فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجوداً ، وبإيجاد تلك الصورة صار موجداً لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجداً للكون لا يقتضي كونه موجداً لمادة الكوز ، فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجداً للأجزاء التي منها تركبت السموات والأرض ، وإنما صار إلينا كونه موجداً لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن.
واعلم أن قوله : {فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} يوهم أن تخليق السموات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول : الواو تفيد الترتيب ، ثم العقل يؤكده أيضاً ، وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط ، لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها ، أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه. وأيضاً اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة ، ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 1).
جزء : 18 رقم الصفحة : 518
البحث الثالث : قال الزجاج : نصبه من وجهين : أحدهما : على الصفة لقوله : {رَبِّ} وهو نداء مضاف في موضع النصب. والثاني : يجوز أن ينصب على نداء ثان.
ثم قال : {أَنتَ وَلِىِّا فِى الدُّنُيَا وَالاخِرَةِ } والمعنى : أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة فوصل الملك الفاني بالملك الباقي ، وهذا يدل على أن الإيمان والطاعة كلمة من الله تعالى إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو ، وحينئذ يبطل عموم قوله : {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ} .
ثم قال : {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام عن رب العزة أنه قال : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" فلهذا المعنى من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على الله فههنا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله : {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِا فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله : {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} ونظيره ما فعله الخليل صلوات الله عليه في قوله : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) من هنا إلى قوله : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا} (الشعراء : 83) ثناء على الله ثم قوله : {رَبِّ هَبْ لِى} إلى آخر الكلام دعاء فكذا ههنا.
/ المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله : {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا} هل هو طلب منه للوفاة أو لا ؟
فقال قتادة : سأل ربه اللحوق به ولم يتمن نبي قط الموت قبله/ وكثير من المفسرين على هذا القول ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : في رواية عطاء يريد إذا توفيتني فتوفني على دين الإسلام ، فهذا طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة.
واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها : أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالماً بالإلهيات ، وفي أن يكون ملكاً ومالكاً متصرفاً في الجسمانيات ، وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية والكمال المطلق فيهما ليس إلا لله وكل ما دون ذلك فهو ناقص والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق بقي في القلق وألم الطلب ، وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا الله ، وما كان حصوله للإنسان ممتنعاً لزم أن يبقى الإنسان أبداً في قلق الطلب وألم التعب فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت ، فحينئذ يتمنى الموت.
جزء : 18 رقم الصفحة : 518
(1/2565)

والسبب الثاني : لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة : أحدها : أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها. وثانيها : أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات. وثالثها : أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل ، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ، ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات.
والسبب الثالث : وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها ، وإنما حاصلها دفع الآلام ، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ، ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني. ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة.
والسبب الرابع : أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع : لذة الأكل ولذة الوقاع / ولذة الرياسة ولكل واحدة منها عيوب كثيرة. أما لذة الأكل ففيها عيوب : أحدها : أن هذه اللذات ليست قوية فإن الشعور بألم القولنج الشديد والعياذ بالله منه أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام. وثانيها : أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها فإن الإنسان إذا أكل شبع وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل فهذه اللذة ضعيفة ، ومع ضعفها غير باقية. وثالثها : أنها في نفسها خسيسة فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة ، وذلك أيضاً منفر. ورابعها : أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج في مذاق الإنسان وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل ، فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان ، وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس. وخامسها : أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع وتلك حاجة شديدة والحاجة نقص وافر. وسادسها : أن الأكل يستحقر عند العقلاء. قيل : من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه ، فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل ، وأما لذة النكاح ، فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى/ وهي أن النكاح سبب لحصول الولد ، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجة إلى المال فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها ، وربما صار هالكاً سبب طلب المال ، وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره ههنا بسبب واحد وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً آمراً ، فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيساً آمراً كان ذلك دالاً على مخالفة كل ما سواه ، فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك ، وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة ، وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه ، ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمعتذر ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال.
جزء : 18 رقم الصفحة : 518
واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات ألبتة. ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها ، والعشق الشديد عليها ، والرغبة التامة في الوصول إليها وحينئذ ينعقد ههنا قياف ، وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالباً لهذه اللذات وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات ، وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضاً مكروه فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية والسبب في الأمور / المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ولا يمكن الزيادة عليها والتكرير يوجب الملالة أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية.
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة الله عليه وهو مصنف هذا الكتاب أنار الله برهانه. أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها ، ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات وما وصلت إلى القليل منها فلهذا السبب صرت مواظباً في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله : {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِا فَاطِرَ} .
(1/2566)

المسألة الثالثة : تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من الله تعالى بقوله {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا} وتقريره أن تحصيل الإسلام وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من الله فاسداً وتقريره كأنه يقول افعل يا من لا يفعل والمعتزلة أبداً يشنعون علينا ويقولون إذا كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقال للعبد افعل مع أنك لست فاعلاً ، فنحن نقول ههنا أيضاً إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من الله تعالى ، فكيف يطلب ذلك من الله قال الجبائي والكعبي معناه : اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه. فهذا الجواب ضعيف لأن السؤال وقع على السلام فحمله على اللطف عدول عن الظاهر وأيضاً كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله فكان طلبه من الله محالاً.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وأنه لا يجوز.
والجواب : أحسن ما قيل فيه أن كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء الله وقدره ، ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب ، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر ، فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى.
جزء : 18 رقم الصفحة : 518
المسألة الخامسة : أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلام/ والصلاح أول درجات المؤمنين ، فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين : يعني بآبائه إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب ، والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم ، وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات ، وهو أن النفوس المفارقة أذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية ، فإذا كانت متناسبة متشاكلة / انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة ، فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء ، ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعاً متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى ، فهناك يقوى الضوء ويكمل النور ، وينتهي في الإشراق والبريق اللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة ، فكذا ههنا.
جزء : 18 رقم الصفحة : 518
518
اعلم أن قوله : {ذَالِكَ} رفع بالابتداء وخبره {مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } خبر ثان {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي ما كنت عند إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} أي عزموا على أمرهم وذكرنا الكلام في هذا اللفظ عند قوله : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} وقوله : {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي بيوسف ، واعلم أن المقصد من هذا إخبار عن الغيب فيكون معجزاً. بيان إن إخبار عن الغيب أن محمداً صلى الله عليه وسلّم ما طالع الكتب ولم يتلمذ لأحد وما كانت البلدة بلدة العلماء فإتيانه بهذه القصة الطويلة على وجه لم يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم ، ومن غير أن يقال : إنه كان حاضراً معهم لا بد وأن يكون معجزاً وكيف يكون معجزاً وقد سبق تقرير هذه المقدمة في هذا الكتاب مراراً ، وقوله : {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي وما كنت هناك ذكر على سبيل التهكم بهم ، لأن كل أحد يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلّم ما كان معهم.
جزء : 18 رقم الصفحة : 518
520
/ اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التعنت ، واعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه إذا ذكرها فربما آمنوا ، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية ، وكأنه إشارة إلى ما ذكره الله تعالى في قوله : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } (القصص : 56) قال أبو بكر بن الأنباري : جواب {لَوْ} محذوف ، لأن جواب {لَوْ} لا يكون مقدماً عليها فلا يجوز أن يقال. وقال الفراء في "المصادر" يقال : حرص يحرص حرصاً ، ولغة أخرى شاذة : حرص يحرص حريصاً. ومعنى الحرص : طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد. وقوله : {وَمَا تَسْـاَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } معناه ظاهر وقوله : {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} أي هو تذكرة لهم في دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والقصص والتكاليف والعبادات ، ومعناه : أن هذا القرآن يشتمل على هذه المنافع العظيمة ، ثم لا تطلب منهم مالاً ولا جعلاً ، فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا. وقوله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يعني : أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك ، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها.
(1/2567)

جزء : 18 رقم الصفحة : 520
واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة لابد وأن تكون من أمور محسوسة ، وهي إما الأجرام الفلكية وأما الأجرام العنصرية ، أما الأجرام الفلكية : فهي قسمان : إما الأفلاك وإما الكواكب. أما الأفلاك : فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته ، وقد يستدل بأحوال حركاتها إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم فلا بد من محرك قادر ، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها ، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات. وأما الأجرام الكوكبية فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها أحيازها وحركاتها ، وتارة بألوانها وأضوائها ، وتار بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال والظلمات والنور ، وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية : فإما أن تكون مأخوذة من بسائط ، وهي عجائب البر والبحر ، وإما من المواليد وهي أقسام : أحدها : الآثار العلوية كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح. وثانيها : المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها. وثالثها : النبات وخاصية الخشب والورق والثمر واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص وخاصية مخصوصة. ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها. وخامسها : تشريح أبدان الناس وتشريح القوى الإنسانية وبيان المنفعة / الحاصلة فيها فهذه مجامع الدلائل. ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين وحكايات الأقدمين وأن الملوك الذين استولوا على الأرض وخربوا البلاد وقهروا العباد ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر/ ثم بقي الوزر والعقاب عليهم هذا ضبط أنواع هذه الدلائل والكتاب المحتوي على شرح هذه الدلائل هو شرح جملة العالم الأعلى والعالم الأسفل والعقل البشري لا يفي بالإحاطة به فلهذا السبب ذكره الله تعالى على سبيل الإبهام قال صاحب "الكشاف" قرىء {وَالارْضِ} بالرفع على أنه مبتدأ و{يَمُرُّونَ} عليها خبره وقرأ السدي {وَالارْضِ} بالنصب على تقدير أن يفسر قوله : {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} بقولنا يطوفونها ، وفي مصحف عبدالله {وَالارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} برفع الأرض.
جزء : 18 رقم الصفحة : 520
أما قوله : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ} فالمعنى : أنهم كانوا مقرين بوجود الإله بدليل قوله : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25) إلا أنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين يشبهون الله بخلقه وعنه أيضاً أنه قال : نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب لأنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، وعنه أيضاً أن أهل مكة قالوا : الله ربنا وحده لا شريك له الملائكة بناته فلم يوحدوا ، بل أشركوا ، وقال عبدة الأصنام : ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده ، وقالت اليهود : ربنا الله وحده وعزيز ابن الله ، وقالت النصارى : ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله ، وقال عبدة الشمس والقمر : ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا ، وقال المهاجرون والأنصار ربنا الله وحده ولا شريك معه ، واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن الإقرار باللسان فقط ، لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنهم مشركون ، وذلك يدل على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار باللسان ، وجوابه معلوم ، أما قوله : {أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَـاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ} أي عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم وتغمرهم {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي فجأة. وبغتة نصب على الحال يقال : بغتهم الأمر بغتاً وبغتة إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا وقوله : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} كالتأكيد لقوله : {بَغْتَةً} .
جزء : 18 رقم الصفحة : 520
520
/ قال المفسرون : قل يا محمد لهم هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي ومنهاجي ، وسمي الدين سبيلاً لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب ، ومثله قوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل : 125).
(1/2568)

واعلم أن السبيل في أصل اللغة الطريق ، وشبهوا المعتقدات بها لما أن الإنسان يمر عليها إلى الجنة ادعو الله على بصيرة وحجة وبرهان أنا ومن اتبعني إلى سيرتي وطريقتي وسيرة أتباعي الدعوة إلى الله ، لأن كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين ، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور وقال عليه الصلاة والسلام : "العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما تدعونهم إليه" وقيل أيضاً يجوز أن ينقطع الكلام عند قوله {أَدْعُوا إِلَى اللَّه } ثم ابتدأ وقال : {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى } وقوله : {وَسُبْحَـانَ اللَّهِ} عطف على قوله : {هَـاذِه سَبِيلِى } أي قل هذه سبيلي وقل سبحان الله تنزيهاً لله عما يشركون وما أنا من المشركين الذين اتخذوا مع الله ضداً ونداً وكفؤاً وولداً ، وهذه الآية تدل على أن حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن الله ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها.
جزء : 18 رقم الصفحة : 520
521
اعلم أنه قرأ حفص عن عاصم {نُّوحِى } بالنون ، والباقون بالياء {أَفَلا يَعْقِلُونَ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ، ورواية حفص عن عاصم : {تَعْقِلُونَ} بالتاء على الخطاب ، والباقون : بالياء على الغائب.
واعلم أن من جملة شبه منكري نبوته عليه الصلاة والسلام أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكاً ، فقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ا } فلما كان الكل / هكذا فكيف تعجبوا في حقك يا محمد والآية تدل على أن الله ما بعث رسولاً إلى الحق من النسوان وأيضاً لم يبعث رسولاً من أهل البادية. قال عليه الصلاة والسلام : "من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل".
ثم قال : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا } إلى مصارع الأمم المكذبة وقوله : {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} والمعنى دار الحالة الآخرة ، لأن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة ، ومثله قوله صلاة الأولى أي صلاة الفريضة الأولى ، وأما بيان أن الآخرة خير من الأولى فقد ذكرنا دلائله مراراً.
جزء : 18 رقم الصفحة : 521
522
اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي {كُذِبُوا } بالتخفيف ، وكسر الذال والباقون بالتشديد ، ومعنى التخفيف من وجهين : أحدهما : أن الظن واقع بالقوم ، أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر.
فإن قيل : لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم.
قلنا : ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وإن شئت قلت أن ذكرهم جرى في قوله : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } (يوسف : 109) فيكون الضمير عائداً إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان.
والوجه الثاني : أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا : وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد ، لأن المؤمن لا يجوز أن يطن بالله الكذب ، بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل ، وأما قراءة التشديد ففيها وجهان : الأول : أن الظن بمعنى اليقين ، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك ، فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال ، وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46) أي يتيقنون ذلك. والثاني : أن يكون الظن بمعنى الحسبان والتقدير / حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية ، روي أن ابن أبي مليكة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : وظن الرسل أنهم كذبوا ، لأنهم كانوا بشراً ألا ترى إلى قوله : {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه مَتَى نَصْرُ اللَّه } (البقرة : 214) قال فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فأنكرته وقالت : ما وعد الله محمداً صلى الله عليه وسلّم شيئاً إلا وقد علم أنه سيوفيه ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة.
جزء : 18 رقم الصفحة : 522
(1/2569)

وأما قوله : {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ } قرأ عاصم وابن عامر {فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ } بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله ، واختاره أبو عبيدة لأنه في المصحف بنون واحدة. وروي عن الكسائي : إدغام إحدى النونين في الأخرى وقرأ بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء ، قال بعضهم : هذا خطأ لأن النون متحركة فلا تدغم في الساكن ، ولا يجوز إدغام النون في الجيم ، والباقون بنونين ، وتخفيف الجيم وسكون الياء على معنى : ونحن نفعل بهم ذلك.
واعلم أن هذا حكاية حال ، ألا ترى أن القصة فيما مضى ، وإنما حكى فعل الحال كما أن قوله : {مِن شِيعَتِه وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّه } (القصص : 15) إشارة إلى الحاضر والقصة ماضية.
جزء : 18 رقم الصفحة : 522
524
اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول ، والمراد منه التأمل والتفكر ، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور : الأول : أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب ، وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم ، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة ، لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته. الثاني : أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب ، فيكون معجزة دالة على صدق محمد / صلى الله عليه وسلّم ، الثالث : أنه ذكر في أول السورة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف : 3) ثم ذكر في آخرها : {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } تنبيهاً على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة. والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه ، ومن الناس من قال : المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام.
فإن قيل : لم قال : {عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } مع أن قوم محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا ذوي عقول وأحلام ، وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك.
قلنا : إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار ، والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل ، أو نقول : المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها ، لأن {لاوْلِى الالْبَـابِ } لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه ، واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات.
الصفة الأولى : كونها {عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } وقد سبق تقريره.
الصفة الثانية : قوله : {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } وفيه قولان : الأول : أن المراد الذي جاء به وهو محمد صلى الله عليه وسلّم لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت ، والثاني : أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه ، لأنه لا يصح الكذب منه ، ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال : {وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية ، ونصب تصديقاً على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى : {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ} (الأحزاب : 40) قاله الفراء والزجاج ، ثم قال : ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى : ولكن هو تصديق الذي بين يديه.
جزء : 18 رقم الصفحة : 524
والصفة الثالثة : قوله : {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ} وفيه قولان : الأول : المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته ، والثاني : أنه عائد إلى القرآن ، كقوله : {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ } (الأنعام : 38) فإن جعل هذا الوصف وصفاً لكل القرآن أليق من جعله وصفاً لقصة يوسف وحدها ، ويكون المراد : ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين. قال الواحدي على التفسيرين جميعاً : فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } (الأعراف : 156) يريد : كل شيء يجوز أن يدخل فيها وقوله : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23).
(1/2570)

الصفة الرابعة والخامسة : كونها هدى في الدنيا وسبباً لحصول الرحمة في القيامة لقوم يؤمنون خصهم بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا به كما قررناه في قوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب قال المصنف رحمه الله تعالى تم تفسير هذه السورة بحمد الله تعالى يوم الأربعاء السابع من شعبان ، ختم بالخير والرضوان ، سنة إحدى وستمائة ، وقد كنت ضيق الصدر جداً بسبب وفاة الولد الصالح محمد تغمده الله بالرحمة والغفران وخصه بدرجات الفضل والإحسان وذكرت هذه الأبيات في مرثيته على سبيل الإيجاز :
فلو كانت الأقدار منقادة لنا
فديناك من حماك بالروح والجسم
ولو كانت الأملاك تأخذ رشوة
خضعنا لها بالرق في الحكم والاسم
ولكنه حكم إذا حان حينه
سرى من مقر العرش في لجة اليم
سأبكي عليك العمر بالدم دائما
ولم أنحرف عن ذاك في الكيف والكم
سلام على قبر دفنت بتربه
وأتحفك الرحمن بالكرم الجم
وما صدني عن جعل جفني مدفنا
لجسمك إلا أنه أبداً يهمي
وأقسم إن مسوا رفاتي ورمتي
أحسوا بنار الحزن في مكمن العظم
حياتي وموتي واحد بعد بعدكم
بل الموت أولى من مداومة الغم
رضيت بما أمضى الإله بحكمه
لعلمي بأني لا يجاوزني حكمي
وأنا أوصي من طالع كتابي واستفاد ما فيه من الفوائد النفيسة العالية أن يخص ولدي ويخصني بقراءة الفاتحة ، ويدعو لمن قد مات في غربة بعيداً عن الإخوان والأب والأم بالرحمة والمغفرة فإني كنت أيضاً كثير الدعاء لمن فعل ذلك في حقي وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً آمين والحمد لله رب العالمين.
جزء : 18 رقم الصفحة : 524
524
(1/2571)

سورة الرعد
مدنية ، وآياتها : 43 ، نزلت بعد سورة محمد
سورة الرعد أربعون وثلاث آيات مكية
سوى قوله تعالى : {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} (الرعد : 31) وقوله : {وَمَنْا عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد : 43) قال الأصم هي مدنية بالإجماع سوى قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرعد : 31).
جزء : 18 رقم الصفحة : 524
525
اعلم أنا قد تكلمنا في هذه الألفاظ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه : أنا الله أعلم ، وقال في رواية عطاء أنا الله الملك الرحمن ، وقد أمالها أبو عمرو والكسائي وغيرهما وفخمها جماعة منهم عاصم وقوله : {تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة المسماة بالمر. ثم قال : إنها آيات الكتاب. وهذا الكتاب الذي أعطاه محمداً بأن ينزله عليه ويجعله باقياً على وجه الدهر وقوله : {وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} مبتدأ وقوله : {الْحَقُّ} خبره ومن الناس من تمسك بهذه الآية في نفي القياس فقال : الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة : 44) وبالإجماع لا يكفر فثبت أن الحكم المثبت بالقياس غير نازل من عند الله. وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حقاً لأجل أن قوله : {وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ} يقتضي أنه لا حق إلا ما أنزله الله فكل ما لم ينزله الله وجب أن لا يكون حقاً ، وإذا لم يكن حقاً وجب أن يكون باطلاً لقوله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ } (يونس : 32) ومثبتو القياس يجيبون عنه بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً من عند الله ، لأنه لما أمر بالعمل بالقياس كان الحكم الذي دل عليه القياس نازلاً من عند الله. ولما ذكر تعالى أن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم هو الحق بين أن أكثر الناس لا يؤمنون به على سبيل الزجر والتهديد.
جزء : 18 رقم الصفحة : 525
5
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن أكثر الناس لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وهو هذه الآية وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الله مبتدأ والذي رفع السموات خبره بدليل قوله : {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الارْضَ} (الرعد : 3) ويجوز أن يكون الذي رفع السموات صفة وقوله : {يُدَبِّرُ الامْرَ يُفَصِّلُ الايَاتِ} خبراً بعد خبر ، وقال الواحدي : العمد الأساطين وهو جمع عماد يقال عماد وعمد مثل إهاب وأهب ، وقال الفراء : العمد والعمد جمع العمود مثل أديم وادم وادم ، وقضيم وقضم وقضم ، والعماد والعمود ما يعمد به الشيء ، ومنه يقال : فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السموات وبأحوال الشمس والقمر وبأحوال الأرض وبأحوال النبات ، أما الاستدلال بأحوال السموات بغير عمد ترونها فالمعنى : أن هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين : الأول : أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحين. والثاني : أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك / الخلاء الصرف غير متناهية وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمراً واجباً لذاته بل لا بد من مخصص ومرجح ، ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها ، وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال فثبت أن يقال الأجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك. فهذا برهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر. ويدل أيضاً على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز ، لأنه لو كان حاصلاً في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث ، فثبت أنه لو كان حاصلاً في الحيز المعين لكان حادثاً وذلك محال ، فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة ، وأيضاً كل ما سماك فهو سماء ، فلو كان تعالى موجوداً في جهة فوق جهة لكان من جملة السموات فدخل تحت قوله : {اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } فكل ما كان مختصاً بجهة فوق جهة فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزهاً عن جهة فوق. أما قوله : {تَرَوْنَهَا } ففيه أقوال : الأول : أنه كلام مستأنف والمعنى : رفع السموات بغير عمد. ثم قال : {تَرَوْنَهَا } أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد. الثاني : قال الحسن في تقرير الآية تقديم وتأخير تقديره : رفع السموات ترونها بغير عمد.
جزء : 19 رقم الصفحة : 5
(1/2572)

واعلم أنه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره كان المصير إلى التقديم والتأخير غير جائز. والثالث : أن قوله : {تَرَوْنَهَا } صفة للعمد ، والمعنى : بغير عمد مرئية ، أي للسموات عمد. ولكنا لا نراها قالوا : ولها عمد على جبل قاف وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولكنكم لا ترونها. وهذا التأويل في غاية السقوط ، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله ، وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي وأنهم لا يرون ذلك التدبير / ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك.
وأما قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقراً على العرش ، لأن المقصود من هذه الآية ذكر ما يدل على وجود الصانع ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهداً معلوماً وأن أحداً ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه وأيضاً بتقدير أن يشاهد كونه مستقراً على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله ، بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز. وأيضاً فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة ، وذلك يوجب التغير وأيضاً الاستواء ضد الاعوجاج فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجاً مضطرباً ثم صار مستوياً وكل ذلك على الله محال ، فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه. وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر : فهو قوله سبحانه وتعالى : {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَا كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى } .
واعلم أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة :
النوع الأول : قوله : {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } وحاصله يرجع إلى الاستدلال على وجود الصانع القادر القاهر بحركات هذه الأجرام ، وذلك لأن الأجسام متماثلة فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لا بد له من مخصص. وأيضاً أن كل واحدة من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطإ والسرعة فلا بد أيضاً من مخصص لا سيما عند من يقول الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز وتسكن في البعض فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين والسكون في الحيز الآخر لا بد فيه أيضاً من مرجح.
جزء : 19 رقم الصفحة : 5
الوجه الثالث : وهو أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلا بد من مقدر.
والوجه الرابع : أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب وهذا أيضاً لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة.
النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله : {كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى } وفيه قولان : الأول : قال ابن عباس : للشمس مائة وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر ، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً ، فالمراد بقوله : {كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى } هذا. وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه / الكواكب سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك.
(1/2573)

والقول الثاني : أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة ، وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} (التكوير : 1 ، 2) {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} (الإنشقاق : 1) {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} (الأنفطار : 1) {جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَه } (القيامة : 9) وهو كقوله سبحانه وتعالى : {ثُمَّ قَضَى ا أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَه } (الأنعام : 2) ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال : {يُدَبِّرُ الامْرَ} وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد ، وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى ، والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ، ليس إلا من الله تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات.
جزء : 19 رقم الصفحة : 5
ثم قال : {يُفَصِّلُ الايَـاتِ} وفيه قولان : الأول : أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته. والثاني : أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان : أحدهما : الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب ، وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره. والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموت بعد الحياة ، والفقر بعد الغنى ، والهرم بعد الصحة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل الذكي في أشد الأحوال ، فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة. وقوله : {يُفَصِّلُ الايَـاتِ} إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل.
ثم قال : {لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضاً تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الاْشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى يروى أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه تعالى كيف / يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة. وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه ، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية الله تعالى وقد مر تقريره في هذا الكتاب مراراً وأطواراً.
جزء : 19 رقم الصفحة : 5
8
/ اعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال : {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الارْضَ} .
واعلم أن الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوه : الأول : أن الشيء إذا تزايد حجمه ومقداره صار كأن ذلك الحجم وذلك المقدار يمتد فقوله : {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الارْضَ} إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض مختصة بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص وتقدير. الثاني : قال أبو بكر الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله : {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الارْضَ} يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه ، لأن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به. والثالث : قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا. وقال آخرون : كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها : اذهبي كذا وكذا.
اعلم أن هذا القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30) وهذا القول مشكل من وجهين. الأول : أنه ثبت بالدلائل / أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه ؟
فإن قالوا : وقوله : {مَدَّ الارْضَ} ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها ؟
(1/2574)

قلنا : لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح ، والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال : {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ : 7) فجعلها أوتاداً مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك ههنا. والثاني : أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع ، والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع ، فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 8
والنوع الثاني : من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال : رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا.
واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه ، الأول : أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم. قالت الفلاسفة : هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طيناً لزجاً. ثم يقوي تأثير الشمس فيها فينقلب حجراً كما يشاهد في كوز الفقاع ثم إن الماء كان يغور ويقل فيتحجر البقية ، فلهذا السبب تولدت هذه الجبال قالوا : وإنما كانت البحار حاصلة في هذا الجانب من العالم لأن أوج الشمس وحضيضها متحركان ، ففي الدهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض فكان التسخين أقوى وشدة السخونة توجب انجذاب الرطوبات ، فحين كان الحضيض في جانب الشمال كانت البحار في جانب الشمال ، والآن لما انتقل الأوج إلى جانب الشمال والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال/ هذا حاصل كلام القوم في هذا الباب وهو ضعيف من وجوه الأول : أن حصول الطين في البحر أمر عام ووقوع الشمس عليها أمر عام فلم وصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض. والثاني : وهو أنا نشاهد في بعض الجبال كأن تلك الأحجار موضوعة سافا فسافاً فكأن البناء لبنات كثيرة موضوع بعضها على بعض ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السبب الذي ذكروه. والثالث : أن أوج الشمس الآن قريب من أول السرطان فعلى هذا من الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشمالي مضى / قريب من تسعة آلاف سنة ، وبهذا التقدير أن الجبال في هذه المدة الطويلة كانت في التفتت فوجب أن لا يبقى من الأحجار شيء ، لكن ليس الأمر كذلك ، فعلمنا أن السبب الذي ذكروه ضعيف.
والوجه الثاني : من الاستدلال بأحوال الجبال على وجود الصانع ذي الجلال ما يحصل فيها من معادن الفلزات السبعة ومواضع الجواهر النفيسة وقد يحصل فيها معادن الزاجات والأملاح وقد يحصل فيها معادن النفط والقير والكبريت ، فكون الأرض واحدة في الطبيعة ، وكون الجبل واحداً في الطبع ، وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدل دليلاً ظاهراً على أن الكل بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات والممكنات.
جزء : 19 رقم الصفحة : 8
والوجه الثالث : من الاستدلال بأحوال الجبال أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض ، وذلك أن الحجر جسم صلب فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل ، فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة ، ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ، ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية ، ومثل قوله : {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَـامِخَـاتٍ وَأَسْقَيْنَـاكُم مَّآءً فُرَاتًا} (المرسلات : 27).
والنوع الثالث : من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب خلقة النبات ، وإليه الإشارة بقوله : {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } وفيه مسائل :
(1/2575)

المسألة الأولى : أن الحبة إذا وضعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة في الهواء ، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب ، لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ثم إنه خرج من الجانب الأعلى من تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء من الجانب الأسفل منه جرم غائص في الأرض ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم ، والمقدر القديم لا بسبب الطبع والخاصية ، ثم إن الشجرة الثابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشباً وبعضها يكون نوراً وبعضها يكون ثمرة ، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع ، فالجوز له أربعة أنواع من القشور ، فالقشر الأعلى وتحته القشرة الخشبة وتحته القشرة المحيطة باللبنة ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز رطباً وأيضاً فقد يحصل / في الثمرة الواحدة الطباع المختلفة ، فالأترج قشره حار يابس ولحمه حار رطب وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ونوره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حاران رطبان فتولد هذه للطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القادر القديم.
المسألة الثانية : المراد بزوجين اثنين صنفين اثنين والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض أو الطبيعة كالحار والبارد أو اللون كالأبيض والأسود.
جزء : 19 رقم الصفحة : 8
فإن قيل : الزوجان لا بد وأن يكون اثنين ، فما الفائدة في قوله : {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } .
قلنا : قيل إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط ، فلو قال : خلق زوجين لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص. أما لما قال اثنين علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة إلا أنهم لما ابتدؤا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء ، فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع والله أعلم.
النوع الرابع : من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بأحوال الليل والنهار وإليه الإشارة بقوله : {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ} والمقصود أنم الإنعام لا يكمل إلا بالليل والنهار وتعاقبهما كما قال : {فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء : 12) ومنه قوله : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ} (الأعراف : 54) وقد سبق الاستقصاء في تقريره فيما سلف من هذا الكتاب ، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : {يُغْشِى} بالتشديد وفتح الغين والباقون بالتخفيف ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
واعلم أنه تعالى في أكثر الأمر حيث يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي يذكر عقبها : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أو ما يقرب منه بحسب المعنى ، والسبب فيه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية ، فما لم تقم الدلالة على دفع هذا السؤال لا يتم المقصود ، فلهذا المعنى قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} كأنه تعالى يقول مجال الفكر باق بعد ولا بد بعد هذا المقام من التفكر والتأمل ليتم الاستدلال.
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين : الأول : أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لا بد أن يكون بتخصيص المقدر القديم / والمدبر الحكيم ، فقد سقط هذا السؤال وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام ، لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع. ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية.
جزء : 19 رقم الصفحة : 8
فإن قال قائل : لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية ، كان جوابنا أن نقول فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحاً في غرضنا.
والوجه الثاني : من الجواب أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية ، وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ، ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين.
جزء : 19 رقم الصفحة : 8
9
في الآية مسائل :
(1/2576)

المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية ، والحركات الكوكبية ، وتقريره من وجهين ، الأول : أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة ، فبعضها تكون سبخية ، وبعضها تكون رخوة ، وبعضها تكون صلبة ، وبعضها تكون منبتة ، وبعضها تكون حجرية أو رملية وبعضها يكون طيناً لزجاً ، ثم إنها متجاورة وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع على السوية فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير. والثاني : أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد فيكون تأثير الشمس فيها متساوياً ، ثم إن تلك الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية حتى أنك قد تأخذ عنقوداً من العنب فيكون جميع حباته حلوة نضيجة إلا حبة واحدة فإنها بقيت حامضة يابسة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة / الطباع والأفلاك للكل على السوية ، بل نقول : ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أنه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السواد مع أن ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنعومة فيستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني ، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار ، لا بسبب الاتصالات الفلكية وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى : {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاكُلِ } فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها.
واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لا بد لها من مؤثر وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع فعند هذا يجب القطع بأنه لا بد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء ، وعندها يتم الدليل ، ولا يبقى بعده للفكر مقام ألبتة ، فلهذا السبب قال ههنا : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأنه لا دافع لهذه الحجة إلا أن يقال : إن هذه الحوادث السفلية حدثت لا لمؤثر ألبتة وذلك يقدح في كمال العقل ، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث لما كان علماً ضرورياً كان عدم حصول هذا العلم قادحاً في كمال العقل فلهذا قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال في الآية المتقدمة : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر : 42) (الجاثية : 13) فهذه اللطائف نفيسة من أسرار علم القرآن ونسأل الله العظيم أن يجعل الوقوف عليها سبباً للفوز بالرحمة والغفران.
جزء : 19 رقم الصفحة : 9
المسألة الثانية : قوله : {وَفِى الارْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـاوِرَاتٌ} قال أبو بكر الأصم : أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة ، وأخرى سبخة ، وأخرى حرة ، وأخرى رملة ، وأخرى تكون حصباء ، وأخرى تكون حمراء ، وأخرى تكون سوداء. وبالجملة فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم ، وفي بعض المصاحف (قطعاً متجاورات) والتقدير : وجعل فيها رواسي وجعل في الأرض قطعاً متجاورات. وأما قوله : {وَجَنَّـاتٌ مِّنْ أَعْنَـابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} فنقول : الجنة البستان الذي يحصل فيه النخل والكرم والزرع وتحفه تلك الأشجار والدليل عليه قوله تعالى : {جَعَلْنَا لاحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَـابٍ وَحَفَفْنَـاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} (الكهف : 32) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم : {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} كلها بالرفع عطفاً على قوله (وجنات) والباقون بالجر عطفاً على الأعناب. وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس : (صنوان) بضم الصاد والباقون بكسر الصاد وهما لغتان ، والصنوان جمع صنو مثل قنوان وقنو ويجمع على أصناء مثل اسم وأسماء. فإذا كثرت فهو الصني ، والصني بكسر الصاد وفتحها ، والصنو أن يكون الأصل واحداً وتنبت فيه النخلتان والثلاثة فأكثر فكل واحدة صنو. وذكر ثعلب عن ابن الأعرابي : / الصنو المثل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم : "ألا إن عم الرجل صنو أبيه" أي مثله.
إذا عرفت هذا فنقول : إذا فسرنا الصنو بالتفسير الأول كان المعنى : أن النخيل منها ما ينبت من أصل واحد شجرتان وأكثر ومنها ما لا يكون كذلك ، وإذا فسرناه بالتفسير الثاني كان المعنى : أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة متشابهة ، وقد لا تكون كذلك.
(1/2577)

ثم قال تعالى : {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} قرأ عاصم وابن عامر (يسقى) بالياء على تقدير يسقى كله أو لتغليب المذكر على المؤنث ، والباقون بالتاء لقوله : (جنات) قال أبو عمرو : ومما يشهد للتأنيث قوله تعالى : {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاكُلِ } قرأ حمزة والكسائي (يفضل) بالياء عطفاً على قوله : {يُدَبِّرُ} والباقون بالنون على تقدير : ونحن نفضل ، و(في الأكل) قولان : حكاهما الواحدي حكي عن الزجاج أن الأكل الثمر الذي يؤكل ، وحكى عن غيره أن الأكل المهيأ للأكل ، وأقول هذا أولى لقوله تعالى في صفة الجنة : {تَحْتِهَا الانْهَـارُا أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} (الرعد : 35) وهو عام في جميع المطعومات وابن كثير ونافع يقرآن الأكل ساكنة الكاف في جميع القرآن ، والباقون بضم الكاف وهما لغتان.
جزء : 19 رقم الصفحة : 9
11
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل القاهرة على ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ ذكر بعده مسألة المعاد فقال : {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} وفيه أقوال :
القول الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك أنك من الصادقين فهذا عجب. والثاني : إن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً بعد ما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد فهذا عجب. والثالث : تقدير الكلام إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبر السموات والأرض / وخالق الخلائق أجمعين ، وأنه هو الذي رفع السموات بغير عمد ، وهو الذي سخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد ، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب والغرائب ، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته ، لأن القادر على الأقوى الأكمل فإن يكون قادراً على الأقل الأضعف أولى ، فهذا تقرير موضع التعجب.
ثم إنه تعالى لما حكى هذا الكلام حكم عليهم بثلاثة أشياء : أولها : قوله : {أُوالَـا ـاـاِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ } وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة فهو كافر ، وإنما لزم من إنكار البعث الكفر بربهم من حيث إن إنكار البعث لا يتم إلا بإنكار القدرة والعلم والصدق أما إنكار القدرة فكما إذا قيل : إن إله العالم موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يقدر على الإعادة. أو قيل : إنه وإن كان قادراً لكنه ليس تام القدرة ، فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثيرات الطبائع والأفلاك ، وأما إنكار العلم فكما إذا قيل : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات ، فلا يمكنه تمييز هذا المطيع عن العاصي وأما إنكار الصدق فكما إذا قيل : إنه وإن أخبر عنه لكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه ولما كان كل هذه الأشياء كفراً ثبت أن إنكار البعث كفر بالله.
الصفة الثانية : قوله : {وَأُوالَـا ـاـاِكَ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ } وفيه قولان : الأول : قال أبو بكر الأصم : المراد بالأغلال : كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا} (يس : 8) قال الشاعر :
جزء : 19 رقم الصفحة : 11
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
ويقال للرجل : هذا غل في عنقك للعمل الرديء معناه : أنه لازم لك وأنك مجازى عليه بالعذاب. قال القاضي : هذا وإن كان محتملاً إلا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى ، وأقول : يمكن نصرة قول الأصم بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال وذلك غير حاصل وأنتم تحملون اللفظ على أنه سيحصل هذا المعنى ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال إلا أن المراد بالأغلال ما ذكرناه ، فكل واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه فلم كان قولكم أولى من قولنا.
والقول الثاني : المراد أنه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة ، والدليل عليه قوله تعالى : {إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} (غافر : 71/ 72).
والصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} والمراد منه التهديد بالعذاب المخلد المؤبد ، واحتج أصحابنا رحمهم الله تعالى على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية فقالوا قوله : {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} يفيد أنهم هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم ، وذلك يدل على أن أهل / الكبائر لا يخلدون في النار.
المسألة الثانية : قال المتكلمون العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حق الله تعالى محال ، فكان المراد وإن تعجب فعجب عندك.
ولقائل أن يقول : قرأ بعضهم في الآية الأخرى بإضافة العجب إلى نفسه تعالى فحينئذ يجب تأويله وقد بينا أن أمثال هذه الألفاظ يجب تنزيهها عن مبادىء الأعراض ، ويجب حملها على نهايات الأعراض فإن الإنسان إذا تعجب من الشيء أنكره فكان هذا محمولاً على الإنكار.
(1/2578)

المسألة الثالثة : اختلف القراء في قوله : {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وأمثاله إذا كان على صورة الاستفهام في الأول والثاني فمنهم من يجمع بين الاستفهامين في الحرفين وهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ، ثم اختلف هؤلاء فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة إلا أنه لا يمد ، وأبو عمرو يستفهم بهمزة مطولة يمد فيها وحمزة وعاصم بهمزتين في كل القرآن ، ومنهم من لا يجمع بين الاستفهامين ، ثم اختلفوا فنافع وابن عامر والكسائي يستفهم في الأول ويقرأ على الخبر في الثاني وابن عامر على الخبر في الأول والاستفهام في الثاني ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فنافع بهمزة غير مطولة وابن عامر والكسائي بهمزتين أما نافع فكذلك إلا في الصافات وكذلك ابن عامر إلا في الواقعة ، وكذلك الكسائي إلا في العنكبوت والصافات.
جزء : 19 رقم الصفحة : 11
المسألة الرابعة : قال الزجاج : العامل في {أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا} محذوف تقديره : أئذا كنا تراباً نبعث ودل ما بعده على المحذوف.
جزء : 19 رقم الصفحة : 11
12
اعلم أنه صلى الله عليه وسلّم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر وهو الذي تقدم ذكره في الآية الأولى وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له : فجئنا بهذا العذاب وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن فيه ، وإظهار أن الذي يقوله كلام لا أصل له فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم يستعجلون الرسول / بالسيئة قبل الحسنة والمراد بالسيئة ههنا نزول العذاب عليهم كما قال الله تعالى عنهم في قوله : {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} (الأنفال : 32) وفي قوله : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90) إلى قوله : {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} (الإسراء : 92) وإنما قالوا ذلك طعناً منهم فيما ذكره الرسول ، وكان صلى الله عليه وسلّم يعدهم على الإيمان بالثواب في الآخرة وبحصول النصر والظفر في الدنيا فالقوم طلبوا منه نزول العذاب ولم يطلبوا منه حصول النصر والظفر فهذا هو المراد بقوله : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ومنهم من فسر الحسنة ههنا بالإمهال والتأخير وإنما سموا العذاب سيئة لأنه يسوءهم ويؤذيهم.
أما قوله : {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَـاتُ } فاعلم أن العرب يقولون : العقوبة مثلة ومثلة صدقة وصدقة ، فالأولى لغة الحجاز ، والثانية لغة تميم ، فمن قال مثلة فجمعه مثلات ، ومن قال مثلة فجمعه مثلات ومثلاث بإسكان التاء هكذا حكاه الفراء والزجاج ، وقال ابن الأنباري رحمه الله : المثلة العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً ، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة ، وهو من قولهم ، مثل فلان بفلان إذا قبح صورته إما بقطع أذنه أو أنفه أو سمل عينيه أو بقر بطنه فهذا هو الأصل ، ثم يقال للعار الباقي ، والخزي اللازم مثلة. قال الواحدي : وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب ومماثلاً له لا جرم سمي بهذا الاسم. قال صاحب "الكشاف" : قرىء (المثلات) بضمتين لاتباع الفاء العين ، (والمثلات) بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال : السمرة ، والمثلات ، بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات بضمتين ، والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات.
جزء : 19 رقم الصفحة : 12
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية : ويستعجلونك بالعذاب الذي لم نعاجلهم به ، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بها ، وكان ينبغي أن يردعهم خوف ذلك عن الكفر اعتباراً بحال من سلف.
أما قوله : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } فاعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ، ووجه الاستدلال به أن قوله تعالى : {لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } أي حال اشتغالهم بالظلم كما أنه يقال : رأيت الأمير على أكله أي حال اشتغاله بالأكل فهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أن حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً فدل هذا على أنه تعالى قد يغفر الذنب قبل الاشتغال بالتوبة. ثم نقول : ترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر ، فوجب أن يبقى معمولاً به في حق أهل الكبيرة وهو المطلوب ، أو نقول : إنه تعالى لم يقتصر على قوله : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } بل ذكر معه قوله / {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، وأن يحمل الثاني على أحوال الكفار.
(1/2579)

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصغائر لأجل أن عقوبتهم مكفرة ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد : إن ربك لذو مغفرة إذا تابوا وأنه تعالى إنما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ويكون من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه لأن القوم لما طلبوا تعجيل العقاب ، فالجواب المذكور فيه يجب أن يكون محمولاً على تأخير العقاب حتى ينطبق الجواب على السؤال ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد : وإن ربك لذو مغفرة أنه تعالى إنما لا يعجل العقوبة إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة ، وإن عظم ظلمهم ولم يتوبوا فهو شديد العقاب.
والجواب عن الأول أن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة ، وإلا لوجب أن يقال : الكفار كلهم مغفور لهم لأجل أن الله تعالى أخر عقابهم إلى الآخرة ، وعن الثاني : أنه تعالى تمدح بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل. أما بأداء الواجب فلا تمدح فيه وعندكم يجب غفران الصغائر وعن الثالث : أنا بينا أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة حال الظلم ، وبينا أن حال حصول الظلم يمنع حصول التوبة ، فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 12
14
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنشر أولاً ، ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً ، ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة ثالثاً ، وهو المذكور في هذه الآية.
واعلم أن السبب فيه أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات وقالوا : هذا كتاب مثل سائر الكتب وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزة ألبتة ، وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام.
واعلم أن من الناس من زعم أنه لم يظهر معجز في صدق محمد عليه الصلاة والسلام سوى القرآن. قالوا : / إن هذا الكلام ، إنما يصح إذا طعنوا في كون القرآن معجزاً ، مع أنه ما ظهر عليه نوع آخر من المعجزات ، لأن بتقدير أن يكون قد ظهر على يده نوع آخر من المعجزات لامتنع أن يقولوا : {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه } فهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان له معجز سوى القرآن.
واعلم أن الجواب عنه من وجهين : الأول : لعل المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوا منه صلى الله عليه وسلّم كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه الأمور : مثل فلق البحر بالعصا ، وقلب العصا ثعباناً.
فإن قيل : فما السبب في أن الله تعالى منعهم وما أعطاهم ؟
قلنا إنه لما أظهر المعجزة الواحدة فقد تم الغرض فيكون طلب الباقي تحكماً وظهور القرآن معجزة ، فما كان مع ذلك حاجة إلى سائر المعجزات ، وأيضاً فلعله تعالى علم أنهم يصرون على العناد بعد ظهور تلك المعجزات الملتمسة ، وكانوا يصيرون حينئذ مستوجبين لعذاب الاستئصال ، فلهذا السبب ما أعطاهم الله تعالى مطلوبهم ، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال : 23) بين أنه لم يعطهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنهم لا ينتفعون به ، وأيضاً ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له. وهو أنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر ، فطلب منه معجزة أخرى ، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم السلام ، وأنه باطل.
جزء : 19 رقم الصفحة : 14
الوجه الثاني : وفي الجواب لعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات. ثم إنه تعالى لما حكى عن الكفار ذلك قال : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌا وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اتفق القراء على التنوين في قوله : {هَادٍ} وحذف الياء في الوصل ، واختلفوا في الوقف ، فقرأ ابن كثير : بالوقف على الياء ، والباقون : بغير الياء ، وهو رواية ابن فليح عن ابن كثير للتخفيف.
(1/2580)

المسألة الثانية : في تفسير هذه الآية وجوه. الأول : المراد أن الرسول عليه السلام منذر لقومه مبين لهم ، ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع ، وأنه تعالى سوى بين الكل في إظهار المعجزة إلا أنه كان لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحق التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة ، فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السلام هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم ، ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السلام الطب ، جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ولما كان الغالب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلّم / الفصاحة والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان وهو فصاحة القرآن فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى فهذا هو الذي قرره القاضي وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظماً.
والوجه الثاني : وهو أن المعنى أنهم لا يجحدون كون القرآن معجزاً فلا يضيق قلبك بسببه إنما أنت منذر فما عليك إلا أن تنذر إلى أن يحصل الإيمان في صدورهم ولست بقادر عليهم ولكل قوم هاد ، قادر على هدايتهم بالتخليق وهو الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى ليس لك إلا الإنذار ، وأما الهداية فمن الله تعالى.
واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا ههنا أقوالاً : الأول : المنذر والهادي شيء واحد والتقدير : إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة ومعجزة كل واحد منهم غير معجزة الآخر. الثاني : المنذر محمد صلى الله عليه وسلّم والهادي هو الله تعالى روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك. والثالث : المنذر النبي. والهادي علي. قال ابن عباس رضي الله عنهما : وضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده على صدره فقال : "أنا المنذر" ثم أومأ إلى منكب علي رضي الله عنه وقال : "أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي".
جزء : 19 رقم الصفحة : 14
16
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في وجه النظم وجوه ، الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلّم بين أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد وطلب البيان أو لأجل التعنت والعناد ، وهل ينتفعون / بظهور تلك الآيات ، أو يزداد إصرارهم واستكبارهم ، فلو علم تعالى أنهم طلبوا ذلك لأجل الاسترشاد وطلب البيان ومزيد الفائدة ، لأظهره الله تعالى وما منعهم عنه ، لكنه تعالى لما علم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لأجل محض العناد لا جرم أنه تعالى منعهم عن ذلك وهو كقوله تعالى : {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه ا فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا } (يونس : 20) وقوله : {قُلْ إِنَّمَا الايَـاتُ عِندَ اللَّه } . (العنكبوت : 50) والثاني : أن وجه النظم أنه تعالى لما قال : {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} (الرعد : 5) في إنكار البعث وذلك لأنهم أنكروا البعث بسبب أن أجزاء أبدان الحيوانات عند تفرقها وتفتتها يختلط بعضها ببعض ولا يبقى الامتياز فبين تعالى أنه إنما لا يبقى الامتياز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات ، أما في حق من كان عالماً بجميع المعلومات ، فإنه يبقى تلك الأجزاء بحيث يمتاز بعضها عن البعض ، ثم احتج على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بأنه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام. الثالث : أن هذا متصل بقوله : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (الرعد : 6) والمعنى : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه فيه مصلحة والله أعلم.
المسألة الثانية : لفظ "ما" في قوله : {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الارْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } إما أن تكون موصولة وإما أن تكون مصدرية ، فإن كانت موصولة ، فالمعنى أنه يعلم ما تحمله من الولد أنه من أي الأقسام أهو ذكر أم أنثى وتام أو ناقص وحسن أو قبيح وطويل أو قصير وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة فيه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 16
(1/2581)

ثم قال : {وَمَا تَغِيضُ الارْحَامُ} والغيض هو النقصان سواء كان لازماً أو متعدياً يقال : غاض الماء وغضته أنا ومنه قوله تعالى : {وَغِيضَ الْمَآءُ} (هود : 44) والمراد من الآية وما تغيضه الأرحام إلا أنه حذف الضمير الراجع وقوله : {وَمَا تَزْدَادُ } أي تأخذه زيادة تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه قوله تعالى : {وَازْدَادُوا تِسْعًا} (الكهف : 25) ثم اختلفوا فيما تغيضه الرحم وتزداده على وجوه. الأول : عدد الولد فإن الرحم قد يشتمل على واحد واثنين وعلى ثلاثة وأربعة يروي أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه. الثاني : الولد قد يكون مخدجاً ، وقد يكون تاماً. الثالث : مدة ولادته قد تكون تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وإلى أربعة عند الشافعي وإلى خمس عند مالك ، وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً. الرابع : الدم فإنه تارة يقل وتارة يكثر. الخامس : ما ينقص بالسقط من غير أن يتم وما يزداد بالتمام. السادس : ما ينقص بظهور دم الحيض/ وذلك لأنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص. وبمقدار حصول ذلك النقصان يزداد أيام الحمل لتصير هذه الزيادة / جابرة لذلك النقصان قال ابن عباس رضي الله عنهما : كلما سال الحيض في وقت الحمل يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل به الجبر ويعتدل الأمر. السابع : أن دم الحيض فضلة تجتمع في بطن المرأة فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات فاضت وخرجت ، وسالت من دواخل تلك العروق ، ثم إذا سالت تلك المواد امتلأت تلك العروق مرة أخرى هذا كله إذا قلنا إن كلمة "ما" موصولة. أما إذا قلنا : إنها مصدرية فالمعنى : أنه تعالى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله.
وأما قوله تعالى : {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ} فمعناه : بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كقوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) وقوله في أول الفرقان : {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيرًا} (الفرقان : 2).
واعلم أن قوله : {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ} يحتمل أن يكون المراد من العندية العلم ومعناه : أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ويحتمل أن يكون المراد من العندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية ، وعند حكماء الإسلام أنه تعالى وضع أشياء كلية وأودع فيها قوى وخواص ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات مخصوصة مقدرة ، ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم ، وهو من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 16
ثم قال تعالى : {عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد علم ما غاب عن خلقه وما شهدوه. قال الواحدي : فعلى هذا (الغيب) مصدر يريد به الغائب ، (والشهادة) أراد بها الشاهد. واختلفوا في المراد بالغائب والشاهد. قال بعضهم : الغائب هو المعلوم ، والشاهد هو الموجود ، وقال آخرون : الغائب ما غاب عن الحس ، والشاهد ما حضر ، وقال آخرون : الغائب ما لا يعرفه الخلق ، والشاهد ما يعرفه الخلق. ونقول : المعلومات قسمان : المعلومات والموجودات ، والمعدومات منها معدومات يمتنع وجودها ومنها معدومات لا يمتنع وجودها ، والموجودات أيضاً قسمان : موجودات يمتنع عدمها ، وموجودات لا يمتنع عدمها ، وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة له أحكام وخواص ، والكل معلوم لله تعالى ، وحكى الشيخ الإمام الوالد عن أبي القاسم الأنصاري عن إمام الحرمين رحمهم الله تعالى أنه كان يقول لله تعالى معلومات لا نهاية لها ، وله في كل واحد من تلك المعلومات ، معلومات أخرى لا نهاية لها ، لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل وموصوفاً بصفات لا نهاية لها على البدل ، وهو تعالى عالم بكل الأحوال على التفصيل ، وكل هذه الأقسام داخل تحت قوله تعالى : {عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} .
(1/2582)

/ ثم إنه تعالى ذكر عقيبه قوله : {الْكَبِيرُ} وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثة والحجم والمقدار ، فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة والمقادير الإلهية ثم وصف تعالى نفسه بأنه المتعال وهو المتنزه عن كل ما لا يجوز عليه وذلك يدل على كونه منزهاً في ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الآية دالة على كونه تعالى موصوفاً بالعلم الكامل والقدرة التامة ، ومنزهاً عن كل ما لا ينبغي ، وذلك يدل على كونه تعالى قادراً على البعث الذي أنكروه وعلى الآيات التي اقترحوها وعلى العذاب الذي استعجلوه ، وأنه إنما يؤخر ذلك بحسب المشيئة الإلهية عند قوم وبحسب المصلحة عند آخرين/ وقرأ ابن كثير (المتعالي) بإثبات الياء في الوقف والوصل على الأصل. والباقون بحذف الياء في الحالتين للتخفيف ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال : {سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِه وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفا بِالَّيْلِ وَسَارِبُا بِالنَّهَارِ} وفيه مسائل :
جزء : 19 رقم الصفحة : 16
المسألة الأولى : لفظ (سواء) يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو ثم فيه وجهان. الأول : أن سواء مصدر والمعنى : ذو سواء كما تقول : عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. الثاني : أن يكون سواء بمعنى مستو وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى الإضمار إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين إذا كانت نكرات لا يبدأ بها.
ولقائل أن يقول : بل هذا الوجه أولى لأن حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
المسألة الثانية : في المستخفي والسارب قولان :
القول الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي واستخفى فلان من فلان أي توارى واستتر. وقوله : {وَسَارِبُا بِالنَّهَارِ} قال الفراء والزجاج : ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه. يقال : خلا له سربه ، أي طريقه. وقال الأزهري : تقول العرب سربت الإبل تسرب سرباً ، أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت ، فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفياً في الظلمات أو كان ظاهراً في الطرقات ، فعلم الله تعالى محيط بالكل. قال ابن عباس رضي الله عنهما : سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة. وقال مجاهد : سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي.
والقول الثاني : نقله الواحدي عن الأخفش وقطرب أنه قال : المستخفي الظاهر والسارب المتواري ومنه يقال : خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته. واختفيت الشيء استخرجته ويسمى النباش المستخفي والسارب المتواري ومنه يقال : للداخل سرباً ، والسرب الوحش إذا / دخل في السرب أي في كناسة. قال الواحدي : وهذا الوجه صحيح في اللغة ، إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لاطباق أكثر المفسرين عليه ، وأيضاً فالليل يدل على الاستتار ، والنهار على الظهور والانتشار.
جزء : 19 رقم الصفحة : 16
20
اعلم أن الضمير من "له" إلى "من" في قوله : {سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِه } (الرعد : 10) وقيل على اسم الله في عالم الغيب والشهادة ، والمعنى : لله معقبات ، وأما المعقبات فيجوز أن يكون أصل هذه الكلمة معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله : {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاعْرَابِ} (التوبة : 90) والمراد المعتذرون ويجوز أن يكون من عقبه إذا جاء على عقبه فاسم المعقب من كل شيء ما خلف يعقب ما قبله ، والمعنى في كلا الوجهين واحد.
(1/2583)

إذا عرفت هذا فنقول : في المراد بالمعقبات قولان. الأول : وهو المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد منه الملائكة الحفظة وإنما صح وصفهم بالمعقبات ، إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس ، وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب ، وكل من عمل عملاً ثم عاد إليه فقد عقب ، فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل وملائكة النهار. روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال عليه السلام : "ملك عن يمينك يكتب الحسنات وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين أكتب ؟
فيقول لا لعله يتوب فإذا قال ثلاثاً قال نعم أكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله تعالى واستحياءه منا ، وملكان من بين يديك ومن خلفك فهو قوله تعالى : {لَه مُعَقِّبَـاتٌ مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه } وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك وإن تجبرت قصمك ، وملكان على شفتك يحفظان عليك الصلاة علي ، وملك علي فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك ، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تبدل ملائكة / الليل بملائكة النهار فهم عشرون ملكاً على كل آدمي". وعن صلى الله عليه وسلّم : "يتعاقب فيكم ملاكئة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر". وهو المراد من قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} (الإسراء : 78) قيل : تصعد ملائكة الليل وهي عشرة وتنزل ملائكة النهار ، وقال ابن جريج : هو مثل قوله تعالى : {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (ق : 17) صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات. وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. وفي الآية سؤالات :
جزء : 19 رقم الصفحة : 20
السؤال الأول : الملائكة ذكور ، فلم ذكر في جمعها جمع الإناث وهو المعقبات ؟
والجواب : فيه قولان. الأول : قال الفراء : المعقبات ذكران جمع ملائكة معقبة ، ثم جمعت معقبة بمعقبات ، كما قيل : ابناوات سعد ورجالات بكر جمع رجال ، والذي يدل على التذكير قوله : {يَحْفَظُونَه } . والثاني : وهو قول الأخفش : إنما أنثت لكثرة ذلك منها ، نحو : نسابة ، وعلامة ، وهو ذكر.
السؤال الثاني : ما المراد من كون أولئك المعقبات من بين يديه ومن خلفه ؟
والجواب : أن المستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء المعقبات فيعدون عليه أعماله وأقواله بتمامها ، ولا يشذ من تلك الأعمال والأقوال من حفظهم شيء أصلاً ، وقال بعضهم : بل المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه/ لأن السارب بالنهار إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من بين يديه ومن خلفه.
السؤال الثالث : ما المراد من قوله : {مِنْ أَمْرِ اللَّه } .
والجواب : ذكر الفراء فيه قولين :
القول الأول : أنه على التقديم والتأخير والتقدير : له معقبات من أمر الله يحفظونه.
القول الثاني : أن فيه إضماراً أي ذلك الحفظ من أمر الله أي مما أمر الله به فحذف الاسم وأبقى خبره كما يكتب على الكيس ، ألفان والمراد الذي فيه ألفان.
والقول الثالث : ذكره ابن الأنباري أن كلمة "من" معناها الباء والتقدير : يحفظونه بأمر الله وباعانته ، والدليل على أنه لا بد من المصير إليه أنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ومما قضاه عليه.
السؤال الرابع : ما الفائدة في جعل هؤلاء الملائكة موكلين علينا ؟
جزء : 19 رقم الصفحة : 20
(1/2584)

والجواب : أن هذا الكلام غير مستبعد ، وذلك لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا / القول في كل ليلة ، ولا شك أن تلك الكواكب لها أرواح عندهم ، فتلك التدبيرات المختلفة في الحقيقة لتلك الأرواح ، وكذا القول في تدبير القمر والهيلاج والكدخدا على ما يقوله المنجمون. وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور في ألسنتهم ولذلك تراهم يقولون : أخبرني الطباعي التام. ومرادهم بالطباعي التام أن لكل إنسان روحاً فلكية يتولى إصلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته ، وإذا كان هذا متفقاً عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه من الشرع ؟
وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة ، وبعضها شريرة ، وبعضها معزة ، وبعضها مذلة ، وبعضها قوية القهر والسلطان ، وبعضها ضعيفة سخيفة. وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك ، فكذا القول في الأرواح الفلكية ، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وكل صفة أقوى من الأرواح البشرية وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة ، لما أنها تكون في تربية روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية ، وتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي. ومتى كان الأمر كذلك كان ذلك الروح الفلكي معيناً لها على مهماتها ومرشداً لها إلى مصالحها وعاصماً لها عن صنوف الآفات ، فهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن الذي وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل ، فكيف يمكن استنكاره من الشريعة ؟
ثم في اختصاص هؤلاء الملائكة وتسلطهم على بني آدم فوائد كثيرة سوى التي مر ذكرها من قبل. الأول : أن الشياطين يدعون إلى الشرور والمعاصي ، وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات. والثاني : قال مجاهد : ما من عبد إلا ومعه ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. الثالث : أنا نرى أن الإنسان قد يقع في قلبه داع قوي من غير سبب ثم يظهر بالآخرة أن وقوع تلك الداعية في قلبه كان سبباً من أسباب مصالحه وخيراته ، وقد ينكشف أيضاً بالآخرة أنه كان سبباً لوقوعه في آفة أو في معصية ، فيظهر أن الداعي إلى الأمر الأول كان مريداً للخير والراحة وإلى الأمر الثاني كان مريداً للفساد والمحنة ، والأول هو الملك الهادي والثاني هو الشيطان المغوي. الرابع : أن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب ، لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها كما يزجره عنها إذا حضره من يعطيه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 20
السؤال الخامس : ما الفائدة في كتبة أعمال العباد ؟
قلنا ههنا مقامات :
المقام الأول : أن تفسير الكتبة بالمعنى المشهور من الكتبة. قال المتكلمون : الفائدة في تلك الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى ، فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة ، وإن كان بالضد فبالضد. قال القاضي : هذا بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء فلا يتوقف حصول تلك المعرفة على الميزان ، ثم أجاب القاضي عن هذا الكلام وقال : لا يمتنع أيضاً ما روينا لأمر يرجع إلى حصول سروره عند الخلق العظيم أنه من أولياء الله في الجنة وبالضد من ذلك في أعداء الله.
والمقام الثاني : وهو قول حكماء الإسلام أن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني لأعيانها وذواتها كانت تلك الكتبة أقوى وأكمل.
إذا ثبت هذا فنقول : إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات وكرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب تكررها ملكة قوية راسخة ، فإن كانت تلك الملكة ملكة سارة بالأعمال النافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بها بعد الموت ؛ وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد الموت.
إذا ثبت هذا فنقول : إن التكرير الكثير لما كان سبباً لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من الأعمال المتكررة أثر في حصول تلك الملكة الراسخة ، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة. وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون ، إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة ، أو آثار الشقاوة قل أو كثر ، فهذا هو المراد من كتبة الأعمال عند هؤلاء والله أعلم بحقائق الأمور وهذا كله إذا فسرنا قوله تعالى : {لَه مُعَقِّبَـاتٌ مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه } بالملائكة.
(1/2585)

القول الثاني : وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما ، واختاره أبو مسلم الأصفهاني المراد : أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل ، والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين والأنصار وهم الملوك والأمراء ، فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره ، ومن سار نهاراً بالمعقبات وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه أحراسه من الله تعالى ، والمعقب العون ، لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا ، فتصير بصيرة كل / واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخرة ، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره ، وهم إن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتة ، والمقصود من هذا الكلام بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ، ولذلك قال تعالى بعده : {وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُواءًا فَلا مَرَدَّ لَه ا وَمَا لَهُم مِّن دُونِه مِن وَالٍ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 20
أما قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد. قال القاضي : والظاهر لا يحتمل إلا هذا المعنى لأنه لا شيء مما يفعله تعالى سوى العقاب لا وقد يبتدىء به في الدنيا من دون تغيير يصدر من العبد فيما تقدم لأنه تعالى ابتدأ بالنعم دينا ودنياً ويفضل في ذلك من شاء على من يشاء ، فالمراد مما ذكره الله تعالى التغيير بالهلاك والعقاب ، ثم اختلفوا فبعضهم قال هذا الكلام راجع إلى قوله : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (الرعد : 6) فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعصية ، حتى قالوا : إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في عقبه من يؤمن فإنه تعالى لا ينزل عليهم عذاب الاستئصال وقال بعضهم : بل الكلام يجري على إطلاقه ، والمراد منه أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقتهم في إظهار عبودية الله تعالى فإن الله يزيل عنهم النعم وينزل عليهم أنواعاً من العذاب ، وقال بعضهم : إن المؤمن الذي يكون مختلطاً بأولئك الأقوام فربما دخل في ذلك العذاب. روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب" واحتج أبو علي الجبائي والقاضي بهذه الآية في مسألتين :
المسألة الأولى : أنه تعالى لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ، لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله حالهم من النعمة إلى العذاب.
المسألة الثانية : قالوا : الآية تدل على بطلان قول المجبرة إنه تعالى يبتدىء العبد بالضلال والخذلان أول ما يبلغ وذلك أعظم من العقاب ، مع أنه ما كان منه تغيير.
والجواب : أن ظاهر هذه الآية يدل على أن فعل الله في التغيير مؤخر عن فعل العبد ، إلا أن قوله تعالى : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الإنسان : 30) يدل على أن فعل العبد مؤخر عن فعل الله تعالى ، فوقع التعارض.
/ وأما قوله : {وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُواءًا فَلا مَرَدَّ لَه } فقد احتج أصحابنا به على أن العبد غير مستقل في الفعل. قالوا : وذلك لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى يحكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان لكان قادراً على رد ما أراده الله تعالى ، وحينئذ يبطل قوله : {وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُواءًا فَلا مَرَدَّ لَه } فثبت أن الآية السابقة وإن أشعرت بمذهبهم ، إلا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا. قال الضحاك عن ابن عباس : لم تغن المعقبات شيئاً ، وقال عطاء عنه : لا راد لعذابي ولا ناقض لحكمي : {وَمَا لَهُم مِّن دُونِه مِن وَالٍ} أي ليس لهم من دون الله من يتولاهم ، ويمنع قضاء الله عنهم ، والمعنى : ما لهم والٍ يلي أمرهم ، ويمنع العذاب عنهم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 20
24
اعلم أنه تعالى لما خوف العباد بإنزال ما لا مرد له أتبعه بذكر هذه الآيات وهي مشتملة على أمور ثلاثة ، وذلك لأنها دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته ، وأنها تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه ، وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه.
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أموراً أربعة. الأول : البرق وهو قوله تعالى : {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} وفيه مسائل :
(1/2586)

المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" في انتصاب قوله : {خَوْفًا وَطَمَعًا} وجوه. الأول : لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعاً. الثاني : يجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير : ذا خوف وذا طمع أو على معنى إيخافاً وإطماعاً. الثالث : أن يكونا حالاً من المخاطبين أي خائفين وطامعين.
المسألة الثانية : في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه. الأول : أن عند لمعان البرق يخاف وقوع الصواعق ويطمع في نزول الغيث قال المتنبي :
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الثاني : أنه يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر وكمن في جرابه التمر والزبيب ويطمع فيه من له فيه نفع. الثالث : أن كل شيء يحصل في الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم ، وشر بالنسبة إلى آخرين ، فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه ، وشر في حق من يضره ذلك ، إما بحسب المكان أو بحسب الزمان.
المسألة الثالثة : اعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى وبيانه أن السحاب لا شك أنه جسم مركب في أجزاء رطبة مائية ، ومن أجزاء هوائية ونارية ولا شك أن الغالب عليه الأجزاء المائية والماء جسم بارد رطب ، والنار جسم يابس وظهور الضد من الضد التام على خلاف العقل فلا بد من صانع مختار يظهر الضد من الضد.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الريح احتقن في داخل جرم السحاب واستولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه ، ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقاً عنيفاً فيتولد من ذلك التمزيق الشديد حركة عنيفة ، والحركة العنيفة موجبة للسخونة وهي البرق ؟
جزء : 19 رقم الصفحة : 24
والجواب : أن كل ما ذكرتموه على خلاف المعقول وبيانه من وجوه. الأول : أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال : أينما يحصل البرق فلا بد وأن يحصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزق السحاب ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فإنه كثيراً ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد. الثاني : أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة للطبيعة المائية الموجبة للبرد ، وعند حصول هذا العارض القوي كيف تحدث النارية ؟
بل نقول : النيران العظيمة تنطفىء بصب الماء عليها ، والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية ؟
الثالث : من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة ، فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة بأجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر ؟
فثبت أن السبب الذي ذكروه ضعيف وأن حدوث النار الحاصلة في جرم السحاب مع كونه ماء خالصاً لا يمكن إلا بقدرة القادر الحكيم.
النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {وَيُنشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} قال صاحب "الكشاف" : السحاب اسم جنس والواحدة سحابة والثقال جمع ثقيلة لأنك تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما تقول امرأة كريمة ونساء كرام وهي الثقال بالماء.
/ واعلم أن هذا أيضاً من دلائل القدرة والحكمة ، وذلك لأن هذه الأجزاء المائية إما أن يقال إنها حدثت في جو الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض ، فإن كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر وهو المطلوب ، وإن كان الثاني ، وهو أن يقال إن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض فنقول هذا باطل ، وذلك لأن الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة ، وأخرى تكون متباعدة وتارة تدوم مدة نزول المطر زماناً طويلاً وتارة قليلاً فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة الأرض واحدة ، وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وأيضاً فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً ولذلك كانت صلاة الاستسقاء مشروعة ، فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل لا الطبيعة والخاصية.
النوع الثالث : من الدلائل المذكورة في هذه الآية الرعد وهو قوله : {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِه وَالْمَلَـا اـاِكَةُ مِنْ خِيفَتِه } وفيه أقوال :
جزء : 19 رقم الصفحة : 24
(1/2587)

القول الأول : إن الرعد اسم ملك من الملائكة وهذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح والتهليل عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلّم عن الرعد ما هو ؟
فقال : "ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله". قالوا : فما الصوت الذي نسمع ؟
قال : "زجره السحاب" وعن الحسن أنه خلق من خلق الله ليس بملك فعلى هذا القول الرعد هو الملك الموكل بالسحاب وصوته تسبيح لله تعالى وذلك الصوت أيضاً يسمى بالرعد ويؤكد هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان إذا سمع الرعد قال : سبحان الذي سبحت له. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن الله ينشىء السحاب الثقال فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق".
واعلم أن هذا القول غير مستبعد وذلك لأن عند أهل السنة البنية ليست شرطاً لحصول الحياة فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له وكيف يستبعد ذلك ونحن نرى أن السمندل يتولد في النار ، والضفادع تتولد في الماء البارد ، والدودة العظيمة ربما تتولد في الثلوج القديمة ، وأيضاً فإذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السلام ، ولا تسبيح الحصى في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم "فكيف يستبعد تسبيح السحاب" وعلى هذا لقول فهذا الشيء المسمى بالرعد ملك أو ليس / بملك فيه قولان : أحدهما : أنه ليس بملك لأنه عطف عليه الملائكة ، فقال : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ مِنْ خِيفَتِه } والمعطوف عليه مغاير للمعطوف. والثاني : وهو أنه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة وإنما إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ} (البقرة : 98) وفي قوله : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} (الأحزاب : 70).
القول الثاني : أن الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص ، ومع ذلك فإن الرعد يسبح الله سبحانه ، لأن التسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى ، فلما كان حدوث هذا الصوت دليلاً على وجود موجود متعال عن النقص والإمكان/ كان ذلك في الحقيقة تسبيحاً ، وهو معنى قوله تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه } (الإسراء : 44).
جزء : 19 رقم الصفحة : 24
القول الثالث : أن المراد من كون الرعد مسبحاً أن من يسمع الرعد فإنه يسبح الله تعالى ، فلهذا المعنى أضيف هذا التسبيح إليه.
القول الرابع : من كلمات الصوفية الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم.
فإن قيل : وما حقيقة الرعد ؟
قلنا : استقصينا القول في سورة "البقرة" في قوله : {فِيهِ ظُلُمَـاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} (البقرة : 19).
أما قوله : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ مِنْ خِيفَتِه } فاعلم أن من المفسرين من يقول : عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد ، فإنه سبحانه جعل له أعواناً ، ومعنى قوله : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ مِنْ خِيفَتِه } أي وتسبح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم ، فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره ، ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء.
واعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية ، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ، وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية ، وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون عن الحكماء ، فكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟
النوع الرابع : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله : {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} واعلم أنا قد ذكرنا معنى الصواعق في سورة البقرة. قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر / بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلّم يخاصمانه ويجادلانه ، ويريدان الفتك به ، فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد ، ثم إنه لما رجع أربد أرسل عليه صاعقة فأحرقته ، ورمى عامراً بغدة كغدة البعير ، ومات في بيت سلولية.
واعلم أن أمر الصاعقة عجيب جداً وذلك لأنها تارة تتولد من السحاب ، وإذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان في لجة البحر ، والحكماء بالغوا في وصف قوتها ، ووجه الاستدلال أن النار حارة يابسة وطبيعتها ضد طبيعة السحاب ، فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة واليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا على العادة ، لكنه ليس الأمر كذلك ، فإنها أقوى نيران هذا العالم ، فثبت أن اختصاصها بمزيد تلك القوة لا بد وأن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار.
جزء : 19 رقم الصفحة : 24
(1/2588)

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل الأربعة قال : {وَهُمْ يُجَـادِلُونَ فِى اللَّهِ} والمراد أنه تعالى بين دلائل كمال علمه في قوله : {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى } (الرعد : 8) وبين دلائل كمال القدرة في هذه الآيات.
ثم قال : {وَهُمْ يُجَـادِلُونَ فِى اللَّهِ} يعني هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله وهو يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون المراد الرد على الكافر الذي قال : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس أم من حديد. وثانيها : أن يكون المراد الرد على جدالهم في إنكار البعث وإبطال الحشر والنشر. وثالثها : أن يكون المراد الرد عليهم في طلب سائر المعجزات. ورابعها : أن يكون المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال. وفي هذه الواو قولان : الأول : أنه للحال ، والمعنى : فيصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله ، وذلك أن أربد لما جادل في الله أحرقته الصاعقة. والثاني : أنها واو الاستئناف كأنه تعالى لما تمم ذكر هذه الدلائل قال بعد ذلك : {وَهُمْ يُجَـادِلُونَ فِى اللَّهِ} .
ثم قال تعالى : {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} وفي لفظ المحال أقوال : قال ابن قتيبة : الميم زائدة وهو من الحول ، ونحوه ميم مكان ، وقال الأزهري : هذا غلط ، فإن الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية ، نحو مهاد ومداس ومداد ، واختلفوا مم أخذ على وجوه : الأول : قيل من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك ، وتمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، فكان المعنى : أنه سبحانه شديد المكر لأعدائه يهلكهم بطريق لا يتوقعونه. الثاني : أن المحال عبارة عن الشدة ، ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وما حلت فلاناً محالاً. أي قاومته أينا أشد ، قال أبو مسلم : ومحال فعال من المحل وهو الشدة ولفظ فعال يقع على المجازاة / والمقابلة ، فكأن المعنى : أنه تعالى شديد المغالبة ، وللمفسرين ههنا عبارات فقال مجاهد وقتادة : شديد القوة ، وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة ، وقال الحسن : شديد النقمة ، وقال ابن عباس : شديد الحول. الثالث : قال ابن عرفة : يقال ماحل عن أمره أي جادل ، فقوله : {شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي شديد الجدال. الرابع : روي عن بعضهم : {شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي شديد الحقد. قالوا : هذا لا يصح ، لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى ، إلا أنا قد ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه الألفاظ إذا وردت في حق الله تعالى فإنها تحصل على نهايات الأعراض لا على مبادىء الأعراض ، فالمراد بالحقد ههنا هو أنه تعالى يريد إيصال الشر إليه مع أنه يخفي عنه تلك الإرادة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 24
25
اعلم أن قوله : {لَه دَعْوَةُ الْحَقِّ } أي لله دعوة الحق ، وفيه بحثان :
البحث الأول : في أقوال المفسرين وهي أمور : أحدها : ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : {دَعْوَةُ الْحَقِّ } قول لا إله إلا الله. وثانيها : قول الحسن : إن الله هو الحق ، فدعاؤه هو الحق ، كأنه يومىء إلى أن الانقطاع إليه في الدعاء هو الحق. وثالثها : أن عبادته هي الحق والصدق.
واعلم أن الحق هو الموجود ، والموجود قسمان : قسم يقبل العدم وهو حق يمكن أن يصير باطلاً وقسم لا يقبل العدم فلا يمكن أن يصير باطلاً وذلك هو الحق الحقيقي ، وإذا كان واجب الوجود لذاته موجوداً لا يقبل العدم كان أحق الموجودات بأن يكون حقاً هو هو وكان أحق الاعتقادات وأحق الأذكار بأن يكون حقاً هو اعتقاد ثبوته وذكر وجوده ، فثبت بهذا أن وجوده هو الحق في الموجودات واعتقاد وجوده هو الحق في الاعتقادات. وذكره بالثناء والإلهية والكمال هو الحق في الأذكار فلهذا قال : {لَه دَعْوَةُ الْحَقِّ } .
/ البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" {دَعْوَةُ الْحَقِّ } فيه وجهان : أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف إليه الكلمة في قوله : {كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} والمقصود منه الدلالة على كون هذه الدعوة مختصة بكونها حقة وكونها خالية عن أمارات كونه باطلاً ، وهذا من باب إضافة الشيء إلى صفته. والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله سبحانه على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ، وعن الحسن : الحق هو الله وكل دعاء إليه فهو دعوة الحق.
(1/2589)

ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه } يعني الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله : {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ} مما يطلبونه إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، فكذلك ما يدعونه جماد ، لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم وقيل شبهوا في قلة فائد دعائهم لآلهتهم ، بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطها ناشراً أصابعه ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ مطلوبه من شربه ، وقرىء {تَدْعُونَ} بالتاء {كَبَـاسِطِ كَفَّيْهِ} بالتنوين ، ثم قال : {وَمَا دُعَآءُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} أي إلا في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 25
26
اعلم أن في المراد بهذا السجود قولين :
القول الأول : أن المراد منه السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض ، وعلى هذا الوجه ففيه وجهان : أحدهما : أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص وهم المؤمنون ، فبعض المؤمنين يسجدون لله طوعاً بسهولة ونشاط ، ومن المسلمين من يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه مع أنه يحمل نفسه على أداء تلك الطاعة شاء أم أبى. والثاني : أن اللفظ عام والمراد منه أيضاً العام وعلى هذا ففي الآية إشكال ، لأنه ليس كل من في السموات والأرض يسجد لله بل الملائكة يسجدون لله ، والمؤمنون من الجن والإنس يسجدون لله تعالى ، وأما الكافرون فلا يسجدون.
الجواب عنه من وجهين : الأول : أن المراد من قوله : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} / أي ويجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول. والثاني : وهو أن المراد من السجود التعظيم والاعتراف بالعبودية ، وكل من في السموات ومن في الأرض يعترفون بعبودية الله تعالى على ما قال : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25).
وأما القول الثاني في تفسير الآية فهو أن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى ، لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل وتحقيق القول فيه أن ما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته هو الذي تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود على السوية وكل من كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه أو بالعكس ، إلا بتأثير موجود ومؤثر فيكون وجود كل ما سوى الحق سبحانه بإيجاده وعدم كل ما سواه بإعدامه ، فتأثيره نافذ في جميع الممكنات في طرفي الإيجاد والإعدام ، وذلك هو السجود وهو التواضع والخضوع والانقياد ، ونظير هذه الآية : {بَل لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا كُلٌّ لَّه قَـانِتُونَ} وقوله : {وَلَه ا أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 83).
وأما قوله تعالى : {طَوْعًا وَكَرْهًا} فالمراد : أن بعض الحوادث مما يميل الطبع إلى حصوله كالحياة والغنى ، وبعضها مما ينفر الطبع عنه كالموت والفقر والعمى والحزن والزمانة وجميع أصناف المكروهات ، والكل حاصل بقضائه وقدره وتكوينه وإيجاده ، ولا قدرة لأحد على الامتناع والمدافعة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 26
ثم قال تعالى : {وَظِلَـالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ } وفيه قولان :
القول الأول : قال المفسرون ، كل شخص سواء كان مؤمناً أو كافراً فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع ، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره ، وقال الزجاج : جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله ، وعند هذا قال ابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها وتخشع كما جعل الله للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله تعالى وحتى ظهر أثر التجلي فيها كما قال : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا} (الأعراف : 143).
والقول الثاني : وهو أن المراد من سجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ، فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر ، لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.
جزء : 19 رقم الصفحة : 26
28
(1/2590)

اعلم أنه تعالى لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له بمعنى كونه خاضعاً له ، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال : {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ قُلِ اللَّه } ولما كان هذا الجواب جواباً يقر به المسؤول ويعترف به ولا ينكره أمره صلى الله عليه وسلّم أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتة ولما بين أنه سبحانه هو الرب لكل الكائنات قال : قل لهم فلم اتخذتهم من دون الله أولياء وهي جمادات وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها ودفع المضرة عن أنفسها ، فبأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة لغيرها ودفع المضرة عن غيرها كان ذلك أولى ، فإذا لم تكن قادرة على ذلك كانت عبادتها محض العبث والسفه ، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى والعالم بها كالبصير ، والجهل بمثل هذه الحجة كالظلمات ، والعلم بها كالنور ، وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير ، والظلمة لا تساوي النور كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعمرو عن عاصم {تَسْتَوِى الظُّلُمَـاتُ وَالنُّورُ } بالياء ، لأنها مقدمة على اسم الجمع والباقون بالتاء ، واختاره أبو عبيدة ثم أكد هذا البيان فقال : {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُوا كَخَلْقِه فَتَشَـابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } يعني هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا إنها تشارك الله في الخالقية ، فوجب أن تشاركه في الإلهية ، بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة ، ولا خلق / ولا أثر ، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهية محض السفه والجهل. وفي الآية مسائل :
جزء : 19 رقم الصفحة : 28
المسألة الأولى : اعلم أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجوه. الأول : أن المعتزلة زعموا أن الحيوانات تخلق حركات وسكنات مثل الحركات والسكنات التي يخلقها الله تعالى ، وعلى هذا التقدير فقد جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذم والإنكار. فدلت هذه الآية على أن العبد لا يخلق فعل نفسه. قال القاضي : نحن وإن قلنا : إن العبد يفعل ويحدث ، إلا أنا لا نطلق القول بأنه يخلق ولو أطلقناه لم نقل إنه يخلق كخلق الله ، لأن أحدنا يفعل بقدرة الله ، وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة ، والله تعالى منزه عن ذلك كله ، فثبت أن بتقدير كون العبد خالقاً ، إلا أنه لا يكون خلقه كخلق الله تعالى ، وأيضاً فهذا الإلزام لازم للمجبرة ، لأنهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسب العبد وفعل له ، وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه حق. وأيضاً فهو تعالى إنما ذكر هذا الكلام عيباً للكفار وذماً لطريقتهم ، ولو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما بقي لهذا الذم فائدة ، لأن للكفار أن يقولوا على هذا التقدير إن الله سبحانه وتعالى لما خلق هذا الكفر فينا فلم يذمنا عليه ولا ينسبنا إلى الجهل والتقصير مع أنه قد حصل فينا لا بفعلنا ولا باختيارنا.
والجواب عن السؤال الأول : أن لفظ الخلق إما أن يكون عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، أو يكون عبارة عن التقدير ، وعلى الوجهين فبتقدير أن يكون العبد محدثاً فإنه لا بد وأن يكون حادثاً. أما قوله : والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه ليس خلقه كخلق الله.
قلنا : الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ، ومعلوم أن الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى ، كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني ، وحينئذ يصح أن يقال : إن هذا الذي هو مخلوق العبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى بل لا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات ، إلا أن حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في حصول المماثلة من هذا الوجه وهذا القدر يكفي في الاستدلال. وأما قوله هذا لازم على المجبرة حيث قالوا : إن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فنقول هذا غير لازم ، لأن هذه الآية دالة على أنه لا يجوز أن يكون خلق العبد مثلاً لخلق الله تعالى ، ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتة ، فكيف يلزمنا ذلك ؟
وأما قوله : لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى ، لما حسن ذم الكفار على هذا المذهب.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 28
قلنا : حاصله يرجع إلى أنه لما حصل المدح والذم وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل ، وهو منقوض ، لأنه تعالى ذم أبا لهب على كفره مع أنه عالم منه أنه يموت على الكفر ، وقد ذكرنا أن خلاف المعلوم محال الوقوع ، فهذا تقرير هذا الوجه في هذه الآية.
(1/2591)

وأما الوجه الثاني : في التمسك بهذه الآية قوله : {قُلِ اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} ولا شك أن فعل العبد شيء فوجب أن يكون خالقه هو الله وسؤالهم عليه ما تقدم.
والوجه الثالث : في التمسك بهذه الآية وقوله : {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّـارُ} وليس يقال فيه أنه تعالى واحد في أي المعاني ، ولما كان المذكور السابق هو الخالقية وجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية ، القهار لكل ما سواه ، وحينئذ يكون دليلاً أيضاً على صحة قولنا.
المسألة الثانية : زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء. اعلم أن هذا النزاع ليس إلا في اللفظ وهو أن هذا الاسم هل يقع عليه أم لا ، وزعم أنه لا يقع هذا الاسم على الله تعالى واحتج عليه بأنه لو كان شيئاً لوجب كونه خالقاً لنفسه ، لقوله تعالى : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} ولما كان ذلك محالاً ، وجب أن لا يقع عليه اسم الشيء ، ولا يقال : هذا عام دخله التخصيص ، لأن العام المخصوص إنما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي وأخس منه كما إذا قال : أكلت هذ الرمانة مع أنه سقطت منها حبات ما أكلها ، وههنا ذات الله تعالى أعلى الموجودات وأشرفها ، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقه ؟
والحجة الثانية : تمسك بقوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) والمعنى : ليس مثل مثله شيء ، ومعلوم أن كل حقيقة فإنها مثل مثل نفسها ، فالباري تعالى مثل مثل نفسه ، مع أنه تعالى نبه على أن مثل مثله ليس بشيء ، فهذا تنصيص على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيء.
والحجة الثالثة : قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 180) دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ، ولفظ الشيء يتناول أخس الموجودات ، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن ، فوجب أن لا يكون هذا اللفظ من الأسماء الحسنى ، فوجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا اللفظ ، والأصحاب تمسكوا في إطلاق هذا الاسم عليه تعالى بقوله : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } (الأنعام : 19).
جزء : 19 رقم الصفحة : 28
وأجاب الخصم عنه : بأن قوله : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةً } سؤال متروك الجواب ، وقوله : {قُلِ اللَّه شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } كلام مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله.
المسألة الثالثة : تمسك المعتزلة بهذه الآية في أنه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة. / قالوا : لأنه لو حصل لله تعالى علم وقدرة وحياة ، لكانت هذه الصفات إما أن تحصل بخلق الله أو لا بخلقه ، والأول باطل وإلا لزم التسلسل ، والثاني : باطل لأن قوله : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} يتناول الذات والصفات حكمنا بدخول التخصيص فيه في حق ذات الله تعالى فوجب أن يبقى فيما سوى الذات على الأصل. وهو أن يكون تعالى خالقاً لكل شيء سوى ذاته تعالى ، فلو كان لله علم وقدرة لوجب كونه تعالى خالقاً لهما وهو محال ، وأيضاً تمسكوا بهذه الآية في خلق القرآن. قالوا : الآية دالة على أنه تعالى خالق لكل الأشياء ، والقرآن ليس هو الله تعالى ، فوجب أن يكون مخلوقاً وأن يكون داخلاً تحت هذا العموم.
والجواب : أقصى ما في الباب أن الصيغة عامة ، إلا أنا نخصصها في حق صفات الله تعالى بسبب الدلائل العقلية.
جزء : 19 رقم الصفحة : 28
32
(1/2592)

اعلم أنه تعالى لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمى والبصير والظلمات والنور ضرب للإيمان والكفر مثلاً آخر فقال : {أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا} ومن حق الماء أن يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها ، من حق الماء إذا زاد على قدر الأودية أن ينبسط على الأرض ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل ، سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة ، ولما ذكر تعالى هذا الزبد الذي لا يظهر إلا عند اشتداد جري الماء ذكر الزبد الذي لا يظهر إلا بالنار ، وذلك لأن كل واحد من الأجساد السبعة إذا أذيب بالنار لابتغاء حلية أو متاع آخر من الأمتعة التي يحتاج إليها في مصالح البيت ، فإنه ينفصل عنها نوع من الزبد والخبث ، ولا ينتفع به بل يضيع ويبطل ويبقى الخالص. فالحاصل : أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد ، وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء. والأجساد السبعة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به ، فكذا ههنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن ، والأودية قلوب العباد وشبه القلوب بالأودية ، لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن ، كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء ، وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه ، فكذا ههنا كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه ، وكما أن الماء يعلوه زبد الأجساد السبعة المذابة يخالطها خبث ، ثم إن ذلك الزبد والخبث يذهب ويضيع ويبقى جوهر الماء وجوهر الأجساد السبعة ، كذا ههنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات ، ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة ، فهذا هو تقرير هذا المثل ووجه انطباق المثل على الممثل به ، وأكثر المفسرين سكتوا عن بيان كيفية التمثيل والتشبيه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 32
المسألة الثانية : في المباحث اللفظية التي في هذه الآية في لفظ الأودية أبحاث :
البحث الأول : الأودية جمع واد وفي الوادي قولان :
القول الأول : أنه عبارة عن الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل ، هذا قول عامة أهل اللغة.
/ والقول الثاني : قال السهروردي يسمى الماء وادياً إذا سال قال : ومنه سمي الودى ودياً لخروجه وسيلانه ، وعلى هذا القول فالوادي اسم للماء السائل كالمسيل. والأول هو القول المشهور إلا أن على هذا التقدير يكون قوله : {فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ } مجازاً فكان التقدير : سالت مياه الأودية إلا أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البحث الثاني : قال أبو علي الفارسي رحمه الله : الأودية جمع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة قال : ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم ، وشاهد وشهيد ، وناصر ونصير ، ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب ، وطائر وأطيار ، ووزن فعيل يجمع على أفعلة ، كجريب وأجربة ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل. فيقال : واد وأودية ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال : يتيم وأيتام وشريف وأشراف هذا ما قاله أبو علي الفارسي رحمه الله. وقال غيره : نظير واد وأودية ، ناد وأندية للمجالس.
البحث الثالث : إنما ذكر لفظ أودية على سبيل التنكير ، لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فتسيل بعض أودية الأرض دون بعض. أما قوله تعالى : {بِقَدَرِهَا} ففيه بحثان :
البحث الأول : قال الواحدي : القدر والقدر مبلغ الشيء يقال كم قدر هذه الدراهم وكم قدرها ومقدارها ؟
أي كم تبلغ في الوزن ، فما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قدرها.
البحث الثاني : {فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا} أي من الماء ، فإن صغر الوادي قل الماء ، وإن اتسع الوادي كثر الماء.
أما قوله : {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا } ففيه بحثان :
البحث الأول : قال الفراء : يقال أزبد الوادي إزباداً ، والزبد الاسم ، وقوله : {رَّابِيًا } قال الزجاج : طافياً عالياً فوق الماء. وقال غيره : زائداً بسبب انتفاخه ، يقال : ربا يربو إذا زاد.
أما قوله تعالى : {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَـاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُه } فاعلم أنه تعالى لما ضرب المثل بالزبد الحاصل من الماء ، أتبعه بضرب المثل بالزبد الحاصل من النار ، وفيه مباحث :
جزء : 19 رقم الصفحة : 32
(1/2593)

البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {يُوقِدُونَ} بالياء ، واختاره أبو عبيدة لقوله : {يَنفَعُ النَّاسَ} وأيضاً فليس ههنا مخاطب. والباقون بالتاء على الخطاب ، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان. الأول : أنه خطاب للمذكورين في قوله : {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِه ا أَوْلِيَآءَ} . (الرعد : 16) والثاني : أنه يجوز أن يكون خطاباً عاماً يراد به الكافة ، كأنه قال : ومما توقدون عليه في النار أيها الموقدون.
البحث الثاني : الإيقاد على الشيء على قسمين : أحدهما : أن لا يكون ذلك الشيء في النار ، / وهو كقوله تعالى) {فَأَوْقِدْ لِى يَـاهَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ} (القصص : 38) والثاني : أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار ، فلهذا السبب قال ههنا : {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ} .
البحث الثالث : في قوله : {ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ} قال أهل المعاني : الذي يوقد عليه لابتغاء حلية الذهب والفضة ، والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديد والنحاس والرصاص ، والأسرب يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها ، والمتاع كل ما يتمتع به وقوله : {زَبَدٌ مِّثْلُه } أي زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل.
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَـاطِلَ } والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل. ثم قال : {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءًا وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ} قال الفراء : الجفاء الرمي والاطراح يقال : جفا الوادي غثاءه يجفوه جفاء إذا رماه ، والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض وموضع جفاء نصب على الحال ، والمعنى : أن الزبد قد يعلو على وجه الماء ويربو وينتفخ إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقى الجوهر الصافي من الماء ومن الأجساد السبعة/ فكذلك الشبهات والخيالات قد تقوى وتعظم إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات ، وفي قراءة رؤبة بن العجاج جفالاً ، وعن أبي حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار.
أما قوله تعالى : {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } ففيه وجهان : الأول : أنه تم الكلام عند قوله : {كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ} ثم استأنف الكلام بقوله : {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } ومحله الرفع بالابتداء وللذين خبره وتقديره لهم الخصلة الحسنى والحالة الحسنى. الثاني : أنه متصل بما قبله والتقدير : كأنه قال الذي يبقى هو مثل المستجيب والذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب ثم بين الوجه في كونه مثلاً وهو أنه لمن يستجيب الحسنى وهو الجنة ، ولمن لا يستجيب أنواع الحسرة والعقوبة ، وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى ، فيكون الحسنى صفة لمصدر محذوف.
جزء : 19 رقم الصفحة : 32
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ، أما أحوال السعداء فهي قوله : {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } والمعنى أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى. قال ابن عباس : الجنة ، وقال أهل المعاني : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن ، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة / الدائمة الخالية عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال. ولم يذكر الزيادة ههنا لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى ، وهو قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس : 206) وأما أحوال الأشقياء ، فهي قوله : {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَه } فلهم أنواع أربعة من العذاب والعقوبة.
فالنوع الأول ؛ قوله : {لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَه مَعَه افْتَدَوْا بِه } والافتداء جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر ، ومفعول لافتدوا به محذوف تقديره : لافتدوا به أنفسهم أي جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، والكناية في "به" عائدة إلى "ما" في قوله : {مَّا فِى الارْضِ} .
واعلم أن هذا المعنى حق ، لأن المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته ، وكل ما سواه فإنما يحبه لكونه وسيله إلى مصالح ذاته ، فإذا كانت النفس في الضرر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجساد والأرواح فإنه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه ، لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوباً بالذات.
(1/2594)

والنوع الثاني : من أنواع العذاب الذي أعده الله لهم هو قوله : { أولئك لَهُمْ سُواءُ الْحِسَابِ} قال الزجاج : ذاك لأن كفرهم أحبط أعمالهم. وأقول ههنا حالتان : فكل ما شغلك بالله وعبوديته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية ، وكل ما شغلك بغير الله فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة ، ولا شك أن هاتين الحالتين يقبلان الأشد والأضعف والأقل والأزيد ، ولا شك أن المواظبة على الأعمال المناسبة لهذه الأحوال توجب قوتها ورسوخها لما ثبت في المعقولات أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة ، ولا شك أنه لما كانت كثرة الأفعال توجب حصول تلك الملكات الراسخة وكل واحدة من تلك الأفعال حتى اللمحة واللحظة والخطور بالبال والالتفات الضعيف فإنه يوجب أثراً ما في حصول تلك الحالة في النفس فهذا هو الحساب ، وعند التأمل في هذه الفصول يتبين للإنسان صدق قوله : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } (الزلزلة : 7/ 8).
جزء : 19 رقم الصفحة : 32
إذا ثبت هذا فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الإعراض عما سوى الله وفي الإقبال بالكلية على عبودية الله تعالى ولا جرم حصل لهم الحسنى.
وأما الأشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم ، فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء الحساب ، والمراد بسوء الحساب أنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين عن الفوز بخدمة حضرة المولى.
والنوع الثالث : قوله تعالى : {وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ } وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاستسعاد / بخدمة حضرة المولى عاكفين على لذات الدنيا ، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم فيحترقون على مفارقتها وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة ، فلذلك قال : {مَّأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ } ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى فقال : {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ولا شك أن الأمر كذلك.
ثم قال تعالى : {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ا } فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا أخذ يمشي من غير قائد ، فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك ، وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة ، أما البصير فإنه يكون آمناً من الهلاك والإهلاك.
ثم قال : {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها ، ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 32
38
/ اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا ؟
فيه قولان :
القول الأول : إنها متعلقة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : الأول : أنه يجوز أن يكون قوله : {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} صفة لأولي الألباب. والثاني : أن يكون ذلك صفة لقوله : {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ} (الرعد : 19).
والقول الثاني : أن يكون قوله : {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} مبتدأ : { أولئك لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} خبره كقوله : {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِه وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِا أولئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ} (الرعد : 25) واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة شرط وجزاء ، وشرطها مشتمل على قيود ، وجزاؤها يشتمل أيضاً على قيود. أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة :
(1/2595)

القيد الأول : قوله : {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} وفيه وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } . والثاني : أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين : أحدهما : الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير. والآخر : التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام ، والحاصل أنه دخل تحت قوله : {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} كل ما قام الدليل عليه. ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به ، إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيراً له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع. ولا يكون العبد موفياً للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون باراً في يمينه إلا إذا فعل الكل ، ويدخل فيه الاتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات ، ويدخل فيه أداء الأمانات ، وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية.
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
القيد الثاني : قوله : {وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ} وفيه أقوال :
القول الأول : وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد ، فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد ، وهذا مثل أن يقول : إنه لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه ، فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق.
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة. قال عليه السلام : "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له" والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن.
/ والقول الثاني : أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه ، فالحاصل : أن قوله : {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء. وقوله : {وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ} إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات.
والقول الثالث : أن المراد بالوفاء بالعهد : عهد الربوبية والعبودية ، والمراد بالميثاق : المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم عند ظهوره.
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع ، قال عليه السلام : "من عاهد الله فغدر ، كانت فيه خصلة من النفاق" وعنه عليه السلام : "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى عهداً ثم غدر ، ورجل استأجر أجيراً استوفى عمله وظلمه أجره ، ورجل باع حراً فاسترق الحر وأكل ثمنه" وقيل : كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول : وفاء بالعهد لا غدر. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء" قال من هذا ؟
قالوا : عمرو بن عيينة فرجع معاوية.
القيد الثالث : {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ} وههنا سؤال : وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما ؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر. والثاني : أنه تأكيد.
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في تفسيره وجوهاً : الأول : أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام : "ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول : أي رب قطعت ، والأمانة تقول : أي رب تركت ، والنعمة تقول : أي رب كفرت".
والقول الثاني : أن المراد صلة محمد صلى الله عليه وسلّم ومؤازرته ونصرته في الجهاد.
(1/2596)

والقول الثالث : رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد ، فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة ، وعن / الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم ؟
قالوا : من خراسان. فقال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم ، واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين ، وأقول حاصل الكلام : أن قوله : {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ} إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله : {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ} إشارة إلى الشفقة على خلق الله.
القيد الرابع : قوله : {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} والمعنى : أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله ، وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستولياً على قلبه وهذه الخشية نوعان : أحدهما : أن يكون خائفاً من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته ، بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها. والثاني : وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة.
القيد الخامس : قوله : {وَيَخَافُونَ سُواءَ الْحِسَابِ} اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب ، وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار.
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
القيد السادس : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار ، والغموم والأحزان ، والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات. ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه : أحدها : أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل. وثانيها : أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع. وثالثها : أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء. ورابعها : أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلاً في كمال النفس وسعادة القلب ، أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه ، بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك ، لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقاً في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين ، فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه ، وطلب رضا الله تعالى.
/ واعلم أن قوله : {ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} فيه دقيقة ، وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه ، فربما نظر العاشق لذلك الضارب وفرح به فقوله : {ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} محمول على هذا المجاز ، يعني كما أن العاشق يرضى بذلك الضرب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه ، فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة ، ويرضى به لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة.
القيد السابع : قوله : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} .
واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيهاً على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضاً.
القيد الثامن : قوله تعالى : {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الحسن : المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية. وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام ، وقال آخرون : بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله : {سِرًّا} يرجع إلى التطوع وقوله : يرجع إلى الزكاة الواجبة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
المسألة الثانية : قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الانفاق من كل ما كان رزقاً ، وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقاً لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز.
(1/2597)

القيد التاسع : قوله : {صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} وفيه وجهان : الأول : أنهم إذا أتوا بمعصية درؤها ودفعوها بالتوبة كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لمعاذ بن جبل : "إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها". والثاني : أن المراد أنهم لا يقابلون الشر بالشر بل يقابلون الشر بالخير كما قال تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) وعن ابن عمر رضي الله عنهما ليس الوصول من وصل ثم وصل تلك المجازاة لكنه من قطع ثم وصل وعطف على من لم يصله/ وليس الحليم من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج ، لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن الحسن : هم الذين إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ، ويروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متنكراً ، فقال من أين أنت ؟
فقال : من بلخ ، فقال : وهل تعرف شقيقاً قال نعم ، فقال : كيف طريقة أصحابه ؟
فقال : إذا منعوا صبروا وإن أعطوا شكروا ، فقال عبد الله : طريقة كلابنا هكذا. فقال : وكيف ينبغي أن يكون فقال الكاملون : هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا.
/ واعلم أن جملة هذه القيود التسعة هي القيود المذكورة في الشرط. أما القيود المذكورة في الجزاء فهي أربعة :
القيد الأول : قوله : { أولئك لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} أي عاقبة الدار وهي الجنة ، لأنها هي التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. قال الواحدي : العقبى كالعاقبة ، ويجوز أن تكون مصدراً كالشورى والقربى والرجعى ، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على فَعلى كالنجوى والدعوى ، وعلى فِعلى كالذكرى والضيزى ، ويجوز أن يكون اسماً وهو ههنا مصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى : أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة.
القيد الثاني : قوله : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الزجاج : جنات عدن بدل من عقبى والكلام في جنات عدن ذكرناه مستقصى عند قوله تعالى : {وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ } وذكرنا هناك مذهب المفسرين ، ومذهب أهل اللغة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {يَدْخُلُونَهَا} بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء وضم الخاء على إسناد الدخول إليهم.
القيد الثالث : {وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن علية (صلح) بضم اللام قال صاحب الكشاف : والفتح أفصح.
المسألة الثانية : قال الزجاج : موضع من رفع لأجل العطف على الواو في قوله {يَدْخُلُونَهَا} ويجوز أن يكون نصباً كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيد.
المسألة الثالثة : في قوله : {وَمَن صَلَحَ} قولان : الأول : قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم وقال الزجاج : بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة. قال الواحدي : والصحيح ما قال ابن عباس ، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به ، إذ كل من كان مصلحاً في عمله فهو يدخل الجنة.
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة ، لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة فإذا بشر الله المكلف بأنه إذا دخل الجنة فإنه يحضر معه آباؤه وأزواجه وأولاده فلا شك أنه يعظم سرور المكلف بذلك وتقوى بهجته به ، ويقال : إن من أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذاكروا / أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله على الخلاص منها والفوز بالجنة ولذلك قال تعالى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون : {قَالَ يَـالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (يس : 26/ 27).
المسألة الرابعة : قوله : {وَأَزْوَاجِهِمْ} ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ، وما روي عن سودة أنه لما هم الرسول صلى الله عليه وسلّم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك ، كالدليل على ما ذكرناه.
والقيد الرابع : قوله : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِم وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وفيه مسائل :
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
(1/2598)

المسألة الأولى : قال ابن عباس : لهم خيمة من درة مجوفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصاريعها من ذهب يدخلون عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم : {سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } على أمر الله. وقال أبو بكر الأصم : من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون : ونعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى.
واعلم أن دخول الملائكة إن حملناه على الوجه الأول فهو مرتبة عظيمة ، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المطيعين أنهم يدخلون جنة الخلد ، ويجتمعون بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم على أحسن وجه ، ثم إن الملائكة مع جلالة مراتبهم يدخلون عليهم لأجل التحية والإكرام عند الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية والسلام ويبشرونهم بقوله : {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ولا شك أن هذا غير ما يذكره المتكلمون من أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان يأتي قبور الشهداء رأس كل حول فيقول : "السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" والخلفاء الأربعة هكذا كانوا يفعلون ، وأما إن حملناه على الوجه الثاني فتفسير الآية أن الملائكة طوائف ، منهم روحانيون ومنهم كروبيون. فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الراضيات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يختص بتلك الصفة مزيد اختصاص ؛ فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفة المخصوصة بها فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب.
المسألة الثانية : تمسك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والعظيم فكانوا به أجل / مرتبة من البشر ولو كانوا أقل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجباً علو درجاتهم وشرف مراتبهم ، ألا ترى أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير والوزير والقاضي والمفتي ، فهذا يدل على أن درجة ذلك المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذلك ههنا.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : ههنا محذوف تقديره الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون سلام عليكم فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه ، وأما قوله : {بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ففيه وجهان : أحدهما : أنه متعلق بالسلام. والمعنى أنه إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات ، وترك المحرمات. والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، والتقدير : أن هذه الكرامات التي ترونها ، وهذه الخيرات التي تشاهدونها إنما حصلت بواسطة ذلك الصبر.
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
38
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفات السعداء وذكر ما ترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر حال الأشقياء ، وذكر ما يترتب عليها من الأحوال المخزية المكروهة ، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب ، ليكون البيان كاملاً فقال : {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِه } وقد بينا أن عهد الله ما ألزم عباده بواسطة الدلائل العقلية والسمعية لأنها أوكد من كل عهد وكل يمين إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها ، والمراد من نقض هذه العهود أن لا ينظر المرء في الأدلة أصلاً ، فحينئذ لا يمكنه العمل بموجبها أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو بأن ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق والمراد من قوله : {مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِه } أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة وأحكمها ، لأنه لا شيء أقوى مما دل الله على وجوبه في أن ينفع فعله ويضر تركه.
فإن قيل : إذا كان العهد لا يكون إلا مع الميثاق فما فائدة اشتراطه تعالى بقوله : {مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِه } .
قلنا : لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف الله العبد ، والمراد بالميثاق الأدلة المؤكدة / لأنه تعالى قد يؤكد إليك العهد بدلائل أخرى سواء كانت تلك المؤكدة دلائل عقلية أو سمعية.
(1/2599)

ثم قال تعالى : {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ} (الرعد : 21) وذلك في مقابلة قوله : {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ} فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل ، والمراد به قطع كل ما أوجب الله وصله ويدخل فيه وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ووصل المؤمنين ، ووصل الأرحام ، ووصل سائر من له حق ، ثم قال : {وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِ } وذلك الفساد هو الدعاء إلى غير دين الله وقد يكون بالظلم في النفوس والأموال وتخريب البلاد ، ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الصفات قال : { أولئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ} واللعنة من الله الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى ضدهما من عذاب ونقمة : {وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} لأن المراد جهنم ، وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.
جزء : 19 رقم الصفحة : 38
47
اعلم أنه تعالى لما حكم على من نقض عهد الله في قبول التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل : لو كانوا أعداء الله لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا ، فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه يبسط الرزق على البعض ويضيقه على البعض ولا تعلق له بالكفر والإيمان ، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ، ويوجد المؤمن مضيقاً عليه دون الكافر ، فالدنيا دار امتحان. قال الواحدي : معنى القدر في اللغة قطع الشيء على مساواة غير من غير زيادة ولا نقصان. وقال المفسرون : معنى (يقدر) ههنا يضيق ، ومثله قوله تعالى : {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه } (الطلاق : 7) أي ضيق ، ومعناه : أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
وأما قوله : {وَفَرِحُوا بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا} فهو راجع إلى من بسط الله له زرقه ، وبين تعالى أن ذلك لا يوجب
/ اعلم أن الكفار قالوا : يا محمد إن كنت رسولاً فأتنا بآية ومعجزة قاهرة ظاهرة مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام.
فأجاب عن هذا السؤال بقوله : {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه : أحدها : كأنه تعالى يقول : إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ، ولكن الإضلال والهداية من الله ، فأضلكم عن تلك الآيات القاهرة الباهرة ، وهدى أقواماً آخرين إليها ، حتى عرفوا بها صدق محمد صلى الله عليه وسلّم في دعوى النبوة ، وإذا كان كذلك فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات ، وثانيها : أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت أكثر من أن تصير مشتبهة على العاقل ، فلما طلبوا بعدها آيات أخرى كان موضعاً للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} من كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة على الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية {وَيَهْدِى } من كان على خلاف صفتكم. وثالثها : أنهم لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قيل لهم لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات ، فإن الإضلال والهداية من الله فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية فإنه لم يحصل الانتفاع بها ولو حصلت آية واحدة فقط وحصلت الهداية من الله فإنه يحصل الانتفاع بها فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات. ورابعها : قال أبو علي الجبائي : المعنى إن الله يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب : {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي يهدي إلى جنته من تاب وآمن قال وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث أنه عقبه بقوله : {مَنْ أَنَابَ} أي تاب / والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب ، لأنه يستحقه على إيمانه ، وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب ، لا عن الذين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا. هذا تمام كلام أبي علي وقوله : (أناب) أي أقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير.
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
اعلم أن قوله : {الَّذِينَ ءَامَنُوا } بدل من قوله : {مَنْ أَنَابَ} قال ابن عباس : يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت.
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال : 2) والوجل ضد الاطمئنان ، فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان ؟
(1/2600)

والجواب من وجوه : الأول ، أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل ، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة ، سكنت قلوبهم إلى ذلك ، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر ، لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب ، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي ، وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات. الثاني : أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلّم نبياً حقاً من عند الله. أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم. الثالث : أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلّم صادق في كل ما أخبر عنه ، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا ، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا.
واعلم أن لنا في قوله : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} أبحاثاً دقيقة غامضة وهي من وجوه :
الوجه الأول : أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يتأثر ، ومتأثر لا يؤثر ، وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء ، فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى ، والمتأثر الذي لا يؤثر هو الجسم ، فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية ، وليس له خاصية إلا القبلو فقط. وأما الموجود الذي يؤثر تارة ويتأثر أخرى ، فهي الموجودات الروحانية ، وذلك لأنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده وإذا توجهت إلى عالم / الأجسام اشتقات إلى التصرف فيها ، لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام.
وإذا عرفت هذا. فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها ، أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية ، فهناك يكون ساكناً فلهذا السبب قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
الوجه الثاني : أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أخرى أشرف منها ، لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة. أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر فلم يقدر على الانتقال منه ألبتة ، لأن ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل ؛ فلهذا المعنى قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} .
والوجه الثالث : في تفسير هذه الكلمة أن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهباً باقياً على كر الدهور والأزمان ، صابراً على الذوبان الحاصل بالنار ، فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهراً باقياً صافياً نورانياً لا يقبل التغيير والتبدل ، فلهذا قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} .
ثم قال تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَـاَابٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير كلمة {طُوبَى } ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها اسم شجرة في الجنة ، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة" ، وحكى أبو بكر الأصم رضي الله عنه : أن أصل هذه الشجرة في دار النبي صلى الله عليه وسلّم وفي دار كل مؤمن منها غصن.
والقول الثاني : وهو قول أهل اللغة إن طوبى مصدر من طاب ، كبشرى وزلفى ، ومعنى طوبى لك ، أصبت طيباً ، ثم اختلفوا على وجوه : فقيل : فرح وقرة عين لهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل : نعم ما لهم عن عكرمة ، وقيل غبطة لهم عن الضحاك. وقيل : حسنى لهم عن قتادة. وقيل : خير وكرامة عن أبي بكر الأصم ، وقيل : العيش الطيب لهم عن الزجاج.
واعلم أن المعاني متقاربة والتفاوت يقرب من أن يكون في اللفظ. والحاصل أنه مبالغة في نيل الطيبات ويدخل فيه جميع اللذات ، وتفسيره أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم.
/ والقول الثالث : أن هذه اللفظة ليست عربية ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : طوبى اسم الجنة بالحبشية ، وقيل اسم الجنة بالهندية. وقيل البستان بالهندية ، وهذا القول ضعيف ، لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما واشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر.
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : {الَّذِينَ ءَامَنُوا } مبتدأ و{طُوبَى لَهُمْ} خبره ، معنى طوبى لك أي أصبت طيباً ، ومحلها النصب أو الرفع ، كقولك طيباً لك وطيب لك وسلاماً لك وسلام لك ، والقراءة في قوله : {وَحُسْنُ مَـاَابٍ} بالرفع والنصب تدلك على محلها ، وقرأ مكوزة الأعرابي (طيب لهم).
(1/2601)

أما قوله : {وَحُسْنُ مَئاَبٍ} فالمراد حسن المرجع والمقر وكل ذلك وعد من الله بأعظم النعيم ترغيباً في طاعته وتحذيراً عن المعصية.
اعلم أن الكاف في {كَذَلِكَ} للتشبيه فقيل وجه التشبيه أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك في أمة قد خلت من قبلها أمم ، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ، وقيل : كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم ، كذلك أعطيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلماذا اقترحوا غيره ، وقال صاحب "الكشاف" : {كَذَالِكَ أَرْسَلْنَاكَ} أي مثل ذلك الإرسال {أَرْسَلْنَاكَ} يعني أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات. ثم فسر كيف أرسله فقال : {فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ} أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم فهي آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء.
أما قوله : {لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} فالمراد : لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك : {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه ، وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز عليهم / {قُلْ هُوَ رَبِّى} الواحد المتعالي عن الشركاء : {لا إِلَاهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في نصرتي عليكم {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} فيعينني على مصابرتكم ومجاهدتكم قيل : نزل قوله : {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } في عبد الله بن أمية المخزومي وكان يقول أما الله فنعرفه ، وأما الرحمن فلا نعرفه ، إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فقال تعالى : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَا أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الإسراء : 110) وكقوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ} (الفرقان : 06) وقيل : إنه عليه السلام حين صالح قريشاً من الحديبية كتب : "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم" فقال المشركون : إن كنت رسول الله وقد قاتلناك فقد ظلمنا. ولكن اكتب ، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ، فكتب كذلك ، ولما كتب في الكتاب : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ} قالوا : أما الرحمن فلا نعرفه ، وكانوا يكتبون باسمك اللهم ، فقال عليه السلام : "اكتبوا كما تريدون".
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
واعلم أن قوله : {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِ الرَّحْمَنِ } إذ حملناه على هاتين الروايتين كان معناه أنهم كفروا بإطلاق هذا الإسم على الله تعالى ، لا أنهم كفروا بالله تعالى. وقال آخرون : بل كفروا الله إما جحداً له وإما لاثباتهم الشركاء معه. قال القاضي : وهذا القول أليق بالظاهر ، لأن قوله تعالى : {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِ الرَّحْمَنِ } يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم من الرحمن ، وليس المفهوم من الاسم كما لو قال قائل : كفروا بمحمد وكذبوا به لكان المفهوم هو ، دون اسمه.
اعلم أنه روي أن أهل مكة قعدوا في فناء مكة ، فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلّم وعرض الإسلام عليهم ، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي : سير لنا جبال مكة حتى ينفسخ المكان علينا واجعل لنا / فيها أنهاراً نزرع فيها ، أو أَحْي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقول أو بطال ، فقد كان عيسى يحيى الموتى ، أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان ، فنزل قوله : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي من أماكنها {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الارْضُ} أش شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } لكان هو هذا القرآن الذي أنزلناه عليك. وحذف جواب "لو" لكونه معلوماً ، وقال الزجاج : المحذوف هو أنه {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} وكذا وكذا لما آمنوا به كقوله : {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } (الأنعام : 111).
ثم قال تعالى : {بَل لِّلَّهِ الامْرُ جَمِيعًا } يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، وليس لأحد أن يتحكم عليه في أفعاله وأحكامه.
ثم قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الارْضُ أَوْ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله : {وَلَوْ أَنَّ} قولان :
القول الأول : أفلم يعلموا وعلى هذا التقدير ففيه وجهان :
الوجه الأول : {يَا يْاَسِ} يعلم في لغة النخع وهذا قول أكثر المفسرين مثل مجاهد والحسن وقتادة. واحتجوا عليه بقول الشاعر :
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً
وأنشد أبو عبيدة :
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني إلم تيأسوا أنن ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا. وقال الكسائي : ما وجدت العرب تقول يئست بمعنى علمت ألبته.
(1/2602)

والوجه الثاني : ما روي أن علياً وابن عباس كانا يقرآن : {أَفَلَمْ يَا يْـاَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } فقيل لابن عباس أفلم ييأس فقال : أظن أن الكاتب كتبها وهو ناعس أنه كان في الخط يأس فزاد الكاتب سنة واحدة فصار ييأس فقرىء ييأس وهذا القول بعيد جداً لأنه يقتضي كون القرآن محلاً للتحريف والتصحيف وذلك يخرجه عن كونه حجة قال صاحب "الكشاف" : ما هذا القول والله إلا فرية بلا مرية.
والقول الثاني : قال الزجاج : المعنى أو يئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً. وتقريره أن العلم بأن الشيء لا يكون يوجب اليأس من كونه والملازمة توجب حسن المجاز ، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ اليأس لإرادة العلم.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله : {أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } وكلمة "لو" تفيد انتقاء الشيء لانتفاء غيره. والمعنى : أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس ، والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة / على مشيئة الإلجاء ، وتارة يحملون الهداية على الهداية إلى طريق الجنة ، وفيهم من يجري الكلام على الظاهر ، ويقول إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون شائياً لهداية جميع الناس.
والكلام في هذه المسألة قد سبق مراراً.
أما قوله تعالى : {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } فيه قولان :
القول الأول : قيل : أراد به جميع الكفار لأن الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من القتل والسبي أوجب حصول الغم في قلب الكل ، وقيل : أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون والألف واللام في لفظ الكفار للمعهود السابق هو ذلك الجمع المعين.
المسألة الثانية : في الآية وجهان. الأول : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم ، أو تحل القارعة قريباً منهم ، فيفزعون ويضطرون ويتطاير إليهم شرارها ، ويتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم أو القيامة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
والقول الثاني : ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم من العداوة والتكذيب قارعة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب مواشيهم ، أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حل بالحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان الله قد وعه ذلك.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} والغرض منه تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم وإزالة الحزن عنه. قال القاضي : وهذا يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده ، وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، إذ بعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق.
وجوابنا : أن الخلف غير ، وتخصيص العموم غير ، ونحن لا نقول بالخلف ، ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو.
/ اعلم أن القوم لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول صلى الله عليه وسلّم على سبيل الاستهزاء والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيراً له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بهم كما أن قومك يستهزئون بك : {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي أطلب لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم فكيف كان عقابي لهم.
واعلم أني سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء الإمهال وأن يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى ، وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل الاستهزاء ، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج وما يكون توبيخاً لهم وتعجبياً من عقولهم فقال : {أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } والمعنى : أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات وإذا كان كذلك كان عالماً بجميع أحوال النفوس ، وقادراً على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات ، وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي. وهذا هو المراد من قوله : {قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى : {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } (آل عمران : 18).
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
واعلم أنه لا بد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه :
(1/2603)

الوجه الأول : التقدير : {أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } كمن ليس بهذه الصفة ؟
/ وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ، وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ} والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، ونظيره قوله تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه } وما جاء جوابه لأن مضمر في قوله : {فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّه } (الزمر : 22) فكذا ههنا ، قال صاحب "الكشاف" : يجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ ، أو يعطف عليه قوله : {وَجَعَلُوا } والتقدير : أفمن هو بهذا الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء.
الوجه الثاني : وهو الذي ذكره السيد صاحب "حل العقد" فقال : نجعل الواو في قوله : {وَجَعَلُوا } واو الحال ونضمر للمبتدأ خبراً يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال ، والتقدير : {أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } موجود. والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر وهو قوله (لله) مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها ، وهذا كما تقول : جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي.
واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال : {قُلْ سَمُّوهُمْ } وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال : سمه إن شئت. يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل ، فكأنه تعالى قال : سموهم بالآلهة على سبيل التهديد ، والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به ، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها ، ثم زاد في الحجاج فقال : {أَمْ تُنَبِّـاُونَه بِمَا لا يَعْلَمُ فِى الارْضِ} والمراد : أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعملمونه وهو لا يعلمه ، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها ، وإن لم يكن شريك ألبته ، لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها {أَم بِظَـاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ } يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له ، وهو كقوله تعالى : {ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } (التوبة : 30) ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه : {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} قال الواحدي : معنى (بل) ههنا كأنه يقول : دع ذكر ما كنا فيه زين لهم مكرهم ، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم ، فكأنه يقول : دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه ، لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل. قال القاضي : لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمهم به ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله ، بل لا بد وأن يكون إما شياطين وإما شياطين الجن.
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه : الأول : أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الإنس / فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل ، وإن كان هو الله فقد زال السؤال ، والثاني : أن يقال : القلوب لا يقدر عليها إلا الله ، والثالث : أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل.
أما قوله : {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ } فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وَصُدُّوا } بضم الصاد وفي حم {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ } (النساء : 167) على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم ، وعند أهل السنة أن الله صدهم. وللمعتزلة فيه وجهان : قيل الشيطان ، وقيل أنفسهم وبعضهم لبعض كما يقال : فلان معجب وإن لم يكن ثمة غيره وهو قول أبي مسلم والباقون ، وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعني أن الكفار صدوا عن سبيل الله ، أي أعرضوا وقيل : صرفوا غيرهم ، وهو لازم ومتعد ، وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول ، وحجة القراءة الثانية قوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء : 167).
(1/2604)

ثم قال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه : أولها : قوله : {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله. وثانيها : قوله : {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ } بضم الصاد ، وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله. وثالثها : قوله : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله. ورابعها : قوله تعالى : {لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ } أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر ، امتنع صدور الإيمان منه وكل هذه الوجوه قد لخصناها في هذا الكتاب مراراً ، قال القاضي : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله : {فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} منبيء بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا ، وقيل : المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالاً ، وقيل المراد من يضلله الله عن الإيمان بأن يجده كذلك ، ثم قال والوجه الأول أقوى.
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
واعلم أن الوجه ضعيف جداً لأن الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجز ذكر ذهابهم إلى الجنة ألبتة فصرف الكلام على المذكور إلى غير المذكور بعيد. وأيضاً فهب أنا نساعد على أن الأمر كما ذكروه ، إلا أنه تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لأن خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع.
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا ، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق ، وأنه لا دافع لهم عن لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما عذاب الدنيا / فبالقتل ، والقتال ، واللعن ، والذم ، والإهانة ، وهل يدخل المصائب والأمراض في ذلك أم لا ؟
اختلفوا فيه ، قال بعضهم : إنها تدخل فيه ، وقال بعضهم : إنها لا تكون عقاباً ، لأن كل أحد نزلت به مصيبة فإنه مأمور بالصبر عليها ، ولو كان عقاباً لم يجب ذلك ، فالمراد على هذا القول من الآية القتل ، والسبيء ، واغتنام الأموال ، واللعن ، وإنما قال : {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ } لأنه أزيد إن شئت بسبب القوة والشدة ، وإن شئت بسبب كثرة الأنواع ، وإن شئت بسبب أنه لا يختلط بها شيء من موجبات الراحة ، وإن شئت بسبب الدوام وعدم الانقطاع ، ثم بين بقوله : {وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} أي أن أحداً لا يقيهم ما نزل الله من عذاب الله. قال الواحدي : أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء في قوله (واق) وكذلك في قوله : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} وكذلك في قوله : {وَالٍ} وهو الوجه لأنك تقول في الوصل : هذا هاد ووال وواق ، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين ، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر ، والياء كانت انحذفت فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في غير فاعل فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف عليها فيصير هاد ، ووال ، وواق. وكان ابن كثير يقف بالياء في هادي ووالي وواقي ووجهه ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول : هذا داعي فيقفون بالياء.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة ، أتبعه بذكر ثواب المتقين وفي قوله : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} أقوال : الأول : قال سيبويه : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} مبتدأ وخبره محذوف والتقدير : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة. والثاني : قال الزجاج : مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث : مثل الجنة مبتدأ وخبره تجري من تحتها الأنهار ، كما تقول صفة زيد اسم. والرابع : الخبر هو قوله : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} لأنه الخارج عن العادة كأنه قال : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث : أولها : تجري من تحتها الأنهار. وثانيها : أن أكلها دائم. والمعنى : أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها. أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة. وثالثها : أن ظلها دائم أيضاً ، والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى : {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} (الإنسان : 13) ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة ، وعاقبة الكافرين النار. وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام.
واعلم أن قوله : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} فيه مسائل ثلاث :
(1/2605)

المسألة الأولى : أنه يدل على أن أكل الجنة لا تفنى كم يحكى عن جهم وأتباعه.
المسألة الثانية : أنه يدل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم ، كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه.
المسألة الثالثة : قال القاضي : هذه الآية تدل على أن الجنة لم تخلق بعد ، لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وأن ينقطع أكلها لقوله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن : 26). و{كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) لكن لا ينقطع أكلها لقوله تعالى : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة. ثم قال : فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جنات كثيرة يتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي في ذلك ، إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة.
والجواب : أن دليلهم مركب من آيتين : أحدهما : قوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } والأخرى قوله : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ وَظِلُّهَا } فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط دليلهم فنحن نخصص أحد هذين العمومين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة ، وهو قوله تعالى : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران : 133).
جزء : 19 رقم الصفحة : 47
48
/ اعلم أن في المراد بالكتاب قولين : الأول : أنه القرآن والمراد أن أهل القرآن يفرحون بما أنزل على محمد من أنواع التوحيد والعدل والنبوة والبعث والأحكام والقصص ومن الأحزاب الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول الحسن وقتادة.
فإن قيل : الأحزاب ينكرون كل القرآن.
قلنا : الأحزاب لا ينكرون كل ما في القرآن ، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء ، والأحزاب ما كانوا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني : إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التقدير ففي الآية قولان : الأول : قال ابن عباس : الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بأرض الحبشة وفرحوا بالقرآن ، لأنهم آمنوا به وصدقوه والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين قال القاضي : وهذا الوجه أولى من الأول لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن ، أما إذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة ويمكن أن يقال : إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة ، فلهذا السبب حكى الله تعالى فرحهم به. والثاني : والذين آتيناهم الكتاب اليهود أعطوا التوارة ، والنصارى أعطوا الإنجيل ، يفرحون بما أنزل في هذا القرآن ، لأنه مصدق لما معهم ومن الأحزاب من سائر الكفار من ينكر بعضه ، وهو قول مجاهد. قال القاضي : وهذا لا يصح ، لأن قوله : {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعم جميع ما أنزل إليه ، ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله : {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } لا يفيد العموم بدليل جواز ادخال لفظتي الكل والبعض عليه ، ولو كانت كلمة "ما" للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً. ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال :
جزء : 19 رقم الصفحة : 48
(1/2606)

{قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِه ا إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَـاَابِ} وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به ، وفيه فوائد : أولها : أن كلمة "إنما" للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى ، وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك. وثانيها : أن العبادة غاية التعظيم ، وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك. وثالثها : أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل ، فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته ، وما يجب ويجوز ويستحيل عليه. ورابعها : أن عبادة الله واجبة ، وهو / يبطل قول نفاة التكليف ، ويبطل القول بالجبر المحض. وخامسها : قوله : {وَلا أُشْرِكَ بِه } وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية ، ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى سواء قال : إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية. وسادسها : قوله : {إِلَيْهِ أَدْعُوا } والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته. وسابعها : قوله : {وَإِلَيْهِ مَـاَابِ} وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين.
جزء : 19 رقم الصفحة : 48
49
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل إلى ما تقدم من الأنبياء ، أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم ، كذلك أنزلنا عليك القرآن. والكناية في قوله : {أَنزَلْنَـاهُ} تعود إلى "ما" في قوله : {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن.
المسألة الثانية : قوله : {أَنزَلْنَـاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا } فيه وجوه : الأول : حكمة عربية مترجمة بلسان العرب. الثاني : القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف ، فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن ، فلما كان القرآن سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. الثالث : أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكماً.
واعلم أن قوله : {حُكْمًا عَرَبِيًّا } نصب على الحال ، والمعنى : أنزلناه حال كونه حكماً عربياً.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : الآية دالة على حدوث القرآن من وجوه : الأول : أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث. الثاني : أنه وصفه بكونه عربياً والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاً. الثالث : أن الآية دالة على أنه إنما / كان حكماً عربياً ، لأن الله تعالى جعله كذلك ووصفه بهذه الصفة ، وكل ما كان كذلك فهو محدث.
والجواب : أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه والله أعلم.
المسألة الرابعة : روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائه فتوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد أن حوله الله عنها. قال ابن عباس : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته ، وقيل : بل الغرض منه حث الرسول عليه السلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها ، ويتضمن ذلك أيضاً تحذير جميع المكلفين ، لأن من هو أرفع منزلة إذا حذر هذا التحذير فهم أحق بذلك وأولى.
جزء : 19 رقم الصفحة : 49
52
اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشبهات في إبطال نبوته.
فالشبهة الأولى قولهم : {هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِ } (الفرقان : 7) وهذه الشبهة إنما ذكرها الله تعالى في سورة أخرى.
والشبهة الثانية : قولهم : الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة كما حكى الله عنهم في قوله : {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة } (الحجر : 7) وقوله : {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } (الأنعام : 8).
فأجاب الله تعالى عنه ههنا بقوله : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضاً مثله في حقه.
(1/2607)

الشبهة الثالثة : عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكثرة الزوجات وقالوا : لو كان رسولاً من عند الله لما كان مشتغلاً بأمر النساء بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد ، فأجاب الله / تعالى عنه بقوله : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } وبالجملة فهذا الكلام يصلح أن يكون جواباً عن الشبهة المتقدمة ويصلح أن يكون جواباً عن هذه الشبهة ، فقد كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهيرة وسبعمائة سرية ولداود مائة امرأة.
والشبهة الرابعة : قالوا لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبنا منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس برسول ، فأجاب الله عنه بقوله : {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِـاَايَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } وتقريره : أن المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر والعلة ، وفي إظهار الحجة والبينة ، فأما الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ولا اعتراض لأحد عليه في ذلك.
جزء : 19 رقم الصفحة : 52
الشبهة الخامسة : أنه عليه السلام كان يخوفهم بنزول العذاب وظهور النصرة له ولقومه. ثم إن ذلك الموعود كان يتأخر فلما لم يشاهدوا تلك الأمور احتجوا بها على الطعن في نبوته ، وقالوا : لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه.
فأجاب الله عنه بقوله : {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} يعني نزول العذاب على الكفار وظهور الفتح والنصر للأولياء قضى الله بحصولها في أوقات معينة مخصوصة ، ولكل حادث وقت معين {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فقبل حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كاذباً.
الشبهة السادسة : قالوا : لو كان في دعوى الرسالة محقاً لما نسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثوبتها في الشرائع المتقدمة نحو التوراة والإنجيل ، لكنه نسخها وحرفها نحو تحريف القبلة ، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل ، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً.
فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُا وَعِندَه ا أُمُّ الْكِتَـابِ} ويمكن أيضاً أن يكون قوله : {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} كالمقدمة لتقرير هذا الجواب ، وذلك لأنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ثم يبقيه مدة مخصوصة ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً/ ثم يميت ثانياً فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات ، ثم ينسخه في سائر الأوقات فكان المراد من قوله : {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ما ذكرناه ، ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُا وَعِندَه ا أُمُّ الْكِتَـابِ} والمعنى : أنه يوجد تارة ويعدم أخرى ، ويحيي تارة ويميت أخرى ، ويغني تارة ويفقر أخرى فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما اقتضته المشيئة الإلهية عند أهل السنة أو بحسب ما اقتضته / رعاية المصالح عند المعتزلة فهذا اتمام التحقيق في تفسير هذه الآية ، ثم ههنا مسائل :
جزء : 19 رقم الصفحة : 52
المسألة الأولى : قوله تعالى : {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فيه أقوال. الأول : أن لكل شيء وقتاً مقدراً فالآيات التي سألوها لها وقت معين حكم الله به وكتبه في اللوح المحفوظ فلا يتغير عن ذلك الحكم بسبب تحكماتهم الفاسدة ولو أن الله أعطاهم ما التمسوا لكان فيه أعظم الفساد. الثاني : أن لكل حادث وقتاً معيناً قضى الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ، ولا يتغير ألبتة عن ذلك الوقت. والثالث : أن هذا من المقلوب والمعنى : أن لكل كتاب منزل من السماء أجلاً ينزله فيه ، أي لكل كتاب وقت يعمل به ، فوقت العمل بالتوراة والإنجيل قد انقضى ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر. والرابع : لكل أجل معين كتاب عند الملائكة الحفظة فللانسان أحوال أولها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير شاباً ثم شيخاً ، وكذا القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحسن والقبح. الخامس : كل وقت معين مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعلمها إلا الله تعالى ، فإذا جاء ذلك الوقت حدث ذلك الحادث ولا يجوز حدوثه في غيره. واعلم أن هذه الآية صريحة في أن الكل بقضاء الله وبقدره وأن الأمور مرهونة بأوقاتها ، لأن قوله : {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} معناه أن تحت كل أجل حادث معين ، ويستحيل أن يكون ذلك التعيين لأجل خاصية الوقت فإن ذلك محال ، لأن الأجزاء المعروضة في الأوقات المتعاقبة متساوية ، فوجب أن يكون اختصاص كل وقت بالحادث الذي يحدث فيه بفعل الله تعالى واختياره وذلك يدل على أن الكل من الله تعالى وهو نظير قوله عليه السلام : "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة".
(1/2608)

المسألة الثانية : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {وَيُثْبِتُ } ساكنة الثاء خفيفة الباء من أثبت يثبت ، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء من التثبيت ، وحجة من خفف أن ضد المحو الإثبات لا التثبت. ولأن التشديد للتكثير ، وليس القصد بالمحو التكثير ، فكذلك ما يكون في مقابلته ، ومن شدد احتج بقوله : {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (النساء : 66) وقوله : {فَثَبِّتُوا } (الأنفال : 12).
المسألة الثالثة : المحو ذهاب أثر الكتابة ، يقال : محاه يمحوه محواً إذا أذهب أثره ، وقوله : {وَيُثْبِتُ } قال النحويون : أراد ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية للفعل الأول عن تعدية الثاني ، وهو كقوله تعالى : {وَالْحَـافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـافِظَـاتِ} (الأحزاب : 35).
جزء : 19 رقم الصفحة : 52
المسألة الرابعة : في هذه الآية قولان :
القول الأول : إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ. قالوا : إن الله يمحو من الرزق / ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر ، وهو مذهب عمر وابن مسعود. والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء ، وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والقول الثاني : أن هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض ، وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه : الأول : المراد من المحو والإثبات : نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلاً عن الأول. الثاني : أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل ويثبت غيره ، وطعن أبو بكر الأصم فيه فقال : إنه تعالى وصف الكتاب بقوله : {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا } (الكهف : 49) وقال أيضاً : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } (الزلزلة : 7/ 8).
أجاب القاضي عنه : بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الذنوب والمباح لا صغيرة ولا كبيرة ، وللأصم أن يجيب عن هذا الجواب فيقول : إنكم باصطلاحكم خصصتم الصغيرة بالذنب الصغير ، والكبيرة بالذنب الكيبر ، وهذا مجرد اصطلاح المتكلمين. أما في أصل اللغة فالصغير والكبير يتناولان كل فعل وعرض ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير ، وإن كان غير ذلك فهو كبير ، وعلى هذا التقرير فقوله : {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا } (الكهف : 49) يتناول المباحات أيضاً. الثالث : أنه تعالى أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه ، فإذا تاب عنه محى من ديوانه. الرابع : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ} وهو من جاء أجله. ويدع من لم يجيء أجله ويثبته. الخامس : أنه تعالى يثبت في أول السنة حكم تلك السنة فإذا مضت السنة محيت ، وأثبت كتاب آخر للمستقبل. السادس : يمحو نور القمر ، ويثبت نور الشمس. السابع : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. الثامن : أنه في الأرزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة ، وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى. التاسع : تغير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو ، وما حصل وحضر فهو الإثبات. العاشر : يزيل ما يشاء ويثبت ما يشاء من حكمه لا يطلع على غيبه أحداً فهو المنفرد بالحكم كما يشاء ، وهو المستقل بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار بحيث لا يطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 52
واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم.
فإن قال قائل : ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف بها القلم وليس الأمر بأنف ، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات ؟
/ قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه.
المسألة الخامسة : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسكوا فيه بقوله : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } .
واعلم أن هذا باطل لأن علم الله من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه محالاً.
المسألة السادسة : أما {أُمُّ الْكِتَـابِ} فالمراد أصل الكتاب ، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أماً له ومنه أم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى ، فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب ، وفيه قولان :
(1/2609)

القول الأول : أن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وجميع حوادث العالم العلوي والعالم السفلي مثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "كان الله ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة" قال المتكلمون : الحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات على سبيل التفصيل ، وعلى هذا التقدير : فعند الله كتابان : أحدهما : الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق وذلك الكتاب محل المحو والإثبات. والكتاب الثاني : هو اللوح المحفوظ ، وهو الكتاب المشتمل على تعين جميع الأحوال العلوية والسفلية ، وهو الباقية. روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أن الله سبحانه وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وللحكماء في تفسير هذين الكتابين كلمات عجيبة وأسرار غامضة.
والقول الثاني : إن أم الكتاب هو علم الله تعالى ، فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الموجودات والمعدومات وإن تغيرت ، إلا أن علم الله تعالى بها باق منزه عن التغير ، فالمراد بأم الكتاب هو ذاك. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 52
52
اعلم أن المعنى : {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} من العذاب : {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك ، والمعنى : / سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره ، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمانته ورسالته وعلينا الحساب. والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالسراج والأداء.
جزء : 19 رقم الصفحة : 52
54
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك ، بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت. وقوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } فيه أقوال :
القول الأول : المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده. ونظيره قوله تعالى : {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآا أَفَهُمُ الْغَـالِبُونَ} (الأنبياء : 44) وقوله : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ} (فصلت : 53).
والقول الثاني : وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله : {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } المراد : موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار ، وقال الواحدي : وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول. ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع ، وتقريره أن يقال : أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة ، وموت بعد حياة ، وذل بعد عز ، ونقص بعد كمال ، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين ، ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين ، وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله ، وقيل : {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة / كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع ؟
ثم قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى : {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه } معناه : لا راد لحكمه ، والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب.
جزء : 19 رقم الصفحة : 54
فإن قيل : ما محل قوله : {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه } .
قلنا : هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع.
ثم قال : {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قال ابن عباس : يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعاً قريباً لا يدفعه دافع.
أما قوله : {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم ، وفرعون مكر بموسى ، واليهود مكروا بعيسى.
(1/2610)

ثم قال : {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا } قال الواحدي : معناه أن مكر جميع الماكرين له ومنه ، أي هو حاصل بتخليقه وإرادته ، لأنه ثبت أن الله تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد ، وأيضاً فذلك المكر لا يضر إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بتقديره ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم وأمان له من مكرهم ، كأنه قيل له : إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره من الممكور به أيضاً من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى وأن لا يكون الرجاء إلا من الله تعالى ، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى : فلله جزاء المكر/ وذلك لأنهم لما مكروا بالمؤمنين بين الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي : والأول أظهر لقولين بدليل قوله : {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } يريد أن اكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع ، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله تعالى. قالت المعتزلة : الآية الأولى إن دلت على قولكم فالآية الثانية وهي قوله : {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } دلت على قولنا ، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ، ولو كان حدوث الفعل بخلق الله تعالى لم يكن لقدرة العبد فيه أثر ، فوجب أن لا يكون للعبد كسب.
وجوابه : أن مذهبنا أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد. ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال : {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} وفيه مسألتان :
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 54
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} على لفظ المفرد والباقون على الجمع قال صاحب "الكشاف" قرىء : (الكفار ، والكافرون ، والذين كفروا ، والكفر) أي أهله قرأ جناح بن حبيش : (وسيعلم الكافر) من أعلمه أي سيخبر.
المسألة الثانية : المراد بالكافر الجنس كقوله تعالى : {إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر : 2) والمعنى : إنهم وإن كانوا جهالاً بالعواقب فسيعلمون لمن العاقبة الحميدة ، وذلك كالزجر والتهديد.
والقول الثاني : وهو قول عطاء يريد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون.
والقول الثالث : وهو قول ابن عباس يريد أبا الجهل. والقول الأول هو الصواب.
جزء : 19 رقم الصفحة : 54
56
اعلم أنه تعالى حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله. ثم إنه تعالى احتج عليهم بأمرين : الأول : شهادة الله على نبوته ، والمراد من تلك الشهادة أنه تعالى أظهر المعجزات الدالة على كونه صادقاً في ادعاء الرسالة ، وهذا أعلى مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كذلك. أما المعجز فإنه فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله تعالى ، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة. والثاني : قوله : {وَمَنْا عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وفيه قراءتان : إحداهما : القراءة المشهورة : {وَمَنْا عِندَهُ} يعني والذي عنده علم الكتاب. والثانية : {وَمَنْا عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وكلمة "من" ههنا لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم الكتاب. أما على القراءة الأولى ففي تفسير الآية أقوال :
القول الأول : أن المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم : عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وتميم الداري. ويروى عن سعيد بن جبير : أنه كان يبطل هذا الوجه ويقول : السورة مكية فلا يجوز أن يراد به ابن سلام وأصحابه ، لأنهم آمنوا في المدينة بعد الهجرة. وأجيب عن هذا السؤال بأن قيل : هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية / مدنية ، وأيضاً فإثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز ، وهذا السؤال واقع.
القول الثاني ؛ أراد بالكتاب القرآن ، أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر وبرهان باهر ، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة والبلاغة ، واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة. فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزاً. فقوله : {وَمَنْا عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي ومن عنده علم القرآن وهو قول الأصم.
القول الثالث : ومن عنده علم الكتاب المراد به : الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل ، يعني : أن كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهداً على أن محمداً صلى الله عليه وسلّم رسول حق من عند الله تعالى.
جزء : 19 رقم الصفحة : 56

القول الرابع : ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى ، وهو قول الحسن ، وسعيد بن جبير ، والزجاج قال الحسن : لا والله ما يعني إلا الله ، والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم ، وقال الزجاج : الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره ، وهذا القول مشكل ، لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزاً في الجملة إلا أنه خلاف الأصل. لا يقال : شهد بهذا زيد والفقيه ، بل يقال : شهد به زيد الفقيه ، وأما قوله إن الله تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد ، لأنه لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التين : 1) فأي امتناع فيما ذكره الزجاج.
وأما القراءة الثانية : وهي قوله : {وَمَنْا عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} على من الجارة فالمعنى : ومن لدنه علم الكتاب ، لأن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه ، ثم على هذه القراءة ففيه أيضاً قراءتان : ومن عنده علم الكتاب ، والمراد العلم الذي هو ضد الجهل ، أي هذا العلم إنما حصل من عند الله.
والقراءة الثانية : ومن عنده علم الكتاب بضم العين وبكسر اللام وفتح الميم على ما لم يسم فاعله/ والمعنى : أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله تعالى على ما ذكرناه ، وكان لا معنى لشهادة الله تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بما في القرآن وأسراره ، بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله ، والمعنى : أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا إذا شرف الله تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن. والله تعالى أعلم بالصواب.
/ تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى وستمائة. وأنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا وانتفع به أن يخص ولدي محمداً بالرحمة والغفران ، وأن يذكرني بالدعاء. وأقول في مرثية ذلك الولد شعراً :
أرى معالم هذا العالم الفاني
ممزوجة بمخافات وأحزان
خيراته مثل أحلام مفزعة
وشره في البرايا دائم داني
جزء : 19 رقم الصفحة : 56
56
(1/2611)

سورة إبراهيم
مكية إلا آيتي 28 و29 فمدنيتان
وآياتها 52 نزلت بعد سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 19 رقم الصفحة : 56
58
سورة إبراهيم
عليه السلام خمسون وآيتان مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
/ اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد. ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء ، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ فيكون فيه فائدة عظيمة وقوله : {الارا كِتَابٌ} معناه أن السورة المسماة بالر كتاب أنزلناه إليك لغرض كذا وكذا فقوله : {الر} مبتدأ وقوله : {كِتَابٌ} خبره وقوله : {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} صفة لذلك الخبر وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلاً من عند الله تعالى. قالت المعتزلة : النازل والمنزل لا يكون قديماً.
/ وجوابنا : أن الموصوف بالنازل والمنزل هو هذه الحروف وهي محدثة بلا نزاع.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : اللام في قوله : {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} لام الغرض والحكمة ، وهذا يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض ، وذلك يدل على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية المصالح.
أجاب أصحابنا عنه بأن من فعل فعلاً لأجل شيء آخر فهذا إنما يفعله لو كان عاجزاً عن تحصيل هذا المقصود إلا بهذه الواسطة وذلك في حق الله تعالى محال ، وإذا ثبت بالدليل أن يمتنع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل ثبت أن كل ظاهر أشعر به فإنه مؤول محمول على معنى آخر.
المسألة الثالثة : إنما شبه الكفر بالظلمات لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية وشبه الإيمان بالنور لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته.
(1/2612)

المسألة الرابعة : قال القاضي : هذه الآية فيها دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات : أحدها : أنه تعالى لو كان يخلق الكفر في الكافر فكيف يصح إخراجه منه بالكتاب. وثانيها : أنه تعالى أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم فإن كان خالق ذلك الكفر هو الله تعالى فكيف يصح من الرسول عليه الصلاة والسلام إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول : إنك تقول : إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصح منك أن تخرجنا منه فإن قال لهم : أنا أخرجكم من الظلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع ، فلهم أن يقولوا : إن كان تعالى سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج وإن لم يخلقه فنحن خارجون منه بلا إخراج. وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلّم إنما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليهم ليتدبروه وينظروا فيه فيعلموا بالنظر والاستدلال كونه تعالى عالماً قادراً حكيماً ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلى الله عليه وسلّم وحينئذ يقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع ، وذلك لا يصح إلا إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم ، ويصح منهم أن يقدموا عليه ويتصرفوا فيه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 58
والجواب عن الكل أن نقول : الفعل الصادر من العبد إما أن يصدر عنه حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر ، والأول : باطل ، لأن صدور الفعل رجحان لجانب الوجود على جانب العدم ، وحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال. والثاني : عين قولنا لأنه يمتنع صدور الفعل عنه إلا بعد حصول الرجحان ، فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال ، وإن لم يكن منه بل من الله تعالى ، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم.
/ المسألة الخامسة : احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله تعالى : {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} فإن معنى الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم ، والمراد بهذا الإذن إما الأمر ، وإما العلم ، وإما المشيئة والخلق. وحمل الإذن على الأمر محال ، لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر ، فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل ، فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق ، وأيضاً حمل الإذن على العلم محال ، لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق ، وذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف.
قلنا : لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه فنقول : المراد بالإذن إما أن يكون أمراً يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم أو لا يقتضي ذلك ، فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر ألبتة ، فامتنع أن يقال : إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم. وقد دللنا في "الكتب العقلية" على أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو عين قولنا والله أعلم.
المسألة السادسة : القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلّم والإمام ، احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا : إنه تعالى صرح في هذه الآية بأن الرسول هو الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وذلك يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 58
وجوابنا : أن الرسول صلى الله عليه وسلّم يكون كالمنبه ، وأما المعرفة فهي إنما تحصل بالدليل والله أعلم.
المسألة السابعة : الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وأن طريق الخير ليس إلا الواحد ، لأنه تعالى قال : {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد ، وذلك يدل على أن طرق الجهل كثيرة ، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا الواحد.
المسألة الثامنة : في قوله تعالى : {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وجهان الأول : أنه بدل من قوله / إلى النور بتكرير العامل كقوله : {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} . (الأعراف : 75) الثاني : يجوز أن يكون على وجه الاستئناف كأنه قيل : إلى أي نور فقيل : {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .
(1/2613)

المسألة التاسعة : قالت المعتزلة : الفاعل إنما يكون آتياً بالصواب والصلاح ، تاركاً للقبيح والعبث إذا كان قادراً على كل المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات ، فإنه إن لم يكن قادراً على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز ، وإن لم يكن عالماً بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل ، وإن لم يكن غنياً عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة ، أما إذا كان قادراً على الكل عالماً الكل غنياً عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح ، فقوله : {الْعَزِيزُ} إشارة إلى كمال القدرة ، وقوله : {الْحَمِيدِ} إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد في كل أفعاله ، وذلك إنما يحصل إذا كان عالماً بالكل غنياً عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفاً بكونه شريفاً رفيعاً عالياً لكونه صراطاً مستقيماً للإله الموصوف بكونه عزيزاً حميداً/ فلهذا المعنى : وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام.
المسألة العاشرة : إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد ، لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً ، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً ، ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات ، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني ، فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 58
61
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر {اللَّهِ} مرفوعاً بالابتداء وخبره ما بعده ، وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفاً على قوله : {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وههنا بحث ، وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا : الله جار مجرى الإسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أن لفظ مشتق / والحق عندنا هو الأول. ويدل عليه وجوه : الأول : أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه ، فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد ، والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق ، فلو كان قولنا الله اسماً مشتقاً من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه ، وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه ، فلو كان قولنا الله لفظاً مشتقاً لكان مفهومه صالحاً لوقوع الشركة فيه ، ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجباً للتوحيد ، لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جارٍ مجرى الاسم العلم. الثاني : أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولاً قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت. الثالث : أن ما سوى قولنا الله كلها دالة ، إما على الصفات السلبية ، كقولنا : القدوس السلام ، أو على الصفات الإضافية ، كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا : العالم القادر ، أو على ما يتركب من هذه الثلاثة ، فلو لم يكن قولنا : الله اسماً للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظاً دالة على صفاته ، ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد ، لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص. والرابع : قوله تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله ، وذلك يدل على أن قولنا : الله اسم لذاته المخصوصة ، وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى : {هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } (الحشر : 24) فإما أن يعكس فيقال : هو الخالق المصور البارىء الله ، فذلك غير جائز.
جزء : 19 رقم الصفحة : 61
(1/2614)

وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤا : {اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ} بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله : {اللَّهِ} مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبراً عنه وهذا هو الحق الصحيح ، فأما الذين قرؤا : {اللَّهِ} بالجر عطفاً على : {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق. وإما أن يقال : الخالق الله فهذا لا يحسن ، وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه : الأول : قال أبو عمرو بن العلاء : القراءة بالخفض على التقديم والتأخير ، والتقدير : صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات. والثاني : أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولاً ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال : مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله : {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ} وتحقيق القول فيه : أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحاً محموداً إذا كان صراطاً للعالم القادر الغني ، والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله : {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت / الشبهة في أن ذلك العزيز من هو ؟
فعطف عليها قوله : {اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } إزالة لتلك الشبهة. الثالث : قال صاحب "الكشاف" : الله عطف بيان للعزيز الحميد ، وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم. الرابع : قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جارياً مجرى الإسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم ، وأما في هذه الآية حيث جعل وصفاً للعزيز الحميد ، فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظاً مشتقاً فلا جرم بقي صفة. الخامس : أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزاً حميداً فلما قال : {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن ، فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال : {اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
جزء : 19 رقم الصفحة : 61
المسألة الثانية : قوله : {اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة ، وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء ، فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق ، لكان حاصلاً في السماء ، وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه ، فلزم كونه ملكاً لنفسه وهو محال ، فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال : {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له ، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى ، وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى ، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال.
واعلم أن قوله تعالى : {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال : {وَوَيْلٌ لِّلْكَـافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} والمعنى : أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضراً ولا نفعاً ويخلق ولا يخلق ، ولا إدراك لها ولا فعل ، فالويل ثم الويل لمن كان كذلك ، وإنما خص هؤلاء بالويل ، لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه. ونظيره قوله تعالى : {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (الفرقان : 13) ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي / يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع : الأول : قوله : {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إن شئت جعلت "الذين" صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله : { أولئك } وإن شئت نصبته على الذم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 61
(1/2615)

المسألة الثانية : الاستحباب طلب محبة الشيء ، وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محباً لذلك الشيء ، مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محباً لهما/ أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له ، وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله : {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية ، ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلاً عن الحياة الأخروية ، وعن معايب هذه الحياة العاجلة ، ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة ، وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب. فأحدها : أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام والغموم والهموم والمخاوف والأحزان. وثانيها : أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام ، بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات. وثالثها : أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء. ورابعها : أنها حقيرة قليلة ، وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلاً عن معايبها وكان غافلاً عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية ، ولذلك قال تعالى : {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (الأعلى : 17) فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه.
المسألة الثالثة : إنما قال : {يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ} لأن فيه إضماراً ، والتقدير : يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة ، فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموماً إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة ، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموماً حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة.
النوع الثاني : من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى : {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه } .
واعلم أن من كان موصوفاً باستحباب الدنيا فهو ضال ، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل ، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين ، وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين.
والنوع الثالث : من تلك الصفات قوله : {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } واعلم أن الإضلال على مرتبتين :
جزء : 19 رقم الصفحة : 61
المرتبة الأولى : أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم.
/ والمرتبة الثانية : أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل ، وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال ، وإليه الإشارة بقوله : {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } قال صاحب "الكشاف" الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجاً ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم : { أولئك فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه :
الوجه الأول : أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق ، فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد ، مثل السواد والبياض ، فكذا ههنا الضلال الذي يكون واقعاً على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال.
والوجه الثاني : أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى ، لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم.
والوجه الثالث : أن يكون المراد من الضلال الهلاك ، والتقدير : أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع ، وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 61
64
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم : 1) كان هذا إنعاماً على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم ، وإنعاماً أيضاً على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان ، فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين. أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق ، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل ، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق ، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم ، فإنه متى / كان الأمر كذلك ، كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل ، وعن الغلط والخطأ أبعد. فهذا هو وجه النظم.
(1/2616)

المسألة الثانية : احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية. قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل ، وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم ، وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف ، فوجب حصولها بالإصطلاح.
المسألة الثالثة : زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمداً رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف ، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب ، ومن لا يكون عربياً لم يكن القرآن حجة عليه. الثاني : قالوا : إن قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه } (إبراهيم : 4) المراد بذلك اللسان لسان العرب ، وذلك يقتضي أن يقال : إنه ليس له قوم سوى العرب ، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط.
والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد من {قَوْمِه } أهل بلده ، وليس المراد من {قَوْمِه } أهل دعوته. والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى : {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف : 158) بل إلى الثقلين ، لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء : 88).
جزء : 19 رقم الصفحة : 64
المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا بقوله تعالى : {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } على أن الضلال والهداية من الله تعالى ، والآية صريحة في هذا المعنى. قال الأصحاب : ومما يؤكد هذا المعنى ما روي : أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال عليه السلام "ما هذا" فقال بعضهم : يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ، ويقول : عمر كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر ، فتعرف الرسول صلى الله عليه وسلّم ما قاله أبو بكر ، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ، ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال : "أقضي بينكما كما قضى به اسرافيل بين جبريل وميكائيل/ قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما" قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } والمعنى : أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم ، فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم / على المقصود والغرض أكمل ، وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين ، فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود. والثاني : أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم ، فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك ، وما المقصود من إرسالك ، وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل. الثالث : أنه إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى ومشيئته ، وجب أن يكون الرضا به واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، وذلك لا يقوله عاقل. والرابع : أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله : {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم : 1) يدل على مذهب العدل ، وأيضاً مؤخرة الآية يدل عليه ، وهو قوله : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ومريداً لها ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله : {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل ، وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا } (البقرة : 26) ولا بأس بإعادة بعضها ، فالأول : أن المراد بالإضلال : هو الحكم بكونه كافراً ضالاً كما يقال : فلان يكفر فلاناً ويضلله ، أي يحكم بكونه كافراً ضالاً ، والثاني : أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار ، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة. والثالث : أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله ، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه. قال صاحب "الكشاف" : المراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف.
(1/2617)

جزء : 19 رقم الصفحة : 64
والجواب عن قولهم أولاً أن قوله تعالى : {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} لا يليق به أن يضلهم.
قلنا : قال الفراء : إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر ، فإن كان الفعل الثاني مشاكلاً للأول نسقته عليه ، وإن لم يكن مشاكلاً له استأنفته ورفعته. ونظيره قوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ} (التوبة : 32) فقوله : {وَيَأْبَى اللَّهُ} في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ، لأنه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف ، ونظيره أيضاً قوله : {لِّنُبَيِّنَ لَكُم وَنُقِرُّ فِى الارْحَامِ} (الحج : 5) ومن ذلك قولهم : أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه ، ومثله قول الشاعر :
يريد أن يعربه فيعجمه
إذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال تعالى : {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} ثم قال : {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ} ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وأقول تقرير هذا / الكلام من حيث المعنى ، كأنه تعالى قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه/ ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى. أما قوله ثانياً : لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له : ما الفائدة في بيانك ودعوتك ؟
فنقول : يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً ، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً. وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان ، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه. وأما قوله ثالثاً : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً ، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا : ويلزمك أيضاً على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله ، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا ، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً. وأما قوله رابعاً : إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى : {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم : 1) يدل على صحة الاعتزال فنقول : قد ذكرنا أن قوله : {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} يدل على صحة مذهب أهل السنة. وأما قوله خامساً : أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له. فنقول : وقد وصف نفسه بكونه عزيزاً والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم ، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالباً. فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة ، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 64
66
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلّم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة ، أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم وكيفية معاملة أقوامهم معهم تصبيراً للرسول عليه السلام على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم السلام فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام ، فقال : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِـاَايَـاتِنَآ} قال الأصم : آيات موسى عليه السلام هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل وإنزال المن والسلوى. وقال الجبائي : أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى قومه من بني إسرائيل بآياته وهي دلالاته وكتبه المنزلة عليه ، وأمره أن يبين لهم الدين. وقال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلّم : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم : 1) وقال في حق موسى عليه السلام : {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} والمقصود : بيان أن المقصود من البعثة واحد في حق جميع الأنبياء عليهم السلام ، وهو أن يسعوا في إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.
(1/2618)

المسألة الثانية : قال الزجاج : قوله : {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} أي بأن أخرج قومك. ثم قال : {ءَانٍ} ههنا تصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي ، ويكون المعنى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي أخرج قومك ، كأن المعنى قلنا له : أخرج قومك. ومثله قوله : {وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } (ص : 6) أي أمشوا ، والتأويل قيل لهم : امشوا ، وتصلح أيضاً أن تكون المخففة التي هي للخبر ، والمعنى : أرسلناه بأن يخرج قومه إلا أن الجار حذف ووصلت (أن) بلفظ الأمر ، ونظيره قولك : كتبت إليه أن قم وأمرته أن قم ، ثم إن الزجاج حكى هذين القولين عن سيبويه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 66
أما قوله : {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّـاـامِ اللَّه } فاعلم أنه تعالى أمر موسى عليه السلام في هذا المقام بشيئين : أحدهما : أن يخرجهم من ظلمات الكفر ، والثاني : أن يذكرهم بأيام الله ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الواحدي : أيام جمع يوم ، واليوم هو مقدار المدة من طلوع الشمس إلى غروبها ، وكانت الأيام في الأصل أيوام فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون ، فأدغمت إحداهما في الأخرى وغلبت الياء.
المسألة الثانية : أنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها. يقال : فلان عالم بأيام العرب ويريد وقائعها وفي المثل من ير يوماً ير له معناه من رؤي في يوم مسروراً بمصرع غيره ير في يوم آخر حزيناً بمصرع نفسه وقال تعالى : {وَتِلْكَ الايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران : 140).
إذا عرفت هذا ، فالمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد/ فالترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في سائر ما سلف من الأيام ، والترهيب والوعيد : أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام ، مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ، ليرغبوا في الوعد فيصدقوا ويجذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب.
واعلم أن أيام الله في حق موسى عليه السلام منها ما كان أيام المحنة والبلاء وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى وانفلاق البحر وتظليل الغمام.
ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} والمعنى أن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صباراً شكوراً ، لأن الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول ، كان المؤمن صباراً ، وإن كان الثاني كان شكوراً. وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولاً بالشكر ، وإن جرى ما لا يلائم طبعه كان مشغولاً بالصبر.
فإن قيل : إن ذلك التذكيرات آيات للكل فلماذا خص الصبار الشكور بها ؟
قلنا : فيه وجوه : الأول : أنهم لما كانوا هم المنتفعون بتلك الآيات صارت كأنها ليست آيات إلا لهم كما في قوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وقوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} . والثاني : لا يبعد أن يقال : الانتفاع بهذا النوع من التذكير لا يمكن حصوله إلا لمن كان صابراً أو شاكراً ، أما الذي لا يكون كذلك لم ينتفع بهذه الآيات.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 66
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهم بأيام الله تعالى ، حكى عن موسى عليه السلام أنه ذكرهم بها فقال : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ} فقوله : {إِذْ أَنجَـاكُم} ظرف للنعمة بمعنى الأنعام ، أي اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت. بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : ذكر في سورة البقرة : {يُذَبِّحُونَ} (البقرة : 49) وفي سورة الأعراف : {يَقْتُلُونَ} (الأعراف : 41) وههنا {وَيُذَبِّحُونَ} مع الواو فما الفرق ؟
والجواب : قال تعالى في سورة البقرة : {يُذَبِّحُونَ} بغير واو لأنه تفسير لقوله : {سُواءُ الْعَذَابِ} وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو تقول : أتاني القوم زيد وعمرو. لأنك أردت أن تفسر القوم بهما ومثله قوله تعالى : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَـاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} (الفرقان : 68 ، 69) فالآثام لما صار مفسراً بمضاعفة العذاب لا جرم حذف عنه الواو ، أما في هذه السورة فقد أدخل الواو فيه ، لأن المعنى أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضاً فقوله : {وَيُذَبِّحُونَ} نوع آخر من العذاب لا أنه تفسير لما قبله.
السؤال الثاني : كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم ؟
(1/2619)

والجواب من وجهين : أحدهما : أن تمكين الله إياهم حتى فعلوا ما فعلوا كان بلاء من الله. والثاني : وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء ، وهو بلاء عظيم ، والبلاء هو الابتلاء ، وذلك قد يكون بالنعمة تارة ، وبالمحنة أخرى ، قال تعالى : {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } (الأنبياء : 35) وهذا الوجه أولى لأنه يوافق صدر الآية وهو قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
السؤال الثالث : هب أن تذبيح الأبناء كان بلاء ، أما استحياء النساء كيف يكون بلاء.
الجواب : كانوا يستخدمونهن بالاستحياء في الخلاص منه نعمة/ وأيضاً إبقاؤهن منفردات عن الرجال فيه أعظم المضار.
جزء : 19 رقم الصفحة : 66
67
اعلم أن قوله : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ، ومعنى {تَأَذَّنَ} أذن ربكم. ونظير تأذن وآذن توعد وأوعد وتفضل وأفضل ، ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل ، كأنه قيل : وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً ينتفي عنده الشكوك ، وتنزاح الشبهة ، والمعنى : وإذ تأذن ربكم. فقال : {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ} / فأجرى {تَأَذَّنَ} مجرى قال لأنه ضرب من القول ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَـاـاِن شَكَرْتُمْ} .
واعلم أن المقصود من الآية بيان أن من اشتغل بشكر نعم الله زاده الله من نعمه ، ولا بد ههنا من معرفة حقيقة الشكر ومن البحث عن تلك النعم الزائدة الحاصلة عن الاشتغال بالشكر ، أما الشكر فهو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة ، وأما الزيادة في النعم فهي أقسام : منها النعم الروحانية ، ومنها النعم الجسمانية ، أما النعم الروحانية فهي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه ، ومن كثر إحسانه إلى الرجل أحبه الرجل لا محالة ، فشغل النفس بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه يوجب تأكد محبة العبد لله تعالى ، ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين ، ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة ، ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته ، فثبت أن الاشتغال بالشكر يوجب مزيد النعم الروحانية ، وأما مزيد النعم الجسمانية ، فلأن الاستقراء دل على أن من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر ، كان وصول نعم الله إليه أكثر ، وبالجملة فالشكر إنما حسن موقعه ، لأنه اشتغال بمعرفة المعبود وكل مقام حرك العبد من عالم الغرور إلى عالم القدس ، فهو المقام الشريف العالي الذي يوجب السعادة في الدين والدنيا.
وأما قوله : {وَلَـاـاِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} فالمراد منه الكفران ، لا الكفر ، لأن الكفر المذكور في مقابلة الشكر ليس إلا الكفران ، والسبب فيه أن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمة من الله ، والجاهل بها جاهل بالله ، والجهل بالله من أعظم أنواع العقاب والعذاب وأيضاً فههنا دقيقة أخرى وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فوجوده إنما يحصل بإيجاد الواجب لذاته ، وعدمه إنما يحصل بإعدام الواجب لذاته ، وإذا كان كذلك فكل ما سوى الحق فهو منقاد للحق مطواع له ، وإذا كانت الممكنات بأسرها منقادة للحق سبحانه فكل قلب حضر فيه نور معرفة الحق وشرف جلاله ، انقاد لصاحب ذلك القلب ما سواه ، لأن حضور ذلك النور في قلبه يستخدم كل ما سواه بالطبع ، وإذا خلا القلب عن ذلك النور ضعف وصار خسيساً فيستخدمه كل ما سواه ويستحقره كل ما يغايره فبهذا الطريق الذوقي يحصل العلم بأن الاشتغال بمعرفة الحق يوجب انفتاح أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة ، وأما الإعراض عن معرفة الحق بالاشتغال بمجرد الجسمانيات يوجب انفتاح أبواب الآفات والمخافات في الدنيا والآخرة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 67
70
(1/2620)

/ اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة ، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد ، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة ، بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران ، فلا جرم قال تعالى : {وَقَالَ مُوسَى ا إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود ، والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله : {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ} وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته ، فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته ، لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنياً ، وقد فرضناه غنياً هذا خلف ، فثبت أن كونه غنياً يوجب كونه واجب الوجود في ذاته ، وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته ، كان أيضاً واجب الوجود بحسب جميع كمالاته ، إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال ، لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل ، فحينئذ لا يكون غنياً ، وقد فرضناه غنياً هذا خلف ، فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته ، وإذا كان الأمر كذلك كان حميداً لذاته ، لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد ، فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنياً حميداً يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين ، ولا ينتقص بكفران الكافرين ، فلهذا المعنى قال : {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} وهذه المعاني من لطائف الأسرار.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 70
واعلم أن قولنا : {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا} سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر ، فالمعنى لا يتفاوت ألبتة ، فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله.
ثم إنه تعالى قال : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } وذكر أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً من موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم ، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى ، والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين ، وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه اتبداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلّم.
واعلم أنه تعالى ذكر أقواماً ثلاثة ، وهم : قوم نوح وعاد وثمود.
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِم لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّه } وذكر صاحب "الكشاف" فيه احتمالين : الأول : أن يكون قوله : {وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِم لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّه } جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً. والثاني : أن يقال قوله : {وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِمْ } معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله : {لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّه } فيه قولان :
القول الأول : أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله ، لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل.
والقول الثاني : أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ، ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد ، وعن ابن عباس : بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَقُرُونَا بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيرًا} (الفرقان : 38) وقوله : {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } (عافر : 78) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد. وقال : "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق" قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت ، لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضاً تحصيل العلم بالأنساب الموصولة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 70
فإن قيل : أي القولين أولى ؟
(1/2621)

قلنا : القول الثاني عندي أقرب ، لأن قوله تعالى : {لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّه } نفى العلم بهم ، وذلك يقتضي / نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة ، وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم ، ولما كان ظاهر الآية دليلاً على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني ، ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور : أولها : قوله : {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ} وفي معناه قولان : الأول : أن المراد باليد والفم الخارجتان المعلومتان ، والثاني : أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازاً وتوسعاً. أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يكون الضمير في {أَيْدِيهِمْ} و{أَفْوَاهِهِمْ } عائداً إلى الكفار ، وعلى هذا ففيه احتمالات : الأول : أن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم ، ونظيره قوله تعالى : {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الانَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } (آل عمران : 119) وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن مسعود رحمهما الله تعالى ، وهو اختيار القاضي. والثاني : أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية ، فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك فوضع يده على فيه ، والثالث : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث ، وهذا مروي عن الكلبي. والرابع : أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به ، أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه ، وليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق ألا ترى إلى قوله : {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه } .
الوجه الثاني : أن يكون الضميران راجعين إلى الرسل عليهم السلام وفيه وجهان : الأول : أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. الثاني : أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم فإن من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم/ فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه وغرضه أن يعرفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكرم ألبتة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 70
الوجه الثالث : أن يكون الضمير في أيديهم يرجع إلى الكفار وفي الأفواه إلى الرسل وفيه وجهان : الأول : أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام ونصائحهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيباً لهم ورداً عليهم. والثاني : أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء عليهم السلام منعاً لهم من الكلام ، ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك. أما على القول الثاني : وهو أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز ففيه وجوه :
/ الوجه الأول : قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج وذلك لأن اسماع الحجة انعام عظيم والإنعام يسمى يداً. يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفاً ، وقد يذكر اليد. المراد منها صفقة البيع والعقد كقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (الفتح : 10) فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد ، وأيضاً العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادي وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي وفي العدد الكثير هو الأيادي ، فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي ، وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظيره قوله تعالى : {إِذْ تَلَقَّوْنَه بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِه عِلْمٌ} (النور : 15) فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع رداً في الأفواه ، فهذا تمام كلام أبي مسلم في تقرير هذا الوجه.
الوجه الثاني : نقل محمد بن جرير عن بعضهم أن معنى قوله : {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ} أنهم سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب ، رد يده في فيه وتقول العرب كلمت فلاناً في حاجة فرد يده في فيه إذا سكت عنه فلم يجب ، ثم إنه زيف هذا الوجه وقال : إنهم أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا : {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه } .
الوجه الثالث : المراد من الأيدي نعم الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولما كذبوا الأنبياء فقد عرضوا تلك النعم للإزالة والإبطال فقوله : {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ} أي ردوا نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكلمات التي صدرت عن أفواههم ولا يبعد حمل "في" على معنى الباء لأن حروف الجر لا يمتنع إقامة بعضها مقام بعض.
(1/2622)

جزء : 19 رقم الصفحة : 70
النوع الثاني : من الأشياء التي حكاها الله تعالى عن الكفار قولهم : {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه } والمعنى : إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم فيه لأنهم ما أقروا بأنهم أرسلوا.
واعلم أن المرتبة الأولى هو أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام وحاولوا اسكات الأنبياء عن تلك الدعوى ، وهذه المرتبة الثانية أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة.
والنوع الثالث : قولهم : {وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} قال صاحب "الكشاف" : وقرىء {تَدْعُونَآ} بادغام النون {مُرِيبٍ} موقع في الريبة أو ذي ريبة من أرابه ، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
فإن قيل : لما ذكروا في المرتبة الثانية أنهم كافرون برسالتهم كيف ذكروا بعد ذلك كونهم شاكين مرتابين في صحة قولهم ؟
/ قلنا : كأنهم قالوا إما أن نكون كافرين برسالتكم أو أن ندع هذا الجزم واليقين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم ، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 70
74
اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسل {وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (إبراهيم : 9). قالت رسلهم : وهل تشكون في الله ، وفي كونه فاطر السموات والأرض وفاطراً لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها ، فكيف قلتم : وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ؟
وهذا النظم في غاية الحسن. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {أَفِى اللَّهِ شَكٌّ} استفهام على سبيل الإنكار ، فلما ذكر هذا المعنى أردفه بالدلالة الدالة على وجود الصانع المختار ، وهو قوله : {فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن وجود السموات والأرض كيف يدل على احتياجه إلى الصانع المختار الحكيم مراراً وأطواراً فلا نعيدها ههنا.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : أدخلت همزة الإنكار على الظرف ، لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في أن وجود الله تعالى لا يحتمل الشك ، وأقول من الناس من ذهب إلى أنه قبل الوقوف على الدلائل الدقيقة فالفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار ، ويدل على أن الفطرة الأولية شاهدة بذلك وجوه :
الوجه الأول : قال بعض العقلاء : إن من لطم على وجه صبي لطمة فتلك اللطمة تدل على / وجود الصانع المختار ، فلأن الصبي العاقل إذا وقعت اللطمة على وجهه يصيح ويقول : من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها ، ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى ، وأما دلالتها على وجوب التكليف ، فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول : لم ضربني ذلك الضارب ؟
وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي فعل شاء واشتهى ، وأما دلالتها على وجوب حصول دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى ، وأما دلالتها على وجوب النبوة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام ، فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأمور الأربعة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 74
الوجه الثاني : في التنبيه على أن الإقرار بوجود الصانع بديهي هو أن الفطرة شاهد بأن حدوث دار منقوشة بالنقوش العجيبة ، مبنية على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاش عالم ، وبان حكيم ، ومعلوم أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار النقش إلى النقاش ، والبناء إلى الباني ، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى.
الوجه الثالث : أن الإنسان إذا وقع في محنة شديدة وبلية قوية لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد ، فكأنه بأصل خلفته ومقضتى جبلته يتضرع إلى من يخلصه منها ويخرجه عن علائقها وحبائلها وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالإفتقار إلى الصانع المدبر.
(1/2623)

الوجه الرابع : أن الموجود إما أن يكون غنياً عن المؤثر أو لا يكون ، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ، فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره. وإن لم يكن غنياً عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار.
/ الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجود الإله المختار المكلف ، وبوجود المعاد أحوط ، فوجب المصير إليه فهذه مراتب أربعة : أولها : أن الإقرار بوجود الإله أحوط ، لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار. وثانيها : الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً لأنه لو كان موجباً فلا ضرر في الإقرار بكونه مختاراً. أما لو كان مختاراً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار. وثالثها : الإقرار بأنه كلف عباده ، لأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد ، أما إنه لو كلف ففي إنكار تلك التكاليف أعظم المضار. ورابعها : الإقرار بوجود المعاد فإنه إن كان الحق أنه لا معاد فلا ضرر في الإقرار بوجوده ، لأنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية وهي حقيرة ومنقوصة وإن كان الحق هو وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه ، لأن بديهة العقل حاكمة بأنه يجب دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان.
جزء : 19 رقم الصفحة : 74
المسألة الثالثة : لما أقام الدلالة على وجود الإله بدليل كونه فاطر السموات والأرض وصفه بكمال الرحمة والكرم والجود وبين ذلك من وجهين ، الأول : قوله : {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} قال صاحب "الكشاف" : لو قال قائل ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم ، ثم أجاب فقال : ما جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين ، كقوله : {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} (نوح : 3 ، 4). {طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَـاقَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِه يَغْفِرْ لَكُم مِّن} (الأحقاف : 31) وقال في خطاب المؤمنين : {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الصف : 10) إلى أن قال : {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران : 31) والاستقراء يدل على صحة ما ذكرناه ، ثم قال : وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولئلا يسوي بين الفريقين في المعاد ، وقيل : إنه أراد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. هذا كلام هذا الرجل ، وقال الواحدي في "البسيط" ، قال أبو عبيدة (من) زائدة ، وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب ، وإذا قلنا إنها ليست زائدة فههنا وجهان : أحدهما : أنه ذكر البعض ههنا وأريد به الجميع توسعاً. والثاني : أن (من) ههنا للبدل والمعنى لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب فدخلت من لتضمن المغفرة معنى البدل من السيئة ، وقال القاضي : ذكر الأصم أن كلمة (من) ههنا تفيد التبعيض ، والمعنى أنكم إذا تبتم فإنه يغفر لكم الذنوب التي هي من الكبائر ، فأما التي تكون من باب الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة ، قال القاضي : وقد أبعد في هذا التأويل ، لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وإنما تكون الصغيرة مغفورة من المؤمنين الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابها فأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا يكون شيء / منها مغفوراً. ثم قال وفيه وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإنابته فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه فهذا جملة أقوال الناس في هذه الكلمة.
المسألة الرابعة : أقول هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يغفر الذنوب من غير توبة في حق أهل الإيمان والدليل عليه أنه قال : {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة ، فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة وذلك البعض ليس هو الكفر لإنعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان فوجب أن يكون البعض الذي يغفر له من غير التوبة هو ما عد الكفر من الذنوب.
جزء : 19 رقم الصفحة : 74
(1/2624)

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال كلمة (من) صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول : المراد من البعض ههنا هو الكل على ما قاله الواحدي. أو نقول : المراد منها إبدال السيئة بالحسنة على ما قاله الواحدي أيضاً أو نقول : المراد منه تمييز المؤمن عن الكافر في الخطاب على ما قاله صاحب "الكشاف" أو نقول : المراد منه تخصيص هذا الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم. أو نقول : المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند الدخول في الإيمان على ما قاله القاضي ، فنقول : هذه الوجوه بأسرها ضعيفة أما قوله : إنها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد ، والعاقل لا يجوز المصير إليه من غير ضرورة ، فأما قول الواحدي : المراد من كلمة (من) ههنا هو الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة لأن حاصله أن قوله : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} هو أنه يغفر لكم ذنوبكم وهذا عين ما نقله عن أبي عبيدة ، وحكي عن سيبويه إنكاره ، وأما قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة فليس في اللغة أن كلمة من تفيد الإبدال ، وأما قول صاحب "الكشاف" : المراد تمييز خطاب المؤمن عن خطاب الكافر بمزيد التشريف فهو من باب الطامات ، لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإن لم يحصل كان هذا الجواب فاسداً ، وأما قول الأصم فقد سبق إبطاله ، وأما قول القاضي فجوابه : أن الكافر إذا أسلم صارت ذنوبه بأسرها مغفورة لقوله عليه السلام : "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" فثبت أن جميع ما ذكروه من التأويلات تعسف ساقط بل المراد ما ذكرنا أنه تعالى يغفر بعض ذنوبه من غير توبة وهو ما عدا الكفر ، وأما الكفر فهو أيضاً من الذنوب وأنه تعالى لا يغفره إلا بالتوبة ، وإذا ثبت أنه تعالى يغفر كبائر كافر من غير توبة بشرط أن يأتي بالإيمان فبأن تحصل هذه الحالة للمؤمن كان أولى ، هذا ما خطر بالبال على سبيل الارتجال والله أعلم بحقيقة الحال.
النوع الثاني : مما وعد الله تعالى به في هذه الآية قوله : {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى } وفيه / وجهان : الأول : المعنى أنكم إن آمنتم أخر الله موتكم إلى أجل مسمى وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال. الثاني : قال ابن عباس : المعنى يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت.
فإن قيل : أليس إنه تعالى قال : {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةًا وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف : 34) فكيف قال ههنا : {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى } .
جزء : 19 رقم الصفحة : 74
قلنا : قد تكلمنا في هذه المسألة في سورة الأنعام في قوله : {ثُمَّ قَضَى ا أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَه } (الأنعام : 2) ثم حكى تعالى أن الرسل لما ذكروا هذه الأشياء لأولئك الكفار قالوا : {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى } .
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنوع من الشبه :
فالشبهة الأولى : أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد ، وهو أن يكون الواحد منهم رسولاً من عند الله مطلعاً على الغيب مخالطاً لزمرة الملائكة ، والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون : إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة ، وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة ، وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع ، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم : {إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} .
والشبهة الثانية : التمسك بطريقة التقليد ، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان. قالوا ويبعد أن يقال : إن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خواطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين ، وأن الرجل الواحد عرف فساده ووقف على بطلانه ، والعوام ربما زادوا في هذا الباب كلاماً آخر ، وذلك أن الرجل العالم إذا بين ضعف كلام بعض المتقدمين قالوا له إن كلامك إنما يظهر صحته لو كان المتقدمون حاضرين ، أما المناظرة مع الميت فسهلة ، فهذا كلام يذكره الحمقى والرعاع وأولئك الكفار أيضاً ذكروه ، وهذه الشبهة هي المراد من قوله : {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا} .
والشبهة الثالثة : أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلاً ، وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق ، إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة ، وأنها ليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر ، وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله : {فَأْتُونَا بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 74
76
/ اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة ، حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها.
(1/2625)

أما الشبهة الأولى : وهي قولهم : {إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فجوابه : أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك ، لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن الله به على من يشاء من عباده ، فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة.
واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق ، وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا : إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصاً بخواص شريفة علوية قدسية ، فإنه يمتنع عقلاً حصول صفة النبوة له. وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة ، فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من الله تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده ، ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية ، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية ، فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من الله تعالى والعطية منه ، والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق ، والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعاً منهم ، واقتصروا على قولهم : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } بالنبوة ، لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص ، كما قال تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124).
/ وأما الشبهة الثانية : وهي قولهم : إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقاً ، لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم ، فجوابه : عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى ، لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه ، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها.
جزء : 19 رقم الصفحة : 76
وأما الشبهة الثالثة : وهي قولهم : إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها ، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية.
فالجواب عنها : قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَـانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام ، فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها لله تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية. ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد ، وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام : لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله واعتمادنا على فضل الله ولعل الله سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي/ فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء وطورى الشدة والرخاء ، فلهذا السبب توكلوا على الله وعولوا على فضل الله وقطعوا أطماعهم عما سوى الله ، والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم : {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَاـانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا } يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية ، والمعارف الإلهية الربانية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على الله ، بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه ، فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكاً له أو ملكاً أو روحاً أو جسماً ، وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم ، ثم قالوا : {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا } فإن الصبر مفتاح الفرج ، ومطلع الخيرات ، والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً ، والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً ، ثم أعادوا قولهم :
جزء : 19 رقم الصفحة : 76
(1/2626)

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله / {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولاً ، ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه الله فصلاً حسناً وحاصله : أن الإنسان إما أن يكون ناقصاً أو كاملاً أو خالياً عن الوصفين ، أما الناقص فإما أن يكون ناقصاً في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره ، وإما أن يكون ناقصاً ويكون مع ذلك ساعياً في تنقيص حال الغير ، فالأول : هو الضال ، والثاني : هو الضال المضل ، وأما الكامل فإما أن يكون كاملاً ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء ، وإما أن يكون كاملاً ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك قال عليه السلام : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية ، لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان ، فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل ، والنبي هو الإنسان الكامل المكمل ، ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة ، وذلك مثل روح محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءاً من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد ، ومن التجسيم إلى التنزيه ، ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة ، فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم/ وقولهم في آخر الأمر ، وعلى الله فليتوكل المتوكلون ، إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن ، فمن نظر في علم القرآن وكان غافلاً عنها كان محروماً من أسرار علوم القرآن والله أعلم ، وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله : {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَـانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله تعالى لا عليها ، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 76
وأما قوله في آخر الآية : {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} المراد منه الأمر بالتوكل على الله في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم ، وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ} وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين ، وقيل أيضاً : الأول : ذكر لاستحداث التوكل. والثاني : للسعي في إبقائه وإدامته والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 76
80
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام ، أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته ، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا : {لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } والمعنى : ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا. والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين ، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة.
فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها.
قلنا : الجواب من وجوه :
الوجه الأول : أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشأوا في تلك البلاد وكانوا من تلك / القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار ، بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا : {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } .
الوجه الثاني : أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه.
(1/2627)

الوجه الثالث : لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال : إنهم كانوا قبل ذلك لوقت على دين أولئك الكفار.
الوجه الرابع : قال صاحب "الكشاف" : العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب.
الوجه الخامس : لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل ، ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر ، وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 80
الوجه السادس : لا يبعد أن يكون المعنى : أو لتعودن في ملتنا ، أي إلى ما كنتم عليه قبل إدعاء الرسالة من السكوت عن ذكر معايبة ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل والله أعلم.
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى : {فَأَوْحَى ا إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّـالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارْضَ مِنا بَعْدِهِمْ } قال صاحب "الكشاف" : {لَنُهْلِكَنَّ الظَّـالِمِينَ} حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه ، وقرأ أبو حيوة : بالياء اعتباراً لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن ، والمراد بالأرض {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ} ونظيره قوله : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا} (الأعراف : 137). {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ} (الأحزاب : 27) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "من آذى جاره أورثه الله داره" واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه : الأول : المراد موقفي وهو موقف الحساب ، لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ، ونظيره قوله : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه } (النازعات : 40) وقوله : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) / الثاني : أن المقام مصدر كالقيامة ، يقال : قام قياماً ومقاماً ، قال الفراء : ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله : {أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } (الرعد : 33). الثالث : {ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف ألبتة. الرابع : {ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول ، الخامس : {ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} أي لم خافني ، وذكر المقام ههنا مثل ما يقال : سلام الله على المجلس الفلاني العالي والمراد : سلام الله على فلان فكذا ههنا.
جزء : 19 رقم الصفحة : 80
ثم قال تعالى : {وَخَافَ وَعِيدِ} قال الواحدي : الوعيد اسم من أوعد إيعاداً وهو التهديد. قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب.
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً قوله : {ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} ثم عطف عليه قوله : {وَخَافَ وَعِيدِ} فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايراً للخوف من وعيد الله ، ونظيره : أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله ، وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق.
ثم قال : {وَاسْتَفْتَحُوا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : للاستفتاح ههنا معنيان : أحدهما : طلب الفتح بالنصرة ، فقوله : {وَاسْتَفْتَحُوا } أي واستنصروا الله على أعدائهم ، فهو كقوله : {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } (الأنفال : 19). والثاني : الفتح الحكم والقضاء ، فقول ربنا : {وَاسْتَفْتَحُوا } أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم ، وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} (الأعراف : 19).
(1/2628)

إذا عرفت هذا فنقول : كلا القولين ذكره المفسرون. أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل ، وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم : {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) وقال موسى : {رَبَّنَا اطْمِسْ} (يونس : 88) الآية. وقال لوط : {رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} (العنكبوت : 30) وأما على القول الثالث : وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ، ومنه قول كفار قريش : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} (الأنفال : 32). وكقول آخرين {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} (العنكبوت : 29).
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قوله : {وَاسْتَفْتَحُوا } معطوف على قوله : {فَأَوْحَى ا إِلَيْهِمْ} وقرىء واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله : {لَنُهْلِكَنَّ} أي أوحى إليهم ربهم ، وقال لهم : {لَنُهْلِكَنَّ} وقال لهم .
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 80
ثم قال تعالى : {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إن قلنا : المستفتحون هم الرسل ، كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وهم قومهم ؛ وإن قلنا : المستفتحون هم الكفرة ، فكان المعنى : أن الكفار استفتحوا على الرسل ظناً منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل.
المسألة الثانية : الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته. ومنه قوله تعالى : {وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} (مريم : 14) قال أبو عبيدة عن الأحمر : يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة ، وحكى الزجاج : الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والنجبار والجبرياء. قال الواحدي : فهي ثمان لغات في مصدر الجبار ، وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلّم فأمرها أمراً فأبت عليه فقال : "دعوها فإنها جبارة" أي مستكبرة ، وأما العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه ، قال النضر بن شميل : العنود الخلاف والتباعد والترك ، وقال غيره : أصله من العند وهو الناحية يقال : فلان يمشي عنداً ، أي ناحية ، فمعنى عاند وعند. أخذ في ناحية معرضاً ، وعاند فلان فلاناً إذا جانبه وكان منه على ناحية.
إذا عرفت هذا فنقول : كونه جباراً متكبراً إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيداً إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق ، وهو كونه مجانباً عن الحق منحرفاً عنه ، ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق ، كان خائباً عن كل الخيرات خاسراً عن جميع أقسام السعادات.
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جباراً عنيداً ، وصف كيفية عذابه بأمور : الأول : قوله : {مِّن وَرَآاـاِهِ جَهَنَّمُ} وفيه إشكال وهو أن المراد : أمامه جهنم ، فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام ؟
وأجابوا عنه من وجوه : الأول : أن لفظ "وراء" اسم لما يوارى عنك ، وقدام وخلف متوار عنك ، فصح إطلاق لفظ "وراء" على كل واحد منهما. قال الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً : الموت وراء كل أحد. الثاني : قال أبو عبيدة وابن السكيت : الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام ، والسبب فيه أن كل ما كان خلفاً فإنه يجوز أن ينقلب قداماً وبالعكس ، فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام ، ومنه قوله تعالى : {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ} (الكهف : 79) أي أمامهم ، / ويقال : الموت من وراء الإنسان. الثاني : قال ابن الأنباري "وراء" بمعنى بعد. قال الشاعر :
جزء : 19 رقم الصفحة : 80
وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد الله مذهب.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله : {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
ثم قال : {وَمِن وَرَآاـاِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي ومن بعده الخيبة يدخل جهنم.
النوع الثاني : مما ذكره الله تعالى من أحوال هذا الكافر قوله : {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُه وَلا يَكَادُ يُسِيغُه } وفيه سؤالات :
السؤال الأول : علام عطف {وَيُسْقَى } .
الجواب : على محذوف تقديره : من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى من ماء صديد.
السؤال الثاني : عذاب أهل النار من وجوه كثيرة ، فلم خص هذه الحالة بالذكر ؟
الجواب : يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله : {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } .
السؤال الثالث : ما وجه قوله : {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} .
(1/2629)

الجواب : أنه عطف بيان والتقدير : أنه لما قال : {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ} فكأنه قيل : وما ذلك الماء فقال : {صَدِيدٍ} والصديد ما يسيل جلود أهل النار. وقيل : التقدير ويسقى من ماء كالصديد. وذلك بأن يخلق الله تعالى في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة ، وهو أيضاً يكون في نفسه صديداً ، لأن كراهته تصد عن تناوله وهو كقوله : {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} (محمد : 15). {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَا بِئْسَ الشَّرَابُ} (الكهف : 29).
السؤال الرابع : ما معنى يتجرعه ولا يكاد يسيغه.
الجواب : التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار ، ويقال : ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً وأساغه إساغة. واعلم أن (يكاد) فيه قولان :
القول الأول : أن نفيه إثبات ، وإثباته نفي ، فقوله : {وَلا يَكَادُ يُسِيغُه } أي ويسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول : ما كدت أقوم ، أي قمت بعد إبطاء قال تعالى : {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (البقرة : 7) يعني فعلوا بعد إبطاء ، والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى : {يُصْهَرُ بِه مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (الحج : 20) ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة ، وأيضاً فإن قوله : {يَتَجَرَّعُه } يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده إنه يسيغه ألبتة.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 80
والقول الثاني : أن كاد للمقاربة فقول : {لا يَكَادُونَ} لنفي المقاربة يعني : ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة كقوله تعالى : {لَمْ يَكَدْ يَرَاـاهَا } (النور : 40) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها.
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة ، فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه.
قلنا عنه جوابان : أحدهما : أن المعنى : لا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع. الثاني : أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر ، إلا أن ذلك ليس بإساغة ، لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه ، أي لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة والله أعلم.
النوع الثالث : مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله : {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } (إبراهيم : 17) والمعنى : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ، ومع ذلك فإنه لا يموت وقيل من كل جزء من أجزاء جسده.
النوع الرابع : قوله : {وَمِن وَرَآاـاِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} وفيه وجهان : الأول : أن المراد من العذاب الغليظ كونه دائماً غير منقطع. الثاني : أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله. قال المفضل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 80
82
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة / إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً ، وذلك هو الخسران الشديد. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في ارتفاع قوله : {مَثَلُ الَّذِينَ} وجوه : الأول : قال سيبويه : التقدير : وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ، أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم ، وقوله : {كَرَمَادٍ} جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقيل : أعمالهم كرماد. الثاني : قال الفراء : التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله : {أَعْمَـالَهُمْ} ومثله قوله تعالى : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه } (السجدة : 7) أي خلق كل شيء ، وكذا قوله : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } (الزمر : 60) المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. الثالث : أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك صفة زيد عرضه مصون ، وماله مبذول. الرابع : أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله : {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } والتقدير : مثل أعمالهم وقوله : {كَرَمَادٍ} هو الخبر. الخامس : أن يكون المثل صلة وتقديره : الذين كفروا أعمالهم.
المسألة الثانية : اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال ، هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر ، فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر ، ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه :
جزء : 19 رقم الصفحة : 82
(1/2630)

الوجه الأول : أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع ، وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم ، ولولا كفرهم لانتفعوا بها.
والوجه الثاني : أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيماناً وطريقاً إلى الخلاص ، والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم.
والوجه الثالث : أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين ، لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت ، والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضاً وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى : {ذالِكَ هُوَ الضَّلَـالُ الْبَعِيدُ} .
المسألة الثالثة : قرىء الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم ، وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك : يوم ماطر وليلة ساكرة ، وإنما السكور لريحها قال الفراء : وإن شئت قلت / في يوم ذي عصوف ، وإن شئت قلت : في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكوراً قبل ذلك ، وقرىء في يوم عاصف بالإضافة.
المسألة الرابعة : قوله : {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ } أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد/ وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسباً لأفعاله.
واعلم أنه تعالى لما تمم هذا المثال قال : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه النظم أنه تعالى لما بين أن أعمالهم تصير باطلة ضائعة ، بين أن ذلك البطلان والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء ، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لداعية الحكمة والصواب.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} على اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات والأرض على الإضافة كقوله : {فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (إبراهيم : 10). {فَالِقُ الاصْبَاحِ} (الأنعام : 95). و{وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} (الأنعام : 96) والباقون خلق على فعل الماضي : {السَّمَآءِ وَالارْضِ } بالنصب لأنه مفعول.
جزء : 19 رقم الصفحة : 82
المسألة الثالثة : قوله : {بِالْحَقِّ} نظير لقوله في سورة يونس : {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَالِكَ إِلا بِالْحَقِّ } (يونس : 5) ولقوله في آل عمران : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} (آل عمران : 191) ولقوله في ص : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ} (ص : 27) أما أهل السنة فيقولون إلا بالحق وهو دلالتهما على وجود الصانع وعلمه وقدرته ، وأما المعتزلة فيقولون : إلا بالحق ، أي لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.
ثم قال تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} والمعنى : أن من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق ، فبأن يقدر على إفناء قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين وإحيائهم كان أولى ، لأن القادر على الأصعب الأعظم بأن يكون قادراً على الأسهل الأضعف أولى. قال ابن عباس : هذا الخطاب مع كفار مكة ، يريد أميتكم يا معشر الكفار ، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم.
ثم قال : {وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي ممتنع لما ذكرنا أن القادر على إفناء كل العالم وإيجاده بأن يكون قادراً على إفناء أشخاص مخصوصين وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 82
84
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف عذاب هؤلاء الكفار ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ، ذكر في هذه الآية كيفية خجالتهم عند تمسك أتباعهم وكيفية افتضاحهم عندهم. وهذا إشارة إلى العذاب الروحاني الحاصل بسبب الفضيحة والخجالة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : برز معناه في اللغة ظهر بعد الخفاء. ومنه يقال للمكان الواسع : البراز لظهوره ، وقيل في قوله : {وَتَرَى الارْضَ بَارِزَةً} (الكهف : 47) أي ظاهرة لا يسترها شيء ، وامرأة برزة إذا كانت تظهر للناس. ويقال : برز فلان على أقرانه إذا فاقهم وسبقهم ، وأصله في الخيل إذا سبق أحدها. قيل : برز عليها كأنه خرج من غمارها فظهر.
إذا عرفت هذا فنقول : ههنا أبحاث :
البحث الأول : قوله : {وَبَرَزُوا } ورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال ، لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق وحق ، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره قوله : {وَنَادَى ا أَصْحَـابُ النَّارِ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 50).
(1/2631)

البحث الثاني : قد ذكرنا أن البروز في اللغة عبارة عن الظهور بعد الاستتار وهذا في حق الله تعالى محال ، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه : الأول : أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية. الثاني : أنهم خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. الثالث : وهو تأويل الحكماء أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء والوطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله.
/ البحث الثالث : قال أبو بكر الأصم قوله : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ} هو المراد من قوله في الآية السابقة : {وَمِن وَرَآاـاِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} (إبراهيم : 17).
جزء : 19 رقم الصفحة : 84
واعلم أن قوله : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ} قريب من قوله : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ * فَمَا لَه مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} (الطارق : 9 ، 10) وذلك لأن البواطن تظهر في ذلك اليوم والأحوال الكامنة تنكشف فإن كانوا من السعداء برزوا للحاكم الحكيم بصفاتهم القدسية ، وأحوالهم العلوية ، ووجوههم المشرقة ، وأرواحهم الصافية المستنيرة فيتجلى لها نور الجلال ؛ ويعظم فيها إشراق عالم القدس ، فما أجل تلك الأحوال وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف العظمة ، ومنازل الكبرياء ذليلين مهينين خاضعين خاشعين واقعين في خزي الخجالة ، ومذلة الفضيحة ، وموقف المهانة والفزع ، نعوذ بالله منها. ثم حكى الله تعالى أن الضعفاء يقولون للرؤساء : هل تقدرون على دفع عذاب الله عنا ؟
والمعنى : أنه إنما اتبعناكم لهذا اليوم ، ثم إن الرؤساء يعترفون بالخزي والعجز والذل. قالوا : {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} ومن المعلوم أن اعتراف الرؤساء والسادة والمتبوعين بمثل هذا العجز والخزي والنكال يوجب الخجالة العظيمة والخزي الكامل التام ، فكان المقصود من ذكر هذه الآية : استيلاء عذاب الفضيحة والخجالة والخزي عليهم مع ما تقدم ذكره من سائر وجوه أنواع العذاب والعقاب نعوذ بالله منها. والله أعلم.
المسألة الثانية : كتبوا الضعفاء بواو قبل الهمزة في بعض المصاحف/ والسبب فيه أنه كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ، ونظيره علماء بني إسرائيل.
المسألة الثالثة : الضعفاء الأتباع والعوام ، والذين استكبروا هم السادة والكبراء. قال ابن عباس : المراد أكابرهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى : {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي في الدنيا. قال الفراء وأكثر أهل اللغة : التبع تابع مثل خادم وخدم وباقر وبقر وحارس وحرس وراصد ورصد قال الزجاج : وجائز أن يكون مصدراً سمي به ، أي كنا ذوي تبع.
واعلم أن هذه التبعية يحتمل أن يقال : المراد منها التبعية في الكفر ، ويحتمل أن يكون المراد منها التبعية في أحوال الدنيا : {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } أي هل يمكنكم دفع عذاب الله عنا.
فإن قيل : فما الفرق بين من في قوله : {مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ} وبينه في قوله : {مِن شَىْءٍ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 84
قلنا : كلاهما للتبعيض بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو عذاب الله أي بعض عذاب الله وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا : {لَوْ هَدَاـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَـاكُمْ } وفيه وجوه / الأول : قال ابن عباس : معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم ، قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال ، لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم فدعوا أتباعهم إلى الضلال ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى قال صاحب "الكشاف" : لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَه كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } (المجادلة : 18).
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه فلا يقبل منه ، الثاني : قال صاحب "الكشاف" : يجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف ، لأن ذلك قد فعله الله تعالى. والثالث : أن يكون المعنى لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم ، والدليل على أن المراد من الهدى هذا الذي ذكرناه أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه فوجب أن يكون المراد من الهداية هذا المعنى.
(1/2632)

ثم قال : {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} أي مستو علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية ونظيره : {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } (الطور : 16) ثم قالوا : ما لنا من محيص ، أي منجي ومهرب ، والمحيص قد يكون مصدراً كالمغيب والمشيب ، ومكاناً كالمبيت والمضيق ، ويقال حاص عنه وحاض بمعنى واحد ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 84
89
اعلم أنه تعالى لما ذكر المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس ، أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه من الإنس فقال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَـانُ لَمَّا قُضِىَ الامْرُ} وفي المراد بقوله : {لَمَّا قُضِىَ الامْرُ} وجوه :
/ القول الأول : قال المفسرون : إذا استقر أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه فيقوم في النار فيما بينهم خطيباً ويقول ما أخبر الله عنه بقوله : {وَقَالَ الشَّيْطَـانُ لَمَّا قُضِىَ الامْرُ} .
القول الثاني : أن المراد من قوله : {قُضِىَ الامْرُ} لما انقضت المحاسبة ، والقول الأول أولى ، لأن آخر أمر أهل القيامة استقرار المطيعين في الجنة واستقرار الكافرين في النار ، ثم يدوم الأمر بعد ذلك.
والقول الثالث : وهو أن مذهبنا أن الفساق من أهل الصلاة يخرجون من النار ويدخلون الجنة فلا يبعد أن يكون المراد من قوله : {لَمَّا قُضِىَ الامْرُ} ذلك الوقت ، لأن في ذلك الوقت تنقطع الأحوال المعتبرة ، ولا يحصل بعده إلا دوام ما حصل فيه قبل ذلك ، وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان لفظ مفرد فيتناول الواحد وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم ، فحمل اللفظ عليه أولى ، لا سيما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافر قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول".
أما قوله : {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } ففيه مباحث :
البحث الأول : المراد أن الله تعالى وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم ، وتقرير الكلام أن النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ولا تتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها ويرغب فيها كما قال : {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (الأعلى : 17).
جزء : 19 رقم الصفحة : 89
البحث الثاني : قوله : {وَعْدَ الْحَقِّ} من باب إضافة الشيء إلى نفسه كقوله : {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (ق : 9) ومسجد الجامع على قول الكوفيين ، والمعنى : وعدكم الوعد الحق ، وعلى مذهب البصريين يكون التقدير وعد اليوم الحق أو الأمر الحق أو يكون التقدير وعدكم الحق. ثم ذكر المصدر تأكيداً.
البحث الثالث : في الآية إضمار من وجهين : الأول : أن التقدير إن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد ، لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى. الثاني : أن في قوله : {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً وحذف ههنا للعلم به ، والتقدير : ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب.
أما قوله : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ} أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فاقهركم على الكفر / والمعاصي وألجئكم إليها ، إلا أن دعوتكم أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني قال النحويون : ليس الدعاء من جنس السلطان فقوله : {إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ} من جنس قولهم ما تحيتهم إلا الضرب ، وقال الواحدي : إنه استثناء منقطع ، أي لكن دعوتكم وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة "إلا" ههنا استثناء حقيقي ، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة يكون بالقهر والقسر ، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه ، فهذا نوع من أنواع التسلط ، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وجوارحه ، وعلى إزالة العقل عنه كما يقوله العوام والحشوية ، ثم قال : {فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } يعني ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة ، وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله تعالى فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إلي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب. وفي الآية مسألتان :
(1/2633)

المسألة الأولى : قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أشياء : الأول : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. الثاني : ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وعلى إزالة العقل عنه كما تقول الحشوية والعوام. الثالث : أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يجوز ذمه ولومه وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 89
أجاب بعض الأصحاب عن هذه الوجوه بأن هذا قول الشيطان فلا يجوز التمسك به.
وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره ، وأيضاً فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر هذا الكلام الباطل والقول الفاسد. ألا ترى أن قوله : {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كلام حق وقوله : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ} قول حق بدليل قوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر : 42).
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس ، وذلك لأن الشيطان بين أنه ما أتى إلا بالوسوسة ، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتة ، فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس.
فإن قال قائل : بينوا لنا حقيقة الوسوسة.
قلنا : الفعل إنما يصدر عن الإنسان عند حصول أمور أربعة يترتب بعضها على البعض ترتيباً / لازماً طبيعياً وبيانه أن أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصلية والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك ، والإقدام والإحجام ، فما لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنه يمتنع صدور الفعل ، وذلك الميل هو الإرادة الجازمة ، والقصد الجازم. ثم إن تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلا عند حصول علم أو اعتقاد أو ظن بأن ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر فإن لم يحصل فيه هذا الإعتقاد لم يحصل الميل لا إلى الفعل ولا إلى الترك ، فالحاصل أن الإنسان إذا أحس بشيء ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له أو بكونه منافراً له أو بكونه غير ملائم ولا منافر ، فإن حصل الشعور بكونه ملائماً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الفعل وإن حصل الشعور بكونه منافراً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الترك ، وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل الميل لا إلى ذلك الشيء ولا إلى ضده ، بل بقي الإنسان كما كان ، وعند حصول ذلك الميل الجازم تصير القدرة مع ذلك الميل موجبة للفعل.
إذا عرفت هذا فنقول : صدور الفعل عن مجموع القدرة والداعي الحاصل أمر واجب فلا يكون للشيطان مدخل فيه وصدور الميل عن تصور كونه خيراً أو تصور كونه شراً أمر واجب فلا يكون للشيطان فيه مدخل وحصول كونه خيراً أو تصوراً كونه شراً عن مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه/ فلم يبق للشيطان مدخل في شيء من هذه المقامات إلا في أن يذكره شيئاً بأن يلقي إليه حديثه مثل أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في خاطره فالشيطان لا قدرة له إلا في هذا المقام ، وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أنه قال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى} يعني ما كان مني إلا مجرد هذه الدعوة فأما بقية المراتب فما صدرت مني وما كان لي فيها أثر ألبتة. بقي في هذا المقام سؤالان :
جزء : 19 رقم الصفحة : 89
السؤال الأول : كيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه.
والجواب : للناس في الملائكة والشياطين قولان :
القول الأول : أن ما سوى الله بحسب القسمة العقلية على أقسام ثلاثة : المتحيز ، والحال في المتحيز ، والذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً فيه ، وهذا القسم الثالث لم يقم الدليل ألبتة على فساد القول به بل الدلائل الكثيرة قامت على صحة القول به ، وهذا هو المسمى بالأرواح فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدسة من عالم الروحانيات القدسية فهم الملائكة وإن كانت خبيثة داعية إلى الشرور وعالم الأجساد ومنازل الظلمات فهم الشياطين.
(1/2634)

/ إذا عرفت هذا فنقول : فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسماً يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل هو جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشر ، والنفس الإنسانية أيضاً كذلك فلا يبعد على هذا التقدير في أن يلقى شيء من تلك الأرواح أنواعاً من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية ، وذكر بعض العلماء في هذا الباب احتمالاً ثانياً ، وهو أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالنوع ، فهي طوائف ، وكل طائفة منها في تدبير روح من الأرواح السماوية بعينها ، فنوع من النفوس البشرية تكون حسنة الأخلاق كريمة الأفعال موصوفة بالفرح والبشر وسهولة الأمر ، وهي تكون منتسبة إلى روح معين من الأرواح السماوية ، وطائفة أخرى منها تكون موصوفة بالحدة والقوة والغلظة ، وعدم المبالاة بأمر من الأمور ، وهي تكون منتسبة إلى روح آخر من الأرواح السماوية وهذه الأرواح البشرية كالأولاد لذلك الروح السماوي وكالنتائج الحاصلة ، وكالفروع المتفرعة عليها ، وذلك الروح السماوي هو الذي يتولى إرشادها إلى مصالحها ، وهو الذي يخصها بالإلهامات حالتي النوم واليقظة. والقدماء كانوا يسمون ذلك الروح السماوي بالطباع التام ولا شك أن لذلك الروح السماوي الذي هو الأصل والينبوع شعباً كثيرة ونتائج كثيرة وهي بأسرها تكون من جنس روح هذا الإنسان وهي لأجل مشاكلتها ومجانستها يعين بعضها بعضاً على الأعمال اللائقة بها والأفعال المناسبة لطبائعها ، ثم إنها إن كانت خيرة طاهرة طيبة كانت ملائكة وكانت تلك الإعانة مسماة بالإلهام. وإن كانت شريرة خبيثة قبيحة الأعمال كانت شياطين وكانت تلك الإعانة مسماة بالوسوسة ، وذكر بعض العلماء أيضاً فيه احتمالاً ثالثاً ، وهو أن النفوس البشرية والأرواح الإنسانية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق بسبب المشاكلة الحاصلة بين هذا البدن وبين ما كان بدناً لتلك النفس المفارقة ، فيصير لتلك النفس المفارقة تعلق شديد بهذا البدن وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن ، ومعاضدة لها على أفعالها وأحوالها بسبب هذه المشاكلة ثم إن كان هذا المعنى في أبواب الخير والبركات كان ذلك إلهاماً وإن كان في باب الشر كان وسوسة فهذه وجوه محتملة تفريعاً على القول بإثبات جواهر قدسية مبرأة عن الجسمية والتحيز/ والقول بالأرواح الطاهرة والخبيثة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لهم أن ينكروا إثباتها على صاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 89
وأما القول الثاني : وهو أن الملائكة والشياطين لا بد وأن تكون أجساماً فنقول : إن على / هذا التقدير يمتنع أن يقال إنها أجسام كثيفة ، بل لا بد من القول بأنها أجسام لطيفة والله سبحانه ركبها تركيباً عجيباً وهي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرق والتمزق والفساد والبطلان ونفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد ألا ترى أن الروح الإنسانية جسم لطيف ، ثم إنه نفذ في داخل عمق البدن فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن ، أليس أن جرم النار يسري في جرم الفحم ، وماء الورد يسري في ورق الورد ، ودهن السمسم يجري في جسم السمسم فكذا ههنا ، فظهر بما قررنا أن القول بإثبات الجن والشياطين أمر لا تحيله العقول ولا تبطله الدلائل ، وأن الإصرار على الإنكار ليس إلا من نتيجة الجهل وقلة الفطنة ، ولما ثبت أن القول بالشياطين ممكن في الجملة فنقول : الأحق والأولى أن يقال : الملائكة على هذا القول مخلوقون من النور ، والشياطين مخلوقون من الدخان واللهب ، كما قال الله تعالى : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر : 27) وهذا الكلام من المشهورات عند قدماء الفلاسفة ، فكيف يليق بالعاقل أن يستبعده من صاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلّم.
السؤال الثاني : لم قال الشيطان : {فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } وهو أيضاً ملوم بسبب اقدامه على تلك الوسوسة الباطلة.
والجواب : أراد بذلك فلا تلوموني على ما فعلتم ولوموا أنفسكم عليه ، لأنكم عدلتم عما توجبه هداية الله تعالى لكم. ثم قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال : {مَّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : بمغيثكم ولا منقذكم ، قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. يقال : صرخ فلان إذا استغاث وقال : واغوثاه وأصرحته أغثته.
(1/2635)

المسألة الثانية : قرأ حمزة : بمصرخي بكسر الياء. قال الواحدي : وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب. قال الفراء : ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله {بِمُصْرِخِىَّ } خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك قال ، ومما نرى أنهم وهموا فيه قوله : {نُوَلِّه مَا تَوَلَّى وَنُصْلِه جَهَنَّمَ } (النساء : 115) بجزم الهاء ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ ، لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه ، ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 89
ثم قال تعالى حكاية عنه : {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُا إِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : "ما" في قوله : {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُا إِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فيه قولان : الأول : إنها مصدرية والمعنى : كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة ، والمعنى : أنه جحد ما كان يعتقده أولئك الأتباع من كون إبليس شريكاً لله تعالى في تدبير هذا العالم وكفر به ، أو يكون المعنى أنهم كانوا يطيعون الشيطان في أعمال الشر كما كانوا قد يطيعون الله في أعمال الخير وهذا هو المراد بالإشراك. والثاني : وهو قول الفراء أن المعنى أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم ، والمعنى : أنه كان كفره قبل كفر أولئك الأتباع ويكون المراد بقوله : (ما) في هذا الموضع "من" والقول هو الأول ، لأن الكلام إنما ينتظم بالتفسير الأول/ ويمكن أن يقال أيضاً الكلام منتظم على التفسير الثاني ، والتقدير كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة ، وعلى هذا التقدير ينتظم الكلام.
أما قوله : {إِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فالأظهر أنه كلام الله عز وجل وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام ، ولا يبعد أيضاً أن يكون ذلك من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 89
89
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال الأشقياء من الوجوه الكثيرة ، شرح أحوال السعداء ، وقد عرفت أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى : {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} وكونها دائمة أشير إليه بقوله : {خَـالِدِينَ فِيهَآ} والتعظيم حصل من وجهين : أحدهما : أن تلك المنافع إنما حصلت بإذن الله تعالى وأمره. والثاني : قوله : {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ} لأن بعضهم يحيي بعضاً بهذه الكلمة ، والملائكة يحيونهم بها كما قال : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23) والرب الرحيم يحييهم أيضاً بهذه الكلمة كما قال : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58).
واعلم أن السلام مشتق من السلامة وإلا ظهر أن المراد أنهم سلموا من آفات الدنيا وحسراتها أو فنون آلامها وأسقامها ، وأنواع غمومها وهمومها ، وما أصدق ما قالوا ، فإن السلامة من محن عالم الأجسام الكائنة الفاسدة من أعظم النعم ، لا سيما إذا حصل بعد الخلاص منها الفوز بالبهجة الروحانية والسعادة الملكية.
المسألة الثانية : قرأ الحسن : {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } على معنى وأدخلهم أنا ، وعلى هذه القراءة فقوله : {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق بما بعده ، أي تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم. يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 89
93
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال الأشقياء وأحوال السعداء ، ذكر مثالاً يبين الحال في حكم هذين القسمين ، وهو هذا المثل. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها.
فالصفة الأولى : لتلك الشجرة كونها طيبة ، وذلك يحتمل أموراً. أحدها : كونها طيبة المنظر والصورة والشكل. وثانيها : كونها طيبة الرائحة. وثالثها : كونها طيبة الثمرة يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة. ورابعها : كونها طيبة بحسب المنفعة يعني أنها كما يستلذ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها ، ويجب حمل قوله : شجرة طيبة ، على مجموع هذه الوجوه لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب.
(1/2636)

/ والصفة الثانية ؛ قوله : {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي راسخ باق آمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء وذلك لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الانقراض والانقضاء ، فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه إلا أنه يعظم الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه ، أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لا يزول ولا ينقضي فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به.
والصفة الثالثة : قوله : {وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ} وهذا الوصف يدل على كمال حال تلك الشجرة من وجهين : الأول : أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الأصل ورسوخ العروق. والثاني : أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب.
والصفة الرابعة : قوله : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا } والمراد : أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة بهذه الصفة ، وهي أن ثمرتها لا بد أن تكون حاضرة دائمة في كل الأوقات ، ولا تكون مثل الأشجار التي يكون ثمارها حاضراً في بعض الأوقات دون بعض ، فهذا شرح هذه الشجرة التي ذكرها الله تعالى في هذا الكتاب الكريم ومن المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة ، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها وتملكها فإنه لايجوز له أن يتغافل عنها وأن يتساهل في الفوز بها.
جزء : 19 رقم الصفحة : 93
إذا عرفت هذا فنقول : معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وفي خدمته وطاعته ، تشبه هذه الشجرة في هذه الصفات الأربع.
أما الصفة الأولى : وهي كونها طيبة فهي حاصلة ، بل نقول : لا طيب ولا لذيذ في الحقيقة إلا هذه المعرفة وذلك لأن اللذة الحاصلة بتناول الفاكهة المعينة إنما حصلت ، لأن إدراك تلك الفاكهة أمر ملائم لمزاج البدن ، فلأجل حصول تلك الملاءمة والمناسبة حصلت تلك اللذة العظيمة وههنا الملائم لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ، ليس إلا معرفة الله تعالى ومحبته والاستغراق في الابتهاج به فوجب أن تكون هذه المعرفة لذيذة جداً ، بل نقول : اللذة الحاصلة من إدراك الفاكهة يجب أن تكون أقل حالاً من اللذة الحاصلة بسبب إشراق جوهر النفس بمعرفة الله وبيان هذا التفاوت من وجوه :
الوجه الأول : أن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة بسبب أن سطح الحاس يلاقي سطح المحسوس فقط ، فأما أن يقال إن جوهر المحسوس نفذ في جوهر الحاس فليس الأمر كذلك ، لأن الأجسام يمتنع تداخلها أما ههنا فمعرفة الله تعالى وذلك النور وذلك الإشراق صار سارياً في جوهر / النفس متحداً به وكأن النفس عند حصول ذلك الإشراق تصير غير النفس التي كانت قبل حصول ذلك الإشراق فهذا فرق عظيم بين البابين.
والوجه الثاني : في الفرق أن في الالتذاذ بالفاكهة المدرك هو القوة الذائقة ، والمحسوس هو الطعم المخصوص وههنا المدرك هو جوهر النفس القدسية ، والمعلوم والمشعور به هو ذات الحق جل جلاله ، وصفات جلاله وإكرامه ، فوجب أن تكون نسبة إحدى اللذتين إلى الأخرى كنسبة أحد المدركين إلى الآخر.
الوجه الثالث : في الفرق أن اللذات الحاصلة بتناول الفاكهة الطيبة كلما حصلت زالت في الحال ، لأنها كيفية سريعة الاستحالة شديدة التغير ، أما كمال الحق وجلاله فإنه ممتنع التغير والتبدل واستعداد جوهر النفس لقبول تلك السعادة أيضاً ممتنع التغير ، فظهر الفرق العظيم من هذا الوجه.
واعلم أن الفرق بين النوعين يقرب أن يكون من وجوه غير متناهية فليكتف بهذه الوجوه الثلاثة تنبيهاً للعقل السليم على سائرها. وأما الصفة الثانية وهي كون هذه الشجرة ثابتة الأصل ، فهذه الصفة في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل ، وذلك لأن عروق هذه الشجرة راسخة في جوهر النفس القدسية ، وهذا الجوهر جوهر مجرد عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء ، وأيضاً مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال الله تعالى ، وهذا التجلي من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور ، وذلك مما يمتنع عقلاً زواله لأنه سبحانه واجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود في جميع صفاته والتغير والفناء والتبدل والزوال والبخل والمنع محال في حقه ، فثبت أن الشجرة الموصوفة بكونها ثابتة الأصل ليست إلا هذه الشجرة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 93
الصفة الثالثة : لهذه الشجرة كونها بحيث يكون فرعها في السماء.
واعلم أن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني.
(1/2637)

وأما النوع الأول : فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام : "التعظيم لأمر الله" ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفة الله تعالى في عالم الأرواح ، وفي عالم الأجسام ، وفي أحوال عالم الأفلاك والكواكب ، وفي أحوال العالم السفلي ، ويدخل فيه محبة الله تعالى والشوق إلى الله تعالى والمواظبة على ذكر الله تعالى والاعتماد بالكلية على الله تعالى ، والانقطاع بالكلية عما سوى الله تعالى والاستقصاء في ذكر هذه الأقسام غير مطموع فيه لأنها أحوال غير متناهية.
وأما النوع الثاني : فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام : "والشفقة على خلق الله" / ويدخل فيه الرحمة والرأفة والصفح والتجاوز عن الذنوب ، والسعي في إيصال الخير إليهم ، ودفع الشر عنهم ، ومقابلة الإساءة بالإحسان. وهذه الأقسام أيضاً غير متناهية وهي فروع ثابتة من شجرة معرفة الله تعالى فإن الإنسان كلما كان أكثر توغلاً في معرفة الله تعالى كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأفضل.
وأما الصفة الرابعة : فهي قوله تعالى : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا } فهذه الشجرة أولى بهذه الصفة من الأشجار الجسمانية ، لأن شجرة المعرفة موجبة لهذه الأحوال ومؤثرة في حصولها والسبب لا ينفك عن المسبب فأثر رسوخ شجرة المعرفة في أرض القلب أن يكون نظر بالعبرة كما قال : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) وأن يكون سماعه بالحكمة كما قال : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا } (الزمر : 18) ونطقه بالصدق والصواب كما قال : {كُونُوا قَواَّمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى ا أَنفُسِكُمْ} (النساء : 135) وقال عليه السلام : "قولوا الحق ولو على أنفسكم" وهذا الإنسان كلما كان رسوخ شجرة المعرفة في أرض قلبه أقوى وأكمل ، كان ظهور هذه الآثار عنده أكثر ، وربما توغل في هذا الباب فيصير بحيث كلما لاحظ شيئاً لاحظ الحق فيه ، وربما عظم ترقيه فيه فيصير لا يرى شيئاً إلا وقد كان قد رأى الله تعالى قبله. فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا } وأيضاً فما ذكرناه إشارة إلى الإلهامات النفسانية والملكات الروحانية التي تحصل في جواهر الأرواح ، ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة ولمحة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل ، كثمرة هذه الشجرة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 93
وأما قوله : {بِإِذْنِ رَبِّهَا } ففيه دقيقة عجيبة ، وذلك لأن عند حصول هذه الأحوال السنية ، والدرجات العالية ، قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي ، وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث هي هي ، وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى ، وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال ، ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني ، ومن آثر العرفان لا للعرفان ، بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول ، فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب مثال هادٍ إلى عالم القدس ، وحضرة الجلال ، وسرادقات الكبرياء ، فنسأل الله تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب ، وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاماً لا بأس به ، فقال : إنما مثل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة ، لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة ، إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ ، وأصل قائم ، وأغصان عالية. كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأبدان. والله أعلم.
/ المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : في نصب قوله : {كَلِمَةً طَيِّبَةً} وجهان : الأول : أنه منصوب بمضمر والتقدير : جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} . الثاني : قال ويجوز أن ينتصب مثلاً. وكلمة بضرب ، أي ضرب كلمة طيبة مثلاً بمعنى جعلها مثلاً ، وقوله : {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هي كشجرة طيبة. الثالث : قال صاحب "حل العقد" أظن أن الأوجه أن يجعل قوله : {كَلِمَةَ} عطف بيان ، والكاف في قوله : {كَشَجَرَةٍ} في محل النصب بمعنى مثل شجرة طيبة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 93
(1/2638)

المسألة الثالثة : قال ابن عباس : الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله ، والشجرة الطيبة هي النخلة في قول الأكثرين. وقال صاحب "الكشاف" : إنها كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان ، وأراد بشجرة طيبة الثمرة ، إلا أنه لم يذكرها لدلالة الكلام عليها أصلها ، أي أصل هذه الشجرة الطيبة ثابت ، وفرعها أي أعلاها في السماء ، والمراد الهواء لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء {تُؤْتِى } أي هذه الشجرة {أُكُلُهَا} أي ثمرها وما يؤكل منها كل حين ، واختلفوا في تفسير هذا الحين فقال ابن عباس ستة أشهر ، لأن بين حملها إلى صرامها ستة أشهر ، جاء رجل إلى ابن عباس فقال : نذرت أن لا أكلم أخي حتى حين ، فقال : الحين ستة أشهر ، وتلا قوله تعالى : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين } وقال مجاهد وابن زيد : سنة ، لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة. وقال سعيد بن المسيب : شهران ، لأن مدة إطعام النخلة شهران. وقال الزجاج : جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أم قصرت ، والمراد من قوله : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين } أنه ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلاً أو نهاراً أو شتاء أو صيفاً. قالوا : والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة. وأقول : هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية ، إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود ، لأنه تعالى وصف هذه الشجرة بالصفات المذكورة ، ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها ، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه/ سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن ، لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل ، واختلافهم في تفسير الحين أيضاً من هذا الباب ، والله أعلم بالأمور.
ثم قال : {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والمعنى : أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني ، وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم ، / فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة وانطبق المعقول على المحسوس وحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب.
جزء : 19 رقم الصفحة : 93
وأما قوله تعالى : {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الارْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} .
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله ، فإنه أول الآفات وعنوان المخالفات ورأس الشقاوات ثم إنه تعالى شبهها بشجرة موصوفة بصفات ثلاثة :
الصفة الأولى : أنها تكون خبيثة فمنهم من قال إنها الثوم ، لأنه صلى الله عليه وسلّم وصف الثوم بأنها شجرة خبيثة ، وقيل : إنها الكراث. وقيل : إنها شجرة الحنظل لكثرة ما فيها من المضار وقيل : إنها شجرة الشوك.
واعلم أن هذا التفصيل لا حاجة إليه ، فإن الشجرة قد تكون خبيثة بحسب الرائحة وقد تكون بحسب الطعم ، وقد تكون بحسب الصورة والمنظر وقد تكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات وإن لم تكن موجودة ، إلا أنها لما كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعاً في المطلوب.
والصفة الثانية : قوله : {اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الارْضِ} وهذه الصفة في مقابلة قوله : {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الإجتثاث أخذ الجثة كلها ، وقوله : {مِن فَوْقِ الارْضِ} معناه : ليس لها أصل ولا عرق ، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.
والصفة الثالثة : قوله ما لها من قرار ، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية ، والمعنى أنه ليس لها استقرار. يقال : قر الشيء قراراً كقولك : ثبت ثباتاً ، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت.
واعلم أن هذا المثال في صفة الكلمة الخبيثة في غاية الكمال ، وذلك لأنه تعالى بين كونها موصوفة بالمضار الكثيرة ، وخالية عن كل المنافع أما كونها موصوفة بالمضار فإليه الإشارة بقوله : {خَبِيثَةٍ} وأما كونها خالية عن كل المنافع فإليه الإشارة بقوله : {اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الارْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 93
0
/ اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتاً ، وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم ، وثبات ثوابه عليهم ، والمقصود : بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى فقوله : {يُثَبِّتُ اللَّهُ} أي على الثواب والكرامة ، وقوله : {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ } أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا.
(1/2639)

ثم قال : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ } يعني كما أن الكلمة الخبيثة ما كان لها أصل ثابت ولا فرع باسق فكذلك أصحاب الكلمة الخبيثة وهم الظالمون يضلهم الله عن كراماته ويمنعهم عن الفوز بثوابه وفي الآية قول آخر وهو القول المشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر ، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في قوله : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ } قال : "حين يقال له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلّم" والمراد في الباء في قوله : {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} هو أن الله تعالى إنما ثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول ، ولهذا الكلام تقرير عقلي وهو أنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى ، فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل. قال ابن عباس : من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة ههنا بالقبر ، لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وقوله : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ } يعني أن الكفار إذا سئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري وإنما قال ذلك لأن الله أضله وقوله : {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} يعني إن شاء هدى وإن شاء أضل ولا اعتراض عليه في فعله ألبتة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 93
95
/ اعلم أنه تعالى عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} نزل في أهل مكة حيث أسكنهم الله تعالى حرمه الآمن وجعل عيشهم في السعة وبعث فيهم محمداً صلى الله عليه وسلّم فلم يعرفوا قدر هذه النعمة ، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنواعاً من الأعمال القبيحة.
النوع الأول : قوله : {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} وفيه وجوه : الأول : يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله كفراً ، لأنه لما وجب عليهم الشكر بسبب تلك النعمة أتوا بالكفر ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً. والثاني : أنهم بدلوا نفس نعمة الله كفراً لأنهم لما كفروا سلب الله تلك النعمة عنهم فبقي الكفر معهم بدلاً من النعمة. الثالث : أنه تعالى أنعم عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر على الإيمان.
والنوع الثاني : ما حكى الله تعالى عنهم قوله : {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} وهو الهلاك يقال رجل بائر وقوم بور ، ومنه قوله تعالى : {وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا} (الفتح : 12) وأراد بدار البوار جهنم بدليل أنه فسرها بجهنم فقال : {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي المقر وهو مصدر سمي به.
النوع الثالث : من أعمالهم القبيحة قوله : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أنداداً ، والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول ، والمراد في الأنداد الأشباه والشركاء ، وهذا الشريك يحتمل وجوهاً : أحدها : أنهم جعلوا للأصنام حظاً فيما أنعم الله به عليهم نحو قولهم هذا لله وهذا لشركائنا. وثانيها ؛ أنهم شركوا بين الأصنام وبين خالق العالم في العبودية. وثالثها : أنهم كانوا يصرحون بإثبات الشركاء لله وهو قولهم في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
جزء : 19 رقم الصفحة : 95
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {لِيُضِلُّوا } بفتح الياء من ضل يضل والباقون بضم الياء من أضل غيره يضل.
(1/2640)

المسألة الثالثة : اللام في قوله : {لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِه } لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي ، أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرىء / بالضم فإنه يحتمل الوجهين ، وإذا قرىء بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم. وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل. وكل ما حصل في العاقبة كان شبيهاً بالأمر المقصود في هذا المعنى ، والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز ، فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة ، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال : {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت ، فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم ، فلهذا المعنى قال : {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وأيضاً إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً/ فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى : {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } (فصلت : 40) وكقوله : {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ} (الزمر : 8).
جزء : 19 رقم الصفحة : 95
96
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا ، أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي {لِّعِبَادِىَ} بسكون الياء ، والباقون : بفتح الياء لالتقاء الساكنين فحرك إلى النصب.
المسألة الثانية : في قوله : {يُقِيمُوا } وجهان : الأول : يجوز أن يكون جواباً لأمر محذوف هو المقول تقديره : قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. الثاني : يجوز أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه لام الأمر ، أي ليقيموا كقولك : قل لزيد ليضرب عمراً وإنما جاز حذف اللام ، لأن قوله : {قُلْ} عوض منه ولو قيل ابتداء يقيموا الصلاة لم يجز.
المسألة الثالثة : أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله. أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة وأما المال فيجب / صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى. فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة ، وهي الإيمان والصلاة والزكاة وتمام ما يجب أن يقال في هذه الأمور الثلاثة ذكرناه في قوله تعالى : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة : 3).
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : الآية تدل على أن الرزق لا يكون حراماً ، لأن الآية دلت على أن الانفاق من الرزق ممدوح ، ولا شيء من الانفاق من الحرام بممدوح فينتج أن الرزق ليس بحرام. وقد مر تقرير هذا الكلام مراراً.
المسألة الخامسة : في انتصاب قوله : {سِرًّا وَعَلانِيَةً} وجوه : أحدها : أن يكون على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين. وثانيها : على الظرف أي وقت سر وعلانية. وثالثها : على المصدر أي انفاق سر وانفاق علانية والمراد إخفاء التطوع وإعلان الواجب.
واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال : {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلَـالٌ} قال أبو عبيدة : البيع ههنا الفداء والخلال المخالة ، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة ، وهي المصادقة. قال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة ، فكأنه تعالى يقول : أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة : {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ } (البقرة : 254).
جزء : 19 رقم الصفحة : 96
فإن قيل : كيف نفى المخالة في هاتين الآيتين ، مع أنه تعالى أثبتها في قوله : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67).
قلنا : الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبيعة ورغبة النفس ، والآية الدالة على ثبوت المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 96
100
(1/2641)

اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ، وكان العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وبصفاته ، وفي حصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة ، لا جرم ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته ، وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل. أولها : خلق السموات. وثانيها : خلق الأرض ، وإليهما الإشارة بقوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} . وثالثها : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } . ورابعها : قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِه } وخامسها : قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَـارَ} . وسادسها وسابعها : قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآاـاِبَيْنِ } . وثامنها وتاسعها : قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} . وعاشرها : قوله : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه } وهذه الدلائل العشرة قد مر ذكرها في هذا الكتاب وتقريرها وتفسيرها مراراً وأطواراً ولا بأس بأن نذكر ههنا بعض الفوائد. فاعلم أن قوله تعالى : {اللَّهِ} مبتدأ ، وقوله : {وَالَّذِى خَلَقَ} خبره. ثم إنه تعالى بدأ بذكر خلق السموات والأرض ، وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن السماء والأرض من كم وجه تدل على وجود الصانع الحكيم ، وإنما بدأ بذكرهما ههنا لأنهما هما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك فإنه قال بعده : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } وفيه مباحث :
جزء : 19 رقم الصفحة : 100
البحث الأول : لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه ، فظهر أنه لا بد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب.
البحث الثاني : قوله : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} وفيه قولان : الأول : أن الماء نزل من السحاب وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو ، وهو الارتفاع. والثاني : أنه تعالى أنزله من نفس السماء وهذا بعيد ، لأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطراً عليهم وإذا كان هذا أمراً مشاهداً بالبصر كان النزاع فيه باطلاً.
/ البحث الثالث : قال قوم : إنه تعالى أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة ، وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين ، لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب ، فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها ، وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلباً لهذه الخيرات الحقيرة ، فبأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله تعالى ويتخلص عن عقابه أولى. ولهذا السبب لما زال التكليف في الآخرة أنال الله تعالى كل نفس مشتهاها من غير تعب ولا نصب ، هذا قول المتكلمين. وقال قوم آخرون : إنه تعالى يحدث الثمار والزروع بواسطة هذا الماء النازل من السماء/ والمسألة كلامية محضة ، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
البحث الرابع : قال أبو مسلم : لفظ {الثَّمَرَاتِ } يقع في الأغلب على ما يحصل على الأشجار ، ويقع أيضاً على الزروع والنبات ، كقوله تعالى : {كُلُوا مِن ثَمَرِه إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّه يَوْمَ حَصَادِه } (الأنعام : 141).
البحث الخامس : قال تعالى : {فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقاً لنا ، والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين ، لأن الإحسان لا يكون إحساناً إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه.
البحث السادس : قال صاحب "الكشاف" : قوله : {مِنَ الثَّمَرَاتِ} بيان للرزق ، أي أخرج به رزقاً هو ثمرات ، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقاً حال من المفعول أو نصباً على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق ، والتقدير : ورزق من الثمرات رزقاً لكم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 100
فأما الحجة الرابعة : وهي قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِه } ونظيره قوله تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ} (الشور : 32) ففيها مباحث :
(1/2642)

البحث الأول : أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر ، وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات ، ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية. فإن قيل : ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد ؟
قلنا ؛ أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال ، وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال : لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه / للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة ، ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال ، وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه.
البحث الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيماً لشأنه ، ومنهم من حمله على ظاهر قوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه.
البحث الثالث : الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز ، والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له.
الحجة الخامسة : قوله تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَـارَ} واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات ، وأيضاً ماء البحر لا يصلح للشرب ، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار.
الحجة السادسة والسابعة : قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآاـاِبَيْنِ } .
جزء : 19 رقم الصفحة : 100
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم ، وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله : {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (نوح : 16) ومنها قوله : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن : 5) ومنها قوله : {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} (الفرقان : 61) ومنها قوله : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس : 5) وقوله : {دَآاـاِبَيْنِ } معنى الدؤب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأباً ودؤباً وقد ذكرنا هذا في قوله : {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} (يوسف : 47) قال المفسرون : قوله : {دَآاـاِبَيْنِ } معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب.
الحجة الثامنة والتاسعة : قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} .
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ : 10 ، 11) وقوله : {اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } قال المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان ، والأعراض لا تسخر.
/ والحجة العاشرة : قوله : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه } ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها ، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه } والمفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئاً ، وقرىء : {مِن كُلِّ} بالتنوين و{مَا سَأَلْتُمُوه } نفي ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ويجوز أن تكون "ما" موصولة والتقدير : آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } قال الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم الله عليه ، ينعم إنعاماً ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله : أنفقت عليه إنفاقاً ونفقة بمعنى واحد ، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر ، ومعنى قوله : {لا تُحْصُوهَآ } أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها.
جزء : 19 رقم الصفحة : 100
(1/2643)

واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع ، فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين.
المثال الأول : أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان ، منها دماغية ومنها نخاعية. أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة ، ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحد من تلك الشعب أيضاً إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية ، ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جداً ، ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة ، فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن الله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه وعرف قطعاً أنه لا سبيل له إلى الوقوق عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة ، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والإنفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحراً لا ساحل له/ وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه ، فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان وعند هذا تعرف / أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلاً واحداً ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل ، فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين.
جزء : 19 رقم الصفحة : 100
المثال الثاني : أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما الأمور التي قبلها : فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائماً على الوجه الأصوب ، لأن الحنطة لا بد منها ، وأنها لا تنبت إلا معونة الفصول الأربعة ، وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار ، ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك ، واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات ، وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد من آلات الطحن والخبز ، وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ، ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها ، ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات ، فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة ، وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق. فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة. وأما النظر فيما بعد حصولها : فتأمل في تركيب بدن الحيوان ، وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة ، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار ، ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية ، فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور ، والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث ، فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } ثم إنه تعالى قال : {إِنَّ الانسَـانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} قيل : يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها. وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع ، والمراد من الإنسان ههنا : الجنس ، يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه ، وههنا بحثان :
البحث الأول : أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة ، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها ، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة ، وأيضاً أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي.
البحث الثاني : أنه تعالى قال في هذا الموضع : {إِنَّ الانسَـانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وقال في سورة النحل : {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل : 18) ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول : إذا حصلت النعم / الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما كونك ظلوماً كفاراً ، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً ، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفور ، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء ، ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة.
(1/2644)

جزء : 19 رقم الصفحة : 100
103
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء : أحدها : قوله : {رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا} والمراد : مكة آمناً ذا أمن.
فإن قيل : أي فرق بين قوله : (اجعل هذا بلداً آمناً) وبين قوله : {اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا} .
قلنا : سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون ، وفي الثاني : أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها ، وهي الخوف ، ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً ، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة. وثانيها : قوله : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {وَاجْنُبْنِى} وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه. قال الفراء : أهل الحجاز يقول جنبني يجبني بالتخفيف. وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره ، وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : الإشكال على هذه الآية من وجوه : أحدها : أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمناً ، وما قبل الله دعاءه ، لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على / مكة. وثانيها : أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن ألبتة ، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام. وثالثها : أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه ، ولأن كفار قريش كانوا من أولاده ، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام.
فإن قالوا : إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه ، والدعاء مخصوص بالأبناء ، فنقول : فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه ، وهم ما كانوا إلا إسماعيل وإسحاق ، وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم ، فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء.
جزء : 19 رقم الصفحة : 103
والجواب عن السؤال الأول من وجهين : الأول : أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء ، والمراد منه : جعل تلك البلدة آمنة من الخراب. والثاني : أن المراد جعل أهلها آمنين ، كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) أي أهل القرية ، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين ، وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين :
الوجه الأول : ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن ، وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن ، وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً ، ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة ، ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة ، فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه.
والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله : {اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا} أي بالأمر والحكم بجعله آمناً وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة.
والجواب : عن السؤال الثاني قال الزجاج : معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال : {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة : 128) أي ثبتنا على الإسلام.
ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان : الأول : أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب. والثاني : أن الصوفية يقولون : إن الشرك نوعان : شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون ، وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده.
(1/2645)

/ والجواب عن السؤال الثالث من وجوه : الأول : قال صاحب "الكشاف" : قوله (وبني) أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله : {وَاجْنُبْنِى} . والثاني : قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم. الثالث : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً ، والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن. وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجاراً مخصوصة وأشجاراً مخصوصة ، وهذا الجواب ليس بقوي ، لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك. الرابع : أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية : {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى } وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، ونظيره قوله تعالى لنوح : {إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَا إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ } (هود : 46). والخامس : لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض ، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام ، ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : {قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} (البقرة : 124).
جزء : 19 رقم الصفحة : 103
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بقوله : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} على أن الكفر والإيمان من الله تعالى ، وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى ، وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد ، لأنه عدول عن الظاهر ، ولأنا قد ذكرنا وجوهاً كثيرة في إفساد هذا التأويل.
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } واتفق كل الفرق على أن قوله : {أَضْلَلْنَ} مجاز لأنها جمادات ، والجماد لا يفعل شيئاً ألبتة ، إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم ، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها.
ثم قال : {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى } يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني ، أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته ، والدليل عليه أن قوله : {وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول : أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك ، والأول باطل من وجهين : الأول : أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} وأيضاً قوله : {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى } يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه / على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته. والثاني : أن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة ، ولما بطل هذا ثبت أن قوله : {وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار.
وإذا ثبت هذا فنقول : تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة ، والأول والثاني باطلان لأن قوله : {وَمَنْ عَصَانِى} اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر ، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه ، فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة ، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلّم لوجوه : الأول : أنه لا قائل بالفرق. والثاني : وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد صلى الله عليه وسلّم لكان ذلك نقصاناً في حق محمد عليه السلام. والثالث : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى : { أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) وقوله : {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد صلى الله عليه وسلّم وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 103
(1/2646)

إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين : قال السدي معناه : ومن عصاني ثم تاب ، وقيل : إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك ، وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم ، يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام ، وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة. واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة.
أما الأول : وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه.
وأما الثاني : وهو قوله إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول : هذا أيضاً بعيد ، لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر.
وأما الثالث : وهو قوله المراد من كونه : {غَفُورًا رَّحِيمًا} أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضاً بعيد ، لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان والله أعلم.
/ وأما الرابع : وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإمانة فنقول هذا باطل ، لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 103
107
اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أموراً سبعة.
المطلوب الأول : طلب من الله نعمة الأمان وهو قوله : {رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا} (البقرة : 126) والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به ، وسئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة ؟
فقال : الأمن أفضل ، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت / وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد.
والمطلوب الثاني : أن يرزقه الله التوحيد ، ويصونه عن الشرك ، وهو قوله : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35).
جزء : 19 رقم الصفحة : 107
(1/2647)

والمطلوب الثالث : قوله : {رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} فقوله : {مِن ذُرِّيَّتِى} أي بعض ذريتي وهو إسمعيل ومن ولد منه {بِوَادٍ} هو وادي مكة {غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} أي ليس فيه شيء من زرع ، كقوله : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} (الزمر : 28) بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم ، وذكروا في تسميته المحرم وجوها : الأول : أن الله حرم التعرض له والتهاون به ، وجعل ما حوله حرماً لمكانه. الثاني : أنه كان لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب. الثالث : سمي محرماً لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه. الرابع : أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه. الخامس : أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل. السادس : حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة ، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم ، فرفع إلى السماء السابعة. السابع : حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها : روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له إسمعيل عليه السلام ، فقالت سارة : كنت أرجو أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي ، وقالت لإبراهيم : أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسمعيل رضيع ، ثم رجع فقالت هاجر : إلى من تكلنا ؟
فقال إلى الله. ثم دعا الله تعالى بقوله ؛ {رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ} إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "رحم الله أم إسمعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً" ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسمعيل واشتغل هو مع إسمعيل برفع قواعد البيت. قال القاضي : أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا : إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام ، وأقول : أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصاً لإسمعيل عليه السلام ، لأن ذلك عندنا جائز خلافاً للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام.
جزء : 19 رقم الصفحة : 107
ثم قال : {رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ} واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوماً من ذريتي ، وهم إسمعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة.
/ ثم قال : {فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ} وفيه مباحث :
البحث الأول : قال الأصمعي هوى يهوي هوياً بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل. وقيل : {تَهْوِى إِلَيْهِمْ} تريدهم ، وقيل : تسرع إليهم. وقيل : تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل ، يقال : هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب ، وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل.
البحث الثاني : أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا. أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى. وأما الدنيا : فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات ، فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم ، ويكثر طعامهم ولباسهم.
البحث الثالث : كلمة {مِنْ} في قوله : {فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ} تفيد التبعيض ، والمعنى : فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم. قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس ، لحجت اليهود والنصارى المجوس ، ولكنه قال : {أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ} فهم المسلمون.
ثم قال : {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} وفيه بحثان :
البحث الأول : أنه لم يقل : وارزقهم الثمرات ، بل قال : {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم.
البحث الثاني : يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد : عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها.
ثم قال : {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات ، فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات.
المطلوب الرابع : قوله : {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } .
جزء : 19 رقم الصفحة : 107
(1/2648)

واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ، ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل ، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها ، فقال : {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا ، قيل : ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسمعيل ، وما نعلن من البكاء ، وقيل : ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا ؟
/ فقال إلى الله أكلكم ، قالت آلله أمرك بهذا ؟
قال نعم : قالت إذن لا نخشى.
ثم قال : {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فِى الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} وفيه قولان : أحدهما : أنه كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله : {وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ} (النحل : 34) والثاني : أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان/ ولفظ "من" يفيد الاستغراق كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما.
ثم قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } وفيه مباحث :
البحث الأول : اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسمعيل وإسحق على الكبر والشيخوخة ، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعاً وتسعين سنة ، ولما ولد إسحق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسمعيل لأربع وستين سنة وولد إسحق لتسعين سنة ، وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، وإنما ذكر قوله : {عَلَى الْكِبَرِ} لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم ، من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم ، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم.
فإن قيل : إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسمعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي ، وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحق فكيف يمكنه أن يقول : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } .
جزء : 19 رقم الصفحة : 107
قلنا قال القاضي : هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء. ويمكن أيضاً أن يقال : إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسمعيل وظهور إسحق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه.
البحث الثاني : على في قوله : {عَلَى الْكِبَرِ} بمعنى مع كقول الشاعر :
إني على ما ترين من كبري
أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ومعناه : وهب لي في حال الكبر.
البحث الثالث : في المناسبة بين قوله : {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُا وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فِى الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} وبين قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا / المطلوب ، بل قال : {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا ، ثم قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } وذلك يدل ظاهراً على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه لاسلام حاكياً عن ربه أنه قال : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" ثم قال : {إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ} .
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال : {إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ} أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله : سميع الدعاء. من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده.
المطلوب الخامس : قوله : {رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَواةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله : {رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَواةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى } يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله ، وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أن الكل من الله.
جزء : 19 رقم الصفحة : 107
(1/2649)

المسألة الثانية : تقدير الآية : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي. أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة "من" في قوله : {وَمِن ذُرِّيَّتِى } للتبعيض ، وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} .
المطلوب السادس : أنه عليه السلام لما دعا الله في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال : {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} وقال ابن عباس : يريد عبادتي بدليل قوله تعالى : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (مريم : 48).
المطلوب السابع : قوله : {رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة الذنب فهذا يدل على أنه كان قد صدر الذنب عنه وإن كان قاطعاً بأن الله يغفر له فكيف طلب تحصيل ما كان قاطعاً بحصوله ؟
والجواب : المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته.
المسألة الثانية : إن قال قائل كيف جاز أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين ؟
/ فالجواب عنه من وجوه : الأول : أن المنع منه لا يعلم إلا بالتوقيف فلعله لم يجد منه منعاً فظن كونه حائزاً. الثاني : أراد بوالديه آدم وحواء. الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام.
ولقائل أن يقول : لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً ولو لم يكن لبطل قوله تعالى : {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} (الممتحنة : 4) وقال بعضهم : كانت أمه مؤمنة ، ولهذا السبب خص أباه بالذكر في قوله تعالى : {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه ا أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه } (التوبة : 114) والله أعلم وفي قوله : {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} قولان : الأول : يقوم أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل ، والدليل عليه قولهم : قامت الحرب على ساقها ، ونظيره قوله ترجلت الشمس ، أي أشرقت وثبت ضوءها كأنها قامت على رجل. الثاني : أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز مثل قوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) أي أهلها. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 107
109
اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك ، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة ، وما يدل على صفة يوم القيامة ، أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَـافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـالِمُونَ } فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم ، لزم أن يكون إما غافلاً عن ذلك الظالم أو عاجزاً عن الإنتقام ، أو كان راضياً بذلك الظلم ، ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالاً على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم.
فإن قيل : كيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلّم أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة ؟
والجواب من وجوه : الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً ، كقوله : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام : 14). {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } (القصص : 88) وكقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } . والثاني : / أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الإنتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم ، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالاً. والثالث : أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. الرابع : أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلّم في الظاهر ، إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمة ، وعن سفيان بن عيينة : أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات.
الصفة الأولى : أنه تشخص فيه الأبصار. يقال : شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها ، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة.
والصفة الثانية : قوله : {مُهْطِعِينَ} وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة :
جزء : 19 رقم الصفحة : 109
القول الأول : قال أبو عبيدة هو الإسراع. يقال : أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه ، فالمعنى : أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً ، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد ، فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين ، أي مسرعين نحو وذلك البلاء.
القول الثاني : في الإهطاع قال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع.
والقول الثالث : المهطع الساكت.
والقول الرابع : قال الليث : يقال للرجل إذا قر وذل أهطع.
(1/2650)

الصفة الثالثة : قوله : {مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ} والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع ، فقوله : {مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ} أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه ، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم.
الصفة الرابعة : قوله : {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص ، فقوله : {تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ} لا يفيد كون هذا الشخوص دائماً وقوله : {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } يفيد دوام هذا الشخوص ، وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم.
الصفة الخامسة : قوله : {وَأَفْـاِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفاً فقيل : قلب فلان هواء إذا كان خالياً لا قوة فيه ، والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور ، لكثرة ما فيه من الحزن ، إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا / في وقت حصولها فقيل : إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب ، وقيل : إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق ، والسعداء يذهبون إلى الجنة ، والأشقياء إلى النار. وقيل : بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور ، والأول أولى للدليل الذي ذكرناه ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 109
110
اعلم أن قوله : {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} فيه أبحاث :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" : {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} مفعول ثان لقوله : {وَأَنذِرِ} وهو يوم القيامة.
البحث الثاني : الألف واللام في لفظ {الْعَذَابَ} للمعهود السابق ، يعني : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب الذي تقدم ذكره وهو شخوص أبصارهم ، وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم.
البحث الثالث : الإنذار هو التخويف بذكر المضار ، والمفسرون مجمعون على أن قوله : {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} هو يوم القيامة ، وحمله أبو مسلم على أنه حال المعاينة ، والظاهر يشهد بخلافه ، لأنه تعالى وصف اليوم بأن عذابهم يأتي فيه وأنهم يسألون الرجعة ، ويقال لهم : {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة. وحجة أبي مسلم : أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى : {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـالِحِينَ} (المنافقون : 10) ثم حكى الله سبحانه ما يقول الكفار في ذلك اليوم ، فقال : {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } واختلفوا في المراد بقوله : {أَخِّرْنَآ إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ} فقال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرطوا فيه ، وقال : بل طلبوا الرجوع إلى حال التكليف بدليل قولهم : نجب دعوتك ونتبع الرسل ، وأما على قول أبي مسلم فتأويل هذه الآية ظاهر فقال تعالى مجيباً لهم : {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ومعناه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى ، وهو قوله تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ } (النحل : 38) إلى غير ذلك مما كانوا يذكرونه من إنكار المعاد فقرعهم الله تعالى بهذا القول لأن التقريع بهذا الجنس أقوى ، ومعنى : ما لكم من زوال ، لا شبهة في أنهم كانوا يقولون لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة ، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت أو عن شباب إلى هرم أو عن فقر إلى غنى ، ثم إنه تعالى زادهم تقريعاً آخر بقوله : {وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} يعني سكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم ، وهم قوم نوح وعاد وثمود ، وظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر ، فإذا لم يعتبر كان مستوجباً للذم والتقريع.
جزء : 19 رقم الصفحة : 110
ثم قال : {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} وظهر لكم أن عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال.
فإن قيل : ولماذا قيل : {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} ولم يكن القوم يقرون بأنه تعالى أهلكهم لأجل تكذيبهم ؟
(1/2651)

قلنا : إنهم علموا أن أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا ثم إنهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا ، والواجب الجد والاجتهاد في طلب الدين/ والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفاً وجلاً فيكون ذلك زجراً له هذا إذا قرىء بالتاء أما إذا قرىء بالنون فلا شبهة فيه لأن التقدير كأنه تعالى قال : أولم نبين لكم كيف فعلنا بهم ، وليس كل ما بين لهم تبينوه.
أما قوله : {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ} فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الإبتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل ، وذلك في كتاب الله كثير. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 110
111
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال : {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : {وَقَدْ مَكَرُوا } إلى ماذا يعود ؟
على وجوه : الأول : أن يكون الضمير عائداً إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. والثاني : أن يكون المراد به قوم محمد صلى الله عليه وسلّم والدليل عليه قوله : {وَأَنذِرِ النَّاسَ} (إبراهيم : 45) يا محمد وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } (الأنفال : 30) وقوله : {مَكْرِهِمْ} أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم. الثالث : أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور ، وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض ، فهذا هو المراد من مكرهم. قال القاضي : وهذا بعيد جداً لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية ألبتة.
المسألة الثانية : قوله : {وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} فيه وجهان : الأول : أن يكون المكر مضافاً إلى الفاعل كالأول. والمعنى : ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه. والثاني : أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول ، والمعنى : وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون.
أما قوله تعالى : {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده {لِتَزُولَ} بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه ، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية.
جزء : 19 رقم الصفحة : 111
أما القراءة الأولى : فمعناها أن مكرهم كان معداً لأن تزول منه الجبال ، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه ، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّا وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (مريم : 90).
وأما القراءة الثانية : فالمعنى : أن لفظ "إن" في قوله ؛ {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} بمعنى "ما" واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل. والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (آل عمران : 179). {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران : 179) والجبال ههنا مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية / لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان. ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية : {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا } (إبراهيم : 47) أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم. والمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد صلى الله عليه وسلّم/ ودلائل شريعته ، وقرأ علي وعمرو : {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 111
111
(1/2652)

اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَـافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـالِمُونَ } (إبراهيم : 42) وقال في هذه الآية : {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا } والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين ، لزم إما كونه غافلاً وإما كونه مخلفاً في الوعد ، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلاً وقوله : {مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا } يعني قوله : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} (غافر : 51) وقوله : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } (المجادلة : 21).
فإن قيل : هلا قيل مخلف رسله وعده ، ولم قدم المفعول الثاني على الأول ؟
قلنا : ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً ، إن الله لا يخلف الميعاد ، ثم قال : {رُسُلَه ا } ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته ، وقرىء : {مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا } بجر الرسل ونصب الوعد ، والتقدير : مخلف رسله وعده ، وهذه القراءة في الضعف ، كمن قرأ قتل أولادهم شركائهم ثم قال : {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 111
116
اعلم أن الله تعالى لما قال : {عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} بين وقت انتقامه فقال : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ} وعظم من حال ذلك اليوم ، لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السموات والأرض وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين ، إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله : {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} .
المسألة الثانية : اعلم أن التبديل يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى. والثاني : أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى ، والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز ، أنه يقال بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل ، ومنه قوله تعالى : {فَ أولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ } (الفرقان : 70) ويقال : بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من صفة إلى صفة أخرى ، ويقال : تبدل زيد إذا تغيرت أحواله ، وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير ، ومنه قوله : {بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (النساء : 56) وقوله : {وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} (سبأ : 16) إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان :
القول الأول : أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها ، فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً" وقوله : أي تبدل السموات غير السموات ، وهو كقوله عليه السلام : "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" والمعنى : ولا ذو عهد في عهده بكافر ، وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها ، وتكوير شمسها ، وخسوف قمرها ، وكونها أبواباً ، وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 116
والقول الثاني : أن المراد تبديل الذات. قال ابن مسعود : تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة ، فهذا شرح هذين القولين ، ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله : {انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ} المراد هذه الأرض ، والتبدل صفة مضافة إليها ، وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجوداً ، فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل ، ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل ، وإلا لامتنع حصول التبدل ، فوجب أن يكون الباقي هو الذات. فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية ، والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون : إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنما يعدم صفاتها وأحوالها.
واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم/ ويجعل السموات الجنة ، والدليل عليه قوله تعالى : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) وقوله : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ} (المطففين : 7) والله أعلم.
(1/2653)

أما قوله تعالى : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فنقول أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} وإنما ذكر الواحد القهار ههنا ، لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكال الأمر في غاية الصعوبة ، ونظيره قوله : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر : 16) ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم ، فقال : {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـاـاِذٍ} .
واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أموراً :
فالصفة الأولى : كونهم مقرنين في الأصفاد. يقال : قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته. والقرآن اسم للحبل الذي يشد به شيئان. وجاء ههنا على التكثير لكثرة أولئك القوم والأصفاد جمع صفد وهو القيد.
إذا عرفت هذا فنقول : في قوله : {مُقْرِنِينَ} ثلاثة أوجه : أحدها : قال الكلبي : مقرنين كل كافر مع شيطان في غل ، وقال عطاء : هو معنى قوله : {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (التكوير : 70) أي قرنت فيقرن الله تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين ، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين ، وأقول حظ البحث العقلي منه أن الإنسان إذا فارق الدنيا ، فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة الله تعالى وطاعته ومحبته ، أو ما فعل ذلك ، بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالية ، فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية ، والسعادة / بالعناية الصمدانية ، وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد ، بسبب الميل إلى عالم الجسم ، وهذا هو المراد بقوله : {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة ، والحوادث الفاسدة ، وهو المراد من قول عطاء : إن كل كافر مع شيطانه يكون مقروناً في الأصفاد.
جزء : 19 رقم الصفحة : 116
والقول الثاني : في تفسير قوله : {مُّقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ} هو قرن بعض الكفار ببعض ، والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية ، لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض ، وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى ، فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات ، والخسارات هي المراد بقوله : {مُّقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ} .
والقول الثالث : قال زيد بن أرقم : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال ، وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء ، فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة ، صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها. وأما قوله : {فِى الاصْفَادِ} ففيه وجهان : أحدها : أن يكون ذلك متعلقاً بمقرنين ، والمعنى : يقربون بالأصفاد. والثاني : أن لا يكون متعلقاً به ، والمعنى : أنهم مقرنون مقيدون ، وحظ العقل معلوم مما سلفت الإشارة إليه.
الصفة الثانية : قوله تعالى : {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} السرابيل جمع سربال وهو القميص ، والقطران فيه ثلاث لغات : قطران وقطران وقطرن ، بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء وبفتح القاف وكسر الطاء ، وهو شيء يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب فيحرق الجرب بحرارته وحدته ، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ، ومن شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار ، وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل/ وهي القمص فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب ، لذع القطران وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح ، وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين ، وأقول حظ العقل من هذا أن جوهر الروح جوهر مشرق لامع من عالم القدس وغيبة الجلال ، وهذا البدن جارٍ مجرى السربال والقميص له ، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم ، فإنما يحصل بسبب هذا البدن ، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس ، لأن الشهوة والحرص والغضب إنما تتسارع إلى جوهر الروح بسببه ، وكونه للكثافة والكدورة والظلمة هو الذي يخفي لمعان الروح وضوءه وهو سبب لحصول النتن والعفونة ، فتشبه هذا الجسد بسرابيل من القطران والقطر ، وقرأ / بعضهم {مِّن قَطِرَانٍ} والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره. قال أبو بكر بن الأنباري : وتلك النار لا تبطل ذلك القطران ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 116
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ونظيره قوله تعالى : {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِه سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } (الزمر : 24) وقوله : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} (القمر : 48).
(1/2654)

واعلم أن موضع المعرفة والنكرة والعلم والجهل هو القلب ، وموضع الفكر والوهم والخيال هو الرأس. وأثر هذه الأحوال إنما تظهر في الوجه ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما فقال في القلب : {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْاِدَةِ} (الهمزة : 6 ، 7) وقال في الوجه : {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} بمعنى تتغشى ، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الثلاثة قال : {لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } قال الواحدي : المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان ، وأقول يمكن إجراء اللفظ على عمومه ، لأن لفظ الآية يدل على أنه تعالى يجزي كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية ، كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور ، ولما كان كسب المؤمنين الأيمان والطاعة ، كان اللائق بهم هو الثواب وأيضاً أنه تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم فلأن يثيب المطيعين على طاعتهم كان أولى.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه. وحظ العقل منه أن الأخلاق الظلمانية هي المبادي لحصول الآلام الروحانية وحصول تلك الأخلاق في النفس على قدر صدور تلك الأعمال منهم في الحياة الدنيا ، فإن الملكات النفسانية إنما تحصل في جوهر النفس بسبب الأفعال المتكررة ، وعلى هذا التقدير فتلك الآلام تتفاوت بحسب تلك الأفعال في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها وذلك يشبه الحساب.
ثم قال تعالى : {هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ} أي هذا التذكير والموعظة بلاغ للناس ، أي كفاية في الموعظة ثم اختلفوا فقيل : إن قوله هذا إشارة إلى كل القرآن ، وقيل : بل إشارة إلى كل هذه السورة ، وقيل : بل إشارة إلى المذكور من قوله : {وَلا تَحْسَبَنَّ} إلى قوله : {سَرِيعُ الْحِسَابِ} وأما قوله : {وَلِيُنذَرُوا بِه } فهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا : {وَلِيُنذَرُوا بِه } أي بهذا البلاغ.
جزء : 19 رقم الصفحة : 116
ثم قال : {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَابِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في هذا الكتاب مراراً أن النفس الإنسانية لها شعبتان : القوة النظرية وكمال حالها في معرفة الموجودات بأقسامها وأجناسها وأنواعها حتى تصير النفس كالمرآة / التي يتجلى فيها قدس الملكوت ويظهر فيها جلال اللاهوت ورئيس هذه المعارف والجلاء/ معرفة توحيد الله بحسب ذاته وصفاته وأفعاله.
والشعبة الثانية ؛ القوة العملية وسعادتها في أن تصير موصوفة بالأخلاق الفاضلة التي تصير مبادي لصدور الأفعال الكاملة عنها ، ورئيس سعادات هذه القوة طاعة الله وخدمته.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة النظرية وقوله : {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَابِ} إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة العملية فإن الفائدة في هذا التذكر ، إنما هو الإعراض عن الأعمال الباطلة والإقبال على الأعمال الصالحة ، وهذه الخاتمة كالدليل القاطع في أنه لا سعادة للإنسان إلا من هاتين الجهتين.
المسألة الثانية : هذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ والنصائح يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح ، والوجه فيه أن المرء إذا سمع هذه التخويفات والتحذيرات عظم خوفه واشتغل بالنظر والتأمل ، فوصل إلى معرفة التوحيد والنبوة واشتغل بالأعمال الصالحة.
المسألة الثالثة : قال القاضي : أول هذه السورة وآخرها يدل على أن العبد مستقل بفعله ، إن شاء أطاع وإن شاء عصى ، أما أول هذه السورة فهو قوله تعالى : {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم : 1) فإنا قد ذكرنا هناك أن هذا يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية ، وأما آخر السورة فلأن قوله : {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَابِ} يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذه السورة ، وإنما ذكر هذه النصائح والمواعظ لأجل أن ينتفع الخلق بها فيصيروا مؤمنين مطيعين ويتركوا الكفر والمعصية ، فظهر أن أول هذه السورة وآخرها متطابقان في إفادة هذا المعنى. واعلم أن الجواب المستقصى عنه مذكور في أول السورة فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 116
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله ، لأنه تعالى بين أنه إنما أنزل هذه الكتب ، وإنما بعث الرسل لتذكير أولى الألباب ، فلولا الشرف العظيم والمرتبة العالية لأولى الألباب لما كان الأمر كذلك.
جزء : 19 رقم الصفحة : 116
116
(1/2655)

سورة الحجر
مكية ، إلا آية : 87 ، فمدنية
وآياتها : 99 ، نزلت بعد سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 19 رقم الصفحة : 116
119
/ اعلم أن قوله : {تِلْكَ} إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات. والمراد بالكتاب والقرآن المبين الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمداً صلى الله عليه وسلّم وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى : تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان.
أما قوله : {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وعاصم {رُّبَمَا} خفيفة الباء والباقون مشددة قال أبو حاتم : أهل الحجاز يخففون ربما ، وقيس وبكر يثقلونها ، وأقول في هذه اللفظة لغات ، وذلك لأن الراء من / رب وردت مضمومة ومفتوحة ، أما إذا كانت مضمومة فالباء قد وردت مشددة ومخففة وساكنة وعلى كل التقديرات تارة مع حرف ما ، وتارة بدونها وأيضاً تارة مع التاء وتارة بدونها وأنشدوا :
أسمى ما يدريك أن رب فتية
باكرت لذتهم بأذكر مسرع
ورب بتسكين الباء وأنشدوا بيت الهذلي :
أزهير أن يشب القذال فإنني
رب هيضل مرس كففت بهيضل
والهيضل جماعة متسلحة ، وأيضاً هذه الكلمة قد تجيء حالتي تشديد الباء وتخفيفها مع حرف "ما" كقولك : ربما وربما وتارة مع التاء ، وحرف "ما" كقولك : ربتما وربتما هذا كله إذا كانت الراء من رب مضمونة وقد تكون مفتوحة ، فيقال : رب وربما وربتما حكاه قطرب قال أبو علي : من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث ، نحو : ثم وثمت ، ورب وربت ، ولا ولات ، فهذه اللغات بأسرها رواها الواحدي في "البسيط".
المسألة الثانية : رب حرف جر عند سيبويه ، ويلحقها "ما" على وجهين : أحدهما : أن تكون نكرة بمعنى شيء ، وذلك كقوله :
رب ما تكره النفوس من الأمـ
ـر له فرجة كحل العقال
فما في هذا البيت اسم والدليل عليه عود الضمير إليه من الصفة ، فإن المعنى رب شيء تكرهه النفوس وإذا عاد الضمير إليه كان اسماً ولم يكن حرفاً ، كما أن قوله تعالى : {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} (المؤمنون : 55) لما عاد الضمير إليه علمنا بذلك أنه اسم ، ومما يدل على أن "ماء" قد يكون اسماً إذا وقعت بعد رب وقوع من بعدها في قول الشاعر :
جزء : 19 رقم الصفحة : 119
يا رب من ينقص أزوادنا
رحن على نقصانه واغتدين
فكما دخلت رب على كلمة "من" وكانت نكرة ، فكذلك تدخل على كلمة (ما) فهذا ضرب والضرب الآخر أن تدخل ما كافة كما في هذه الآية والنحويون يسمون ما هذه الكافة يريدون أنها بدخلوها كفت الحرف عن العمل الذي كان له ، وإذا حصل هذا الكف فحينئذ تتهيأ للدخول على ما لم تكن تدخل عليه ، ألا ترى أن رب إنما تدخل على الإسم المفرد نحو رب رجل يقول ذاك ولا تدخل على الفعل ، فلما دخلت "ما" عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية ، والله أعلم.
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن رب موضوعة للتقليل ، وهي في التقليل نظيرة كم في التكثير/ فإذا قال الرجل : ربما زارنا فلان ، دل ربما على تقليله الزيارة. قال الزجاج : ومن قال إن رب يعني بها الكثرة ، فهو ضد ما يعرفه أهل اللغة ، وعلى هذا التقدير : فههنا سؤال ، وهو أن تمني / الكافر الإسلام مقطوع به ، وكلما رب تفيد الظن ، وأيضاً أن ذلك التمني يكثر ويتصل ، فلا يليق به لفظة {رُّبَمَا} مع أنها تفيد التقليل.
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن من عادة العرب أنهم إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظاً وضع للتقليل ، وإذا أرادوا اليقين ذكروا لفظاً وضع للشك ، والمقصود منه : إظهار التوقع والاستغناء عن التصريح بالغرض ، فيقولون : ربما ندمت على ما فعلت ، ولعلك تندم على فعلك ، وإن كان العلم حاصلاً بكثرة الندم ووجوده بغير شك ، ومنه قول القائل :
قد أترك القرن مصفراً أنامله
والوجه الثاني : في الجواب أن هذا التقليل أبلغ في التهديد ، ومعناه : أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً عن هذا الفعل فكيف كثيره ؟
والوجه الثالث : في الجواب أن يشغلهم العذاب عن تمني ذاك إلا في القليل.
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن كلمة "رب" مختصة بالدخول على الماضي كما يقال : ربما قصدني عبد الله ، ولا يكاد يستعمل المستقبل بعدها. وقال بعضهم : ليس الأمر كذلك والدليل عليه قول الشاعر :
ربما تكره النفوس من الأمر
(1/2656)

وهذا الاستدلال ضعيف ، لأنا بينا أن كلمة "رب" في هذا البيت داخلة على الإسم وكلامنا في أنها إذا دخلت على الفعل وجب كون ذلك الفعل ماضياً ، فأين أحدهما من الآخر ؟
إلا أني أقول قول هؤلاء الأدباء إنه لا يجوز دخول هذه الكلمة على الفعل المستقبل لا يمكن تصحيحه بالدليل العقلي ، وإنما الرجوع فيه إلى النقل والاستعمال ، ولو أنهم وجدوا بيتاً مشتملاً على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام الله أقوى وأجل وأشرف ، فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته. ثم نقول إن الأدباء أجابوا عن هذا السؤال من وجهين : الأول : قالوا : إن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : ربما ودوا. الثاني : أن كلمة "ما" في قوله : {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } اسم و{يَوَدُّ} صفة له ، والتقدير : رب شيء يوده الذين كفروا. قال الزجاج : ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما يود الذين كفروا فقد خرج بذلك عن قول سيبويه ألا ترى أن كان لا تضمر عنده ولم يجز عبد الله المقبول وأنت تريد كان عبد الله المقبول.
جزء : 19 رقم الصفحة : 119
المسألة الخامسة : في تفسير الآية وجوه على مذهب المفسرين فإن كل أحد حمل قوله : / {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } على محمل آخر ، والأصح ما قاله الزجاج فإنه قال : الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً ، وهذا الوجه هو الأصح. وأما المتقدمون فقد ذكروا وجوهاً. قال الضحاك : المراد منه ما يكون عند الموت ، فإن الكافر إذا شاهد علامات العقاب ود لو كان مسلماً. وقيل : إن هذه الحالة تحصل إذا اسودت وجوههم ، وقيل : بل عند دخولهم النار ونزول العذاب ، فإنهم يقولون : {أَخِّرْنَآ إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } (إبراهيم : 44) وروى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء من أهل القبلة قال الكفار لهم : ألستم مسلمين ؟
قالوا بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم ، وقد صرتم معنا في النار ، فيتفضل الله تعالى بفضل رحمته ، فيأمر بإخراج كل من كان من أهل القبلة من النار ، فيخرجون منها ، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية. وعلى هذا القول أكثر المفسرين ، وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما يزال الله يرحم المؤمنين ، ويخرجهم من النار ، ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة ، حتى أنه تعالى في آخر الأمر يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة. قال : فههنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. قال القاضي : هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار ، وعلى أن شفاعة الرسول مقبولة في إسقاط العقاب ، وهذان الأصلان عنده مردودان ، فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن هؤلاء الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة ، ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غم الكفرة وحسرتهم وهناك يودون لو كانوا مسلمين ، قال فبهذه الطريق تصحح هذه الأخبار والله أعلم.
فإن قيل : إذا كان أهل القيامة قد يتمنون أمثال هذه الأحوال وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقل ثوابه درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه ، والمتمني لما لم يجده يكون في الغصة وتألم القلب وهذا يقضي أن يكون أكثر المؤمنين في الغصة وتألم القلب.
قلنا : أحوال أهل الآخرة لا تقاس بأحوال أهل الدنيا ، فالله سبحانه أرضى كل أحد بما فيه ونزع عن قلوبهم طلب الزيادات كما قال : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} (الحجر : 47) والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 119
أما قوله تعالى : {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الامَلُا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى : دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وقوله : {وَيُلْهِهِمُ الامَلُ } يقال : لهيت عن الشيء الهى لهياً ، وجاء في الحديث أن ابن / الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لهى عن حديثه. قال الكسائي والأصمعي : كل شيء تركته فقد لهيت عنه وأنشد :
صرمت حبالك فاله عنها زينب
ولقد أطلت عتابها لو تعتب
فقوله فاله عنها أي اتركها وأعرض عنها. قال المفسرون : شغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فسوف يعلمون.
(1/2657)

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذة الآية على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون له مفسدة في الدين ، والدليل عليه أنه تعالى قال لرسوله : {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الامَلُ } فحكم بأن إقبالهم على التمتع واستغراقهم في طول الأمل يلهيهم عن الإيمان والطاعة ثم إنه تعالى أذن لهم فيها ، وذلك يدل على المقصود. قالت المعتزلة : ليس هذا إذناً وتجويزاً بل هذا تهديد ووعيد.
قلنا ؛ ظاهر قوله : {ذَرْهُمْ} إذن أقصى ما في الباب أنه تعالى نبه على أن إقبالهم على هذه الأعمال يضرهم في دينهم ، وهذا عين ما ذكرناه من أنه تعالى أذن في شيء مع أنه نص على كون ذلك الشيء مفسدة لهم في الدين.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين ، وعن بعضهم التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين ، والأخبار في ذم الأمل كثيرة فمنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان : الحرص على المال وطول الأمل" وعنه صلى الله عليه وسلّم أنه نقط ثلاث وقال : "هذا ابن آدم ، وهذا الأمل ، وهذا الأجل ، ودون الأمل تسع وتسعون منية فإن أخذته إحداهن ، وإلا فالهرم من ورائه" وعن علي عليه السلام أنه قال : إنما أخشى عليكم اثنين : طول الأمل واتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسي الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 119
121
/ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلّم بقوله : {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الامَلُا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى : {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلاً ، والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخراً وذلك نهاية في الزجر والتحذير.
المسألة الثانية : قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم ، وقال آخرون : المراد بهذا الهلاك الموت. قال القاضي : والأقرب ما تقدم ، لأنه في الزجر أبلغ ، فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر ، فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وقال قوم آخرون : المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت ، لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكاً ، فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معاً.
المسألة الثالثة : قال الفراء : لو لم تكن الواو مذكورة في قوله : {وَلَهَا كِتَابٌ} كان صواباً كما في آية أخرى وهي قوله : {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} (الشعراء : 208) وهو كما تقول : ما رأيت أحداً إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت : إلا عليه ثياب.
أما قوله : {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : من في قوله : {مِنْ أُمَّةٍ} زائدة مؤكدة كقولك : ما جاءني من أحد ، وقال آخرون : إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد.
المسألة الثانية : قال صاحب "النظم" معنى سبق إذا كان واقعاً على شخص كان معناه أنه جاز وخلف كقولك سبق زيد عمراً ، أي جازه وخلفه وراءه ، ومعناه أنه قصر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعاً على زمان كان بالعكس في ذلك ، كقولك : سبق فلان عام كذا معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه فقوله : {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ} معناه أنه لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، بل إنما يحصل في ذلك الوقت بعينه ، والسبب فيه أن اختصاص كل حادث بوقته المعين دون الوقت الذي قبله أو بعده ليس على سبيل الاتفاق الواقع ، لا عن مرجح ولا عن مخصص فإن / رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح محال ، وإنما اختص حدوثه بذلك الوقت المعين لأن إله العالم خصصه به بعينه ، وإذا كان كذلك ، فقدرة الإله وإرادته اقتضتا ذلك التخصيص ، وعلمه وحكمته تعلقا بذلك الاختصاص بعينه ، ولما كان تغير صفات الله تعالى أعني القدرة والإرادة والعلم والحكمة ممتنعاً كان تغير ذلك الاختصاص ممتنعاً.
جزء : 19 رقم الصفحة : 121
إذا عرفت هذا فنقول : هذا الدليل بعينه قائم في أفعال العباد أعني أن الصادر من زيد هو الإيمان والطاعة ومن عمرو هو الكفر والمعصية فوجب أن يمتنع دخول التغير فيهما.
(1/2658)

فإن قالوا : هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته. أما إذا قلنا : المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك.
قلنا : قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام ، وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده ، كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح ، فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل ، وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل ، وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى ، وحينئذ لا يعود الإلزام.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله ، وأن من قال : يجوز بأن يموت قبل أجله فمخطىء.
فإن قالوا : هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله : {وَمَآ أَهْلَكْنَا} على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم.
قلنا : قوله : {وَمَآ أَهْلَكْنَا} إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل ، فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول : إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت ، فوجب أن يكون الحكم ههنا كذلك ، والله أعم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 121
124
/ اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته.
فالشبهة الأولى : أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون ، وفيه احتمالات : الأول : أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ، والدليل عليه قوله : {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّه لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} (القلم : 51 ، 52) وأيضاً قوله : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ } (الأعراف : 184). والثاني : أنم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى ، فالرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل ، وقوله : {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في هذه الآية يحتمل الوجهين.
أما قوله : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} ففيه وجهان : الأول : أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء : 27) وكما قال قوم شعيب : {إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود : 87) وكما قال تعالى : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في زعمه واعتقاده ، وعند أصحابه وأتباعه. ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم : {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} وفيه مسألتان :
جزء : 19 رقم الصفحة : 124
(1/2659)

المسألة الأولى : المراد لو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة ، لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر ، وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعاً ، وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي ، ويكون في محل الشكوك والشبهات ، فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود ، فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني ، وإنزال الملائكة الذين يصدقونك ، ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعاً ، والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات ، فلو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء ، فهذا تقرير هذه الشبهة ، ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام : {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌا وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الامْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} (الأنعام : 8) وفيه احتمال آخر : وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به ، فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له : {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة } الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب / الموعود ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِا وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} (العنكبوت : 53) ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله : {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ} فنقول : إن كان المراد من قولهم : {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة } هو الوجه الأول/ كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم ، وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ، ولا يكون حقاً ، فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى ، وقال المفسرون : المراد بالحق ههنا الموت ، والمعنى : أنهم لا ينزلون إلا بالموت ، وإلا بعذاب الاستئصال ، ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال ، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة ، فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة ، وأما إن كان المراد من قوله تعالى : {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة } استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به ، فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال ، وحكمنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم أن لا نفعل بهم ذلك ، وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم ، ومن إيمان أولاد الباقين.
جزء : 19 رقم الصفحة : 124
المسألة الثانية : قال الفراء والزجاج : لولا ولو ما لغتان : معناهما : هلا ويستعملان في الخبر والاستفهام ، فالخبر مثل قولك لولا أنت لفعلت كذا ، ومنه قوله تعالى : {لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (سبأ : 31) والاستفهام كقولهم : {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } (الأنعام : 8) وكهذه الآية. وقال الفراء : لو ما الميم فيه بدل عن اللام في لولا ، ومثله استولى على الشيء واستومى عليه ، وحكى الأصمعي : خاللته وخالمته إذا صادقته ، وهو خلى وخلمي أي صديقي.
المسألة الثالثة : قوله : {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلا بِالْحَقِّ} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : {مَا نُنَزِّلُ} بالنون وبكسر الزاي والتشديد ، والملائكة بالنصب لوقوع الإنزال عليها. والمنزل هو الله تعالى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : {حَتَّى تُنَزِّلَ} عن فعل ما لم يسمى فاعله ، والملائكة بالرفع. والباقون : ما تنزل الملائكة على إسناد فعل النزول إلى الملائكة والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله : {وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ} يعني : لو نزلت الملائكة لم ينظروا أي يمهلوا فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة. قال صاحب "النظم" : لفظ اذن مركبة من كلمتين : من إذا وهو اسم بمنزلة حين ألا ترى أنك تقول : أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني. ثم ضم إليها أن ، فصار إذ أن. ثم استثقلوا الهمزة ، فحذفوها فصار إذن ، ومجيء لفظة إذن دليل على اضمار فعل بعدها والتقدير : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا وهذا تأويل حسن.
/ ثم قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن القوم إنما قالوا : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} (الحجر : 6) لأجل أنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول : "إن الله تعالى نزل الذكر علي" ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} .
(1/2660)

فأما قوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلاً أو قال قولاً قال : إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا ههنا.
جزء : 19 رقم الصفحة : 124
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {لَه لَحَـافِظُونَ} إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان :
القول الأول : أنه عائد إلى الذكر يعني : وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان ، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن : {لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه } (فصلت : 42) وقال : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82).
فإن قيل : فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه.
والجواب : أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا : وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن ، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان ، فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصوناً عن التغيير ، ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضاً أن يظن بهم النقصان ، وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة.
والقول الثاني : أن الكناية في قوله : {لَه } راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء ، وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال : لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه ، لكونه أمراً معلوماً كما في قوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا ، إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل والله أعلم.
المسألة الثالثة : إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن قال بعضهم : حفظه بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزاً كإحاطة السور بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها ، وقال آخرون : إنه تعالى صانه / وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته ، وقال آخرون : أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف ، وقال آخرون : المراد بالحفظ هو أن أحداً لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا : هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان : أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا ، فهذا هو المراد من قوله : {وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 124
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ ، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير ، إما في الكثير منه أو في القليل ، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضاً أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف ، وانقضى الآن قريباً من ستمائة سنة فكان هذا إخباراً عن الغيب ، فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً.
المسألة الرابعة : احتج القاضي بقوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} على فساد قول بعض الإمامية في أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان قال : لأنه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظاً ، وهذا الاستدلال ضعيف ، لأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، فالإمامية الذين يقولون إن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان ، لعلهم يقولون إن هذه الآية من جملة الزوائد التي ألحقت بالقرآن ، فثبت أن إثبات هذا المطلوب بهذه الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 124
127
اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا : إنك لمجنون ، فالله تعالى ذكر / أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت. ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام ، فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل :
(1/2661)

المسألة الأولى : في الآية محذوف والتقدير : ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. وقوله : {فِى شِيَعِ الاوَّلِينَ} أي في أمم الأولين وأتباعهم. قال الفراء : الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه ، والشيعة الأمة سموا بذلك ، لأن بعضهم شايع بعضاً وشاكله ، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله : {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} (الأنعام : 65) قال الفراء : وقوله : {فِى شِيَعِ الاوَّلِينَ} من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله : {لَحَقُّ الْيَقِينِ} (الحاقة : 51) وقوله : {بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} (القصص : 44) وقوله : {وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة : 5) أما قوله : {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه } أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم.
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور. الأول : أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات. والثاني : أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة ، وذلك شاق شديد على الطباع. والثالث : أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضاً في غاية المشقة. والرابع : أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد يكون فقيراً ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة. والخامس : خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم ، وهذا هو السبب الأصلي ؛ فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 127
أما قوله تعالى : {يَسْتَهْزِءُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُه فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون ، وقيل : في قوله : {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} (المدثر : 42) أي أدخلكم في جهنم. وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد : سلكته وأسلكته بمعنى واحد.
المسألة الثانية ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار ، فقالوا : قوله {كَذَلِكَ نَسْلُكُه } أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين ، قالت المعتزلة : لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ ، فلا يمكن أن يكون الضمير عائداً إليه لا يقال : إنه تعالى قال : {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} وقوله : {يَسْتَهْزِءُونَ} يدل على الاستهزاء ، فالضمير في قوله : {كَذَلِكَ نَسْلُكُه } عائد إليه ، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال ، فثبت صحة قولنا المراد من قوله : {كَذَالِكَ نَسْلُكُه فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين/ لأنا نقول : إن كان الضمير في قوله : {كَذَلِكَ نَسْلُكُه } عائداً إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله : {لا يُؤْمِنُونَ بِه } عائداً أيضاً إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا ، فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء ، وذلك يوجب التناقض ، لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمناً بكفره ، والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به ، وأيضاً فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار ، ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه ، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول : التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى : {كَذَالِكَ نَسْلُكُه } عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}
جزء : 19 رقم الصفحة : 127
(1/2662)

وقال بعده : {كَذَالِكَ نَسْلُكُه } أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين ، والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عناداً وجهلاً ، فكان هذا موجباً للحوق الذم الشديد بهم ، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان : الأول : أن الضمير في قوله : {لا يُؤْمِنُونَ بِه } عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله : {كَذَالِكَ نَسْلُكُه } عائداً إليه أيضاً لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد. والثاني : أن قوله : {كَذَالِكَ} معناه : مثل ما عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيهاً لهذا السلك بعمل آخر ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه ، ولم يجر لعمل من أعمال الله ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} فوجب أن يكون هذا معطوفاً عليه ومشبهاً به ، ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله : {نَسْلُكُه } عائداً إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم.
والجواب : لا يجوز أن يكون الضمير في قوله : {نَسْلُكُه } عائداً على الذكر ، ويدل عليه وجوه :
الوجه الأول : أن قوله : {كَذَالِكَ نَسْلُكُه } مذكور بحرف النون ، والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة ، ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوباً مقهوراً. فأما إذا فعل فعلاً ولم يظهر له أثر ألبتة ، صار المنازع والمدافع غالباً قاهراً ، فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحاً في هذا المقام ، والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك أسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ، ثم إنه / لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله تعالى كالهدر الضائع ، وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع ، وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله : {نَسْلُكُه } غير لائق بهذا المقام ، فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد.
والوجه الثاني : أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال : {كَذَالِكَ نَسْلُكُه فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} ولا يؤمنون به ، أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يمؤمنون أما ما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله : {لا يُؤْمِنُونَ بِه } كالتفسير ، والبيان لقوله : {نَسْلُكُه فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 127
والوجه الثالث : أن قوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) بعيد ، وقوله : {يَسْتَهْزِءُونَ} قريب ، وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب. أما قوله : لو كان الضمير في قوله : {نَسْلُكُه } عائداً إلى الاستهزاء لكان في قوله ؛ {لا يُؤْمِنُونَ بِه } عائداً إليه ، وحينئذ يلزم التناقض.
قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن مقضتى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات ، ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا : الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء ، والضمير الثاني عائد إلى الذكر ، وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن ، أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّا هَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِه ا فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لئن ءَاتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّآ ءَاتَا هُمَا صَالِحًا جَعَلا لَه شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَا هُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الأعراف : 189 ، 190) فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله : {جَعَلا لَه شُرَكَآءَ} عائدة إلى آدم وحواء ، وأما في قوله : {جَعَلا لَه شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَا هُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} عائدة إلى غيرهما ، فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم ، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا ههنا والله أعلم.
والوجه الثاني : في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله : {لا يُؤْمِنُونَ بِه } تفسير للكناية في قوله : {نَسْلُكُه } والتقدير : كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
(1/2663)

والوجه الثالث : وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد ، وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق ، والعلم والحق ، وأن أحداً / لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لايحصل ذلك ، وإنما يحصل الكفر والباطل ، علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 127
فإن قالوا : إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان : فنقول : فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال ، وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق الله تعالى ، وذلك هو الذي قلناه : أن المراد من قوله : {كَذَالِكَ نَسْلُكُه فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ} والمعنى : نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به ، وهو أنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها ، وأيضاً قدماء المفسرين مثل ابن عباس وتلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها ، والتأويل الذي ذكره المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين ، فكان مردوداً ، وروى القاضي عن عكرمة أن المراد كذلك نسلك القسوة في قلوب المجرمين ، ثم قال القاضي : إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره ويعاند ، فلا يصح إضافته إلى الله تعالى ، فيقال للقاضي : إن هذا يجري مجرى المكابرة ، وذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول ونبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه واصفر وجهه ، وربما ارتعدت أعضاؤه ولا يقدر على الالتفات إليه والاصغاء لقوله ، فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه ، فكيف يقال : إنها حصلت بفعله واختياره ؟
فإن قالوا : إنه يمكنه ترك هذه الأحوال ، والرجوع إلى الانقياد والقبول فنقول هذا مغالطة محضة ، لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب/ والنبوة العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الإنقياد والقبول والطاعة والرضا فهذا مكابرة ، وإن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول والتسليم فهذا حق ، إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي والصوارف عن القلب فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي والصوارف إلى دواعي سابقة عليها ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال ، وإن كان الفاعل لها هو الله تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي والصوارف في القلوب وذلك عين ما ذكرناه والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ} ففيه قولان : الأول : أنه تهديد لكفار مكة يقول قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية. الثاني : وهو قول الزجاج : وقد / مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم ، وهذا أليق بظاهر اللفظ.
جزء : 19 رقم الصفحة : 127
129
اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} (الأنعام : 7) والحاصل : أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولاً من عند الله تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم فنحن في الحقيقة لا نراهم. والحاصل : أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم.
فإن قيل : كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكرين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ، ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة ، ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة.
أجاب القاضي عنه : بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ، ثم سأل نفسه وقال : أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات. وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم ، وأيضاً فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصومين ، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلّم إنزال الملائكة ، وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم ، وكانوا قليلي العدد ، وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز.
(1/2664)

المسألة الثانية : قوله تعالى : {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} يقال : ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظلول ، وقوله : {فِيهِ يَعْرُجُونَ} يقال : عرج يعرج عروجاً ، ومنه المعارج ، وهي المصاعد التي يصعد فيها ، وللمفسرين في هذه الآية قولان :
/ القول الأول : أن قوله : {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} من صفة المشركين. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه ، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى الله عليه وسلّم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله.
جزء : 19 رقم الصفحة : 129
القول الثاني : أن هذه العروج للملائكة ، والمعنى : أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبواباً من السماء مفتوحة وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه ، ولقالوا : إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله : {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَـارُنَا} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير {سُكِّرَتْ} بالتخفيف ، والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا : وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء ، فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري ، والتشديد يوجب زيادة وتكثيراً وقال أبو عمرو بن العلاء : هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى/ وقال أبو عبيدة : {سُكِّرَتْ أَبْصَـارُنَا} أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها ، وعلى هذا القول أصله من السكون يقال : سكرت الريح سكراً إذا سكنت وسكر الحر يسكر وليلة ساكرة لا ريح فيها وقال أوس :
جذلت على ليلة ساهرة
فليست بطلق ولا ساكره
ويقال : سكرت عينه سكراً إذا تحيرت وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا ، أي سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج. وقال أبو علي الفارسي : سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها ، وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري ، فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية ، والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو ، فهذه أقوال أربعة في تفسير {سُكِّرَتْ} وهي في الحقيقة متقاربة ، والله أعلم.
المسألة الثانية : قال الجبائي : من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل ، وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل / هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان ، ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق ، بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر ، وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 129
130
(1/2665)

اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة ، وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد. ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية ، ومنها أرضية ، بدأ منها بذكر الدلائل السماوية ، فقال : {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّـاهَا لِلنَّـاظِرِينَ} قال الليث : البرج واحد من بروج الفلك ، والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً ، ونظيره قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا} (الفرقان : 61) وقال : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (البروج : 1) ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار ، هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام ، وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة ، وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة ، فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار ، وهو المطلوب ، وأما قوله : {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّـاهَا لِلنَّـاظِرِينَ * وَحَفِظْنَـاهَا مِن كُلِّ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَه شِهَابٌ مُّبِينٌ} فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } (الملك : 5) فلا نعيد ههنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله : {وَزَيَّنَّـاهَا} أي بالشمس والقمر والنجوم {لِلنَّـاظِرِينَ} أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله : {وَحَفِظْنَـاهَا مِن كُلِّ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ} .
فإن قيل : ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم ، والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 130
قلنا : لما منعه من القرب منها ، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد / يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول : معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة. ثم قيل للقتيل رجم تشبيهاً له بالرجم بالحجارة ، والرجم أيضاً السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله : {لارْجُمَنَّكَ } أي لأسبنك ، والرجم اسم لكل ما يرمى به ، ومنه قوله : {وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } (الملك : 5) أي مرامي لهم ، والرجم القول بالظن ، ومنه قوله : {رَجْمَا بِالْغَيْبِ } (الكهف : 22) لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضاً اللعن والطرد ، وقوله الشيطان الرجيم ، قد فسروه بكل هذه الوجوه. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الشياطين لا تحجب عن السموات ، فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات ، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها ، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب. وقوله : {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} لا يمكن حمل لفظة {إِلا} ههنا على الاستثناء ، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها ، وإنما يحاولون القرب منها ، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق ، فوجب أن يكون معناه : لكن من استرق السمع. قال الزجاج : موضع {مَنِ} نصب على هذا التقدير. قال : وجائز أن يكون في موضع خفض ، والتقدير : إلا ممن. قال ابن عباس : في قوله : {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} يريد الخطفة اليسيرة ، وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله ، ومنهم من يحيله فيصير غولاً يضل الناس في البراري. وقوله : {فَأَتْبَعَه } ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله : {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ} (الأعراف : 175) معناه لحقه ، والشهاب شعلة نار ساطع ، ثم يسمى الكواكب شهاباً ، والسنان شهاباً لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار.
(1/2666)

واعلم أن في هذا الموضع أبحاثاً دقيقة ذكرناها في سورة الملك وفي سورة الجن ، ونذكر منها ههنا إشكالاً واحداً ، وهو أن لقائل أن يقول : إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السموات ويختلط بالملائكة ويسمع أخبار الغيوب عنهم ، ثم إنها تنزل وتلقي تلك الغيوب على الكهنة فعلى هذا التقدير وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً لأن كل غيب يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلّم قام فيه هذا الاحتمال وحينئذ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق ، لا يقال إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلّم لأنا نقول هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد رسولاً وكون القرآن حقاً ، والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز ، وكون الإخبار عن الغيب معجزاً لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو باطل محال ، ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كون محمد صلى الله عليه وسلّم / رسولاً بسائر المعجزات ، ثم بعد العلم بنبوته نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق ، وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجز ، وبهذا الطريق يندفع الدور. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 130
133
علم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية ، وهي أنواع :
النوع الأول : قوله تعالى : {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء ، وفيه احتمال آخر ، وذلك لأن الأرض جسم ، والجسم هو الذي يكون ممتداً في الجهات الثلاثة ، وهي الطول والعرض والثخن ، وإذا كان كذلك ، فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهياً وإذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصاً بمقدار معين مع أن الإزدياد عليه معقول ، والانتقاص عنه أيضاً معقول ، وإذا كان كذلك كان اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد والأنقص اختصاصاً بأمر جائز وذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر ، وهو الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل : هل يدل قوله : {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} على أنها بسيطة ؟
قلنا : نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة ، فهي كرة في غاية العظمة ، والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها ، إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي ، وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ : 7) سماها أوتاداً مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية ، فكذا ههنا.
النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال الثوابت ، واحدها راسي ، والجمع راسية ، وجمع الجمع رواسي ، وهو كقوله تعالى : {وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل : 15) وفي تفسيره وجهان :
الوجه الأول : قال ابن عباس : لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها.
فإن قيل : أتقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن الله خلق الأرض والجبال معاً.
قلنا : كلا الوجهين محتمل.
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
والوجه الثاني : في تفسير قوله : {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وهذا الوجه ظاهر الاحتمال.
النوع الثالث : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ} وفيه بحثان :
البحث الأول : أن الضمير في قوله : {وَأَنابَتْنَا فِيهَا} يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي ، إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي ، فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع ، ومنهم من قال : رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى ، لأن المعادن إنما تتولد في الجبال ، والأشياء الموزونة في العرف والعادة هي المعادن لا النبات.
البحث الثاني : اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه :
(1/2667)

الوجه الأول : أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة. قال القاضي : وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار ، ولذلك أتبعه بقوله : {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ} لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين : الأول : بحسب الأكل والانتفاع بعينه. والثاني : أن ينتفع بالتجارة فيه ، والقائلون بهذا القول قالوا : الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا : ويتأكد ذلك أيضاً بقوله تعالى : {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ} (الرعد : 8) وقوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر : 21).
والوجه الثاني : في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم ، فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص / ومن الماء والهواء كذلك ، ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص ، ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص ، أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع.
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
والوجه الثالث : في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون : فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة ، وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسباً حسناً بعيداً عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل ، وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب ، فقوله : {وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ} أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة ومطابقة المصلحة.
والوجه الرابع : في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان : المعادن والنبات : أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزاجات وغيرها. وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن ، لأن الحبوب توزن ، وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم. وقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله : {وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ} فيه قولان :
القول الأول : أنه معطوف على محل لكم ، والتقدير : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين.
والقول الثاني : أنه عطف على قوله : {مَعَـايِشَ} والتقدير : وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة :
الاحتمال الأول : أن كلمة "من" مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله : {وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ} العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد ، وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد ، وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم ، والمملوك والمالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة ، وأعطى القوة الغاذية والهاضمة ، وإلا لم يحصل لأحد رزق.
والاحتمال الثاني : وهو قول الكلبي قال : المراد بقوله : {وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ} الوحش والطير.
فإن قيل : كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل ؟
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
قلنا : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء ، والدليل عليه / قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍا فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِه وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى ا أَرْبَعٍ } (النور : 45). والثاني : أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله حيث قال : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } (هود : 6) فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة ، فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل ، ألا ترى أنه قال : {نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} (النحل : 18) فذكرها بصيغة جمع العقلاء ، وقال في الأصنام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى } (الشعراء : 77) وقال : {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33) فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعاً رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال : فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها.
(1/2668)

والاحتمال الثالث : أنا نحمل قوله : {وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ} على الإماء والعبيد ، وعلى الوحش والطير ، وإنما أطلق عليها صيغة من تغليباً لجانب العقلاء على غيرهم.
المسألة الثانية : قوله : {وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ} لا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور في لكم ، لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، لا يقال أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} (الأحزاب : 7).
واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ : {تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } (النساء : 1) بالخفض وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
0
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ} .
وهذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد ، وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : الخزائن جمع الخزانة ، وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضاً عمل الخازن ، ويقال : خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة ، وعامة المفسرين على أن المراد بقوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ} هو المطر ، وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش ، فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده ، أي في أمره وحكمه وتدبيره ، وقوله : {وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} قال ابن عباس رحمهما الله : يريد قدر الكفاية ، وقال الحكم : ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر ، ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون ، وربما كان في البحر ، يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم ، غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء.
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
ولقائل أن يقول : لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى ، فإن قوله تعالى : {وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد ، وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكماً من غير دليل. وأقول أيضاً : تخصيص قوله تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ} بالمطر تحكم محض ، لأن قوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ} يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل ، وهو الموجود القديم الواجب لذاته ، وقوله : {إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ} إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى. وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له ، ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهياً لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ} إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله : {وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه ، ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهياً كان لا محالة مختصاً في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلاً عنه ، وكان مختصاً بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلاً عن ذلك الحيز ، وكان مختصاً بصفات معينة ، مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلاً عن تلك الصفات ، وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين ، والصفات المعينة بدلاً عن أضدادها لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر ، وهذا هو المراد من قوله : {وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} والمعنى : أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة ، والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى : {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } (الزمر : 6) وقوله : {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} (الحديد : 25) والله أعلم.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
(1/2669)

المسألة الثانية : تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ} يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن ، وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى ، ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة ، لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى : {وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين ، وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدماً على حدوثها ودخولها في الوجود ، وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى ، بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ، ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود.
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله : لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد ههنا على سبيل التمثيل والتخييل ، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادراً على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود ؟
وعلى هذا التقدير يسقط الإستدلال ، والمباحثات الدقيقة باقية ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ لَوَاقِحَ} فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في وصف الرياح بأنها لواقح. أقوال :
القول الأول : قال ابن عباس : الرياح لواقح للشجر وللسحاب ، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم : لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت ، فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب. قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية : يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب ، ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه.
فإن قيل : كيف قال {لَوَاقِحَ} وهي ملقحة ؟
والجواب : ما ذهب إليه أبو عبيدة أن (لواقح) ههنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه :
لبيك يزيد يائس ذو ضراعة
وأشعث مما طوحته الطوائح
أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال : تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا بدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح.
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
والوجه الثاني : في الجواب قال الزجاج : يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن / معناها النسبة وهو كما يقال : درهم وازن ، أي ذو وزن ، ورامح وسائف ، أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي : هذا الجواب ليس بمغن ، لأنه كان يجب أن يصح اللاقح. بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء ، لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة ، ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب والله أعلم.
والوجه الثالث : في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين :
الطريق الأول : أن الريح حاصلة للسحاب ، والدليل عليه قوله سبحانه : {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه ا حَتَّى ا إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} (الأعراف : 57) أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء.
والطريق الثاني : قال الزجاج : يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير ، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير ، وهذا كما تقول العرب : قد لقحت الحرب وقد نتجت ولداً أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الثانية : الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركاً لا بد له من سبب ، وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته ، وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال ، فلم يبق إلا أن يقال : إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار ، والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مراراً فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سبباً لحدوث الرياح ، فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه.
(1/2670)

وأما قوله : {فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمْ لَه بِخَـازِنِينَ} ففيه مباحث : الأول : أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب ؟
وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء ؟
وثانيها : أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا : {فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ} قال الأزهري : تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شرباً له ، وجعلت له منها مسقى ، فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه ، ولم يقولوا أسقاه. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله : {نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِه } (النحل : 66) فقرؤا باللغتين ، ولم يختلفوا في قوله : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (الإنسان : 21) وفي قوله : {وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} (الشعراء : 79) قال أبو علي : سقيته حتى روي وأسقيته نهراً ، أي جعلته شرباً له وقوله : {فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ} أي جعلناه / سقياً لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحاباً :
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
أقول وصوبه مني بعيد
يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى
نميرا والقبائل من هلال
فقوله : سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقياً لبلادهم يخصبون بها ، وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به. وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه ، وأما قول ذي الرمة :
وأسقيه حتى كاد مما أبنه
تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء ، وأقول سقاه الله وقوله : {وَمَآ أَنتُمْ لَه بِخَـازِنِينَ} يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين.
جزء : 19 رقم الصفحة : 133
137
اعلم أن هذا هو النوع السادس من دلائل التوحيد وهو الاستدلال بحصول الإحياء والإماتة لهذه الحيوانات على وجود الإله القادر المختار.
أما قوله : {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِا وَنُمِيتُ} ففيه قولان : منهم من حمله على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ومنهم من يقول : وصف النبات بالإحياء مجاز فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ولما ثبت بالدلائل العقلية أنه لا قدرة على خلق الحياة إلا للحق سبحانه كان حصول الحياة للحيوان دليلاً قاطعاً على وجود الإله الفاعل المختار ، وقوله : {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِا وَنُمِيتُ} يفيد الحصر أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا ، وقوله : {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} معناه : أنه إذا مات جميع الخلائق ، فحينئذ يزول ملك كل أحد عند موته ، ويكون الله هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده فكان هذا شبيهاً بالإرث فكان وارثاً من هذا الوجه.
وأما قوله : {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَـاْخِرِينَ} ففيه وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : المستقدمين يريد أهل طاعة الله تعالى والمستأخرين يريد / المتخلفين عن طاعة الله. الثاني : أراد بالمستقدمين الصف الأول من أهل الصلاة ، وبالمستأخرين الصف الآخر ، روي أنه صلى الله عليه وسلّم رغب في الصف الأول في الصلاة ، فازدحم الناس عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : أنا نجزيهم على قدر نياتهم. الثالث : قال الضحاك ومقاتل : يعني في وصف القتال. الرابع : قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها وإذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. الخامس : قيل المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وقيل المستقدمون هم الأمم السالفة ، والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقال عكرمة : المستقدمون من خلق والمستأخرون من لم يخلق.
جزء : 19 رقم الصفحة : 137
واعلم أنه تعالى لما قال : {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِا وَنُمِيتُ} أتبعه بقوله : {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَـاْخِرِينَ} تنبيهاً على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة.
وأما قوله : {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } فالمراد منه التنبيه على أن الحشر والنشر والبعث والقيامة أمر واجب وقوله : {إِنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ} معناه : أن الحكمة تقتضي وجوب الحشر والنشر على ما قررناه بالدلائل الكثيرة في أول سورة يونس عليه السلام.
جزء : 19 رقم الصفحة : 137
139
وفي الآية مسائل :
(1/2671)

المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب.
/ المسألة الثانية : ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها ، وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث ، وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس ، وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق مع الأبوين فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى. فقوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ} إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام ، ونقل في "كتب الشيعة" عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وأقول : هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان ، فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم ، فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع.
واعلم أن الجسم محدث ، فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقاً عن عدم محض ، وأيضاً دل قوله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59) على أن آدم مخلوق من تراب ، ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين ، وهي قوله : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} (ص : 71) وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون ، والأقرب أنه تعالى خلقه أولاً من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار ، ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان ، بل هو قادر على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن ، لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه.
المسألة الثالثة : في الصلصال قولان : قيل الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا : إذا توهمت في صوته مداً فهو صليل ، وإذا توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة. قال المفسرون : خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة ، فصار صلصالاً كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به ، ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح. وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة فلذلك سماه الله تعالى صلصالاً.
جزء : 19 رقم الصفحة : 139
والقول الثاني : الصلصال والمنتن من قولهم صل اللحم وأصل إذا نتن وتغير ، وهذا القول عندي ضعيف ، لأنه تعالى قال : {مِن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وكونه حمأ مسنوناً يدل على النتن والتغير وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون فوجب أن يكون كونه صلصالاً مغايراً لكونه حمأ مسنوناً ، ولو كان كونه صلصالاً عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه / صلصالاً ، وبين كونه حمأ مسنوناً تفاوت ، وأما الحمأ فقال الليث الحمأة بوزن فعلة ، والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن. وقال أبو عبيدة والأكثرون حماة بوزن كمأة وقوله : {مَّسْنُونٍ} فيه أقوال : الأول : قال ابن السكيت سمعت أبا عمر يقول في قوله : {مَّسْنُونٍ} أي متغير قال أبو الهيثم يقال سن الماء/ فهو مسنون أي تغير. والدليل عليه قوله تعالى : {لَمْ يَتَسَنَّهْ } (البقرة : 259) أي لم يتغير. الثاني : المسنون المحكوك وهو مأخوذ من سننت الحجر إذا حككته عليه ، والذي يخرج من بينهما يقال له السنن وسمي المسن مسناً لأن الحديد يسن عليه. والثالث : قال الزجاج : هذا اللفظ مأخوذ من أي موضوع على سنن الطريق لأنه متى كان كذلك فقد تغير. الرابع : قال أبو عبيدة : المسنون المصبوب ، والسن والصب يقال سن الماء على وجهه سناً. الخامس : قال سيبويه : المسنون المصور على صورة ومثال ، من سنة الوجه وهي صورته ، السادس : روي عن ابن عباس أنه قال : المسنون الطين الرطب ، وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة ، لأنه إذا كان رطباً يسيل وينبسط على الأرض ، فيكون مسنوناً بمعنى أنه مصبوب.
(1/2672)

أما قوله تعالى : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ} فاختلفوا في أن الجان من هو ؟
فقال عطاء عن ابن عباس : يريد إبليس وهو قول الحسن ومقاتل وقتادة. وقال ابن عباس في رواية أخرى : الجان هو أب الجن وهو قول الأكثرين. وسمي جاناً لتواريه عن الأعين ، كما سمي الجنين جنيناً لهذا السبب ، والجنين متوارٍ في بطن أمه ، ومعنى الجان في اللغة الساتر من قولك : جن الشيء إذا ستره ، فالجان المذكور ههنا يحتمل أنه سمي جاناً لأنه يستر نفسه عن أعين بني آدم ، أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول كما يقال في لابن وتامر وماء دافق وعيشة راضية. واختلفوا في الجن فقال بعضهم : إنهم جنس غير الشياطين والأصح أن الشياطين قسم من الجن ، فكل من كان منهم مؤمناً فإنه لا يسمى بالشيطان ، وكل من كان منهم كافراً يسمى بهذا الإسم ، والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، فكل من كان كذلك كان من الجن ، وقوله تعالى : {خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ} قال ابن عباس : يريد من قبل خلق آدم ، وقوله : {مِن نَّارِ السَّمُومِ} معنى السموم في اللغة : الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل ، وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار ولها لفح وأوار ، على ما ورد في الخبر أنها لفح جهنم. قيل : سميت سموماً لأنها بلطفها تدخل في مسام البدن ، وهي الخروق الخفية التي تكون في جلد الإنسان يبرز منها عرقه وبخار باطنه. قال ابن مسعود : هذه السموم جزء من سبعين جزأ من السموم التي خلق الله بها الجان وتلا هذه الآية.
جزء : 19 رقم الصفحة : 139
فإن قيل : كيف يعقل خلق الجان من النار ؟
/ قلنا : هذا على مذهبنا ظاهر ، لأن البنية عندنا ليست شرطاً لإمكان حصول الحياة ، فالله تعالى قادر على خلق الحياة والعلم في الجواهر الفرد ، فكذلك يكون قادراً على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار ، واستدل بعضهم على أن الكواكب يمتنع حصول الحياة فيها قال : لأن الشمس في غاية الحرارة وما كان كذلك امتنع حصول الحياة فيه فننقضه عليه بقوله تعالى : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} بل المعتمد في نفي الحياة عن الكواكب الإجماع.
جزء : 19 رقم الصفحة : 139
فإن قيل : كيف يعقل خلق الجان من النار ؟
/ قلنا : هذا على مذهبنا ظاهر ، لأن البنية عندنا ليست شرطاً لإمكان حصول الحياة ، فالله تعالى قادر على خلق الحياة والعلم في الجواهر الفرد ، فكذلك يكون قادراً على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار ، واستدل بعضهم على أن الكواكب يمتنع حصول الحياة فيها قال : لأن الشمس في غاية الحرارة وما كان كذلك امتنع حصول الحياة فيه فننقضه عليه بقوله تعالى : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} بل المعتمد في نفي الحياة عن الكواكب الإجماع.
جزء : 19 رقم الصفحة : 139
141
اعلم أنه تعالى لما ذكر حدوث الإنسان الأول واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له فأطاعوه إلا إبليس فإنه أبى وتمرد ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما تفسير كونه بشراً. فالمراد منه كونه جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أجسام البشر ، والبشرة ظاهرة الجلد من كل حيوان وأما كونه صلصالاً من حمأ مسنون فقد تقدم ذكره. وأما قوله : {فَإِذَا سَوَّيْتُه } ففيه / قولان : الأول : فإذا سويت شكله بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية. والثاني : فإذا سويت أجزاء بدنه باعتدال الطبائع وتناسب الأمشاج كما قال تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} (الإنسان : 2).
جزء : 19 رقم الصفحة : 141
(1/2673)

وأما قوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ففيه مباحث : الأول : أن النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر ، وظاهر هذا اللفظ يشعر بأن الروح هي الريح ، وإلا لما صح وصفها بالنفخ إلا أن البحث الكامل في حقيقة الروح سيجيء في قوله تعالى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفاً له وتكريماً. وقوله : {فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} فيه مباحث : أحدها : أن ذلك السجود كان لآدم في الحقيقة أو كان آدم كالقبلة لذلك السجود ، وهذا البحث قد تقدم ذكره في سورة البقرة. وثانيها : أن المأمورين بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أو بعضهم أو ملائكة الأرض ، من الناس من لا يجوز أن يقال : إن أكابر الملائكة كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه السلام ، والدليل عليه قوله تعالى في آخر سورة {الاعْرَافِ} في صفة الملائكة : {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه وَيُسَبِّحُونَه وَلَه يَسْجُدُونَ } فقوله : {وَلَه يَسْجُدُونَ } (الأعراف : 20) يفيد الحصر ، وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا لله تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير الله تعالى أقصى ما في الباب أن يقال : إن قوله تعالى : {فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} يفيد العموم ، إلا أن الخاص مقدم على العام. وثالثها : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له ، لأن قوله : {فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله : {فَسَجَدَ الْمَلَـا اـاِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} قال الخليل وسيبويه قوله : {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} توكيد بعد توكيد ، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم ، فلما قال : {كُلُّهُمْ} زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ، ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال : {أَجْمَعُونَ} ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة ، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال : وقول الخليل وسيبويه أجود ، لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله : {إِلا إِبْلِيسَ} أجمعوا على أن إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم ، واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا ؟
وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله : {أَبَى ا أَن يَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ} استئناف وتقديره أن قائلاً قال : هلا سجد فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 141
أما قوله : {قَالَ يَـا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ} فاعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله : {قَالَ يَـا إِبْلِيسُ} أي قال الله تعالى له يا إبليس وهذا يقتضي أنه تعالى تكلم معه ، فعند هذا قال / بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله ، إلا أن هذا ضعيف ، لأن إبليس قال في الجواب : {لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَه مِن صَلْصَـالٍ} فقوله : {خَلَقْتَه } خطاب الحضور لا خطاب الغيبة ، وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأن إبليس تكلم مع الله تعالى بغير واسطة ، وكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب ، فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم ، ولعل الجواب عنه أن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام ، فأما إذا كان على سبيل الإهانة والإذلال فلا ، وقوله : {لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَه مِن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فيه بحثان :
البحث الأول : اللام في قوله : {لِّأَسْجُدَ} لتأكيد النفي ، ومعناه : لا يصح مني أن أسجد لبشر.
(1/2674)

البحث الثاني : معنى هذا الكلام أن كونه بشراً يشعر بكونه جسماً كثيفاً وهو كان روحانياً لطيفاً ، فالتفرقة حاصلة بينهما في الحال من هذا الوجه. كأنه يقول : البشر جسماني كثيف له بشرة ، وأنا روحاني لطيف ، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف ، والأدون كيف يكون مسجوداً للأعلى ، وأيضاً أن آدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون ، فهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هو النار وهي أشرف العناصر ، فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم ، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون ، فالكلام الأول إشارة إلى الفرق الحاصل بسبب البشرية والروحانية ، وهو فرق حاصل في الحال والكلام الثاني إشارة إلى الفرق الحاصل بحسب العنصر والأصل ، فهذا مجموع شبهة إبليس وقوله تعالى : {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} فهذا ليس جواباً عن تلك الشبهة على سبيل التصريح ، ولكنه جواب عنها على سبيل التنبيه. وتقريره أن الذي قاله الله تعالى نص ، والذي قاله إبليس قياس ، ومن عارض النص بالقياس كان رجيماً ملعوناً. وتمام الكلام في هذا المعنى ذكرناه مستقصى في سورة الأعراف ، وقوله : {فَاخْرُجْ مِنْهَا} قيل المراد من جنة عدن ، وقيل من السموات ، وقيل من زمرة الملائكة ، وتمام هذا الكلام مع تفسير الرجيم قد سبق ذكره في سورة الأعراف وقوله : {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} قال ابن عباس يريد يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم مثل قوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4).
جزء : 19 رقم الصفحة : 141
فإن قيل : كلمة (إلى) تفيد انتهاء الغاية فهذا يشعر بأن اللعن لا يحصل إلا إلى يوم القيامة ، وعند قيام القيامة يزول اللعن.
أجابوا عنه من وجوه : الأول : المراد منه التأبيد ، وذكر القيامة أبعد غاية يذكرها الناس / في كلامهم كقولهم : {مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} (هود : 107) في التأبيد. والثاني : أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذاباً ينسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 141
145
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {فَأَنظِرْنِى } متعلق بما تقدم والتقدير : إذا جعلتني رجيماً ملعوناً إلى يوم الدين فأنظرني فطلب الإبقاء من الله تعالى عند اليأس من الآخرة إلى وقت قيام القيامة. لأن قوله : {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} المراد منه يوم البعث والنشور وهو يوم القايمة ، وقوله : {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} اعلم أن إبليس استنظر إلى يوم البعث والقيامة ، وغرضه منه أن لا يموت لأنه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة ، وظاهره أن بعد قيام القيامة لا يموت أحد فحينئذ يلزم منه أن لا يموت ألبتة. ثم إنه تعالى منعه عن هذا المطلوب وقال : {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} واختلفوا في المراد منه على وجوه : أحدها : أن المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق ، وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لأن من المعلوم أن يموت كل الخلائق فيه. وقيل : إنما سماه الله تعالى بهذا الاسم ، لأن العالم بذلك الوقت هو الله تعالى لا غير كما قال تعالى : {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلا هُوَ } (الأعراف : 187) وقال : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34). وثانيها : أن المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره إبليس وهو قوله : {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وإنما سماه تعالى بيوم الوقت المعلوم ؟
لأن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم.
/ فإن قيل : لما أجابه الله تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة وبعد قيام القيامة لا يموت أيضاً ، فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية.
قلنا : يحمل قوله : {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} إلى ما يكون قريباً منه. والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث ، وعلى هذا الوجه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول. وثالثها : أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا الله تعالى ، وليس المراد منه يوم القيامة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 145
فإن قيل : إنه لا يجوز أن يعلم المكلف متى يموت ، لأن فيه إغراء بالمعاصي ، وذلك لا يجوز على الله تعالى.
أجيب عنه بأن هذا الإلزام إنما يتوجه إذا كان وقت قيام القيامة معلوماً للمكلف. فأما إذا علم أنه تعالى أمهله إلى وقت قيام القيامة إلا أنه تعالى ما أعلمه الوقت الذي تقوم القيامة فيه فلم يلزم منه الإغراء بالمعاصي.
(1/2675)

وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة.
أما قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الارْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ففيه بحثان :
البحث الأول : الباء في {بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} للقسم وما مصدرية ، وجواب القسم لأزينن. والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم ، ونظيره قوله تعالى : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 82) إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله/ وهي من صفات الذات ، وفي قوله : {بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال. والفقهاء قالوا : القسم بصفات الذات صحيح ، أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه. ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا : الباء ههنا بمعنى السبب ، أي بسبب كوني غاوياً لأزينن كقول القائل ، أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار ، وبطاعته ليدخلن الجنة.
البحث الثاني : اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه : الأول : أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب ، ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل ، ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة. الثاني : أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق ، وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون / ومجتهدون في الضلال والإغواء ، فلو كان مراد الله تعالى هو الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين ، وحيث فعل بالضد منه ، علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر. الثالث : أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح ، لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترىء حينئذ على أنواع المعاصي والكفر. الرابع : أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل ، مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية ، وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سبباً لمزيد عذابه ، وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه. الخامس : أنه صرح بأن الله أغواه فقال : {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال : هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة ، وأيضاً فهو معارض بقول إبليس : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فأضاف الإغواء إلى نفسه ، لأنا نقول.
جزء : 19 رقم الصفحة : 145
أما الجواب عن الأول : فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه وذلك يدل على أنه كان صادقاً فيما قال.
وأما الجواب عن الثاني : فهو أنه قال في هذه الآية : {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيِّنَنَّ لَهُمْ} فالمراد ههنا من قوله : {لازَيِّنَنَّ لَهُمْ} هو المراد من قوله في تلك الآية : {لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك ، وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص : {هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } (القصص : 63).
السؤال السادس : أنه اقل : {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول : إما أن يقال : إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه ، أو ما عرف ذلك ، فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاوياً لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل ، ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة ، وأما إن قلنا : بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول : {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية.
أما الإشكال الأول : فللمعتزلة فيه طريقان :
الطريق الأول : وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة ، لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته ، فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته / فإن ذلك الكافر/ والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية ، فلما كان الأمر كذلك ، لا جرم أمهله هذه المدة.
(1/2676)

الطريق الثاني : وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال : إنه تعالى علم أن أقواماً يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية ، إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية ، بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية ، أقصى ما في الباب أن يقال : الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها ، إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سبباً لزيادة المشقة في أداء الطاعات ، وذلك لا يمنع الحكيم من فعله ، كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سبباً لمزيد الشبهات ، ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا ، وهذان الطريقان هما بعينهما الجواب عن السؤال الثاني.
جزء : 19 رقم الصفحة : 145
وأما السؤال الثالث : وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها ، فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لايوجب التفاوت ألبتة ، فالسؤال زائل ، وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع.
وأما السؤال الخامس : وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين ، فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى : أحدها : المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك. وثانيها ؛ المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضاً عنه بالدعاء إلى المعصية. وثالثها : أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة ، وبالثاني الإضلال. ورابعها : أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه ، يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس ، فأما أن يقال : إن ذلك الأمر صار موجباً لذاته لحصول ذلك الغي ، فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف ، أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول : هذا باطل ، ويدل عليه القرآن والبرهان ، أما القرآن فقوله تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَـانُ} (البقرة : 36) فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان ، وقال : {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } (طه : 117) فأضاف الإخراج إليه ، وقال موسى عليه السلام : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } (القصص : 15) وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثراً ، وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبداً في القبائح. وينفره عن الخيرات ، مثل شخص كان حاله بالضد منه ، والعلم بهذا التفاوت ضروري. وأما قوله إن وجوده يصير سبباً لزيادة المشقة في الطاعة / فنقول : تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين ، وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب ، وكل من يراعي المصالح ، فإن رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلاً ، ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة ، وأما قوله : المراد من قوله : {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول : كل هذا بعيد ، لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة ، لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة ، وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 145
وأما قوله : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن إبليس استثنى المخلصين ، لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ، ولا يقبلون منه ، وذكرت في مجلس التذكير أن الذي حمل إبليس على ذكر هذا الإستثناء أن لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أن الكذب في غاية الخساسة.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : {الْمُخْلَصِينَ} بكسر اللام في كل القرآن ، والباقون بفتح اللام. وجه القراءة الأولى أنهم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد ، ومن فتح اللام فمعناه : الذين أخلصهم الله بالهداية والإيمان ، والتوفيق ، والعصمة ، وهذه القراءة تدل على أن الإخلاص والإيمان ليس إلا من الله تعالى.
المسألة الثالثة : الإخلاص جعل الشيء خالصاً عن شائبة الغير فنقول : كل من أتى بعمل فإما أن يكون قد أتى به لله فقط أو لغير الله فقط ، أو لمجموع الأمرين ، وعلى هذا التقدير الثالث فإما أن يكون طلب رضوان الله راجحاً أو مرجوحاً أو معادلاً ، والتقدير الرابع أنيأتي به لا لغرض أصلاً وهذا محال ، لأن الفعل بدون الداعية محال.
(1/2677)

أما الأول : فهو الإخلاص في حق الله تعالى ، لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان الله ، وما جعل هذه الداعية مشوبة بداعية أخرى بل بقيت خالصة عن شوائب الغير ، فهذا هو الإخلاص.
وأما الثاني : وهو الإخلاص في حق غير الله ، فظاهر أن هذا لا يكون إخلاصاً في حق الله تعالى.
وأما الثالث : وهو أن يشتمل على الجهتين إلا أن جانب الله يكون راجحاً ، فهذا يرجى أن يكون من المخلصين ، لأن المثل يقابله المثل. فيبقى القدر الزائد خالصاً عن الشوب.
وأما الرابع والخامس : فظاهر أنه ليس من المخلصين في حق الله تعالى ، والحاصل أن القسم الأول : إخلاص في حق الله تعالى قطعاً. والقسم الثاني : يرجى من فضل الله أن يجعله من قسم الإخلاص وأما سائر الأقسام فهو خارج عن الإخلاص قطعاً والله أعلم.
أما قوله تعالى : {قَالَ هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} ففيه وجوه : الأول : أن إبليس لما قال : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فلفظ المخلص يدل على الإخلاص ، فقوله هذا عائد إلى الإخلاص ، والمعنى : أن الإخلاص طريق علي وإلي ، أي أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي ، وقال الحسن : معناه هذا صراط إلي مستقيم ، وقال آخرون : هذا صراط من مر عليه ، فكأنه مر علي وعلى رضواني وكرامتي وهو كما يقال : طريقك علي. الثاني : أن الإخلاص طريق العبودية فقوله : {هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم. الثالث : قال بعضهم : لما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته فقال تعالى : {هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ} أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي طريق علي مستقيم. الرابع : معناه : هذا صراط علي تقريره وتأكيده ، وهو مستقيم حق وصدق ، وقرأ يعقوب : {صِرَاطٌ عَلَىَّ} بالرفع والتنوين على أنه صفة لقوله : {صِرَاطٌ} أي هو علي بمعنى أنه رفيع مستقيم لا عوج فيه. قال الواحدي : معناه أن طريق التفويض إلى الله تعالى والإيمان بقضاء الله طريق رفيع مستقيم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 145
146
اعلم أن إبليس لما قال : {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الارْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} أوهم هذا الكلام أن له سلطاناً على عباد الله الذين يكونون من المخلصين ، فبين تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين ، بل من اتبع منهم / إبليس باختياره صار متبعاً له ، ولكن حصول تلك المتابعة أيضاً ليس لأجل أن إبليس يقهره على تلك المتابعة أو يجبره عليها والحاصل في هذا القول : أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً ، فبين تعالى كذبه فيه ، وذكر أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً ، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس أنه قال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (إبراهيم : 22) وقال تعالى في آية أخرى : {إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـانُه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه وَالَّذِينَ هُم بِه مُشْرِكُونَ} (النحل : 99 ، 100) قال الجبائي : هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما يقوله العامة ، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه ، وفي الآية قول آخر ، وهو أن إبليس لما قال : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر : 40) فذكر أنه لا يقدر على إغواء المخلصين صدقه الله في هذا الاستثناء فقال : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فلهذا قال الكلبي : العباد المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس.
واعلم أن على القول الأول يمكن أن يكون قوله : {إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ} استثناء ، لأن المعنى : أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطاناً بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي.
جزء : 19 رقم الصفحة : 146
وأما على القول الثاني فيمتنع أن يكون استثناء ، بل تكون لفظة (إلا) بمعنى لكن ، وقوله : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} قال ابن عباس : يريد إبليس وأشياعه ، ومن اتبعه من الغاوين.
ثم قال تعالى : {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} وفيه قولان :
القول الأول : إنها سبع طبقات : بعضها فوق البعض وتسمى تلك الطبقات بالدركات ، ويدل على كونها كذلك قوله تعالى : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145).
(1/2678)

والقول الثاني : إن قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام : ولكل قسم باب ، وعن ابن جريج : أولها : جهنم. ثم لظى. ثم الحطمة. ثم السعير. ثم سقر. ثم الجحيم. ثم الهاوية. قال الضحاك : الطبقة الأولى : فيها أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون. والثانية : لليهود. والثالثة : للنصارى. والرابعة : للصابئين. والخامسة : للمجوس. والسادسة : للمشركين. والسابعة : للمنافقين. وقوله : {لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} والباقون (جز) بتخفيف الزاي. وقرأ الزهري : (جز) بالتشديد ، كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ، كقولك : خب / في خبء/ ثم وقف عليه بالتشديد.
المسألة الثانية : الجزء بعض الشيء ، والجمع الأجزاء ، وجزأته جعلته أجزاء. والمعنى : أنه تعالى يجزي أتباع إبليس إجزاء ، بمعنى أنه يجعلهم أقساماً وفرقاً ، ويدخل في كل قسم من أقسام جهنم طائفة من هؤلاء الطوائف. والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة ، فلا جرم صارت مراتب العذاب والعقاب مختلفة بالغلظ والخفة ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 146
149
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} قولان :
القول الأول : قال الجبائي وجمهور المعتزلة : القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي. قالوا : لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك.
والقول الثاني : وهو قول جمهور الصحابة والتابعين ، وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به. وأقول : هذا القول هو الحق الصحيح ، والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضارباً وقاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ، فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى ، والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى ، لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية ، فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقياً ، فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقياً ، ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار.
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} يقتضي حصول الجنات والعيون / لكل من اتقى عن شيء واحد ، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم ، وأيضاً فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر : 40) وعقيب قول الله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر ، لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر ، فثبت أن قوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولاً واعتقاداً سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين ، وكلام ظاهر.
جزء : 19 رقم الصفحة : 149
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} أما الجنات فأربعة لقوله تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) ثم قال : {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) فيكون المجموع أربعة وقوله : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} يؤكد ما قلناه ، لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله : {وَلِمَنْ خَافَ} يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة ، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله تعالى في قوله : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُا أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا ا وَّعُقْبَى الْكَـافِرِينَ النَّارُ} (محمد : 15) ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار.
(1/2679)

فإن قيل : أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون ، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل : لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان/ ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم ، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ} يحتمل أن القائل لقوله : {ادْخُلُوهَا} هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته ، وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون ، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم : {ادْخُلُوهَا} .
والجواب عنه من وجهين : الأول : لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ} . الثاني : لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ} المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة ، والأمن من زوالها.
جزء : 19 رقم الصفحة : 149
ثم قال تعالى : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ / من قولهم : أغل في جوفه وتغلغل ، أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم ، وعن علي عليه السلام أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالساً عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي : مرحباً بك يا ابن أخي ، أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} فقال الحرث : كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد. قال عليه السلام : فلمن هذه الآية ؟
لا أم لك يا أعور ، وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض ، ثم يؤمر بهم إلى الجنة. وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش ، والحقد والحسد ، وقوله : {إِخْوَانًا} نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67) وقوله : {عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال : سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو : سرر وسرر ، وجدد وجدد قال المفضل : بعض تميم وكلب يفتحون ، لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد ، وقال بعض أهل المعاني : السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. قال الليث : وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية ، وقوله : {مُّتَقَـابِلِينَ} التقابل التواجه ، وهو نقيض التدابر ، ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله : {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب : {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} والمراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء ، وكمالاً بلا نقصان ، وفوزاً بلا حرمان.
واعلم أن للثواب أربع شرائط : وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 149
أما القيد الأول : وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} .
وأما القيد الثاني : وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ} لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال.
وأما القيد الثالث : وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر ، فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية ، وإما أن تكون جسمانية ، أما المضار الروحانية فهي الحقد ، والحسد ، والغل/ والغضب ، وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله : {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} إشارة إلى نفي المضار الجسمانية.
(1/2680)

وأما القيد الرابع : وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله : {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال ، فإنهم قالوا : المراد من قوله : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية ، مبرأة عن حوادث الوهم والخيال ، وقوله : {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام ، ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية ، وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية ، فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية ، فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله : {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 149
150
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : أثبتت الهمزة الساكنة في (نبىء) صورة ، وما أثبتت في قوله : {دِفْءٌ} لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيراً وتلقى حركتها على الساكن قبلها ، فـ(ـنبىء) في الخط على تحقيق الهمزة ، وليس قبل همزة (نبىء) ساكن فاجرؤها على قياس الأصل :
المسألة الثانية : اعلم أن عباد الله قسمان : منهم من يكون متقياً ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فلما ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة ، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية فقال : {بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِى } .
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، فههنا وصفهم بكونهم عباداً له ، ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً ، فهذا يدل على أن كل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه الله غفوراً رحيماً ومن أنكر ذلك كان مستوجباً للعقاب الأليم. وفي الآية لطائف : أحدها : أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله : {عِبَادِى } وهذا تشيف عظيم. ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمداً / صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج لم يزد على قوله : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } (الإسراء : 1). وثانيها : أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة : أولها : قوله : {أَنِّى } . وثانيها : قوله : {إِنَّآ} . وثالثها : ادخال حرف الألف واللام على قوله : {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال : {وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الالِيمُ} . وثالثها : أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. ورابعها : أنه لما قال : {نَبِّئْ عِبَادِى } كان معناه نبىء كل من كان معترفاً بعبوديتي ، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع ، فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي ، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. وعن قتادة قال : بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام ، ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه" أي قتلها وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مر بنفر من أصحابه ، وهم يضحكون فقال : "أتضحكون والنار بين أيديكم" فنزل قوله : {نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 150
151
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد ، ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء ، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء ، ومحذراً عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء ، فبدأ أولاً بقصة إبراهيم عليه السلام ، والضمير في قوله : {وَنَبِّئْهُمْ} راجع إلى قوله : {عِبَادِى } والتقدير : ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم ، يقال : أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا / أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر. وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضاً بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال ، وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين ، وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار.
المسألة الثانية : الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنساناً لطلب القرى ، ثم سمى به ، ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة.
فإن قيل : كيف سماهم ضيفاً مع امتناعهم عن الأكل ؟
(1/2681)

قلنا : لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك. وقيل أيضاً : إن من يدخل دار الإنسان ويلتجىء إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل ، وقوله تعالى : {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلـامًا} أي نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً ، فقال إبراهيم : {إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} أي خائفون ، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل : لأنهم دخلوا عليه بغير إذن وبغير وقت وقرأ الحسن : {لا تَوْجَلْ} بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه. وقرىء لا تأجل ولا تواجل من واجله بمعنى أو جله ، وهذه القصة قد مر ذكرها بالاستقصاء في سورة هود. وقوله : {قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـامٍ عَلِيمٍ} فيه أبحاث :
جزء : 19 رقم الصفحة : 151
البحث الأول : قرأ حمزة : {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} بفتح النون ، وتخفيف الباء ، والباقون : {نُبَشِّرُكَ} بالتشديد.
البحث الثاني : قوله : {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل ، والمعنى : أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل.
البحث الثالث : قوله : {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـامٍ عَلِيمٍ} بشروه بأمرين : أحدهما : أن الولد ذكر والآخر أنه يصير عليماً ، واختلفوا في تفسير العليم ، فقيل : بشروه بنبوته بعده. وقيل : بشروه بأنه عليم بالدين. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون ، فمعنى : {عَلَى} ههنا للحال أي حالة الكبر ، وقوله : {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : لفظ ما ههنا استفهام بمعنى التعجب كأنه قال : بأي أعجوبة تبشروني ؟
فإن قيل : في الآية إشكالان : الأول : أنه كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر وإنكار قدرة الله تعالى في هذا الموضع كفر. الثاني : كيف قال : {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} مع أنهم قد بينوا ما بشروه به ، وما فائدة هذا الإستفهام. قال القاضي : أحسن ما قيل في الجواب عن / ذلك أنه أراد أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً/ ثم يعطيه الولد ، والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة وإنما يحصل في حال الشباب.
فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم فلم قالوا : بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.
قلنا : إنهم بينوا أن الله تعالى بشره بالولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة وقوله : فلا تكن من القانطين. لا يدل على أنه كان كذلك ، بدليل أنه صرح في جوابهم بما يدل على أنه ليس كذلك فقال : {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّه إِلا الضَّآلُّونَ} وفيه جواب آخر ، وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه ، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه وسروره ويصير ذلك الفرح القوي كالمدهش له والمزيل لقوة فهمه وذكائه فلعله يتكلم بكلمات مضطربة في ذلك الفرح في ذلك الوقت ، وقيل أيضاً : إنه يستطيب تلك البشارة فربما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة ، وطلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق مثل قوله : {وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } (البقرة : 260) وقيل أيضاً : استفهم أبأمر الله تبشرون أم من عند أنفسكم واجتهادكم ؟
جزء : 19 رقم الصفحة : 151
المسألة الثانية : قرأ نافع : {تُبَشِّرُونَ} بكسر النون خفيفة في كل القرآن ، وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها. والباقون بفتح النون خفيفة ، أما الكسر والتشديد فتقديره تبشرونني أدغمت نون الجمع في نون الإضافة ، وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع استثقالاً لاجتماع المثلين وطلباً للتخفيف قال أبو حاتم : حذف نافع الياء مع النون. قال : وإسقاط الحرفين لا يجوز ، وأجيب عنه : بأنه أسقط حرفاً واحداً وهي النون التي هي علامة للرفع. وعلى أن حذف الحرفين جائز قال تعالى في موضع : {وَلا تَكُ} وفي موضع : {وَلا تَكُن} فأما فتح النون فعلى غير الإضافة والنون علامة الرفع وهي مفتوحة أبداً ، وقوله : {بَشَّرْنَـاكَ بِالْحَقِّ} قال ابن عباس : يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى : أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام. ويخرج من صلب إسحق مثل ما أخرج من صلب آدم فإنه تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحق أكثر الأنبياء فقوله : {بِالْحَقِّ} إشارة إلى هذا المعنى وقوله : {فَلا تَكُن مِّنَ الْقَـانِطِينَ} نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط وقد ذكرنا كثيراً أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهى فاعلاً للمنهى عنه كما في قوله : {وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } (الأحزاب : 1) ثم حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّه إِلا الضَّآلُّونَ} وفيه مسألتان :
(1/2682)

/ المسألة الأولى : هذا الكلام حق ، لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور : أحدها : أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه. وثانيها ؛ أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياح ذلك العبد إليه. وثالثها : أن يجهل كونه تعالى منزهاً عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال ، فلهذا المعنى قال : {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّه إِلا الضَّآلُّونَ} .
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو والكسائي : (يقنط) بكسر النون ولا تقطنوا كذلك ، والباقون بفتح النون وهما لغتان : قنط يقنط ، نحو ضرب يضرب ، وقنط يقنط نحو علم يعلم ، وحكى أبو عبيدة : قنط يقنط بضم النون ، قال أبو علي الفارسي : قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله : {مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا } (الشورى : 28) وحكاية أبي عبيدة تدل أيضاً على أن قنط بفتح النون أكثر ، لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 151
154
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {فَمَا خَطْبُكُمْ} سؤال عما لأجله أرسلهم الله تعالى ، والخطب والشأن والأمر سواء : إلا أن لفظ الخطب أدل على عظم الحال.
فإن قيل : إن الملائكة لما بشروه بالولد الذكر العليم فكيف قال لهم بعد ذلك : {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} .
قلنا : فيه وجوه : الأول : قال الأصم : معناه ما الأمر الذي توجهتم له سوى البشرى. الثاني : قال القاضي : إنه علم أنه لو كان كمال المقصود إيصال البشارة لكان الواحد من الملائكة كافياً ، فلما رأى جمعاً من الملائكة علم أن لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة فلا جرم قال : {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} . الثالث : يمكن أن يقال إنهم قالوا : إنا نبشرك بغلام عليم. في معرض إزالة الخوف والوجل ، ألا ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما خاف قالوا له : لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. / ولو كان تمام المقصود من المجيء هو ذكر تلك البشارة لكانوا في أول ما دخلوا عليه ذكروا تلك البشارة ، فلما لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الطريق أنه ما كان مجيئهم لمجرد هذه البشارة بل كان لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض فقال : {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} .
ثم حكى تعالى عن الملائكة أنهم قالوا : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} وإنما اقتصروا على هذا القدر لعلم إبراهيم عليه السلام بأن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لإهلاكهم واستئصالهم وأيضاً فقولهم : {إِلا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} يدل على أن المراد بذلك الإرسال إهلاك القوم.
أما قوله تعالى : {إِلا ءَالَ لُوطٍ} فالمراد من آل لوط أتباعه الذين كانوا على دينه.
فإن قيل : قوله : {إِلا ءَالَ لُوطٍ} هل هو استثناء منقطع أو متصل ؟
جزء : 19 رقم الصفحة : 154
قلنا : قال صاحب "الكشاف" : إن كان هذا الاستثناء استثناء من (قوم) كان منقطعاً ، لأن القوم موصوفون بكونهم مجرمين وآل لوط ما كانوا مجرمين ، فاختلف الجنسان ، فوجب أن يكون الاستثناء منقطعاً. وإن كان استثناء من الضمير في (مجرمين) كان متصلاً كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم كما قال : {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذاريات : 36) ثم قال صاحب "الكشاف" : ويختلف المعنى بحسب اختلاف هذين الوجهين ، وذلك لأن آل لوط يخرجون في المنقطع من حكم الإرسال ، لأن على هذا التقير الملائكة أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة وما أرسلوا إلى آل لوط أصلاً ، وأما في المتصل فالملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء ، وأما قوله : {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} فاعلم أنه قرأ حمزة والكسائي خفيفة ، والباقون مشددة وهما لغتان.
أما قوله تعالى : {أَجْمَعِينَ * إِلا امْرَأَتَه } قال صاحب "الكشاف" : هذا استثناء من الضمير المجرور في قوله : {لَمُنَجُّوهُمْ} وليس ذلك من باب الاستثناء من الاستثناء ، لأن الاستثناء من الإستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، كما لو قيل : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته ، وكما لو قال : المطلق لامرأته أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة ، وكما إذا قال : المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً ، فأما في هذه الآية فقد اختلف الحكمان ، لأن قوله : {إِلا ءَالَ لُوطٍ} متعلق بقوله : {أُرْسِلْنَآ} أو بقوله {مُّجْرِمِينَ} وقوله : {إِلا امْرَأَتَه } قد تعلق بقوله : فكيف يكون هذا استثناء من استثناء.
وأما قوله : {امْرَأَتَه قَدَّرْنَآا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَـابِرِينَ} ففيه مسائل :
(1/2683)

المسألة الأولى : اعلم أن معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره. يقال : قدر هذا الشيء بهذا أي اجعله على مقداره ، وقدر الله تعالى الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ، ثم يفسر التقدير بالقضاء ، فقال : قضى الله عليه كذا ، وقدره عليه أي جعله على مقدار ما يكفي / في الخير والشر ، وقيل في معنى : {قَدَّرْنَآ } كتبنا. قال الزجاج : دبرنا. وقيل : قضينا ، والكل متقارب.
جزء : 19 رقم الصفحة : 154
المسألة الثانية : قرأ أبو بكر عن عاصم {قَدَّرْنَآ } بتخفيف الدال ههنا وفي النمل. وقرى الباقون فيهما بالتشديد. قال الواحدي يقال : قدرت الشيء وقدرته ، ومنه قراءة ابن كثير : {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} (الواقعة : 60) خفيفاً ، وقراءة الكسائي : {وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } ثم قال : والمشددة في هذا المعنى أكثر استعمالاً لقوله تعالى ؛ {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} (فصلت : 10) وقوله : {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيرًا} .
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى ، ولم لم يقولوا : قدر الله تعالى ؟
والجواب : إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم ، وإنما يريدون بذكر هذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله ؛ {إِنَّهَا لَمِنَ الْغَـابِرِينَ} في موضع مفعول التقدير قضينا أنها تتخلف وتبقى مع من يبقى حتى تهلك كما يهلكون. ولا تكون ممن يبقى مع لوط فتصل إلى النجاة والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 154
154
اعلم أن الملائكة لما بشروا إبراهيم بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وإلى آله ، وأن لوط وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله ، فلهذا قال لهم : {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} وفي تأويله وجوه : الأول : أنه إنما وصفهم بأنهم منكرون ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما عرفهم ، فلما هجموا عليه استنكر منهم ذلك وخاف أنهم دخلوا عليه لأجل شر يوصلونه إليه ، فقال هذه الكلمة. والثاني : أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم قومه عليه بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. والثالث : أن النكرة ضد المعرفة فقوله : {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي لا أعرفكم ، ولا أعرف أنكم من أي الأقوام ، ولأي غرض دخلتم علي ، فعند هذه الكلمة قالت الملائكة ، بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ، أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله ، ثم أكدوا / ما ذكروه بقولهم : {وَأتَيْنَـاكَ بِالْحَقِّ} قال الكلبي : بالعذاب ، وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو عذاب أولئك الأقوام ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم ؛ {وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 154
155
قرىء {فَأَسْرِ} بقطع الهمزة ووصلها من أسرى وسرى. وروى صاحب الكشاف عن صاحب الإقليد فسر {مَنِ} السير والقطع آخر الليل. قال الشاعر :
افتحي الباب وانظري في النجوم
كم علينا من قطع ليل بهيم
وقوله : {وَاتَّبِعْ أَدْبَـارَهُمْ} معناه : اتبع آثار بناتك وأهلك. وقوله : {وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} الفائدة فيه أشياء : أحدها : لئلا يتخلف منكم أحد فينا له العذاب. وثانيها : لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من البلاء. وثالثها : معناه الإسراع وترك الاهتمام لما خلف وراءه كما تقول : امض لشأنك ولا تعرج على شيء. ورابعها : لو بقي منه متاع في ذلك الموضع ، فلا يرجعن بسببه ألبتة. وقوله : {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قال ابن عباس : يعني الشام. قال المفضل : حيث يقول لكم جبريل. وذلك لأن جبريل عليه السلام أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة أهلها ما عملوا مثل عمل قوم لوط. وقوله : {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} عدى قضينا بإلى ، لأنه ضمن معنى أوحينا ، كأنه قيل : وأوحيناه إليه مقضياً مبتوتاً ، ونظيره قوله تعالى : {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل } (الإسراء : 4) وقوله ؛ {ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ} (يونس : 71) ثم إنه فسر بعد ذلك القضاء المبتوت بقوله : {أَنَّ دَابِرَ هَـا ؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} وفي إبهامه أولاً ، وتفسيره ثانياً تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش {ءَانٍ} بالكسر على الاستئناف كان قائلاً قال أخبرنا عن ذلك الأمر ، فقال : إن دابر هؤلاء ، وفي قراءة ابن مسعود. وقلنا : {أَنَّ دَابِرَ هَـا ؤُلاءِ} ودابرهم آخرهم ، يعني يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله : {مُّصْبِحِينَ} أي حال ظهور الصبح.
جزء : 19 رقم الصفحة : 155
156
(1/2684)

/ اعلم أن المراد بأهل المدينة قوم لوط ، وليس في الآية دليل على أن المكان الذي جاؤه إلا أن القصة تدل على أنهم جاؤوا دار لوط. قيل : إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل : امرأة لوط أخبرتهم بذلك ، وبالجملة فالقوم قالوا : نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهاً ولا أحسن شكلاً منهم فذهبوا إلى دار لوط طلبها منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه كلامين :
الكلام الأول : قال : {إِنَّ هَـا ؤُلاءِ ضَيْفِى فَلا تَفْضَحُونِ} يقال فضحه يفضحه فضحاً وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ، والمعنى أن الضيف يجب إكرامه فإذا قصدتموهم بالسوء كان ذلك إهانة بي ، ثم أكد ذلك بقوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} فأجابوه بقولهم : {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَـالَمِينَ} والمعنى : ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة.
والكلام الثاني : مما قاله لوط قوله : {هَـا ؤُلاءِ بَنَاتِى إِن كُنتُمْ فَـاعِلِينَ} قيل : المراد بناته من صلبه ، وقيل : المراد نساء قومه ، لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم وهو كقوله تعالى : {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِم وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ } (الأحزاب : 6) وفي قراءة أبي وهو أب لهم ، والكلام في هذه المباحث قد مر بالاستقصاء في سورة هود عليه السلام.
أما قوله : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} فيه مسائل :
جزء : 19 رقم الصفحة : 156
المسألة الأولى : العمر والعمر واحد وسمي الرجل عمراً تفاؤلاً أن يبقى ومنه قول ابن أحمر :
ذهب الشباب وأخلق العمر
وعمر الرجل يعمر عمراً وعمرا ، فإذا أقسموا به قالوا : لعمرك وعمرك فتحوا العين لا غير. قال الزجاج : لأن الفتح أخف عليهم وهم يكثرون القسم بلعمري ولعمرك فالتزموا الأخف.
المسألة الثانية : في قوله : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قولان : الأول : أن المراد أن الملائكة قالت للوط عليه السلام : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في غوايتهم يعمهون ، أي يتحيرون فكيف يقبلون قولك ، ويلتفتون إلى نصيحتك. والثاني : أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأنه تعالى أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد ، وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى قال النحويون : ارتفع قوله : {لَعَمْرُكَ} بالابتداء والخبر محذوف ، والمعنى : لعمرك قسمي وحذف الخبر ، لأن في الكلام دليلاً عليه وباب القسم يحذف منه الفعل نحو : بالله لأفعلن ، والمعنى : أحلف بالله فيحذف لعلم المخاطب بأنك حالف.
ثم قالت عالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} أي صيحة جبريل عليه السلام قال أهل المعاني : ليس في الآية دلالة على أن تلك الصيحة صيحة جبريل عليه السلام فإن ثبت ذلك بدليل قوي قيل به/ وإلا فليس في الآية دلالة إلا على أنه جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله : {مُشْرِقِينَ} يقال شرق الشارق يشرق شروقاً لكل ما طلع من جانب الشرق ، ومنه قولهم ما ذر شارق أي طلع طالع فقوله : {مُشْرِقِينَ} أي داخلين في الشروق يقال أشرق الرجل إذا دخل في الشروق ، وهو بزوغ الشمس.
واعلم أن الآية تدل على أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب : أحدها : الصيحة الهائلة المنكرة. وثانيها : أنه جعل عاليها سافلها. وثالثها : أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل ، وكل هذه الأحوال قد مر تفسيرها في سورة هود.
ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} يقال توسمت في فلان خيراً أي رأيت فيه أثراً منه وتفرسته فيه ، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير المتوسمين قيل : المتفرسين ، وقيل : الناظرين ، وقيل : المتفكرين ، وقيل : المعتبرين ، وقيل : المتبصرين. قال الزجاج : حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته ، والمتوسم الناظر في السمة الدالة تقول : توسمت / في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته فيه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 156
ثم قال : {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} الضمير في قوله : {وَإِنَّهَا} عائد إلى مدينة قوم لوط ، وقد سبق ذكرها في قوله ؛ {وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} وقوله : {لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} أي هذه القرى وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يندرس ولم يخف ، والذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها.
ثم قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي كل من آمن بالله وصدق الأنبياء والرسل عرف أن ذلك إنما كان لأجل أن الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال ، أما الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه ، وعلى حصول القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 156
157
(1/2685)

اعلم أن هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة. فأولها : قصة آدم وإبليس. وثانيها : قصة إبراهيم ولوط. وثالثها : هذه القصة ، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه السلام ، كانوا أصحاب غياض فكذبوا شعيباً فأهلكهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة ، وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء ، والأيكة الشجر الملتف. يقال : أيكة وأيك كشجرة وشجر. قال ابن عباس : الأيك هو شجر المقل ، وقال الكلبي : الأيكة الغيضة ، وقال الزجاج : هؤلاء أهل موضع كان ذا شجر. قال الواحدي : ومعنى إن واللام للتوكيد وإن ههنا هي المخففة من الثقيلة ، وقوله : {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قال المفسرون : اشتد الحر فيهم أياماً ، ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله : {وَإِنَّهُمَا} فيه قولان :
القول الأول : المراد قرى قوم لوط عليه السلام والأيكة.
والقول الثاني : الضمير للأيكة ومدين لأن شعيباً عليه السلام كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما وقوله : {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أي بطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به. قال الفراء والزجاج : إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع. قال ابن قتيبة : لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده وقوله : {مُّبِينٍ} يحتمل أنه مبين في نفسه ويحتمل / أنه مبين لغيره ، لأن الطريق يهدي إلى المقصد.
جزء : 19 رقم الصفحة : 157
157
هذه هي القصة الرابعة ، وهي قصة صالح. قال المفسرون : الحجر اسم وادٍ كان يسكنه ثمود وقوله : {الْمُرْسَلِينَ} المراد منه صالح وحده ، ولعل القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل وقوله : {وَءَاتَيْنَـاهُمْ ءَايَـاتِنَا} يريد الناقة ، وكان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظم خلقها وظهور نتاجها عند خروجها ، وكثرة لبنها وأضاف الإيتاء إليهم وإن كانت الناقة آية لصالح لأنها آيات رسولهم ، وقوله : {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} يدل على أن النظر والاستدلال واجب وأن التقليد مذموم وقوله : {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ} قد ذكرنا كيفية ذلك النحت في سورة الأعراف وقوله : {ءَامِنِينَ} يريد من عذاب الله ، وقال الفراء : {ءَامِنِينَ} أن يقع سقفهم عليهم وقوله : {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ما دفع عنهم الضر والبلاء ما كانوا يعملون من نحت تلك الجبال ومن جمع تلك الأموال. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 157
158
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار فكأنه قيل : الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم. فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها / وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم ، وهذا النظم حسن إلا أنه إنما يستقيم على قول المعتزلة ، قال الجبائي : دلت الآية على أنه تعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا حقاً وبكون الحق لا يكون الباطل ، لأن كل ما فعل باطلاً وأريد بفعله كون الباطل لا يكون حقاً ولا يكون مخلوقاً بالحق ، وفيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلقه الله تعالى بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل.
واعلم أن أصحابنا قالوا : هذه الآية تدل على أنه سبحانه هو الخالق لجميع أعمال العباد ، لأنها تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات والأرض ولكل ما بينهما. ولا شك أن أفعال العباد بينهما فوجب أن يكون خالقها هو الله سبحانه ، وفي الآية وجه آخر في النظم وهو أن المقصود من ذكر هذه القصص تصبير الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام على سفاهة قومه فإنه إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله تعالى بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل تحمل تلك السفاهات على محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم إنه تعالى لما بين أنه أنزل العذاب على الأمم السالفة فعند هذا قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَإِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ } وإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم ، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك ، ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم فقال : {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي فأعرض عنهم ، واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء ، وقيل : هو منسوخ بآية السيف وهو بعيد ، لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح ، فكيف يصير منسوخاً.
ثم قال : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّـاقُ الْعَلِيمُ} ومعناه أنه خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم وتفاوت أحوالهم مع علمه بكونهم كذلك ، وإذا كان كذلك فإنما خلقهم مع هذا التفاوت ، ومع العلم بذلك التفاوت. أما على قول أهل السنة فلمحض المشيئة والإرادة. وأما على قول المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 158
162
(1/2686)

/ اعلم أنه تعالى لما صبره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بها ، لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه سهل عليه الصفح والتجاوز ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله : {سَبْعًا مِّنَ} يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات وأن يكون سبعاً من السور وأن يكون سبعاً من الفوائد. وليس في اللفظ ما يدل على التعيين. وأما المثاني : فهو صيغة جمع. واحده مثناة ، والمثناة كل شيء يثنى ، أي يجعل اثنين من قولك : ثنيت الشيء إذا عطفته أو ضممت إليه آخر ، ومنه يقال : لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني ، لأنها تثنى بالفخذ والعضد ، ومثاني الوادي معاطفه.
إذا عرفت هذا فنقول : سبعاً من المثاني مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ولا شك أن هذا القدر مجمل ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل وللناس فيه أقوال : الأول : وهو قول أكثر المفسرين : إنه فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ الفاتحة وقال : هي السبع المثاني رواه أبو هريرة ، والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنها سبع آيات ، وأما السبب في تسميتها بالمثاني فوجوه : الأول : أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة. والثاني : قال الزجاج : سميت مثاني لأنها يثنى بعدها ما يقرأ معها. الثالث : سميت آيات الفاتحة مثاني ، لأنها قسمت قسمين اثنين ، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" والحديث مشهور. الرابع : سميت مثاني لأنها قسمان ثناء ودعاء ، وأيضاً النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء ، والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء. الخامس : سميت الفاتحة بالمثاني ، لأنها نزلت مرتين مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ومرة بالمدينة. السادس : سميت بالمثاني ، لأن كلماتها مثناة مثل : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} (الفاتحة : 2 ، 7) وفي قراءة عمر : (غير المغضوب عليهم وغير الضالين). السابع : قال الزجاج : سميت الفاتحة بالمثاني لاشتمالها على الثناء على الله تعالى وهو حمد الله وتوحيده وملكه.
جزء : 19 رقم الصفحة : 162
واعلم أنا إذا حملنا قوله : {سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} على سورة الفاتحة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 162
163
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالزهد في الدنيا ، وخفض الجناح للمؤمنين ، أمره بأن يقول للقوم : {إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} فيدخل تحت كونه نذيراً ، كونه مبلغاً لجميع التكاليف ، لأن كل ما كان واجباً ترتب على تركه عقاب وكل ما كان حراماً ترتب على فعله عقاب فكان الأخبار بحصول هذا العقاب داخلاً تحت لفظ النذير ، ويدخل تحته أيضاً كونه شارحاً لمراتب الثواب والعقاب والجنة والنار ، ثم أردفه بكونه مبيناً ، ومعناه كونه آتياً في كل ذلك بالبيانات الشافية والبينات الوافية ، ثم قال بعده : {كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} وفيه بحثان :
البحث الأول : اختلفوا في أن المقتسمين من هم ؟
وفيه أقوال :
القول الأول : قال ابن عباس : هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان : كانوا ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها لا تغتروا بالخارج منا ، والمدعي للنبوة فإنه مجنون ، وكانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن / أو شاعر ، فأنزل الله تعالى بهم خزياً فماتوا شر ميتة ، والمعنى : أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين.
والقول الثاني : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات أن المقتسمين هم اليهود والنصارى ، واختلفوا في أن الله تعالى لم سماهم مقتسمين ؟
فقيل لأنهم جعلوا القرآن عضين آمنوا بما وافق التوراة وكفروا بالباقي. وقال عكرمة : لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به ، فقال بعضهم : سورة كذا لي. وقال بعضهم : سورة كذا لي. وقال مقاتل بن حبان : اقتسموا القرآن فقال بعضهم سحر. وقال بعضهم شعر ، وقال بعضهم كذب ، وقال بعضهم : أساطير الأولين.
والقول الثالث : في تفسير المقتسمين. قال ابن زيد : هم قوم صالح تقاسموا لنبيتنه وأهله ، فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم ، فعلى هذا والاقتسام من القسم لا من القسمة ، وهو اختيار ابن قتيبة.
البحث الثالث : أن قوله : {كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} يتقضي تشبيه شيء بذلك فما ذلك الشيء ؟
جزء : 19 رقم الصفحة : 163
(1/2687)

والجواب عنه من وجهين :
الوجه الأول : التقدير : ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، حيث قالوا بعنادهم وجهلهم بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل.
فإن قيل : فعلى هذا القول كيف توسط بين المشبه والمشبه به قوله : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (الحجر : 88) إلى آخره ؟
قلنا : لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تكذيبهم وعداوتهم ، اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم.
والوجه الثاني : أن يتعلق هذا الكلام بقوله : {وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} .
واعلم أن هذا الوجه لا يتم إلا بأحد أمرين : إما التزام إضمار أو التزام حذف ، أما الإضمار فهو أن يكون التقدير إني أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلناه على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه ، المفعول محذوف وهو المشبه ، ودل عليه المشبه به ، وهذا كما تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي رأيت إنساناً كالقمر في الحسن ، وأما الحذف فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير المبين ما أنزلناه على المقتسمين/ وزيادة الكاف له نظير وهو قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) والتقدير : ليس مثله شيء ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى الإضمار والحذف ، والتقدير : إني أنا النذير أي أنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين وقوله : {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} فيه بحثان :
/ البحث الأول : في هذا اللفظ قولان : الأول : أنه صفة للمقتسمين. والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره هو قوله : {لَنَسْـاَلَنَّهُمْ} وهو قول ابن زيد.
البحث الثاني : ذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين :
القول الأول : أن واحدها عضة مثل عزة وبرة وثبة ، وأصلها عضوة من عضيت الشيء إذا فرقته ، وكل قطعة عضة ، وهي مما نقص منها واو هي لام الفعل ، والتعضية التجزئة والتفريق ، يقال : عضيت الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها ، وفي الحديث : "لا تعضية في ميراث إلا فيما احتمل القسمة" أي لا تجزئه فيما لا يحتمل القسمة كالجوهرة والسيف. فقوله : {جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} يريد جزؤه أجزاء ، فقالوا : سحر وشعر وأساطير الأولين ومفترى.
جزء : 19 رقم الصفحة : 163
والقول الثاني ؛ أن واحدها عضة وأصلها عضهة ، فاستثقلوا الجمع بين هاءين ، فقالوا : عضة كما قالوا شفة ، والأصل شفهة بدليل قولهم : شافهت مشافهة ، وسنة وأصلها سنهة في بعض الأقوال ، وهو مأخوذ من العضة بمعنى الكذب ، ومنه الحديث : "إياكم والعضة" وقال ابن السكيت : العضة بأن يعضه الإنسان ويقول فيه ما ليس فيه. وهذا قول الخليل فيما روى الليث عنه ، فعلى هذا القول معنى قوله تعالى : {جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} أي جعلوه مفترى. وجمعت العضة جمع ما يعقل لما لحقها من الحذف ، فجعل الجمع بالواو والنون عوضاً مما لحقها من الحذف.
جزء : 19 رقم الصفحة : 163
165
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يحتمل أن يكون راجعاً إلى المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ، لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى ، ويكون التقدير أنه تعالى أقسم بنفسه أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن وعن سائر المعاصي ، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى جميع المكلفين لأن ذكرهم قد تقدم في قوله : {وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (الحجر : 89) أي / لجميع الخلق وقد تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين ، فيعود قوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} على الكل ، ولا معنى لقول من يقول إن السؤال إنما يكون عن الكفر أو عن الإيمان ، بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال ، لأن اللفظ عام فيتناول الكل.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ} وبين قوله : {فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} (الرحمن : 39) أجابوا عنه من وجوه :
الوجه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يسئلون سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم ، وإنما يسئلون سؤال التقريع يقال لهم لم فعلتم كذا ؟
ولقائل أن يقول : هذا الجواب ضعيف ، لأنه لو كان المراد من قوله : {فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} سؤال الاستفهام لما كان في تخصيص هذا النفي بقوله يومئذ فائدة لأن مثل هذا السؤال على الله تعالى محال في كل الأوقات.
والوجه الثاني : في الجواب أن يصرف النفي إلى بعض الأوقات ، والإثبات إلى وقت آخر ، لأن يوم القيامة يوم طويل.
(1/2688)

ولقائل أن يقول : قوله ؛ {فَيَوْمَا ِذٍ لا يُسْاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} (الرحمن : 39) هذا تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم ، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء ذلك اليوم لحصل التناقض.
جزء : 19 رقم الصفحة : 165
والوجه الثالث : أن نقول : قوله : {فَيَوْمَا ِذٍ لا يُسْاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} يفيد عموم النفي وقوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} عائد إلى المقتسمين وهذا خاص ولا شك أن الخاص مقدم على العام. أما قوله : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فاعلم أن معنى الصدع في اللغة الشق والفصل ، وأنشد ابن السكيت لجرير :
هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم
بالحق يصدع ما في قوله حيف
فقال يصدع يفصل ، وتصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه قوله تعالى : {يَوْمَا ِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (الروم : 43) قال الفراء : يتفرقون. والصدع في الزجاجة الإبانة ، أقول ولعل ألم الرأس إنما سمي صداعاً لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق. قال الأزهري : وسمي الصبح صديعاً كما يسمى فلقاً. وقد انصدع وانفلق الفجر وانفطر الصبح.
إذا عرفت هذا فقول : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي فرق بين الحق والباطل ، وقال الزجاج : فاصدع أظهر ما تؤمر به يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً كقولك صرح بها ، وهذا في الحقيقة يرجع أيضاً إلى الشق والتفريق ، أما قوله : {بِمَا تُؤْمَرُ} ففيه قولان : الأول : أن يكون "ما" بمعنى الذي / أي بما تؤمر به من الشرائع ، فحذف الجار كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
الثاني : أن تكون "ما" مصدرية أي فاصدع بأمرك وشأنك. قالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلّم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية.
ثم قال تعالى : {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. قال بعضهم : هذا منسوخ بآية القتال وهو ضعيف ، لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً.
ثم قال : {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} قيل : كانوا خمسة نفر من المشركين : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لأخذه فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال : لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي ، وأشار إلى أنف عدي بن قيس ، فامتخط قيحاً فمات وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات.
جزء : 19 رقم الصفحة : 165
واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين وفي أسمائهم وفي كيفية طريق استهزائهم ، ولا حاجة إلى شيء منها ، والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في علو قدره وعظم منصبه ، ودل القرآن على أن الله تعالى أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 165
167
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قال له : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال له : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فأمره بأربعة أشياء بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة / واختلف الناس في أنه كيف صار الإقبال على هذه الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن ؟
فقال العارفون المحققون إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية ، ومتى حصل ذلك الإنكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة ، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها ، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقالت المعتزلة : من اعتقد تنزيه الله تعالى عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق ، فإنه يعلم أنه عدل منزه عن إنزال المشاق به من غير غرض ولا فائدة فحينئذ يطيب قلبه ، وقال أهل السنة : إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات كأنه يقول : تجب على عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات ، وقوله : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن.
فإن قيل : فأن فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات ؟
قلنا : المراد منه : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة ، والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 167
0
(1/2689)

سورة النحل
مكية ، إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية
وآياتها : 128 ، نزلت بعد سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 19 رقم الصفحة : 167
171
سورة النحل
مكية غير ثلاث آيات في أخرها
وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية ، وقال آخرون : من أولها إلى قوله : {كُن فَيَكُونُ} مدني وما سواه فمكي ، وعن قتادة بالعكس.
واعلم أن هذه السورة تسمى سورة النعم وهي مائة وعشرون وثمان آيات مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه سُبْحَانَه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} .
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن معرفة تفسير هذه الآية مرتبة على سؤالات ثلاثة :
فالسؤال الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر ، وتارة بعذاب يوم القيامة ، وهو الذي يحصل عند / قيام الساعة ، ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئاً من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب وقالوا له ائتنا به. وروي أنه لما نزل قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر : 1) قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئاً مما تخوفنا به ، فنزل قوله : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (الأنبياء : 1) فأشفقوا وانتظروا يومها فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل قوله : {أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع الناس رؤوسهم فنزل قوله : {فَلا تَسْتَعْجِلُوه } والحاصل أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : {أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه } وفي تقرير هذا الجواب وجهان :
جزء : 19 رقم الصفحة : 171
الوجه الأول : أنه وإن لم يأت ذلك العذاب إلا أنه كان واجب الوقوع والشيء إذا كان بهذه الحالة والصفة فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه بعد ذلك مجرى الواقع يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها : قد جاءك الغوث فلا تجزع.
والوجه الثاني : وهو أن يقال أن أمر الله بذلك وحكمه به قد أتى وحصل ووقع ، فأما المحكوم به فإنما لم يقع ، لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود والحاصل كأنه قيل : أمر الله وحكمه بنزول العذاب قد حصل ووجد من الأزل إلى الأبد فصح قولنا أتى أمر الله ، إلا أن المحكوم به والمأمور به إنما لم يحصل ، لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت.
السؤال الثاني : قالت الكفار : هب أنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة ، إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : {سُبْحَانَه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فنزه نفسه عن شركة الشركاء والأضداد/ والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجسام أن يشفع عنده إلا بإذنه و{مَا} في قوله : {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يجوز أن تكون مصدرية ، والتقدير : سبحانه وتعالى عن إشراكهم ويجوز أن تكون بمعنى الذي ، أي سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله ، لأنها جمادات خسيسة ، فأي مناسبة بينها وبين أدون الموجودات فضلاً عن أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسموات.
السؤال الثالث : هب أنه تعالى قضى على بعض عبيده بالسراء وعلى آخرين بالضراء ولكن / كيف يمكنك أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله ، وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته ؟
فأجاب الله تعالى عنه بقوله : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} وتقرير هذا الجواب أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده ويأمر ذلك العبد بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد والعبادة وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة ، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة ، فبهذا الطريق صار مخصوصاً بهذه المعارف من دون سائر الخلق ، وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه والله أعلم. وفي الآية مسائل :
جزء : 19 رقم الصفحة : 171
(1/2690)

المسألة الأولى : قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : (ينزل) بالياء وكسر الزاي وتشديدها ، والملائكة بالنصب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يُنَزِّلُ} بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها ، والأول من التفعيل ، والثاني من الأفعال ، وهما لغتان :
المسألة الثانية : روي عن عطاء عن ابن عباس قال : يريد بالملائكة جبريل وحده. قال الواحدي : وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدماً جائز كقوله تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه } . (نوح : 1) {إِنَّآ أَنْزَلْنَـاهُ} (يوسف : 2). {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) وفي حق الناس كقوله : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله : {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } فيه قولان :
القول الأول : أن المراد من الروح الوحي وهو كلام الله ونظيره قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } (الشورى : 52) وقوله : {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } (غافر : 15) قال أهل التحقيق : الجسد موات كثيف مظلم ، فإذا اتصل به الروح صار حياً لطيفاً نورانياً. فظهرت آثار النور في الحواس الخمس ، ثم الروح أيضاً ظلمانية جاهلة ، فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية ، كما قال تعالى ؛ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ } (النحل : 78) ثم العقل أيضاً ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد ، وعالم الدنيا والآخرة ، ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن.
إذا عرفت هذا فنقول : القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية ، والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل ، والعقل به يكمل جوهر الروح ، والروح به يكمل حال الجسد ، وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن ، لأن به يحصل الخلاص / من رقدة الجهالة ، ونوم الغفلة ، وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ، فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة/ ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) وعلى عيسى عليه السلام في قوله : {رَّوْحِ اللَّه } (يوسف : 87) وإنما حسن هذا الإطلاق ، لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف ، فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى ، فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى.
جزء : 19 رقم الصفحة : 171
والقول الثاني ؛ في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح ههنا جبريل عليه السلام ، والباء في قوله : {بِالرُّوحِ} بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه ، أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه ، فيكون المعنى : ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل ، والأول أقرب ، وتقرير هذا الوجه : أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم جبريل وحده ، بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجاً من الملائكة ، ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم تارة ملك الجبال. وتارة ملك البحار. وتارة رضوان. وتارة غيرهم. وقوله : {مِنْ أَمْرِه } يعني أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } (مريم : 64) وقوله : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} (الأنبياء : 27) وقوله : {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِه مُشْفِقُونَ} (الأنبياء : 28) وقوله : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النحل : 5) وقوله : {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم : 6) فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه ، وقوله : {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } يريد الأنبياء الذين خصهم الله تعالى برسالته ، وقوله : {أَنْ أَنذِرُوا } قال الزجاج : {ءَانٍ} بدل من الروح والمعنى : ينزل الملائكة بأن أنذروا ، أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا ، والإنذار هو الإعلام مع التخويف.
(1/2691)

المسألة الثانية : في الآية فوائد : الفائدة الأولى : أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة ، ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه } (البقرة : 285) فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة ، لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة ، وذلك الوحي هو الكتب ، ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى ، ثم بذكر الملائكة ، ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل.
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 171
إذا عرفت هذا فنقول : إذا أوحى الله تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي الله علم ضروري أو استدلالي. وبتقدير أن يكون استدلالياً فكيف الطريق إليه ؟
وأيضاً الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكاً صادقاً لا شيطاناً رجيماً ضروري أو استدلالي فإن كان استدلالياً فكيف الطريق إليه ؟
فهذه مقامات ضيقة ، وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي الله إليه ، وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول. فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام ، وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول : هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل.
وإذا عرفت هذا فنقول : لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقاً معصوماً عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية ، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمداً صلى الله عليه وسلّم صادق ، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله تعالى ، لا من قبل شيطان خبيث ، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان ، وحينئذ يلزم الدور ، فهذا مقام صعب. أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية ، والله أعلم.
المسألة الرابعة : هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } ليس إلا لمجرد قوله : {لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} وهذا كلام حق ، لأن مراتب السعادات البشرية أربعة : أولها : النفسانية ، وثانيها : البدنية ، وفي المرتبة الثالثة : الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم ، وفي المرتبة الرابعة : الأمور المنفصلة عن البدن.
أما المرتبة الأولى : وهي الكمالات النفسانية ، فاعلم أن النفس لها قوتان : إحداهما : استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب ، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية ، وسعادة هذه القوة في حصول المعارف. وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو ، وإليه الإشارة بقوله : {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } والقوة الثانية للنفس : استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم ، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة العملية ، وسعادة هذه القوة في الإتيان بالأعمال الصالحة ، وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى ، وإليه الإشارة بقوله : {فَاتَّقُونِ} ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية لا جرم قدم الله تعالى كمالات القوة النظرية ، وهي قوله : {لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } على كمالات القوة العملية وهي قوله : {فَاتَّقُونِ} .
/
جزء : 19 رقم الصفحة : 171
وأما المرتبة الثانية : وهي السعادات البدنية فهي أيضاً قسمان : الصحة الجسدانية ، وكمالات القوى الحيوانية ، أعني القوى السبع عشرة البدنية.
وأما المرتبة الثالثة : وهي السعادات المتعلقة بالصفات العرضية البدنية ، فهي أيضاً قسمان : سعادة الأصول والفروع ، أعني كمال حال الآباء. وكمال حال الأولاد.
وأما المرتبة الرابعة : وهي أخس المراتب فهي السعادات الحاصلة بسبب الأمور المنفصلة وهي المال والجاه ، فثبت أن أشرف مراتب السعادات هي الأحوال النفسانية ، وهي محصورة في كمالات القوة النظرية والعملية ، فلهذا السبب ذكر الله ههنا أعلى حال هاتين القوتين فقال : {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 171
172
اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته ، وهي المراد من قوله : {أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله : {فَاتَّقُونِ} (النحل : 2) روح الأرواح ، ومطلع السعادات ، ومنبع الخيرات والكرامات ، أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته.
(1/2692)

واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات ، إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات. أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات ، فهذه طرق ستة ، والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة ، هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال. ثم هذا الطريق يقع على وجهين : أحدهما : أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى ، وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة ، فإنه تعالى قال : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ} فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلاً على احتياجه إلى الخالق. ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات ، وإليه الإشارة بقوله : {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة : 21) ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض ، وهي قوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا} لأن الأرض أقرب إلينا من السماء ، ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله : {وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض ، فقال : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } (البقرة : 22).
الثاني من الدلائل القرآنية ؛ أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون / فالأدون ، وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة ، وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية ، ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان ، ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان ، ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات ، ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة ، وهذا الترتيب في غاية الحسن.
جزء : 19 رقم الصفحة : 172
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول :
النوع الأول : من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات والأرض فقال : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا تَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 1) إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم ، ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا فنقول : الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص ، وهذا المعنى حاصل في السموات من وجوه : الأول : أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه ، وكل ما كان متناهياً في الحجم والقدر ، كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص امراً جائزاً ، وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص ، وكل ما كان مفتقراً إلى الغير فهو محدث. الثاني : وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة ، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال.
إذا ثبت هذا فنقول : إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل ، ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت. وعلى التقديرين فلحركتها أول ، فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير ، فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له. الثالث : أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه/ والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس ، وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمراً جائزاً فيفتقر إلى المخصص والمقدر ، وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام.
واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السموات والأرض قال بعده : {تَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمراد أن القائلين بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكاً في كونه قديماً أزلياً فنزه نفسه عن ذلك ، وبين أنه لا قديم إلا هو ، وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس : 18) في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا ، لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول : إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم ، والمقصود / ههنا إبطال قول من يقول : الأجسام قديمة ، والسموات والأرض أزلية ، فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 172
174
اعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان ، فلما ذكر الله تعالى الاستدلال على وجود الإله الحكيم بأجرام الأفلاك ، أتبعه بذكر الاستدلال على هذا المطلوب بالإنسان.
واعلم أن الإنسان مركب من بدن ونفس ، فقوله تعالى : {خَلَقَ الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ} اشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم ، وقوله : {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على وجود الصانع الحكيم.
(1/2693)

أما الطريق الأول : فتقريره أن نقول : لا شك أن النطفة جسم متشابه الأجزاء بحسب الحس والمشاهدة ، إلا أن من الأطباء من يقول إنه مختلف الأجزاء في الحقيقة ، وذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع ، فإن الغذاء يحصل له في المعدة هضم أول وفي الكبد هضم ثان. وفي العروق هضم ثالث. وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابع. ففي هذا الوقت وصل بعض أجزاء الغذاء إلى العظم وظهر فيه أثر من الطبيعة العظيمة ، وكذا القول في اللحم والعصب والعروق وغيرها ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشهوة يحصل ذوبان من جملة الأعضاء ، وذلك هو النطفة ، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
إذا عرفت هذا فنقول : النطفة في نفسها إما أن تكون جسماً متشابه الأجزاء في الطبيعة والماهية ، أو مختلف الأجزاء فيها ، فإن كان الحق هو الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودم الطمث ، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار. والقوة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة ، وعلى هذا الحرف عولوا في قولهم البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة فلو كان المقتضى لتولد الحيوان من النطفة هو الطبيعة ، لوجب أن يكون شكلها الكرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن المقتضى لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة ، بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالحكمة والتدبير والاختيار.
/ وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : النطفة جسم مركب من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها بتدبير فاعل مختار حكيم وبيانه من وجوه :
جزء : 19 رقم الصفحة : 174
الوجه الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل في الفوق ، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعين أمراً دائماً ولا أكثرياً ، وحيث كان الأمر كذلك ، علمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس إلا بتدبيرالفاعل المختار الحكيم.
والوجه الثاني : أن النطفة بتقدير أنها جسم مركب من أجزاء مختلفة الطبائع ، إلا أنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسماً بسيطاً ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلو كان المدبر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فكان يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن مدبر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ولا تأثيرات الأنجم والأفلاك ، لأن تلك التأثيرات متشابهة ، فعلمنا أن مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم ، وهو المطلوب ، هذا هو الاستدلال بأبدان الحيوانات على وجود الإله المختار. وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى : {خَلَقَ الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ} وأما الاستدلال على وجود الصانع المختار الحكيم بأحوال النفس الإنسانية فهو المراد من قوله : {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في بيان وجه الاستدلال وتقريره : أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهماً وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات ، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ، ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والغذاء الذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله عن بطن الأم ، لا يميز ألبتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ، فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالاً وأقل فطنة من سائر الحيوانات ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على مساحة السموات والأرض ويقوى على معرفة ذات الله وصفاته وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله تعالى والخصومات الشديدة في كل المطالب فانتقال نفس الإنسان من تلك البلاد المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون / بتدبير إله مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار ، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى : {خَلَقَ الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} .
جزء : 19 رقم الصفحة : 174
وإذا عرفت هذه الدقيقة أمكنك التنبيه لوجوه كثيرة :
(1/2694)

المسألة الثانية : أنه تعالى إنما يخلق الإنسان من النطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في القرآن العزيز منها قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون : 12 ، 13) إلا أنه تعالى اختصر ههنا لأجل أن ذلك الاستقصاء مذكور في سائر الآيات ، وقوله ؛ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فيه بحثان :
البحث الأول : قال الواحدي : الخصيم بمعنى المخاصم ، قال أهل اللغة : خصيمك الذي يخاصمك وفعيل بمعنى مفاعل معروف كالنسيب بمعنى المناسب ، والعشير بمعنى المعاشر ، والأكيل والشريب ويجوز أن يكون خصيم فاعلاً من خصم يخصم بمعنى اختصم ، ومنه قراءة حمزة : {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} (يس : 49).
البحث الثاني : لقوله : {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وجهان : أحدهما : فإذا هو منطبق مجادل عن نفسه ، منازع للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة ، وجماداً لا حس له ولا حركة ، والمقصود منه : أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم. والثاني : فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} (يس : 78) والغرض منه وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل ، والتمادي في كفران النعمة ، والوجه الأول أوفق ، لأن هذه الآيات مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم ، لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الكفر والكفران.
جزء : 19 رقم الصفحة : 174
176
وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة. وهي الحواس الظاهرة والباطنة ، والشهوة والغضب ، ثم هذه الحيوانات قسمان : منها ما ينتفع الإنسان بها ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم الأول : أشرف من الثاني ، لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل. وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره ، ثم نقول : والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك ، وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها ، والقسم الأول أشرف من الثاني ، وهذا القسم هو الأنعام ، فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية ، فقال : {وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} .
واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي : الضأن ، والمعز. والإبل. والبقر ، وقد يقال أيضاً : الأنعام ثلاثة : الإبل. والبقر. والغنم. قال صاحب "الكشاف" : وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل. وقوله : {وَالانْعَـامَ} منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ} (يس : 39) ويجوز أن يعطف على الإنسان. أي خلق الإنسان والأنعام ، قال الواحدي : تم الكلام عند قوله : {وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا} ثم ابتدأ وقال : {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله : {لَكُمُ} ثم ابتدأ وقال : {فِيهَا دِفْءٌ} قال صاحب "النظم" : أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : {خَلَقَهَا} والدليل عليه أنه عطف عليه قوله : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال.
المسألة الثانية : أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع ، واعلم أن منافع النعم منها ضرورية ، ومنها غير ضرورية ، والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية.
جزء : 19 رقم الصفحة : 176
فالمنفعة الأولى : قوله : {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال : {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} (النحل : 80) والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية ، قال الأصمعي : ويكون الدفء السخونة. يقال : أقعد في دفء هذا الحائط ، أي في كنه. وقرىء : بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء.
والمنفعة الثانية : قوله : {كَبِيرٌ وَمَنَـافِعُ} قالوا : المراد نسلها ودرها ، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على لوصف الأعم ، لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود ، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل.
/ والمنفعة الثالثة : قوله : {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
فإن قيل : قوله : {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يفيد الحصر وليس الأمر كذلك ، فإنه قد يؤكل من غيرها ، وأيضاً منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس ، فلم أخر منفعته في الذكر ؟
(1/2695)

قلنا : الجواب عن الأول : إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر ، فيشبه غير المعتاد. وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أيضاً أن غالب أطعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وأيضاً تكتسبون باكراء الإبل وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم.
والجواب عن السؤال الثاني : أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم ، فلهذا قدمه عليه في الذكر.
واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام. وأما المنافع الحاصلة من الأنعام التي هي ليست بضرورية فأمور :
المنفعة الأولى : قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ، ويقال : سرح القوم إبلهم سرحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة : هذه الإراحة أكثر ما تكون أيام الربيع إذا سقط الغيث وكثر الكلأ وخرجت العرب للنجعة ، وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت.
واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ، وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها.
جزء : 19 رقم الصفحة : 176
فإن قيل : لم قدمت الإراحة على التسريح ؟
قلنا : لأن الجمال في الإراحة أكثر. لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح ، فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ثم تأخذ في التفرق والإنتشار ، فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح.
والمنفعة الثانية : قوله : {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الانفُسِا إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الأثقال جمع ثقل وهو متاع المسافر لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. قال ابن عباس : يريد من مكة إلى المدينة. أو إلى اليمن. أو إلى الشام. أو إلى مصر. قال الواحدي : هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل لشق عليكم وخص ابن عباس هذه البلاد ، لأن / متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد ، وقرىء : {بِشِقِّ الانفُسِ } بكسر الشين وفتحها ، وأكثر القراء على كسر الشين. والشق المشقة والشق نصف الشيء ، وحمل اللفظ ههنا على كلا المعنيين جائز ، فإن حملناه على المشقة كان المعنى : لم يكونوا بالغيه إلا بالمشقة ، وإن حملناه على نصف الشيء كان المعنى : لم يكونوا بالغيه إلا عند ذهاب النصف من قوتكم أو من بدنكم ويرجع عند التحقيق إلى المشقة. ومن الناس من قال : المراد من قوله : {وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا} الإبل فقط بدليل أنه وصفها في آخر الآية بقوله {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ} وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل.
قلنا : المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصلة في الكل وبعضها مختص بالبعض ، والدليل عليه : أن قوله : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} حاصل في البقر والغنم مثل حصوله في الإبل. والله أعلم.
المسألة الثانية : احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فقالوا : هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس ؛ وحمل الأثقال على الجمال ومثبتو الكرامات يقولون : إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة ، فكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلاً ، ولما بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور ، لأنه لا قائل بالفرق.
وجوابه : أنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرمات. والله أعلم.
جزء : 19 رقم الصفحة : 176
178
اعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها في المنافع الضرورية والحاجات الأصلية ، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في المنافع التي ليست بضرورية ، فقال : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} عطف على الأنعام ، أي وخلق الأنعام لكذا وكذا ، وخلق هذه الأشياء للركوب. وقوله : {وَزِينَةً } أي وخلقها زينة ، ونظيره قوله تعالى : {زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِا وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (فصلت : 12) المعنى : وحفظناها حفظاً. قال الزجاج : نصب قوله : {وَزِينَةً } على أنه مفعول له. والمعنى : وخالقها للزينة.
(1/2696)

المسألة الثانية : احتج القائلون بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية. فقالوا منفعة الأكل أعظم / من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر ، وحيث لم يذكره الله تعالى علمنا أنه يحرم أكله ، ويمكن أيضاً أن يقوي هذا الاستدلال من وجه آخر. فيقال : إنه تعالى قال في صفة الأنعام : {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (النحل : 5) وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام ، فوجب أن يحرم أكل لحم الخيل بمقتضى هذا الحصر ، ثم إنه تعالى بعد هذا الكلام ذكر الخيل والبغال والحمير وذكر أنها مخلوقة للركوب ، فهذا يقتضي أن منفعة الأكل مخصوصة بالأنعام وغير حاصلة في هذه الأشياء ، ويمكن الاستدلال بهذه الآية من وجه ثالث وهو أن قوله : {لِتَرْكَبُوهَا} يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ، ولو حل أكلها لما كان تمام المقصود من خلقها هو الركوب ، بل كان حل أكلها أيضاً مقصوداً ، وحينئذ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصود ، بل يصير بعض المقصود.
وأجاب الواحدي بجواب في غاية الحسن فقال : لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذه الحيوانات لكان تحريم أكلها معلوماً في مكة لأجل أن هذه السورة مكية ، ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدثين أن لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر باطلاً ، لأن التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم لم يبق لتخصيص هذا التحريم بهذه الشبهة فائدة ، وهذا جواب حسن متين.
جزء : 19 رقم الصفحة : 178
المسألة الثالثة : القائلون بأن أفعال الله تعالى معللة بالمصالح والحكم ، احتجوا بظاهر هذه الآية فإنه يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لأجل المنفعة الفلانية ، ونظيره قوله : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم : 1) وقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) والكلام فيه معلوم.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول لما كان معنى الآية أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وليجعلها زينة لكم فلم ترك هذه العبارة ؟
وجوابه أنه تعالى لو ذكر هذا الكلام بهذه العبارة لصار المعنى أن التزين بها أحد الأمور المعتبرة في المقصود ، وذلك غير جائز ، لأن التزين بالشيء يورث العجب والتيه والتكبر ، وهذه أخلاق مذمومة والله تعالى نهى عنها وزجر عنها فكيف يقول إني خلقت هذه الحيوانات لتحصيل هذه المعاني بل قال : خلقها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ، ولكنه غير مقصود بالذات ، فهذا هو الفائدة في اختيار هذه العبارة.
أو اعلم أنه تعالى لما ذكر أولاً : أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعاً ضرورياً / وثانياً : أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعاً غير ضروري بقي القسم الثالث من الحيوانات وهي الأشياء التي لا ينتفع الإنسان بها في الغالب فذكرها على سبيل الإجمال فقال : {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وذلك لأن أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبة المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحس الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية ، وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال : إن على يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع ، والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفاً البيت المعمور ، وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً ، ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 178
179
اعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد قال : {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة. ويحيى من حيى عن بينة وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : القصد استقامة الطريق يقال : طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك ، إذا عرفت هذا ففي الآية حذف ، والتقدير : وعلى الله بيان قصد السبيل ، ثم قال : {وَمِنْهَا جَآئِرٌ } أي عادل مائل ومعنى الجور في اللغة الميل عن الحق والكناية في قوله : {وَمِنْهَا جَآئِرٌ } تعود على السبيل ، وهي مؤنثة في لغة الحجاز يعني ومن السبيل ما هو جائر غير قاصد للحق وهو أنواع الكفر والضلال. والله أعلم.
(1/2697)

المسألة الثانية ؛ قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار ، لأنه تعالى قال : {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} وكلمة "على" للوجوب قال تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (آل عمران : 97) ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضل أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه ، وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلاً للضلال لقال : {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} وعليه جائرها أو قال : وعليه الجائر فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل أنه عليه ، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه بل قال / {وَمِنْهَا جَآئِرٌ } دل على أنه تعالى لا يضل عن الدين أحداً.
أجاب أصحابنا أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح فإما أن يبين كيفية الاغواء والإضلال فذلك غير واجب فهذا هو المراد ، والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله : {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ} يدل على أنه تعالى ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان ، لأن كلمة (لو) تفيد انتفاء شيء لانتفاء شيء غيره قوله ؛ {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ} معناه : لو شاء هدايتكم لهداكم ، وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم ، وذلك يدل على المقصود.
جزء : 19 رقم الصفحة : 179
وأجاب الأصم عنه بأن المراد لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم ، وهذا يدل على أن مشيئة الإلجاء لم تحصل.
وأجاب الجبائي بأن المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان ، لأنه مقدور جميع المكلفين.
وأجاب بعضهم فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل ، إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين ، فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب ، والله أعلم.
واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مراراً وأطواراً مع الجواب فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 19 رقم الصفحة : 179
185
اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات ، فلما قرر الله تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات ، أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.
/ واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر ، وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مراراً ، والحاصل : أن ماء المطر قسمان : أحدهما : هو الذي جعله الله تعالى شراباً لنا ولكل حي ، وهو المراد بقوله : {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } (الأنبياء : 30).
فإن قيل : أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر ، أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره ، وهو الماء الموجود في قعر الأرض ؟
أجاب القاضي : بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره.
ولقائل أن يقول : ظاهر الآية يدل على الحصر ، لأن قوله : {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره.
إذا ثبت هذا فنقول : لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك ، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّـاهُ فِى الارْضِ } (المؤمنون : 18) ولا يمتنع أيضاً في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر ، والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله : {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} إلى آخر الآية ، وفيه مباحث :
البحث الأول : ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة ، وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب ، وههنا قولان :
القول الأول : قال الزجاج : كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد :
يطعمها اللحم إذا عز الشجر
جزء : 20 رقم الصفحة : 185
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ ، وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ.
ولقائل أن يقول : إنه تعالى قال : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن : 6) والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ، ومن الشجر ما له ساق ، هكذا قال المفسرون ، وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضاً فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط ، يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى : {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء : 65) ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ ، فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه.
(1/2698)

القول الثاني : أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار ، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول.
/ البحث الثاني : قوله : {فِيهِ تُسِيمُونَ} أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال : أسمت الماشية إذا خليتها ترعى ، وسامت هي تسوم سوماً إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج : أخذ ذلك من السومة وهي العلامة. وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات ، وقال غيره : لأنها تعلم للإرسال في المرعى/ وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في سورة آل عمران في قوله تعالى : {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} (آل عمران : 14).
أما قوله تعالى : {يُنابِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَـابَ} ففيه مباحث :
البحث الأول : هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان : أحدهما : معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات ، وهو المراد من قوله : {فِيهِ تُسِيمُونَ} . والثاني : ما كان مخلوقاً لأكل الإنسان وهو المراد من قوله : {يُنابِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} .
فإن قيل : إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات ، وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان ، وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان ، ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال : {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ } (طه : 54) فما الفائدة فيه ؟
جزء : 20 رقم الصفحة : 185
قلنا : أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه ، وأما الترتيب المذكور في الآية الأخرى ، فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام : "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
البحث الثاني : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : بالنون على التفخيم والباقون بالياء ، قال الواحدي : والياء أشبه بما تقدم.
البحث الثالث : اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء ، والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات. والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي ، لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي ، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة ، وأما الغذاء النباتي فقسمان : حبوب. وفواكه ، أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون. والنخيل. والأعناب ، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج ، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه ، فظاهر معلوم ، وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل ، ثم قال في صفة البقية : {وَزِينَةًا وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل : 8) فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات ، قال في صفة البقية : {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } تنبيهاً على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات ، فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل.
/ ثم قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وههنا بحثان :
البحث الأول : في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول : إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها ، فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء. ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ، ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ، ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ، ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب ، فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان.
جزء : 20 رقم الصفحة : 185
إذا عرفت هذا فنقول : نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة. ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة/ فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة.
البحث الثاني : أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءًا لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنابِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَـابَ} .
(1/2699)

ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه تعالى هو الذي أنبتها ولم لا يجوز أن يقال : إن هذه الأشياء إنما حدثت وتولدت بسبب تعاقب الفصول الأربعة وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب ؟
وإذا عرفت هذا السؤال فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال لا يكون هذا الدليل تاماً وافياً بإفادة هذا المطلوب ، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً ، فلهذا السبب ختم هذه الآية بقوله : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
جزء : 20 رقم الصفحة : 185
187
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الله تعالى لما أجاب في هذه الآية عن السؤال الذي ذكرناه من وجهين : الأول : أن نقول : إن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مسندة إلى الاتصالات الفلكية والتشكلات الكوكبية إلا أنه لا بد لحركاتها واتصالاتها من أسباب ، وأسباب تلك الحركات إما ذواتها وإما أمور مغايرة لها ، والأول باطل لوجهين : الأول : أن الأجسام متماثلة ، فلو كان جسم علة لصفة لكان كل جسم واجب الاتصاف بتلك الصفة وهو محال ، والثاني : أن ذات الجسم لو كانت علة لحصول هذا الجزء من الحركة لوجب دوام هذا الجزء من الحركة بدوام تلك الذات ، ولو كان كذلك ، لوجب بقاء الجسم على حالة واحدة من غير تغير أصلاً ، وذلك يوجب كونه ساكناً ، ويمنع من كونه متحركاً ، فثبت أن القول بأن الجسم متحرك لذاته يوجب كونه ساكناً لذاته وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً ، فثبت أن الجسم يمتنع أن يكون متحركاً لكونه جسماً ، فبقي أن يكون متحركاً لغيره ، وذلك الغير إما أن يكون سارياً فيه أو مبايناً عنه ، والأول باطل ، لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام ، فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها ، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً عاد التقسم / الأول فيه ، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً والأول باطل ، لأن نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على السوية ، فلم يكن بعض الأجسام بقبول بعض الآثار المعينة أولى من بعض ، ولما بطل هذا ثبت أن محرك الأفلاك والكواكب هو الفاعل المختار القادر المنزه عن كونه جسماً وجسمانياً ، وذلك هو الله تعالى ، فالحاصل أنا ولو حكمنا بإسناد حوادث العالم السفلي إلى الحركات الفلكية والكوكبية فهذه الحركات الكوكبية والفلكية لا يمكن إسنادها إلى أفلاك أخرى وإلا لزم التسلسل وهو محال ، فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله تعالى ، وإذا كانت الحوادث السفلية مستندة إلى الحركات الفلكية ، وثبت أن الحركات الفلكية حادثة بتخليق الله تعالى وتقديره وتكوينه ، فكان هذا اعترافاً بأن الكل من الله تعالى وبإحداثه وتخليقه ، وهذا هو المراد من قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } يعني إن كانت تلك الحوادث السفلية لأجل تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر ، فهذه الأشياء لا بد وأن يكون حدوثها بتخليق الله تعالى وتسخيره قطعاً للتسلسل ، ولما تم هذا الدليل في هذا المقام لا جرم ختم هذه الآية بقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعني أن كل من كان عاقلاً علم أن القول بالتسلسل باطل ولا بد من الانتهاء في آخر الأمر إلى الفاعل المختار القدير فهذا تقرير أحد الجوابين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 187
والجواب الثاني عن ذلك السؤال أن نقول : نحن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث النبات والحيوان لأجل تأثير الطباع والأفلاك والأنجم ، وذلك لأن تأثير الطبائع والأفلاك والأنجم والشمس والقمر بالنسبة إلى الكل واحد ، ثم نرى أنه إذا تولد العنب كان قشره على طبع وعجمه على طبع ولحمه على طبع ثالث وماؤه على طبع رابع ، بل نقول : إنا نرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصفرة/ والوجه الثاني من تلك الورقة في غاية الحمرة وتلك الورقة تكون في غاية الرقة واللطافة ، ونعلم بالضرورة أن نسبة الأنجم والأفلاك إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة ، نسبة واحدة ، والطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً ، ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً ، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة ، وأيضاً إذا وضعنا الشمع فإذا استضاء خمسة أذرع من ذلك الشمع من أحد الجوانب ، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب ، لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب.
(1/2700)

إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع إلى وجهي / تلك الورقة اللطيفة الرقيقة نسبة واحدة ، وثبت أن الطبيعة المؤثرة متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً وثبت أن الأثر غير متشابه ، لأن أحد جانبي تلك الورقة في غاية الصفرة ، والوجه الثاني في غاية الحمرة فهذا يفيد القطع بأن المؤثر في حصول هذه الصفات والألوان والأحوال ليس هو الطبيعة ، بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار الحكيم ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وهذا هو المراد من قوله : {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الارْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه ا } .
واعلم أنه لما كان مدار هذه الحجة على أن المؤثر الموجب بالذات وبالطبيعة يجب أن يكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة ، فلما دل الحس في هذه الأجسام النباتية على اختلاف صفاتها وتنافر أحوالها ظهر أن المؤثر فيها ليس واجباً بالذات بل فاعلاً مختاراً فهذا تمام تقرير هذه الدلائل وثبت أن ختم الآية الأولى بقوله : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} والآية الثانية بقوله : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والآية الثالثة بقوله : {لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} هو الذي نبه على هذه الفوائد النفيسة والدلائل الظاهرة والحمد لله على ألطافه في الدين والدنيا.
جزء : 20 رقم الصفحة : 187
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَا وَالنُّجُومُ} كلها بالرفع على الابتداء والخبر هو قوله : {مُسَخَّرَاتُ } وقرأ حفص عن عاصم : {وَالنُّجُومُ} بالرفع على أن يكون قوله : {وَالنُّجُومُ} ابتداء وإنما حملها على هذا لئلا يتكرر لفظ التسخير ، إذ العرب لا تقول سخرت هذا الشيء مسخراً فجوابه أن المعنى أنه تعالى سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرة تحت قدرته وإرادته ، وهذا هو الكلام الصحيح ، والتقدير : أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحها حال كونها مسخرة تحت قدرة الله تعالى وأمره وإذنه ، وعلى هذا التقدير فالتكرير الخالي عن الفائدة غير لازم والله علم. بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : التسخير عبارة عن القهر والقسر ، ولا يليق ذلك إلا بمن هو قادر يجوز أن يقهر ، فكيف يصح ذلك في الليل والنهار وفي الجمادات والشمس والقمر ؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى لما دبر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد صارت شبيهة بالعبد المنقاد المطواع ، فلهذا المعنى أطلق على هذا النوع من التدبير لفظ التسخير. وعن الوجه الثاني في الجواب : وهو لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب علم الهيئة ، وذلك لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق والله تعالى يحرك هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب ، فكانت هذه الحركة قسرية ، فلهذا السبب ورد فيها اللفظ التسخير.
السؤال الثاني : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس كان ذكر / النهار والليل مغنياً عن ذكر الشمس.
والجواب : أن حدوث النهار والليل ليس بسبب حركة الشمس ، بل حدوثهما بسبب حركة الفلك الأعظم الذي دللنا على أن حركته ليست إلا بتحريك الله سبحانه/ وأما حركة الشمس فإنها علة لحدوث السنة لا لحدوث اليوم.
السؤال الثالث : ما معنى قوله : {مُسَخَّرَاتُا بِأَمْرِه } والمؤثر في التسخير هو القدرة لا الأمر.
والجواب : أن هذه الآية مبنية على أن الأفلاك والكواكب جمادات أم لا ، وأكثر المسلمين عليها أنها جمادات ، فلا جرم حملوا الأمر في هذه الآية على الخلق والتقدير ، ولفظ الأمر بمعنى الشأن والفعل كثير قال تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) ومن الناس من يقول إنها ليست جمادات فههنا يحمل الأمر على الأذن والتكليف والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 187
189
اعلم أنه تعالى لما احتج على إثبات الإله في المرتبة الأولى بأجرام السموات ، وفي المرتبة الثانية ببدن الإنسان ونفسه ، وفي المرتبة الثالثة بعجائب خلقة الحيوانات ، وفي المرتبة الرابعة بعجائب طبائع النبات ذكر في المرتبة الخامسة الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر فبدأ منها بالاستدلال بعنصر الماء.
واعلم أن علماء الهيئة قالوا : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء وذاك هو البحر المحيط وهو كلية عنصر الماء وحصل في هذا الربع المسكون سبعة من البحار كما قال بعده : {وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لقمان : 27) والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار ، ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها إما بالركوب أو بالغوص.
واعلم أن منافع البحار كثيرة والله تعالى ذكر منها في هذه الآية ثلاثة أنواع :
المنفعة الأولى : قوله تعالى : {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} وفيه مسائل :
(1/2701)

المسألة الأولى : قال ابن الأعرابي لحم طري غير مهموز ، وقد طرو يطرو طراوة ، وقال / الفراء : طرا يطرا طراء ممدوداً وطراوة كما يقال شقى يشقى شقاء وشقاوة.
واعلم أن في ذكر الطري مزيد فائدة ، وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحاً ، لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري فإنه لما خرج من البحر الملح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة ، بل بقدرة الله وحكمته حيث أظهر الضد من الضد.
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رحمه الله : لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السمك لا يحنث قالوا : لأن لحم السمك ليس بلحم ، وقال آخرون : إنه يحنث لأنه تعالى نص على كونه لحماً في هذه الآية وليس فوق بيان الله بيان. روي أن أبا حنيفة رحمه الله لما قال بهذا القول وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك ، واحتج عليه بهذه الآية بعث إليه رجلاً وسأله عن رجل حلف لا يصلي على البساط فصلى على الأرض هل يحنث أم لا ؟
قال سفيان : لا يحنث فقال السائل : أليس أن الله تعالى قال : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ بِسَاطًا} (نوح : 19) قال فعرف سفيان أن ذلك كان بتلقين أبي حنيفة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 189
ولقائل أن يقول : هذا الكلام ليس بقوي ، لأن أقصى ما في الباب أنا تركنا العمل بظاهر القرآن في لفظ البساط للدليل الذي قام عليه فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى والفرق بين الصورتين من وجهين : الأول : أنه لما حلف لا يصلي على البساط فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساط لزمنا أن نمنعه من الصلاة ، لأنه إن صلى على الأرض المفروشة بالبساط لزمه الحنث لا محالة ، ولو صلى على الأرض التي لا تكون مفروشة لزمه الحنث أيضاً على تقدير أن يدخل الأرض تحت لفظ البساط ، فهذا يقتضي منعه من الصلاة ، وذلك مما لا سبيل إليه بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظ اللحم ، لأنه ليس في منعه من أكل اللحم على الإطلاق محذور فظهر الفرق. الثاني : أنا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة أن وقوع اسم البساط على الأرض الخالصة مجاز أما وقوع اسم اللحم على لحم السمك فلم يعرف أنه مجاز ، فظهر الفرق والله أعلم.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن : مبنى الأيمان على العادة ، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه لحم السمك بدليل أنه إذا قال الرجل لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار.
والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ وتارة تعتبرون العرف ، وما رأيناكم ذكرتم ضابطاً بين القسمين والدليل عليه أنه إذا قال لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بلحم العصفور كان حقيقاً بالإنكار عليه ، مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور ، فثبت أن العرف / مضطرب ، والرجوع إلى نص القرآن متعين. والله أعلم.
المنفعة الثانية : من منافع البحر قوله تعالى : {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} والمراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن : 22) والمراد : بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ، ولأن إقدامهن على التزين بها إنما يكون من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم ، ورأيت بعض أصحابنا تمسكوا في مسألة أنه لا يجب الزكاة في الحلي المباح بحديث عروة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لا زكاة في الحلي" فقلت هذا الحديث ضعيف الرواية وبتقدير الصحة فيمكن أن يقال فيه لفظ الحلي لفظ مفرد محلى بالألف واللام ، وقد بينا في أصول الفقه أن هذا اللفظ يجب حمله على المعهود السابق ، والحلي الذي هو المعهود السابق هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في هذه الآية وهو قوله : {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} فصار بتقدير صحة ذلك الخبر لا زكاة في اللآلىء ، وحينئذ يسقط الاستدلال به. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 189
المنفعة الثالثة : قوله تعالى : {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه } قال أهل اللغة : مخر السفينة شقها الماء بصدرها ، وعن الفراء : أنه صوت جري الفلك بالرياح.
إذا عرفت هذا فقول ابن عباس : {مَوَاخِرَ} أي جواري ، إنما حسن التفسير به ، لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية. وقوله تعالى : {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه } يعني لتركبوه للتجارة فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 189
192
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض.
فالنعمة الأولى : قوله : {وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} وفيه مسألتان :
(1/2702)

المسألة الأولى : قوله : {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} يعني لئلا تميد بكم على قول الكوفيين وكراهة أن تميد بكم على قول البصريين ، وذكرنا هذا عند قوله تعالى : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا } (النساء : 176) والميد الحركة والاضطراب يميناً وشمالاً يقال : ماد يميد ميداً.
/ المسألة الثانية : المشهور عن الجمهور في تفسير هذه الآية أن قالوا : إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء ، فإنها تميد من جانب إلى جانب ، وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فاستوت. قالوا فكذلك لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت ، فخلق الله تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل هذه الجبال.
ولقائل أن يقول : هذا يشكل من وجوه : الأول : أن هذا التعليل إما أن يذكر مع تسليم كون الأرض والماء ثقيلة بالطبع أو مع المنع من هذا الأصل ومع القول بأن حركات هذه الأجسام بطباعها أو ليست بطباعها بل هي واقعة بتخليق الفاعل المختار ، أما على التقدير الأول فهذا التعليل مشكل ، لأن على هذا الأصل لا شك أن الأرض أثقل من الماء ، والأثقل من الماء يغوص في الماء ولا يبقى طافياً عليه وإذا لم يبق طافياً عليه امتنع أن يقال : إنها تميد وتميل وتضطرب ، وهذا بخلاف السفينة لأنها متخذة من الخشب وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء ، فلهذا السبب تبقى الخشبة طافية على الماء فحينئذ تضطرب وتميد وتميل على وجه الماء فإذا أرسيت بالأجسام الثقيلة استقرت وسكنت فظهر الفرق ، وأما على التقدير الثاني وهو أن يقال : ليس للأرض ولا للماء طبائع توجب الثقل والرسوب والأرض إنما تنزل ، لأن الله تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك وإنما صار الماء محيطاً بالأرض لمجرد إجراء العادة ، وليس ههنا طبيعة للأرض ولا للماء توجب حالة مخصوصة فنقول : فعلى هذا التقدير علة سكون الأرض هي أن الله تعالى يخلق فيها السكون وعلة كونها مائدة مضطربة هي أن الله تعالى يخلق فيها الحركة وعلى هذا التقدير فإنه يفسد القول بأن الأرض كانت مائلة فخلق الله الجال وأرساها عليها لتبقى ساكنة ، لأن هذا إنما يصح إذا كان طبيعة الأرض توجب الميدان وطبيعة الجبال توجب الإرساء والثبات ، ونحن إنما نتكلم الآن على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، فثبت أن هذا التعليل مشكل على كل التقديرات.
جزء : 20 رقم الصفحة : 192
السؤال الثاني : هو أن إرساء الأرض بالجبال إنما يعقل لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء من غير أن تميد وتميل من جانب إلى جانب ، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً فنقول : فما المقتضى لسكون ذلك الماء ووقوفه في حيزه المخصوص ، فإن قلت : المقتضي لسكونه في ذلك الحيز المخصوص هو أن طبيعته المخصوصة توجب وقوفه في ذلك المعين ، فلم لا تقول : مثله في الأرض وهو أن الطبيعة المخصوصة التي للأرض توجب وقوفها في ذلك الحيز المعين وذلك يفيد القول بأن الأرض إنما وقفت بسبب أن الله تعالى / أرساها بالجبال. فإن قلت : المقتضى لسكون الماء في حيزه المعين هو أن الله تعالى سكن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص ، فلم لا تقول مثله في سكون الأرض ، وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً.
السؤال الثالث : أن مجموع الأرض جسم عظيم ، فبتقدير أن تميد كليته وتضطرب على وجه البحر المحيط لم تظهر تلك الحالة للناس.
فإن قيل : أليس أن الأرض تحركها البخارات المحتقنة في داخلها عند الزلازل ، وتظهر تلك الحركات للناس فبم تنكرون على من يقول : إنه لولا الجبال لتحركت الأرض ، إلا أنه تعالى لما أرساها بالجبال الثقال لم تقو الرياح على تحريكها.
قلنا : تلك البخارات إنما احتقنت في داخل قطعة صغيرة من الأرض ، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ظهرت تلك الحركة. قال القائلون بهذا القول : إن ظهور الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضو معين من بدن الإنسان أما لو حركت كلية الأرض لم تظهر تلك الحركة ، ألا ترى أن الساكن في السفينة لا يحس بحركة كلية السفينة وإن كانت واقعة على أسرع الوجوه وأقواها فكذا ههنا ، فهذا ما في هذا الموضع من المباحث الدقيقة العميقة والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة ، وثبت أن هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة.
(1/2703)

إذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الأرض كرة حقيقية خالية عن الخشونات والتضريسات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأن الجرم البسيط المستدير إما أن يجب كونه متحركاً بالاستدارة على نفسه وإن لم يجب ذلك عقلاً إلا أنه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه ، أما لما حصل على ظاهر سطح كرة الأرض هذه الجبال وكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم وتوجه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم وقوته الشديدة يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة ، فكان تخليق هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها عن الحركة المستديرة ، فكانت مانعة للأرض من الميد والميل والاضطراب بمعنى أنها منعت الأرض من الحركة المستديرة ، فهذا ما وصل إليه بحثي في هذا الباب. والله أعلم بمراده.
جزء : 20 رقم الصفحة : 192
النعمة الثانية : من النعم التي أظهرها الله تعالى على وجه الأرض هي أنه تعالى أجرى الأنهار على وجه الأرض واعلم أنه حصل ههنا بحثان :
/البحث الأول : أن قوله : {وَأَنْهَـارٌ} معطوف على قوله : {وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ} والتقدير ألقى رواسي وأنهاراً. وخلق الأنهار لا يبعد أن يسمى بالإلقاء فيقال : ألقى اًّ في الأرض أنهاراً كما قال : {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} (قَ : 7) والإلقاء معناه الجعل ألا تر أنه تعالى قال في آية أخرى : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِيهَا} (فصلت : 10} والإلقاء يقارب الإنوال ، لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل ، إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى : والإلقاء يقارب الإنوال ، لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل ، إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى} (طه : 39).
البحث الثاني : أنه ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال ، فلهذا السبب لما ذكر الله تعالى الجبال أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
النعمة الثالثة : قوله : {وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وهي أيضاً على قوله : {وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ} والتقدير : وألقى في الأرض سبلاً ومعناه : أنه تعالى أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم ونظيره قوله تعالى في آية أخرى : {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} (طه : 53) وقوله : {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلاً معينة ذكر أنه أظهر فيها علامات مخصوصة حتى يتمكن المكلف من الاستدلال بها فيصل بواسطتها إلى مقصوده فقال : {وَعَلَـامَـاتٍ } وهي أيضاً معطوفة على قوله : {فِى الارْضِ رَوَاسِىَ} والتقدير : وألقى في الأرض رواسي وألقى فيها أنهاراً وسبلاً وألقى فيها علامات والمراد بالعلامات معالم الطرق وهي الأشياء التي بها يهتدي ، وهذه العلامات هي الجبال والرياح ورأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرق. قال الأخفش تم الكلام عند قوله : {وَعَلَـامَـاتٍ } وقوله : {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} كلام منفصل عن الأول ، والمراد بالنجم الجنس كقولك : كثر الدرهم في أيدي الناس. وعن السدي هو الثريا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي ، وقرأ الحسن : {وَبِالنَّجْمِ} بضمتين وبضمة فسكون ، وهو جمع نجم كرهن ورهن والسكون تخفيف. وقيل : حذف الواو من النجم تخفيفاً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 192
فإن قيل : قوله : {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} خطاب الحاضرين وقوله : {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} خطاب للغائبين فما السبب فيه ؟
.
قلنا : إن قريشاً كانت تكثر أسفارها لطلب المال ، ومن كثرت أسفاره كان علمه بالمنافع الحاصلة من الاهتداء بالنجوم أكثر وأتم فقوله : {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} إشارة إلى قريش للسبب الذي ذكرناه. والله أعلم.
واختلف المفسرون فمنهم من قال قوله : {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} مختص بالبحر ، لأنه تعالى لما/ ذكر صفة البحر وما فيه من المنافع بين أن من يسيرون فيه يهتدون بالنجم ، ومنهم من قال : بل هو مطلق يدخل فيه السير في البر والبحر وهذا القول أولى ، لأنه أعم في كونه نعمة ولأن الاهتداء بالنجم قد يحصل في الوقتين معاً ، ومن الفقهاء من يجعل ذلك دليلاً على أن المسافر إذا عميت عليه القبلة فإنه يجب عليه أن يستدل بالنجوم وبالعلامات التي في الأرض ، وهي الجبال والرياح ، وذلك صحيح ، لأنه كما يمكن الاهتداء بهذه العلامات في معرفة الطرق والمسالك فكذلك يمكن الاستدلال بها في معرفة طلب القبلة.
(1/2704)

واعلم أن اشتباه القبلة إما أن يكون بعلامات لائحة أو لا يكون ، فإن كانت لائحة وجب أن يجب الاجتهاد ويتوجه إلى حيث غلب على الظن أنه هو القبلة ، فإن تبين الخطأ وجب الإعادة ، لأنه كان مقصراً فيما وجب عليه ، وإن لم تظهر العلامات فههنا طريقان :
الطريق الأول : أن يكون مخيراً في الصلاة إلى أي جهة شاء لأن الجهات لما تساوت وامتنع الترجيح لم يبق إلا التخيير.
والطريق الثاني : أن يصلي إلى جميع الجهات فحينئذ يعلم بيقين أنه خرج عن العهدة وهذا كما يقوله الفقهاء : فيمن نسي صلاة لا يعرفها بعينها أن الواجب عليه في القضاء أن يأتي بالصلوات الخمس ليكون على يقين من قضاء ما لزمه ، ومنهم من يقول : الواجب منها واحدة فقط وهذا غلط لأنه لما لزمه أن يفعل الكل كان الكل واجباً وإن كان سبب وجوب كل هذه الصلوات فوت الصلاة الواحدة والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 192
196
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على وجود القادر الحكيم على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت تلك الدلائل كما أنها كانت دلائل ، فكذلك أيضاً كانت شرحاً وتفصيلاً لأنواع نعم الله تعالى وأقسام إحسانه أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله تعالى والمقصود أنه لما دلت هذه الدلائل الباهرة ، والبينات الزاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم ، وثبت أنه هو المولي لجميع هذه النعم والمعطي لكل هذه الخيرات فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه لا سيما إذا كان الموجود جماداً لا يفهم ولا يدر ، فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} والمعنى : أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها كمن لا يخلق بل لا يقدر البتة على شيء أفلا تذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر. ويكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعمة العظيمة ، ومع ذلك فتعلمون أنه يقبح عبادته فهذه الأصنام جمادات محضة ، وليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار فكيف تقدمون على عبادتها ، وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها.
المسألة الثانية : المراد بقوله : {كَمَن لا يَخْلُقُ } الأصنام ، وأنها جمادات فلا يليق بها لفظة "من" لأنها لأولي العلم. وأجيب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها ، لا جرم أجريت مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله على أثره : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْـاًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
والوجه الثاني : في الجواب أن السبب فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق.
والوجه الثالث : أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف من لا علم عنده كقوله : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } يعني أن الآلهة التي تدعونها حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف يصح منهم عبادتها ، وليس المراد أنه لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا.
جزء : 20 رقم الصفحة : 196
فإن قيل : قوله : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ } المقصود منه إلزام عبدة الأوثان ، حيث جعلوا غير الخالق مثل الخالق في التسمية بالإله ، وفي الاشتغال بعبادتها ، فكان حق الإلزام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق.
والجواب : المراد منه أن من يخلق هذه الأشياء العظيمة ويعطي هذه المنافع الجليلة كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية باسم الإله ، وفي الاشتغال بعبادتها والإقدام على غاية تعظيمها فوقع التعبير عن هذا المعنى بقوله : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ } .
/ المسألة الثالثة : احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال : إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية لأن قوله : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ } الغرض منه بيان كونه ممتازاً عن الأنداد بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقاً/ فهذا يقتضي أن العبد لو كان خالقاً لبعض الأشياء لوجب كونه إلهاً معبوداً ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد قالت المعتزلة الجواب : عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلاً ، فهذا يقتضي أن من كان خالقاً لهذه الأشياء فإنه يكون إلهاً ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلهاً.
(1/2705)

والوجه الثاني : أن معنى الآية : أن من كان خالقاً كان أفضل ممن لا يكون خالقاً ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقاً فإنه يجب أن يكون إلهاً. والدليل عليه قوله تعالى : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } (الأعراف : 195) ومعناه : أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها ، وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم ، والأفضل لا يليق به عبادة الأخس ، فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً ، فكذلك ههنا المقصود من هذه الآية بيان أن الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أن يمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلهاً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 196
والوجه الثالث في الجواب : أن كثيراً من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد. قال الكعبي في "تفسيره" إنا لا نقول : إنا نخلق أفعالنا : قال ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله : {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ} (المائدة : 110) وقوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14).
واعلم أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد ، حتى أن أبا عبد الله البصير بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز ، لأن الخالق عبارة عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظن والحسبان ، وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال.
واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين بالآية المتقدمة أن الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ/ بين بهذه الآية أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله تعالى وشكر نعمه والقيام بحقوق كرمه على سبيل الكمال والتمام ، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات ، وبالغ في شكر نعمة الله تعالى فإنه يكون مقصراً ، وذلك لأن الاشتغال بشكر النعم مشروط بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل والتحصيل ، فإن من لا يكون متصوراً ولا مفهوماً ولا معلوماً امتنع الاشتغال بشكره ، إلا أن العلم بنعم الله تعالى على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد ، لأن نعم الله تعالى كثيرة وأقسامها وشعبها واسعة عظيمة ، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمباديها فضلاً عن غاياتها وأنها غير معلومة على سبيل التفصيل ، وما كان كذلك امتنع الاشتغال بشكره على الوجه الذي يكون ذلك الشكر لائقاً بتلك النعم. فهذا هو المفهوم من قوله : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } يعني : أنكم لا تعرفونها على سبيل التمام والكمال ، وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها على سبيل التمام والكمال ، وذلك يدل على أن شكر الخالق قاصر عن نعم الحق ، وعلى أن طاعات الخلق قاصرة عن ربوبية الحق وعلى أن معارف الخلق قاصرة عن كنه جلال الحق ، ومما يدل قطعاً على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان/ ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل. ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل الأصلح ، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه ولا بدفع مفاسده ، فليكن هذا المثال حاضراً في ذهنك ، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان ، وجعلها مهيأة لانتفاعك بها ، حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلاً عن سائر وجوه الفضل والإحسان.
جزء : 20 رقم الصفحة : 196
فإن قيل : فلما قررتم أن الاشتغال بالشكر موقوف على حصول العلم بأقسام النعم ، ودللتم على أن حصول العالم بأقسام النعم محال أو غير واقع ، فكيف أمر الله الخلق بالقيام بشكر النعم ؟
.
قلنا : الطريق إليه أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها. فهذا هو الطريق الذي به يمكن الخروج عن عهدة الشكر. والله أعلم.
(1/2706)

المسألة الثانية : قال بعضهم : إنه ليس لله على الكفار نعمة وقال الأكثرون : لله على الكافر والمؤمن نعم كثيرة. والدليل عليه : أن الإنعام بخلق السموات والأرض والإنعام بخلق الإنسان من النطفة ، والإنعام بخلق الإنعام ويخلق الخيل والبغال والحمير ، ويخلق أصناف النعم من الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ، وبتسخير البحر ليأكل الإنسان منه لحماً طرياً ويستخرج منه حلية يلبسها كل ذلك مشترك فيه بين المؤمن والكافر ، ثم أكد تعالى ذلك بقوله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } وذلك يدل على أن كل هذه الأشياء نعم من الله تعالى في حق الكل ، وهذا يدل على أن نعم الله واصلة إلى الكفار ، والله أعلم.
أما قوله : {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} اعلم أنه تعالى قال في سورة إبراهيم : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم : 34) وقال ههنا : {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} والمعنى : أنه لما بين أن الإنسان لا يمكنه القيام بأداء الشكر على سبيل التفصيل : قال : (إن الله لغفور رحيم) أي غفور للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه ، رحيم بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بسبب تقصيركم.
أما قوله : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ففيه وجهان : الأول : أن الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى يسرون ضروباً من الكفر في مكايد الرسول عليه السلام فجعل هذا زجراً لهم عنها. والثاني : أنه تعالى زيف في الآية الأولى عبادة الأصنام بسبب أنه لا قدرة لها على الخلق والإنعام وزيف في هذه الآية أيضاً عبادتها بسبب أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية ، وهذه الأصنام جمادات لا معرفة لها بشيء أصلاً فكيف تحسن عبادتها ؟
.
أما قوله : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْـاًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} فاعلم أنه تعالى وصف هذه الأصنام بصفات كثيرة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 196
فالصفة الأولى : أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون قرأ حفص عن عاصم يسرون ويعلنون ويدعون كلها بالياء على الحكاية عن الغائب ، وقرأ أبو بكر عن عاصم {يَدْعُونَ} بالياء خاصة على المغايبة وتسرون وتعلنون بالتاء على الخطاب ، والباقون كلها بالتاء على الخطاب عطفاً على ما قبله.
فإن قيل : أليس أن قوله في أول الآية : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ } يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وقوله ههنا : {لا يَخْلُقُونَ شَيْـاًا} يدل على نفس هذا المعنى ، فكان هذا محض التكرير.
وجوابه : أن المذكور في أول الآية أنهم لا يخلقون شيئاً ، والمذكور ههنا أنهم لا يخلقون شيئاً وأنهم مخلوقون لغيرهم ، فكان هذا زيادة في المعنى ، وكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً/ ثم ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة لغيرها.
والصفة الثانية : قوله : {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ } والمعنى : أنها لو كانت آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات ، أي غير جائز عليها الموت كالحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى وأمر هذه الأصنام على العكس من ذلك.
فإن قيل : لما قال : {أَمْوَاتٌ} علم أنها غير أحياء فما القائدة في قوله : {غَيْرُ أَحْيَآءٍ } .
والجواب من وجهين : الأول : أن الإله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت ، وهذه/ الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة. والثاني : أن هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأوثان ، وهم في نهاية الجهالة والضلالة ، ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة ، وغرضه منه الإعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة وأنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة ، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة.
الصفة الثالثة : قوله : {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} والضمير في قوله : {وَمَا يَشْعُرُونَ} عائد إلى الأصنام ، وفي الضمير في قوله, {يُبْعَثُونَ} قولان : أحدهما : أنه عائد إلى العابدين للأصنام يعني أن الأصنام لا يشعرون متى تبعث عبدتهم ، وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. والثاني : أنه عائد إلى الأصنام يعني أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى قال ابن عباس : إن الله يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بها إلى النار.
جزء : 20 رقم الصفحة : 196
فإن قيل : الأصنام جمادات ، والجمادات لا توصف بأنها أموات ، ولا توصف بأنهم لا يشعرون كذا وكذا.
(1/2707)

والجواب عنه من وجوه : الأول : أن الجماد قد يوصف بكونه ميتاً قال تعالى : {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (الروم : 19). والثاني : أن القوم لما وصفوا تلك الأصنام بالإلهية والمعبودية قيل لهم ؛ ليس الأمر كذلك ، بل هي أموات ولا يعرفون شيئاً ، فنزلت هذه العبارات على وفق معتقدهم. والثالث : أن يكون المراد بقوله : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} الملائكة ، وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله إنهم أموات لا بد لهم من الموت غير أحياء ، أي غير باقية حياتهم : {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا علم لهم بوقت بعثهم والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 196
196
/ اعلم أنه تعالى لما زيف فيما تقدم طريقة عبدة الأوثان والأصنام وبين فساد مذهبهم بالدلائل القاهرة قال : {إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } ثم ذكر الله تعالى ما لأجله أصر الكفار على القول بالشرك وإنكار التوحيد فقال : {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} والمعنى أن الذين يؤمنون بالآخرة ويرغبون في الفوز بالثواب الدائم ويخافون الوقوع في العقاب الدائم إذا سمعوا الدلائل والترغيب والترهيب ، خافوا العقاب فتأملوا وتفكروا فيما يسمعونه ، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل ، ويرجعون من الباطل إلى الحق ، أما الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها فإنهم لا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب فيبقون منكرين لكل كلام يخالف قولهم ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم ، فلا جرم يبقون مصرين على ما كانوا عليه من الجهل والضلال.
ثم قال تعالى : {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } والمعنى أنه تعالى يعلم أن إصرارهم على هذه المذاهب الفاسدة ليس لأجل شبهة تصوروهاأو إشكال تخيلوه ، بل ذلك لأجل التقليد والنفرة عن الرجوع إلى الحق والشغف بنصرة مذاهب الأسلاف والتكبر والنخوة. فلهذا قال : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} وهذا الوعيد يتناول كل المتكبرين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 196
198
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام ، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما احتج على صحة نبوة نفسه بكون القرآن معجزة طعنوا في القرآن وقالوا : إنه أساطير الأولين ، وليس هو من جنس المعجزات ، وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : اختلفوا في أن ذلك السائل من كان ؟
قيل هو كلام بعضهم لبعض ، وقيل هو قول المسلمين لهم ، وقيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : كيف يكون تنزيل ربهم أساطير الأولين ؟
.
وجوابه من وجوه : الأول : أنه مذكور على سبيل السخرية كقوله تعالى عنهم : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ} (الشعراء : 27) ، وقوله : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر : 6) وقوله : {يَـا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} (الزخرف : 49). الثاني : أن يكون التقدير هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أساطير الأولين. الثالث : يحتمل أن يكون المراد أن هذا القرآن بتقدير أن يكون مما أنزله الله لكنه أساطير الأولين ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والدقائق والحقائق.
واعلم أنه تعالى لما حكى شبههم قال : {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } اللام في ليحملوا لام العاقبة ، وذلك أنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين لأجل أن يحملوا الأوزار ، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام كقوله : {ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ} (القصص : 8) وقوله : {كَامِلَةً} معناه : أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم ، وأقول : هذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين ، إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى ، وقوله : {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} معناه : ويحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع ، والسبب فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص من أجورهم شيء وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع كان عليه مثل وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء".
جزء : 20 رقم الصفحة : 198
(1/2708)

واعلم أنه ليس المراد منه أنه تعالى يوصل العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء ، وذلك لأن هذا لا يليق بعدل الله تعالى ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } (النجم : 39) وقوله : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (الإسراء : 15) بل المعنى : أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عقابه ، حتى أن ذلك العقاب يكون مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع ، قال الواحدي : ولفظه : {مِّنْ} في قوله, {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} ليست للتبعيض ، لأنها لو كانت للتبعيض لخف عن الأتباع بعض أوزارهم ، وذلك غير جائز ، لقوله عليه السلام : "من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". ولكنها للجنس/ أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقوله : {بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال ثم إنه تعالى ختم الكلام بقوله : {أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} والمقصود المبالغة في الزجر.
/فإن قيل : إنه تعالى لما حكى عن القوم هذه الشبهة لم يجب عليها ، بل اقتصر على محض الوعيد ؛ فما السبب فيه ؟
.
قلنا : السبب فيه أنه تعالى بين كون القرآن معجزاً بطريقين : الأول : أنه صلى الله عليه وسلّم تحداهم بكل القرآن ، وتارة بعشر سور ، وتارة بسورة واحدة ، وتارة بحديث واحد ، وعجزوا عن المعارضة ، وذلك يدل على كونه معجزاً. الثاني : أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهو قوله : {اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} (الفرقان : 5) وأبطلها بقوله : {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الفرقان : 6) ومعناه أن القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب ، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض ، فلما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين ، وتكرر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 198
200
اعلم أن المقصود من الآية المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار ، وفي المراد بالذين من قبلهم قولان :
القول الأول : وهو قول الأكثر من المفسرين أن المراد منه نمروذ بن كنعان بنى صرحاً/ عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان ، ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها ، فالمراد بالمكر ههنا بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء.
والقول الثاني : وهو الأصح ، أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين.
أما قوله تعالى : {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن الإتيان والحركة على الله محال ، فالمراد أنهم لما كفروا أتاهم الله بزلازل قلع بها بنيانهم من القواعد والأساس.
المسألة الثانية : في قوله : {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} قولان :
القول الأول : أن هذا محض التمثيل ، والمعنى أنهم رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فجعل الله تعالى حالهم في تلك المنصوبات مثل حال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فانهدم ذلك البناء ، وضعفت تلك الأساطين ، فسقط السقف عليهم. ونظيره قولهم : من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه.
والقول الثاني : أن المراد منه ما دل عليه الظاهر ، وهو أنه تعالى أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته ، والأول أقرب إلى المعنى.
أما قوله تعالى : {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} ففيه سؤال : وهو أن السقف لا يخر إلا من فوقهم ، فما معنى هذا الكلام.
وجوابه من وجهين : الأول : أن يكون المقصود بالتأكيد. والثاني : ربما خر السقف ، ولا يكون تحته أحد ، فلما قال : {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته ، وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها. وقوله : {وَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} إن حملنا هذا الكلام على محض التمثيل فالأمر ظاهر. والمعنى : أنهم اعتمدوا على منصوباتهم. ثم تولد البلاء منها بأعيانها ، وإن حملناه على الظاهر فالمعنى أنه نزل ذلك السقف عليهم بغتة ، لأنه إذا كان كذلك كان أعظم في الزجر لمن سلك مثل سبيلهم ، ثم بين تعالى أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذا القدر ، بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة ، والخزي هو العذاب مع الهوان ، وفسر تعالى ذلك الهوان بأنه تعالى يقول لهم : {أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـا قُّونَ فِيهِمْ } وفيه أبحاث :
جزء : 20 رقم الصفحة : 200
(1/2709)

البحث الأول : قال الزجاج : قوله : {أَيْنَ شُرَكَآءِىَ} معناه : أين شركائي في زعمكم واعتقادكم. ونظيره قوله تعالى : {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام : 22) وقال أيضاً : {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} (يونس : 28) وإنما حسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، وهذا كما يقال لمن يحمل خشبة خذ طرفك وآخذ طرفي ، فأضيف الطرف إليه.
البحث الثاني : قوله : {تُشَـا قُّونَ فِيهِمْ } أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ، وقيل : المشاقة عبارة عن كون أحد الخصمين في شق وكون الآخر في الشق الآخر.
البحث الثالث : قرأ نافع : {تُشَـا قُّونَ} بكسر النون على الإضافة ، والباقون بفتح النون على الجمع.
ثم قال تعالى : {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّواءَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} وفيه بحثان :
البحث الأول : {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال ابن عباس : يريد الملائكة ، وقال آخرون هم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ، والفائدة فيه أن الكفار كانوا ينكرون على المؤمنين في الدنيا فإذا ذكر المؤمن هذا الكلام يوم القيامة في معرض إهانة الكافر كان وقع هذا الكلام على الكافر وتأثيره في إيذائه أكمل وحصول الشماتة به أقوى.
البحث الثاني : المرجئة احتجوا بهذه الآية على أن العذاب مختص بالكافر قالوا لأن قوله تعالى : {إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّواءَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} يدل على أن ماهية الخزي والسوء في يوم القيامة مختصة بالكافر ، وذلك ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم ، وتأكد هذا بقول موسى عليه السلام : {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (طه : 48) ثم أنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكفار من وجه آخر فقال : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } قرأ حمزة : {نُنَزِّلُ الملائكة } بالياء لأن الملائكة ذكور ، والباقون بالتاء للفظ.
جزء : 20 رقم الصفحة : 200
ثم قال : {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُواءا } وفيه قولان :
القول الأول : أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت ، قال ابن عباس : أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت. وقوله : {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُواءا } أي قالوا ما كنا نعمل من سوء والمراد من هذا السوء الشرك ، فقالت الملائكة رداً عليهم وتكذيباً : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون من التكذيب والشرك ، ومعنى بلى رداً لقولهم : {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُواءا } وفيه قولان :
القول الأول : أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت.
والقول الثاني : أنه تم الكلام عند قوله : {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة ، والمعنى : أنهم يوم القيامة ألقوا السلم وقالوا ما كنا نعمل في الدنيا من سوء ، ثم ههنا اختلفوا ، فالذين جوزوا الكذب على أهل القيامة ، قالوا : هذا القول منهم على سبيل الكذب/ وإنما أقدموا على هذا الكذب لغاية الخوف ، والذين قالوا إن الكذب لا يجوز عليهم قالوا : معنى الآية ، ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا أو في اعتقادنا ، وأما بيان أن الكذب على أهل القيامة هل يجوز أم لا ؟
فقد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا : ما كنا نعمل من سوء قال بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ، ولا يبعد أن يكون قائل هذا القول هو الله تعالى أو بعض الملائكة رداً عليهم وتكذيباً لهم ، ومعنى بلى الرد لقولهم : {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُواءا } وقوله : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني أنه عالم بما كنتم عليه في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب فإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم. ثم صرح بذكر العقاب فقال :
جزء : 20 رقم الصفحة : 200
200
وهذا يدل على تفاوت منازلهم في العقاب ، فيكون عقاب بعضم أعظم من عقاب بعض ، وإنما صرح تعالى بذكر الخلود ليكون الغم والحزن أعظم.
ثم قال : {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} على قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء ، وتفسير التكبر قد مر في هذا الكتاب غير مرة. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 200
203
(1/2710)

اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الأقوام الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ؟
قالوا : أساطير الأولين. وذكر أنهم يحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم ، وذكر أن الملائكة تتوفاهم ظالمي أنفسهم ، وذكر أنهم في الآخرة يلقون السلم ، وذكر أنه تعالى يقول لهم ادخلوا أبواب جهنم ، أتبعه بذكر وصف المؤمنين الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ؟
قالوا خيرا ، وذكر ما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات ليكون وعد هؤلاء مذكوراً مع وعيد أولئك وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القاضي : يدخل تحت التقوى أن يكون تاركاً لكل المحرمات فاعلاً لكل الواجبات ، ومن جمع بين هذين الأمرين فهو مؤمن كامل الإيمان ، وقال أصحابنا : يريد الذين اتقوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأقول : هذا أولى مما قاله القاضي ، لأنا بينا أنه يكفي في صدق قوله فلان قاتل أو ضارب كونه آتياً بقتل واحد وضرب واحد ، ولا يتوقف صدق هذا الكلام على كونه آتياً بجميع أنواع القتل وجميع أنواع الضرب ، فعلى هذا قوله : {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } يتناول كل من أتى بنوع واحد من أنواع التقوى إلا أنا أجمعنا على أنه لا بد من التقوى عن الكفر والشرك فوجب أن لا يزيد على هذا القيد لأنه لما كان تقييد المطلق خلاف الأصل ، كان تقييد المقيد أكثر مخالفة ، وأيضاً فلأنه تعالى إنما ذكر هؤلاء في مقابلة أولئك الذين كفروا وأشركوا ، فوجب أن يكون المراد من اتقى عن ذلك الكفر والشرك. والله أعلم.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : إنه قال في الآية الأولى ، قالوا أساطير الأولين ، وفي هذه الآية قالوا خيراً ، فلم رفع الأول ونصب هذا ؟
.
أجاب صاحب "الكشاف" عنه بأن قال : المقصود منه الفصل بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا خيراً أي أنزل خيراً ، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء.
جزء : 20 رقم الصفحة : 203
المسألة الثالثة : قال المفسرون هذا كان في أيام الموسم ، يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون إنه ساحر وكاهن وكذاب ، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه فيقولون خيراً ، والمعنى : أنزل خيراً. ويحتمل أن يكون المراد الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير ، وقولهم خير جامع لكونه حقاً وصواباً ، ولكونهم معترفين بصحته ولزومه فهو بالضد من قول الذين لا يؤمنون بالآخرة ، أن ذلك أساطير الأولين على وجه التكذيب.
/ المسألة الرابعة : قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا } وما بعده بدل من قوله : {خَيْرًا } وهو حكاية لقول الذين اتقوا ، أي قالوا هذا القول ، ويجوز أيضاً أن يكون قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا } إخباراً عن الله ، والتقدير : إن المتقين لما قيل لهم : {مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُم قَالُوا خَيْرًا } ثم إنه تعالى أكد قولهم وقال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } وفي المراد بقوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا } قولان ، أما الذين يقولون : إن أهل لا إله إلا الله يخرجون من النار فإنهم يحملونه على قول لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق ، وأما المعتزلة الذين يقولون : إن فساق أهل الصلاة لا يخرجون من النار يحلوم قوله : {أَحْسَنُوا } على من أتى بالإيمان وجميع الواجبات واحترز عن كل المحرمات. وأما قوله : {فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا} ففيه قولان :
القول الأول : أنه متعلق بقوله : {أَحْسَنُوا } والتقدير : للذين اتقوا بعمل الحسنة في الدنيا فلهم في الآخرة حسنة ، وتلك الحسنة هي الثواب العظيم ، وقيل : تلك الحسنة هو أن ثوابها يضاعف بعشر مرات وبسبعمائة وإلى ما لا نهاية له.
والقول الثاني : أن قوله : {فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا} متعلق بقوله : {حَسَنَةً } والتقدير : للذين أحسنوا أن تحصل لهم الحسنة في الدنيا ، وهذا القول أولى ، لأنه قال بعده : {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } وعلى هذا التقدير ففي تفسير هذه الحسنة الحاصلة في الدنيا وجوه : الأول : يحتمل أن يكون المراد ما يستحقونه من المدح والتعظيم والثناء والرفعة ، وجميع ذلك جزاء على ما عملوه. والثاني : يحتمل أن يكون المراد به الظفر على أعداء الدين بالحجة وبالغلبة لهم ، وباستغنام أموالهم وفتح بلادهم ، كما جرى ببدر وعند فتح مكة ، وقد أجلوهم عنها وأخرجوهم إلى الهجرة ، وإخلاء الوطن ، ومفارقة الأهل والولد وكل ذلك مما يعظم موقعه. والثالث : يحتمل أن يكون المراد أنهم لما أحسنوا بمعنى أنهم أتوا بالطاعات فتح الله عليهم أبواب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17).
جزء : 20 رقم الصفحة : 203
(1/2711)

وأما قوله : {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } فقد بينا في سورة الأنعام في قوله : {وَلَلدَّارُ الاخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } (الأنعام : 32) بالدلائل القطعية العقلية حصول هذا الخير ، ثم قال : {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أي لنعم دار المتقين دار الآخرة ، فحذفت لسبق ذكرها ، هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها ، فإن وصلتها بما بعدها قلت : ولنعم دار المتقين جنات عدن فترفع جنات على أنها اسم لنعم ، كما تقول : نعم الدار دار ينزلها زيد. وأما قوله : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنها إن كانت موصولة بما قبلها ، فقد ذكرنا وجه ارتفاعها ، وأما إن كانت مقطوعة ، فقال الزجاج : جنات عدن مرفوعة بإضمار "هي" كأنك لما قلت ولنعم دار المتقين/ قيل : أي دار هي هذه الممدوحة فقلت : هي جنات عدن ، وإن شئت قلت : جنات عدن رفع بالإبتداء ، ويدخلونها خبره ، وإن شئت قلت : نعم دار المتقين خبره ، والتقدير : جنات عدن نعم دار المتقين.
المسألة الثانية : قوله : {جَنَّـاتُ} يدل على القصور والبساتين وقوله : {عَدْنٍ} يدل على الدوام ، وقوله : {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم ، ثم إنه تعالى قال : {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } وفيه بحثان : الأول : أن هذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات ، وهذا أبلغ من قوله : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ } (الزخرف : 71) لأن هذين القسمين داخلان في قوله : {لَهُمْ فِيهَا مَا} مع أقسام أخرى. الثاني : قوله : {لَهُمْ فِيهَا مَا} يعني هذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة ، لأن قوله : {لَهُمْ فِيهَا مَا} يفيد الحصر ، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا.
جزء : 20 رقم الصفحة : 203
ثم قال تعالى : {يَشَآءُونَا كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أي هكذا جزاء التقوى ، ثم إنه تعالى عاد إلى وصف المتقين فقال : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَ } وهذا مذكور في مقابلة قوله : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } (النخل : 28) وقوله : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَا يَقُولُونَ سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله : {طَيِّبِينَ } كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة ، وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به ، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة ، ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة ، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت ، وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح ، وإن كان الحسن يقول : إنه وفاة الحشر ، ثم بين تعالى أنه يقال لهم عند هذه الحالة : {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} فاحتج الحسن بهذا على أن المراد بذلك التوفي وفاة الحشر ، لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ، ومن ذهب إلى القول الأول وهم الأكثرون يقولون : إن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم ، ادخلوا الجنة أي هي خاصة لكم كأنكم فيها.
جزء : 20 رقم الصفحة : 203
203
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية لمنكري النبوة ، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلّم أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ} في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك ، ويحتمل أن يقال : إن القوم لما طعنوا في القرآن بأن قالوا : إنه أساطير الأولين ، وذكر الله تعالى أنواع التهديد والوعيد لهم ، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً وصدقاً وصواباً ، عاد إلى بيان أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن الكفر بسبب البيانات التي ذكرناها ، بل كانوا لا ينزجرون عن تلك الأقوال الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد وأتاهم أمر ربك وهو عذاب الاستئصال.
واعلم أن على كلا التقديرين فقد قال تعالى : {كَذَالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي كلام هؤلاء وأفعالهم يشبه كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم.
ثم قال : {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} والتقدير : كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الهلاك المعجل وما ظلمهم الله بذلك ، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بأن كفروا ، وكذبوا الرسول فاستوجبوا ما نزل بهم.
(1/2712)

ثم قال : {فَأَصَابَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا } والمراد أصابهم عقاب سيئات ما عملوا {وَحَاقَ بِهِم} أي نزل بهم على وجه أحاط بجوانبهم : {مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} أي عقاب استهزائهم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 203
206
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لمنكري النبوة ، وتقريرها : أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة فقالوا : لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان ، سواء جئت أو لم تجىء ، ولو شاء الله الكفر فإنه يحصل الكفر سواء جئت أو لم تجىء ، وإذا كان الأمر كذلك فالكل من الله تعالى ، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك ، فكان القول بالنبوة باطلاً ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَآؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍا كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (الأنعام : 148) واستدلال المعتزلة به مثل استدلالهم بتلك الآية. والكلام فيه استدلالاً واعتراضاً عين ما تقدم هناك فلا فائدة في الإعادة ، ولا بأس بأن نذكر منه القليل فنقول : الجواب عن هذه الشبهة هي أنهم قالوا : لما كان الكل من الله تعالى كان بعثة الأنبياء عبثاً. فنقول : هذا اعتراض على الله تعالى ، فإن قولهم : إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ودفع الكفر كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله تعالى ، فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله تعالى وفي أفعاله ، وذلك باطل ، بل الله تعالى أن يحكم في ملكه وملكوته ما يشاء ويفعل ما يريد ، ولا يجوز أن يقال له : لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك ؟
والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح في آخر هذه الآية بهذا المعنى فقال : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا } فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم ، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت.
جزء : 20 رقم الصفحة : 206
ثم قال : {الطَّـاغُوتَا فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ } والمعنى : أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان ، ونهى الكل عن الكفر ، إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض ، فهذه سنة قديمة لله/ تعالى مع العباد ، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر ، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض. ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلهاً منزهاً عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين ، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجباً للجهل والضلال والبعد عن الله فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن ، لا لأنهم كذبوا في قولهم : {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِه } بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل ، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن. فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب. وأما من تقدمنا من المتكلمين والمسفرين فقد ذكروا فيه وجهاً آخر فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له : {نَشَـا ؤُا ا إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود : 87) ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين. والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال : {كَذَالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي هؤلاء للكفار ألداً كانوا متمسكين بهذه الشبهة.
ثم قال : {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} أما المعتزلة فقالوا : معناه أن الله تعالى ما منع أحداً من الإيمان وما أوقعه في الكفر ، والرسل ليس عليهم إلا التبليغ ، فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحداً عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة. أما أصحابنا فقالوا : معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ. فهذا التبليغ واجب عليهم ، فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به ، ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في بيان أن الهدي والضلال من الله بقوله : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّـاغُوتَ } وهذا يدل على أنه تعالى كان أبداً في جميع الملل والأمم آمراً بالإيمان وناهياً عن الكفر.
جزء : 20 رقم الصفحة : 206
(1/2713)

ثم قال : {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ } يعني : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق ، ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق وأوقعه في الكفر والضلال ، وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته ، بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا. والحاصل أن المعتزلة يقولون : الأمر والإرادة متطابقان أما العلم والإرادة فقد يختلفان ، ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض.
/ أجاب الجبائي : بأن المراد : {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ} لنيل ثوابه وجنته : {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ } أي العقاب. قال : وفي صفة قوله : {حَقَّتْ عَلَيْهِ} دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنه حق. وأيضاً قال تعالى بعده : {فَسِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب ، وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال.
وأجاب الكعبي عنه بأنه قال : قوله : {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ} أي من اهتدى فكان في حكم الله مهتدياً ، {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ } يريد : من ظهرت ضلالته ، كما يقال للظالم : حق ظلمك وتبين ، ويجوز أن يكون المراد : حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ } (إبراهيم : 27).
واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة ، وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مراراً ، فلا حاجة إلى الإعادة. والله أعلم.
المسألة الرابعة : في الطاغوت قولان : أحدهما : أن المراد به : اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله ، فسمى الكل طاغوتاً ، ولا يمتنع أن يكون المراد : اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ } يدل على مذهبنا/ لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة ، وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذباً ، وذلك محال ومستلزم المحال محال ، فكان عدم الضلالة منهم محالاً ، ووجود الضلالة منهم واجباً عقلاً ، فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة والله أعلم. ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله : {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَـالَةُ } (الأعراف : 30) وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس : 96) وقوله : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى ا أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (يس : 7).
جزء : 20 رقم الصفحة : 206
ثم قال تعالى : {فَسِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} والمعنى : سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم ، ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة فإنه لا يهتدي ، فقال : {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاـاهُمْ} أي إن تطلب بجهدك ذلك ، فإن الله لا يهدي من يضل ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي {يَهْدِى} بفتح الياء وكسر الذال والباقون : {لا يَهْدِى} بضم الياء وفتح الدال.
/ أما القراءة الأولى : ففيها وجهان : الأول : فإن الله لا يرشد أحداً أضله ، وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني : أن يهدي بمعنى يهتدي. قال الفراء : العرب تقول : قد هدى الرجل يريدون قد اهتدى ، والمعنى أن الله إذا أضل أحداً لم يصر ذلك مهتدياً.
وأما القراءة المشهورة : فالوجه فيها إن الله لا يهدي من يضل ، أي من يضله ، فالراجع إلى الموصول الذي هو من محذوف مقدر وهذا كقوله : {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه } (الأعراف : 186) وكقوله : {فَمَن يَهْدِيهِ مِنا بَعْدِ اللَّه } (الجاثية : 23) أي من بعد إضلال الله إياه.
ثم قال تعالى : {وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} أي وليس لهم أحد ينصرهم أي يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة. وأقول أول هذه الآيات موهم لمذهب المعتزلة ، وآخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة الدالة على قولنا ، وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 206
209
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الشبهة الرابعة لمنكري النبوة فقالوا القول بالبعث والحشر والنشر باطل ، فكان القول بالنبوة باطلاً.
(1/2714)

أما المقام الأول : فتقريره أن الإنسان ليس إلا هذه البينة المخصوصة ، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبطل ذلك المزاج والاعتدال امتنع عوده بعينه ، لأن الشيء إذا عدم فقد فنى ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه ، فالذي يعود يجب أن يكون شيئاً مغايراً للأول فلا يكون عينه.
وأما المقام الثاني : وهو أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة وتقريره من وجهين : / الأول : أن محمداً كان داعياً إلى تقرير القول بالمعاد ، فإذا بطل ذلك ثبت أنه كان داعياً إلى القول الباطل ومن كان كذلك لم يكن رسولاً صادقاً. الثاني : أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته بناء على الترغيب في الثواب والترهيب عن العقاب ، وإذا بطل ذلك بطلت نبوته.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ } معناه أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن الشيء إذا فنى وصار عدماً محضاً ونفياً صرفاً ، فإنه بعد هذا العدم الصرف لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئاً آخر غيره. وهذا القسم واليمين إشارة إلى أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن عوده بعينه بعد عدمه محال في بديهة العقل : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ } على أنهم يجحدون في قلوبهم وعقولهم هذا العلم الضروري ، وأما بيان أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة فلم يذكره على سبيل التصريح ، لأنه كلام جلي متبادر إلى العقول فتركوه لهذا العذر. ثم إنه تعالى بين أن القول بالبعث ممكن ويدل عليه وجهان :
الوجه الأول : أنه وعد حق على الله تعالى ، فوجب تحقيقه ، ثم بين السبب الذي لأجله كان وعداً حقاً على الله تعالى ، وهو التمييز بين المطيع وبين العاصي ، وبين المحقق والمبطل ، وبين الظالم والمظلوم ، وهو قوله : {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَـاذِبِينَ} وهذه الطريقة قد بالغنا في شرحها وتقريرها في سورة يونس.
جزء : 20 رقم الصفحة : 209
والوجه الثاني : في بيان إمكان الحشر والنشر أن كونه تعالى موجداً للأشياء ومكوناً لها لا يتوقف على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ، وهو تعالى إنما يكونها بمحض قدرته ومشئته ، وليس لقدرته دافع ولا لمشيئته مانع فعبر تعالى عن هذا النفاذ الخالي عن المعارض بقوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} وإذا كان كذلك ، فكما أنه تعالى قدر على الإيجاد في الإبتداء وجب أن يكون قادراً عليه في الإعادة ، فثبت بهذين الدليلين القاطعين أن القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة حق وصدق ، والقول إنما طعنوا في صحة النبوة بناء على الطعن في هذا الأصل ، فلما بطل هذا الطعن بطل أيضاً طعنهم في النبوة. والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ } حكاية عن الذين أشركوا ، وقوله : {بَلَى } إثبات لما بعد النفي/ أي بلى يبعثهم ، وقوله : {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} مصدر مؤكد أي وعد بالبعث وعداً حقاً لا خلف فيه ، لأن قوله يبعثهم دل على قوله وعد بالبعث ، وقوله : {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أمور البعث أي بلى يبعثهم ليبين لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما أقسموا فيه.
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : لقائل أن يقول : قوله : {كُن} إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال ، وإن كان خطاباً مع الموجود كان هذا أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال.
والجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع الخلق بما يعقلون ، وليس خطاباً للمعدوم ، لأن ما أراده الله تعالى فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ، ولو أراد خلق الدنيا والآخرة بما فيهما من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك ، ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {قَوْلُنَا} مبتدأ و{أَن نَّقُولَ} خبره و{كُن فَيَكُونُ} من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقف.
جزء : 20 رقم الصفحة : 209
(1/2715)

المسألة الثالثة : قرأ ابن عامر والكسائي {فَيَكُونُ} بنصب النون ، والباقون بالرفع قال الفراء : القراءة بالرفع وجهها أن يجعل قوله : {أَن نَّقُولَ لَه } كلاماً تاماً ثم يخبر عنه بأنه سيكون كما يقال : إن زيداً يكفيه إن أمر فيفعل فترفع قولك فيفعل على أن تجعله كلاماً مبتدأ ، وأما القراءة بالنصب فوجهه أن تجعله عطفاً على أن نقول ، والمعنى : أن نقول كن فيكون هذا قول جميع النحويين ، قال الزجاج : ويجوز أن يكون نصباً على جواب {كُن} قال أبو علي لفظة "كن" وإن كانت على لفظة الأمر فليس القصد بها ههنا الأمر إنما هو والله أعلم الإخبار عن كون الشيء وحدوثه ، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يبطل قوله إنه نصب على جواب {كُن} والله أعلم.
المسألة الرابعة : احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على قدم القرآن فقالوا قوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} يدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون ، فلو كان قوله {كُن} حادثاً لافتقر إحداثه إلى أن يقول له كن وذلك يوجب التسلسل ، وهو محال فثبت أن كلام الله قديم.
واعلم أن هذا الدليل عندي ليس في غاية القوة ، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أن كلمة {إِذَآ} لا تفيد التكرار ، والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة طلقت طلقة واحدة فلو دخلت ثانياً لم تطلق طلقة ثانية فعلمنا أن كلمة إذا لا تفيد التكرار ، وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له كن فلم يلزم التسلسل.
والوجه الثاني : أن هذا الدليل إن صح لزم القول بقدم لفظه "كن" وهذا معلوم البطلان/ بالضرورة ، لأن لفظة : كن ، مركبة من الكاف والنون ، وعند حضور الكاف لم تكن النون حاضرة وعند مجيء النون تتولى الكاف ، وذلك يدل على أن كلمة كن يمتنع كونها قديمة ، وإنما الذي يدعي أصحابنا كونه قديماً صفة مغايرة للفظة كن ، فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا ، والذي يقولون به لا تدل عليه الآية فسقط التمسك به.
والوجه الثالث : أن الرجل إذا قال إن فلاناً لا يقدم على قول ، ولا على فعل إلا ويستعين فيه بالله تعالى فإن عاقلاً لا يقول : إن استعانته بالله فعل من أفعاله فيلزم أن يكون كل استعانة مسبوقة باستعانة أخرى إلى غير النهاية لأن هذا الكلام بحسب العرف باطل فكذلك ما قالوه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 209
والوجه الرابع : أن هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :
الوجه الأول : أن قوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ} يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة ، وما كان كذلك فهو محدث.
والوجه الثاني : أنه علق القول بكلمة إذا ، ولا شك أن لفظة "إذا" تدخل للاستقبال.
والوجه الثالث : أن قوله : {أَن نَّقُولَ لَه } لا خلاف أن ذلك ينبىء عن الاستقبال.
والوجه الرابع : أن قوله : {كُن فَيَكُونُ} يدل على أن حدوث الكون حاصل عقيب قوله : {كُن} فتكون كلمة {كُن} متقدمة على حدوث الكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً.
والوجه الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} (النساء : 47) ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (الأحزاب : 38). {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23). {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه } (الطيور : 34) ، {وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى ا إِمَامًا وَرَحْمَةً } (الأحقاف : 12).
فإن قيل : فهب أن هذه الآية لا تدل على قدم الكلام ، ولكنكم ذكرتم أنها تدل على حدوث الكلام فما الجواب عنه ؟
.
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثاً مخلوقاً. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 209
210
(1/2716)

/ اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي ، والجهل ، والضلال ، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وضرهم ، وإنزال العقوبات بهم ، وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن تلك الديار والمساكن ، فذكر تعالى في هذه الآية حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من الحسنات في الدنيا ، والأجر في الآخرة من حيث هاجروا وصبروا وتوكلوا على الله ، وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله تعالى. قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير موليين لقريش فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام ، أما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله فلما رآه أبو بكر قال : ربح البيع يا صهيب ، وقال عمر : نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه فكيف ظنك به وقد خلقها ؟
وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام فتركوا عذابهم ، ثم هاجروا فنزلت هذه الآية ، وبين الله تعالى بهذه الآية عظم محل الهجرة ، ومحل المهاجرين فالوجه فيه ظاهر ، لأن بسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم ، ودل تعالى بقوله : {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ} أن الهجرة إذا لم تكن لله بل لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى بلد ، وقوله : {مِنْا بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } معناه أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار ، لأنهم كانوا يعذبونهم.
ثم قال : {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } وفيه وجوه : الأول : أن قوله : {حَسَنَةً } صفة للمصدر من قوله : {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا} والتقدير : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، وفي قراءة علي عليه السلام : (لنبوئنهم إبواءة حسنة). الثاني : لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب ، وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أكبر.
جزء : 20 رقم الصفحة : 210
والقول الثالث : لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم ، وهذا قول الحسن والشعبي وقتادة ، والتقدير : لنبوئنهم في الدنيا داراً حسنة أو بلدة حسنة يعني المدينة.
ثم قال تعالى : {وَلاجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } أعظم وأشرف ؛ {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} َ} والضمير إلى من يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى الكفار ، أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم. والثاني : أنه راجع إلى المهاجرين ، أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
/ ثم قال : {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وفي محل : {الَّذِينَ} وجوه : الأول : أنه بدل من قوله : {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا } والثاني : أن يكون التقدير : هم الذين صبروا. والثالث : أن يكون التقدير : أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مدح ، والمعنى : أنهم صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله ، وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله/ وبالجملة فقد ذكر فيه الصبر والتوكل. أما الصبر فللسعي في قهر النفس ، وأما التوكل فللانقطاع بالكلية من الخلق والتوجه بالكلية إلى الحق ، فالأول : هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى. والثاني : آخر هذا الطريق ونهايته ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 210
213
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري النبوة كانوا يقولون : الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحداً من البشر ، بل لو أراد بعثة رسول إلينا لكان يبعث ملكاً ، وقد ذكرنا تقرير هذه الشبهة في سورة الأنعام فلا نعيده ههنا ، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم : {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } (الأنعام : 8) وقالوا : {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} (المؤمنون : 47) وقالوا : {مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَ لئن أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ} (المؤمنون : 33 ، 34) وقال : {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس : 2) وقالوا : {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نَذِيرًا} (الفرقان : 7).
(1/2717)

فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ } والمعنى : أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولاً إلا من البشر ، فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى ، وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضاً طعن قديم فلا يلتفت إليه.
المسألة الثانية : دلت الآية على أنه تعالى ما أرسل أحداً من النساء ، ودلت أيضاً على أنه ما أرسل ملكاً ، لكن ظاهر قوله : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} (فاطر : 1) يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الملائكة ، فكان ظاهر هذه الآية دليلاً على أنه ما أرسل رسولاً من الملائكة إلى الناس. قال القاضي : وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء عليهم السلام إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة. ثم قال القاضي : لعله أراد أن الملك الذي يرسل إلى الأنبياء عليهم السلام بحضرة أممهم ، لأنه إذا كان كذلك فلا بد من أن يكون أيضاً بصورة الرجال ، كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة ، وإنما قلنا ذلك لأن المعلوم من حال الملائكة أن عند إبلاغ الرسالة من الله تعالى إلى الرسول قد يبقون على صورتهم الأصلية الملكية ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين ، وعليه تأولوا قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى } (النجم : 13) ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام أتبعه بقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى } وفيه مسائل :
جزء : 20 رقم الصفحة : 213
المسألة الأولى : في المراد بأهل الذكر وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أهل التوراة ، والذكر هو التوراة. والدليل عليه قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنا بَعْدِ الذِّكْرِ} (الأنبياء : 105) يعني التوراة. الثاني : قال الزجاج : فاسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى/ فإنهم يعرفون أن الأنبياء كلهم بشر ، والثالث : أهل الذكر أهل العلم بأخبار الماضين ، إذ العالم بالشيء يكون ذاكراً له. والرابع : قال الزجاج : معناه سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. وأقول : الظاهر أن هذه الشبهة وهي قولهم : الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحداً من البشر إنما تمسك بها كفار مكة ، ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله بأن يرجعوا في هذه المسألة إلى اليهود والنصارى ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها ، فإن اليهودي والنصراني لا بد لهما من تزييف هذه الشبهة وبيان سقوطها.
المسألة الثانية : اختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد ؟
منهم من حكم بالجواز/ واحتج بهذه الآية فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالماً وجب عليه الرجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالماً لقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى } فإن لم يجب فلا أقل من الجواز.
المسألة الثالثة : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالماً بحكمها لم يجز له القياس ، وإن لم يكن عالماً بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالماً بها لظاهر هذه الآية ، ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بواسطة القياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية فوجب أن لا يجوز. والله أعلم.
وجوابه : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة ، والإجماع أقوى من هذا الدليل ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {بِالْبَيِّنَـاتِ وَالزُّبُرِ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في الجالب لهذه الباء وجوهاً : الأول : أن التقدير : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم ، وأنكر الفراء ذلك وقال : إن صلة ما قبل إلا لا يتأخر إلى بعد ، والدليل عليه : أن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته ، فما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه. الثاني : أن التقدير : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر ، وعلى هذا التقدير فقوله : {بِالْبَيِّنَـاتِ وَالزُّبُرِ } متعلق بالمستثنى. والثالث : أن الجالب لهذا الباء محذوف ، والتقدير أرسلناهم بالبينات وهذا قول الفراء. قال : ونظيره ما مر إلا أخوك بزيد ما مر إلا أخوك ثم يقول مر بزيد. الرابع : أن يقال : الذكر بمعنى العلم ، والتقدير فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون. الخامس : أن يكون التقدير : إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر فاسألوا أهل الذكر.
جزء : 20 رقم الصفحة : 213
(1/2718)

المسألة الثانية : قوله تعالى : {بِالْبَيِّنَـاتِ وَالزُّبُرِ } لفظة جامعة لكل ما تكامل به الرسالة ، لأن مدار أمرها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات وعلى التكاليف التي يبلغها الرسول من الله تعالى إلى العباد وهي الزبر.
ثم قال تعالى : {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر هذا الكلام يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله والمفتقر إلى البيان مجمل ، فظاهر هذا النص يقتضي أن القرآن كله مجمل ، فلهذا المعنى قال بعضهم متى وقع التعارض بين القرآن وبين الخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والدليل عليه هذه الآية ، والخبر مبين له بدلالة هذه الآية ، والمبين مقدم على المجمل.
/ والجواب : أن القرآن منه محكم ، ومنه متشابه ، والمحكم يجب كونه مبيناً فثبت أن القرآن ليس كله مجملاً بل فيه ما يكون مجملاً فقوله : {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} محمول على المجملات.
المسألة الثانية : ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلّم هو المبين لكل ما أنزله الله تعالى على المكلفين ، فعند هذا قال نفاة القياس لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول بيان كل ما أنزله الله تعالى على المكلفين من الأحكام ، لاحتمال أن بين المكلف ذلك الحكم بطريقة القياس ، ولما دلت هذه الآية على أن المبين لكل التكاليف والأحكام ، هو الرسول صلى الله عليه وسلّم علمنا أن القياس ليس بحجة.
وأجيب عنه بأنه صلى الله عليه وسلّم لما بين أن القياس حجة ، فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس ، كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 213
ثم قال تعالى : {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّـاَاتِ} المكر في اللغة عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ، ولا بد ههنا من إضمار ، والتقدير : المكرات السيئات ، والمراد أهل مكة ومن حول المدينة. قال الكلبي : المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى ، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه على سبيل الخفية ، ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أموراً أربعة : الأول : أن يخسف الله بهم الأرض كما خسف بقارون. الثاني : أن يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، والمراد أن يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط. والثالث : أن يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ، وفي تفسير هذا التقلب وجوه : الأول : أنه يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم ، فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر وهم لا يعجزون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا ، وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى : {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـادِ} (آل عمران : 196). وثانيهما : تفسير هذا اللفظ بأنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم. وثالثها : أن يكون المعنى أو يأخذهم في حال ما ينقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل قسراً كما قال : {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى ا أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} (يس : 66) وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله : {وَقَلَّبُوا لَكَ الامُورَ} (التوبة : 48) فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
والنوع الرابع : من الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على سبيل التهديد قوله تعالى : {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} وفي تفسير التخوف قولان :
/ القول الأول : التخوف تفعل من الخوف ، يقال خفت الشيء وتخوفته والمعنى أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً بل يخيفهم أولاً ثم يعذبهم بعده ، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك فرقة فتخاف التي تليها فيكون هذا أخذاً ورد عليهم بعد أن يمر بهم قبل ذلك زماناً طويلاً في الخوف والوحشة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 213
والقول الثاني : أن التخوف هو التنقص قال ابن الأعرابي يقال : تخوفت الشيء وتخفيته إذا تنقصته ، وعن عمر أنه قال على المنبر : ما تقولون في هذه الآية ؟
فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص ، فقال عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟
قال : نعم. قال شاعرنا وأنشد :
تخوف الرحل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر : أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا ، قالوا : وما ديواننا ؟
قال شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم.
(1/2719)

إذا عرفت هذا فنقول : هذا التنقص يحتمل أن يكون المراد منه ما يقع في أطراف بلادهم كما قال تعالى : {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } (الأنبياء : 44) والمعنى أنه تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلاً قليلاً حتى يأتي الفناء على الكل فهذا تفسير هذه الأمور الأربعة ، والحاصل أنه تعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة واحدة حال ما لا يكونون عالمين بعلاماتها ودلائلها ، أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم ختم الآية بقوله : {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُافٌ رَّحِيمٌ} والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمور لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب.
جزء : 20 رقم الصفحة : 213
219
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ، ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة ، والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي : {أَلَمْ تَرَوْا } بالتاء على الخطاب ، وكذلك في سورة العنكبوت : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ا } (العنكبوت : 19) بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء فيهما كناية عن الذين مكروا السيئات ، وأيضاً أن ما قبله غيبة وهو قوله : {أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الارْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا} (النحل : 45 ، 46) فكذا قوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا } وقرأ أبو عمرو وحده : بالتاء والباقون بالياء ، وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع.
المسألة الثالثة : قوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ} لما كانت الرؤية ههنا بمعنى النظر وصلت بإلى ، لأن المراد به الاعتبار ولاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله ، وقوله : {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} قال أهل المعاني : أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ، ولفظ الآية يشعر بهذا القيد ، لأن قوله : {مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَـالُه عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَآاـاِلِ} يدل على أن ذلك الشيء كثيف يقع له ظل على الأرض. وقوله : {يَتَفَيَّؤُا ظِلَـالُه } إخبار عن قوله : {شَىْءٍ} وليس بوصف له ، ويتفيأ يتفعل من الفيء يقال : فاء الظل يفيء فيئاً إذا رجع وعاد بعد ما نسخه ضياء الشمس ، وأصل الفيء الرجوع ، ومنه فيء المولي وذكرنا ذلك في قوله تعالى : {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة : 226) وكذلك فيء المسلمين لما يعود على المسلمين من مال من خالف دينهم ، ومنه قوله تعالى : {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } (الحشر : 6) وأصل هذا كله من الرجوع.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
إذا عرفت هذا فنقول : إذا عدي فاء فإنه يعدى إما بزيادة الهمزة إو بتضعيف العين. أما التعدية بزيادة الهمزة كقوله : {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ} وأما بتضعيف العين فكقوله فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ. قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعدما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس كمال قال الشاعر :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشي تذوق قال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء/ وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل ، ومنهم من أنكر ذلك ، فإن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي :
فلام الإله يغدو عليهم
وفيؤ الغروس ذات الظلال فهذا الشعر قد أوقع فيه لفظ الفيء على ما لم تنسخه الشمس ، لأن ما في الجنة من الظل ما صحل بعد أن كان زائلاً بسبب نور الشمس وتقول العرب في جمع في أفياء وهي للعدد القليل/ وفيؤ للكثير كالنفوس والعيون ، وقوله : {ظِلَـالُه } أضاف الظلال إلى مفرد ، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ، وإنما حسن هذا ، لأن الذي عاد إليه الضمير وإن كان واحداً في اللفظ وهو قوله إلى ما خلق الله ، إلا أنه كثير في المعنى ، ونظيره قوله تعالى : {لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه } (الزخرف : 13) فأضاف الظهور وهو جمع ، إلى ضمير مفرد ، لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو قوله : {مَا تَرْكَبُونَ} هذا كله كلام الواحدي وهو بحث حسن. أما قوله : {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَآاـاِلِ} ففيه بحثان :
البحث الأول : في المراد باليمين والشمائل قولان :
(1/2720)

القول الأول : أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب ، والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنساني يمينه ، ومنه تظهر الحركة القوية ، فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب ، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الإظلال إلى الجانب الغربي ، فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الإظلال في الجانب الشرقي ، فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس ، وعلى هذا التقدير : فالإظلال في أول النهار تبتدىء من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ، ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدىء الإظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
القول الثاني : أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل ، فإن في الصيف تحصل الشمس على يسارها ، وحينئذ يقع الإظلال على يمينهم ، فهذا هو المراد من انتقال الإظلال عن الأيمان إلى الشمائل وبالعكس. هذا ما حصلته في هذا الباب ، وكلام المفسرين فيه غير ملخص.
البحث الثاني : لقائل أن يقول : ما السبب في أن ذكر اليمين بلفظ الواحد ، والشمائل بصيغة الجمع ؟
.
وأجيب عنه بأشياء : أحدها : أنه وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر في اللفظ على الواحد/ كقوله تعالى : {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر : 45). وثانيها : قال الفراء : كأنه إذا وحد ذهب إلى واحدة من ذوات الأظلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلها ، وذلك لأن قوله : {مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} لفظه واحد ، ومعناه الجمع على ما بيناه فيحتمل كلا الأمرين. وثالثها : أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى : {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1) وقوله : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } (البقرة : 7). ورابعها : أنا إذا فسرنا اليمين بالمشرق كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين واحدة. وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة ، فلذلك عبر الله تعالى عنها بصيغة الجمع والله أعلم.
المسألة الرابعة : أما قوله : {سُجَّدًا لِّلَّهِ} ففيه احتمالات : الأول : أن يكون المراد من السجود الاستسلام والانقياد يقال : سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب ، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال : أسجد لقرد السوء في زمانه ، أي أخضع له قال الشاعر :
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي متواضعة إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى دبر النيرات الفلكية ، والأشخاص الكوكبية بحيث يقع أضواؤها على هذا العالم السفلي على وجوه مخصوصة. ثم إنا نشاهد أن تلك الأضواء ، وتلك الإظلال لا تقع في هذا العالم إلا على وفق تدبير الله تعالى وتقديره ، فنشاهد أن الشمس إذا طلعت وقعت الأجسام الكثيفة أظلال ممتدة في الجانب الغربي من الأرض ، ثم كلما ازدادت الشمس طلوعاً وارتفاعاً/ ازدادت تلك الأظلال تقلصاً وانتقاصاً إلى الجانب الشرقي إلى أن تصل الشمس إلى وسط الفلك ، فإذا انحدرت إلى الجانب الغربي ابتدأت الأظلال بالوقوع في الجانب الشرقي ، وكلما ازدادت الشمس انحداراً ازدادت الأظلال تمدداً وتزايداً في الجانب الشرقي. وكما أنا نشاهد هذه الحالة في اليوم الواحد ، فكذلك نشاهد أحوال الأظلال مختلفة في التيامن والتياسر في طول السنة ، بسبب اختلاف أحوال الشمس في الحركة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس ، فلما شاهدنا أحوال هذه الأظلال مختلفة بسبب الاختلافات اليومية الواقعة في شرق الأرض وغربها ، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة في يمين الفلك ويساره ، ورأينا أنها واقعة على وجه مخصوص وترتيب معين ، علمنا أنها منقادة لقدرة الله خاضعة لتقديره وتدبيره ، فكانت السجدة عبارة عن هذه الحالة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : اختلاف حال هذه الأظلال معلل باختلاف سير النير الأعظم الذي هو الشمس ، لا لأجل تقدير الله تعالى وتدبيره ؟
.
/ قلنا : قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركاً لذاته ، إذ لو كانت ذاته علة لهذا الجزء المخصوص من الحركة ، لبقي هذا الجزء من الحركة لبقاء ذاته ، ولو بقي ذلك الجزء من الحركة لامتنع حصول الجزء الآخر من الحركة ، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا سكوناً لا حركة ، فالقول بأن الجسم المتحرك لذاته يوجب القول بكونه ساكناً لذاته وأنه محال ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً ، فعلمنا أن الجسم يمتنع كونه متحركاً لذاته ، وأيضاً فقد دللنا على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فاختصاص جرم الشمس بالقوة المعينة والخاصية المعينة لا بد وأن يكون بتدبير الخالق المختار الحكيم.
(1/2721)

إذا ثبت هذا فنقول : هب أن اختلاف أحوال الأظلال إنما كان لأجل حركات الشمس ، إلا أنا لما دللنا على أن محرك الشمس بالحركة الخاصة ليس إلا الله سبحانه كان هذا دليلاً على أن اختلاف أحوال الأظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى وتخليقه ، فثبت أن المراد بهذا السجود الانقياد والتواضع ، ونظيره قوله : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن : 6) وقوله : {وَظِلَـالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ } (الرعد : 15) قد مر بيانه وشرحه.
والقول الثاني : في تفسير هذا السجود ، أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد. قال أبو العلاء المعري في صفة واد :
بحرف يطيل الجنح فيه سجوده
وللأرض زي الراهب المتعبد فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ ، وكان الحسن يقول : أما ظلك فسجد لربك ، وأما أنت فلا تسجد له بئسما صنعت ، وقال مجاهد : ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي ، وقيل : ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك ساجداً أم لا.
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى الحقائق العقلية ، والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة.
المسألة الخامسة : وقوله : {سُجَّدًا} حال من الظلال وقوله : {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي صاغرون ، يقال : دخر يدخر دخوراً ، أي صغر يصغر صغاراً ، وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أم أبى ، وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره وقوله : {وَهُمْ دَاخِرُونَ} حال أيضاً من الظلال.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
فإن قيل : الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون ؟
.
قلنا : لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء.
أما قوله تعالى : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن السجود على نوعين : سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى ، وسجود هو عبارة عن الانقياد لله تعالى والخضوع ، ويرجع حاصل هذا السجود إلى أنها/ في نفسها ممكنة الوجود والعدم قابلة لهما/ وأنه لا يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح.
إذا عرفت هذا فنقول : من الناس من قال : المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني وهو التواضع والانقياد ، والدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود ومنهم من قال : المراد بالسجود ههنا هو المعنى الأول ، لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات والنباتات والجمادات ، ومنهم من قال : السجود لفظ مشترك بين المعنيين ، وحمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز ، فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معاً ، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع ، وأما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى ، وهذا القول ضعيف ، لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معاً غير جائز.
المسألة الثانية : قوله : {مِن دَآبَّةٍ} قال الأخفش : يريد من الدواب وأخبر بالواحد كما تقول ما أتاني من رجل مثله ، وما أتاني من الرجال مثله ، وقال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما الوجه في تخصبص الدواب والملائكة بالذكر ؟
فنقول فيه وجوه :
الوجه الأول : أنه تعاني بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى ، لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة ، فلما بين في أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
والوجه الثاني : قال حكماء الإسلام : الدابة اشتقاقها من الدبيب ، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانية ، فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب ، فلما بين الله تعالى الملائكة عن الدابة علمنا أنها ليست مما يدب ، بل هي أرواح محضة مجردة ، ويمكن الجواب عنه بأن الجناح للطيران مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارْضِ وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الأنعام : 38) والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
أما قوله تعالى : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ففيه مسائل :
(1/2722)

المسألة الأولى : المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ، لأن قوله : {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ، ونظيره قوله تعالى : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } (مريم : 64) وقوله : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} (الأنبياء : 27) وأما قوله : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فهذا أيضاً/ يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به ، وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قالوا : هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه ؟
.
قلنا : لأن كل ما نهي عن شيء فقد أمر بتركه ، وحينئذ يدخل في اللفظ ، وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب ، وثبت أن إبليس ما كان معصوماً من الذنوب بل كان كافراً ، لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة.
والوجه الثاني : في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة : {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} ثم قال لإبليس : {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص : 75) وقال أيضاً له : {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} (الأعراف : 13) فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة وأيضاً لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة/ ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل ، فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب ، وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة والله أعلم. واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى وصفهم بالخوف ، ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب وإلا لم يحصل الخوف.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال : {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِه فَذاَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } (الأنبياء : 29) وهم لهذا الخوف يتركون الذنب. والثاني : وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والدليل على صحته قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم ، كان الخوف منه أعظم ، وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء والله أعلم.
المسألة الثانية : قالت المشبهة قوله تعالى : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه } (الأنعام : 18) والذي نزيده ههنا أن قوله : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} معناه يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى سقط قولهم ، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله : {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ} (الأعراف : 127) والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم لما ثبت/ في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللاً بذلك الوصف.
إذا ثبت هذا فنقول : هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة لأنها هي الموجبة للخوف ، أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين ، ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر.
المسألة الرابعة : تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشر في وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى قال : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ} وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب وكان الطرف الثاني أشرفها حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
(1/2723)

الوجه الثاني : أن قوله تعالى : {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة ، وأما البشر فليسوا كذلك. ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : {قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه } (عبس : 17) وهذا الحكم عام في الإنسان ، وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة ، وأما الخبر فقوله عليه السلام : "ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا" ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها.
الوجه الثالث : أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة ، ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين : الأول : قوله عليه السلام : "الشيخ في قومه كالنبي في أمته" فضل الشيخ على الشاب ، وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول فالظاهر أن طاعته أكثر فكان أفضل. والثاني : أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة ، وهي طاعة الخالق القديم الرحيم ، والبشر إنما جاؤوا بعدهم واستنوا سنتهم ، فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة فوجب كونهم أفضل من غيرهم.
/ الوجه الرابع : في دلالة الآية على هذا المعنى قوله : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة ، فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى ، وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 219
231
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام ، فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه ، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وأنه غني عن الكل فقال : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِا إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } وفي الآية مسائل :
جزء : 20 رقم الصفحة : 231
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن الإلهين لا بد وأن يكونا اثنين ، فما الفائدة في قوله : {إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ } .
وجوابه من وجوه : أحدها : قال صاحب "النظم" : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين. وثانيها : وهو الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً ، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح.
(1/2724)

/ إذا عرفت هذا القول بوجود الإلهين قول مستقبح في العقول ، ولهذا المعنى فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجوب والقدم وصفات الكمال ، فقوله : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ } المقصود من تكريره تأكيد التنفير عنه وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح. وثالثها : أن قوله : {إِلَـاهَيْنِ} لفظ واحد يدل على أمرين : ثبوت الإله وثبوت التعدد ، فإذا قيل : لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا الفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما. فلما قال : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ } ثبت أن قوله : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ} نهي عن إثبات التعدد فقط. ورابعها : أن الأثينية منافية للإلهية ، وتقريره من وجوه : الأول : أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجباً لذاته لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ومتباينين بالتعين وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فكل واحد منهما مركب من جزأين ، وكل مركب فهو ممكن ، فثبت أن القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود. والثاني : أنا لو فرضنا إلهين وحاول أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني ، لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد لا يقبل القسمة أصلاً ولا التفاوت أصلاً ، وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني ، وإذا ثبت هذا امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية ، وإذا ثبت هذا فإما أن يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال ، أو لا يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما ألبتة. فحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً. الثالث : أنا لو فرضنا إلهين اثنين لكان إما أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر ، فإن قدر ذاك إله والآخر ضعيف ، وإن لم يقدر فهو ضعيف ، والرابع : وهو أن أحدهما إما أن يقوى على مخالفة الآخر ، أو لا يقوى عليه فإن لم يقو عليه فهو ضعيف ، وإن قوي عليه فذاك الآخر إن لم يقو على الدفع فهو ضعيف ، وإن قوي عليه فالأول المغلوب ضعيف. فثبت أن الأثنينية والإلهية متضادتان. فقوله : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ } المقصود منه التنبيه على حصول المنافاة والمضادة بين الإلهية وبين الأثينية. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 231
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال : {إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } والمعنى : أنه لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله ، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال ، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد.
ثم قال بعده : {فَإِيَّـايَ فَارْهَبُونِ} وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور ، والتقدير : أنه لما ثبت/ أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله ، فحينئذ ثبت إنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام ، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ، ويقول : {فَإِيَّـايَ فَارْهَبُونِ} وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله : {فَإِيَّـايَ فَارْهَبُونِ} يفيد الحصر ، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ، وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه ، وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث ، أما القديم الذي هو الإله فهو واحد ، وأما ما سواه فمحدث ، وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده ، وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه ، فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات.
ثم قال بعده : {وَلَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وهذا حق ، لأنه لما كان الإله واحداً ، والواجب لذاته واحداً ، كان كل ما سواه حاصلاً بتخليقه وتكوينه وإيجاده ، فثبت بهذا البرهان صحة قوله : {وَلَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ، فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى ، وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته ، لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة ، لا لغرض الطاعة ، فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب.
ثم قال بعده : {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا } الدين ههنا الطاعة ، والواصب الدائم. يقال : وصب الشيء يصب وصوباً إذا دام ، قال تعالى : {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} (الصافات : 9) ويقال : واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم ، ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها. ويقال للعليل واصب ، ليكون ذلك المرض لازماً له. قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع ، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه ، فإن طاعته واجبة أبداً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 231
(1/2725)

وجوابه : إن كان مزيم القبائح في أعين الكفار هو الشيطان ، فمزين تلك الوساوس في عين/ الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل. وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب.
ثم قال تعالى : {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} وفيه احتمالان : الأول : أن المراد منه كفار مكة وبقوله : {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أي الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك ، كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار مكة. الثاني : أنه أراد باليوم يوم القيامة ، يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم ، والمقصود من قوله : {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر ، وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم ، ورأوا أنه لا مخلص له منه ، كما لا مخلص لهم منه ، جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم : هذا وليكم اليوم على وجه السخرية ، ثم ذكر تعالى أن مع هذا الوعيد الشديد أقام الحجة وأزاح العلة فقال : {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيه وَهُدًى وَرَحْمَةً} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى : أنا ما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها ، والمختلفون هم أهل الملل والأهواء ، وما اختلفوا فيه ، هو الدين ، مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر ، وإثبات المعاد ونفيه ، ومثل الأحكام ، مثل أنهم حرموا أشياء تحل كالبحيرة والسائبة وغيرهما وحللوا أشياء تحرم كالميتة.
المسألة الثانية : اللام في قوله : {لِتُبَيِّنَ} تدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض ، ونظيره آيات كثيرة منها قوله : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ} (إبراهيم : 1) وقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56).
وجوابه : أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" قوله : {هُدًى وَرَحْمَةً} معطوفان على محل قوله : {لِتُبَيِّنَ} إلا أنهما انتصبا على أنه مفعول لهما ، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ، ودخلت اللام في قوله : {لِتُبَيِّنَ} لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفاعل.
جزء : 20 رقم الصفحة : 231
المسألة الرابعة : قال الكلبي : وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، لا ينفي كونه كذلك في حق الكل ، كما أن قوله تعالى في أول سورة البقرة : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) لا ينفي كونه هدى لكل الناس ، كما ذكره في قوله : {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (البقرة : 185) وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه فانتفعوا به ، كما في قوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) لأنه إنما انتفع بإنذاره هذا القوم فقط ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 231
235
اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة : الإلهيات والنبوات والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر ، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الآلهيات ، فلهذا السبب كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الآلهيات ، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الآلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية ، وثنى بالإنسان ، وثلث بالحيوان ، وربع بالنبات ، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض ، فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولاً بذكر الفلكيات فقال : {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } والمعنى : أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سبباً لحياة الأرض ، والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر ، وينفع بعد أن كان لا ينفع ، وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مراراً كثيرة.
ثم قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع.
والنوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآيات الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله : {وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانْعَـامِ لَعِبْرَةًا نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِه } قد ذكرنا معنى العبرة في قوله : {لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ} (آل عمران : 13) وفيه مسائل :
(1/2726)

/ المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي : {نُّسْقِيكُم} بضم النون ، والباقون بالفتح ، أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول سقيته حتى روى أسقيه قال تعالى : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (الإنسان : 21) وقال : {وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} (الشعراء : 79) وقال : {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا} (محمد : 15) ومن ضم النون فهو من قولك أسقاه إذا جعل له شراباً كقوله : {وَأَسْقَيْنَـاكُم مَّآءً فُرَاتًا} (المرسلات : 27) وقوله : {فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ} (الحجر : 22) والمعنى ههنا أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا ، واختار أبو عبيد الضم قال لأنه شرب دائم ، وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت.
جزء : 20 رقم الصفحة : 235
المسألة الثانية : قوله : 6مما في بطونه} الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها ، وذكر النحويون فيه وجوهاً : الأول : أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع ، كالرهط والقوم والبقر والنعم ، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد ، وهو التذكير ، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع ، وهو التأنيث ، فلهذا السبب قال ههنا الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها ، وذكر النحويون فيه وجوهاً : الأول : أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع ، كالرهط والقوم والبقر والنعم ، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد ، وهو التذكير ، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع ، وهو التأنيث ، فلهذا السبب قال ههنا {فِى بُطُونِه } ، وقال في سورة المؤمنين : {فِى بُطُونِهَا} (المؤمنون : 21). الثاني : قوله : {فِى بُطُونِه } أي في بطون ما ذكرنا ، وهذا جواب الكسائي. قال المبرد : هذا شائع في القرآن. قال تعالى : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَـاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الافِلِينَ * فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَـاـاِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} (الأنعام : 78) يعني هذا الشيء الطالع ربي. وقال : {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَه } (المدثر : 54 ، 55) أي ذكر هذا الشيء.
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي ، أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً ، فلا يجوز ، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب ، ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة. الثالث : أن فيه إضماراً ، والتقدير : نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن.
المسألة الثالثة : الفرث : سرجين الكرش. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه لبناً ، فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو ، فذاك هو قوله تعالى : {مِنا بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} لا يشوبه الدم ولا الفرث.
ولقائل أن يقول : الدم واللبن لا يتولدان ألبتة في الكرش ، والدليل عليه الحس فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً ، وما رأى أحد في كرشها لا دماً ولا لبناً ، ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال ، والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه ، بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً ، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها ، فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء ، ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها/ ويصير دماً ، وذلك هو الهضم الثاني ، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة ، وهي العروق النابتة من الكبد ، وهناك يحصل الهضم الثالث ، وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع ، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن.
جزء : 20 رقم الصفحة : 235
فإن قيل : فهذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن ؟
.
(1/2727)

قلنا : الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته ، فمزاج الذكر من كل حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً ، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً ، والحكمة فيه أن الولد إنما يتكون في داخل بدن الأنثى ، فوجب أن تكون الأنثى مختصة بمزيد الرطوبات لوجهين : الأول : أن الولد إنما يتولد من الرطوبات ، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة التولد الولد. والثاني : أن الولد إذا كبر وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتمدد حتى يتسع لذلك الولد ، فإذا كانت الرطوبات غالبة على بدن الأم كان بدنها قابلاً للتمدد ، فيتسع للولد ، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى خص بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرطوبات لهذه الحكمة ، ثم إن الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم ، فعند انفصال الجنين تنصب إلى الثدي والضرع ليصير مادة لغذاء ذلك الطفل الصغير.
إذا عرفت هذا فاعلم أن السبب الذي إجله يتولد اللبن من الدم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذكر فظهر الفرق.
إذا عرفت هذا التصوير فنقول : المفسرون قالوا : المراد من قوله : {مِنا بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد/ فالفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، واللبن يكون في الوسط ، وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة ، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذاقاء أن يقيء الدم وذلك باطل قطعاً. وأما نحن فنقول : المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم ، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش ، وهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولاً ، ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانياً ، فصفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة ، وخلق فيها الصفات التي باعتبارها صارت لبناً موافقاً لبدن الطفل ، فهذا ما حصلناه في هذا المقام ، والله أعلم.
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 235
(1/2728)

المسألة الرابعة : اعلم أن حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الصبي مشتمل على حكم عجيبة وأسرار بديعة ، يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنقذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ويبقى الثقل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ويترك منه ذلك الثقل ، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ، لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ ، وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح ، فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى ، بحسب الحاجة وتقدير المنفعة ، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. الثاني : أنه تعالى أودع في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول أو المشروب ، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة ، وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ، ولا تجذب الأجزاء اللطيفة ألبتة. ولو كان الأمر بالعكس لاختلفت مصلحة البدن ولفسد نظام هذا التركيب. الثالث : أنه تعالى أودع في الكبد قوة هاضمة طابخة ، حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دماً ، ثم إنه تعالى أودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الطحال قوة جاذبة للسوداء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن. وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم. الرابع : أن في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده ، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له ، فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم ولا إلى الثدي ، بل ينصب على مجموع بدن المغتذي ، فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصباباً موافقاً للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم. والخامس : أن عند تولد اللبن في الضرع أحدث تعالى في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة ومسام ضيقة ، وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة ، ولما كانت تلك المسام ضيقة جداً ، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة ، وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل ، والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة ، والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفاً/ خرج ، وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج/ فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصاً موافقاً لبدن الصبي سائغاً للشاربين. السادس : أنه تعالى ألهم ذلك الصبي إلى المص ، فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الصبي فذلك الصبي في الحال يأخذ في المص ، فلولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي. السابع : أنا بينا أنه تعالى إنما خلق اللبن من فضلة الدم ، وإنما خلق الدم من لطيف تلك الأجزاء ، ثم خلق اللبن من بعض أجزاء ذلك الدم ، ثم إن اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة ، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً ، وما فيه من المائية يكون بارداً رطباً ، وما فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً ، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في ذلك العشب الذي تناولته الشاة ، فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة ، مع أنه لا يناسب بعضها بعضاً ولا يشاكل بعضها بعضاً ، وعند ذلك يظهر أن هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد ، فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته ونهاية حكمته ورحمته ، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 235
أما قوله : {سَآاـاِغًا لِّلشَّـارِبِينَ} فمعناه : جارياً في حلوقهم لذيذاً هنيئاً. يقال : ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه ، ومنه قوله : {وَلا يَكَادُ يُسِيغُه } (إبراهيم : 17).
(1/2729)

المسألة الخامسة : قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار سبحانه ، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر ، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض ، فخالق العالم دبر تدبيراً ، فقلب ذلك الطين نباتاً وعشباً ، ثم إذا أكله الحيوان دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك العشب دماً ، ثم دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدم لبناً ، ثم دبر تدبيراً آخر فحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن ، فهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك ، فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة ، ذكر في هذه الآية بعض منافع النبات ، وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : فإن قيل : بم تعلق قوله : {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ} .
قلنا : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه. وقوله : {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} بيان وكشف عن كنه الإسقاء.
المسألة الثانية : قال الواحدي : عطف على الثمرات لا على النخيل ، لأنه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب ، والعنب نفسه ثمرة وليست له ثمرة أخرى.
المسألة الثالثة : في تفسير السكر وجوه : الأول : السكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو : رشد رشداً ورشداً ، وأما الرزق الحسن فسائر ما يتخذ من النخيل والأعناب كالرب والخل والدبس والتمر والزبيب.
فإن قيل : الخمر محرمة فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام ؟
.
أجابوا عنه من وجهين : الأول : أن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة ، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة. الثاني : أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من النافع/ وخاطب المشركين بها ، والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم ، ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضاً على تحريمها ، وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أن لا يكون السكر رزقاً حسناً ، ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة ، فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشريعة ، وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 235
القول الثاني : أن السكر هو النبيذ ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد ، وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله إلى حد السكر ، ويحتج بأن هذه الآية تدل على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ، ودل الحديث على أن الخمر حرام قال عليه السلام : "الخمر حرام لعينها" وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر ، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ.
والقول الثالث : أن السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة : واحتج عليه بقول الشاعر :
جعلت أعراض الكرام سكراً
أي جعلت ذمهم طعاماً لك ، قال الزجاج : هذا بالخمر أشبه منه بالطعام ، والمعنى أنك جعلت تتخمر بأغراض الكرام ، والمعنى : أنه جعل شغفه بغيبة الناس وتمزيق أعراضهم جارياً مجرى شرب الخمر.
/ واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه التي هي دلائل من وجه ، وتعديد للنعم العظيمة من وجه آخر ، قال : {حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والمعنى : أن من كان عاقلاً ، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى ، فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 235
239
اعلم أنه تعالى لما بين أن إخراج الألبان من النعم ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة ، وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً ، فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود ، وفي الآية مسائل :
(1/2730)

المسألة الأولى : قوله : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} يقال وحى وأوحى ، وهو الإلهام ، والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر ، وبيانه من وجوه : الأول : أنها تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية ، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل المسطر والفرجار. والثاني : أنه ثبت في الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة ، أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة فإنه لا يبقى فيما بينها فرج ضائعة ، فإهداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة/ من الأعاجيب. والثالث : أن النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقية ، وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ، ويكون نافذ الحكم على تلك البقية ، وهم يخدمونه ويحملونه عند الطيران ، وذلك أيضاً من الأعاجيب. والرابع : أنها إذا نفرت من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر ، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطنبور والملاهي وآلات الموسيقى ، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى وكرها ، وهذا أيضاً حالة عجيبة ، فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة ، وكان حصول هذه الأنواع من الكياسة ليس إلا على سبيل الإلهام وهي حالة شبيهة بالوحي ، لا جرم قال تعالى في حقها : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} .
واعلم أن الوحي قد ورد في حق الأنبياء لقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} (الشورى : 51) وفي حق الأولياء أيضاً قال تعالى : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى} (المائدة : 111) وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى : {يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّ مُوسَى } (القصص : 7) وفي حق سائر الحيوانات كما في قوله : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ولكل واحد من هذه الأقسام معنى خاص. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 239
المسألة الثانية : قال الزجاج : يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً ، لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها ، وقال غيره النحل يذكر ويؤنث ، وهي مؤنثة في لغة الحجاز ، ولذلك أنثها الله تعالى ، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.
ثم قال تعالى : {أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : {أَنِ اتَّخِذِى} هي "أن" المفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول ، وقرىء : {بُيُوتًا} بكسر الباء {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} أي يبنون ويسقفون ، وفيه لغتان قرىء بهما ، ضم الراء وكسرها مثل يعكفون ويعكفون.
واعلم أن النحل نوعان :
النوع الأول : ما يسكن في الجبال والغياض ولا يتعهدها أحد من الناس.
والنوع الثاني : التي تسكن بيوت الناس وتكون في تعهدات الناس ، فالأول هو المراد بقوله : {أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} . والثاني : هو المراد بقوله : {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهو خلايا النحل.
فإن قيل : ما معنى "من" في قوله : {أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهلا قيل في الجبال وفي الشجر ؟
.
/ قلنا : أريد به معنى البعضية ، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر ، بل في مساكن توافق مصالحها وتليق بها.
المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى : {أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} أمر ، وقد اختلفوا فيه ، فمن الناس من يقول لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ، ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى أمر ونهي. وقال آخرون : ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال ، والكلام المستقصى في هذه المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى : {نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} (النمل : 18).
ثم قال تعالى : {ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} لفظة "من" ههنا للتبعيض أو لابتداء الغاية ، ورأيت في "كتب الطب" أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه ، وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار ، فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 239
أما القسم الثاني : فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس.
(1/2731)

وأما القسم الأول : فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها ، فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك ، لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل ، ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلاً ، ثم إنها تقيء مرة أخرى فذاك هو العسل ، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء ، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا. وأيضاً فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل ، ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذي بها فعلمنا أنها إنما تغتذي بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذي بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : {ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} كلمة (من) ههنا تكون لابتداء الغاية ، ولا تكون للتبعيض على هذا القول.
/ ثم قال تعالى : {فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ} والمعنى : ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو يكون المراد : فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك. أما قوله : {ذُلُلا } ففيه قولان : الأول : أنه حال من السبل لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها ، كقوله : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ ذَلُولا} (الملك : 15) الثاني : أنه حال من الضمير في {فَاسْلُكِى} أي وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة.
ثم قال تعالى : {يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا} وفيه بحثان :
البحث الأول : أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي ، فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال : إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب ، لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 239
البحث الثاني : أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول : العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار ، فيلقطها الزنبور بفمه ، فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله : {يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا} أي من أفواهها ، وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطناً ، ألا ترى أنهم يقولون : بطون الدماغ وعنوا أنها تجاويف الدماغ ، وكذا ههنا يخرج من بطونها أي من أفواهها ، وأما على قول أهل الظاهر ، وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقيء فذلك هو العسل فالكلام ظاهر.
ثم قال تعالى : {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة :
فالصفة الأولى : كونه شراباً والأمر كذلك ، لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ من الأشربة.
والصفة الثانية : قوله : {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } والمعنى : أن منه أحمر وأبيض وأصفر. ونظيره قوله تعالى : {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُا بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (فاطر : 27) والمقصود منه : إبطال القول بالطبع ، لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة ، دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار ، لا لأجل إيجاد الطبيعة.
والصفة الثالثة : قوله : {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } وفيه قولان :
القول الأول : وهو الصحيح أنه صفة للعسل.
فإن قالوا : كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة ؟
.
قلنا : إنه تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال ، بل لما كان شفاء للبعض/ من بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء ، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قال معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل ، وأيضاً فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع.
والقول الثاني : وهو قول مجاهد أن المراد : أن القرآن شفاء للناس ، وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله : {يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } ثم ابتدأ وقال : {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة ، مثل هذا الذي في قصة النحل. وعن ابن مسعود : أن العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور.
جزء : 20 رقم الصفحة : 239
(1/2732)

واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان : الأول : أن الضمير في قوله : {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وما ذاك إلا قوله : {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق ، فهو غير مناسب. والثاني : ما روى أبو سعيد الخدري : أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : "اسقه عسلاً" فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فلم يغن عنه شيئاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : "اذهب واسقه عسلاً" فذهب فسقاه ، فكأنما نشط من عقال ، فقال : "صدق الله وكذب بطن أخيك" وحملوا قوله : "صدق الله وكذب بطن أخيك" على قوله : {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل.
فإن قال قائل : ما المراد بقوله عليه السلام : "صدق الله وكذب بطن أخيك".
قلنا : لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك/ فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك ، كان هذا جارياً مجرى الكذب ، فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ.
ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه : الأول : اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها. والثاني : اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق. والثالث : خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء ، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق ، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 239
242
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : لما ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات ، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس ، فمنها ما هو مذكور في هذه الآية وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان ، والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب : أولها : سن النشو والنماء. وثانيهما : سن الوقوف وهو سن الشباب. وثالثها : سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة. ورابعها : سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة. فاحتج تعالى بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض ، على أن ذلك الناقل هو الله تعالى والأطباء الطبائعيون قالوا : المقتضي لهذا الانتقال هو طبيعة الإنسان ، وأنا أحكي كلامهم على الوجه الملخص وأبين ضعفه وفساده ، وحينئذ يبقى أن ذلك الناقل هو الله سبحانه ، وعند ذلك يصح بالدليل العقلي ما ذكر الله تعالى في هذه الآية. قال الطبائعيون : إن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني والدم جوهران حاران رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قللت رطوبته وأفادته نوع يبس ، وهذا مشاهد معلوم ، قالوا : فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما فيه من الرطوبة حتى تتصلب الأعضاء ويظهر فيه الانعقاد ، ويحدث العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء فإذا تم تكون البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ومع ذلك فالرطوبات زائدة ، والدليل عليه أنك ترى أعضاء الطفل بعد انفصاله من الأم لينة لطيفة وعظامه لينة قريبة الطبع من الغضاريف ، ثم إن ما في البدن من الحرارة يعمل في تلك الرطوبات ويقللها ، قالوا : ويحصل للبدن ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى : أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته ، وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء ، وذلك هو سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة.
الحالة الثانية : أن تصير رطوبات البدن أقل ما كانت فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر ، وهذا هو سن الوقوف وسن الشباب وغايته خمس سنين ، وعند تمامه يتم الأربعون.
/والحالة الثالثة : أن تقل الرطوبات وتصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية ، وعند ذلك يظهر النقصان ، ثم هذا النقصان قد يكون خفياً وهو سن الكهولة وتمامه إلى ستين سنة وقد يكون ظاهراً وهو سن الشيخوخة وتمامه إلى مائة وعشرين سنة فهذا هو الذي حصله الأطباء في هذا الباب ، وعندي أن هذا التعليل ضعيف ويدل على ضعفه وجوه :
جزء : 20 رقم الصفحة : 242
(1/2733)

الوجه الأول : أنا نقول إن في أول ما كان المني منياً وكان الدم ماً كانت الرطوبات غالبة وكانت الحرارة الغريزية مغمورة وكانت ضعيفة بهذا السبب ، ثم إنها مع ضعفها قويت على تحليل أكثر تلك الرطوبات وأبانتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً ، وعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن قلت الرطوبات فوجب أن تكون للحرارة الغريزية قوة أزيد مما كانت قبل ذلك ، فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أزيد من تحللها قبل تولد البدن ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، لأن قبل تولد البدن انتقل جسم المني والدم إلى أن صار عظماً وعصباً ، وأما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشره فلو كان تولد هذه الأعضاء بسبب تأثير الحرارة في الرطوبة لوجب أن يكون تحلل الرطوبات بعد كمال البدن أكثر من تحللها قبل تكون البدن ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن تولد البدن إنما كان بتدبير قادر حكيم يدبر أبدان الحيوانات على وفق مصالحها/ وأنه ما كان تولد البدن لأجل ما قالوه من تأثير الحرارة في الرطوبة.
والوجه الثاني : في إبطال هذا الكلام أن نقول : إن الحرارة الغريزية الحاصلة في بدن الإنسان الكامل إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة أو صارت أزيد مما كانت ، والأول باطل ، لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النفطة ولا شك أن جرم النطفة كان قليلاً صغيراً ، فهذا البدن بعد كبره لو لم يحصل فيه من الحرارة الغريزية إلا ذلك القدر كان في غاية القلة ، ولم يظهر منه في هذا البدن أثر أصلاً ، وأما الثاني : ففيه تسليم أن الحرارة الغريزية تتزايد بحسب تزايد الجثة والبدن ، وإذا تزايدت الحرارة الغريزية ساعة فساعة ، وثبت أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة ، فوجب أن يبقى البدن الحيواني أبداً في التزايد والتكامل ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن ازدياد حال البدن الحيواني وانتقاصه ليس بحسب الطبيعة ، بل بسبب تدبير الفاعل المختار.
جزء : 20 رقم الصفحة : 242
والوجه الثالث : وهو الذي أوردناه على الأطباء في "كتابنا الكبير في الطب" فقلنا هي أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما/ كانت ؟
وأن ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان. قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء ، فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تخفيف الرطوبة الغريزية ، فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تقي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحالة ضعفت الحرارة الغريزية أيضاً ، لأن الرطوبة الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية ، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي. فالحاصل : أن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية ، وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية ، ويلم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى إلى أن تنتهي إلى حيث لا يبقى من الرطوبة الغريزية شيء ، وحينئذ تنطفىء الحرارة الغريزية ، ويحصل الموت هذا منتهى ما قالوه في هذا الباب ، وهو ضعيف ، لأنا نقول : إن الحرارة الغريزية إذا أثرت في تجفيف الرطوبة الغريزية وقلتها ، فلم لا يجوز أن يقال : إن القوة الغاذية تورد بدلها. فعند هذا قالوا : القوة الغاذية إنما تقوى على إيراد بدلها لو كانت الحرارة الغريزية قوية ، فأما عند ضعفها فلا ، فنقول : فههنا لزم الدور ، لأن الرطوبة الغريزية إنما تقل وتنقص لو لم تكن القوة الغاذية وافية بإيراد بدلها ، وإنما تعجز القوة الغاذية عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة ، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل ، فثبت أن على القول الذي قالوه يلزوم الدور وأنه باطل فثبت أن تعليل انتقال الإنسان من سن إلى سن بما ذكروه من اعتبار الطبائع يوجب عليهم هذه المحاولات المذكورة فكان القول به باطلاً ، ولما بطل هذا القول وجب القطع بإسناد هذه الأحوال إلى الإله القادر المختار الحكيم الرحيم الذي يدبر أبدان الحيوانات على الوجه الموافق لمصالحها ، وذلك هو المطلوب. وقد كنت أقرأ يوماً من الأيام سورة المرسلات فلما وصلت إلى قوله تعالى : {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَـاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} (المرسلات : 20 ـ 24) فقلت : لا شك أن المراد بهؤلاء المكذبين هم الذين نسبوا تكون الأبدان الحيوانية إلى الطبائع وتأثير الحرارة في الرطوبة ، وأنا أؤمن من صميم قلبي يا رب العزة بأن هذه التدبيرات ليست من الطبائع بل من خالق العالم الذي هو أحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 242
(1/2734)

إذا عرفت هذا فقد صح بالدليل العقلي صدق قوله : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} لأنه ثبت أن خالق أبدان الناس وسائر الحيوانات ليس هو الطبائع بل هو الله سبحانه وتعالى ، وقوله : {ثُمَّ يَتَوَفَّـاكُمْ } قد بينا أن السبب الذي ذكروه في صيرورة الموت فاسد باطل ، وأنه يلزم عليه القول بالدور ، ولما بطل ذلك ثبت أن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله ، وبتقديره ، وقوله : {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى ا أَرْذَلِ الْعُمُرِ} قد بينا بالدليل أن الطبائع لا يجوز أن تكون علة لانتقال الإنسان من الكمال إلى النقصان ومن القوة إلى الضعف فلزم القطع بأن انتقال الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة ، ومن الصحة إلى الهرم ، ومن العقل الكامل إلى أن صار حرفاً غافلاً ليس بمقتضى الطبيعة بل بفعل الفاعل المختار ، وإذا ثبت ما ذكرنا ظهر أن الذي دل عليه لفظ القرآن قد ثبت صحته بقاطع القرآن.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} وهذا كالأصل الذي عليه تفريع كل ما ذكرناه ، وذلك لأن الطبيعة جاهلة لا تميز بين وقت المصلحة ووقت المفسدة ، فهذه الإنفعالات في هذا الإنسان لا يمكن إسنادها إليها. أما إله العالم ومدبره وخالقه ، فهو الكامل في العلم ، الكامل في القدرة ، فلأجل كمال علمه يعلم مقادير المصالح والمفاسد ، ولأجل كمال قدرته يقدر على تحصيل المصالح ودفع المفاسد ، فلا جرم أمكن إسناد تخليق الحيوانات إلى إله العالم ، فلا يمكن إسناده إلى الطبائع والله أعلم.
المسألة الثانية : في تفسير ألفاظ الآية قال المفسرون : والله خلقكم ولم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، وهو أردؤه وأضعفه. يقال : رذل الشيء يرذل رذالة وأرذلة غيره ، ومنه قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} (الشعراء : 111) وقوله : {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى ا أَرْذَلِ الْعُمُرِ} هل يتناول المسلم أو هو مختص بالكافر ؟
فيه قولان :
القول الأول : أنه يتناوله ، قيل : إنه العمر الطويل ، وعلى هذا الوجه نقل عن علي عليه السلام أنه قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقال قتادة : تسعون سنة. وقال السدي : إنه الخرف. والقول الأول أولى ؛ لأن الخرف معناه زوال العقل ، فقوله : {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى ا أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنا بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـاًا } يدل على أنه تعالى إنما رده إلى أرذل العمر لأجل أن يزيل عقله ، فلو كان المراد من أرذل العمر هو زوال العقل لصار الشيء عين الغاية المطلوبة منه وأنه باطل.
جزء : 20 رقم الصفحة : 242
والقول الثاني : أن هذا ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى ولا يجوز أن يقال في حقه إنه يرد إلى أرذل العمر ، والدليل عليه قوله تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (التبين : 5 ، 6) فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين. وقال عكرمة : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وقوله : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ } قال ابن عباس : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه قدير على ما يريد.
المسألة الثالثة : هذه الآية كما تدل على وجود إله العالم الفاعل المختار ، فهي أيضاً تدل على صحة البعث والقيامة ، وذلك لأن الإنسان كان عدماً محضاً فأوجده الله ثم أعدمه مرة ثانية ، فدل عهذا على أنه لما كان معدوماً في المرة الأولى ، وكان عوده إلى العدم في المرة الثانية جائزاً ، فكذلك لما/ صار موجوداً ، ثم عدم وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرة الثانية جائزاً ، وأيضاً كان ميتاً حين كان نطفة ثم صار حياً ثم مات فلما كان الموت الأول جائزاً كان عود الموت جائزاً/ فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة ، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرة الثانية ، وأيضاً الإنسان في أول طفوليته جاهل لا يعرف شيئاً ، ثم صار عالماً عاقلاً فاهماً ، فلما بلغ أرذل العمر عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولية ، وهو عدم العقل والفهم ، فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر ، فكذلك العقل الذي حصل ، ثم زال وجب أن يكون جائز العود في المرة الثانية ، وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أن الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده وعود حياته وعود عقله مرة أخرى ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنشر حق والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 242
244
(1/2735)

اعلم أن هذا اعتبار حال أخرى من أحوال الإنسان ، وذلك أنا نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً وفهماً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك ، ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تنفتح عليه أبواب الدنيا ، وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال ، ولو كان السبب جهد الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال ، فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيباً ، وأن الأجهل الأخس أوفر نصيباً ، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام ، كما قال تعالى : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } (الزخرف : 32) وقال الشافعي رحمه الله تعالى :
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح ، وهذا بحر لا ساحل له وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار ، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه ، وكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه ، وما كان يمكنه ركوب واحد منها ، وربما حضرت الأطعمة الشهية/ والفواكه العطرة عنده ، وما كان يمكنه تناول شيء منها ، وكان الواحد منا صحيح المزاج قوي البنية كامل القوة ، وما كان يجد ملء بطنه طعاماً ، فذلك الملك وإن كان يفضل على هذا الفقير في المال ، إلا أن هذا الفقير كان يفضل على ذلك الملك في الصحة والقوة ، وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه منه.
أما قوله : {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} ففيه قولان :
القول الأول : أن المراد من هذا الكلام تقرير ما سبق في الآية المتقدمة من أن السعادة والنحوسة لا يحصلان إلا من الله تعالى ، والمعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً فهم في رزقي سواء فلا يحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق ، وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى ، وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً وأقوى جسماً وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى ، وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى كما قال : {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } (آل عمران : 26).
جزء : 20 رقم الصفحة : 244
والقول الثاني : أن المراد من هذه الآية الرد على من أثبت شريكاً لله تعالى ، ثم على هذا القول ففيه وجهان : الأول : أن يكون هذا رداً على عبدة الأوثان والأصنام ، كأنه قيل : إنه تعالى فضل الملوك على مماليكهم ، فجعل المملوك لا يقدر على ملك مع مولاه ، فلما لم تجعلوا عبيدكم معكم سواء في الملك ، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في المعبودية ، والثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا : إن عيسى ابن مريم ابن الله ، فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء ، فكيف جعلتم عبدي ولداً لي وشريكاً في الإلهية ؟
.
ثم قال تعالى : {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } معنى الفاء في قوله : {فَهُمْ} حتى ، والمعنى : فما الذين فضلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم ، حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك.
ثم قال : {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : {يَجْحَدُونَ} بالتاء على الخطاب لقوله : {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} والباقون بالياء لقوله : {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقرب الخبر عنه ، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين ، والمسلمون لا يخاطبون بجحد نعمة الله تعالى.
المسألة الثانية : لا شبهة في أن المراد من قوله : {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم.
فإن قيل : كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام ؟
.
/ قلنا : فيه وجهان :
الوجه الأول : أنه لما كان المعطي لكل الخيرات هو الله تعالى فمن أثبت لله شريكاً فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحداً لكونها من عند الله تعالى ، وأيضاً فإن أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم ، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى.
والوجه الثاني : قال الزجاج : المراد أنه تعالى لما قرر هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل ، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق ، فعند هذا قال : {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} في تقريره هذه البيانات وإيضاح هذه البينات {يَجْحَدُونَ} .
جزء : 20 رقم الصفحة : 244
(1/2736)

المسألة الثالثة : الباء في قوله : {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} يجوز أن تكون زائدة لأن الجحود لا يعدى بالباء كما تقول : خذ الخطام وبالخطام ، وتعلقت زيداً وبزيد ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 244
245
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال الناس ، ذكره الله تعالى ليستدل به على وجود الإله المختار الكريم ، وليكون ذلك تنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم ، فقوله : {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} قال بعضهم : المراد أنه تعالى خلق حواء من ضلع آدم ، وهذا ضعيف ، لأن قوله : {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} خطاب مع الكل ، فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل ، بل هذا الحكم عام في جميع الذكور والإناث. والمعنى : أنه تعالى خلق النساء ليتزوج بهن الذكور ، ومعنى : {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} مثل قوله : {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } (البقرة : 54) وقوله : {فَسَلِّمُوا عَلَى ا أَنفُسِكُمْ} (النور : 61) أي بعضكم على بعض ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} الروم : 21) قال الأطباء وأهل الطبيعة : التفاوت بين الذكر والأنثى إنما كان لأجل أن كل من كان أسخن مزاجاً فهو الذكر ، وكل من كان/ أكثر برداً ورطوبة فهو المرأة. ثم قالوا : المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ، ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة ، وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم ، كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة ، وإن انصب إلى الخصية اليمنى ، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم ، كان الولد ذكراً في طبيعة الإناث وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم ، كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور.
واعلم أن حاصل هذا الكلام أن الذكورة علتها الحرارة واليبوسة ، والأنوثة علتها البرودة والرطوبة ، وهذه العلة في غاية الضعف ، فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان مزاجه في غاية البرودة ، ولو كان الموجب للذكورة والأنوثة ذلك لامتنع ذلك ، فثبت أن خالق الذكر والأنثى هو الإله القديم الحكيم وظهر بالدليل الذي ذكرناه صحة قوله تعالى : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} .
جزء : 20 رقم الصفحة : 245
ثم قال تععالى : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال الواحدي : إصل الحفدة من الحفد وهو الخفة في الخدمة والعمل. يقال : حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً إذا أسرع ، ومنه في دعاء القنوت وإليك نسعى ونحفد ، والحفدة جمع الحافد ، والحافد كل من يخف في خدمتك ويسرع في العمل بطاعتك ، يقال في جمعه الحفد بغير هاء كما يقال الرصد ، فمعنى الحفدة في اللغة الأعوان والخدام ، ثم يجب أن يكون المراد من الحفدة في هذه الآية الأعوان الذين حصلوا للرجل من قبل المرأة ، أنه تعالى قال : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} فالأعوان الذين لا يكونون من قبل المرأة لا يدخلون تحت هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول : قيل هم الأختان ، وقيل : هم الأصهار ، وقيل : ولد الولد ، والأولى دخول الكل فيه ، لما بينا أن اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك الذي ذكرناه.
ثم قال تعالى : {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } لما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة ، سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان ، ثم قال : {أَفَبِالْبَـاطِلِ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني بالأصنام ، وقال مقاتل : يعني بالشيطان ، وقال عطاء : يصدقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ} أي بأن يضيفوها إلى غير الله ويتركوا إضافتها إلى الله تعالى. وفي الآية قول آخر وهو أنه تعالى لما قال : {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } قال بعده : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} والمراد منه أنهم يحرمون على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة/ ويبيحون لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب يعني لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة ، وبإنعام الله في تحليل الطيبات ، وتحريم الخبيثات يجحدون ويكفرون والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 245
(1/2737)

ثم قال تععالى : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال الواحدي : إصل الحفدة من الحفد وهو الخفة في الخدمة والعمل. يقال : حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً إذا أسرع ، ومنه في دعاء القنوت وإليك نسعى ونحفد ، والحفدة جمع الحافد ، والحافد كل من يخف في خدمتك ويسرع في العمل بطاعتك ، يقال في جمعه الحفد بغير هاء كما يقال الرصد ، فمعنى الحفدة في اللغة الأعوان والخدام ، ثم يجب أن يكون المراد من الحفدة في هذه الآية الأعوان الذين حصلوا للرجل من قبل المرأة ، أنه تعالى قال : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} فالأعوان الذين لا يكونون من قبل المرأة لا يدخلون تحت هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول : قيل هم الأختان ، وقيل : هم الأصهار ، وقيل : ولد الولد ، والأولى دخول الكل فيه ، لما بينا أن اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك الذي ذكرناه.
ثم قال تعالى : {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } لما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة ، سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان ، ثم قال : {أَفَبِالْبَـاطِلِ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني بالأصنام ، وقال مقاتل : يعني بالشيطان ، وقال عطاء : يصدقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ} أي بأن يضيفوها إلى غير الله ويتركوا إضافتها إلى الله تعالى. وفي الآية قول آخر وهو أنه تعالى لما قال : {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } قال بعده : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} والمراد منه أنهم يحرمون على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة/ ويبيحون لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب يعني لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة ، وبإنعام الله في تحليل الطيبات ، وتحريم الخبيثات يجحدون ويكفرون والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 245
246
اعلم أنه تعالى لما شرح أنواعاً كثيرة في دلائل التوحيد ، وتلك الأنواع كما أنها دلائل على صحة التوحيد ، فكذلك بدأ بذكر أقسام النعم الجليلة الشريفة ، ثم أتبعها في هذه الآية بالرد على عبدة الأصنام فقال : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ شَيْـاًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ} أما الرزق الذي يأتي من جانب السماء فيعني به الغيث الذي يأتي من جهة السماء ، وأما الذي يأتي من جانب الأرض فهو النبات والثمار التي تخرج منها وقوله : {مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} من صفة النكرة التي هي قوله : {رِزْقًا} كأنه قيل : لا يملك لهم رزقاً من الغيث والنبات وقوله, {شَيْئًا } قال الأخفش : جعل قوله : {شَيْئًا } بدلاً من قوله : {رِزْقًا} والمعنى : لا يملكون رزقاً لا قليلاً ولا كثيراً ، ثم قال : {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} والفائدة في هذه اللفظة أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعته أن يتملكه بطريق من الطرق ، فبين تعالى أن هذه الأصنام لا تملك وليس لها أيضاً استطاعة تحصيل الملك.
فإن قيل : إنه تعالى قال : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ} فعبر عن الأصنام بصيغة "ما" وهي لغير أولي العلم ، ثم قال : {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} والجمع بالواو والنون مختص بأولى العلم فكيف الجمع بين الأمرين ؟
.
والجواب : أنه عبر عنها بلفظ "ما" اعتباراً لما هو الحقيقة في نفس الأمر وذكر الجمع بالواو والنون اعتباراً لما يعتقدون فيها أنها آلهة.
ثم قال تعالى : {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الامْثَالَ } وفيه وجوه : الأول : قال المفسرون : يعني لا تشبهوه/ بخلقه. الثاني : قال الزجاج : أي لا تجعلوا لله مثلاً ، أونه واحد لا مثل له. والثالث : أقول يحتمل أن يكون المراد أن عبدة الأوثان كانوا يقولون : إن إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هذه الأصنام ، ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم ، والدليل عليه العرف ، فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا ههنا فعند هذا هذا قال الله تعالى لهم اتركوا عبادة هذا الأصنام والكواكب ولا تضربوا الله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله الحكيم القدير.
جزء : 20 رقم الصفحة : 246
(1/2738)

ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وفيه وجهان : الأول : أن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب العظيم ، بسبب عبادة هذه الأصنام وأنتم لا تعلمون ذلك ، ولو علمتموه لتركتم عبادتها. الثاني : أن الله تعالى لما نهاكم عن عبادة هذه الأصنام فاتركوا عبادتها ، واتركوا دليلكم الذي عولتم عليه وهو قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك ، لأن هذا قياس ، والقياس يجب تركه عند ورود النص ، فلهذا قال : {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال تعالى :
جزء : 20 رقم الصفحة : 246
248
اعلم أنه تعالى أكد إبطال مذهب عبدة الأصنام بهذا المثال وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذ المثل قولان :
القول الأول : أن المراد أنا لو فرضنا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ، وفرضنا حراً كريماً غنياً كثير الإنفاق سراً وجهراً ، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال لما لم تجز التسوية بينهما مع استهوائهما في الخلقة والصورة والبشرية ، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والإفضال ، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر ألبتة.
والقول الثاني : أن المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر ، فإنه من حيث/ إنه بقي محروماً عن عبودية الله تعالى وغعن طاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز ، والمراد بقوله : {وَمَن رَّزَقْنَـاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} هو المؤمن فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله فبين تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى.
واعلم أن القول الأول أقرب ، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها إنما ورد في إثبات التوحيد ، وفي الرد على القائلين بالشرك فحمل هذه الآية على هذا المعنى أولى.
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله : {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} فقيل : المراد به الصنم لأنه عبد بدليل قوله : {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـن ِ عَبْدًا} (مريم : 93) وأما أنه مملوك ولا يقدر على شيء فظاهر ، والمراد بقوله : {وَمَن رَّزَقْنَـاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا } عابد الصنم لأن الله تعالى رزقه المال وهو ينفق من ذلك المال على نفسه وعلى أتباعه سراً وجهراً.
إذا ثبت هذا فنقول : هما لا يستويانفي بديهة العقل ، بل صريح العقل يشهد بأن ذلك القادر أكمل حالاً وأفضل مرتبة من ذلك العاجز ، فهنا صريح العقل يشهد بأن عابد الصنم أفضل من ذلك الصنم فكيف يجوز الحكم بكونه مساوياً لرب العالمين في العبودية.
جزء : 20 رقم الصفحة : 248
والقول الثاني : أن المراد بقوله : {عَبْدًا مَّمْلُوكًا} عبد معين ، وقيل : هو عبد لعثمان بن عفان ، وحملوا قوله : {وَمَن رَّزَقْنَـاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} على عثمان خاصة.
والقول الثالث : أنه عام في كل عبد بهذه الصفة وفي كل حر بهذه الصفة ، وهذا القول هو الأظهر ، لأنه هو الموافق لما أراده الله تعالى في هذه الآية ، والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً.
فإن قالوا : ظاهر الآية يدل على أن عبداً من العبيد لا يقدر على شيء ، فلم قلتم : إن كل عبد كذلك ؟
فنقول : الذي يدل عليه وجهان : الأول : أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وكونه عبداً وصف مشعر بالذل والمقهورية. وقوله : {لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} حكم مذكور عقيبه فهذا يقتضي أن العلة لعدم القدرة على شيء هو كونه عبداً ، وبهذا الطريق يثبت العموم. الثاني : أنه تعالى قال بعده : {وَمَن رَّزَقْنَـاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول وهو العبد بهذه الصفة وهو أنه يرزقه رزقاً ، فوجب أن لا يحصل هذا الوصف للعبد حتى يحصل الامتياز بين القسم الثاني وبين القسم الأول ، ولو ملك العبد لكان الله قد آتاه رزقاً حسناً ، لأن الملك الحلال رزق حسن سواء كان قليلاً أو كثيراً. فثبت بهذين الوجهين أن ظاهر الآية يقتضي أن العبد لا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً. ثم اختلفوا / فروي عن ابن عباس وغيره التشدد في ذلك حتى قال : لا يملك الطلاق أيضاً. وأكثر الفقهاء قالوا يملك الطلاق إنما لا يملك المال ولا ما له تعلق بالمال. واختلفوا في أن المالك إذا ملكه شيئاً فهل يملكه أم لا ؟
وظاهر الآية ينفيه ، بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : لم قال : {مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} وكل عبد فهو مملوك وغير قادر على التصرف ؟
(1/2739)

قلنا : أما ذكر المملوك فليحصل الامتياز بينه وبين الحر لأن الحر قد يقال : إنه عبد الله ، وأما قوله : {لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} قد يحصل الامتياز بينه وبين المكاتب وبين العبد المأذون ، لأنهما لا يقدران على التصرف.
السؤال الثاني : {مِّنْ} في قوله : {وَمَن رَّزَقْنَـاهُ} ما هي ؟
جزء : 20 رقم الصفحة : 248
قلنا : الظاهر إنها موصوفة كأنه قيل : وحراً ورزقناه ليطابق عبداً ، ولا يمتنع أن تكون موصولة.
السؤال الثالث : لم قال : {يَسْتَوُانَ } على الجمع ؟
قلنا : معناه هل يستوي الأحرار والعبيد. ثم قال : {الْحَمْدُ لِلَّه } وفيه وجوه : الأول : قال ابن عباس : الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. والثاني : المعنى أن كل الحمد لله ، وليس شيء من الحمد للأصنام ، لأنها لا نعمة لها على أحد. وقوله : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني أنهم لا يعلمون أن كل الحمد لله وليس شيء منه للأصنام. الثالث : قال القاضي في "التفسير" : قال الرسول عليه الصلاة والسلام : {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه } ويحتمل أن يكون خطاباً لمن رزقه الله رزقاً حسناً أن يقول : الحمد لله على أن ميزه في هذه القدرة عن ذلك العبد الضعيف. الرابع : يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى لما ذكر هذا المثل ، وكان هذا مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال بعده : {الْحَمْدُ لِلَّه } يعني الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة. ثم قال : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني أنها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها لا يعلمها ولا يفهمها هؤلاء الضلال.
جزء : 20 رقم الصفحة : 248
257
/ اعلم أنه تعالى أبطل قول عبدة الأوثان والأصنام بهذا المثل الثاني ، وتقريره : أنه كما تقرر في أوائل العقول أن الأبكم العاجز لا يكون مساوياً في الفضل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية ، فلان يحكم بأن الجماد لا يكون مساوياً لرب العالمين في المعبودية كان أولى ، ثم نقول : في الآية مسألتان :
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
المسألة الأولى : أنه تعالى وصف الرجل الأول بصفات :
الصفة الأولى : الأبكم وفي تفسيره أقوال نقلها الواحدي. الأول : قال أبو زيد رجل أبكم ، وهو العيي المقحم ، وقد بكم بكماً وبكامة ، وقال أيضاً : الأبكم الأقطع اللسان وهو الذي لا يحسن الكلام. الثاني : روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأبكم الذي لا يعقل. الثالث : قال الزجاح : الأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يبصر.
الصفة الثانية : قوله : {لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل.
والصفة الثالثة : قوله : {كَلٌّ عَلَى مَوْلَـاهُ} أي هذا الأبكم العاجز كل على مولاه. قال أهل المعاني : أصله من الغلظ الذي هو نفيض الحدة. يقال : كل السكين إذا غلظت شفرته فلم يقطع ، وكل لسانه إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه. فقوله : {كَلٌّ عَلَى مَوْلَـاهُ} أي غليظ وثقيل على مولاه.
الصفة الرابعة : قوله : {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ } أي أينما يرسله ، ومعنى التوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق. يقال : وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه. وقوله : {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ } معناه لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم. ثم قال تعالى : {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} أي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع : {وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } واعلم أن الآر بالعدل يجب أن يكون موصوفاً بالنطق وإلا لم يكن آمراً ويجب أن يكون قادراً ، لأن الأمر مشعر بعلو المرتبة وذلك لا يحصل إلا مع كونه قادراً ، ويجب أن يكون عالماً حتى يمكنه التمييز بين العدل وبين الجور. فثبت أن وصفه بأنه يأمر بالعدل يتضمن وصفه بكونه قادراً عالماً ، وكونه آمراً يناقض كون الأول أبكم ، وكونه قادراً يناقض وصف الأول بأنه لا يقدر على شيء وبأنه كل على مولاه ، وكونه عالماً يناقض وصف الأول بأنه لا يأت بخير.
ثم قال تعالى : {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} معناه كونه عادلاً مبرأ عن الجور والعبث.
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر في بديهة العقل أن الأول والثاني لا يستويان ، فكذا ههنا والله أعلم.
/ المسألة الثانية : في المراد بهذا المثل أقوال كما في المثل المتقدم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
فالقول الأول : قال مجاهد : كل هذا مثل إله الخلق وما يدعى من دونه من الباطل. وأما الأبكم فمثل الصنم ، لأنه لا ينطق ألبتة وكذلك لا يقدر على شيء ، وأيضاً كل على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه ، وأيضاً إلى أي مهم توجه الصنم لم يأت بخير ، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه وتعالى.
والقول الثاني : أن المراد من هذا الأبكم : هو عبد لعثمان بن عفان كان ذلك العبد يكره الإسلام ، وما كان فيه خير ، ومولاه وهو عثمان بن عفان كان يأمر بالعدل ؛ وكان على الدين القويم والصراط المستقيم.
(1/2740)

والقول الثالث : أن المقصود منه : كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة ، وهذا القول أولى من القول الأول ، لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن ، وكذلك بالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى ، وأيضاً فالمقوصد تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور ، وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى.
وأما القول الثاني : فضعيف أيضاً ، لأن المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة ، وذلك غير مختص بشخص معين ، بل أيما حصل التفاوت في الصفات المذكورة حصل المقصود. والله أعلم.
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى مثل الكفار بالأبكم العاجز ، ومثل نفسه بالذي يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم ، ومعلوم أنه يمتنع أن يكون آمراً بالعدل ، وأن يكون على صراط مستقيم إلا إذا كان كاملاً في العلم والقدرة ، وذكر في هذه الآية بيان كونه كاملاً في العلم والقدرة ، أما بيان كمال العلم فهو قوله : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } والمعنى : علم الله غيب السموات والأرض وأيضاً فقوله : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } يفيد الحصر معناه : أن العلم بهذه الغيوب ليس إلا الله وأما بيان كمال القدرة فقوله : {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الإنسان في ساعة فيموت الخلق بصيحة واحدة ، وقوله : {إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} اللمح النظر بسرعة يقال لمحه ببصره لمحاً ولمحاناً ، والمعنى : وما أمر قيام القيامة في السرعة إلا كطرف العين ، والمراد منه تقرير كمال القدرة ، وقوله : {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } معناه أن لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، ولا شك أن الحدقة مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف سطح الحدقة ، ولا شك أن تلك الأجزاء كثيرة ، والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة ، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلهذا قال : {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } تنبيهاً على ما ذكرناه ، ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك ، بل المراد. بل هو أقرب ، وقال الزجاج : المراد به الإبهام عن المخاطبين أنه تعالى يأتي بالساعة إما بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع. قال القاضي : هذا لا يصح ، لأن إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال إنه تعالى يأتي بها في زمان ، بل الواجب أن يخلقها دفعة واحدة في وقت واحد ، ويفارق ما ذكرناه في ابتداء خلق السموات والأرض لأن تلك الحال حال تكليف ، فلم يمتنع أن يخلقهما كذلك لما فيه من مصحلة الملائكة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
واعلم أن هذا الاعتراض إنم يستقيم على مذهب القاضي ، أما على قولنا في أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فليس له قوة والله أعلم ، ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فقال : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي {أُمَّهَـاتِكُمْ} بكسر الهمزة ، والباقون بضمها.
المسألة الثانية : أمهاتكم أصله أماتكم ، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل : إهراق وشذت زيادتها في الواحدة في قوله :
أمهتي خندف واليأس أبي
المسألة الثالثة : الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ } والمعنى : أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله ، فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم ، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول : التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية ، وإما أن تكون بديهية ، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات ، فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية ، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه العلوم البديهية إما أن يقال إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة. والأول باطل لأنا بالضرورة نعلم أن حين كنا جنيناً في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء.
وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة ، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكل ما كان كسبياً فهو مسبق بعلوم أخرى ، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ، ويجب أنت كون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وكل ذلك محال ، وهذا سؤال قوي مشكل.
وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا. ثم إنها حدثت وحصلت ، أما قوله فيلزم أن تكون كسبية.
(1/2741)

قلنا : هذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : أنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر ، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ، فإذا أبصر الطفل شيئاً مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر ، وكذلك إذا سمع شيئاً مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا القول في سائر الحواس ، فيصير حصول الحواس سبباً لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين : أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجباً تاماً في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو ، / وأن نصف الاثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو ، فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث ، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة. والحاصل : أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية ، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها. وحدوث هذه التصورات إنما كن بسبب إعانة هذه الحواس على جزيئاتها ، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس. فلهذا السبب قال تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ } ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه ، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات. وقال المفسرون : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} لتسمعوا مواعظ الله {وَالابْصَـارَ} لتبصروا دلائل الله ، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله ، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب. قال الزجاح : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد ، وما قيل فيه فئدان كما قيل : غراب وغربان. وأقول : لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيهاً على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل ، لأن الفوائد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة.
فإن قيل : قوله تعالى : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ} عطف على قوله : {أَخْرَجَكُم} وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج من البطن ، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجاب : أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ؛ وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال ، والله أعلم.
أما قوله : {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّه } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : {أَلَمْ تَرَوْا } بالتالء والباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
المسألة الثانية : هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ، فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك فإنه تعالى / أعطى الطير جناحاً يبسطه مرة ويكسره أخرى مثل ما يعمله السابح في الماء ، وخلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً. وأما قوله تعالى : {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّه } فالمعنى : أن جسد الطير جسم ثقيل ، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقاً من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه ، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجو هو الله تعالى ، ثم من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقاً فعله وحاصل باختياره ، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى. قال القاضي : إنما أضاف الله تعالى هذا الإمساك إلى نفسه ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات التي لأجلها يمكن الطير من تلك الأفعال ، فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه الإضافة إلى الله تعالى.
والجواب : أن هذا ترك للظاهر بغير دليل وأنه لا يجوز ، لا سيما والدلائل العقلية دلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
ثم قال تعالى في آخر الآية : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وخص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء. والله أعلم.
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد ، وأقسام النعم والفضل ، والسكن المسكن ، وأنشد الفراء :
جاء الشتاء ولما اتخذ سكناً
يا ويح كفي من حفر القراميص
(1/2742)

والسكن ما سكنت إليه وما سكنت فيه. قال صاحب "الكشاف" : السكن فعل بمعنى مفعول ، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو ألف.
واعلم أن البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين :
القسم الأول : البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت ، / وإليها الإشارة بقوله : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنا بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقله ، بل الإنسان ينتقل إليه.
والقسم الثاني : القباب والخيام والفساطيط ، وإليها الإشارة بقوله : {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الانْعَـامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } وهذا القسم من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى مكان. واعلم أن المراد الأنطاع ، وقد تعمل العرب البيوت من الأدم وهي جلود الأنعام أي يخف عليكم حملها في أسفاركم. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} بفتح العين والباقون ساكنة العين. قال الواحدي : وهما لغتان كالشعر والشعر والنهر والنهر.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
واعلم أن الظعن سير البادية لنجعة ، أو حضور ماء ، أو طلب مرتع ، وقد يقال لكل شاخص لسفر : ظاعن ، وهو ضد الخافض. وقوله : {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } بمعنى لا يثقل عليكم في الحالين. وقوله : {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} قال المفسرون وأهل اللغة : الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز. وقوله : {أَثَـاثًا} الأثاث أنواع متاح البيت من الفرش والأكسية. قال الفراء : ولا واحد له ، كما أن المتاع لا واحد له. قال : ولو جمعت ، فقلت : آثثة في القليل وأثث في الكثير لم يبعد. وقال أبو زيد : واحدها أثاثة. قال ابن عباس في قوله : {أَثَـاثًا} يريد طنافس وبسطاً وثياباً وكسوة. قال الخليل : وأصله من قولهم : أث النبات والشعر إذا كثر. وقوله : {مَّتَـاعًا} أي ما يتمتعون به. وقوله : {إِلَى حِينٍ} يريد إلى حين البلا ، وقيل : إلى حين الموت. وقيل : إلى حين بعد الحين ، وقيل : إلى يوم القيامة.
فإن قيل : عطف المتاع على الأثاث والعطف يقتضي المغايرة ، وما الفرق بين الأثاث والمتاع ؟
قلنا : الأقرب أن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء ، والمتاع ما يفرش في المنازل ويزين به.
/ اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيماً أو مسافراً ، والمسافر إما أن يكون غنياً يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط ، أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة :
أما القسم الأول : فإليه الإشارة بقوله : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنا بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} .
وأما القسم الثاني : فإليه الإشارة بقوله : {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الانْعَـامِ بُيُوتًا} وأما القسم الثالث : فإليه الإشارة بقوله : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـالا} وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لا بد وأن يستظل بشيء آخر كالجدران والأشجار وقد يستظل بالغمام كما قال : {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} (البقرة : 57).
ثم قال : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـانًا} واحد الأكنان عن على قياس أحمال وحمل ، ولكن المراد كل شيء وقى شيئاً ، ويقال استكن وأكن إذا صار في كن.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر ، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة ، وأيضاً البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جداً والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد. وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه ، فكان الإنعام بتحصيله عظيماً ، ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكر بعده أمر الملبوس فقال : {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } السرابيل القمص واحدها سربال ، قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره ، والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين : أحدهما : ما يكون واقياً من الحر والبرد. والثاني : ما يتقى به عن البأس والحروب ، وذلك هو الجوشن وغيره ، وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل.
فإن قيل : لم ذكر الحر ولم يذكر البرد ؟
أجابوا عنه من وجوه :
الوجه الأول : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال : {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} (النحل : 80) وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه تعالى ذلك ذلك النوع لأنه كان إلفتهم بها أشد ، واعتيادهم للبسها / أكثر ، ولذلك قال : {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنا بَرَدٍ} (النور : 43) لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه.
(1/2743)

والوجه الثاني : في الجواب قال المبرد : إن ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر ، قلت ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر ، فإن الإنسان متى خطر بباله الحر خطر بباله أيضاً البرد ، وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض ، فلما كان الشعور بأحدهما مستتبعاً للشعور بالآخر ، كان ذكر أحدها مغنياً عن ذكر الآخر.
والوجه الثالث : قال الزجاج : ما وقى من الحر وقى من البرد ، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر.
فإن قيل : هذا بالضد أولى ، لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف زيادة ، وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكليف زائد.
قلنا : القميص الواحد لما كان دافعاً للحر كان الاستكثار من القميص دافعاً للبرد فصح ما ذكرناه ، وقوله : {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } يعني دروع الحديد ، ومعنى البأس الشدة ويريد ههنا شدة الطعن والضرب والرمي.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
واعلم أنه تعالى لما عدد أقسام نعمة الدنيا قال : {كَذَالِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ} أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم : {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} قال ابن عباس : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية ، وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه ، ونقل عن ابن عباس أنه قرأ : {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} بفتح التاء ، والمعنى : أنا أعطيناكم هذه السرابيلات لتسلموا عن بأس الحرب ، وقيل أعطيتكم هذه النعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
ثم قال تعالى : {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} أي فإن تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر فعلى أنفسهم جنوا ذلك ، وليس عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام ، ثم إنه تعالى ذمهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وذلك نهاية في كفران النعمة.
فإن قيل : ما عنى ثم ؟
قلنا : الدلالة على أن إنكارهم أمر يستبعد بعد حصول المعرفة ، لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر. وفي المراد بهذه النعمة وجوه : الأول : قال القاضي : المراد بها جميع ما ذكره الله تعالى في الآيات المتقدمة من جميع أنواع النعم ؛ ومعنى أنهم أنكروه هو أنهم ما أفردوه تعالى بالشكر والعبادة ، بل شكروا على تلك النعم غير الله تعالى ولأنهم قالوا : إنما حصلت هذه النعم بشفاعة / هذه الأصنام. والثاني : أن المراد أنهم عرفوا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم حق ثم ينكرونها ، ونبوته نعمة عظيمة كما قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} . الثالث : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، أي لا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى.
ثم قال تعالى : {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ} .
فإن قيل : ما معنى قوله ؛ {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ} مع أنه كان كلهم كافرين.
قلنا : الجواب من وجوه : الأول : إنما قال : {وَأَكْثَرُهُمُ} لأن كان فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن لم يبلغ حد التكليف أو كان ناقص العقل معتوهاً ، فأردا بالأكثر البالغين والأصحاء. الثاني : أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند ، وحينئذ نقول إنما قال : {وَأَكْثَرُهُمُ} لأنه كان فهيم من لم يكن معانداً بل كان جاهلاً بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام وما ظهر له كونه نبياً من عند الله. الثالث : أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع ، لأن أكثر الشيء يقوم مقام الكل ، فذكر الأكثر كذكر الجميع ، وهذا كقوله : {الْحَمْدُ لِلَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (لقمان : 25) والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
(1/2744)

اعلم أنه تعالى لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضاً من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد ، فذكر حال يوم القيامة فقال : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإنكار وبذلك الكفر ، والمراد بهؤلاء الشهداء الأنبياء كما قال تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) وقوله : {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } فيه وجوه : أحدها : لا يؤذن لهم في الاعتذار لقوله : {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات : 36). وثانيها : لا يؤذن لهم في كثرة الكلام. وثالثها : لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكلف. ورابعها : لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود ، بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود. وخامسها : لا يؤذن لهم في كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم / آيسين من رحمة الله تعالى. ثم قال : {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} الاستعتاب طلب العتاب ، والرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان على جزم أنه إذا عاتبه رجع إلى الرضا ، فإذا لم يطلب العتاب منه دل على أنه راسخ في غضبه وسطوته ، ثم إنه تعالى أكد هذا الوعيد فقال : {وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} والمعنى أن المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه ، فعند ذلك لا يخفف عنهم العذاب {وَلا هُمْ} أيضاً {يُنظَرُونَ} أي لا يؤخرون ولا يمهلون ، لأن التوبة هناك غير موجودة ، وتحقيقه ما يقوله المتكلمون من أن العذاب يجب أن يكون خالصاً عن شوائب النفع ، وهو المراد من قوله : {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} (البقرة : 162) ويجب أن يكون العذاب دائماً وهو المراد من قوله : {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} .
اعلم أن هذا أيضاً من بقية وعيد المشركين ، وفي الشركاء قولان :
القول الأول : أنه تعالى يبعث الأصنام التي كان يعبدها المشركون ، والمقصود من إعادتها أن المشركين يشاهدونها في غاية الذلة والحقارة. وأيضاً أنها تكذب المشركين ، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم ، وإنما وصفهم الله بكونهم شركاء لوجهين : الأول : أن الكفار كانوا يسمونها بأنها شركاء الله. والثاني : أن الكفار جعلوا لهم نصيباً من أموالهم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
والقول الثاني : أن المراد بالشركاء الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر ، وهو قول الحسن ، وإنما ذهب إلى هذا القول ، لأنه تعالى حكى عن أولئك الشركاء أنهم ألقوا إلى الذين أشركوا إنهم لكاذبون ، والأصنام جمادات فلا يصح منهم هذا القول ، فوجب أن يكون المراد من الشركاء الشياطين حتى يصح منهم هذا القول وهذا بعيد ، لأنه تعالى قادر على خلق الحياة في تلك الأصنام وعلى خلق العقل والنطق فيها ، وحينئذ يصح منها هذا القول ، ثم حكى تعالى عن المشركين أنهم إذا رأوا تلك الشركاء قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك.
فإن قيل : فما فائدتهم في هذا القول ؟
/ قلنا : فيه وجهان : الأول : قال أبو مسلم الأصفهاني : مقصود المشركين إحالة الذنب على هذه الأصنام وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم/ فعند هذا تكذبهم تلك الأصنام. قال القاضي : هذا بعيد ، لأن الكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم وأنه لا نصرة ولا فدية ولا شفاعة.
والقول الثاني : أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجباً من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافاً بأنهم كانوا مخطئين في عبادتها. ثم حكى تعالى أن الأصنام يكذبونهم ، فقال : {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَـاذِبُونَ} والمعنى : أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول ، وقوله : {إِنَّكُمْ لَكَـاذِبُونَ} بدل من القول ، والتقدير : فألقوا إليهم إنكم لكاذبون.
فإن قيل : إن المشركين ما قالوا إلا أنهم لما أشاروا إلى الأصنام قالوا : إن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك وقد كانوا صادقين في كل ذلك ، فكيف قالت الأصنام إنكم لكاذبون ؟
.
قلنا : فيه وجوه : والأصح أن يقال المراد من قولهم هؤلاء شركاؤنا هو أن هؤلاء الذين كنا نقول إنهم شركاء الله في المعبودية ، فالأصنام كذبوهم في إثبات هذه الشركة. وقيل : المراد إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة ويدل عليه قوله تعالى : {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} (مريم : 82).
ثم قال تعالى : {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَـاـاِذٍ السَّلَمَ } قال الكلبي : استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد : {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} وفيه وجهان : وقيل : ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان من أن لله شريكاً وصاحبة وولداً. وقيل : بطل ما كانوا يأملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
(1/2745)

257
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين كفروا ، أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد الغير عن سبيل الله. وفي تفسير قوله : {وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وجهان : قيل : معناه الصد عن المسجد الحرام ، والأصح أنه يتناول جملة الإيمان بالله والرسول وبالشرائع ، لأن اللفظ عام فلا معنى للتخصيص/ وقوله : {زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} فالمعنى أنهم زادوا على كفرهم صد غيرهم عن الإيمان فهم في الحقيقة ازدادوا كفراً على كفر ، فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذاباً على عذاب ، وأيضاً أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر ، فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } (العنكبوت : 13) ولقوله عليه السلام : "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ، ومن المفسرين من ذكر تفصيل تلك الزيادة فقال ابن عباس : المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنهار ، وقال بعضهم زدناهم عذاباً بحيات وعقارب كأمثال البخث ، فيستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر لكل عقرب ثلثمائة فقرة في ثلثمائة قلة من سلم. وقيل : عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
ثم قال تعالى : {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} أي هذه الزيادة من العذاب إنما حصلت معللة بذلك الصد ، وهذا يدل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال فقد عظم عذابه ، فكذلك إذا دعا إلى الدين واليقين ، فقد عظم قدره عند الله تعالى والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 257
258
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي. واعلم أن الأمة عبارة عن الفرن والجماعة.
إذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان : الأول : أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته. والثاني : أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيداً عليهم. أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهو الرسول بدليل قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة : 143) وثبت أيضاً أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد فحصل من هذا أن عصراً من الإعصار لا يخلو/ من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ ، وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل ، فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة. قال أبو بكر الأصم : المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشهد عليه وهي : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. قال : والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم.
أجاب القاضي عنه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : {شَهِيدًا عَلَيْهِم} أي على الأمة فيجب أن يكون غيرهم. الثاني : أنه قال : {مِن كُلِّ أُمَّةٍ} فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمة ، وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد ، وذلك لأن كونهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.
ثم قال تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله أنه تعالى لما قال : {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـا ؤُلاءِ } بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 258
المسألة الثانية : من الناس من قال : القرآن تبيان لكل شيء وذلك لأن العلوم إما دينية أو غير دينية ، أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلق لها بهذه الآية ، لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه ، وأما علوم الدين فإما الأصول ، وإما الفروع ، أما علم الأصول فهو بتمامه موجود في القرآن وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب ، وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن ، وإذا كان كذلك كان القول بالقياس باطلاً ، وكان القرآن وافياً ببيان كل الأحكام ، وأما الفقهاء فإنهم قالوا : القرآن إنما كان تبياناً لكل شيء ، لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة ، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأوصل كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن ، وهذه المسألة قد سبق ذكرها بالاستقصاء في سورة الأعراف ، والله أعلم.
(1/2746)

المسألة الثالثة : روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال : تبياناً في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء ، وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين أنهم قالوا : لم يأت من المصادر على تفعل إلا حرفان تبياناً وتلقاء/ وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت : في كل/ مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار ، وقلت : في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال.
جزء : 20 رقم الصفحة : 258
263
واعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب أتبعه بقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ} فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضاً ونفلاً ، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان فضائل هذه الآية روي عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أولاً إلا حياء من محمد عليه السلام ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ، ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال : "بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن يميني فقال : يا محمد إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان القيام بالفراض وإيتاء ذي القربى ، أي صلة ذي القرابة وينهى عن الفحشاء والزنا ، والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي الاستطالة". قال عثمان : فوقع الإيمان في قلبي فأتيت أبا طالب فأخبرته فقال : يا معشر قريش اتبعوا ابن أخي ترشدوا ولئن كان صادقاً أو كاذباً فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من عمه اللين قال : يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك وجهد عليه ، فأبى أن يسلم فنزل قوله : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص : 56) وعن ابن مسعود رضي الله عنه : إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية ، وعن قتادة ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحب إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية وليس من خلق سيء إلا نهى الله عنه في هذه الآية ، وروى القاضي في "تفسيره" عن ابن ماجه عن علي عليه السلام أنه قال : أمر الله تعالى نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، فخرج وأنا معه وأبو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار فقال أبو بكر : ممن القوم ؟
فقالوا : من شيبان بن ثعلبة فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الشهادتين وإلى أن ينصروه فإن قريشاً كذبوه فقال/ مقرون بن عمرو : إلام تدعونا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ} الآية فقال مقرون بن عمرو : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ، وعن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية على الوليد فاستعاده ، ثم قال : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 263
المسألة الثانية : في تفسير هذه الآية ، أكثر الناس في تفسير هذه الآية قال ابن عباس في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا اًّ ، والإحسان أداء الفرائض وقال في رواية أخرى : العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك فإن كان مؤمناً أحببت أن يزداد إيماناً ، وإن كان كافراً أحببت أن يصير أخاك في الإسلام. وقال في رواية ثالثة : العدل هو التوحيد والإحسان الإخلاص فيه. وقال آخرون : يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال ، فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وقوله : {وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى } يريد صلة الرحم بالمال فإن لم يكن فبالدعاء ، روى أبو مسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم إن أهل البيت لكونوا فجاراً فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم" وقوله : {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ} قيل : الزنا ، وقيل : البخل ، وقيل : كل الذنوب سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وسواء كانت في القول أو في الفعل ، وأما المنكر فقيل : إنه الكفر بالله تعالى ، وقيل : المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، وأما البغي فقيل : الكبر والظلم ، وقيل : أن تبغي على أخيك.
جزء : 20 رقم الصفحة : 263
(1/2747)

واعلم أن في المأمورات كثرة وفي المنهيات أيضاً كثرة ، وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة. أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً ، فإذا فسرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى ، ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى ، فلما لم نبين هذا المعنى كان ذلك مجرد التحكم ، ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس ، فثبت أن هذه الوجود التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية ، وأقول ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء ، وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن ثلاثة أشياء هي : الفحشاء ، والمنكر ، والبغي فوجب أن يكون العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر والبغي ثلاثة أشياء متغايرة ، لأن العطف يوجب المغايرة فنقول : / أما العدل فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء ، ولا بد من تفصيل القول فيه فنقول : الأحوال التي وقع التكليف بها إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح. أما الاعتقادات : فالعدل في كلها واجب الرعاية فأحدها : قال ابن عباس : إن المراد بالعدل هو قول لا إله إلا الله ، وتحقيق القول فيه أن نفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتشبيه وهما مذمومان ، والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول لا إله إلا الله. وثانيها : أن القول بأن الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محض ، والقول بأنه جسم وجوهر مركب من الأعضاء ، ومختص بالمكان تشبيه محض ، والعدل إثبات إله موجود متحقق بشرط أن يكون منزهاً عن الجسمية والجوهرية والأعضاء والأجزاء والمكان ، وثالثها : أن القول بأن الإله غير موصوف بالصفات من العلم والقدرة تعطيل محض ، والقول بأن صفاته حادثة متغيرة تشبيه محض. والعدل هو إثبات أن الإله عالم قادر حي مع الإعتراف بأن صفاته ليست حادثة ولا متغيرة. ورابعها : أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض ، والقول بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض وهما مذمومان ، والعدل أن يقال : إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه ، وخامسها : القول أن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه تعالى يخلد في النار عبده العارف بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار كل من قال واعتقد أنه لا إله إلا الله ، فهذه أمثلة ذكرناها في رعاية معنى العدل في الاعتقادات ، وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح ، فنذكر ستة أمثلة منها : أحدها : أن قوماً من نفاة التكاليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي ، وليس لله عليه تكليف أصلاً وقال قوم من الهند ؛ ومن المانوية إنه يجب على الإنسان أن يجتنب عن كل الطيبات وأن يبالغ في تعذيب نفسه وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى أن المانوية يخصون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ويحترزون عن أكل الطعام الطيب والهند يحرقون أنفسهم ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل ، فهذان الطريقان مذمومان ، والوسط المعتدل هو هذا الشرع الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلّم. وثانيها : أن التشديد في دين موسى عليه السلام غالب جداً ، والتساهل في دين عيسى عليه السلام غالب جداً والوسط العدل شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم. قيل : كان شرع موسى عليه السلام في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة ، وفي شرع عيسى عليه السلام العفو. أما في شرعنا فإن شاء استوفى القصاص على سبيل المماثلة ، وإن شاء استوفى الدية وإن شاء عفا ، وأيضاً شرع موسى يقتضي/ الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض ، والعدل ما حكم به شرعنا وهو أنه محرم وطؤها احترازاً عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة أما لا يجب إخراجها عن الدار. وثالثها : أنه تعالى قال :
جزء : 20 رقم الصفحة : 263
(1/2748)

{وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) يعني متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور ، وقال : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} (الفرقان : 67) وقال : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء : 29) ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في العبادات قال تعالى : {طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى } (طه : 1 ، 2) ولما أخذ قوم في المساهلة قال : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون : 115) والمراد من الكل رعاية العدل والوسط. ورابعها : أن شريعتنا أمرت بالختان ، والحكمة فيه أن رأس العضو جسم شديد الحس ولأجله عظم الالتذاذ عند الوقاع ، فلو بقيت الجلدة على ذلك العضو بقي ذلك العضو على كمال القوة وشدة الإحساس فيعظم الإلتذاذ أما إذا قطعت تلك الجلدة وبقي ذلك العضو عارياً فيلقى الثياب وسائر الأجسام فيتصلب ويضعف حسه ويقل شعوره فيقل الالتذاذ بالوقاع فتقل الرغبة فيه ، فكأن الشريعة إنما أمرت بالختان سعياً في تقليل تلك اللذة ، حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال ، وأن لا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع ، فالإخصاء وقطع الآلات على ما تذهب إليه المانوية مذموم لأنه إفراط ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة ، والعدل الوسط هو الإتيان بالختان ، فظهر بهذه الأمثلة أن العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال ، ومن الكلمات المشهورة قولهم : وبالعدل قامت السموات والأرض ، ومعناه : أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة ، بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر ، لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب ، وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن ، لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما في هذا العالم ، ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها ، فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم : وبالعدل قامت السموات والأرض ، فهذه إشارة مختصرة إلى شرح حقيقة العدل. وأما الإحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون إحساناً وقد تكون إساءة مثاله : أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات أما الزيادة على الواجبات فهي أيضاً طاعات وذلك من باب الإحسان ، وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الإحسان. والدليل عليه : أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الإحسان قال : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 263
فإن قالوا : لم سمي هذا المعنى بالإحسان ؟
.
قلنا : كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن إلى نفسه ويوصل الخير والفعل الحسن إلى نفسه/ والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات ، والإحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ، وبحسب الدواعي والصوارف ، وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية ، فهذا هو الإحسان.
(1/2749)

واعلم أن الإحسان بالتفسير الذي دكرنا دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ، ومن الظاهر أن الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة وأشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال : {وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى } فهذا تفصيل القول في هذه الثلاثة التي أمر الله تعالى بها. وأما الثلاثة التي نهى الله عنها ، وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول : إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة ، وهي الشهوانية البهيمية والعصبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه القوة الرابعة أعني العقلية الملكية لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها ، لأنها من جواهر الملائكة ، ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية ، إنما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأولى. أما القوة الشهوانية ، فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية ، وهذا النوع مخصوص باسم الفحش ، إلا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال : {إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلا} (النساء : 22) فقوله تعالى : {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ} المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة ، وأما القوة الغضبية السبعية فهي : أبداً تسعى في إيصال الشر والبلاء والإيذاب إلى سائر الناس ، ولا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة ، فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية. وأما القوة الوهمية الشيطانية فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم ، وذلك هو المراد من البغي ، فإنه لا معنى للبغي إلا التطاول على الناس والترفع عليهم ، فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة ، ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية ، وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية. والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ، ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ، ثم بالبغي الذي هو نتيجة القوة الوهمية ، فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ ، فإن يك صواباً فمن الرحمن ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان والحمد لله على ما خصنا بهذا النوع من الفضل والإحسان إنه الملك الديان.
جزء : 20 رقم الصفحة : 263
ثم قال تعالى : {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والمراد بقوله تعالى : {يَعِظُكُمْ} أمره تعالى بتلك الثلاثة ونهيه عن هذه الثلاثة : {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ} (النحل : 89) أردفه بهذه الآية مشتملة على الأمر بهذه الثلاثة ، والنهي عن هذه الثلاثة ، كان ذك تنبيهاً على أن المراد بكون القرآن تبياناً لكل شيء هو هذه التكاليف الستة وهي في الحقيقة كذلك ، لأن جوهر النفس من زمرة الملائكة ومن نتائج الأرواح العالية القدسية إلا أنه دخل في هذا العالم خالياً عارياً عن التعلقات فتلك الثلاثة التي أمر الله بها هي التي ترقيها بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة ، وتلك المعارف والأعمال هي التي ترقيها إلى عالم الغيب وسرادقات القدس ، ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين ، وتلك الثلاثة التي نهى الله عنها هي التي تصدها عن تلك السعادات وتمنعها عن الفوز بتلك الخيرات ، فلما أمر الله تعالى بتلك الثلاثة/ ونهى عن هذه الثلاثة فقد نبه على كل ما يحتاج إليه المسافرون من عالم الدنيا إلى مبدأ عرصة القيامة.
(1/2750)

المسألة الثانية : قال الكعبي : الآية تدل على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء ، وذلك من وجوه : الأول : أنه تعالى كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم ، وكيف ينهى عما يريد تحصيله فيهم ولو كان الأمر كما قالوا لكان كأنه تعالى قال : إن الله يأمركم أن تفعلوا خلاف ما خلقه فيكم وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ، ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل. والثاني : أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فلو أنه تعالى أمر بتلك الثلاثة ثم إنه ما فعلها لدخل تحت قوله : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} (البقرة : 2 ، 3). الثالث : أن قوله : {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ليس المراد منه الترجي والتمني ، فإن ذلك محال على الله تعالى ، فوجب أن يكون معناه أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكروا طاعته ، وذلك يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل. الرابع : أنه تعالى لو صرح وقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ولكنه تمنع منه ويصد عنه ولا يمكن العبد منه. ثم قال : {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ } ولكنه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى وأراده منه ومنعه من تركه ، ومن الاحتراز عنه لحكم كل أحد عليه بالركاكة وفساد النظم والتركيب ، وذلك يدل على كونه سبحانه متعالياً عن فعل القبائح.
جزء : 20 رقم الصفحة : 263
واعلم أن هذا النوع من الاستدلال كثير ، وقد مر الجواب عنه والمعتمد في دفع هذه المشاغبات التعويل على سؤال الداعي وسؤال العلم والله أعلم.
المسألة الثالثة : اتفق المتكلمون من أهل السنة ومن المعتزلة على أن تذكر الأشياء من فعل/ لله لا من فعل العبد ، والدليل عليه هو أن التذكرة عبارة عن طلب المتذكر فحال الطلب إما أن يكون له به شعور أو لا يكون له به شعور. فإن كان له شعور فذلك الذكر حاصل ، والحاصل لا يطلب تحصيله. وإن لم يكن له به شعور فكيف يطلبه بعينه ، لأن توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون هو بعينه متصوراً محال.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} معناه أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكر ، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له فكيف طلب منه تحصيله ، وهذا هو الذي يحتج به أصحابنا على أن قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لا يدل على أنه تعالى يريد منه ذلك ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 263
265
اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام ، فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير قوله : {بِعَهْدِ اللَّهِ} وجوهاً : الأول : قال صاحب "الكشاف" : عهد الله هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (الفتح : 10) أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها ، أي بعد توثيقها باسم الله. الثاني : أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس : والوعد من العهد ، وقال/ ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلماً كان أو كافراً فإنما العهد صلى الله عليه وسلّم تعالى. الثالث : قال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق. الرابع : عهد الله هو اليمين بالله ، وقال هذا القائل : إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه ، لأنه عليه السلام قال : "من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر". الخامس : قال القاضي : العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ، ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف ، ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء.
(1/2751)

ولقائل أن يقول : إنه تعالى قال : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَـاهَدتُّمْ} فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله : {إِذَا عَـاهَدتُّمْ} يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبراً ولأنه تعالى قال في آخر الآية : {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا } وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول ، وأيضاً يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين ، لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك : {وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} تكراراً لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ، لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين ، ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيهاً على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية ، وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلتزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد ، وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات ، والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين ، وفي قوله : {وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} مباحث :
جزء : 20 رقم الصفحة : 265
البحث الأول : قال الزجاج : يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل منها.
البحث الثاني : قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : يمين اللغو هي يمين الغموس ، والدليل عليه أنه تعالى قال : {وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان/ فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان. واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب لا والله وبلى والله. قال إنما قال تعالى : {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين.
البحث الثالث : قوله : {وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} عام دخله التخصيص ، لأنا بينا/ أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها.
ثم قال : {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا } هذه واو الحال ، أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالوفاء ، وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلاً بالوفاء بسبب ذلك الحلف.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وفيه ترغيب وترهيب ، والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم إنه تعالى أكد وجوب الوفاء ، وتحريم النقض وقال : {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في المشبه به قولان :
القول الأول : أنها امرأة من قريش يقال لها رايطة ، وقيل ريطة ، وقيل تلقب جعراء وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها فإذا غزلت وأبرمت أمرتهن فنقضن ما غزلن.
والقول الثاني : أن المراد بالمثل الوصف دون التعين ، لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحاً ، والدعاء إليه إذا كان حسناً ، وذلك يتم به من دون التعيين.
المسألة الثانية : قوله : {مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ} أي من به قوة الغزل بإبرامها وفتلها.
المسألة الثالثة : قوله : {أَنكَـاثًا} قال الأزهري : واحدها : نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج فإذا أحكمت النسيجة قطعتها ونكثت خيوطها المبرمة ونفشت تلك الخيوط وخلطت بالصوف ثم غزلت ثانية ، والنكث المصدر ، ومنه يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 265
المسألة الرابعة : في انتصاب قوله : {أَنكَـاثًا} وجوه : الأول : قال الزجاج : أنكاثاً منصوب لأنه بمعنى المصدر لأن معنى نكثت نقضت ومعنى نقضت نكثت ، وهذا غلط منه ، لأن الأنكاث جمع نكث وهو اسم لا مصدر فكيف يكون قوله : {أَنكَـاثًا} بمعنى المصدر ؟
الثاني : قال الواحدي : أنكاثاً مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء على معنى جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا قوله : نقضت غزلها أنكاثاً أي جعلت غزلها أنكاثاً. الثالث : إن قوله : {أَنكَـاثًا} حال مؤكدة.
المسألة الخامسة : قال ابن قتيبة : هذه الآية متصلة بما قبلها ، والتقدير : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته فلما استحكم نقضته فجعلته أنكاثاً.
ثم قال تعالى : {تَتَّخِذُونَ أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ} قال الواحدي : الدخل والدغل الغش والخيانة. قال الزجاج : كل ما دخله عيب قيل هو مدخول وفيه دخل ، وقال غيره : الدخل ما أدخل في الشيء على فساد.
(1/2752)

/ ثم قال : {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد ، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف. قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ثم يحدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك. وقوله : {أَن تَكُونَ} معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف. فقوله : {تَتَّخِذُونَ أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ} استفهام على سبيل الإنكار/ والمعنى : أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى.
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِه } أي بما يأمركم وينهاكم ، وقد تقدم ذكر الأمر والنهي : {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 265
265
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه ، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الأيمان ، ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء. أما المعتزلة : فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء ، أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه ، إلا أن ذلك يبطل التكليف ، فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف ، وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر ، وهذه المناظرة قد تكررت مراراً كثيرة ، وروى الواحدي أن عزيراً قال : يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء ، فقال : يا عزيز أعرض عن هذا ، فأعاده ثانياً : فقال : أعرض عن هذا ، فأعاده ثالثاً ، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة. قالت المعتزلة : ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء ، أنه تعالى قال بعده : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ} فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثاً ، والجواب عنه قد سبق مراراً ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 265
268
اعلم أنه تعالى لما حذر فء الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق ، حذر في هذه الآية فقال : {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ} وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان ، وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد ، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها ، فلهذا المعنى قال المفسرون : المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن نقض عهده ، لأن هذا الوعيد هو قوله : {فَتَزِلَّ قَدَمُا بَعْدَ ثُبُوتِهَا} لا يليق بنقض عهده قبله ، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإيمان به وشرائعه. وقوله : {فَتَزِلَّ قَدَمُا بَعْدَ ثُبُوتِهَا} مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية ، فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة ، ويدل على هذا قوله تعالى : {وَتَذُوقُوا السُّواءَ} أي العذاب : {بِمَا صَدَدتُّمْ} أي بصدكم : {عَن سَبِيلِ اللَّه وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد ، / ثم أكد هذا التحذير فقال : {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } يريد عرض الدنيا وإن كان كثيراً ، إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ، يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيراً من خيرات الدنيا ، فلا تلتفتوا إليه ، لأن الذي أعهد الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة ، ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } وفيه بحثان :
جزء : 20 رقم الصفحة : 268
البحث الأول : الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة ، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية ، والباقي خير من المنقطع ، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال : إنه كان خيراً عالياً شريفاً أو كان خيراً دنياً خسيساً ، فإن قلنا : إنه كان خيراً عالياً شريفاً فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصاً حال حصوله ، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن ، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها ، وأما إن قلنا : إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع ، فثبت بهذا أن قوله تعالى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا.
(1/2753)

البحث الثاني : أن قوله : {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه.
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان ، وحينئذ يجب عليه أمران : أحدهما : أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته. والثاني : أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه ، فقال : {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا } أي على ما الزموه من شرائع الإسلام {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي يجزيهم على أحسن أعمالهم ، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحثات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات ، فلهذا قال : {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال : {مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفي الآية سؤالات :
/ السؤال الأول : لفظة "من" في قوله : {مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا} تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى ؟
.
جزء : 20 رقم الصفحة : 268
والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص.
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح ؟
.
والجواب : نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب. وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء.
السؤال الثالث : ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان ، فظاهر قوله : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه.
والجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان ، أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان.
السؤال الرابع : هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة.
والجواب فيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله : {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة.
ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة ، ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه.
فإن قيل : بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي ؟
.
والجواب : ذكروا فيه وجوهاً قيل : هو الرزق الحلال الطيب. وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال ، وقيل : القناعة ، وقيل : رزق يوم بيوم كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول في دعائه : "قنعني بما رزقني" وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو : "أللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً" قال الواحدي وقول من يقول : إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبداً في الكد والعناء.
واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه : الأول : أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى ، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضياً/ بكل ما قضاه وقدره ، وعلم أن مصلحته في ذلك ، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبداً في الحزن والشقاء. وثانيها : أن المؤمن أبداً يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها ، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن تلك المعارف ، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه. وثالثها : أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى ، والقلب إذا كان مملوءاً من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا ، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءاً من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا. ورابعها : أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها ، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها. وخامسها : أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 268
(1/2754)

واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته ، فعند وصوله إليه يكون أيضاً واجب التغير ، فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزناً بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن هذه المعارف فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده ، فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا.
والقول الثاني : وهو قول السدي إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر.
والقول الثالث : وهو قول الحسن وسعيد بن جبير إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة والدليل عليه قوله تعالى : {وَحُقَّتْ * يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَـاقِيهِ} (الإنشقاق : 6) فبين أن هذا الكدح باقٍ إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه ، وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر ، وصحة بلا مرض ، وملك بلا زوال ، وسعادة بلا شقاء ، فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة ، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : {صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد سبق تفسيره والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 268
270
/ اعلم أنه لما قال قبل هذه الآية : {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل : 97) أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعماله عن الوساوس فقال : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الشيطان ساع في إلقاء الوسوسة في القلب حتى في حق الأنبياء بدليل قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الحج : 52) والاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة بدليل قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201) فلهذا السبب أمر الله تعالى رسوله بالاستعاذة عند القراءة حتى تبقى تلك القراءة مصونة عن الوسوسة.
المسألة الثانية : قوله : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم إلا أن المراد به الكل ، لأن الرسول لما كان محتاجاً إلى الاستعاذة عند القراءة فغير الرسول أولى بها.
المسألة الثالثة : الفاء في قوله : {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} للتعقيب فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين قال الواحدي : وهو قول أبي هريرة ومالك وداود قالوا : والفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثواباً عظيماً ، فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه ، وتلك الوسوسة تحبط ثواب القراءة أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصوناً عن الإحباط. أما الأكثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة ، وقالوا : معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ ، وليس معناه استعذ بعد القراءة ، ومثله إذا أكلت فقل : {بِسْمِ اللَّهِ} وإذا سافرت فتأهب ، ونظيره قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ} (المائدة : 6) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا ، وأيضاً لما ثبت أن الشيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرسول بدليل قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الحج : 52) ومن الظاهر أنه تعالى إنما أمر الرسول بالاستعاذة عند القراءة لدفع تلك الوساوس ، فهذا المقصود إنما يحصل عند تقديم الإستعاذة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 270
المسألة الرابعة : مذهب عطاء : أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت القراءة/ في الصلاة أو غيرها ، وسائر الفقهاء اتفقوا على أنه ليس كذلك ، لأنه لا خلاف بينهم أنه إن لم يتعوذ قبل القراءة في الصلاة ، فصلاته ماضية ، وكذلك حال القراءة في غير الصلاة لكن حال القراءة في الصلاة آكد.
المسألة الخامسة : المراد بالشيطان في هذه الآية قيل إبليس ، والأقرب أنه للجنس ، لأن لجميع المردة من الشياطين حظاً في الوسوسة.
(1/2755)

واعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالاستعاذة من الشيطان وكان ذلك يوهم أن للشيطان قدرة على التصرف في أبدان الناس ، فأزال الله تعالى هذا الوهم ، وبين أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة فقال : {إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ويظهر من هذا أن الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً وأنه لا يمكنه التحفظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى ، ولهذا المعنى قال المحققون : لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى ، والتفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله : {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
ثم قال : {إِنَّمَا سُلْطَـانُه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه } قال ابن عباس : يطيعونه يقال : توليته أي أطعته وتوليت عنه أي أعرضت عنه : {وَالَّذِينَ هُم بِه مُشْرِكُونَ} الضمير في قوله : (به) إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه راجع إلى ربهم. والثاني : أنه راجع إلى الشيطان والمعنى بسببه ، وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر كفرت بهذه الكلمة أي من أجلها ، فكذلك قوله : {وَالَّذِينَ هُم بِه مُشْرِكُونَ} أي من أجله ومن أجل حمله إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 270
271
اعلم أنه تعالى شرع من هذا الموضوع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم. وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان إذا نزلت آية فيها شدة ، ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش : والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه ، اليوم يأمر بأمر وغداً ينهى عنه ، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه ، فأنزل الله تعالى قوله : {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } ومعنى التبديل ، رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها ، وهو نسخها بآية سواها ، وقوله : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} اعتراض دخل في الكلام ، والمعنى : والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف ، أي هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد ، وهذا توبيخ للكفار على قوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرا } أي إذا كان هو أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمد صلى الله عليه وسلّم إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ ، وقوله : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل وأن ذلك لمصالح العباد كما أن الطبيب يأمر المريض بشربة ، ثم بعد مدة ينهاه عنها ، ويأمره بضد تلك الشربة ، وقوله : {قُلْ نَزَّلَه رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ} تفسير روح القدس مر ذكره في سورة البقرة. وقال صاحب "الكشاف" : روح القدس جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال : حاتم الجود وزيد الخير ، والمراد الروح المقدس ، وحاتم الجواد وزيد الخير ، والمقدس المطهر من الماء و"من" في قوله : {مِن رَّبِّكَ} صلة للقرآن أي أن جبريل نزل القرآن من ربك ليثبت الذين آمنوا أي ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب : {وَهُدًى وَبُشْرَى } مفعول لهما معطوف على محل ليثبت ، والتقدير : تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة. وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 271
المسألة الثانية : قد ذكرنا أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني : أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة ، فقال المراد ههنا : إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل أنه حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، قال المشركون : أنت مفتر في هذا التبديل ، وأما سائر المفسرين فقالوا : النسخ واقع في هذه الشريعة ، والكلام فيه على الاستقصاء في سائر السور.
المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله : القرآن لا ينسخ بالسنة ، واحتج على صحته بقوله تعالى : {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى ، وهذا ضعيف لأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية ، وأيضاً فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية ، وأيضاً فالسنة قد تكون مثبتة للآية ، وأيضاً فهذا حكاية كلام الكفار ، فكيف يصح التعلق به ؟
والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 271
273
(1/2756)

/ اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمداً إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه. واختلفوا في هذا البشر الذي نسب المشركون النبي صلى الله عليه وسلّم إلى التعلم منه قيل : هو عبد لبني عامر بن لؤي يقال له يعيش ، وكان يقرأ الكتب ، وقيل : عداس غلام عتبة بن ربيعة ، وقيل : عبد لبني الحضرمي صاحب كتب ، وكان اسمه جبرا ، وكانت قريش تقول : عبد بني الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمداً ، وقيل : كان بمكة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام ويقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية وقيل : سلمان الفارسي ، وبالجملة فلا فائدة في العديد هذه الأسماء والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 273
ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال : {لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} ومعنى الإلحاد في اللغة الميل يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد ، ومنه يقال للعادل عن الحق ملحد. وقرأ حمزة والكسائي : {يُلْحِدُونَ} بفتح الياء والحاء ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء قال الواحدي : والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن ، والدليل عليه قوله : {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادا بِظُلْمٍ} (الحج : 25) والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ، ومنه يقال : ألحدت له لحداً إذا حفرته في جانب القبر مائلاً عن الاستواء وقبر ملحد وملحود ، ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها لم يمله عن دين إلى دين آخر وفسر الإلحاد/ في هذه الآية بالقولين : قال الفراء : يميلون من الميل ، وقال الزجاج : يميلون من الإمالة ، أي لسان الذين يميلون القول إليه أعجمي ، وأما قوله : {أَعْجَمِىٌّ} فقال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء ، وضد الباين والإيضاح ، ومنه قولهم : رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان ، وعجم الذنب سمي بذلك لاستتاره واختفائه ، والعجماء البهيمة لأنها لا توضح ما في نفسها ، وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين ، لأن القراءة حاصلة فيهما بالسر لا بالجهر ، فأما قولهم : أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته ، وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب كقولهم : أشكيت فلاناً إذا أزلت ما يشكوه ، فهذا هو الأصل في هذه الكلمة ، ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجمياً. قال الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب ، والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي : الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم ، ألا ترى أنهم قالوا : زيادة الأعجم لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربياً ، وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله : {الاعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} (التوبة : 97) وقال الفراء والزجاج : في هذه الآية يقال عرب لسانه عرباة وعروبة هذا تفسير ألفاظ الآية :
وأما تقرير ووجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا : القرآن إنما كان معجزاً لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل : هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي إلا أن القرآن إنما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمداً صلى الله عليه وسلّم يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود إذ القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود ، ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} أما تفسير أصحابنا لهذه الآية فظاهر ، وقال القاضي : أقوى ما قيل في ذلك إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة ، ولذلك قال بعده : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار ، ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول فقال : {إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّه وَ أولئك هُمُ الْكَـاذِبُونَ} وفيه مسائل :
جزء : 20 رقم الصفحة : 273
(1/2757)

المسألة الأولى : المقصود منه أنه تعالى بين في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح فيه المقصود ، ثم إنه تعالى في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصح وهم كذبوا فيه ، والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول وجوه : الأول : أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون ، ومتى كان/ الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول صلى الله عليه وسلّم وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم. والثاني : أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ولا يتم في الخفية ، بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم أزمنة متطاولة ومدداً متباعدة ، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمداً عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان. الثالث : أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق ، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا ، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان ؟
واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت ظاهرة باهرة ، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها ، ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكية.
المسألة الثانية : في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش والدليل عليه أن كلمة "إنما" للحصر ، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله تعالى ، وإلا من كان كافراً وهذا تهديد في النهاية.
فإن قيل : قوله : {لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ} فعل وقوله : {وَ أولئك هُمُ الْكَـاذِبُونَ} اسم وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية قبيح فما السبب في حصوله ههنا ؟
قلنا : الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاً ، والدليل عليه قوله تعالى : {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنا بَعْدِ مَا رَأَوُا الايَـاتِ لَيَسْجُنُنَّه حَتَّى حِينٍ} (يوسف : 35) ذكره بلفظ الفعل ، تنبيهاً على أن ذلك السجن لا يدوم. وقال فرعون لموسى عليه السلام : {لَـاـاِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـاهًَا غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشعراء : 29) ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدوام ، وقال أصحابنا : إنه تعالى قال : {وَعَصَى ا ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى } (طه : 121) ولا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ وغاوٍ ، لأن صيغة الفعل لا تفيد الدوام ، وصيغة الاسم تفيده.
جزء : 20 رقم الصفحة : 273
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : قوله : {إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّه } ذكر ذلك تنبيهاً على أن من أقدم على الكذب فكأنه دخل في الكفر ، ثم قال : {وَ أولئك هُمُ الْكَـاذِبُونَ} تنبيهاً على أن صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة دائمة. وهذا كما تقول : كذبت وأنت كاذب فيكون قولك وأنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب. ومعناه : أن عادتك أن تكون كاذباً.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن الكاذب المفتري الذي لا يؤمن بآيات الله والأمر كذلك ، لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهية ونبوة الأنبياء ، وهذا الإنكار مشتمل على/ الكذب والافتراء. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قيل له : هل يكذب المؤمن ؟
قال : "لا" ثم قرأ هذه الآية ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 273
277
اعلم أنه تعالى لما عظم تهديد الكافرين ذكر في هذه الآية تفصيلاً في بيان من يكفر بلسانه لا بقلبه ، ومن يكفر بلسان وقلبه معاً ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنا بَعْدِ إِيمَـاـنِه } مبتدأ خبره غير مذكور ، فلهذا السبب اختلف المفسرون وذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن يكون قوله : {مَن كَفَرَ} بدلاً من قوله : {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّه } والتقدير : إنما يفتري من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، وعلى هذا التقدير : فقوله : {وَ أولئك هُمُ الْكَـاذِبُونَ} اعتراض وقع بين البدل والمبدل منه. الثاني : يجوز أيضاً أن يكون بدلاً من الخبر الذي هو الكاذبون والتقدير : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والثالث : يجوز أن ينتصب على الذم ، والتقدير : وأولئك هم الكاذبون ، أعني من كفر بالله من بعد إيمانه وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها عن التعسف ، والرابع : أن يكون قوله : {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنا بَعْدِ إِيمَـاـنِه } شرطاً مبتدأ ويحذف جوابه ، لأن جواب الشرط المذكور بعده يدل على جوابه كأنه قيل : من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله/ إلا من أكره : ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله.
(1/2758)

المسألة الثانية : أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر يدل عليه وجوه : أحدها : أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب ، وكان يقول : أحد أحد. روي ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه ، مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان ، منهم : عمار ، وأبواه ياسر وسمية ، وصهيب ، وبلال ، وخباب ، وسالم ، عذبوا ، فأما سمية فقيل : ربطت بين بعيرين ووخزت في قبلها بحربة وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت ، وقتل ياسر وهما أول قتيلين قتلاً في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فقيل : يا رسول الله إن عماراً كفر ، فقال : كلا إن عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمسح عينيه ويقول : "ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت" ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ، ثم أسلم مولاه وأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا.
جزء : 20 رقم الصفحة : 277
المسألة الثالثة : قوله : {إِلا مَنْ أُكْرِهَ} ليس باستثناء ، لأن المكره ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر ، لكن المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً صح هذا الاستثناء لهذه المشاكلة.
المسألة الرابعة : يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر ، وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به ، مثل التخويف بالقتل ، ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية. قال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة ، رسول الله صلى الله عليه وسلّم/ وأبو بكر ، وخباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وسمية. أما الرسول عليه السلام فمنعه أبو طالب ، وأما أبو بكر فمنعه قومه ، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ، ثم أجلسوا في الشمس فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس ، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم ويشتم سمية ، ثم طعن الحربة في فرجها. وقال الآخرون : ما نالوا منهم غير بلال فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول : أحد أحد ، حتى ملوا فكتفوه وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه فتركوه. قال عمار : كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال ، فهانت عليه نفسه فتركوه. قال خباب : لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري.
المسألة الخامسة : أجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرىء قلبه من الرضا به وأن يقتصر على التعريضات مثل أن يقول : إن محمداً كذاب ، ويعني عند الكفار أو يعني به محمداً/ آخر أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار وههنا بحثان :
البحث الأول : أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع.
البحث الثاني : لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئاً منها ، وما أراد إلا ذلك المعنى ، فههنا يتعين إما التزام الكذب ، وإما تعريض النفس للقتل. فمن الناس من قال : يباح له الكذب هنا ، ومنهم من يقول : ليس له ذلك وهو الذي اختاره القاضي. قال : لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً ، فوجب أن يقبح على كل حال ، ولو جاز أن يخرج عن القبيح لرعاية بعض المصالح لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح وحينئذ لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ولا بوعيده لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى.
جزء : 20 رقم الصفحة : 277
المسألة السادسة : أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب ، وكان يقول : أحد أحد ، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلّم : بئيس ما صنعت بل عظمه عليه ، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلم بكلمة الكفر ، وثانيها : ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما قتلو في محمد ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال : ما تقول في ؟
قال أنت أيضاً ، فخلاه وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟
قال رسول الله ، قال : ما تقول في ؟
قال : أنا أصم فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق ، فهنيئاً له". وجه الاستدلال بهذا الخبر من وجهين : الأول : أنه سمى التلفظ بكلمة الكفر رخصة. والثاني : أنه عظم حال من أمسك عنه حتى فتل. وثالثها : أن بذل النفس في تقرير الحق أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثواباً لقوله عليه السلام : "أفضل العبادات أحمزها" أي أشقها. ورابعها : أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر. أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة ، فوجب أن يكون حال الأول أفضل ، والله أعلم.
المسألة السابعة : اعلم أن للإكراه مراتب.
(1/2759)

المرتبة الأولى : أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل ، وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل ، وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى ، فوجب أن يجب لقوله تعالى : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (البقرة : 195).
/المرتبة الثانية : أن يصير ذلك الفعل مباحاً ولا يصير واجباً ، ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه.
المرتبة الثالثة : أن لا يجب ولا يباح بل يحرم ، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية ، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا ؟
قال الشافعي رحمه الله : في أحد قوليه يجب القصاص ويدل عليه وجهان. الأول : أنه قتله عمداً عدواناً فيجب عليه القصاص لقوله تعالى : {الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (البقرة : 178). والثاني : أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنه يحل له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل ، فلما كان توهم إقدامه على القتل يوجب إهدار دمه ، فلأن يكون عند صدور القتل منه حقيقة يصير دمه مهدراً كان أولى والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 277
المسألة الثامنة : من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر ، ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل : وهو الزنا. لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة ، فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.
المسألة التاسعة : قال الشافعي رحمه الله : طلاق المكره لا يقع ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يقع ، وحجة الشافعي رحمه الله : قوله : {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ } ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره ، والمعنى : أنه لا أثر له ولا عبرة به ، وأيضاً قوله عليه السلام : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وأيضاً قوله عليه السلام : "لا طلاق في إغلاق" أي إكراه فإن قالوا : طلقها فتدخل تحت قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه } (البقرة : 230) فالجواب لما تعارضت الدلائل ، وجب أن يبقى ما كان على ما كان على ما هو قولنا والله أعلم.
المسألة العاشرة : قوله : {وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} يدل على أنه محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد ، وإما كلام النفس ، فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدراً على أنه مفعول لشرح ، والتقدير : ولكن من شرح بالكفر صدره ، وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة.
ثم قال : {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ} والمعنى أنه تعالى حكم عليهم بالعذاب ثم وصف ذلك العذاب فقال : {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 277
(1/2760)

ثم قال تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ} أي رجحوا الدنيا على الآخرة ، والمعنى : أن ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر لأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر. قال القاضي : المراد أن الله لا يهديهم إلى الجنة فيقال له هذا ضعيف ، لأن قوله : {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} معطوف على قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ} فوجب أن يكون قوله : {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} علة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد ، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ، ولا علة له بل مسبباً عنه ومعلولاً له فبطل هذا التأويل ، ثم أكد بيان أنه تعالى صرفهم عن الإيمان فقال : { أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ } قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم لهم ، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه. والثاني : أنه تعالى أشرك بين السمع والبصر وبين القلب في هذا الطبع ومعلوم من حال السمع والبصر أن مع فقدهما قد يصح أن يكون مؤمناً فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب. والثالث : وصفهم بالغفلة. ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه ، فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب ، وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الطبع والختم ، وأقول هذه الكلمات مع التقريرات الكثيرة ، ومع الجوابات القوية مذكورة في أول سورة البقرة وفي سائر الآيات فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى : {وَ أولئك هُمُ الْغَـافِلُونَ} قال ابن عباس : أي عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال : {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ} واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة.
الصفة الأولى : أنهم استوجبوا غضب الله.
والصفة الثانية : أنهم استحقوا العذاب الأليم.
والصفة الثالثة : أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 277
والصفة الرابعة : أنه تعالى حرمهم من الهداية.
والصفة الخامسة : أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
والصفة السادسة : أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها ، فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات ، ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا/ ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة ، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه ، فلهذا السبب قال : {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ} أي هم الخاسرون لا غيرهم ، والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 277
278
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر ، فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها ، ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال : {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنا بَعْدِ مَا فُتِنُوا } .
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر : {فُتِنُوا } بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل ، والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله. أما وجه القراءة الأولى فأمور. الأول : أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم. والثاني : أن فتن وأفتن بمعنى واحد ، كما يقال : مان وأمان بمعنى واحد ، والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم ، وإنما جعل ذلك فتنة ، لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت. وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر ، لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان ، فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر.
(1/2761)

المسألة الثانية : قوله : {مِنا بَعْدِ مَا فُتِنُوا } يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا ، ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب ، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا. قال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة ، فعرضت لهم فتنة فارتدوا / وشكوا في الرسول صلى الله عليه وسلّم ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم ، وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه ، وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية ، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية ، فقوله : {مِنا بَعْدِ مَا فُتِنُوا } يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة ، وليس في اللفظ ما يدل على التعيين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 278
إذا عرفت هذا فنقول : إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر ، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه ، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره ، وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة ، فالهاء في قوله : {مِنا بَعْدِهَا} تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل ، وهي الهجرة والجهاد والصبر.
أما قوله : {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ففيه أبحاث :
البحث الأول : قال الزجاج : (يوم) منصوب على وجهين. أحدهما : أن يكون المعنى : {إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِى} يعني أنه تعالى يعطي الرحمة والغفران في ذلك اليوم الذي يعظم احتياج الإنسان فيه إلى الرحمة والغفران. والثاني : أن يكون التقدير : وذكرهم أو اذكر يوم كذا وكذا ، لأن معنى القرآن العظمة والإنذار والتذكير.
البحث الثاني : لقائل أن يقول : النفس لا تكون لها نفس أخرى/ فما معنى قوله : {كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا} .
والجواب : النفس قد يراد به بدن الحي وقد يراد به ذات الشيء وحقيقته ، فالنفس الأولى هي الجثة والبدن. والثانية : عينها وذاتها ، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه شأن غيره. قال تعالى : {لِكُلِّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس : 37) وعن بعضعهم : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول : يا رب نفسي نفسي حتى أن إبراهيم الخليل عليه السلام يفعل ذلك. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم : {هَـا ؤُلاءِ أَضَلُّونَا} (الأعراف : 38) وقولهم : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23).
ثم قال تعالى : {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} فيه محذوف ، والمعنى : توفى كل نفس جزاء ما عملت من غير بخس ولا نقصان ، وقوله : {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} قال الواحدي : معناه لا ينقضون. قال القاضي : هذه الآية من أقوى ما يدل على ما نذهب إليه في الوعيد ، لأنها تدل على أنه تعالى يوصل إلى كل أحد / حقه من غير نقصان ، ولو أنه تعالى أزال عقاب المذنب بسبب الشفاعة لم يصح ذلك.
جزء : 20 رقم الصفحة : 278
والجواب : لا نزاع أن ظاهر العمومات يدل على قولكم ، إلا أن مذهبنا أن التمسك بظواهر العمومات لا يفيد القطع ، وأيضاً فظواهر الوعيد معارضة بظواهر الوعد ، ثم بينا في سورة البقرة في تفسير قوله : {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـاطَتْ بِه خَطِى ـئَتُه } (البقرة : 81) أن جانب الوعد راجح على جانب الوعيد من وجوه كثيرة ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 278
280
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف ، كما ذكره في هذه الآية.
المسألة الثانية : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة ، وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها ، والأكثرون من المفسرين على أنها مكة ، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ، ومثل مكة يكون غير مكة.
المسألة الثالثة : ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات :
الصفة الأولى : كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } (العنكبوت : 67) والأمر في مكة كان كذلك ، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض. أما أهل مكة ، فإنهم كانوا أهل حرم الله ، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم.
(1/2762)

واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن ، وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف / له ، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها ، كما يقال : طيب وحار وبارد.
والصفة الثانية : قوله : {مُّطْمَـاـاِنَّةً} قال الواحدي : معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. أقول : إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف ، فهذا هو معنى كونها آمنة ، وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق ، فهذا هو معنى قوله : {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار.
والجواب : أن العقلاء قالوا :
ثلاثة ليس لها نهاية
الأمن والصحة والكفاية قوله : {ءَامِنَةً} إشارة إلى الأمن ، وقوله : {مُّطْمَـاـاِنَّةً} إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه ، وقوله : {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} إشارة إلى الكفاية. قال المفسرون وقوله : {مِّن كُلِّ مَكَانٍ} السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله : {فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} (إبراهيم : 37) ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال : {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال : وهو أن الأنعم جمع قلة ، فكان المعنى : أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله ، وكان اللائق أن يقال : إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب ، فما السبب في ذكر جمع القلة ؟
.
جزء : 20 رقم الصفحة : 280
والجواب : المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب ، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاد. قال المفسرون : عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد/ أما الخوف فهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس ؟
قال ابن الأعرابي : لا باس ولا لباس يا أيها النسناس ، هب أنك تشك أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية ، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لباس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع. وأقول جوابه من وجوه :
الوجه الأول : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان. أحدهما : أن المذوق هو / الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني : أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات ، فأشبه اللباس. فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ، فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين ، فقال : {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} .
والوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار ، تقول : ناظر فلاناً وذق ما عنده. قال الشاعر :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول : تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان ، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان.
والوجه الثالث : أن يحمل لفظ اللبس على المماسة ، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.
ثم قال تعالى : {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلّم حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله. قال الفراء : ولم يقل بما صنعت ، ومثله في القرآن كثير ، ومنه قوله تعالى : {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَـاتًا أَوْ هُمْ قَآاـاِلُونَ} (الأعراف : 4) ولم يقل قائلة ، وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله ، فكل هذه الصفات ، وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية ، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها ، فلا جرم قال في آخر الآية : {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 280
281
(1/2763)

/ اعلم أنه تعالى لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ} يعني أهل مكة {رَسُولٌ مِّنْهُمْ} يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الجوع الذي كان بمكة. وقيل : القتل يوم بدر ، وأقول قول ابن عباس أولى لأنه تعالى قال بعده : {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَـالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} يعني أن ذلك الجوع إنما كان بسبب كفركم فاتركوا الكفر حتى تأكلوا ، فلهذا السبب قال : {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : فكلوا يا معشر المسلمين مما رزقكم الله يريد من الغنائم. وقال الكلبي : إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جهدوا وقالوا عاديت الرجال فما بال النسوان والصبيان. وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأذن في حمل الطعام إليهم فحمل إليهم العظام فقال الله تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَـالا طَيِّبًا} والقول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ} (النحل : 115) الآية يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 281
281
اعلم أن هذه الآية إلى آخرها مذكورة في سورة البقرة مفسرة هناك ولا فائدة في الإعادة وأقول : إنه تعالى حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة في هذه السورة لأن لفظة : {إِنَّمَآ} تفيد الحصر وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة الأنعام في قوله تعالى : {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} (الأنعام : 145) وهاتان السورتان مكيتا ، وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة البقرة لأن هذه الآية بهذه اللفظة وردت في سورة البقرة وحصرها أيضاً في سورة المائدة فإنه تعالى قال في أول هذه السورة : {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الانْعَـامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (المائدة : 1) فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم. وأجمعوا على أن المراد بقوله : {عَلَيْكُمُ} هو قوله تعالى في تلك السورة : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه } (المائدة : 3) فذكر تلك الأربعة المذكورة في تلك السور الثلاثة ثم قال : {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة : 3) وهذه الأشياء داخلة في الميتة ، ثم قال : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وهو أحد الأقسام الداخلة تحت قوله : {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّه } فثبت أن هذه السور الأربعة دالة على / حصر المحرمات في هذه الأربع سورتان مكيتان ، وسورتان مدنيتان ، فإن سورة البقرة مدنية. وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة ، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه ، لأن هذه السورة دلت على أن حصر المحرمات في هذه الأربع كان شرعاً ثابتاً في أول أمر مكة وآخرها ، وأول المدينة وآخرها وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربع قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 281
282
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حصر المحرمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه الأربع ، وفي النقصان عنها أخرى ، فإنهم كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وكانوا يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضاً في المحللات وذلك لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى ، فالله تعالى بين أن المحرمات هي هذه الأربعة ، وبين أن الأشياء التي يقولون إن هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله ، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب ، وأقول : إنه تعالى لما بين هذا الحصر في هذه السور الأربع ، ثم ذكر في هذه الآية أن الزيادة عليها والنقصان عنها كذب وافتراء على الله تعالى وموجب للوعيد الشديد علمنا أنه لا مزيد على هذا الحصر ، والله أعلم.
المسألة الثانية : في انتصاب الكذب في قوله : {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} وجهان. الأول : قال الكسائي والزجاج : (ما) مصدرية ، والتقدير : ولا تقولوا : لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال : لا تقولوا : لكذا كذا وكذا.
/ فإن قالوا : حمل الآية عليه يؤدي إلى التكرار ، لأن قوله تعالى : {لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } عين ذلك.
(1/2764)

والجواب : أن قوله : {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} ليس فيه بيان كذب على الله تعالى فأعاد قوله : {لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } ليحصل فيه هذا البيان الزائد ونظائره في القرآن كثيرة. وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني : أن تكون (ما) موصولة ، والتقدير ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام ، وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً.
المسألة الثالثة : قوله تعال : {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته ، وهذا مبالغ في وصف كلامهم بكونه كذباً ، ونظيره قول أبي العلاء المعري :
جزء : 20 رقم الصفحة : 282
سرى برق المعرة بعد وهن
فبات برامة يصف الكلالا والمعنى : أن سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا ههنا ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } المعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ويقولون : إنه أمرنا بذلك. وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض ، لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم بل كان لام العاقبة كقوله تعالى : {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (القصص : 8) قال الواحدي : وقوله : {لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } بدل من قوله : {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى ، ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى ، ثم أوعد المفترين ، وقال : {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} ثم بيّن أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم من قريب ، فقال : {مَتَـاعٌ قَلِيلٌ} قال الزجاج : المعنى متاعهم متاع قليل ، وقال ابن عباس : بل متاع كل الدنيا متاع قليل ، ثم يردون إلى عذاب أليم ، وهو قوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
جزء : 20 رقم الصفحة : 282
282
اعلم أنه تعالى لما بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام ، أتبعه ببيان ما خص اليهود به من المحرمات / فقال : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام.
ثم قال تعالى : {وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وتفسيره هو المذكور في قوله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء : 160).
جزء : 20 رقم الصفحة : 282
283
اعلم أن المقصود بيان أن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة. ولفظ السوء يتناول كل ما لا ينبغي وهو الكفر والمعاصي ، وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة ، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً ، فإنه ما لم يعتقد كون ذلك المذهب حقاً وصدقاً ، فإنه لا يختاره ولا يرتضيه ، وأما المعصية فما لم تصر الشهوة غالبة للعقل والعلم لم تصدر عنه تلك المعصية ، فثبت أن كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة ، فقال تعالى : إنا قد بالغنا في تهديد أولئك الكفار الذين يحللون ويحرمون بمقتضى السهوة والفرية على الله تعالى ، ثم إنا بعد ذلك نقول : إن ربك في حق الذين عملوا السوء بسبب الجهالة ، ثم تابوا من بعد ذلك ، أي من بعد تلك السيئة ، وقيل : من بعد تلك الجهالة ، ثم إنهم بعد التوبة عن تلك السيئات أصلحوا ، أي آمنوا وأطاعوا الله.
ثم أعاد قوله : {إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا} على سبيل التأكيد. ثم قال : {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} والمعنى : إنه لغفور رحيم لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة ، وحاصل الكلام أن الإنسان وإن كان قد أقدم على الكفر والمعاصي دهراً دهيراً وأمداً مديداً ، فإذا تاب عنه وآمن وأتى بالأعمال الصالحة فإن الله غفور رحيم ، يقبل توبته ويخلصه من العذاب.
جزء : 20 رقم الصفحة : 283
285
اعلمأنه تعالى لما زيف في هذه السورة مذاهب المشركين في أشياء ، منها قولهم بإثبات الشركاء والأنداد لله تعالى ، ومنها طعنهم في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام ، وقولهم لو أرسل الله رسولاً لكان ذلك الرسول من الملائكة. ومنها قولهم بتحليل أشياء حرمها الله ، وتحريم أشياء أباحها الله تعالى ، فلما بالغ في إبطال مذاهبهم في هذه الأقوال ، وكان إبراهيم عليه السلام رئيس الموحدين وقدوة الأصوليين ، وهو الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع. والمشركون كانوا مفتخرين به معترفين بحسن طريقته مقرين بوجوب الاقتداء به ، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة ، وحكى عنه طريقته في التوحيد ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك ، واعلم أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بصفات :
(1/2765)

الصفة الأول : أنه كان أمة ، وفي تفسيره وجوه : الأول : أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في صفات الخير كقوله :
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد الثاني : قال مجاهد ، كان مؤمناً وحده ، والناس كلهم كانوا كفاراً فلهذا المعنى كان وحده أمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : "يبعثه الله أمة وحدة". الثالث : أن يكون أمة فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والبغية ، فالأمة هو الذي يؤتم به ، ودليله قوله : {إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } (البقرة : 124). الرابع : أنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحقا ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماه الله تعالى بالأمة إطلاقاً / لاسم المسبب على السبب ، وعن شهر بن حوشب لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم عليه السلام فإنه كان وحده.
الصفة الثانية : كونه قانتاً لله ، والقانت هو القائم بما أمره الله تعالى به قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه كونه مطيعاً لله.
جزء : 20 رقم الصفحة : 285
الصفة الثالثة : كونه حنيفاً والحنيف المائل إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى ، وهذه صفة الحنيفية.
الصفة الرابعة : قوله : {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} معناه : أنه كان من الموحدين في الصغر والكبر والذي يقرر كونه كذلك أن أكثر همته عليه السلام كان في تقرير علم الأصول فذكر دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه وهو قوله : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} (البقرة : 258) ثم أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار ، ثم طلب من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ليحصل له مزيد الطمأنينة ، ومن وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم عليه السلام كان غارقاً في بحر التوحيد.
الصفة الخامسة : قوله : {شَاكِرًا لانْعُمِه } روي أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام فقال : الآن يجب عليّ مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء.
فإن قيل : لفظ الأنعم جمع قلة ، ونعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة. فلم قال : {شَاكِرًا لانْعُمِه } .
قلنا : المراد أنه كان شاكراً لجميع نعم الله إن كانت قليلة فكيف الكثيرة.
الصفة السادسة : قوله : {اجْتَبَـاهُ} أي اصطفاه للنبوة. والاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية وهو افتعال من جبيت ، وأصله جمع المال في الحوض والجابية هي الحوض.
الصفة السابعة : قوله : {وَهَدَاـاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق والتنفير عن الدين الباطل ، نظيره قوله تعالى : {وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه } (الأنعام : 153).
الصفة الثامنة : قوله : {وَءَاتَيْنَـاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } قال قتادة : إن الله حببه إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يقرون به ، أما المسلمون واليهود والنصارى فظاهر ، وأما كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به ، وتحقيق الكلام أن الله أجاب دعاءه في قوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} (الشعراء : 84) وقال آخرون : هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وقيل : الصدق ، والوفاء والعبادة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 285
الصفة التاسعة : قوله : {وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} .
فإن قيل : لم قال : {وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} ولم يقل : وإنه في الآخرة في أعلى مقامات الصالحين ؟
.
قلنا : لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (البقرة : 130) فقال ههنا : {وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إن كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين فإن الله تعالى بين ذلك في آية أخرى وهي قوله : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه ا نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } (الأنعام : 83).
واعلم أنه تعالى لما وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة قال : {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وفيه مباحث :
(1/2766)

البحث الأول : قال قوم : إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان على شريعة إبراهيم عليه السلام ، وليس له شرع هو به منفرد ، بل المقصود من بعثته عليه السلام إحياء شرع إبراهيم عليه السلام وعول في إثبات مذهبه على هذه الآية وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} كان المراد ذلك.
فإن قيل : النبي صلى الله عليه وسلّم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له فيمتنع حمل قوله : {أَنِ اتَّبِعْ} على هذا المعنى فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
قلنا : يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" : لفظة "ثم" في قوله : {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} تدل على تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ملته من قبل ، إن هذه اللفظة دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة عن سائر المدائح التي مدحه الله بها.
جزء : 20 رقم الصفحة : 285
286
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بمتابعة إبراهيم عليه السلام ، وكان محمد عليه السلام اختار يوم الجمعة ، فهذه المتابعة إنما تحصل إذا قلنا إن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة ، وعند هذا لسائل أن يقول : فلم اختار اليهود يوم السبت ؟
.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله : {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيه } وفي الآية قولان :
القول الأول : روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أمرهم موسى بالجمعة وقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم ، فأبوا أن يقبلوا ذلك ، وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت ، فجعل الله تعالى السبت لهم وشدد عليهم فيه ، ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة ، فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا واتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غداً والنصارى بعد غد".
إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيه } أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت ، فاختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم أي لأجله ، وليس معنى قوله : {اخْتَلَفُوا فِيه } أن اليهود اختلفوا فيه فمنهم من قال بالسبت ، ومنهم من لم يقل به ، لأن اليهود اتفقوا على ذلك فلا يمكن تفسير قوله : {اخْتَلَفُوا فِيه } بهذا ، بل الصحيح ما قدمناه.
فإن قال قائل : هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت ؟
وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام ، وبدأ تعالى بالخلق والتكوين من يوم الأحد وتم في يوم الجمعة ، فكان يوم السبت يوم الفراغ ، فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال ، فعينوا السبت لهذا المعنى ، وقالت النصارى : مبدأ الخلق والتكوين هو يوم الأحد ، فنجعل هذا اليوم عيداً لنا ، فهذان الوجهان معقولان ، فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيداً لنا ؟
.
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 286
قلنا : يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم ، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه ، والله أعلم.
والقول الثاني : في اختلافهم في السبت ، أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة.
ثم قال تعالى : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} والمعنى : أنه تعالى سيحكم يوم القيامة للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب.
جزء : 20 رقم الصفحة : 286
288
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بإتباع إبراهيم عليه السلام ، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه ، فقال : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} .
(1/2767)

واعلم أنه تعالى أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن ، وقد ذكر الله تعالى هذا الجدل في آية أخرى فقال : {وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت : 46) ولما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض ، وجب أن تكون طرقاً متغايرة متباينة ، وما رأيت للمفسرين فيه كلاماً ملخصاً مضبوطاً.
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة ، والمقصود من ذكر الحجة ، إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين ، وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه.
أما القسم الأول : فينقسم أيضاً إلى قسمين : لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية مبرأة عن احتمال النقيض ، وإما أن لا تكون كذلك ، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل ، فظهر بهذا التقسيم إنحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة. أولها : الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية ، وذلك هو المسمى بالحكمة ، وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات ، وهي التي قال الله في صفتها : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة : 269). وثانيها : الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية/ وهي الموعظة الحسنة. وثالثها : الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم ، وذلك هو الجدل ، ثم هذا الجدل على قسمين :
القسم الأول : أن يكون دليلاً مركباً من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور ، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل ، وهذا الجدل هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.
القسم الثاني : أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب ، والحيل الباطلة ، والطرق الفاسدة ، وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل إنما اللائق بهم هو القسم الأول ، وذلك هو المراد بقوله تعالى : {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية.
جزء : 20 رقم الصفحة : 288
إذا عرفت هذا فنقول : أهل العلم ثلاث طوائف : الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة ، والقسم الثاني الذي تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام ، وهذان القسمان هما الطرفان. فالأول : هو طرف الكمال ، والثاني : طرف النقصان.
وأما القسم الثاني : فهو الواسطة ، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين ، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين ، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية ، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة ، وأدناها المجادلة ، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققو ، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة/ وفيهم الكثيرة والغلبة ، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة ، فقوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة ، وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة ، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية ، والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل.
ومن لطائف هذه الآية أنه قال : {يَخْتَلِفُونَ * ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة ، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة ، أما الجدل فليس من باب الدعوة ، بل المقصود منه غرض آخر مغاير/ للدعوة وهو الإلزام والإفحام فهلذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن ، بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة ، وإنما الغرض منه شيء آخر ، والله أعلم.
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها ، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار.
(1/2768)

ثم قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه ا وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} والمعنى : أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاية ، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين ، والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية ، فبعضها نفوس مشرقة صافية قلية التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات ، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها ، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها ، فلهذا قال تعالى : اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل ، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة ، كما قال : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } (الروم : 30) والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 288
291
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
/ القول الأول : وهو الذي عليه العامة أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال : "والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمسك عما أراد.
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء ، وأبي بن كعب والشعبي وعلى هذا قالوا : إن سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث.
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد ، حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة : 190) وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا.
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين قال ابن سيرين : إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله ، وأقول : إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : المراد أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور ، ويحمل أكثر المستعمين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً ، ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات ، وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 291
فإن قيل : فهل تقدحون فيما روي أنه عليه السلام ترك العزم على المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟
قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ، لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية ، إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة ، لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب :
/ المرتبة الأولى : قوله : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه } يعني إن رغبتم في استقباء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ، فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه } دليل على أن الأولى له أن لا يفعلن ، كما أنك إذا قلت للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح ، كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله/ فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله : {وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ} وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام ، لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام.
(1/2769)

المرتبة الثالثة : وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله : {وَاصْبِرْ} لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر ، ولما كان الصبر في هذا المقام شاقاً شديداً ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال : {وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّه } أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصلو جميع أنواع الطاعات. ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال : {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب ، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين : أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي وإليه الإشارة بقوله : {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} قيل معناه : ولا تحزن على قتلى أحد ، ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء. ويرجع حاصله إلى فوت النفع. والسبب الثاني : لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : {وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في حسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث :
جزء : 20 رقم الصفحة : 291
البحث الأول : قرأ ابن كثير : {وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ} بكسر الضاد ، وفي النمل مثله ، والباقون : بفتح الضاد في الحرفين. أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور : قال أبو عبيدة : الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب فإنه الضيق. وقال أبو عمرو : الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم. وقال القتيبي : ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين. وبهذا الطريق قلنا : إنه تصح قراءة ابن كثير.
البحث الثاني : قرىء {وَلا تَكُن فِى ضَيْقٍ} .
/ البحث الثالث : هذا من كلام المقلوب ، لأن الضيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلاً في الصفة ، فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك ، إلا أن الفائدة في قوله : {وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ} هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإسنان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم.
المرتبة الرابعة : قوله : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز ، وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله : {وَلَا ِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم ، وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا } عن استيفاء الزيادة : {وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} في ترك أصل الانتقام ، فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين. ومن وقف على هذا التريب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة ، ولما قال الله لرسوله : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } ذكر هذه المراتب الأربعة ، تنبيهاً على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه ، وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له.
المسألة الثالثة : قوله : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا } معيته بالرحمة والفضل والرتبة ، وقوله : {الَّذِينَ اتَّقَوا } إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله : {وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، وذلك يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ، وعبر عنه بعض المشايخ فقال : كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق ، وقال الحكماء : كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص ، فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل.
جزء : 20 رقم الصفحة : 291
المسألة الرابعة : قال بعهضم : إن قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ا وَلَا ِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} منسوخ بآية السيف ، وهذا في غاية البعد ، لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى ، وترك التعدي وطلب الزيادة ، ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف ، وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ ، ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب.
جزء : 20 رقم الصفحة : 291
291
(1/2770)

سورة الإسراء
مكية ، إلا الآيات : 26 و32 و33 و57 ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية
وآياتها : 111 ، نزلت بعض القصص
جزء : 20 رقم الصفحة : 291
297
سورة بني إسرائيل
عددها : مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية ،
سورة بني إسرائيل
عددها : مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية ، غير قوله : {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ} (الإسراء : 71) إلى قوله : {وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} (الإسراء : 80) فإنها مدنيات ، نزلت حين جاء وفد ثقيف.
{سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَه لِنُرِيَه مِنْ ءَايَاتِنَآا إِنَّه هُوَ} .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال النحويون : {سُبْحَانَ} اسم علم للتسبيح يقال : سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً ، فالتسبيح هو المصدر ، وسبحان اسم علم للتسبيح كقولك : كفرت اليمين تكفيراً وكفراناً وتفسيره تنزيه الله تعالى من كل سوء. قال صاحب "النظم" : السبح في اللغة التباعد ، يدل عليه قوله/ تعالى : {إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا} (المزمل : 7) أي تباعداً فمعنى : سبح الله تعالى ، أي بعده ونزهه عما لا ينبغي وتمام المباحث العقلبية في لفظ التسبيح قد ذكرناها في أول سورة الحديد ، وقد جاء في لفظ التسبيح معان آخرى : أحدها : أن التسبيح يذكر بمعنى الصلاة ، ومنه قوله تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصفات : 143) أي من المصلين ، والسبحة الصلاة النافلة ، وإنما قيل للمصلي مسبح ، لأنه معظم لله بالصلاة ومنزه له عما لا ينبغي. وثانيها : ورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله تعالى : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} (القلم : 28) أي تستثنون وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله تعالى في الاستثناء بمشيئته. وثالثها : جاء في الحديث : "لأحرقت سبحات وجهه ما أدركت من شيء" قيل معناه نور وجهه ، وقيل : سبحات وجهه ، نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال : سبحان الله ، وقوله : {أَسْرَى } قال أهل اللغة : أسرى وسرى لغتان : وقوله : {بِعَبْدِه } أجمع المفسرون على أن المراد محمد عليه الصلاة والسلام ، وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين رحمه الله قال : سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال : لما وصل محمد صلوات الله عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في العارج أوحى الله تعالى إليه : يا محمد بم أشرفك ؟
قال : "رب بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية" فأنزل الله فيه : {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } وقوله : {لَيْلا} نصب على الظرف.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
فإن قيل : الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل ؟
قلنا : أراد بقوله : {لَيْلا} بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، واختلفوا في ذلك الليل قال مقاتل : كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة ، ونقل صاحب "الكشاف" عن أنس والحسن أنه كان ذلك قبل البعثة. وقوله : {مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق" وقيل أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب. والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به ، وعن ابن عباس الحرم كله مسجد ، وهذا قول الأكثرين وقوله : {إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا} اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله : {الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَه } قيل بالثمار والأزهار ، وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة.
واعلم أن كلمة {إِلَى } لانتهاء الغاية فمدلول قوله : {إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا} أنه وصل إلى حد ذلك / المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه ، وقوله : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَاتِنَآ } يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى.
فإن قالوا : قوله : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَاتِنَآ } يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات ، لأن كلمة {مِنْ} تفيد التبعيض ، وقال في حق إبراهيم : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (الأنعام : 75) فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلّم.
قلنا : الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، والذي رآه محمد صلى الله عليه وسلّم بعض آيات الله تعالى ، ولا شك أن آيات الله أفضل.
(1/2771)

ثم قال : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد ، البصير بأفعاله ، العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء ، مقرونة بالصدق والصفاء ، فلهذا السبب خصه الله تعالى بهذه الكرامات ، وقيل : المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر ، بصير بما يعملون في هذه الواقعة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
المسألة الثانية : اختلف في كيفية ذلك الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والأقلون قالوا : إنه ما أسري إلا بروحه حكي عن محمد بن جرير الطبري في "تفسيره" عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا. وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وإنما أسري بروحه ، وحكي هذا القول أيضاً عن عائشة رضي الله عنها ، وعن معاوية رضي الله عنه. واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين : أحدهما : في إثبات الجواز العقلي. الثاني : في الوقوع.
أما المقام الأول : وهو إثبات الجواز العقللي ، فنقول : الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع ، فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين :
المقدمة الأولى : في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه :
الوجه الأول : أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع ، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع وبتقدير أن يقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر/ أولى بالإمكان ، فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه ، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان والله أعلم.
الوجه الثاني : وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع ، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه.
الوجه الثالث : أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش ، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمرعاج محمد صلى الله عليه وسلّم في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول ، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعاً ، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعناً في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة ، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد ، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة ممن العرش إلى مكة ، ولما كان ذلك باطلاً كان ما ذكروه أيضاً باطلاً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
فإن قالوا : نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى الله عليه وسلّم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلياً في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام.
قلنا : تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء ، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة ، وإذاكان كذلك كان الإلزام المذكور قوياً ، روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له : إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر : إن كان قد قال ذلك فهو صادق ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فذكر الرسول له تلك التفاصيل ، فكلما ذكر شيئاً قال أبو بكر صدقت فلما تمم الكلام قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله حقاً ، فقال له الرسول : وأنا أشهد أنك الصديق حقاً ، وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي الله عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا ؟
(1/2772)

الوجه الرابع : أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ويسلمون أنه هو الذي/ يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم ، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى ، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، أما الذين يقولون إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني ، فهذا الإلزام غير وارد عليهم ، إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل.
فإن قالوا : هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة ، ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها ، أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه ؟
قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر ، وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني ، فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى/
الوجه الخامس : أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفلا مسير سليمان عليه الصلاة والسلام : {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } (سبأ : 12) بل نقول : الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة ، وذلك أيضاً يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
الوجه السادس : أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بقليس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى : {قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِه قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } (النمل : 40) وإذاكان ممكناً في حق بعض الناس ، علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود.
الوجه السابع : إن من الناس من يقول : الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة ، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات ، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه.
المقدمة الثانية : في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون/ حصولها في جسد محمد صلى الله عليه وسلّم ممتنعاً ، والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها ، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام ، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلّم أمر ممكن الوجود في نفسه.
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات ، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلّم ممكن ، فوجب كونه تعالى قادراً عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه ، أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب ، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام ، بل هو حاصل في جميع المعجزات ، فانقلات العصا ثعباناً تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب ، وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم ، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب ، وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع ، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا ، فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع والله أعلم.
المقام الثاني : في البحث عن وقوع المعراج قال أهل التحقيق : الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد صلى الله عليه وسلّم وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر ، أما القرآن فهو هذه الآية ، وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح ، فوجب أن يكون الإسراء حاصلاً لمجموع الجسد والروح.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
(1/2773)

واعلم أن هذا الاستدلال موقوف على أن الإنسان هو الروح وحده أو الجسد وحده أو مجموع الجسد والروح ، أما القائلون بأن الإنسان هو الروح وحده ، فقد احتجوا عليه بوجوه : أحدها : أن الإنسان شيء واحد باق من أول عمره إلى آخر ، والأجزاء البدنية في التبدل والتغير والانتقال والباقي غير متبدل ، فالإنسان مغاير لهذا البدن. وثانيها : إن الإنسان قد يكون عارفاً بذاته المخصوصة حال ما يكون غافلاً عن جميع أجزائه البدنية ، والمعلوم مغاير للمغفول عنه ، فالإنسان مغاير لهذا البدن. وثالثها : أن الإنسان يقول بمقتضى فطرته السليمة يدي ورجلي ودماغي وقلبي ، وكذا القول في سائر الأعضاء فيضيف كلها إلى ذاته المخصوصة والمضاف غير المضاف إليه فذاته المخصوصة وجب أن تكون مغايرة لكل هذه الأعضاء.
/ فإن قالوا : أليس أنه يضيف ذاته إلى نفسه ، فيقول ذاتي ونفسي فيلزمكم أن تكون نفسه مغايرة لذاته/ وهذا محال.
قلنا : نحن لا نتمسك بمجرد اللفظ حتى يلزمنا ما ذكرتموه ، بل إنما نتمسك بمحض العقل ، فإن صريح العقل يدل على أن الإنسان موجود واحد وذلك الشيء الواحد يأخذ بآله اليد ويبصر بآلة العين ، ويسمع بآلة الأذن فالإنسان شيء واحد ، وهذه الأعضاء آلات له في هذه الأفعال ، وذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والآلات ، فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد.
إذا ثبت هذا فنقول : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقرير فلم يبقى في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد.
فإن قالوا : فالإسرا بالروح ليس بأمر مخالف للعادة ، فلا يليق به أن يقال : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } .
قلنا : هذا أيضاً بعيد ، لأنه لا يبعد أن يقال : إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره ألبتة ، فلا جرم كان هذا الكلام لائقاً به ، فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معاً.
والجواب : أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد ، والدليل عليه قوله تعالى : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى } (العلق : 9 ، 10) ولا شك أن المراد من العبد ههنا مجموع الروح والجسد. وقال أيضاً في سورة الجن : {وَأَنَّه لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (الجن : 19) والمراد مجموع الروح والجسد فكذا ههنا ، وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ، ثم منه إلى السموات ، واحتج المنكرون له بوجوه : أحدها : بالوجوه العقلية وهي ثلاثة : أولها : أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة. وثانيها : أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول. وثالثها : أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الأفلاك ، وذلك محال.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
والشبهة الثانية : أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة ، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد ، فإنه يكون ذلك عبثاً ، وذلك لا يليق بالحكيم.
والشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَـاكَ إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء : 60) وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج ، وإنما كان فتنة للناس ؟
لأن كثيراً ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر/ به فكان حديث المعراج سبباً لفتنة الناس ، فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام. الشبهة الرابعة : أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة ، منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بما زمزم وهو بعيد ، لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة ، ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد ، لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك ، فأي حاجة إلى البراق ، ومنها ما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلّم لم يزل يتردد بين الله تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام. قال القاضي : وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره ، وأنه يوجب البداء وذلك على الله تعالى محال ، فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما يجوز قبوله فكان مردوداً.
والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها.
(1/2774)

والجواب عن الشبهة الثانية : ما ذكره الله تعالى وهو قوله : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ } وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه : الأول : أن خيرات الجنة عطيمة ، وأهوال النار شديدة ، فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا ، ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال النار ، أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما ، وحينئذ يتفرغ للشفاعة. الثاني : لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة ، صارت سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم. الثالث : أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السموات والكرسي والعرش ، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه ، فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى ، يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب ، لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
واعلم أن قوله : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ } كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراءة مختصة به وعائدة إلى على بسل التعيين.
والجواب عن الشبهة الثالثة : أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام.
والجواب عن الشبهة الرابعة : لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، والله أعلم.
/ المسألة الرابعة : أما العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدل عليه ، ومنهم من استدل عليه بأول سورة والنجم ، ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى : {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} (الإنشقاق : 19) وتفسيرهما مذكور في موضعه ، وأما دلالة الحديث فكما سلف والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 297
299
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية ، وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ، لأن قوله : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى } فيه ذكر الله على سبيل الغيبة وقوله : {بَـارَكْنَا حَوْلَه لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ } فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور وقوله : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يدل على الغيبة وقوله : {وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات.
المسألة الثانية : ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن أسرى به ، وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال : {وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} يعني التوراة : {وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى} أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق وقوه : {أَلا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلا} وفيه أبحاث :
البحث الأول : قرأ أبو عمرو : {أَلا تَتَّخِذُوا } بالياء خبراً عن بني إسرائيل والباقون بالتاء على الخطاب ، أي قلنا لهم لا تتخذوا.
البحث الثاني : قال أبو علي الفارسي : إن قوله : {أَلا تَتَّخِذُوا } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون (أن) ناصبة للفعل فيكون المعنى : وجعلناه هدى لئلا تتخذوا. وثانيها : أن تكون (أن) بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب. والأمر في قوله : {وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } (ص : 6) فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله : {أَلا تَتَّخِذُوا } . وثالثها : أن تكون (أن) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير : وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلاً.
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 299
البحث الثالث : قوله : {وَكِيلا} أي رباً تكلون أموركم إليه. أقول حاصل الكلام في الآية : أنه تعالى ذكر تشريف محمد صلى الله عليه وسلّم بالإسراء ، ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه ، ثم وصف التوراة بكونها هدى ، ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلاً ، وذلك هو التوحيد ، فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غرقاً في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله ، فإن نطق ، نطق بذكر الله ، وإن تفكر ، تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى ، وإن طلب طلب من الله ، فيكون كله لله وبالله ، ثم قال : {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } وفي نصب {ذُرِّيَّةِ} وجهان :
(1/2775)

الوجه الأول : أن يكون نصباً على النداء يعني : يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال : هذا نداء قال الواحدي : وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم : لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة : الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين : سام وحام ويافث فالناس كلهم من ذرية أولئك ، فكان قوله : يا ذرية من حملنا مع نوح ، قائماً مقام قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} .
الوجه الثاني : في نصب قوله : {ذُرِّيَّةِ} أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} (النساء : 125) والتقدير : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً ، ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال : {إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الإسراء : 3) أي كان كثير الشكر ، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال : "الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني" وإذا شرب قال : "الحمد لله الذي أسقاني ولو شاء أظمأني" وإذا اكتسى قال : "الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني" وإذا احتذى قال : "الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني" وإذا قضى حاجته قال : "الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه" وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثره به.
فإن قيل : قوله : {إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ما وجه ملايمته لما قبله ؟
جزء : 20 رقم الصفحة : 299
قلنا : التقدير كأنه قال : لا تتخذوا من دوني وكيلاً ولا تشركوا بي ، لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان عبداً شكوراً ، وإنما يكون العبد شكوراً لو كان موحداً لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام ، كما أن آباءكم اقتدوا به والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 299
301
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم ، وبأنه جعل التوراة هدى لهم ، بين أنهم ما اهتدوا بهداه ، بل وقعوا في الفساد فقال : {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الارْضِ مَرَّتَيْنِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام ، ومنه قوله : {فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ} (فصلت : 12) وقول الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود
فقوله : {وَقَضَيْنَآ} أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم. ولفظ {إِلَى } صلة للإيحاء ، لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا. وقوله : {لَتُفْسِدُنَّ} يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله : {فِى الارْضِ} يعني أرض مصر وقوله : {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيماً ، لأنه يقال لكل متجبر : قد علا وتعظم ، ثم قال : {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـاهُمَا} يعني أولى المرتين : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} والمعنى : أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوماً أولى بأس شديد ، ونجدة وشدة ، والبأس القتال ، ومنه قوله تعالى : {وَحِينَ الْبَأْسِ } (البقرة : 177) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم ، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم ، واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم ؟
قيل : إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء ، وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن / تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا ، فهو قوله : {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} .
جزء : 20 رقم الصفحة : 301
والقول الثاني : إن المراد من قوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ} أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله : {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.
والقول الثالث : إن قوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ} هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم.
(1/2776)

ثم قال تعالى : {فَجَاسُوا خِلَـالَ الدِّيَارِ } قال الليث : الجوس والجوسان التردد خلال الديار ، والبيوت في الفساد ، والخلال هو الانفراج بين الشيئين ، والديار ديار بيت المقدس ، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة : طلبوا من فيها. وقال ابن قتيبة : عاثوا وأفسدوا. وقال الزجاج : طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه. قال الواحدي : الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه.
ثم قال تعالى : {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا} أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزماً حتماً لا يقبل النقض والنسخ ، ثم قال تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم : {وَجَعَلْنَـاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه ، والنفير والنافر واحد ، كالقدير والقادر ، وذكرنا معنى نفر عند قوله : {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} (التوبة : 122)وقوله : {انْفِرُوا خِفَافًا} (التوبة : 41).
المسألة الثانية ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الارْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم ، والخبر الحتم ، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً جزماً لا يقبل النسخ ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه. ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال : {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا} .
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 301
إذا ثبت هذا فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وانقلاب حكمه الجازم باطلاً ، وانقلاب علمه الحق جهلاً ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً ، فكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً لا يقبل النسخ والرفع ، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله ، وذلك يدل على قولنا : إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله ، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية.
الوجه الثاني : في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر ، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل ، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة. ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنا بَعْدِه رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِه مِن قَبْلُا كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى.
أجاب الجبائي عنه من وجهين : الأول : المراد من {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد ، فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر. والثاني : أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل ، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم. وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.
واعلم أن الجواب الأول ضعيف ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى. والجواب الثاني أيضاً ضعيف ، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب ، وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع ، والأول فعل ، والثاني ترك ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز ، فثبت صحة ما ذكرناه والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 301
303
/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة ، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم ، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب ، وأن الإساءة إليها قبيحة ، فلهذا المعنى قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } .
المسألة الثانية ؛ قال الواحدي : لا بد ههنا من إضمار ، والتقدير : وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، والمعنى : إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات ، وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات.
(1/2777)

المسألة الثالثة : قال النحويون : إنما قال : {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } للتقابل والمعنى : فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض ، كقوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة : 4 ، 5) أي إليها.
المسألة الرابعة ؛ قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُمْ } ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال : {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك.
ثم قال تعالى : {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخِرَةِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون : معناه وعد المرة الأخيرة ، وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام. قال الواحدي : فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول : التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة ، ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له : / قسطنطين الملك ، والله أعلم بأحوالهم ، ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام.
جزء : 20 رقم الصفحة : 303
المسألة الثانية : جواب قوله : {فَإِذَا جَآءَ} محذوف تقديره : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ} (الإسراء : 5) ثم قال : {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : ساءه يسوءه أي أحزنه ، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه ، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه. وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه ، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية ، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن.
المسألة الثانية : قرأ العامة : ليسوؤا على صيغة المغايبة ، قال الواحدي : وهي موافقة للمعنى وللفظ. أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة ، لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله : {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة : على إسناد الفعل إلى الواحد ، وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة : إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله : ثم ردنا وأمددنا ، وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى ، وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله : {أُولَـاهُمَا بَعَثْنَا} والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ } (آل عمران : 18) وقال الزجاج : ليسوء الوعد وجوهكم ، وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله : بعثنا عليكم وأمددنا.
ثم قال تعالى : {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} يقال : تبر الشيء تبراً إذا هلك وتبره أهلكه. قال الزجاج : كل شيء جعلته مكسراً ومفتتاً فقد تبرته ، ومنه قيل : تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّ هَـا ؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَـاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف : 139) وقوله : {وَلا تَزِدِ الظَّـالِمِينَ} (نوح : 28) وقوله : {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا } يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به ، ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين ، أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل ، وقوله : {تَتْبِيرًا} ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء : 164) أي حقاً ، والمعنى : وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 303
ثم قال تعالى : {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } والمعنى : لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل.
(1/2778)

/ ثم قال : {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } يعني : أن بعثنا عليكم من بعثنا ، ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي ، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم ، فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى. قال القفال : إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُواءَ الْعَذَابِ } (الأعراف : 167) ثم قال : {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلّم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب. فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان.
ثم قال تعالى : {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـافِرِينَ حَصِيرًا} والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل ، أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم ، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول ، أي جعلناها موضعاً محصوراً لهم ، والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه ، والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه ، إما بالموت وإما بطريق آخر ، وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه ، فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 303
304
اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام ، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم ، كان ذلك تنبيهاً على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة ، لا جرم أثنى على القرآن فقال : {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} .
/ واعلم أن قوله تعالى : {دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } (إبراهيم : 161) يدل على كون هذا الدين مستقيماً ، وقوله في هذه الآية : {لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان. وأقول : قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك ، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية ، وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيماً كونه حقاً وصدقاً ، ودخول التفاوت في كون الشيء حقاً وصدقاً محال ، فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً ، إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا : الله أكبر أي الله كبير ، وقولنا : الأشج والناقص أعدلا بني مروان ، أي : عادلاً بني مروان ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف. والله أعلم.
البحث الثاني : قوله : {لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} نعت لموصوف محذوف ، والتقدير : يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق ، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله : {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (فصلت : 34) أي بالخصلة التي هي أحسن.
أما قوله : {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـالِحَـاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : أنه يهدي للتي هي أقوم ، وقد مر تفسيره.
جزء : 20 رقم الصفحة : 304
والصفة الثانية : أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير ، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هادياً إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح ، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر ، وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم.
والصفة الثالثة : قوله : {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح ، كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم ، فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل.
واعلم أن قوله : {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} عطف على قوله : {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ، ونظيره قوله : بشرت زيداً أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع.
فإن قيل : كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب ؟
قلنا : مذكور على سبيل التهكم ، أو يقال : إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر ، كقوله : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40).
(1/2779)

/ فإن قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة ، فكيف يليق بهذا الموضع قوله : {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .
قلنا عنه جوابان : أحدهما : أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين ، والثاني : أن بعضهم قال : {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } (آل عمران : 24) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 304
305
وفي الآية مباحث :
البحث الأول : اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة ، قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته ، ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال : {وَيَدْعُ الانسَـانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَه بِالْخَيْرِ } .
البحث الثاني : اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال :
القول الأول : المراد منه : النضر بن الحرث حيث قال : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} (الأنفال : 32) فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته ، فكان بعضهم يقول : ائتنا بعذاب الله. وآخرون يقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمداً كاذب فيما يقول.
والقول الثاني : المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله ، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئن بالليل فقالت له : ما لك تئن ؟
فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه ، فقال عليه الصلاة والسلام : "اللهم اقطع يدها" فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذاباً من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون ، فلترد سودة يدها".
والقول الثالث : أقول : يحتمل أن يكون المراد : أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه ، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره ، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء ، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.
/ البحث الرابع : القياس : إثبات الواو في قوله : {وَيَدْعُ} إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة ، لأنه لا يظهر في اللفظ ، أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع ، ونظيره : {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (العلق : 18) {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} (المؤمنين : 146) {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} (ق : 41) {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر : 5) ولو كان بالواو والياء لكان صواباً هذا كلام الفراء. وأقول : إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع ، وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله.
جزء : 20 رقم الصفحة : 305
ثم قال تعالى : {وَكَانَ الانسَـانُ عَجُولا} وفي هذا الإنسان قولان :
القول الأول : آدم عليه السلام ، وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قوله : {وَكَانَ الانسَـانُ عَجُولا} .
والقول الثاني : أنه محمول على الجنس ، لأن أحداً من الناس لا يعرى عن عجلة ، ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا ، وأقول : بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول ، كان المقصود عائداً إلى القول الثاني ، لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفاً بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل ، فكان المقصود عائداً إلى القول الثاني ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 305
308
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ } وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه ، فكذلك الدهر مركب من النهار والليل. فالمحكم كالنهار ، والمتشابه كالليل ، وكما / أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه ، فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل.
والوجه الثاني : في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة ، لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد ، وهو عجائب العالم العلوي والسفلي.
(1/2780)

الوجه الثالث : أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولاً أي منتقلاً من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة ، بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك ، وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد ، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد. والله أعلم.
المسألة الثانية ؛ في قوله : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ } قولان :
القول الأول : أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار. والمعنى : أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا. أما في الدين : فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له ، مع كونهما متعاقبين على الدوام ، من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما ، بل لا بد لهما من فاعل يدبرهما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة ، وأما في الدنيا : فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار ، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة ، ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه المعاش.
ثم قال تعالى : {فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ} وعلى هذا القول : تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين ، والتقدير : فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة ، ونظيره قولنا : نفس الشيء وذاته ، فكذلك آية الليل هي نفس الليل. ويقال أيضاً : دخلت بلاد خراسان أي دخلت البلاد التي هي خراسان ، فكذلك ههنا.
جزء : 20 رقم الصفحة : 308
القول الثاني : أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيتين يريد الشمس والقمر ، فمحونا آية الليل وهي القمر ، وفي تفسير محو القمر قولان :
القول الأول : المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور ، فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال ، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدراً كاملاً ، ثم يأخذ في الانتقاص قليلاً قليلاً ، وذلك هو المحو ، إلى أن يعود إلى المحاق.
والقول الثاني : المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء ، فأرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر / فطمس عنه الضوء. ومعنى المحو في اللغة : إذهاب الأثر ، تقول : محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره ، وأقول : حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى ، وذلك لأن اللام في قوله : {لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } متعلق بما هو مذكور قبل ، وهو محو آية الليل. وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله. إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه ، لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر ، وأهل التجارب يبنوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه ، مثل أحوال البحار في المد والجزر ، ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم ، وأيضاً بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور ، وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال : {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى. وأقول أيضاً : لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر ، فهو أيضاً برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد ، أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ ، فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة ، فوجب أن يكون متشابه الصفات ، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة ، بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي ، وبعض أجزائه بالنور الضعيف ، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذت. وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه ، أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء ، مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ، فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوأ من جرم القمر ، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان ، وهذا لا يفيد مقصود الخصم ، لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ؟
وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب ، وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب ؟
وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار ، وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 308
(1/2781)

أما قوله : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ } ففيه وجهان : الأول : أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار ، فأطلق اسم الأبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب. والثاني : قال أبو عبيدة يقال : قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه ، كقوله : / رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ، ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافاً ، فكذا قوله : والنهار مبصراً ، أي أهله بصراء.
واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار ، قال : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ : 10 و11) وقال أيضاً : {جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِه } (القصص : 73).
ثم قال تعالى : {لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ} أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } .
واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب : الساعات والأيام والشهور والسنون ، فالعدد للسنين ، والحساب لما دون السنين ، وهي الشهور والأيام والساعات ، وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب : الآحاد والعشرات والمئات والألوف ، وليس بعدها إلا التكرار والله أعلم.
ثم قال : {وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَـاهُ تَفْصِيلا} والمعنى : أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ، ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا/ فلما شرح الله تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق ، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً ، فلا جرم قال : {وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَـاهُ تَفْصِيلا} أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم ، فقد فصلناه وشرحناه ، وهو كقوله تعالى : {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ } (الأنعام : 38) وقوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ} (النحل : 89) وقوله : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءا بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف : 25) وإنما ذكر المصدر وهو قوله : {تَفْصِيلا} لأجل تأكيد الكلام وتقريره ، كأنه قال : وفصلناه حقاً وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 308
311
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه :
/ الوجه الأول : أنه تعالى لما قال : {وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَـاهُ تَفْصِيلا} كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكوراً. وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، فقد صار مذكوراً. وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له : {اقْرَأْ كِتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .
الوجه الثاني : أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا ، مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بأعظم وجوه النعم. وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله.
الوجه الثالث : في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار ، كان المعنى : إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة ، أو تمرد وعصى وبغى ، فهذا هو الوجه في تقرير النظم.
المسألة الثانية : في تفسير لفظ ، الطائر ، قولان :
القول الأول : أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى ازعاجه ، وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة ، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس : {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } (يس : 18) إلى قوله : {قَالُوا طَـا اـاِرُكُم مَّعَكُمْ } (يس : 19) فقوله : {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه } أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه. وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد : {أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه } .
جزء : 20 رقم الصفحة : 311
(1/2782)

القول الثاني : قال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت ، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر ، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم ، والعمر والرزق ، والسعادة والشقاوة. والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه ، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية ، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه ، فبهذا المعنى لا يبعد / أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر ، فقوله : {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه } كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله ، فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه.
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم/ وتقريره من وجهين :
الوجه الأول : أن تقدير الآية : وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه ، فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له ، وما كان لازماً للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود.
والوجه الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه ، لأن قوله : {أَلْزَمْنَـاهُ} تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } (الفتح : 26) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله : {فِى عُنُقِه } كناية عن اللزوم كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلدتك كذا وطوقتك كذا ، أي صرفته إليك وألزمته إياك ، ومنه قلده السلطان كذا. أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق ، ومنه يقال : فلان يقلد فلاناً أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. قال أهل المعاني : وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيراً يزينه أو شراً يشينه ، وما يزين يكون كالطوق والحلي ، والذي يشين فهو كالغل ، فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له ، وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته.
جزء : 20 رقم الصفحة : 311
ثم قال تعالى : {وَنُخْرِجُ لَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا} قال الحسن : يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك. فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، حتى اذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة. قوله : {وَنُخْرِجُ لَه } أي من قبره يجوز أن يكون معناه : نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر ، وقرأ يعقوب : (ويخرج له يوم القيامة كتاباً) أي يخرج له الطائر أي عمله كتاباً منشوراً ، كقوله تعالى : {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (التكوير : 10) وقرأ ابن عمر : (يلقاه) من قولهم : لقيت فلاناً الشيء أي استقبلته به. قال تعالى : {وَلَقَّـاـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (الإنسان : 11) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد.
ثم قال تعالى : {اقْرَأْ كِتَـابَكَ} والتقدير يقال له : وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة / {اقْرَأْ كِتَـابَكَ} قال الحسن : يقرؤه أمياً كان أو غير أمي ، وقال بكر بن عبد الله : يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها ، وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها ، حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى : "اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك" فيعظم سروره ، ويصير من الذين قال في حقهم : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} (عبس : 38 ، 39) ثم يقول : {هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ} (الحاقة : 19).
وأما قوله : {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي محاسباً. قال الحسن : عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك. قال السدي : يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد ، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : {اقْرَأْ كِتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} والله أعلم.
المسألة الرابعة : قال حكماء الإسلام : هذه الآية في غاية الشرف ، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث :
(1/2783)

البحث الأول : أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه ، وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقداراً من الخير والشر ، فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه/ فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت ، فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولاً لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة. وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طئر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين ، وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر ، فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية.
جزء : 20 رقم الصفحة : 311
والبحث الثاني : أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى. وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثاً متقدماً عليه لحصول الحادث المتأخر ، فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله ، وعند هذا يتخيل الإنسان طيوراً لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها ، فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب ، وأنها صارت وطارت طيراناً لا بداية له ولا غاية له ، وكان كل واحد منها متوجهاً إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة ، وهذا هو المراد من قوله : {أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه } .
البحث الثالث : أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس ، ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظاً ، ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له.
إذا عرفت هذا فنقول : لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب / أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس ، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر ، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثراً ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفاً قليلاً ، وإن كانت الكتابة أيضاً في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة ، فعلى هذا ، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت ، ممتنعة الزوال ، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح.
جزء : 20 رقم الصفحة : 311
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول : إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيراً كان أو قليلاً قوياً كان أو ضعيفاً ، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص ، فإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات. وإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان. إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقاً بالبدن ، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها ، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام : "من مات فقد قامت قيامته" ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي ، فإذا انقطع ذلك التعلق ، قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي ، فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة ، ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء ، وقيل له {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق : 22) وقوله : {وَنُخْرِجُ لَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا} معناه : ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتاباً مشتملاً على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية ، ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشوراً ، لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية. أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية/ وظاهرة بعد أن كانت مخفية ، وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة : {اقْرَأْ كِتَـابَكَ} ثم يقال له : {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة حصلت السعادة لا محالة ، وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة ، فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية.
/ واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها ، واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضاً ، والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل. والله أعلم بحقائق الأمور.
جزء : 20 رقم الصفحة : 311
313
في الآية مسائل :
(1/2784)

المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه } (الإسراء : 13) ومعناه : أن كل أحد مختص بعمل نفسه ، عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ا وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله ، ولا يتعدى منه إلى غيره ، ويتأكد هذا بقوله : {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَه سَوْفَ يُرَى } (النجم : 39 ، 40) قال الكعبي : الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر ، وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأن قوله : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ا وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد ، أما المجبور على أحد الطرفين ، الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به.
المسألة الثانية : أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عل نفسه بقوله : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } قال الزجاج : يقال وزر يزر فهو وازر ووزر وزرا وزرة ، ومعناه : أثم يأثم إثماً قال : وفي تأويل الآية وجهان : الأول : أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره ، وأيضاً غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه. والثاني : أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم ، لأن غيره عمله كما قال الكفار : {وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} (الزخرف : 32).
واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة.
/ الحكم الأول :
قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم ، وإلا لكان الطفل مؤاخذاً بذنب أبيه ، وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية.
الحكم الثاني :
روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فعائشة طعنت في صحة هذا الخبر ، واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره ، وذلك خلاف هذه الآية.
جزء : 20 رقم الصفحة : 313
الحكم الثالث :
قال القاضي : دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل الله تعالى. وبيانه من وجوه : أحدها : أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره. وثانيها : أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلاً ، لأن الوازر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختاراً يمكنه التحرز ، ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا.
الحكم الرابع :
أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة ، وقالوا : لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير ، وذلك على مضادة هذه الآية.
وأجيب عنه بأن المخطىء ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل ، فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل ، بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من الله تعالى.
المسألة الثالثة : قال أصحابنا وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ، ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية ، فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع. ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء : 165) وبقوله : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } (طه : 134).
(1/2785)

ولقائل أن يقول : هذا الاستدلال ضعيف ، وبيانه من وجهين : الأول : أن نقول : لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي ألبتة ، وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة من وجوه : / أحدها : أنه إذا جاء المشرع وادعى كونه نبياً من عند الله تعالى وأظهر المعجزة ، فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزاته أو لا يجب ؟
فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة. وإن وجب ، فإما أن يجب بالعقل أو بالشرع فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي ، وإن وجب بالشرع فهو باطل ، لأن ذلك الشرع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره ، والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك الرجل يقول : الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول إنه يجب قبول قولي ، وهذا إثبات للشيء بنفسه ، وإن كان ذلك الشارع غيره كان الكلام فيه كما في الأول : ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان. وثانيها : أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال ، وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم ، إلا أن يقول : لو تركت كذا وفعلت كذا لعاقبتك فنقول : إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب ، فلو لم يجب عليه الاحتراز عن العقاب لم يتقرر معنى الوجوب ألبتة ، وهذا باطل فذاك باطل ، وإن وجب عليه الاحتراز عن العقاب ، فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع ، فإن وجب بالعقل فهو المقصود ، وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى هذا الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه ، وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال. وثالثها : أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب ، فلم يبق إلا أن يقال : إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب ، وهذا الخوف حاصل بمحض العقل ، فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف ، وثبت أن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل ، فلزم أن يقال : الوجوب حاصل بمحض العقل.
جزء : 20 رقم الصفحة : 313
فإن قالوا : ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم ؟
قلنا : إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم ، فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل ، فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه.
وإذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان : الأول : أن نجري الآية على ظاهرها. ونقول : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الأنبياء ، فالعقل هو الرسول الأصلي ، فكان معنى الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسول العقل. والثاني : أن نخصص عموم الآية فنقول : المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ، وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدلائل ، وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة ، على أنا لو نفينا الوجوب العقلي لزمنا نفي الوجوب الشرعي ، والله أعلم.
/ واعلم أن الذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به ، وترك ما يتضرر به ، أما مجرد العقل لا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء. وذلك لأنا مجبولون على طلب النفع والاحتراز عن الضرر ، فلا جرم كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقنا والله تعالى منزه عن طلب النفع والهرب من الضرر/ فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو ترك فعل والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 313
316
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} في تفسير هذا الأمر قولان :
(1/2786)

القول الأول : أن المراد منه الأمر بالفعل ، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون : معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات ، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب "الكشاف" : ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون ، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه ، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله ؛ {فَفَسَقُوا } يدل عليه يقال : أمرته فقام ، وأمرته فقرأ لا يفهم منه ، إلا أن المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة ؛ لأنا نقول : إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له ، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق ، وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب "الكشاف" على قوله مع ظهور فساده ، فثبت أن / الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق.
جزء : 20 رقم الصفحة : 316
القول الثاني : في تفسير قوله : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي أكثرنا فساقها. قال الواحدي : العرب تقول أمر القوم إذا كثروا. وأمرهم الله إذ كثرهم ، وآمرهم أيضاً بالمد ، روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم ، أي كثرهم. واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى الله عليه وسلّم : "خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة" والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون : أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم ، وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام : "مهر مأمورة" على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة. وأما المترف : فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش {فَفَسَقُوا فِيهَا} أي خرجوا عما أمرهم الله : {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} يريد : استوجبت العذاب ، وهذا كالتفسير لقوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15) وقوله : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولا} (القصص : 59) وقوله : {ذَالِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَـافِلُونَ} (الأنعام : 131) فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله ، فلا جرم ذكر أنه ها هنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر ، فعند ذلك استوجبوا الأهلاك المعبر عنه بقوله : {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وقوله : {فَدَمَّرْنَـاهَا تَدْمِيرًا} أي أهلكناها إهلاك الاستئصال. والدمار هلاك على سبيل الاستئصال.
جزء : 20 رقم الصفحة : 316
(1/2787)

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه : الأول : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق. الثاني : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون ، وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق ، والثالث : أنه تعالى قال : {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} بالتعذيب والكفر ، ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم ، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال. قال الكعبي : إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب والإهلاك لقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } (الرعد : 11) وقوله : {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ } (النساء : 147) وقوله : {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى ا إِلا وَأَهْلُهَا ظَـالِمُونَ} (القصص : 59) فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدىء بالإضرار ، وأيضاً ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ا وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (الإسراء : 15) ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض ، فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة ، وكذا الآية التي / نحن في تفسيرها ، فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي ، واعلم أن أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة : القفال. فإنه ذكر فيه وجهين :
الوجه الأول : قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحداً بما يعلمه منه ما لم يعمل به ، أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله : {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي ، ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها ، والحاصل أن المعنى : وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك الإهلاك بمجرد ذلك العلم ، بل أمرنا مترفيها ففسقوا ، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به.
جزء : 20 رقم الصفحة : 316
والوجه الثاني : في التأويل أن نقول : وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلها بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي ، وإنما خص المترفين بذلك الأمر ، لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم الله عليه كان قيامه بالشكر أوجب ، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالاً بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق ، فحينئذ يصب الله البلاء عليهم صباً ، ثم قال القفال : وهذان التأويلان راجعان إلى أن الله تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الأعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم ، كما قال في قوم نوح : {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح : 27) وقال : {وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا} (هود : 36) وقال في غيرهم : {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِه مِن قَبْلُ } (يونس : 74) فأخبر تعالى أولاً أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم أخبر ثانياً في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضاً فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب ، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ ، فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال ، وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله.
وأجاب الجبائي بأن قال : ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا ، وذلك لأنه ظلم وهو على الله محال ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت / ازدادت أمراضه شدة ، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة ، وليس المراد أن المريض يريد أن يموت ، والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا ههنا.
واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية ، لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ ، أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليماً عن الطعن والله أعلم.
(1/2788)

المسألة الثالثة : المشهور عند القراء السبعة : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بالتخفيف غير ممدودة الألف ، وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس : {أَمْرُنَآ} بالمد ، وعن أبي عمرو {أَمْرُنَآ} بالتشديد فالمد على الكثير يقال : أمر القوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد ، أي كثرهم الله. والتشديد على التسليط ، أي سلطنا مترفيها ، ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 316
أما قوله تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنا بَعْدِ نُوحٍ } فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح. وهم عاد وثمود وغيرهم ، ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطاباً لغيره وردعاً وزجراً للكل فقال : {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا} وفيه بحثان :
البحث الأول : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق ، وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادراً على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. وأيضاً أنه منزه عن العبث والظلم. ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام ، والقدرة الكاملة ، والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة. وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية.
البحث الثاني : قال الفراء : لو ألغيت الباء من قولك بربك جاز ، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم. كقولك : كفاك به. وأكرم به رجلاً. وطاب بطعامك طعاماً. وجاد بثوبك ثوباً ، أما إذا لم يكن مدحاً أو ذماً لم يجز دخولها ، فلا يجوز أن يقال : قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 316
319
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله : {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه } (الإسراء : 13) ومعناه : أن الكمال في الدنيا قسمان ، فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم ، اشفاقاً من زوال الرياسة عنه ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموماً ملوماً مدحوراً منفياً مطروداً من رحمة الله تعالى. وفي لفظ هذه الآية فوائد.
الفائدة الأولى : أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة ، فقوله : {ثُمَّ جَعَلْنَا لَه جَهَنَّمَ يَصْلَـاـاهَا} إشارة إلى المضرة العظيمة ، وقوله : {مَذْمُومًا} إشارة إلى الإهانة والذم ، وقوله : {مَّدْحُورًا} إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله ، وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص.
الفائدة الثانية : أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى ، وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى ، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته ، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب.
الفائدة الثالثة : قوله تعالى : {لِمَن نُّرِيدُ} يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد ، بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا ، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين ، وهذا أيضاً فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا ، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 319
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : {وَمَنْ أَرَادَ الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة :
الشرط الأول : أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة ، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة ، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى : {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } (النجم : 39) ولقوله عليه الصلاة والسلام : "إنما الأعمال بالنيات" ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته ، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته.
(1/2789)

والشرط الثاني : قوله : {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات ، وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة/ فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان ، ولهم فيه تأويلان :
التأويل الأول : يقولون : إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى ، مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة ، ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى ، فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق ، إلا أنه لما كان فاسداً في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به.
والتأويل الثاني لهم : أنهم قالوا : نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ، ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله تعالى. وهذا الطريق أيضاً فاسد ، وأيضاً نقل عن الهند : أنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم الله تعالى ، إلا أنه لما كان الطريق فاسداً لا جرم لم ينتفع به ، وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب.
والشرط الثالث : قوله تعالى : {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهذا الشرط معتبر ، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان ، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط ، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً والعمل مبروراً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 319
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة : اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً عن ذلك الشاكر ، والله تعالى يعامل المطيعين / بهذه الأمور الثلاثة ، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى ، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى ، ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال : الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى أنا نشكر الله على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه ، لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح. قال الله تعالى : {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } (آل عمران : 188) فعجز الحاضرون عن الجواب ، فدخل ثمامة بن الأشرس وقال : إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل. وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل ، والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان. قال تعالى : {فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} قال فضحك جعفر بن حرب وقال : صعب المسألة فسهلت.
واعلم أن قولنا : مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر ، ولما حصل الإيمان للعبد وكان الإيمان موجباً للسعادة التامة صار العبد أيضاً مشكوراً ولا منافاة بين الأمرين.
المسألة الثانية : اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا ، أو تحصيل خيرات الآخرة ، أو يقصد به مجموعهما ، أو لم يقصد به واحداً منهما ، هذا هو التقسيم الصحيح ، أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط ، فالله تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية.
أما القسم الثالث : فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، لأنه إما أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً ، أو يكون الطلبان متعادلين.
(1/2790)

أما القسم الأول : وهو أن يكون طلب الآخرة راجحاً ، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى فيه بحث ، يحتمل أن يقال : إنه غير مقبول لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم حكى عن رب العزة أنه قال : "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشريكه" وأيضاً فطلب رضوان الله إما أن يقال : إنه كان سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل أو داعياً إليه ، وإما أن يقال : ما كان كذلك ، فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء ، لأن الحكم إذا حصل مسنداً إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله تعالى ، لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايراً لكل / واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايراً لطلب رضوان الله تعالى فوجب أن يكون مقبولاً ، ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً ، وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلب الدنيا راجحاً فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 319
وأما القسم الرابع : وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا ؟
فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول ، والذين قالوا : إنه لا يتوقف قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {كَلا} أي كل واحد من الفريقين ، والتنوين عوض من المضاف إليه : {نُّمِدُّ هَـا ؤُلاءِ وَهَـا ؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد ، وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا ، لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمناً كان أو كافراً لأن الكل مخلوقون في دار العمل ، فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور ، أي غير ممنوع يقال حظره يحظره ، وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك.
ثم قال تعالى : {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } وفيه قولان :
القول الأول : المعنى : انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا ، كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن. وقبضناه عن مؤمن آخر ، وأوصلناه إلى كافر ، وقبضناه عن كافر آخر ، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا } (الزخرف : 32) وقال في آخر سورة الأنعام : {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـاـاكُمْ } (الأنعام : 165).
ثم قال : {وَلَلاخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} والمعنى : أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس ، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم ، فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا ، فإذا كان الانسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى.
القول الثاني : أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا ، والمعنى أن المؤمنين يدخلون / الجنة ، والكافرين يدخلون النار ، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين ، ونظيره قوله تعالى : {أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} (الفرقان : 24).
جزء : 20 رقم الصفحة : 319
320
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان وجه النظم. فنقول : إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب ، ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب. ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة : أولها : إرادة الآخرة. وثانيها : أن يعمل عملاً ويسعى سعياً موافقاً لطلب الآخرة. وثالثها ؛ أن يكون مؤمناً لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان ، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال : {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها ، والمشتغل بها ساعياً سعياً يليق بطلب الآخرة ، وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم.
(1/2791)

المسألة الثانية : قال المفسرون : هذا في الظاهر خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم ، ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله : {الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} (الطلاق : 1) ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل : أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلهاً آخر ، وهذا الاحتمال عندي أولى ، لأنه تعالى عطف عليه قوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} (الإسراء : 23) إلى قوله : {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا} (الإسراء : 23) وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام ، لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان.
المسألة الثالثة : معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذموماً مخذولاً ، والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه : الأول : أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان. الثاني : أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد ، فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى ، فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى ، مع أن الحق أن كلها من الله ، فحينئذ يستحق الذم ، لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله ، فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان ، لأنه لما أثبت شريكاً لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك ، فلما كان ذلك الشريك معدوماً بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين. وذلك عين الخذلان. الثالث : أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة ، فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان / واستوجب الذم والخذلان ، واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحاً منصوراً. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 320
المسألة الرابعة : القعود المذكور في قوله : {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا} فيه وجوه : الأول : أن معناه : المكث أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً ، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى ، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب : هو قاعد بأسوأ حال معناه : المكث سواء كان قائماً أو جالساً. الثاني : إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه. الثالث : أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها ، والسعي إنما يتأتى بالقيام ، وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالساً قاعداً عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات ، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات. والقعود كناية عن العجز والضعف.
المسألة الخامسة : قال الواحدي : قوله : (فتقعد) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار "أن" كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك ، والتقدير : لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف. وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول ، ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر قعدت مذموماً مخذولاً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 320
المسألة الرابعة : القعود المذكور في قوله : {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا} فيه وجوه : الأول : أن معناه : المكث أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً ، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى ، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب : هو قاعد بأسوأ حال معناه : المكث سواء كان قائماً أو جالساً. الثاني : إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه. الثالث : أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها ، والسعي إنما يتأتى بالقيام ، وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالساً قاعداً عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات ، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات. والقعود كناية عن العجز والضعف.
المسألة الخامسة : قال الواحدي : قوله : (فتقعد) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار "أن" كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك ، والتقدير : لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف. وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول ، ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر قعدت مذموماً مخذولاً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 320
321
(1/2792)

اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الأيمان ، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع :
النوع الأول : أن يكون الإنسان مشتغلاً بعبادة الله تعالى ، وأن يكون محترزاً عن عبادة غير الله تعالى ، وهذا هو المراد من قوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} وفيه بحثان :
البحث الأول : القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ. والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال : إنه قضى عليه ، أما إذا أمره أمراً جزماً وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع ، فههنا يقال : قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء / وانقطاعه. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرىء : {وَقَضَى رَبُّكَ} ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط ، لأن خلاف قضاء الله ممتنع ، هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير ، وهو قراءة علي وعبد الله.
واعلم أن هذا القول بعيد جداً لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين.
البحث الثاني : قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة الله تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو الحق ، وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ، ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة ، والقدرة والشهوة والعقل ، وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو الله تعالى لا غيره ، وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره ، لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره ، فثبت بالدليل العقلي صحة قوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} .
جزء : 20 رقم الصفحة : 321
328
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه ، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه :
/ الوجه الأول : أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده ، والسبب الظاهري هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري.
الوجه الثاني : أن الموجود إما قديم وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام : "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } إشارة إلى الشفقة على خلق الله.
الوجه الثالث : أن الاشتغال بشكر المنعم واجب ، ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى. وقد يكون أحد من المخلوقين منعماً عليك ، وشكره أيضاً واجب لقوله عليه السلام : "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين وتقريره من وجوه : أحدها : أن الولد قطعة من الوالدين ، قال عليه السلام : "فاطمة بضعة مني". وثانيها : أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي ، ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة ، والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير ، فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان. وثالثها : أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز ، يكون في إنعام الأبوين فاصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه ، وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت ، ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعاً على هذا الوجه كان موقعه عظيماً. ورابعها : أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط. فكان الإنعام فيه أتم وأكمل ، فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد ، فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } والسبب فيه ما بينا أن أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
(1/2793)

فإن قيل : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات ، فأي إنعام للأبوين على الولد ؟
حكي أن واحداً من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد. وعرضني للموت والفقر والعمى / والزمانة ، وقيل لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك ؟
قال اكتبوا عليه :
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج والولد :
وتركت أولادي وهم في نعمة الـ
ـعدم التي سبقت نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة
ترمي بهم في موبقات الآجل وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك ؟
فقال : الأستاذ أعظم منة ، لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم ، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد ، ومن الكلمات المشهورة المأثورة ، خير الآباء من علمك.
والجواب : هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ، وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات ، فسقطت هذه الشبهات والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } قال أهل اللغة : تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا ، أو يقال : وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحساناً. قال صاحب "الكشاف" : ولا يجوز أن تتعلق الباء في {وَبِالْوَالِدَيْنِ} بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلاً على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته. وقال الواحدي في "البسيط" : الباء في {وَبِالْوَالِدَيْنِ} من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر ، وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق ، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه ، والمثال المذكور ليس كذلك.
المسألة الثالثة : قال القفال : لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة ، وبحرف إلى أخرى ، وكذلك الإساءة ، يقال : أحسنت به وإليه. وأسأت به وإليه. قال الله تعالى : {وَقَدْ أَحْسَنَ بِى } (يوسف : 100) وقال القائل :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
لدينا ولا مقلية إن تقلت وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين : أحدها : أنه تعالى قال في الآية المتقدمة : {وَمَنْ أَرَادَ الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (الإسراء : 19) ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين ، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من / أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة. وثانيها : أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى ، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة. وثالثها : أنه تعالى لم يقل : وإحساناً بالوالدين ، بل قال : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام. ورابعها : أنه قال : {إِحْسَـانًا } بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم ، والمعنى : وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً عظيماً كاملاً ، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة ، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء ، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ.
ثم قال تعالى : {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ "إما" لفظة مركبة من لفظتين : إن ، وما. أما كلمة إن فهي للشرط ، وأما كلمة (ما) فهي أيضاً للشرط كقوله تعالى : {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ} (البقرة : 106) فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط ، إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد ، لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول : إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه ، إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع ، لأن قول القائل : الشيء إما كذا وإما كذا/ فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين ، وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد ؟
وجوابه : أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
(1/2794)

المسألة الثانية : قرأ الأكثرون : {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا} وعلى هذا التقدير فقوله : {يَبْلُغَنَّ} فعل وفاعله هو قوله : {أَحَدُهُمَآ} وقوله : {أَوْ كِلاهُمَا} عطف عليه كقولك : ضرب زيد أو عمرو : ولو أسند قوله : {يَبْلُغَنَّ} إلى قوله : {كِلاهُمَا} جاز لتقدم الفعل ، تقول قال رجل ، وقال رجلان ، وقالت الرجال ، وقرأ حمزة والكسائي : وعلى هذه القراءة فقوله : {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ} بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً.
فإن قيل : لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيداً لا بدلاً ، فلم زعمتم أنه بدل ؟
قلنا : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه ، فوجب أن يكون مثله في كونه بدلاً.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال قوله : {أَحَدُهُمَآ} بدل ، وقوله : {أَوْ كِلاهُمَا} توكيد ، ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل.
قلنا : العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال أبو الهيثم الرازي ، وأبو الفتح الموصلي ، وأبو علي الجرجاني : إن كلاً اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة. والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلى الرجلين بكسر الياء كما تقول : بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل. ويا صاحبي السجن. وطرفي النهار ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة ، فاذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى : {وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَرْدًا} (مريم : 95) وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائماً قال الله تعالى : {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا} (الكهف : 33) ولم يقل آتتا والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله : {يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا} معناه : أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر.
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء :
النوع الأول : قوله تعالى : {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : فيه سبع لغات : كسر الفاء وضمها وفتحها ، وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش : كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري : من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج : {أُفٍّ} بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و{أُفٍّ} بضم الألف وتسكين الفاء.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر : بفتح الفاء من غير تنوين ، ونافع وحفص : بكسر الفاء والتنوين ، والباقون : بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات ، وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء {أُفٍّ لَّكُمْ} (الأنبياء : 67) وفي الأحقاف : {أُفٍّ لَّكُمَآ} (الأحقاف : 17) وأقول : البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة/ فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة ، واقتصروا على وجوه قليلة منها ؟
المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوهاً : الأول : قال الفراء : تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها ، معناه يقول : أف أف. الثاني : قال الأصمعي : الأف وسخ الأذن. والتف وسخ الظفر. يقال ذلك عند استقذار الشيء ، ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به. / الثالث : قال بعضهم أف معناه قلة ، وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له ، كقولهم : شيطان ليطان خبيث نبيث. الرابع : روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأف الضجر. الخامس : قال القتبي : أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف ، ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم. السادس : قال الزجاج : أف معناه النتن وهذا قول مجاهد ، لأنه قال معنى قوله : {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول ، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف.
(1/2795)

المسألة الرابعة : قول القائل : لا تقل لفلان أف ، مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل. واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا للفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس. قال بعضهم : إنها دلالة لفظية ، لأن أهل العرف إذا قالوا : لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش ، وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيراً ولا قطميراً في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئاً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
والقول الثاني : أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي ، وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى ، فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة ، فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف ، والضرب أولى بالمنع من التأفيف. وثانيها : أن يكون الحكم في محل السكوت مساوياً للحكم في محل الذكر ، وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل ، وضربوا لهذا مثلاً وهو قوله عليه السلام : "من أعتق نصيباً له من عبد قوم عليه الباقي" فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان. وثالثها : أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات.
إذا عرفت هذا فنقول : المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى. والدليل عليه : أن التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب ، وأيضاً المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً ، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكاً عظيماً كان عدواً له ، فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته ، وإذا كان هذا معقولاً في الجملة علمنا أن المنع من / التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلاً في الجملة ، إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين بدليل قوله : {وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى ، والله أعلم.
النوع الثاني : من الأشياء التي كلف الله تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله : {وَلا تَنْهَرْهُمَا} يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال تعالى : {وَأَمَّا السَّآاـاِلَ فَلا تَنْهَرْ} (الضحى : 10).
فإن قيل : المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى ، فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثاً. أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيداً حسناً ، لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف ، فما السبب في رعاية هذا الترتيب ؟
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
قلنا : المراد من قوله : {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير ، والمراد من قوله : {وَلا تَنْهَرْهُمَا} المنه من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له.
النوع الثالث : قوله تعالى : {وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش. والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمراً بالقول الطيب ، لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال : {وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو أن يقول له : يا أبتاه يا أماه ، وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ ، وعن عطاء أن يقال : هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك ، وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم.
فإن قيل : إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلماً وكرماً وأدباً ، فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ} بالضم : {إِنِّى أَرَاـاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (الأنعام : 74) فخاطبه بالاسم وهو إيذاء ، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء ؟
قلنا : إن قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } يدل على أن حق الله تعالى مقدم على حق الأبوين ، فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى على حق الأبوين.
(1/2796)

النوع الرابع : قوله : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} والمقصود منه المبالغة في التواضع ، / وذكر القفال رحمه الله في تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
فإن قيل : كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له ؟
قلنا : فيه وجهان : الأول : أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال : حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد ، واخفض لهما جناحك الذليل ، أي المذلول. والثاني : أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحاً وأثبت لذلك الجناح ضعفاً تكميلاً لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد :
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله : {مِنَ الرَّحْمَةِ} معناه : ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما.
والنوع الخامس : قوله : {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} وفيه مباحث :
البحث الأول : قال القفال رحمه الله تعالى : إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول : {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. ثم يقول : {كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي ، والتربية هي التنمية ، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع ، ومنه قوله تعالى : {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (فصلت : 39).
البحث الثاني : اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها منسوخة بقوله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 113) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : رب ارحمهما.
والقول الثاني : أن هذه الآية غير منسوخة ، ولكنها مخصوصة في حق المشركين ، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.
والقول الثالث : أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.
/ البحث الثالث : ظاهر الأمر للوجوب فقوله : {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة ، سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه ؟
أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة ؟
فقال : نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال : {النَّبِىِّا يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} (الأحزاب : 56) فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم ، وكما أن الله تعالى قال : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } (البقرة : 203) فهم يكررون في أدبار الصلوات.
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
ثم قال تعالى : {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُم إِن تَكُونُوا صَـالِحِينَ} والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين ، ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها ، فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها ، لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل ، فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال ، وإذا كان الأمر كذلك كان عالماً بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص.
(1/2797)

ثم قال تعالى : {إِن تَكُونُوا صَـالِحِينَ} أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين ، أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم ، والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جماداً يزعمون أنه يشفع لهم ، ولفظ الأواب على وزن فعال ، وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم : قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال : {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 328
329
/ اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَءَاتِ} خطاب مع من ؟
فيه قولان :
القول الأول : أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم فأمره الله أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة ، وأوجب عليه أيضاً إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المثالين.
والقول الثاني : أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} (الإسراء : 23) والمعنى : أنك بعد فراغك من بر الوالدين ، يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب ، ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل.
واعلم أن قوله تعالى : {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه } مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو ؟
وعند الشافعي رحمه الله أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين ، وقال قوم : يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم فلا حق لهم إلا الموادة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة في السراء والضراء. أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم وصفهما في سورة التوبة في تفسير آية الزكاة. ويجب أن يدفع إلى المسكين ما يفي بقوته وقوت عياله ، وأن يدفع إلى ابن السبيل ما يكفيه من زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده.
جزء : 20 رقم الصفحة : 329
ثم قال تعالى : {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف. قال عثمان بن الأسود : كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال : لو أن رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ، ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله كان من المسرفين. وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير ، وعن عبد الله بن عمر قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسعد وهو يتوضأ فقال : ما هذا السرف يا سعد ؟
فقال : أو في الوضوء سرف ؟
قال : نعم : وإن كنت على نهر جارٍ ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال : {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ } والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح ، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخاً له ، فيقولون : فلان أخو الكرم والجود ، وأخو السفر إذا كان مواظباً على هذه الأعمال ، وقيل قوله : {إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ } أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال : {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـن ِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ} (الأعراف : 36) وقال تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات : 22) أي قرناءهم من الشياطين ، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال : {وَكَانَ الشَّيْطَـانُ لِرَبِّه كَفُورًا} ومعنى كون الشيطان كفوراً لربه ، هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض ، والإضلال للناس. وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفوراً لنعمة الله تعالى ، والمقصود : أن المبذرين إخوان الشياطين ، بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل/ ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضاً كفوراً لربه ، وقال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر ، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله ، وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أعمالهم في هذا الباب.
جزء : 20 رقم الصفحة : 329
(1/2798)

ثم قال تعالى : {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} والمعنى : أنك إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة : {فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا} أي سهلاً ليناً وقوله : {ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} كناية عن الفقر ، لأن فاقد المال يطلب رحمة الله وإحسانه. فلما كان فقد المال سبباً لهذا الطلب ولهذا الابتغاء أطلق اسم السبب على المسبب فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله تعالى ، والمعنى : أن عند حصول الفقر والقلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن ، بل تعدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال ، أو تقول لهم : الله يسهل ، وفي تفسير القول الميسور وجوه : الأول : القول الميسور هو الرد بالطريق الأحسن. والثاني : القول الميسور اللين السهل قال الكسائي : يسرت أيسر له القول أي لينته له. الثالث : قال بعضهم : القول الميسور مثل قوله : {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } (البقرة : 363) قالوا : والميسور هو المعروف ، لأن القول المتعارف لا يحوج إلى تكلف ، والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 329
330
اعلم أنه تعالى لما أمره بالانفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق ، واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} (الفرقان : 67) فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات ، والمعنى : لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط : {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحاصل الكلام : أن الحكماء ذكروا في كتب "الأخلاق" أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان ، فالبخل إفراط في الإمساك ، والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان ، والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} .
ثم قال تعالى : {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} أما تفسير تقعد ، فقد سبق في الآية المتقدمة. وأما كونه ملوماً فلأنه يلوم نفسه. وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة ، وأما كونه محسوراً فقال الفراء : تقول العرب للبعير : هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها ، ومنه قوله تعالى : {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك : 4) وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى ، وقال القفال : المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته ، لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة ، كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 330
ثم قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } والمقصود أنه عرف رسوله صلى الله عليه وسلّم كونه رباً. والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض. والقدر في اللغة التضييق ، ومنه قوله تعالى : {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه } (الطلاق : 7) وقوله تعالى : {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه } (الفجر : 16) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى : {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } (الشورى : 27).
/ ثم قال تعالى : {إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا} يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر ، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل ، بل لأجل رعاية المصالح.
جزء : 20 رقم الصفحة : 330
(1/2799)

ثم قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } والمقصود أنه عرف رسوله صلى الله عليه وسلّم كونه رباً. والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض. والقدر في اللغة التضييق ، ومنه قوله تعالى : {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه } (الطلاق : 7) وقوله تعالى : {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه } (الفجر : 16) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى : {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } (الشورى : 27).
/ ثم قال تعالى : {إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا} يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر ، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل ، بل لأجل رعاية المصالح.
جزء : 20 رقم الصفحة : 330
331
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال : {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } (الإسراء : 30) أتبعه بقوله : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍا نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } .
الوجه الثاني : أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد ، ولهذا قال بعضهم : إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد. وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين.
الوجه الثالث : أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم ، لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد ، فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه ، فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين.
الوجه الرابع : أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله ، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم ، فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى ، والثاني : ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم. والله أعلم.
الوجه الخامس : أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية ، وهي من أعظم الموجبات للمحبة. فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح ، وقسوة في القلب ، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة ، فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة.
المسألة الثانية : العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب ، وقدرة البنين عليه / بسبب إقدامهم على النهب والغارة ، وأيضاً كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء ، وفي ذلك عار شديد فقال تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} وهذا لفظ عام للذكور والإناث ، والمعنى : أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً ، وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث. وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر ، وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين.
جزء : 20 رقم الصفحة : 331
ثم قال تعالى : {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } يعني الأرزاق بيد الله تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال ، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء.
المسألة الثالثة : الجمهور قرؤا إن قتلهم كان خطأ كبيراً ، أي إثماً كبيراً يقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثماً. قال تعالى : {إِنَّا كُنَّا خَـاطِاِينَ} (يوسف : 97) أي آثمين ، وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح يقال : أخطأ يخطىء إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد ، ويكون الخطأ اسماً للمصدر ، والمعنى : على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب. قال القفال رحمه الله ، وقرأ ابن كثير : بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس.
جزء : 20 رقم الصفحة : 331
333
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها ، وحاصلها يرجع إلى شيئين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، أتبعها بذكر النهي عن أشياء. أولها : أنه تعالى نهى عن الزنا فقال : {وَلا تَقْرَبُوا } قال القفال : إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه : {كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلا} .
(1/2800)

واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا ؟
فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك. وقال المنكرون : لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك ، احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا ، وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهياً عنه. وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال ، فوجب أن يقال : كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا ، وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها ، ويدل أيضاً على أن نهي / الله تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه ، وهذا الاستدلال قريب ، والأولى أن يقال : إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع ، فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة ، والضرب المؤلم مفسدة ، وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع.
وإذا ثبت هذا فنقول : تكاليف الله تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري ، وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل الله التوفيق لبلوغ الغاية فيها.
جزء : 20 رقم الصفحة : 333
333
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها ، وحاصلها يرجع إلى شيئين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، أتبعها بذكر النهي عن أشياء. أولها : أنه تعالى نهى عن الزنا فقال : {وَلا تَقْرَبُوا } قال القفال : إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه : {كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلا} .
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا ؟
فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك. وقال المنكرون : لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك ، احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا ، وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهياً عنه. وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال ، فوجب أن يقال : كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا ، وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها ، ويدل أيضاً على أن نهي / الله تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه ، وهذا الاستدلال قريب ، والأولى أن يقال : إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع ، فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة ، والضرب المؤلم مفسدة ، وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع.
وإذا ثبت هذا فنقول : تكاليف الله تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري ، وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل الله التوفيق لبلوغ الغاية فيها.
جزء : 20 رقم الصفحة : 333
(1/2801)

إذا عرفت هذا فنقول : الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد : أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره ، فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده ، وذلك يوجب ضياع الأولاد ، وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم. وثانيها : أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل ، وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة ، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا. وثالثها : أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم ، وكل خاطر مستقيم ، وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج ، ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق. ورابعها : أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة ، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت. وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب. وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس ، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد ، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال ، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية. وسادسها : أن الوطء يوجب الذل الشديد ، والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع ، ولولا أن الوطء يوجب الذل ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، وأيضاً فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة ، وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد/ وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن ، ولولا أن الوطء ذل ، وإلا لما كان كذلك.
وإذا ثبت هذا فنقول : لما كان الوطء ذلاً كان السعي في تقليله موافقاً للعقول ، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل ، وأيضاً ما فيه من الذل يصير مجبوراً بالمنافع / الحاصلة في النكاح ، أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبوراً بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر ، فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح.
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة ، ومقتاً في آية أخرى : {وَسَآءَ سَبِيلا} أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضاً يوجب خراب العالم. وأما المقت : فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة ، وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلاً ، فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث ، وأيضاً يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبوراً بشيء من المنافع ، فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه ؛ والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة ، فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة ، والله أعلم بمراده.
جزء : 20 رقم الصفحة : 333
336
هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل ، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولاً بذكر النهي عن الزنا وثانياً بذكر النهي عن القتل.
وجوابه : أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود ، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود. ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى الزنا أولاً ثم ذكر القتل ثانياً.
(1/2802)

المسألة الثانية : اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة ، والحل إنما يثبت بسبب عارضي ، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقاً بناء على حكم الأصل ، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال : {إِلا بِالْحَقِّ } / فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم ، والذي يدل عليه وجوه : الأول : أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) ولا يريد بكم العسر. ولا ضرر ولا ضرار. الثاني : قوله عليه السلام : "الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب". الثالث : أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) ولقوله عليه السلام : "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل. الرابع : أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا } (الأعراف : 85). الخامس : أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح ، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجح وهو محال. السادس : أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنساناً عاقلاً حكمنا فيه بتحريم قتله ، وما لم نعرف شيئاً زائداً على كونه إنساناً لم نحكم فيه بحل دمه ، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل ، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم. وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية.
جزء : 20 رقم الصفحة : 336
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } فقوله : {وَلا تَقْتُلُوا } نهي وتحريم ، وقوله : {حَرَّمَ اللَّهُ} إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال : {إِلا بِالْحَقِّ } ثم ههنا طريقان :
الطريق الأول : أن مجرد قوله : {إِلا بِالْحَقِّ } مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو ؟
ثم إنه تعالى قال : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} أي في استيفاء القصاص من القاتل ، وهذا الكلام يصلح جعله بياناً لذلك المجمل ، وتقريره كأنه تعالى قال : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } وذلك الحق هو أن من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً في استيفاء القصاص. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط ، فصار تقدير الآية : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص ، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصاً صريحاً في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد/ فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة.
والطريق الثاني : أن نقول : دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة : وهو قوله عليه السلام : "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق".
واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد. فإن قلنا : إن قوله : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} تفسير لقوله : {إِلا بِالْحَقِّ } كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد ، / فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصاً لهذه الآية ويصير ذلك فرعاً لقولنا : إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وأما إن قلنا : إن قوله : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} ليس تفسيراً لقوله : {إِلا بِالْحَقِّ } فحينئذ يصير هذا الخبر مفسراً للحق المذكور في الآية ، وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعاً على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. فلتكن هذه الدقيقة معلومة والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 336
(1/2803)

المسألة الثالثة : ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم ، وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه : وهو الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى : {إِنَّمَا جَزَا ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَسْعَوْنَ فِى الارْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } (المائدة : 33) ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر. قال تعالى : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ} (التوبة : 29) وقال : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } (النساء : 89) والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها : أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا ؟
فعند الشافعي رحمه الله يقتل ، وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل. وثانيها : أن فعل اللواط هل يوجب القتل ؟
فعند الشافعي يوجب ، وعند أبي حنيفة لا يوجب. وثالثها : أن الساحر إذا قال : قتلت بسحري فلاناً فعند الشافعي يوجب القتل ، وعند أبي حنيفة لا يوجب. ورابعها : أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص ؟
فعند الشافعي يوجب. وعند أبي حنيفة لا يوجب. وخامسها : أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا ؟
اختلفوا فيه في زمان أبي بكر. وسادسها : أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل ، فعند أكثر الفقهاء لا يوجب ، وعند قوم يوجب ، حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق ، إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم ، ففيما عدا هذا السببب الواحد ، وجب البقاء على أصل الحرمة ، ثم قالوا : وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق ، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض ، وذلك المعارض إما أن يكون نصاً متواتراً أو نصاً من باب الآحاد أو يكون قياساً ، أما النص المتواتر فمفقود ، وإلا لما بقي الخلاف ، وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة ، وأما القياس فلا يعارض النص. فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا فَلا يُسْرِف} فيه بحثان :
جزء : 20 رقم الصفحة : 336
البحث الأول : أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطاناً ، فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فليس في قوله : {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} دلالة عليه ثم ههنا طريقان : الأول : أنه تعالى لما قال بعده : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ } عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل/ وهذا / ضعيف لاحتمال أن يكون المراد : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل ، لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه. والثاني : أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة : {الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (البقرة : 178) إلى قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } (البقرة : 178) وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيراً بين القصاص وبين الدية. وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح : "من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" وعلى هذا الطريق فقوله : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ } معناه : أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء ، وسلطنة استيفاء الدية إن شاء. قال بعده : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ } معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة "في" محمولة على الباء ، والمعنى : فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (البقرة : 237).
(1/2804)

البحث الثاني : أن في قوله : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير ، وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال ، فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملاً في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص. قال الشافعي رحمه الله : قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية ، بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه ، إنما قلنا : إنه مشرك لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 116) حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض ، فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئاً مغايراً للشرك لوجب أن يصير مغفوراً في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية ، فلما لم يصر مغفوراً في حق أحد دل على أن كفرهم شرك ، ولأنه تعالى قال : {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ } (البقرة : 73) فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء ، إما أن يكون تثليثاً في الصفات وهو باطل ، لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثاً للكفر ، وإما أن يكون تثليثاً في الذوات ، وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك ، فثبت أن الذمي مشرك ، وإنما قلنا : إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 5) ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة.
جزء : 20 رقم الصفحة : 336
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت أنه ليس كاملاً في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} وأما الحر إذا قتل عبداً فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (البقرة : 178) يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} والخاص / مقدم على العام ، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي ، ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد والله أعلم.
أما قوله تعالى : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ } ففيه مباحث :
البحث الأول : فيه وجوه : الأول : المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل ، وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحداً من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقاً من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده. الثاني : هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوماً معينين ويتركون القاتل. والثالث : هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه. قال القفال : ولا يبعد حمله على الكل ، لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً.
البحث الثاني : قرأ الأكثرون : {فَلا يُسْرِف} بالياء وفيه وجهان : الأول : التقدير : فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل. الثاني : أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء ، أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة عن إقدامه على ذلك القتل الظلم ، وقرأ حمزة والكسائي : {فَلا} بالتاء على الخطاب ، وهذه القراءة تحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الخطاب للمبتدىء القاتل ظلماً كأنه قيل له : لا تسرف أيها الإنسان ، وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض ، والمعنى : لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوماً استوفى القصاص منك. والآخر : أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير : لا تسرف في القتل أيها الولي ، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة. وأما قوله : {الْقَتْلِا إِنَّه كَانَ مَنصُورًا} ففيه ثلاثة أوجه : الأول : كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك ، فإن ذلك المقتول يكون منصوراً في الدنيا والآخرة ، أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله ، وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله.
جزء : 20 رقم الصفحة : 336
والقول الثاني : أن هذا الولي يكون منصوراً في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصوراً فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه ، لأن من يكون منصوراً من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة.
والقول الثالث : أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة.
(1/2805)

واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان ، لأن الله تعالى يقول : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} وقال / الحسن : والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 336
337
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات.
اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب. وذلك يوجب منع الاهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل ، وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود ، وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود ، فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس ، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال ، لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال ، وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم ، لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله ، فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} ونظيره قوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } (النساء : 6) وفي تفسير قوله : {إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} وجهان : الأول : إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره. الثاني : المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه ، وروى مجاهد عن ابن عباس قال : إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه ، فإن لم يوسر فلا شيء عليه.
واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح ، كما بينه الله تعالى في آية أخرى وهو قوله : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } (النساء : 6) والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ، وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ ، فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه والله أعلم. وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 337
338
/ اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولاً ، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا ، وعن القتل إلا بالحق ، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } .
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } نظير لقوله تعالى : {عَلِيمُ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (المائدة : 1) فدخل في قوله : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة ، وعقد اليمين والنذر ، وعقد الصلح ، وعقد النكاح. وحاصل القول فيه : أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد ، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها ، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا } (البقرة : 177) وقوله : {وَالَّذِينَ هُمْ لامَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون : 8) وقوله : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (البقرة : 275) وقوله : {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } (النساء : 29) وقوله : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } (البقرة : 282) وقوله عليه السلام : "لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه" وقوله : "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد" وقوله : "من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه" فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.
إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصاً أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديماً للخاص على العام ، وإلا قضينا بالصحة في الكل ، وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ، ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل ، لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان ، وتصير الشريعة مضبوطة معلومة.
/
(1/2806)

جزء : 20 رقم الصفحة : 338
ثم قال تعالى : {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ} وفيه وجوه : أحدها : أن يراد صاحب العهد كان مسؤلاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82). وثانيها : أن العهد كان مسؤلا أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به. وثالثها : أن يكون هذا تخييلاً كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة : {بِأَىِّ ذَنابٍ قُتِلَتْ} (التكوير : 9) وكقوله : {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن} (المائدة : 116) الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره.
النوع الثاني : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله : {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين : 1 ـ 3).
النوع الثالث : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله : {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} فالآية المتقدمة في إتمام الكيل ، وهذه الآية في إتمام الوزن ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن : 9) وقوله : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} (هود : 85).
واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل ، والوزن قليل. والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم ، فوجب على العاقل الاحتراز منه ، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، وقد يكون الإنسان غافلاً لا يهتدي إلى حفظ ماله ، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان ، سعياً في إبقاء الأموال على الملاك ، ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير ، والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه ، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان. وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني. والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط ، وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال ، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين ، وأجمعوا على جواز اللغتين فيه ، ضم القاف وكسرها ، فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 338
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ خَيْرٌ } أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة : {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر : {وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} (مريم : 76) {وَخَيْرٌ عُقْبًا} (الكهف : 46) {وَخَيْرٌ أَمَلا} (الكهف : 44) وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب ، لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل ، وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة / لهم في المدة القليلة. وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 338
341
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة ، عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء : أولها : قوله : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } وقوله : {تَقْفُ} مأخوذ من قولهم : قفوت أثر فلان أقفو قفواً وقفواً إذا اتبعت أثره ، وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت ، وسميت القبيلة المشهورة بالقافة ، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان ، وقال تعالى : {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا} (الحديد : 27) وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله : {وَلا تَقْفُ} أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل ، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة ، وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه :
(1/2807)

الوجه الأول : المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم ، لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال : {إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍا إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الانفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } (النجم : 23) وقال في إنكارهم البعث : {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاخِرَةِا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل : 66) وحكي عنهم أنهم قالوا : {إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية : 32) وقال : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاـاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّه } (القصص : 50) وقال : {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـاذَا حَلَـالٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ} (النحل : 116) الآية وقال : {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآا إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} (الأنعام : 148).
جزء : 20 رقم الصفحة : 341
والقول الثاني : نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور ، وقال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك.
والقول الثالث : المراد منه : النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب ، وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه.
/ والقول الرابع : المراد منه النهي عن الكذب. قال قتادة : لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم.
والقول الخامس : أن القفو هو البهت وأصله من القفا ، كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه. وفي بعض الأخبار من قفا مسلماً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال ، واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد والله أعلم.
المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم ، فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم ، فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } .
أجيب عنه من وجوه : الأول : أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة : أحدها : أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز. وثانيها : العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز. وثالثها : الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز. ورابعها : قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز. وخامسها : الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز. وسادسها : كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم ، وبناء الحكم عليه جائز. وسابعها : قال تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِه وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ} (النساء : 35) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم. وثامنها : الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاماً كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما. وتاسعها : جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار ، وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز. وعاشرها : قال عليه السلام : "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول : إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن.
جزء : 20 رقم الصفحة : 341
والجواب الثاني : أن الظن قد يسمى بالعلم. والدليل عليه قوله تعالى : {إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَـاتُ مُهَـاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِهِنَّا فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } (الممتحنة : 10) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على اقرارهن ، وذلك لا يفيد إلا الظن ، فههنا الله تعالى سمى الظن علماً.
والجواب الثالث : أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس ، وكان ذلك الدليل دليلاً على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص ، / فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن ، فههنا الظن وقع في طريق الحكم ، فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن.
(1/2808)

أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا : قوله تعالى : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة ، فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة ، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة ، فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين ، وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور. والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له ، وذلك متعذر ، فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن. أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة ، والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم.
إذا عرفت هذا فنقول : التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن ، أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق.
وأما الجواب الثاني : وهو قولهم الظن قد يسمى علماً فنقول : هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم ، وهذا معلوم وغير مظنون ، وذلك يدل على حصول المغايرة ، ثم الذي يدل عليه قوله تعالى : {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآا إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} (الأنعام : 148) نفي العلم ، واثبات للظن ، وذلك يدل على حصول المغايرة ، وأما قوله تعالى : {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـاتٍ} (الممتحنة : 10) فالمؤمن هو المقر ، وذلك الإقرار هو العلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 341
وأما الجواب الثالث : فهو أيضاً ضعيف ، لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة إما أن تكون عقلية أو نقلية/ والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلاً أن يكون حجة ، والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول : نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمراً عقلياً محضاً لامتنع ذلك. والثاني : أيضاً باطل ، لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعياً لو كان منقولاً نقلاً متواتراً وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف ، وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه / المسألة دليل سمعي قاطع ، فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع ألبتة ، فبطل قولكم كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون ، فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل. وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص ، والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن ، فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز ، فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضاً فسقط الاستدلال به والله أعلم. وللمجيب أن يجيب فيقول : نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلّم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ} فيه بحثان :
البحث الأول : أن العلوم إما مستفادة من الحواس ، أو من العقول. أما القسم الأول : فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر ، فإن الإنسان إذا سمع شيئاً ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه ، وأما القسم الثاني : فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان : البديهية والكسبية ، وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد.
البحث الثاني : ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه :
الوجه الأول : أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً ، وهذه الجوارح ليست كذلك ، بل العاقل الفاهم هو الإنسان ، فهو كقوله تعالى : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) والمراد أهلها يقال له لم سمعت ما لايحل لك سماعه ، ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه ، ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه.
جزء : 20 رقم الصفحة : 341
والوجه الثاني : أن تقرير الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أو في المعصية ؟
وكذلك القول في بقية الأعضاء ، وذلك لأن هذه الحواس آلات النفس ، والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملتها النفس في الخيرات استوجبت الثواب ، وإن استعملتها في المعاصي استحقت العقاب.
(1/2809)

والوجه الثالث : أنه ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور : 24) ولذلك لا يبعد أن يخلق الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء. ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها.
جزء : 20 رقم الصفحة : 341
343
/ اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المرح شدة الفرح يقال : مرح يمرح مرحاً فهو مرح ، والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة. قال الزجاج : لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان : {وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا} (الفرقان : 63) وقال في سورة لقمان : {وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } (لقمان : 19) وقال أيضاً فيها : {وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان : 18).
المسألة الثانية ؛ قال الأخفش : ولو قرى : {مَرَحًا } بالكسر كان أحسن في القراءة. قال الزجاج : مرحاً مصدر ومرحاً اسم الفاعل وكلاهما جائز ، إلا أن المصدر أحسن ههنا وأوكد ، تقول جاء زيد ركضاً وراكضاً فركضاً أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل ، ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال : {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الارْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} والمراد من الخرق ههنا نقب الأرض ، ثم ذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل : إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها ، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال ، والمراد التنبيه على كونه ضعيفاً عاجزاً فلا يليق به التكبر. الثاني : المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها. وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد ، وأنت أضعف منهما بكثير ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له : تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي :
ثم قال تعالى : {كُلُّ ذَالِكَ كَانَ سَيِّئُه عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الأكثرون قرؤا سيئه بضم الهاء والهمزة وقرى نافع وابن كثير وأبو عمرو سيئه منصوبة أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين :
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 343
الوجه الأول : قال الحسن : إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضا ونهى عن بعضها ، فلو حكم على الكل بكونه سيئه لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز ، أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند الله واستقام الكلام.
والوجه الثاني : أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئه لوجب أن يقال : إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال : {مَكْرُوهًا} أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيىء تلك الأقسام يكون مكروهاً ، وحينئذ يستقيم الكلام. أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو : فيها وجوه : الأول : أن الكلام ، تم عند قوله : {ذَالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (النساء : 59) ثم ابتدأ وقال : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } (الإسراء : 36) {وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } (الإسراء : 37).
ثم قال : {كُلُّ ذَالِكَ كَانَ سَيِّئُه } والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى الله عنها. والثاني : أن المراد بقوله : {كُلُّ ذَالِكَ} أي كل ما نهى الله عنه فيما تقدم. وأما قوله : {مَكْرُوهًا} فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوهاً : الأول : التقدير : كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً. الثاني : قال صاحب "الكشاف" : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه. ألا ترى أنك تقول : الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث. الثالث : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك. الرابع : أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر.
(1/2810)

المسألة الثانية : قال القاضي : دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى ، والمكروه لا يكون مراداً له ، فهذه الأعمال غير مرادة لله تعالى فبطل قول من يقول : كل ما دخل في الوجود فهو مراد لله تعالى. وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة لله تعالى لكانت مرادة له لا يقال : المراد من كونها مكروهة أن الله تعالى نهى عنها ، وأيضاً معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن الله تعالى أراد وجودها ، لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر ، وأيضاً فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهياً عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار.
جزء : 20 رقم الصفحة : 343
والجواب عن الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال : إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال.
والجواب : أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال القاضي : دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريداً فكذلك أيضاً موصوف بكونه كارهاً. وقال أصحابنا : الكراهية في حقه تعالى محمولة إما على النهي أو على إرادة العدم. والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 343
345
/ اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعاً من التكاليف. فأولها : قوله : {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} (الإسراء : 22) وقوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} (الإسراء : 23) مشتمل على تكليفين : الأمر بعبادة الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله ، فكان المجموع ثلاثة. وقوله : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } (الإسراء : 23) هو الرابع ، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي : قوله : {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} (الإسراء : 23 ، 24) فيكون المجموع تسعة ، ثم قال : {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر. ثم قال : {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الإسراء : 26) فيصير ثلاثة عشر. ثم قال : {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا} وهو الرابع عشر ثم قال : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (الإسراء : 28 ، 29) إلى آخر الآية وهو الخامس عشر ، ثم قال : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} (الإسراء : 31) وهو السادس عشر ، ثم قال : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } وهو السابع عشر ثم قال : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} وهو الثامن عشر ، ثم قال : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ } (الإسراء : 33) وهو التاسع عشر ، ثم قال : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } (الإسراء : 34) وهو العشرون. ثم قال : {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} وهو الحادي والعشرون ، ثم قال : {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (الإسراء : 35) وهو الثاني والعشرون ، ثم قال : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } (الإسراء : 36) وهو الثالث والعشرون ، ثم قال : {وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } (الإسراء : 37) وهو الرابع والعشرون ، ثم قال : {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} وهو الخامس والعشرون ، فهذه خمسة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله : {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} (الإسراء : 22) وخاتمتها قوله : {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} .
جزء : 20 رقم الصفحة : 345
إذا عرفت هذا فنقول : ههنا فوائد :
(1/2811)

الفائدة الأولى ؛ قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة ، وإنما / سماها بهذا الاسم لوجوه : أحدها : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها. فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن ، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَـاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (الشعراء : 221 ، 222). وثانيها : أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار. وثالثها : أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها ، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة ، وعن ابن عباس : أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام : أولها : {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} قال تعالى : {وَكَتَبْنَا لَه فِى الالْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ} (الأعراف : 145).
والفائدة الثانية : من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد ، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى ، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد ، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد ، تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه ، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً ، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً ، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول ، وبين الملوم المدحور. فنقول : أما الفرق بين المذموم وبين الملوم ، فهو أن كونه مذموماً معناه : أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر ، فهذا معنى كونه مذموماً ، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل ، وما الذي حملك عليه ، وما استفدت من هذا لعمل إلا إلحاق الضرر بنفسك ، وهذا هو اللوم. فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً ، وآخره أن يصير ملوماً ، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت ، وأما المدحور فهو المطرود. والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى : {وَيَخْلُدْ فِيه مُهَانًا} فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به ، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً ، وآخره أن يصير مدحوراً والله أعلم بمراده.
/
جزء : 20 رقم الصفحة : 345
وأما قوله : {أَفَأَصْفَـاـاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الملائكة إِنَـاثًا } فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة ، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان ؛ فأشرف القسمين البنون ، وأخسهما البنات. ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له ، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى : {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطور : 39) وقوله : {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى } (النجم : 21) وقوله : {أَفَأَصْفَـاـاكُمْ} يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به ، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي. قال أبو عبيدة في قوله : {أَفَأَصْفَـاـاكُمْ} أفخصكم ، وقال المفضل : أخلصكم. قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة.
ثم قال تعالى : {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا} وبيان هذا التعظيم من وجهين : الأول : أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض ، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته. وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام. والثاني : أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله. وهذا أيضاً جهل عظيم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 345
348
(1/2812)

اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة ، نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة ، ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين ، لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه : أحدها : ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروباً من كل مثل. وثانيها : أن تكون لفظة "في" زائدة كقوله : {وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى } (الأحقاف : 15) أي أصلح لي ذريتي. أما قوله : {لِّيَذْكُرُوا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ الجمهور {لِّيَذْكُرُوا } بفتح الذال والكاف وتشديدهما ، والمعنى : ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما ، وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا ساكنة الذال مضمومة الكاف ، وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي : والتذكر ههنا أشبه من الذكر ، لأن المراد منه التدبر والتفكر ، وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان. ثم قال : وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان : الأول : أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى : {خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} (البقرة : 63) والمعنى : وافهموا ما فيه. والثاني : أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه.
المسألة الثانية : قال الجبائي : قوله : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا } يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن ، وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها ، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية ، ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 348
ثم قال تعالى : {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الأصم : شبههم بالدواب النافرة ، أي ما ازدادوا من الحق إلا بعداً وهو كقوله : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} (التوبة : 125).
المسألة الثانية ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار ، وقالوا : إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً ، فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه ، لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لمزيد النفرة والنبوة عنه ، فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة. فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً ، علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. والله أعلم.
/ أما قوله تعالى : {قُل لَّوْ كَانَ مَعَه ا ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسيره وجهان :
الوجه الأول : أن المراد من قوله : {إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا} هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى لغلب بعضهم بعضاً/ وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) فلا فائدة في الإعادة.
الوجه الثاني : أن الكفار كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فقال الله لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضاً قربة إلى الله تعالى وسبيلاً إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية ، والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة ، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير كما يقولون وعما يقولون ويسبح بالياء في هذه الثلاثة ، والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} (آل عمران : 12) وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب ، وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية ، وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء ، والأخير بالتاء ، وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء.
جزء : 20 رقم الصفحة : 348
ثم قال تعالى : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} وفيه مسألتان :
(1/2813)

المسألة الأولى : لما أقام الدليل القاطع على كونه منزهاً عن الشركاء. وعلى أن القول بإثبات الآلهة قول باطل ، أردفه بما يدل على تنزيهه عن هذا القول الباطل فقال : {سُبْحَـانَه ا } وقد ذكرنا أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ، ثم قال : {وَتَعَـالَى } والمراد من هذا التعالي الارتفاع وهو العلو ، وظاهر أن المراد من هذا التعالي ليس هو التعالي في المكان والجهة ، لأن التعالي عن الشريك والنظير والنقائص والآفات لا يمكن تفسيره بالتعالي بالمكان والجهة ، فعلمنا أن لفظ التعالي في حق الله تعالى غير مفسر بالعلو بحسب المكان والجهة.
المسألة الثانية : جعل العلو مصدر التعالي فقال تعالى : {عُلُوًّا كَبِيرًا} وكان يجب أن يقال تعالى تعالياً كبيراً إلا أن نظيره قوله تعالى : {وَاللَّهُ أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا} (نوح : 17).
فإن قيل : ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير ؟
قلنا : لأن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها ، لأن المنافاة بين الواجب / لذاته والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير.
ثم قال تعالى : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين : الأول : بالقول كقوله باللسان سبحان الله. والثاني : بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته ، فأما الذي لا يكون مكلفاً مثل البهائم ، ومن لا يكون حياً مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني ، لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال ، فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني.
واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلماً لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كفر فإنه يقال : إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حياً وذلك جهل وكفر/ لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً ، هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه ، ومن الناس من قال : إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى ، واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا : دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال : {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا. ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم ، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا ، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته.
جزء : 20 رقم الصفحة : 348
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم.
/ إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود الإله تعالى ، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا المعنى قال تعالى : {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
والوجه الثاني : هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل ، ولهذا المعنى قال تعالى : {وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} فكان المراد من قوله : {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } هذا المعنى.
(1/2814)

والوجه الثالث : أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته. ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك. وأيضاً فإنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {قُل لَّوْ كَانَ مَعَه ا ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا} فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ } فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه ، بل نقول : إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل ، والنبوة والمعاد ، فكان المراد من قوله : {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله : {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فذكر الحليم والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل. أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرماً ولا ذنباً ، وإذا لم يكن ذلك جرماً ولا ذنباً لم يكن قوله : {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} لائقاً بهذا الموضع ، فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه. واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعاً آخر من التسبيح. وقالوا : إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله ، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً ، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التسبيح ، وقالوا أيضاً : إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح ، وإذا كان كونه جماداً لم يمنع من كونه مسبحاً فكسره كيف يمنع من ذلك ، فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 348
المسألة الثانية : قوله : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ } تصريح بإضافة التسبيح / إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز ، وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم : سبحان الله ، فهذا حقيقة ، فيلزم أن يكون قوله : {تُسَبِّحُ} لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً ، وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه ، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور والله أعلم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 348
351
اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} قولان :
القول الأول : أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان/ ، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار ، وعن أسماء أنه صلى الله عليه وسلّم كان جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي تقول :
مذمماً أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا
(1/2815)

فقال أبو بكر : يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية فجاءت فما رأت رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت : إن قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك. وروى ابن عباس : أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلّم ويستمعون إلى حديثه ، فقال النضر يوماً : ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء. وقال أبو سفيان : أني لأرى بعض ما يقوله حقاً ، وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر ، فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا} (الكهف : 57) وفي النحل : { أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (النحل : 108) وفي حم الجاثية : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) إلى آخر الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين ، وهو المراد من قوله تعالى : {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} وفيه سؤال : وهو أنه كان يجب أن يقال حجاباً ساتراً.
جزء : 20 رقم الصفحة : 351
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه الله تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلّم وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستوراً من هذا الوجه ، احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضراً مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن الله تعالى خلق في عينيه مانعاً يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان حاضراً وكانت حواس الكفار سليمة ، ثم إنهم ما كانوا يرونه ، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً/ والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه الله تعالى في عيونهم ، وكان ذلك المعنى مانعاً لهم من أن يروه ويبصروه.
والوجه الثاني : في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك / لا يبعد أن يقال مستوراً معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال : هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول ، ويقال : جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها.
والوجه الثالث : في الجواب قال الأخفش : المستور ههنا بمعنى الساتر ، فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال : إنك لمشؤم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن ، لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم ، هذا قول الأخفش : وتابعه عليه قوم ، إلا أن كثيراً منهم طعن في هذا القول ، والحق هو الجواب الأول.
القول الثاني : أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده ، فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم.
جزء : 20 رقم الصفحة : 351
(1/2816)

ثم قال تعالى : {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا } وهذه الآية مذكورة بعينها في سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب : دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة. والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله : {أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفقهوه. وجعل في آذانهم وقراً. ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين ، فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه. قالت المعتزلة : ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى. الأول : قال الجبائي : كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه ، ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه الله تعالى من شرهم ، وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجاباً لا يمكنهم الوصول إليه معه ، وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته ، ويجوز أن يكون ذلك مرضاً شاغلاً يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له ، لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن. الثاني : قال الكعبي : إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد صلى الله عليه وسلّم صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر ، وإنما نسب الله تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم ، وما منعهم عن ذلك الأعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة ، وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول : أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك. الثالث : قال القفال : إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل / الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال : إنه فعل الحجاب السائر.
واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها ، فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى : {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا} واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين ، لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئاً ، وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس ، وذكر الزجاج في قوله : {وَلَّوْا عَلَى ا أَدْبَـارِهِمْ نُفُورًا} وجهين : الأول : المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا ، والثاني : أن يكون نفوراً جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد.
جزء : 20 رقم الصفحة : 351
ثم قال تعالى : {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِه إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزؤ والتكذيب. و{بِه } في موضع الحال ، كما تقول : مستمعين بالهزؤ و{إِذْ يَسْتَمِعُونَ} نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } أي وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى : {إِذْ يَقُولُ الظَّـالِمُونَ} بدل من قوله : {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ا إِذْ يَقُولُ الظَّـالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا} وفيه مباحث : الأول : قال المفسرون : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ، ففعل علي عليه السلام ذلك ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال : قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم فأبوا عليه ذلك ، وكانوا عند استماعهم من النبي صلى الله عليه وسلّم القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون : بينهم متناجين هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول ، فأخبر الله تعالى نبيه بأنهم يقولون : {إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا} .
فإن قيل : إنهم لم يتبعوا رسول الله فكيف يصح أن يقولوا : {إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا} .
قلنا : معناه أنكم إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً ، والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء. هذا هو القول الصحيح ، وقال بعضهم : المسحور هو الذي أفسد. يقال : طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها. قال أبو عبيدة : يريد بشراً ذا سحر أي ذارئة. قال ابن قتيبة : ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة ، وقال مجاهد : {مَّسْحُورًا} أي مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة ، وذلك لأن المشركين كانوا يقولون : إن محمداً يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات / وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات ، فلذلك قالوا : إنه مسحور أي مخدوع ، وأيضاً كانوا يقولون : إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا : إنه مخدوع من قبل الشيطان.
(1/2817)

جزء : 20 رقم الصفحة : 351
ثم قال : {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الامْثَالَ} أي كل أحد شبهك بشيء آخر ، فقالوا : إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون ، فضلوا عن الحق والطريق المستقيم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والحق.
جزء : 20 رقم الصفحة : 351
354
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات ، ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة ، وقد ذكرنا كثيراً أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي : الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر ، وأيضاً أن القوم وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكونه مسحوراً فاسد العقل ، فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً فإنه يعود حياً عاقلاً كما كان ، فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل. قال الواحدي رحمه الله : الرفت كسر الشيء بيدك ، تقول : رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي ، والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر. يقال : رفت عظام الجزور رفتاً إذا كسرها ، ويقال للتبن : الرفت لأنه دقاق الزرع. قال الأخفش : رفت رفتاً ، / فهو مرفوت نحو حطم حطماً فهو محطوم والرفات والحطام الاسم ، كالجذاد والرضاض والفتات ، فهذا ما يتعلق باللغة. أما تقرير شبهة القوم : فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم. أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم ، وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم ، وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم ، وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى. وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى ، فهذا هو تقرير الشبهة.
والجواب عنها : أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم الله وفي كمال قدرته. أما إذا سلما كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم الله تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادراً على كل الممكنات كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها ، فثبت أنا متى سلمنا كمال علم الله وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية.
جزء : 21 رقم الصفحة : 354
أما قوله تعالى : {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً. وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً مثل أن تصير حجارة أو حديداً ، فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة ، وذلك أن العظم قد كان جزءاً من بدن الحي. أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة ، فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت ، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حياً عاقلاً كما كان ، والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلاً لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر. وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمر والعاصي. وقادر على كل الممكنات ، وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات ، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً ، سواء صارت عظاماً ورفاتاً أو صارت شيئاً أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديداً ، فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع ، وقوله : {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة ، وذلك كقول القائل للرجل : أتطمع في وأنا فلان فيقول : كن من شئت كن ابن الخليفة ، فسأطلب منك حقي.
/ فإن قيل : ما المراد بقوله : {أَوْ خَلْقًا} .
(1/2818)

قلنا : المراد أن كون الحجر والحديد قابلاً للحياة أمر مستبعد ، فقيل لهم : فافرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلاً للحياة وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعين ذلك الشيء ، لأن المراد أن أبدان الناس وإن انتهت بعد موتها إلى أي صفة فرضت وأي حالة قدرت وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة فإن الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها ، وإذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء ، وقال ابن عباس : المراد منه الموت ، يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ، واعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره على سبيل المبالغة مثل أن يقال : لو كنت عين الحياة فالله يميتك ولو كنت عين الغنى فإن الله يفقرك ، فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة ، أما في نفس الأمر فهذا محال ، لأن أبدان الناس أجسام والموت عرض والجسم لا ينقلب عرضاً ثم بتقدير أن ينقلب عرضاً فالموت لا يقبل الحياة لأن أحد الضدين يمتنع اتصافه بالضد الآخر ، وقال مجاهد : يعني السماء والأرض.
جزء : 21 رقم الصفحة : 354
ثم قال : {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } والمعنى أنه لما قال لهم : كونوا حجارة أو حديداً أو شيئاً أبعد في قبول الحياة من هذين الشيئين فإن إعادة الحياة إليه ممكنة فعند ذلك قالوا : من هذا الذي يقدر على إعادة الحياة إليه ، قال تعالى قل يا محمد : الذي فطركم أول مرة يعني أن القول بصحة الإعادة فرع على تسليم أن خالق الحيوانات هو الله تعالى.
فإذا ثبت ذلك فنقول : إن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل وإله العالم قادر لذاته عالم لذاته فلا يبطل علمه وقدرته ألبتة ، فالقادر على الابتداء يجب أن يبقى قادراً على الإعادة ، وهذا كلام تام وبرهان قوي.
ثم قال تعالى : {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ} قال الفراء يقال : أنغض فلان رأسه ينغضه إنغاضاً إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه ، وقال أبو الهيثم : يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له قد أنغض رأسه فقوله : {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ} يعني يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد. ثم قال تعالى : {رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } واعلم أن هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي حكيناها ، ثم إن الله تعالى بين بالبرهان الباهر كونه ممكناً في نفسه ، فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالبحث الأول ، فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بامكانه ، فأما أنه متى يوجد فذاك لا يمكن إثباته من طريق العقل ، بل إنما يمكن إثباته بالدلائل السمعية فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف / وإلا فلا سبيل إلى معرفته.
واعلم أنه تعالى بين في القرآن أنه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعين ، فقال : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) وقال : {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } (الأعراف : 187) وقال : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (طه : 15) فلا جرم. قال تعالى : {قُلْ عَسَى ا أَن يَكُونَ قَرِيبًا} قال المفسرون عسى من الله واجب معناه أنه قريب.
فإن قالوا : كيف يكون قريباً وقد انقرض ستمائة سنة ولم يظهر ؟
جزء : 21 رقم الصفحة : 354
(1/2819)

قلنا : إذا كان ما مضى أكثر مما بقي كان الباقي قريباً قليلاً ، ثم قال تعالى : {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} وفيه قولان : الأول : أنه خطاب مع الكفار بدليل أن ما قبل هذه الآية كله خطاب مع الكفار ، ثم نقول انتصب يوماً على البدل من قوله قريباً ، والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفحة الأخيرة كما قال : {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (ق : 41) يقال : إن إسرافيل ينادي أيتها الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه وتكوينه ، وقال تعالى : {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} (القمر : 6) وقوله : {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه } أي تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة ، وقوله : {بِحَمْدِه } قال سعيد بن جبير : يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون : سبحانك وبحمدك ، فهو قوله : {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه } وقال قتادة بمعرفته وطاعته ، وتوجيه هذا القول أنهم لما أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة ولكنهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم. فلهذا قال المفسرون : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد ، وقال أهل المعاني : تستجيبون بحمده. أي تستجيبون حامدين كما يقال : جاء بغضبه أي جاء غضبان وركب الأمير بسيفه أي وسيفه معه وقال صاحب "الكشاف" : بحمده حال منهم أي حامدين ، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بعمل يشق عليه ستأتي به وأنت حامد شاكر ، أي ستنتهي إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل وهذا يذكر في معرض التهديد.
ثم قال : {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} قال ابن عباس يريد بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت ، والدليل عليه قوله في سورة يس : {مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } (يس : 52) فظنهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين ، وقال الحسن : معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة ؛ لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة.
/
جزء : 21 رقم الصفحة : 354
القول الثاني : أن الكلام مع الكفار تم عند قوله : {عَسَى ا أَن يَكُونَ قَرِيبًا} وأما قوله : {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه } فهو خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأن هذا الكلام هو اللائق بالمؤمنين لأنهم يستجيبون لله بحمده ، ويحمدونه على إحسانه إليهم ، والقول الأول هو المشهور ، والثاني ظاهر الاحتمال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 354
356
اعلم أن قوله : {قُل لِّعِبَادِىَ} فيه قولان :
القول الأول : أن المراد به المؤمنون ، وذلك لأن لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى : {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} (الزمر : 17 ، 18) وقال : {فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى} (الفجر : 29) وقال : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان : 6).
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله : {لَّوْ كَانَ مَعَه ا ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا} (الإسراء : 42) وذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله : {قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (الإسراء : 51) قال في هذه الآية وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن. وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطاً بالشتم والسب ، ونظير هذه الآية قوله : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل : 125) وقوله : {وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت : 46) وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال : {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام : 108) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود ، أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن/ الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيراً شديداً فهذا هو المراد من قوله : {وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } جامعاً للفريقين أي متى صارت الحجة مرة ممزوجة بالبذاءة صارت سبباً لثوران الفتنة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 356
(1/2820)

ثم قال : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلانسَـانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} والمعنى : أن العداوة الحاصلة بين الشيطان وبين الإنسان عداوة قديمة قال تعالى حكاية عنه : {ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ } (الأعراف : 17) وقال : {كَمَثَلِ الشَّيْطَـانِ إِذْ قَالَ لِلانسَـانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الحشر : 16) وقال : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} (الأنفال : 48) وقال : {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } إلى قوله : {إِنِّي بَرِى ءٌ مِّنكُمْ} (الأنفال : 48).
ثم قال تعالى : {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُم إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } واعلم أنا إنما نتكلم الآن على تقدير أن قوله تعالى : {قُل لِّعِبَادِىَ} المراد به المؤمنون ، وعلى هذا التقدير فقوله : {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } خطاب مع المؤمنين/ والمعنى : إن يشأ يرحمكم ، والمراد بتلك الرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم. ثم قال : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ} يا محمد {عَلَيْهِمْ وَكِيلا} أي حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة ولا شيء عليك من كفرهم فإن شاء الله هدايتهم هداهم ، وإلا فلا.
والقول الثاني : أن المراد من قوله : {وَقُل لِّعِبَادِى} الكفار ، وذلك لأن المقصود من هذه الآيات الدعوة ، فلا يبعد في مثل هذا الموضع أن يخاطبوا بالخطاب الحسن ليصير ذلك سبباً لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق ، فكأنه تعالى قال : يا محمد قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباداً لي يقولوا التي هي أحسن. وذلك لأنا قبل النظر في الدلائل والبينات نعلم بالضرورة أن وصف الله تعالى بالتوحيد والبراءة عن الشركاء والأضداد أحسن من إثبات الشركاء والأضداد ، ووصفه بالقدرة على الحشر والنشر بعد الموت أحسن من وصفه بالعجز عن ذلك ، وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على تلك المذاهب الباطلة تعصباً للأسلاف ، لأن الحامل على مثل هذا التعصب هو الشيطان ، والشيطان عدو ، فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله ثم قال لهم : {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُم إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بأن يوفقكم للإيمان والهداية والمعرفة. وإن يشأ يمتكم ، على الكفر فيعذبكم ، إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ، ولا تصروا على الباطل والجهل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية ، ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم في القول ، والمقصود من كل هذه الكلمات : إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلب ويفيد حصول المقصود.
/
جزء : 21 رقم الصفحة : 356
ثم قال : {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } والمعنى أنه لما قال قبل ذلك : {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } قال بعده : {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } بمعنى أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذوات الأرضين والسموات فيعلم حال كل واحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد ، فلهذا السبب فضل بعض النبيين على بعض وآتى موسى التوراة وداود الزبور وعيسى الإنجيل ، فلم يبعد أيضاً أن يؤتي محمداً القرآن ولم يبعد أن يفضله على جميع الخلق.
فإن قيل : ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر0.
قلنا : فيه وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض.
ثم قال : {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} يعني أن داود كان ملكاً عظيماً ، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك وذكر ما آتاه من الكتاب ، تنبيهاً على أن التفضيل الذي ذكره قبل ذلك ، المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال.
والوجه الثاني : أن السبب في تخصيصه بالدكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمداً خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم قال تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنا بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ} (الأنبياء : 105) وهم محمد وأمته.
فإن قيل : هل عرف كما في فقوله : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ} .
قلنا : التنكير ههنا يدل على تعظيم حاله ، لأن الزبور عبارة عن المزبور فكان معناه الكتاب فكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً.
(1/2821)

والوجه الثالث : أن السبب فيه أن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون : إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة بنقض الله تعالى عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود ، وقرأ حمزة : {زَبُورًا} بضم الزاي ، وذكرنا وجه ذلك في آخر سورة (النساء : 163).
جزء : 21 رقم الصفحة : 356
358
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة ، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِه } وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم : { أولئك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة.
إذا ثبت هذا فنقول : إن قوماً عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم ، وقيل : إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً ، وقيل : إن قوماً عبدوا نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن ، وبقي أولئك الناس متمسكين بعبادتهم فنزلت هذه الآية ، قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب ، ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر ، وإيصال المنفعة ، وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع ، فوجب القطع بأنها ليست آلهة.
ولقائل أن يقول : هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم ؟
فإن قلتم : لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة.
قلنا : معارضة لذلك قد نرى أيضاً أن المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى فلا تحصل الإجابة ، والمسلمون يقولون : إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من الله تعالى لا من الملائكة ، وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من الله تعالى ، وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام.
والجواب : أن الدليل تام كامل ، وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة/ عباد الله وخالق الملائكة ، وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة ، وأقوى منهم ، وأكمل حالاً منهم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 358
وإذا ثبت هذا فنقول : كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه ، وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه ، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة ، لأن كون الله مستحقاً للعبادة معلوم ، وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى ، وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى.
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى ، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى ، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما ججوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم. وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله : {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلا} والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال : حوله فتحول.
ثم قال تعالى : { أولئك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وفيه قولان : الأول : قال الفراء قوله : {يَدَّعُونَ} فعل الآدميين العابدين. وقوله : {يَبْتَغُونَ} فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة ، فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة ، والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى.
فإن قالوا : لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه ، فنقول : هؤلاء الملائكة إما أن يقال : إنها واجبة الوجود لذواتها ، أو يقال : ممكنة الوجود لذواتها ، والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه ، وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى ، فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.
(1/2822)

والقول الثاني : أن قوله : { أولئك الَّذِينَ يَدْعُونَ} هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله : {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّـانَ عَلَى بَعْضٍ } (الإسراء : 55) وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه ، فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غبر الله تعالى/ واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا : الملائكة لا يعصون الله فلا يخافون عذابه ، فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء.
جزء : 21 رقم الصفحة : 358
قلنا : الملائكة يخافون عذاب الله لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى : {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِه فَذاَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } (الأنبياء : 29).
أما قوله : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} فالمراد أن من حقه أن يحذر ، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 358
358
واعلم أنه تعالى لما قال : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء : 57) بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين : إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل : أما الصالحة فبالموت ، وأما الطالحة فبالعذاب ، وقيل : المراد من قوله : {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} قرى الكفار ، ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين : إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ، ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال : {كَانَ ذَالِكَ فِى الْكِتَـابِ مَسْطُورًا} ومعناه ظاهر.
جزء : 21 رقم الصفحة : 358
365
اعلم تعالى أنه لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة ، وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : {لَوْلا يَأْتِينَا بِـاَايَةٍ} (طه : 133) {كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ} (الأنبياء : 5) وقال آخرون : المراد ما طلبوه بقولهم : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90) وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا : إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم : من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشي من هذه المعجزات فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالايَـاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الاوَّلُونَ } وفي تفسير هذا الجواب وجوه :
الوجه الأول : المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال ، لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز ، لأن الله تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم ، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة. روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي ، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلّم ذلك من الله تعالى فقال الله تعالى : إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلّم : "لا أريد ذلك بل تتأنى بهم" فنزلت هذه الآية.
الوجه الثاني : في تفسير هذا الجواب أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم ، فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضاً.
جزء : 21 رقم الصفحة : 365
الوجه الثالث : أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها ، فعلم الله منكم أيضاً أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثاً ، والعبث لا يفعله الحكيم.
ثم قال تعالى : 6وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} وفيه أبحاث :
البحث الأول : المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود ، وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى.
البحث الثاني : قوله تعالى : وفيه أبحاث :
البحث الأول : المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود ، وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى.
البحث الثاني : قوله تعالى : {مُبْصِرَةً} وفيه وجهان : الأول : قال الفراء : {مُبْصِرَةً} أي مضيئة. قال تعالى : {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } (يونس : 67) أي مضيئاً. والثاني : {مُبْصِرَةً} أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول.
(1/2823)

/ البحث الثالث : قوله : {فَظَلَمُوا بِهَا } أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها ، وقال ابن قتيبة : {ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي جحدوا بأنها من الله تعالى.
ثم قال تعالى : {وَمَا نُرْسِلُ بِالايَـاتِ إِلا تَخْوِيفًا} قيل : لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة.
فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف.
قلنا : المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك الآية معجزة أو مخوفة ، إلا أنهم يجوزون كونها معجزة ، وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد ، فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات ، فالمراد من قوله : {وَمَا نُرْسِلُ بِالايَـاتِ إِلا تَخْوِيفًا} هذا الذي ذكرناه ، والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 365
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمعجزات القاهرة ، وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له : لو كنت رسولاً حقاً من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك ، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء ، فعند هذا قوى الله قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال : {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } وفيه قولان :
القول الأول : المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته ، ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره ، والمقصود كأنه تعالى يقول له : ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا. قال الحسن : حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة : 67).
والقول الثاني : أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى : وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم ، ونظيره قوله تعالى : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر : 45) وقال : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} (آل عمران : 12) إلى قوله : {أَحَاطَ بِالنَّاسِ } لما كان كل ما يخبر الله عن وقوعه فهو واجب الوقوع ، فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال : {أَحَاطَ بِالنَّاسِ } وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول : "أللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي" ثم خرج/ وعليه الدرع يحرض الناس ويقول : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
ثم قال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَـاكَ إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} وفي هذه الرؤيا أقوال :
القول الأول : أن الله أرى محمداً في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال : "والله كأني أنظر إلى مصارع القوم" ثم أخذ يقول : "هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان" فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية ، وكانوا يستعجلون بما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 365
والقول الثاني : أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه ، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم ، وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنا ندخل البيت ونطوف به ، فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى ، فلما جاء العام المقبل دخلها ، وأنزل الله تعالى : {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ } (الفتح : 27) اعترضوا على هذين القولين فقالوا : هذه السورة مكية ، وهاتان الواقعتان مدنيتان ، وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة.
والقول الثالث : قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة منبر ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبراً يتداوله بنو أمية.
(1/2824)

والقول الرابع : وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء ، واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون : لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة ، يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا ، وقال الأقلون : هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام ، وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة ، وقوله : {إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} معناه : أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كان امتحاناً.
ثم قال تعالى : {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ } وهذا على التقديم والتأخير ، والتقدير : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وقيل المعنى : والشجرة الملعونة في القرآن كذلك. واختلفوا في هذه الشجرة ، فالأكثرون قالوا : إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله : {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ} (الدخان : 43 ، 44) وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين : الأول : /أن أبا جهل قال : زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال : {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } (التحريم : 6) ثم يقول : بأن في النار شجراً والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر. والثاني : قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه ، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر : {إِنَّا جَعَلْنَـاهَا فِتْنَةً لِّلظَّـالِمِينَ} (الصافات : 63) الآيات.
جزء : 21 رقم الصفحة : 365
فإن قيل : ليس في القرآن لعن هذه الشجرة.
قلنا : فيه وجوه : الأول : المراد لعن الكفار الذين يأكلونها. الثاني : العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون. والثالث : أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة.
القول الثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاشتد ذلك عليه ، واتهم عمر في إفشاء سره ، ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال الواحدي : هذه القصة كانت بالمدينة ، والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال : هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد ، ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه الله.
والقول الثالث : أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (المائدة : 78).
فإن قال قائل : إن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل الله عليكم عذاب الاستئصال/ وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس.
قلنا : التقدير كأنه قيل : إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سبباً لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتوراً في حالك ، ولا ضعفاً في أمرك ، والله أعلم.
/ ثم قال تعالى : {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَـانًا كَبِيرًا} والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها ، وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغياناً كبيراً ، وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان ، وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تمادياً في الجهل والعناد ، وإذا كان كذلك ، وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 365
370
/ فيه مسائل :
(1/2825)