الكتاب : تفسير الشعراوي
وكذلك يكون حظك من الدعاء لا يُستجاب لأن ذلك قد يرهقك أنت . . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ]
ولذلك يقول سبحانه : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [ الأنبياء : 37 ]
والعلماء يقولون : إن الدعاء إن قصدت به الذلة والعبودية يكون جميلاً ، أما الإجابة فهي إرادة الله ، وأنت إن قدرت حظك من الدعاء في الإجابة عليه فأنت لا تُقدر الأمر . إن حظك من الدعاء هو العبادة والذلة لله؛ لأنك لا تدعو إلا إذا اعتقدت أن أسبابك كبشر لا تقدر على هذه ، ولذلك سألت من يقدر عليها ، وسألت من يملك ، ولذلك يقول الله في الحديث القدسي : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " .
ولنتعلم ما علمه رسول الله لعائشة أم المؤمنين . لقد سألت رسول الله إذا صادفت ليلة القدر فقالت : إن أدركتني هذه الليلة بماذا أدعو؟
انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد علم أم المؤمنين عائشة أن تدعو بمقاييس الخير الواسع فقال لها : " قولي : اللهم إنك تحب العفو فاعف عني " .
ولا يوجد جمال أحسن من العفو ، ولا يوجد خير أحسن من العفو ، فلا أقول أعطني ، أعطني؛ لأن هذا قد ينطبق عليه قول الحق : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ]
فمَنْ يقول : لقد دعوت ربي فلم يستجب لي ، نقول له : لا تكن قليل الفطنة فمن الخير لك أنك لا تُجاب إلى ما طلبت فالله يعطيك الخير في الوقت الذي يريده .
وبعد ذلك يترك الحق لبعض قضايا الوجود في المجتمع أن تجيبك إلى شيء ثم يتبين لك منه الشر ، لتعلم أن قبض إجابته عنك كان هو عين الخير ، ولذلك فإن الدعاء له شروط ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الطيب من الرزق .
فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قوله : " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغُذِي بالحرام فأني يستجاب له " . إن الرسول يكشف أمامنا كيف يفسد جهاز الإنسان الذي يدعو ، لذلك فعدم إجابة الدعوة إما لأن جهاز الدعوة جهاز فاسد ، وإما لأنك دعوت بشيء تظن أن فيه الخير لك لكن الله يعلم أنه ليس كذلك ، ولهذا يأخذ بيدك إلى مجال حكمته ، ويمنع عنك الأمر الذي يحمل لك الشر .
وشيء آخر ، قد يحجب عنك الإجابة ، لأنه إن أعطاك ما تحب فقد أعطاك في خير الدنيا الفانية ، وهو يحبك فيُبقي لك الإجابة إلى خير الباقية ، وهذه ارتقاءات لا ينالها إلا الخاصة ، وهناك ارتقاءات أخرى تتمثل في أنه ما دام الدعاء فيه ذلة وخضوع فقد يطبق الله عليك ما جاء في الحديث القدسي :
(1/479)

" ينزل الله تعالى في السماء الدنيا فيقول : مَنْ يدعوني فأستجيب له أو يسألني فأعطيه؟ ثم يقول : مَنْ يقرض غير عديم ولا ظلوم " .
ولأن الإنسان مرتبط بمسائل يحبها ، فما دامت لم تأت فهو يقول دائماً يا رب . وهذا الدعاء يحب الله أن يسمعه من مثل هذا العبد فيقول : " إن من عبادي من أحب دعاءهم فأنا أبتليهم ليقولوا : يا رب " . إن الإنسان المؤمن لا يجعل حظه من الدعاء أن يجاب ، إنما حظه من الدعاء ما قاله الحق : { قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } [ الفرقان : 77 ]
إن معنى الربوبية والمربوبية أن تقول دائما : " يا رب " . واضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى الأب قد يعطي ابنه مصروف اليد كل شهر ، والابن يأخذ مصروف اليد الشهري ويغيب طوال الشهر ولا يحرص على رؤية والده . لكن الأب حين يعطي مصروف اليد كل يوم ، فالابن ينتظر والده ، وعندما يتأخر الوالد قليلاً فإن الابن يقف لينتظر والده على الباب؛ لقد ربط الأب ابنه بالحاجة ليأنس برؤياه .
والحق سبحانه يضع شرطا للاستجابة للدعاء ، وهو أن يستجيب العبد لله سبحانه وتعالى فيما دعاه إليه . عندئذ سيكون العباد أهلاً للدعاء ، ولذلك قال الحق في الحديث القدسي : " مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " .
ومثال ذلك سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار ، قال له جبريل : ألك حاجة؟ . لم ينف أن له حاجة ، فلا يوجد استكبار على البلوى ، ولكنه قال لجبريل : أما إليك فلا ، صحيح أن له حاجة إنما ليست لجبريل ، لأنه يعلم جيداً أن نجاته من النار المطبوعة على أن تحرق وقد ألقي فيها ، هي عملية ليست لخلق أن يتحكم فيها ولكنها قدرة لا يملكها إلا من خلق النار . فقال لجبريل : أما إليك فلا ، وعلمه بحالي يغني عن سؤالي . لذلك جاء الأمر من الحق : { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ]
ولنتعلم من الإمام علي كرم الله وجهه حين دخل عليه إنسان يعوده وهو مريض فوجده يتأوه ، فقال له : أتتأوه وأنت أبو الحسن . قال : أنا لا أشجع على الله .
إذن فقوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } تعني ضرورة الاستجابة للمنهج ، { وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } أي أن يؤمنوا به سبحانه إلها حكيما . وليس كل من يسأل يستجاب له بسؤاله نفسه؛ لأن الألوهية تقتضي الحكمة التي تعطي كل صاحب دعوة خيراً يناسب الداعي لا بمقاييسه هو ولكن بمقاييس من يجيب الدعوة .
ويذيل الحق الآية بقول : { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } فما معنى { يَرْشُدُونَ } ؟ إنه يعني الوصول إلى طريق الخير وإلي طريق الصواب . وهذه الآية جاءت بعد آية { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ } كي تبين لنا أن الصفائية في الصيام تجعل الصائم أهلاً للدعاء ، وقد لا يكون حظك من هذا الدعاء الإجابة ، وإنما يكون حظك فيه العبادة ، ولكي يبين لنا الحق بعض التكليفات الإلهية للبشر فهو يأتي بهذه الآية التي يبين بها ما يحل لنا في رمضان .
يقول الحق : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ . . . }
(1/480)

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
بعد أن أورد لنا الحق آداب الدعاء ومزجها وأدخلها في الصوم ، يشرح لنا سبحانه آداب التعامل بين الزوجين في أثناء الصيام ، ويأتي هذا التداخل والامتزاج بين الموضوعات المختلفة في القرآن لنفهم منه أن الدين وحدة متكاتفة تُخاطب كل الملكات الإنسانية ، ولا يريد سبحانه أن تظهر أو تطغى ملكة على ملكة أبدا .
يقول الحق : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } وساعة تسمع { أُحِلَّ لَكُمْ } فكأن ما يأتي بالتحليل كان محرماً من قبل . والذي أحله الله في هذا القول كان المحرم عينه في الصيام ، لأن الصيام إمساك بالنهار عن شهوة البطن وشهوة الفرج ، فكأنه قبل أن تنزل هذه الآية كان الرفث إلى النساء في ليل الصيام حراماً ، فقد كان الصيام في بدايته إمساكاً عن الطعام من قبل الفجر إلى لحظة الغروب ، ولا اقتراب بين الزوجين في الليل أو النهار . فكان الرفث في ليلة الصيام محرماً . وكان يحرم عليهم الطعام والشراب بعد صلاة العشاء وبعد النوم حتى يفطروا .
وجاء رجل وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ذهبت فلم أجد أهلي قد أعدوا لي طعاما ، فنمت ، فاستيقظت يا رسول الله فعلمت أني لا أقدر أن آكل ولذلك فأنا أعاني من التعب ، فأحل الله مسألتين : المسألة الأولى هي : الرفث إلى النساء في الليل ، والمسألة الثانية قوله الحق : { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } أي كلوا واشربوا إلى الفجر حتى ولو حصل منكم نوم ، وهذه رخصة جديدة لكل المسلمين مثلها مثل الرخصة الأولى التي جاءت للمسافر أو المريض ، كانت الرخصة الأولى بخصوص مشقة الصوم على المسافر أو المريض ، أما الرخصة الجديدة فهي عامة لكل مسلم وهي تعميق لمفهوم الحكم .
وقد ترك الحق هذا الترخيص مؤجلا بعض الشيء لكي يدرك كل مسلم مدى التخفيف ، لأنه قد سبق له أن تعرض إلى زلة المخالفة ، ورفعها الله عنه ، وانظر للآية القرآنية وهي تقول : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } . كلمة { تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } هذه تعلمنا أن الإنسان لم يقو على الصوم كل الوقت عن شهوة الفرج ، فعندما تركك تختان نفسك ، ثم أنزل لك الترخيص ، هنا تشعر بفضل الله عليك .
إذن فبعض الرخص التي يرخص الله لعباده في التكاليف : رخصة تأتي مع التشريع ، ورخصة تخفيفية تأتي بعد أن يجيء التشريع ، لينبه الحق أنه لو لم يفعل ذلك لتعرضتم للخيانة والحرج { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } وانظر الشجاعة في أن عمر رضي الله عنه ، يذهب إلى النبي ويقول له : أنا يا رسول الله ذهبت كما يذهب الشاب ، والذي جاع أيضا يقول للرسول عليه الصلاة والسلام : إنه جاع ، وجاء التشريع ليناسب كل المواقف ، فنمسك نهاراً عن شهوتي البطن والفرج ، وليلاً أحل الله لنا شهوتي البطن والفرج ، وهذا التخفيف إنما جاء بعد وقوع الاختيان ليدلنا على رحمة الله في أنه قدر ظرف الإنسان ، { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } ، و { الرفث } هو الاستمتاع بالمرأة ، سواء كان مقدمات أو جماعاً .
(1/481)

. { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } .
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا عملية التحام الرجل والمرأة بكلمة الله ، و " اللباس " هو الذي يوضع على الجسم للستر ، فكأن المرأة لباس للرجل والرجل لباس للمرأة واللباس أول مدلولاته ستر العورة . فكأن الرجل لباس للمرأة أي ستر عورتها ، والمرأة تستر عورته ، فكأنها عملية تبادلية ، فهذا يحدث في الواقع فهما يلتفان في ثوب واحد ، ولذلك يقول : { بَاشِرُوهُنَّ } أي هات البشرة على البشرة .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا أن المرأة لباس ساتر للرجل ، والرجل لباس ساتر للمرأة ، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يظل هذا اللباس ستراً بحيث لا يفضح شيئاً من الزوجين عند الآخرين . ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يحذرنا أن يحدث بين الرجل وأهله شيء بالليل وبعد ذلك تقول به المرأة نهاراً ، أو يقول به الرجل ، فهذا الشيء محكوم بقضية الستر المتبادل .
{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } . ومادام هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ، فيكون من رحمة التشريع بالإنسان وقد ضَمَّ الرجل والمرأة لباس واحد وبعد ذلك نطلب منهما أن يمتنعا عن التواصل .
إذن فقول : { تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } كان مسألة حتمية طبيعية ، ولذلك قال الحق بعدها : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ومعنى " تاب عليكم " هو إخبار من الله بأنه تاب ، وحين يخبر الله بأنه تاب ، أي شرع لهم التوبة ، والتوبة كما نعرف تأتي على ثلاث مراحل : يشرع الله التوبة أولا ، ثم تتوب أنت ثانيا ، ثم يقبل الله التوبة ثالثاً ، { وَعَفَا عَنْكُمْ } لأنه مادام قد جعل هذه العملية لحكمة إبراز سمو التشريع في التخفيف ، فيكون القصد أن تقع هنا وأن يكون العفو منه سبحانه .
ويقول الحق : { فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } فلم يشأ أن يترك المباشرة على عنانها فقال : أنت في المباشرة لابد أن تتذكر ما كتبه الله ، وما كتبه الله هو الإعفاف بهذا اللقاء والإنجاب ، فالمرأة تقصد إعفاف الرجل حتى لا تمتد عينه إلى امرأة أخرى ، وهو يقصد أيضا بهذه العملية أن يعفها حتى لا تنظر إلى غيره ، والله يريد الإعفاف في تلك المسألة لينشأ الطفل في هذا اللقاء على أرض صلبة من الطهر والنقاء .
وحتى لا يتشكك الرجل في بضع منه هم أبناؤه ، والحق سبحانه يريد طهارة الإنسان ، فكل نسل يجب أن يكون محسوباً على من استمتع ، وبعد الاستمتاع ، عليه أن يتحمل التبعة ، فلا يصح لمسلم أن يستمتع ويتحمل سواه تبعة ذلك ، فالمسلم يأخذ كل أمر بحقه .
(1/482)

{ فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } أي ما كتب الله من أن الزواج للإعفاف والإنجاب . وفي ذلك طهارة لكل أفراد المجتمع . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " وفي بضع أحدكم صدقة . قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " .
ويتابع الحق : { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } أي إلى أن يتضح لكم الفجر الصادق . وكان هناك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أذانان للفجر ، كان بلال يؤذن بليل ، أي ومازال الليل موجوداً ، وكان ابن أم مكتوم يؤذن في اللحظة الأولى من الفجر ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإن سمعتم أذان ابن أم مكتوم فأمسكوا " . لكن أحد الصحابة وهو عدي بن حاتم قال : أنا جعلت بجواري خيطا أبيض وخيطاً أسود ، وأظل آكل حتى أتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود . فقال له : إنك لعريض القفا ( أي قليل الفطنة ) فالمراد هنا بياض النهار وسواد الليل .
ويتابع الحق : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد } . لقد كانوا يفهمون أن المباشرة في الليل حسب ما شرع الله لا تفسد الصوم . ولكن كان لابد من وضع آداب للسلوك داخل المسجد أو لآداب سنة الاعتكاف التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان لهذا أوضح الحق أن حلال المباشرة بين الرجل وزوجته هو لغير المعتكف وفي غير ليل رمضان . أما المعتكف في المسجد فذلك الأمر لا يحل له ، ومعنى الاعتكاف هو أن تحصر حركتك في زمن ما على وجودك في مكان ما ، ولذلك يقولون : " فلان معتكف هذه الأيام " أي حبس حركته في زمن ما في مكان ما ، وليس معنى ذلك أن الاعتكاف مقصور على العشر الأواخر من رمضان فقط ، ولكن للمسلم أن يعتكف في بيت الله في أي وقت .
واختلف العلماء في الاعتكاف ، بعضهم اشترط أن يكون المرء صائماً حين يعتكف ، واشترطوا أيضا أن يكون الاعتكاف لمدة معينة ، وأن يكون بالمسجد ، وقالوا : إن أردت الاعتكاف ، فاحصر حركتك في مكان هو بيت الله .
وكثير من العلماء يقولون : إنك إذا دخلت المسجد تأخذ ثواب الاعتكاف مادمت قد نويت سنة الاعتكاف؛ بشرط ألا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا؛ لأنك جئت من حركتك المطلقة في الأرض إلى بيت الله في تلك اللحظة ، فاجعل لحظاتك لله . ولذلك " حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالته في المسجد أي شيئا قد ضاع منه فقال له : " لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا " .
(1/483)

لماذا؟ لأن المسجد مكان للعبادة ، ولذلك أقول لمن يحدثني في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة : " أبشر بأنها لن تنفع "؛ لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط ، إن لحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربك وتناجيه ، وتعيش في حضن عنايته ، فلماذا تأتي بالدنيا معك؟ وليكن لنا في أحد الصحابة قدوة حسنة؛ كان يقول : كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا . وزاد صحابي آخر فقال له : وزد يا أخي أننا نترك أقدارنا مع نعالنا .
انظر إلى الدقة ، إن الصحابي المتبع لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد ، ولكن يخلع أيضا قدره في الدنيا . فيمكن أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الكثيرة ، والمسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل ، فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد ، وادخل بلا قدر إلا قدر إيمانك بالله . وأجلس في المكان الذي تجده خالياً . فلا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد . فأنت تدخل بعبودية لله وقد يأتي مجلسك بجانب من يخدمك ، والصغير يقعد بجانب الكبير ، ولا تلحظ لك قدراً إلا قدرك عند الله .
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث ينتهي به المجلس . أي عندما يجد مكاناً له ، وهذا خلاف زماننا حيث يحجز إنساناً مكاناً لإنسان آخر بالسجادة ، وقد يدخل إنسان ليتخطى الرقاب ، ويجلس في الصف الأول وهو لا يعلم أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد . ومادمنا سنترك أقدارنا فلا تقل أين سأجلس وبجوار مَنْ؟ بل اجلس حيث ينتهي بك المجلس ولا تتخط الرقاب . وانو الاعتكاف ولا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا حتى لا تدخل في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يبارك الله لك في الضالة التي تنشدها وتطلبها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ، فهل معنى ذلك أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد؟ لا؛ إن الاعتكاف يصح في أي مكان ، ولكن الاعتكاف بالمسجد هو الاعتكاف الكامل؛ لأنك تأخذ فيه بالزمان والمكان معاً .
{ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } ومعنى " الحد " هو الفاصل المانع من اختلاط شيء بشيء ، وحدود الله هي محارمه . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " . . ومَنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا إن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه " .
إذن فالمحارم هي التي يضع الله لها حداً فلا نتعداه .
(1/484)

ولنا أن نلحظ أنه ساعة ينهى الله عن شيء فهو يقول : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } وساعة يأمر بأمر يقول سبحانه : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } . وفي ذلك رحمة من الله بك أيّها المكلف .
فلا تجعل امرأتك تأتيك وأنت في معتكفك ، فقد تكون جميلة ، صحيح أنك لا تنوى أن تفعل أي شيء ، لكن عليك ألا تقرب أسباب النواهي ، ومثال ذلك تحريم الخمر لقد أمر الحق باجتنابها أي ألا تقرب حتى مكان الخمر؛ لأن الاقتراب قد يُزين لك أمر احتسائها ، إذن فلكي تمنع نفسك من تلك المحرمات فعليك ألا تقرب النواهي . وفي الأوامر عليك ألا تتعداها .
ويذيل الحق الآية بقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } . والآيات هي العجائب ، وكل آية هي شيء عجيب لافت ، لذلك نقول : هذه آية في الحسن ، وتلك آية في الجمال ، وقد تُطلق الآية أيضاً على السمة؛ لأن السمة أو العلامة هي التي تلفتنا إلى الشيء ، فيكون ما جاء بالآية داخلا في معنى قوله الحق : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
ولقد أوضحت هذه الآية والآيات السابقة عليها ، تشريعات الصيام والاستثناء من التشريع . رفعا للحظر ودفعا للمشقة بعد أن تقع ، وكل ذلك ليستوفي التشريع كل مطلوبات الله من المُشَرَّع له . حين يأخذ كل إنسان ذلك البيان الوافي من ربه ويسيطر به على حركة حياته في ضوء منهج الله يكون قد اتقى . والتقوى كما نعلم ليست للنار فقط ، لكنها اتقاء لكل مشاكل الحياة؛ فالذي يجعل الحياة مليئة بالمشاكل هو أننا نأخذ بالقوانين التي نسنها لأنفسنا ونعمل بها ، ولكن إذا أخذنا تقنين الله لنا فمعنى ذلك أننا نتقي المشاكل . ولذلك يقول الحق : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [ طه : 124 ]
أي أن حياته تمتلئ بالهموم والمشاكل ، لأنه يخالف منهج الله . وإذا لم تنشأ المشاكل مع المخالفات لقال الناس : خالفنا منهج الله وفلحنا ، لذلك كان لابد أن توجد المشاكل لتنبهنا أن منهج الله يجب أن يسيطر . وحين يتمسك الناس بمنهج الله ، لن تأتي لهم المشاكل بإذن الله .
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في ترتيب الأحكام بعضها على بعض ، فالإنسان المخلوق لله في الأرض المسخرة له بكل ما فيها ، له حياة يجب أن يحافظ عليها . وتبقى الحياة ببقاء الرزق في الاقتيات من مأكل ومشرب ، وكذلك يبقى النوع الإنساني بالتزاوج . . وتكلم الله في رزق الاقتيات ، فجعله للناس جميعا عندما قال : { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } [ البقرة : 168 ]
وتكلم سبحانه مخاطباً المؤمنين في شأن هذا الرزق ، فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ]
وبعد ذلك شاء الله أن يديم على المؤمنين به قضية التكليف فحرَّم عليهم الطعام والشراب والنكاح في أيام رمضان ، وهي حلال في غير رمضان ، وأحلها الله في ليل رمضان .
(1/485)

وإذا كان قد أرشد أن كل حركة في الحياة هدفها بقاء الحياة ، وإذا كان بناء الحياة يتوقف على الطعام؛ وهو أمر ضروري لكل إنسان ، وإذا كانت الحياة تمتد وتتوالى باستبقاء النوع ، فيبلغ الرجل وينضج ويصير أهلاً للإخصاب ، وتبلغ المرأة وتنضج وتصير أهلاً للحمل ، فإذا كانت كل المسائل السابقة لازمة للجميع ، فلابد من تشريع ينظم كل ذلك .
إن التشريع يسمح لك أن تأكل مما تملك ، أو تأكل مما لا مالك له ، كنبات الأرض غير المملوكة لأحد ، إلا أنك قبل أن تأكل لابد أن تنظر في الطعام لتعرف هل هو مما أحل الله أم لا؟ والتشريع لا يسمح لك أن تأكل من نبات الأرض المملوك لغيرك ، ويحرم عليك أن تصطاد حيوانات مملوكة لغيرك ، فالتشريع يحترم الجهد الذي تحرك به مالك الأرض ليزرع النبات أو ليُربىَ الحيوان ، فلا تقل : إن ذلك النبات في الأرض وأنا آكل منه ، أو أن ذلك حيوان موجود أمامي وأنا اصطدته .
إن الحق يضع التشريع لينظم الحركة في المال المملوك للغير بعد أن نظم الحركة في المال غير المملوك والطعام غير المملوك ، فإذا سبقك إلى المال غير المملوك أو الطعام غير المملوك إنسان ، أو تحرك إنسان بحركة في الوجود فاستنبط مالاً صارت هناك قضية أخرى لا تتعلق بذات المأكول ، ولكن بملكية المأكول ، فقد بين الله سبحانه : أن كل عمليات اقتياتك في الحياة عملية لا يمكن أن تستقل بها أنت ، فلابد من اختلاط حركة الآخرين معك ، فأنت لا تأكل إلا مما يكون في أيديهم ، وهم لا يأكلون إلا مما يكون في يدك .
فالفلاح مثلاً يبذر البذر ، ولكنّه يحتاج إلى الصانع الذي يصنع له الفأس ، ويصنع له المحراث ، ويصنع له الساقية ، والذي يصنع ذلك يحتاج إلى من يعلمه ، ويحضر له المواد الخام ، إذن فهو سلسلت الأشياء التي توصلك إلى الطعام لوجدت حركات الكون كلها تخدم هذه المسألة . وهكذا نجد أن الآكل من المال المتداول أمر شائع بين البشر ، ويريد الله أن يضبطه بنظام فقال سبحانه : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل . . . }
(1/486)

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
ومادامت أموالي فلماذا لا آكلها؟ إن الأمر هنا للجميع ، والأموال مضافة للجميع ، فالمال ساعة يكون ملكا لي ، فهو في الوقت نفسه يكون مالاً ينتفع به الغير .
إذن فهو أمر شائع عند الجميع ، لكن ما الذي يحكم حركة تداوله؟ إن الذي يحكم حركة تداوله هو الحق الثابت الذي لا يتغير ، ولا يحكمه الباطل . وما معنى الباطل ، والحق؟ إن الباطل هو الزائل ، وهو الذي لا يدوم ، وهو الذاهب . والحق هو الثابت الذي لا يتغير فلا تأكل بالباطل ، أي لا تأكل مما يملكه غيرك إلا بحق أثبته الله بحكم : فلا تسرق ، ولا تغتصب ، ولا تخطف ، ولا ترتش ، ولا تكن خائناً في الأمانة التي أنت موكل بها ، فكل ذلك إن حدث تكن قد أكلت المال بالباطل .
وحين تأكل بالباطل فلن تستطيع أنت شخصياً أن تعفي غيرك مما أبحته لنفسك ، وسيأكل غيرك بالباطل أيضاً . ومادمت تأكل بالباطل وغيرك يأكل بالباطل ، هنا يصير الناس جميعاً نهباً للناس جميعا . لكن حين يُحكَم الإنسان بقضية الحق فأنت لا تأخذ إلا بالحق ، ويجب على الغير ألا يعطيك إلا بالحق ، وبذلك تخضع حركة الحياة كلها لقانون ينظم الحق الثابت الذي لا يتغير ، لماذا؟ لأن الباطل قد يكون له علو ، لكن ليس له استقرار ، فالحق سبحانه وتعالى يقول : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } [ الرعد : 17 ]
وساعة ترى مطراً ينزل في مسيلٍ ووادٍ ، فأنت تجد هذا المطر قد كنس كل القش والقاذورات وجرفها فطفت فوق الماء ولها رغوة ، وكذلك فأنت عندما تدخل الحديد في النار تجده يسيل ويخرج منه الخبث ، ويطفو الخبث فوق السطح ، وهكذا نجد أن طفو الشيء وعلوه على السطح لا يعني أنه حق ، إنه سبحانه يعطينا من الأمور المُحسة ما نستطيع أن نميز من خلاله الأمور المعنوية ، وهكذا ترى أن الباطل قد يطفو ويعلو إلا أنه لا يدوم ، بل ينتهي ، والمثل العامي يقول : " يفور ويغور " .
إن الله يريد أن تكون حركة حياتنا نظيفة شريفة ، حركة كريمة فلا يدخل في بطنك إلا ما عرقت من أجله ، ويأخذ كل إنسان حقه . وقبل أن يفكر الإنسان في أن يأكل عليه أن يتحرك ليأكل ، لا أن ينتظر ثمرة حركة الآخرين ، لماذا؟ لأن هذا الكسل يشيع الفوضى في الحياة . وحين نرى إنساناً لا يعمل ويعيش في راحة ويأكل من عمل غيره فإن هذا الإنسان يصبح مثلاً يحتذي به الآخرون فيقنع الناس جميعاً بالسكون عن الحركة ويعيشون عالة على الآخرين .
(1/487)

ويترتب على ذلك توقف حركة الحياة ، وهذا باطل زائل ، وبه تنتهي ثمار حركة المتحرك ، وهنا يجوع الكل .
إن الحق يريد للإنسان أن يتحرك ليشبع حاجته من طعام وشراب ومأوى ، وبذلك تستمر دورة الحياة . إنه سبحانه يريد أن يضمن لنا شرف الحركة في الحياة بمعنى أن تكون لك حركة في كل شيء تنتفع به؛ لأن حركتك لن يقتصر نفعها عليك ، ولكنها سلسلة متدافعة من الحركات المختلفة ، وحين تشيع أنت شرف الحركة فالكل سيتحرك نحو هذا الشرف ، لكن الباطل يتحقق بعكس ذلك ، فأنت حين تأكل من حركة الآخرين تشيع الفوضى في الكون .
وعلى هذا فالحركة الحلال لا يكفي فيها أن تتحرك فقط ، ولكن يجب أن تنظر إلى شرف الحركة بألا تكون في الباطل ، لأن الذي يسرق إنما يتحرك في سرقته ، ولكن حركته في غير شرف وهي حركة حرام . إذن كل مسروق في الوجود نتيجة حركة باطلة ، وكذلك الغصب ، والتدليس ، والغش ، وعدم الأمانة في العمل ، والخيانة في الوديعة ، وإنكار الأمانة ، كل ذلك باطل ، وكل حركة في غير ما شرع الله باطل ، حتى المعونة على حركة في غير ما شرع الله ، كل ذلك باطل .
ويقول لنا الحق سبحانه : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } أي إياكم أن تأكلوها بالباطل ثم تدلوا بها إلى الحكام ليبرروا لكم أن هذا الباطل هو حق لكم . فهناك أناس كثيرون يرون في فعل الحاكم مبرراً لأن يفعلوا مثله ، وهذا أمر خاطئ؛ لأن كل إنسان مسئول عن حركته .
لا تقل إن الحاكم قد شرع أعمالاً وتُلقى عليه تبعة أفعالك؛ ومثال ذلك تلك الأشياء التي نقول عليها إنّها فنون جميلة من رقص وغناء وخلاعة ، هل إباحة الحكومات لها وعدم منعها لها هل ذلك يجعلها حلالاً؟ لا؛ لأن هناك فرقاً بين الديانة المدنية والديانة الربانية . ولذلك تجد أن الفساد إنما ينشأ في الحياة من مثل هذا السلوك .
إن الذين يشتغلون بعمل لا يقره الله فهم يأكلون أموالهم بالباطل ، ويُدخلون في بطون أولادهم الأبرياء مالاً باطلاً ، وعلى الذين يأكلون من مثل هذه الأشياء أن ينتبهوا جيداً إلى أن الذي يعولهم ، إنما أدخل عليهم أشياء من هذا الحرام والباطل ، وعليهم أن يذكروا ربهم وأن يقولوا : لا لن نأكل من هذا المصدر؛ لأنه مصدر حرام وباطل ، ونحن قد خلقنا الله وهو سبحانه متكفل برزقنا .
وأنا اسمع كثيراً ممن يقولون : إن هذه الأعمال الباطلة أصبحت مسائل حياة ، ترتبت الحياة عليها ولم نعد نستطيع الاستغناء عنها . وأقول لهم : لا ، إن عليكم أن ترتبوا حياتكم من جديد على عمل حلال ، وإذا أصر واحد على أن يعمل عملاً غير حلال ليعول من هو تحته ، فعلى المُعال أن يقف منه موقفا يرده ، ويصر على ألا يأكل من باطل .
(1/488)

وتصوروا ماذا يحدث عندما يرفض ابن أن يأكل من عمل أمه التي ترقص مثلا أو تغني ، أو عمل والده إذا علم أنه يعمل بالباطل؟ المسألة ستكون قاسية على الأب أو الأم نفسيهما .
إن الذين يقولون : إن هذا رزقنا ولا رزق لنا سواه ، أقول لهم : إن الله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب ، ولا يظن إنسان أن عمله هو الذي سيرزقه ، إنما يرزقه الله بسبب هذا العمل : فإن انتقل من عمل باطل إلى عمل آخر حلال فلن يضن الله عليه بعمل حق ورزق حلال ليقتات منه .
وقد عالج الحق سبحانه وتعالى هذه القضية حينما أراد أن يحرم بيت الله في مكة على المشركين ، لقد كان هناك أناس يعيشون على ما يأتي به المشركون في موسم الحج ، وكان أهل مكة يبيعون في هذا الموسم الاقتصادي كل شيء للمشركين الذين يأتون للبيت ، وحين يُحَرِّم الله على المشرك أن يذهب إلى البيت الحرام فماذا يكون موقف هؤلاء؟ إن أول ما يخطر على البال هو الظن القائل : " من أين يعيشون "؟ ولنتأمل القضية التي يريد الله أن ترسخ في نفس كل مؤمن . قال الحق : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ]
ثم يأتي للقضية التي تشغل بال الناس فيقول : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ]
وهكذا نرى أن هذه القضية لم تخف على الله فلا يقولن أحدٌ إن العمل الباطل الحرام هو مصدر رزقي ، ولن أستطيع العيش لو تركته سواء كان تلحيناً أو عزفاً أو تأليفاً للأغاني الخليعة ، أو الرقص ، أو نحت التماثيل . نقول له : لا ، لا تجعل هذا مصدراً لرزقك والله يقول لك : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } . وأنت عندما تتقي الله ، فهو سبحانه يجعل لك مخرجاً . { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } ، وعليك أن تترك كل عمل فيه معصية لله وانظر إلى يد الله الممدودة لك بخيره .
إذن فقول الله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } تنبيه للناس ألا يُدخلوا في بطونهم وبطون من يعولون إلا مالاً من حق ، ومالاً بحركة شريفة؛ نظيفة ، وليكن سند المؤمن دائماً قول الحق : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2-3 ]
ولنا أن نعرف أن مَنْ أكل بباطل جاع بحق ، أي أن الله يبتليه بمرض يجعله لا يأكل من الحلال الطيب ، فتجد إنساناً يمتلك أموالاً ويستطيع أن يأكل من كل ما في الكون من مطعم ومشرب ، ولكن الأطباء يحرمون عليه الأكل من أطعمة متعددة لأن أكلها وبال وخطر على صحته ، وتكون النعمة أمامه وملك يديه ، ولكنه لا يستطيع أن يأكل منها بحق .
(1/489)

وفي الوقت نفسه يتمتع بالنعمة أولاده وخدمه وحاشيته وكل مَنْ يعولهم ، مثل هذا الإنسان نقول له : لابد أنك أخذت شيئاً بالباطل فحرمك الله من الحق .
ومن هنا نقول : " مَنْ أكل بباطل جاع بحق " . وكذلك نقول : " مَنْ استغل وسيلة في باطل أراه الله قبحها بحق " ، فالذي ظلم الناس بقوته وبعضلاته المفتولة لابد أن يأتي عليه يوم يصبح ضعيفاً .
والمرأة التي تهز وسطها برشاقة لابد أن يأتي عليها يوم يتيبس وسطها فلا تصبح قادرة على الحركة ، والتي تخايل الناس بجمال عيونها في اليمين والشمال لابد أن يأتيها يوم وتعمى فلا ترى أحدا ، وينفر الناس من دمامتها .
إن كل مَنْ أكل بباطل سيجوع بحق ، وكل مَنْ استغل وسيلة بباطل أراه الله قبحها بحق ، واكتب قائمة أمامك لمَنْ تعرفهم ، واستعرض حياة كل مَنْ استغل شيئاً مما خلقه الله في إشاعة انحراف ما أو جعله وسيلة لباطل لابد أن يُريه الله باطلاً فيه .
وأنا أريد الناس أن يعملوا قائمة لكل المنحرفين عن منهج الله ، ويتأملوا مسيرة حياتهم ، وكل منا يعرف جيرانه وزملاءه من أين يأكلون؟ ومن أين يكتسبون؟ ليتأمل حياتهم ويعرف أعمال الحلال والحرام ويجعل حياتهم عبرة له ولأولاده ، كيف كانوا؟ وإلي أي شيء أصبحوا؟ ثم ينظر خواتيم هؤلاء كيف وصلت .
ومن حبنا لهؤلاء الناس نقول لهم : تداركوا أمر أنفسكم فلن تخدعوا الله في أنكم تجمعون المال الحرام ، وبعد ذلك تخرجون منه الصدقات ، إن الله لن يقبل منكم عملكم هذا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب .
ونحن نسمع عن كثير من المنحرفين في الحياة يذهبون للحج ، ويقيمون مساجد ويتصدقون ، وكل ذلك بأموال مصدرها حرام ، ولهؤلاء نقول : إن الله غني عن عبادتكم ، وعن صدقاتكم الحرام ، وننصحهم بأن الله لا ينتظر منكم بناء بيوت له من حرام أو التصدق على عباده من مال مكتسب بغير حلال ، لكنه سبحانه يريد منكم استقامة على المنهج .
وحين نتأمل الآية نجد فيها عجباً ، يقول الله عز وجل : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } لقد ذكر الحق الحكام في الآية؛ لأن الحاكم هو الذي يقنن ويعطي مشروعية للمال ولو كان باطلاً ، وقوله سبحانه : { تُدْلُواْ } مأخوذة من " أدلى " ، ونحن ندلي الدلو لرفع الماء من البئر و " دلاه " : أي أخرج الدلو ، أما " أدلى " : فمعناها " أنزل الدلو " . ولذلك في قصة الشيطان الذي يغوي الإنسان قال الحق : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [ الأعراف : 22 ]
{ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } أي ترشوا الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالباطل ، ومن العجيب أن هذا النص بعينه هو نص الرشوة .
(1/490)

والرشوة مأخوذة من الرِّشاء ، والرِّشاء هو الحبل الذي يعلق فيه الدَّلو ، فأدلى ودَلاَ في الرشوة . ولماذا يدلون بها إلى الحكام؟ إنهم يفعلون ذلك حتى يعطيهم الحكام التشريع التقنيني لأكل أموال الناس بالباطل ، وذلك عندما نكون محكومين بقوانين البشر ، لكن حينما نكون محكومين بقوانين الله فالحاكم لا يبيح مثل هذا الفعل .
ولذلك وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ فقال : " إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحب أنه صادق فأقضي له بذلك ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " . إن الذين يقول ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المعصوم ، إنه يحذر من أن يحاول أحد أن يبالغ في قوة الحجة ليأخذ بها حقاً ليس له .
إذن فحين يُقنن الفساد فذلك نتيجة أن الحاكم يقر ذلك ، ويأخذ الإنسان الحاكم كأمر نهائي ، مثال ذلك : بعض من الحكام لم يحرموا الربا ، ويتعامل به الناس بدعوى الحكومات تحلله ، فلا حرج عليهم . ومثل هذا الفهم غير صحيح؛ لأن الحكومات لا يصح أن تحلل ما حرمه الله ، وإن حللت ذلك فعلى المؤمن أن يحتاط وأن يعرف أنه والحكام محكومون بقانون إلهي ، وإن لم تقنن الحكومات الحلال من أجل سلطتها الزمنية فعلى المؤمن ألا يخرج عن تعاليم دينه .
وإذا نظرنا إلى أي فساد في الكون ، في أي مظهر من مظاهر الفساد فسنجد أن سببه هو أكل المال بالباطل ، ولذلك لم يترك الحق سبحانه وتعالى تلك المسائل غائبة ، وإنما جعلها من الأشياء المشاهدة . وأنت إن أردت أن تعرف خلق أي عصر ، واستقامته الدينية وأمانته في تصريف الحركة فانظر إلى المعمار في أي عصر من العصور ، انظر إلى المباني ومن خلالها تستطيع أن تُقَيم أخلاق العصر . إنك إن نظرت إلى عملية البناء الآن تجد فيها استغلال المال ، وعدم أمانة المنفذ ، وخيانة العامل ، وكل هذه الجوانب تراها في المعمار . لننظر مثلا إلى مجمع التحرير ولنسترجع تاريخ بنائه ، ولنقرنه بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي وما بني في عهدهما .
ولننظر إلى المباني والإنشاءات التي نسمع عنها وتنهار فوق سكانها ولنقارنها بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي ، سنجد أن المباني القديمة قامت على الذمة والأمانة ، أما المباني التي تنهار على سكانها في زماننا أو تعاني من تلف وصلات الصرف الصحي فيها ، تلك المباني قامت على غش الممول الشره الطامع ، والمهندس المدلس الذي صمم أو أشرف على البناء أو الذي تسلم المبنى وأقر صلاحيته ، ومروراً بالعامل الخائن ، وتكون النتيجة ضحايا أبرياء لا ذنب لهم ، ينهار عليهم المبنى ويخرجون جثثا من تحت الأنقاض ، إن كل ذلك سببه أكل المال بالباطل . ولقد نظر الشاعر أحمد شوقي في هذه المسألة ، وجعل الأخلاق والدين من المبادئ فقال :
(1/491)

وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا
وأنا أقترح على الدولة أن تعد سجلا محفوظا لكل عمارة يتم بناؤها ، ويُحفظ في هذا السجل اسم ممولها ، والمهندس الذي أشرف على بنائها ، وكذلك أسماء عمال البناء ، وعمال التشطيب ، والأعمال الصحية والكهربائية وكافة العمال الذين شاركوا في بنائها . ويُحفظ كل ذلك في ملف خاص بالعمارة ، وعندما يحدث أي شيء يأتون بهؤلاء ، كل في تخصصه ويحاسبونهم على ما قصروا فيه من عمل ، وإلا فإن أرواح الناس ستذهب سدي؛ فكل إنسان منا له فرصة في هذه الحياة وعليه ألا يطغى على نصيب غيره .
وهب أننا نأخذ سلعة " بطابور " حتى لا يتقدم أحد على دور الآخر ، وقد جاء الأول في " الطابور " من الساعة السابعة صباحاً وأخذ دوره ، وجاء آخر متأخرا بعد أن نام واستراح ثم قضى جميع مصالحه وذهب للجمعية ووجد الصف طويلا ، فنظر حوله إلى شخص يتخطى هذا " الطابور "؛ وأعطاه مبلغا من المال سهل له قضاء حاجته ، مثل هذا الإنسان تعدى على حقوق كل الواقفين في " الطابور " .
وقد يقول : أنا أخذت مثلما يأخذون ، نقول له : لا؛ لقد أخذت زمن غيرك ولا يصح أن تأتي آخر الناس وتأخذ حق الشخص الذي وقف في " الطابور " من السابعة صباحا . إن حقك مرتبط بزمنك ، فلا تعتد على وقت الآخرين الذين هم أضعف منك قدرة أو مالاً . إن الحق يقول : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . والفريق هو الجماعة المعزولة من جماعة أكثر عددا ، فإذا ما انفصلت جماعة صغيرة عن أناس بهذه الجماعة تُسمى فريقاً .
والإثم الأصيل فيه ولو لم يكن هناك دين أن تفعل ما تُعاب عليه وتُذم ، وكذلك تُعاب عليه وتُذم من ناحية الدين ، وفوق ذلك تعاقب في الآخرة . وما هو مقياس الحق والباطل؟ إن المقياس الذي ينجيك من الباطل هو أن تقبل لنفسك ما تقبله للطرف الآخر في أية صفقة أو معاملة؛ لأنك لا ترضى لنفسك إلا ما تعلم أن فيه نفعاً لك .
ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية يعالج فيها أمراً واجه الدعوة الإسلامية ، والدعوة الإسلامية إنما جاءت لتخلع المؤمنين بالله من واقع في الحياة كان كله أو أغلبه باطلاً ، ولكنهم اعتادوه وألفوه أو استفاد أناس من ذلك الباطل ، ذلك أن الباطل لا يستمر إلا إذا كان هناك مَنْ يستفيدون منه . وجاء الإسلام ليخلص الناس من هذه الأشياء الباطلة . فالحق لم يشأ أن يعلمنا أن كل أحوال الناس غارقة في الشرور ، بل كانت هناك أمور أقرها الإسلام كما هي ، فالإسلام لم يغير لمجرد التغيير ، ولكنه واجه الأمور الضارة بالحياة التي لا يستفيد منها إلا أهل الباطل .
(1/492)

مثال ذلك كان العرف السائد في الدية أنها مائة من الإبل يدفعها أهل القاتل ، وقد أبقاها الإسلام كما هي . وحينما استقبل المسلمون الإيمان بالله ، فهم قد استقبلوا أحكامه وأرادوا أن يبنوا حياتهم على نظام إسلامي جديد طاهر ، حتى الشيء الذي كانوا يعملونه في الجاهلية كانوا يسألون عن حكمه؛ لأنهم لا يريدون أن يصنعوه على عادة ما كان يصنع ، بل على نية القربى إلى الله بالامتثال ، إذن فهم عشقوا التكليف ، وعلموا أن الله لم يكلفهم إلا بالنافع ، وعندما نقرأ { يَسْأَلُونَكَ } في القرآن فاعلم أنها من هذا النوع ، مثل ذلك قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ]
وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى } [ البقرة : 222 ]
وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ]
وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين } [ البقرة : 215 ]
وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين . . } [ الكهف : 83 ]
وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ]
إذن فكل سؤال معناه أنهم أرادوا أن يبنوا حياتهم على نظام إسلامي ، حتى الشيء الذي لم يغيره الإسلام أرادوا أن يعرفوه ويصنعوه على أنه حكم الإسلام لا على حكم العادة .
والسؤال الذي نحن بصدده يعالج قضية كونية . وعندما يسأل المسلمون عن قضية كونية فذلك دليل على أنهم التفتوا إلى كون الله التفاتاً دينياً آخر ، لقد وجدوا الشمس تشرق كل يوم ولا تتغير ، أما القمر الذي يطلع في الليل فهو الذي يتغير ، إنه يبدأ في أول الشهر صغيراً ثم يكبر حتى يصبح بدراً ، وبعد ذلك يبدأ في التناقص حتى يعود إلى ما كان عليه ، لقد لفت نظرهم ما يحدث للقمر ولا يحدث من الشمس ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن بعضاً من اليهود أرادوا إحراج المسلمين فقالوا لهم : " اسألوا رسولكم عن الهلال كيف يبدأ صغيراً ثم يكبر حتى يصير بدراً ثم يعود لدورته مرة أخرى حتى يغرب ليلتين لا نراه فيهما " ، وهذا السؤال سجله القرآن في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا . . . }
(1/493)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
الأهلة جمع هلال ، وسمى هلالاً لأن الإنسان ساعة يراه يهل ، أي يرفع صوته بالتهليل ، ويجيب الحق سبحانه وتعالى الجواب الذي يحمل كل التفاصيل عن القمر ، وهو الكوكب الذي خضع لنشاطات العقل حتى يكتشفه ، والعرب القدامى لم يكونوا يعلمون شيئاً عن ذلك القمر ، ولكنهم كانوا يؤرخون به ، وعلمهم به لم يزد على حدود انتفاعهم به . ولم يصلوا إلى الترف العقلي الذي يتأملون به آيات الله في الكون ، فكل آيات الكون يُنتفع بها ثم ينشط العقل بعد ذلك ، فنعرف السبب ، وقد لا ينشط العقل فتظل الفائدة هي الفائدة .
وأراد الحق سبحانه أن يلفتنا لمبدأ هام ، وهو أن يعلمنا كيف نستفيد من الآيات الكونية مثل القمر ، لا يكفي ظهوره واختفاؤه ، وتغير حجمه ، لأن هذه لن يتسع لها العقل ، بل نستفيد منه كميقات ، ونستخدمه لقياس الزمن . فإذا كنا ونحن نعيش في القرن العشرين ، لم يعرف العلماء سبباً لظواهر القمر ، فكيف كان حال الذين سألوا عنها منذ أربعة عشر قرناً؟
قال العلماء المعاصرون في تفسيراتهم مثلاً : إن الشمس مثل حجم الأرض مليونا وربع مليون مرة ، والقمر أصغر من الأرض ، وعندما تأتي الأرض بين الشمس والقمر برغم حجم الشمس الهائل فإن الأرض تحجب جزءاً من القمر ، هذا الجزء المحجوب بقدر تدوير القوس المحجوب من الأرض ويصبح هذا الجزء من القمر مظلماً .
إن القمر وجوده ثابت لكن الأرض عندما توجد بينه وبين الشمس فهي التي تحجب عنه ضوء الشمس ، ويكبر حجم نوره كلما تزحزحت الأرض بعيداً عنه . وعندما تنزاح الأرض بعيداً عنه كلية يظهر في السماء بدراً كاملاً ، ثم تعود الأرض بعد ذلك لتحجب عنه جزءاً من الشمس ، ويزداد ذلك يوماً بعد يوم ، فينقص ضوء الشمس المنعكس عليه تبعاً لذلك ، فيقل تدريجياً حتى تأتي الأرض بينه وبين الشمس فلا يظهر منه شيء .
ونقول نحن : إننا عندما لا نرى القمر لا في الليل ولا في النهار برغم أنه موجود في مكانه ، نقول : إنه مستور في ظل الأرض ، لذلك لا نراه . وهذه الظاهرة لا تحدث للشمس لأن جرم الشمس كبير جداً . وعندما يحدث فإن الأثر يكون قليلا ، ويسمى بالكسوف .
وعندما التفت العرب للكون قالوا : ما بال الهلال يصبح هكذا ثم يكبر حتى يصير بدراً ، فقال الحق عز وجل : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } إنهم هم يسألون عن الأهلة ودورتها ، فقطع الله عليهم خيط تفكيرهم وأعطاهم الخلاصة والنتيجة ، فقال : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } . إن هذا الأمر هو الذي يستطيع العقل في ذلك الزمان أن يعرفه ، أما ما وراء ذلك فانتظروا حتى يكشف الزمن عنه ، وجهلكم به لا يقلل من نفعكم .
لقد كانت كل إجابة لأي سؤال في ذلك الزمان تحتوي على ما يتسع العقل لإدراكه ساعة التشريع ، أما بقية الإجابة فالحق يتركها للزمن .
(1/494)

ولا يعطينا إلا ما يفيد التشريع ، مثال ذلك : كانوا قديما يقولون : الأرض كرة وأثبت لنا العلم أنها كذلك ، ورأيناها بالأقمار الصناعية وانتهت القضية .
وعندما سأل العرب عن الأهلة أخبرنا الحق بأنها مواقيت ، والمواقيت جمع ميقات ، والميقات من الوقت ، والوقت هو الزمن ، ونعرف أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمن وإلى مكان . إذن فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فلا يوجد زمان ولا مكان إلا إذا وجد حدث .
والذي يقول : كيف كان الزمن قبل أن يخلق الله الخلق؟ . نقول له : الزمن وُجد للحادث وهو المخلوقات والله قديم ، وما دام الله قديما وليس حادثا فلا زمان ولا مكان ، لا تقل متى ولا أين؛ لأن متى وأين مخلوقة . وكيف نعرف الوقت؟ نحن نعرف الوقت بأنه مقدار من الزمن ، لمقدار من الحركة ولمقدار من الفعل .
وأين المكان في هذا التعريف؟ إن الزمان يتحكم أحياناً في المكان ، فيقول الزمان هو الأصل ، والمكان طارئ عليه ، ومرة أخرى يكون المكان هو الأصل ، والزمان هو الطارئ عليه ، ومرة ثالثة يتلازم الاثنان الزمان والمكان .
ونحن في مصر إذا أردنا الحج فإننا نبدأ الإحرام عند رابغ ، ونُسمي رابغ ميقات أهل مصر أي هي المكان الذي لا يتجاوزه من مر عليه إلا وهو محرم .
إذن فالميقات قد أطلق على مكان هو رابغ ، ومن فور وصول الإنسان المصري إلى رابغ بغية الحج يحرم ، سواء كان الوقت صباحاً أو ظهراً أو عصراً أو مغرباً .
ولكن عندما نبدأ في الصوم فإن الزمن يصبح هو الأصل في صومك في أي مكان تذهب إليه ، إن الزمان هو الذي يحدد مواعيد الصوم : في طنطا أو لندن أو في طوكيو ، وهكذا نعرف كيف يكون الزمن ميقاتاً .
إذن فمرة يكون الزمن هو المتحكم في الميقات والمكان طارئ عليه ، ومرة يكون المكان هو الذي يتحكم في الميقات ، والزمن طارئ عليه ، ومرة يتحكم الزمان والمكان معاً في الفعل مثل يوم عرفة .
وهكذا نعرف معنى { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } ، فنحن بالهلال نعرف بدء شهر رمضان ، ونعرف به عيد الفطر ، وكذلك موسم الحج وعدة المرأة ، والأشهر الحرم ، إن كل هذه الأمور إنما نعرفها بالمواقيت . وشاء الحق أن يجعل الهلال هو أسلوب تعريفنا تلك الأمور وجعل الشمس لتدلنا على اليوم فقط ، وإن كان لها عمل آخر في البروج التي يتعلق بها حالة الطقس والجو ، والزراعة ، ولذلك قال : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ]
وانظر إلى الدقة في الأداء وكيف يشرح الحق للإنسان ماهية النور ، وماهية الضوء . إن الشمس مضيئة بذاتها ، أما القمر فهو منير؛ لأن ضوءه من غيره؛ فهو مثل قطعة الحجر اللامعة التي تنعكس عليها أشعة الشمس فتعطينا نوراً .
(1/495)

إن القمر منير بضوء غيره ، ولذلك يقول الحق في آية أخرى : { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ]
والسراج في هذه الآية هو الشمس التي فيها حرارة ، وجعلها الحق ذات بروج ، أما القمر فله منازل وهو منير بضوء غيره؛ وفي ذلك يقول الحق : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ]
إذن ، فعدد السنين وحسابها يأتي من القمر ، وفي زماننا إذا أرادوا أن يضبطوا المعايير الزمنية فهم يقيمونها بحساب القمر؛ فقد وجدوا أن الحساب بالقمر أضبط من الحساب بالشمس؛ فالحساب بالشمس يختل يوماً كل عدد من السنين .
ولنفهم الفرق بين منازل القمر وبروج الشمس . إن البروج هي أسماء من اللغة السريانية ، وهو : برج الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والعذراء ، والأسد ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، وعددها اثنا عشر برجا هذه هي أبراج الشمس ، ويتعلق بها مواعيد الزرع والطقس والجو ، ويحب أن نفهم أن لله في البروج أسراراً ، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعلها قسماً حين يقول : { والسمآء ذَاتِ البروج } .
ولذلك تجد أن التوقيت في الشمس لا يختلف؛ فالشهور التي تأتي في البرد ، والتي تأتي في الحر هي هي ، وكذلك التي تأتي في الخريف ، والربيع ، وبين السنة الشمسية والسنة القمرية أحد عشر يوما ، والسنة القمرية هي التي تستخدم في التحديد التاريخي للشهور العربية ونعرف بداية كل شهر بالهلال : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } [ التوبة : 36 ]
ولذلك كانت تكاليف العبادة محسوبة بالقمر حتى تسيح المنازل القمرية في البروج الشمسية ، فيأتي التكليف في كل جو وطقس من أجواء السنة ، فلا تصوم رمضان في صيف دائم ، ولا في شتاء دائم ، ولكن يُقَلِّبُ الله مواعيد العبادات على سائر أيام السنة ، والذين يعيشون في المناطق الباردة مثلاً لو كان الحج ثابتا في موسم الصيف لما استطاعوا أن يؤدوا الفريضة ، ولكن يدور موسم الحج في سائر الشهور فعندما يأتي الحج في الشتاء ييسر لهم مهمة أداء الفريضة في مناخ قريب من مناخ بلادهم .
وهكذا نجد أن حكمة الله اقتضت أن تدور مواقيت العبادات على سائر أيام السنة حتى يستطيع كل الناس حسب ظروفهم المناخية أن يؤدوا العبادات بلا مشقة . إذن فالمنازل شائعة في البروج ، وهذا سبب قول بعض العلماء : إن ليلة القدر تمر دائرة في كل ليالي السنة ، وذلك حسب سياحة المنازل في البروج .
إذن فهناك بروج للشمس ، ومنازل للقمر ، ومواقع للنجوم ، ومواقع النجوم التي يقسم بها الله سبحانه في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75-76 ]
ولعل وقتا يأتي يكشف الله فيها للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك عندما تتهيأ النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه .
(1/496)

إذن كل شيء في الكون له نظام : للشمس بروج ، وللقمر منازل ، وللنجوم مواقع . وكل أسرار الكون ونواميسه ونظامه في هذه المخلوقات ، وقد أعطانا الله من أسرار الأهلة أنها مواقيت للناس والحج . وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكماً متعلقاً به؛ فقد كانت هناك قبائل من العرب تعرف بالحمس ، هؤلاء الحمس كانوا متشددين في دينهم ومتحمسين له ، ومنهم كانت قريش ، وكنانة ، وخثعم ، وجشم ، وبنو صعصاع بن عامر . وكان إذا حج الفرد من هؤلاء لا يدخل بيته من الباب لأنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج . ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته ، لذلك كان يدخل من ظهر البيت ، وكان ذلك تشدداً منهم ، لم يرد الله أن يُشرَعه . حتى لا يطلع على شيء يكرهه في زوجه أو أهله . وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج في القرآن أن ينقي المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لا تجعلوا المسائل شكلية ، فنحن نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع .
والملاحظ أن كلمة " البر " في هذه الآية جاءت مرفوعة ، لأن موقعها من الإعراب هو " اسم ليس " وهي تختلف عن كلمة " البر " التي جاءت من قبل في قوله تعالى : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب } التي جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو " خبر مقدم لليس " . حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الاختلاف في الرفع والنصب على القرآن الكريم . ونقول لهم : أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية ، فماذا نفعل لكم؟ . يصح أن نجعل الخبر مبتدأ فنقول : " زيد مجتهد " ، هذا إذا كنا نعلم زيداً ونجهل صفته ، فجعلنا زيداً مبتدأ ، ومجتهداً خبراً . لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهداً ولا نعرف من هو؛ فإننا نقول : " المجتهد زيد " .
إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف ، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف . وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة " البر " في كل من الآيتين . ونقول للمستشرقين : إن لكل كلمة في القرآن ترتيباً ومعنى ، فلا تتناولوا القرآن بالجهل ، ثم تثيروا الإشكالات التي لا تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم .
ثم ما هو " البر "؟ قلنا : إن البر هو الشيء الحسن النافع . ولو ترك الله لنا تحديد " البر " لاختلفت قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلاف عقولنا؛ فأنت ترى هذا " حسناً "؛ وذاك يرى شيئا آخر ، وثالث يرى عكس ما تراه ، لذلك يخلع الله يدنا من بيان معنى البر ، ويحدد لنا سبحانه مواصفات الحسن النافع ، فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إلا وهو يعتقد أنه هو الحسن النافع ، ولذلك يقول الحق : { ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } .
(1/497)

إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها ، فاذهب إلى الغاية من الطريق الذي يوصل إليها . ويتبع الحق قوله عن البر : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . لا تزال كلمة التقوى هي الشائعة في هذه السورة ، وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى .
ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقي معضلات الحياة ، ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله . وساعة ترى منهج الله وتطبقه فأنت اتقيت المشكلات ، أما من يعرض عن تقوى الله فإن الحق يقول عن مصيره : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [ طه : 124 ]
ولا يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار ، لا ، إنها أعم من ذلك ، إنها اتقاء المشكلات والمخاطر التي تنشأ من مخالفة منهج الله . وليعلم الإنسان أن كل مخالفة منهج الله . وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها في غيره ، فمن لا يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب المخالفات في غيره .
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى ، وهذه القضية الأخرى هي التي تميز الأمة الإسلامية بخصوصية فريدة؛ لأنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه الأمة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من قبل ، وهذه الخصوصية هي أن الله قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج الله؛ فقديماً كانت السماء هي التي تُؤدب هؤلاء الخارجين عن المنهج . كان الرسول يشرح ويبلغ المنهج ، فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم ، إما بصاعقة ، وإما بعذاب ، وإما بفيضان ، وإما بأي وسيلة . ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج . وحين سأل بنو إسرائيل ربهم أن يقاتلوا ، لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقاً للآية الكريمة : { قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } [ البقرة : 246 ]
علة القتال إذن أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولادهم ، فهم عندما سألوا القتال لم يسألوه للدفاع عن العقيدة ، وإنما لأنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم .
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي التي أمنها الله على أن يكون في يدها الميزان ، وليس هذا الميزان ميزان تسلط ، وإنما هو ميزان يحمي كرامة الإنسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل الذي خلقه الله ، فلا إكراه في الإيمان بالله . وقد شرع الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به دينا ، ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين الذي ترتضيه . وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول دونك ودون أن تكون حراً مختاراً في أن تقبل التكليف .
ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالإسلام تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم : إن حججهم ساقطة واهية ، وكذلك قولهم : إن الإسلام عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الأموال ، نقول لهؤلاء : جزية على مَنْ؟ جزية على غير المؤمن ، ومادام قد فُرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن يكون غير مؤمن ، لو كان الإسلام يُكره الناس على اعتناقه لما كان هناك مَنْ نأخذ عليه جزية .
(1/498)

إذن فالإسلام لم يُكرهه ، وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى لا يُكرهه أحد على ترك دينه ، وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو لا يسلم . وكأن الذين ينتقدون الإسلام يدافعون عنه؛ فسهامهم قد ارتدت إليهم .
وهنا تساؤل قد يثور : إذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول : إن حروب الإسلام كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم ، وجاء الإسلام ليقول لهؤلاء : ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحراراً في أن يختاروا الدين المناسب . ولماذا تركهم الإسلام أحراراً؟ لأنه واثق أن الإنسان مادام على حريته في أن يختار فلا يمكن أن يجد إلا الحق واضحاً في الإسلام . ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . } [ البقرة : 256 ]
لا يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله سبحانه من الآية نفسها { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } . إذن فالمسألة واضحة لماذا نُكره الناس وقد وضح أمامهم الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس؛ فأنت تستطيع أن تُكره القالب ، لكن لا تستطيع أن تُكره القلب . ونحن نريد أن ينبع الإيمان من القلب ، ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ]
إن الله لا يريد أعناقاً ، لو كان يريد أعناقاً لما استطاع أحد أن يخرج عن قدره سبحانه من يُريد الله أن يبتليه بمرض أو موت فلن ينجو من قدره . إن الحق يريد إيمان قلوب لا رضوخ قوالب . فالذي يجبر الآخرين على الإيمان بالكرباج لن يتبعه أحد ، وهو نفسه غير مؤمن بما يفرضه على الناس . ولو كان مؤمنا به لما فرضه على الناس بالقسر؛ إنهم سيقبلونه عن طواعية واختيار عندما يتبيّن لهم أنه الحق المناسب لصلاح حياتهم .
ونحن نلتفت حولنا فنجد أن النظم والحكومات التي تفرض مبادئها بالسوط والقهر تتساقط تباعاً ، فعندما تتخلى هذه الحكومات عن السوط والبطش فإن الشعوب تتخلى عن تلك الأفكار . والقرآن هنا يعالج هذه المسألة عندما يتحدث عن القتال وتشريع القتال ، الأمر الذي اختص به الحق أمة الإسلام . وهو سبحانه لم يأذن بالقتال خلال فترة الدعوة المكية التي استمرت ثلاثة عشر عاماً ، ثم أذن به بعد الهجرة إلى المدينة .
(1/499)

وقد كان من الضروري أن يتأخر أمر القتال؛ لأن الحق أراد أولاً أن يلتفت المسلمون إلى اتباع المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة ، ويروا فيهم أسوة حسنة ، لذلك قال الحق : { فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ]
وقال سبحانه أيضاً : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ]
لماذا كل هذا التدرج؟ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للإسلام ستدخل البيوت العربية ، فسيضم البيت الواحد كافراً بالله ومؤمناً بالله ، ولو أنه سبحانه وتعالى شرع القتال من البداية لصار في كل بيت معركة .
ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛ وكانوا يقتتلون لأتفه الأسباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم في ضرعها فماتت اشتعلت الحرب أربعين سنة . وفي ذلك يقول الشاعر عند الحفيظة والغضب :
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
والثاني يقول :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
أي أنهم لا يسألون أخاهم : " لماذا نحارب؟ " ، وإنما يحاربون بلا سبب ولأي سبب ، فالحمية الرعناء تدفعهم للقتال بلا سبب . وفي مقابل ذلك كانت عندهم نخوة للحق ، فعندما يرون شخصا قد ظلمه غيره؛ تأخذهم النخوة ، ويأخذون على يد الظالم ، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف من المسلمين مستضعفين ، وقد عزلهم بعض من القوم في شعب أبي طالب وجوعوهم وقاطعوهم حتى اجتمع الخمسة العظام في مكة وقالوا : " كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتي نساءنا وبنو هاشم وبنو المطلب محصورون في الشعب لا يأكلون ولا يشربون ولا يتبايعون " .
لقد كانوا كفاراً ، وبرغم ذلك وقفوا موقفاً عظيماً وقالوا : هاتوا الصحيفة التي تعاهدنا فيها على أن نقاطع بني هاشم وبني المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك . وكانوا خمسة من سادات مكة هم : هشام بن عمرو ، وزهير بن أبي أمية ، وأبو البحتري بن هاشم ، وزمعة ابن الأسود ، والمطعم بن عدي . وكانوا قادة النخوة التي أنهت مقاطعة المسلمين . هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة في الحق .
ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمراً سهلاً ، لذلك أخذهم برفق الهَوَادة . والذين يقولون : لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد الكفر في مكة؟
نقول لهم : إن كثيراً من الذين كنتم ترون قتالهم في بداية الدعوة الإسلامية هم الذين نشروا راية الإسلام من بعد ذلك ، ومثال ذلك خالد بن الوليد ، الذي كان قائداً مغواراً في صفوف المشركين ، وقاتل المسلمين في أول حياته ، ثم هداه الله للإسلام وأصبح سيف الله المسلول ، ماذا لو قتل هذا القائد الفذ على أيدي المسلمين؟ كان مثل هذا الفعل سيتسبب في حرمان المسلمين من موهبته ، تلك الموهبة التي أسهمت في معظم الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق .
(1/500)

إذن شاءت حكمة الله أن يستبقي أمثال خالد وهم خصوم للإسلام في بدء الدعوة لأن الله قد أعد لهم دوراً يخدمون به الإسلام . والذين نالوا من الإسلام أولا هم الذين ستبقى عندهم الحرارة حتى يعملوا عملاً يغفر الله لهم به ما قد سبق .
انظر إلى عكرمة بن أبي جهل كان شوكة في ظهر المسلمين في بداية الدعوة ، ثم أسلم وأبلى بلاء حسناً ، ولما أصيب في موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر إلى قائده خالد بن الوليد وقال : أهذه ميتة تُرضى عني رسول الله؟ . كأنه كان يعلم أن رسول الله كان قد غضب عليه قبل أن يسلم .
وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذي لولاه ما فُتحت مصر . فقد كسب بدهائه أهل مصر فامتنعوا عن قتاله ، وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين ، وأبان لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موصياتهم " استوصوا بالقبطيين خير لأن لهم رحما وذمة " وفوق هذا فقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض العرب يستقرهم إلى الإسلام .
إذن فمن رحمة الله أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية ، وإلا لكنا فقدنا كثيراً من قادة الإسلام العظام الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية فيما بعد ، وكل إنسان استقاه الإسلام وهو خصم وعدو للإسلام ، قدر الله له بعد الإسلام دورا يخدم به الدين الخاتم .
ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال في الإسلام ، لأن الله أراد أن يمحص ويختبر ، وألا يدخل هذا الدين إلا من يتحمل متاعب هذا الدين ، ومشاقه لأنه سيكون مأموناً على مجد أمة ، وعلى منهج سماء ، وتلك أمور لا يصلح لها أي واحد من الناس .
وقد كان من الممكن أن ينصر الله دينه من أول وهلة دون تدخل من المسلمين ، وكان معنى ذلك أن الناس سيتساوون في الإيمان أولهم وآخرهم ، ولكن شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يجعل لهذا الدين رجالاً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى مصاف النبيين . لذلك جاء الأمر بالقتال متأخراً وبالتدريج؛ لقد جاء الأمر بالقتال في أول مرحلة بقول الله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا . . . }
(1/501)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتاق هو وصحابته إلى البيت الحرام ، وأرادوا أن يعتمروا ، فجاءوا في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة . وأرادوا أن يؤدوا العمرة . فلما ذهبوا وكانوا في مكان اسمه الحديبية ، ووقفت أمامهم قريش وقالت : لا يمكن أن يدخل محمدٌ وأصحابه مكة .
وقامت مفاوضات بين الطرفين ، ورضي رسول الله بعدها أن يرجع هذا العام على أن يأتي في العام القادم ، وتُخلى لهم مكة ثلاثة أيام في شهر ذي القعدة .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام محلقين ومقصرين ، وشاع ذلك الخبر ، وفرح به المسلمون وسعدوا ، ثم فوجئوا بمفاوضات رسول الله ورجوعه على بعد نحو عشرين كيلو متراً من مكة وحزن الصحابة . حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضب وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألست رسول الله؟ ألست على الحق؟ فرد عليه سيدنا أبو بكر قائلا : الزم غرزك يا عمر إنه لرسول الله .
وقد أظهرت هذه الواقعة موقفا لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، وهو موقف يعبر عن الحنان والرحمة والمشورة اللينة الهينة . فحينما دخل عليها رسول الله وقال لها : هلك المسلمون يا أم سلمة ، أمرتهم فلم يمتثلوا .
فانظر إلى مهمة الزوجة عندما يعود إليها زوجها مهموماً ، هنا تتجلى وظيفتها في السكن ، قالت أم سلمة : اعذرهم يا رسول الله؛ إنهم مكروبون . كانت نفوسهم مشتاقة لأن يدخلوا بيت الله الحرام محلقين ومقصرين ، ثم حرموا منها وهم على بعد أميال منها ، اعمد إلى ما أمرك الله فافعله ولا تُكلم أحداً ، فإن رأوك فعلت ، علموا أن ذلك عزيمة .
وأخذ رسول الله بنصيحة أم سلمة ، وصنع ما أمره به الله ، وتبعه كل المسلمين ، وانتهت المسألة . وقبل أن يرجعوا للمدينة لم يشأ الله أن يطيل على الذين انتقدوا الموقف حتى لا يظل الشرخ في نفوس المؤمنين ، وتلك عملية نفسية شاقة ، لذلك لم يُطل الله عليهم السبب ، وجاء بالعلة قائلا لهم : ما يحزنكم في أن ترجعوا إلى المدينة؛ أنتم لكم إخوان مؤمنون في مكة وقد أخفوا إيمانهم وهم مندسون بين الكفار ، فلو أنكم دخلتم ، وقاتلوكم ، ستقاتلون الجميع مؤمنين وكافرين ، فتقتلون إخوانا لكم ، فلو كان هؤلاء الإخوان المؤمنون متميزين في جانب من مكة لأذنت لكم بقتال المشركين؛ كما تريدون . واقرأ قول الله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ]
(1/502)

بعد نزول الآية عرف المسلمون أن الامتناع كان لعلة ولحكمة ، فلما جاءوا في العام التالي قال الله لهم : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ]
وكان الحق يطمئنهم ، فالذين صدوكم في ذي القعدة من ذلك العام ستقاتلونهم وستدخلون في ذي القعدة من العام القادم . وخاف المسلمون إن جاءوا في العام المقبل أن تنقض قريش العهد وتقاتلهم ، ونزل قول الحق :
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } [ البقرة : 190 ]
وعندما نتأمل قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } فإننا نجد أن الحق سبحانه يؤكد على كلمة { فِي سَبِيلِ الله } لأنه يريد أن يضع حداً لجبروت البشر ، ولابد أن تكون نية القتال في سبيل الله لا أن يكون القتال بنية الاستعلاء والجبروت والطغيان فلا قتال من أجل الحياة ، أو المال أو لضمان سوق اقتصادي ، وإنما القتال لإعلاء كلمة الله ، ونصرة دين الله ، هذا هو غرض القتال في الإسلام .
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } والحق ينهى عن الاعتداء ، أي لا يقاتل مسلم من لم يقاتله ولا يعتدي .
وهب أن قريشا هي التي قاتلت ، ولكن أناساً كالنساء والصبيان والعجزة لم يقاتلوا المسلمين مع أنهم في جانب من قاتل ، لذلك لا يجوز قتالهم ، نعم على قدر الفعل يكون رد الفعل . ماذا؟ لأن في قتال النساء والعجزة اعتداء ، وهو سبحانه لا يحب المعتدين . لكن قتال المؤمنين إنما يكون لرد العدوان ، ولا بداية عدوان .
ويقول الحق من بعد ذلك : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل . . . }
(1/503)

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
ونحن نسمع كلمة " ثقافة " ، وكلمة " ثقاف " ، والثقافة هي يسر التعلم ، أو أن تلم بطرف من الأشياء المتعددة ، وبذلك يصبح فلان مثقفاً أي لديه كمٌّ من المعلومات ، ويعرف بعض الشيء عن كل شيء ، ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف كل شيء عن شيء واحد .
كل هذه المعاني مأخوذة من الأمور المحسة ، والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن ، فقد كان العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحاً وعصياً ، والغصن قد يكون معوجاً أو به نتوء ، فكان العربي يثقفه ، أي يزيل زوائده واعوجاجه ، ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة من الحديد المعقوف ليقوِّم بها المعوج من الأغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد البناء .
كأن المُثَقِّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون؛ فهو يعرف هذه وتلك ، وأصبح ذا تقويم سليم . وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا . وقوله : { ثَقِفْتُمُوهُم } أي " وجدتموهم " ، فثقف الشيء أي وجده .
والحق يقول : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم } [ الأنفال : 57 ]
أي شردهم حيث تجدهم . ويقول الحق : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } أي لا تقولوا إنهم أخرجوكم من هنا ، وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم ، أي من أي مكان أنتم فيه ، وعن ذلك لن تكونوا معتدين . وقوله تعالى : { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى منها قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ]
وقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . } [ الشورى : 40 ]
وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } " قد يرد هذا الخاطر " أخذت حقي ممن أساء إلي ، وانتقمت منه بعمل يماثل العمل الذي فعله معي ، هل يقال : إنني فعلت سيئة؟
وحتى نفهم المسألة نقول : الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الأحايين بلفظ " المشاكلة " وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته ، ومثل ذلك قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } ، إن الله لا يمكر ، وإنما اللفظ جاء للمشاكلة ، أو أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة { سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } لينبهك إلى أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن المسيء ، يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الآية بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } وبمثل ذلك كان ختام الآية السابقة { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } .
ويقول الحق : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } ، والفتنة مأخوذة من الأمر الحسي ، فصائغ الذهب يأخذ قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر ، فإذا ما كان يشوبها معدن غريب عن الذهب فهو يخرج ويبقى الذهب خالصا ، فكأن الفتنة ابتلاء واختبار ، وقد فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل ، فقد حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم بالتعذيب ، فخرج المؤمنون فراراً بدينهم .
(1/504)

والحق يأمر المسلمين في قتالهم مع أهل الشرك أن يراعوا حرمة البيت الحرام ، فلا ينتهكوها بالقتال إلا إذا قاتلهم أهل الشرك .
وهكذا نجد أن أول أمر بالقتال إنما جاء لصد العدوان ، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسقط من أيدي خصوم الإسلام ورقة قد يلعبون بها مع المسلمين ، فهم يعلمون أن المؤمنين بالإسلام سيحترمون الأشهر الحرم ويحترمون المكان الحرام ويحترمون الإحرام فلا يقاتلون؛ وربما أغرى ذلك خصوم الإسلام ألا يقاتلوا المسلمين إلا في الأشهر الحرم ، ويظنون أن المسلمين قد يتهيبون أن يقاتلوهم ، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشرع لهم ما يناسب مثل هذا الأمر فأذن لهم في القتال ، فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام ، وإن قاتلوكم في المكان الحرام فقاتلوهم في المكان الحرام ، وإن قاتلوكم وأنتم حُرم فقاتلوهم؛ لأن الحرمات قصاص .
إذن أسقط الحق الورقة من أيدي الكافرين . إن الحق سبحانه وتعالى يعلل ذلك بأنه وإن كان القتال في الشهر الحرام وفي المكان الحرام وفي حال الإحرام صعباً وشديداً فالفتنة في دين الله أشد من القتل ، لأن الفتنة إنما جاءت لِتُفسِد على الناس دينهم ، صحيح أنها لا تعوق الناس عن أن يتدينوا ، ولكنها تفتن الذين تدينوا ، وقد حاولوا إجبار المسلمين الأوائل بالتعذيب حتى يرتدوا عن الدين ، وكان ذلك أشد من القتل لأنها فتنة في الدين .
إن الله هو الذي شرع الشهر الحرام فكيف يُفتن المؤمنون عن دين الله ويُحملون على الشرك به ثم تقولون بعد ذلك إننا في الشهر الحرام؟ إن الشهر الحرام لم يكن حراماً إلا لأن الله هو الذي حرمه ، فالفتنة في الله شرك وهو أشد من أن نقاتل في الشهر الحرام ، ولذلك فلا داعي أن يتحرج أحد من القتال في الشهر الحرام عندما يفتن في دينه . وحينئذ نعلم أن القتال إنما جاء دفاعاً .
وبعد ذلك هل يظل القتال دفاعاً كما يريد خصوم الإسلام أن يجعلوه دفاعاً عَمّن آمن فقط؟ أو كما يريد الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام أنه دين قتال ويقولون : لا ، الإسلام إنما جاء بقتال الدفاع فقط . نقول لهؤلاء : قتال الدفاع عَمَّن؟ هل دفاع عَمَّن آمن فقط؟ أم عن مطلق إنسان نريد أن ندفع عنه ما يؤثر في اختيار دينه؟
هو دفاع أيضاً ، وسنسميه دفاعاً ، ولكنه دفاع عَمَّن آمن ، ندفع عنه مَنْ يعتدي عليه ، وأيضاً عَمَّن لم يؤمن ندفع عنه من يؤثر عليه في اختيار دينه لنحمي له اختياره ، لا لنحمله على الدين ، ولكن لنجعله حراً في الاختيار؛ فالقوى التي تفرض على الناس ديناً نزيحها من الطريق ، ونعلن دعوة الإسلام ، فمَنْ وقف أمام هذه الدعوة نحاربه؛ لأنه يفسد على الناس اختيار دينهم ، وفي هذا أيضاً دفاع .
(1/505)

{ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } لأنكم أحرى وأجدر أن تحترموا تحريم الله للمسجد الحرام ، لكن إذا هم اجترأوا على القتال في المسجد الحرام فقد أباح سبحانه لكم أيها المسلمون أن تقاتلوهم عند المسجد الحرام ما داموا قد قاتلوكم فيه . { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين * فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وما أسمى هذا الدين .
إننا لا نؤاخذهم بعد أن انتهوا إلى الإيمان بما قدمت أيديهم من الاجتراء على أهل الإيمان ما داموا قد آمنوا ، ولذلك نرى عمر بن الخطاب وقد مر على قاتل أخيه زيد بن الخطاب : وأشار رجل وقال : هذا قاتل زيد . فقال عمر : وماذا أصنع به وقد أسلم؟ لقد عصم الإسلام دمه .
لقد انتهت المسألة بإسلامه ، فالإيمان بالله أعز على المؤمن من دمه ومن نفسه وحين يؤمن فقد انتهت الخصومة . وهذا وحشي قاتل حمزة ، يقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما يصنعه رسول الله هو أن يزوي وجهه عنه ، لكنه لا يقتله ولا يثأر منه . وهند زوجة أبي سفيان التي أكلت كبد حمزة ، أسلمت وانتهت فعلتها بإسلامها . إذن ، فالإسلام ليس دين حقد ولا ثأر ولا تصفية حسابات ، فإذا كان الدم يغلي في مواجهة الكفر ، فإن إيمان الكافر بالإسلام يعطيه السلامة ، هذا هو الدين .
(1/506)

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
أي ما داموا قد كفوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بالله وَزُجِروا بالدين الآمر فانزجروا عن الكفر ، بعدها لا شيء لنا عندهم؛ لأن الله غفور رحيم ، فلا يصح أن يشيع في نفوسنا الحقد على ما فعلوه بنا قديما ، بل نحتسب ذلك عند الله ، وما داموا قد آمنوا فذلك يكفينا . والحق سبحانه وتعالى بعد أن أعطانا مراحل القتال ودوافعه قال : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ . . . }
(1/507)

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
وعرفنا أن الفتنة ابتلاء واختبار والحق يقول : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ]
إن الحق يختبر الإيمان بالفتنة ، ويرى الذين يُعلنون الإيمان هل يصبرون على ما فيه من ابتلاءآت أم لا؟ فلو كان دخول الإسلام لا يترتب عليه دخول في حرب أو قتال ولا يترتب عليه استشهاد بعض المؤمنين لكان الأمر مغريا لكثير من الناس بالدخول في الإسلام ، لكن الله جعل لهم الفتنة في أن يُهزَموا ويُقتل منهم عدد من الشهداء ، وذلك حتى لا يدخل الدين إلا الصفوة التي تحمل كرامة الدعوة ، وتتولى حماية الأرض من الفساد ، فلا بد أن يكون المؤمنون هم خلاصة الناس .
لذلك قال سبحانه : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } . معنى أن يكون الدين لله ، أي تخرجوهم من ديانة أنفسهم أو من الديانات التي فرضها الطغيان عليهم ، وعندما نأخذهم من ديانات الطغيان ، ومن الديانات التي زينها الناس إلى ديانات الخالق فهذه مسألة حسن بالنسبة لهم ، وتلك مهمة سامية . كأنك بهذه المهمة السامية تريد أن ترشد العقل الإنساني وتصرفه وتمنعه من أن يَديِنَ لمساو له؛ إلى أن يدين لمن خلقه . وعلى صاحب مثل هذا العقل أن يشكر من يوجهه إلى هذا الصواب . ولذلك يُجلى الحق سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فيقول على لسان الرسول : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ]
فكأننا لو نظرنا إلى عمل الرسول بالنسبة إلينا بمنظار الاقتصاد لوجب أن يكون له أجر ، لأنه يقدم المنفعة لنا ، وبرغم ما قدمه من منفعة فهو لا يأخذ أجراً؛ لأنه زاهد في الأجر؛ فإنه يعلم أن الأجر من المساوي له قليل مهما عظم وهو يريد الأجر ممن خلقه ، وهذا طمع في الأعلى؛ لأنه لا يعطي الأجر على الإيمان إلا الله سبحانه وتعالى ، وهو الذي يعطي بلا حدود .
ويختتم الحق هذه الآية الكريمة بقوله : { فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } أي أنهم إذا انتهوا إلى عدم قتالكم ، فأنتم لن تعتدوا عليهم ، بل ستردون عدوان الظالم منهم . والظالم حين يعتدي يظن أنه لن يقدر عليه أحد ، والحق يطلب منا أن نقول له : بل نقدر عليك ، ونعتدي عليك بمثل ما اعتديت علينا . ويعطينا الحق حيثية ذلك فيقول : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ . . . }
(1/508)

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
والمقصود هو أنه إذا ما قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام ، فإذا ما اعتدوا على حرمة زمان فالقصاص يكون في زمان مثله ، وإن اعتدوا في حرمة مكان يكن القصاص بحرمة مكان مثله ، وإذا كان الاعتداء بحرمة إحرام ، يكون الرد بحرمة إحرام مثله؛ لأن القصاص هو أن تأخذ للمظلوم مثل ما فعل الظالم .
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يخفف وقع الأمر على المؤمنين الذين رُدوا عام الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة وأعادهم المشركون إلى المدينة ، فاقتص الله منهم بأن أعادهم في ذي القعدة في العام القابل في السنة السابعة من الهجرة ، فإن كانوا قد مُنعوا في الشهر الحرام فقد أراد الله أن يعودوا لزيارة البيت في الشهر الحرام في الزمان نفسه .
وقوله الحق : { والحرمات قِصَاصٌ } يقتضي منا أن نسأل : كيف يكون ذلك؟ وما هو الشيء الحرام؟ إن الشيء الحرام هو ما يُحظر هتكه ، والشيء الحلال هو المُطلق والمأذون فيه . فهل يعني ذلك أن الذي يقوم بعمل حرام نقتص منه بعمل مماثل؟
هل إذا زنى رجل بامرأة نقول له نقتص منك بالزنى فيك؟ لا . إن القصاص في الحرمات لا يكون إلا في المأذون به وكذلك إذا سرق مني إنسان مالاً وليس لدي بينة ، لكني مقتنع بأنه هو الذي سرق هل أقتص منه بأن أسرق منه؟ لا ، إن القصاص إنما يكون في الأمر المعروف الواضح ، أما الأمر المختفي فلا يمكن أن نقتص منه بمثل ما فعل .
لكن هب أن أحد الأقارب ممَّنْ تجب نفقتهم عليك وامتنعت أنت عن النفقة على هذا الإنسان ، وهذا أمر محرم عليك ، وما دام الأمر علنياً فله أن يأخذ من مالك فيأكل وتكون المسألة قصاصاً . وهب أن زوجتك تشتكي من بخلك وتقصيرك ، كما " اشتكت هند زوجة أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بخل زوجها فقال لها : خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك " .
ومثال آخر ، هب أن ضيفا بمنزلك ورفضت أن تكرمه ، وانتهز فرصة بعدك عن المكان الذي يجلس فيه ثم تناول شيئا وأكله . لا يكون تعديا عليك ما لم يكن داخلا في محرم آخر ، وبعد ذلك يترك الحق لولي الأمر تنظيم هذه الأمور حتى لا تصير المسائل إلى الفوضى .
وقوله الحق : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } يدعونا إلى اليقظة حتى لا يخدعنا أحد ويدعي الإيمان وهو يريد الانتقام . ويجب أن نتمثل قول الشاعر :
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة
ويختم الحق الآية الكريمة بقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي لا تظنوا أن الله ملّكَكُم فيهم شيئاً ، بل أنتم وهم مملوكون جميعاً لله . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا . . . }
(1/509)

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
وهذه الآية جاءت بعد آيات القتال ، ومعناها : أعدوا أنفسكم للقتال في سبيل الله .
وقوله الحق : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } تقتضي منا أن نعرف أن كلمة " تهلكة " على وزن تَفْعُله ولا نظير لها في اللغة العربية إلا هذا اللفظ ، لا يوجد على وزن تَفْعُله في اللغة العربية سوى كلمة " تهْلُكة " ، والتهلكة هي الهلاك ، والهلاك هو خروج الشيء عن حال إصلاحه بحيث لا يُدرى أين يذهب ، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج روحه . والحق يقول : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ]
فالهلاك ضد الحياة ، وعلى الإنسان أن يعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة التي نراها ، إنما حياة كل شيء بحساب معين فحياة الحيوان لها قانونها ، وحياة النبات لها قانونها ، وحياة الجماد لها قانونها ، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعل " يهلك " أمام " يحيى " وهو سبحانه القائل : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ]
فلسنا نحن فقط الذين يهلكون ، ولا الحيوانات ، ولا النباتات وإنما كل شيء بما فيه الجماد ، كأن الجماد يهلك مثلنا ، وما دام يهلك فله حياة ولكن ليست مثل حياتنا ، وإنما حياة بقانونه هو ، فكل شيء مخلوق لمهمة يؤديها ، فهذه هي حياته .
وقوله الحق : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } يكشف لنا بعضاً من روائع الأداء البياني في القرآن؛ ففي الجملة الواحدة تعطيك الشيء ومقابل الشيء ، وهذا أمر لا نجده في أساليب البشر؛ فالحق في هذه الآية يقول لنا : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } أي أنفقوا في الجهاد ، كما يقول بعدها : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } لماذا؟ لأن الإنفاق هو إخراج المال إلى الغير الذي يؤدي لك مهمة تفيد في الإعداد لسبيل الله ، كصناعة الأسلحة أو الإمدادات التموينية ، أو تجهيز مبانٍ وحصون ، هذه أوجه أنفاق المال . والحق يقول : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } . وكلمة " ألقى " تفيد أن هناك شيئا عالياً وشيئاً أسفل منه ، فكأن الله يقول : لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وهل سيلقي الواحد منا نفسه إلى التهلكة ، أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه؟ لا ، إن اليد المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه ، وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم ، وإذا فتنهم في دينهم فقد هلكوا . إذن فالاستعداد للحرب أنفى للحرب ، وعندما يراك العدو قوياً فهو يهابك ويتراجع عن قتالك .
والحق سبحانه كما يريد منا في تشريع القتال أن نقاتل يأمرنا أن نزن أمر القتال وزناً دقيقاً بحسم ، فلا تأخذنا الأريحية الاكذبة ولا الحمية الرعناء ، فيكون المعنى : ولا تقبلوا على القتال إلا إن كان غالب الظن أنكم ستنتصرون ، فحزم الإقدام قد يطلب منك أن تقيس الأمور بدقة ، فالشجاعة قد تقتضي منك أن تحجم وتمتنع عن القتال في بعض الأحيان ، لتنتصر من بعد ذلك ساعة يكمل الإعداد له .
(1/510)

والمعنى الأول يجعلك تنفق في سبيل الله ولا تلقي بيدك إلى التهلكة بترك القتال . والمعنى الثاني أي لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بأن تقبلوا على القتال بلا داع أو بلا إعداد كافٍ . إن الحق يريد من المؤمنين أن يزنوا المسائل وزناً يجعلهم لا يتركون الجهاد فيهلكوا؛ لأن خصمهم سيجترئ عليهم ، ولا يحببهم في أن يلقوا بأيديهم إلى القتال لمجرد الرغبة في القتال دون الاستعداد له . وهذا هو الحزم الإيماني ، إنها جملة واحدة أعطتنا عدة معان .
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } الحق يقول : { وأحسنوا } . والإحسان كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن تعبد الله أي تطيع أوامره كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
مشكلة الناس هذه الأيام أنهم يتشبهون ب " فإنه يراك " ، فعملوا الدوائر التليفزيونية المغلقة في المحلات الكبرى حتى تتم مراقبة سير العمل في أرجاء المحل ، هذه فعل البشر . لكن انظر إلى تسامي الإيمان ، إنه يأمرك أنت أن ترى الله ، فلا تؤد العمل أداء شكلياً يرفع عنك العتب ، بل عليك أن تؤدي العمل بقصد الإحسان في العمل .
والإحسان في كل شيء هو إتقانه إتقاناً بحيث يصنع الإنسان لغيره ما يحب أن يصنعه غيره له ، ولو تعامل الناس على هذا الأساس لامتازت كل الصناعات ، لكن إذا ساد الغش فأنت تغش غيرك ، وغيرك يغشك ، وبعد ذلك كلنا نجأر بالشكوى ، وعلينا إذن أن نحسن في كل شيء : مثلا نحسن في الإنفاق ، ولن نحسن في الإنفاق إلا إذا أحسنا في الكدح الذي يأتي بثمرة ما ننفق؛ لأن الكدح ثمرته مال ، ولا إنفاق إلا بمال ، فتخرج من عائد كدحك لتصرفه في المناسب من الأمور .
ودائرة الإحسان لا تقتصر على القتال فقط ، فالأمر هنا عام ، ولا تعتقد أنه أمر في زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم جزئية من جزئيات الحياة ، إنما كل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل جزئيات الحياة ، فالإحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن الإنسان الحركة في الأرض ، ويعمل عملاً يكفيه ويكفي من يعول ، ثم يفيض لديه ما يحسن به .
إذا لم يتوافر المال ، فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك ، والجاه قد قومه الإسلام أي جعل له قيمة ، فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم ، وعلى الوجيه أيضا أن يأخذ الضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي ، وعليه بجاهه أن يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها .
(1/511)

والوجاهة تعني أن يكون للإنسان احترام أو وزن أو تقدير ، وهذه الأشياء لها مسبقات في إحسان الشخص ، لا يأخذها بلا سبب ، إنما سبقها عمل جعل له وجاهة عند الناس . فالناس في العادة لا يحترمون إلا من يكون له لون من الفضل عليهم ، فكأنه احترام مدفوع الثمن ، وليس احتراماً مجانيّاً . وقد يكون الإحسان بالعلم . أو بفضل القوة ، بإعانة الضعيف . أو بإكساب الخبرة للآخرين . أو بتفريج كربة عن مسلم .
إذن وجوه الإحسان في الأشياء كثيرة ، وكلها تخدم قضية الإيمان . وعندما يرى الكافر المؤمنين وكل واحد منهم يحسن عمله فإن ذلك يغريه بالإيمان . وإذا سألنا : ما الذي زهد دنيانا المعاصرة في ديننا؟ فسوف نجد أن العالم ينظر إلى دين الله من خلال حركة المسلمين ، وهي حركة غير إسلامية في غالبيتها . صحيح أن بعضاً من عقلاء الغرب وفلاسفته لا يأخذون الدين من حركة المسلمين ، وهذا منتهى العدالة منهم لأنه ربما كان بعض المسلمين غير ملتزمين بدينه ، فلا يأخذ أحد الإسلام منه لمجرد أنه مسلم .
وأتباع الديانات الأخرى يعرفون أن هناك أفعالاً جرمها دينهم . وما دام هناك أفعال جرمها الدين وسن لها عقوبة فذلك دليل على أنها قد تقع ، فأنت عندما ترى شخصاً ينتسب إلى الإسلام ويسرق ، هل تقول : إن المسلمين لصوص . لا ، إن عليك أن تنظر إلى تشريعات الإسلام هل جرمت السارق أو لم تجرمه؟ فلا يقولن أحد : انظر إلى حال المسلمين ، ولكن لننظر إلى قوانين الإسلام ، لأن الله قدر على البشر أن يقوموا بالأفعال حسنها وسيئها ، ولذلك أثاب على العمل الصالح وعاقب على العمل السييء .
والعقلاء والمفكرون يأخذون الدين من مبادئ الدين نفسه ، ولا يأخذونه من سلوك الناس ، فقد يجوز أن تقع عين المراقب على مُخالف في مسألة يحرمها الدين . فلا تأخذ الفعل الخاطئ على أنه الإسلام ، وإنما خذه على أنه خارج على الإسلام .
وساعة يرانا العالم محسنين في كل شيء فنحن نعطيهم الأسوة التي كان عليها أجدادنا ، وجعلت الإسلام يمتد ذلك المد الخرافي الأسطوري حتى وصل في نصف قرن إلى آخر الدنيا في الشرق ، وإلى آخرها في الغرب ، وبعد ذلك ينحسر سياسياً عن الأرض ، ولكن يظل كدين ، وبقى من الإسلام هذا النظام الذي يجذب له الناس . إن الإسلام له مناعة في خميرته الذاتية إنه يحمل مقومات بقائه وصلاحيته ، وهو الذي يجذب غير المسلمين له فيؤمنون به ، وليس المسلمون هم الذين يجذبون الناس للإسلام .
ولذلك أقول : لو أن التمثيل السياسي للأمم الإسلامية في البلاد غير الإسلامية المتحضرة قد أخذ بمبادئ الإسلام لكان أسوة حسنة . وانظر إلى عاصمة واحدة من عواصم الدول الغربية تجد فيها أكثر من ثلاث وستين سفارة إسلامية ، وكل سفارة يعمل فيها جهاز يزيد على العشرين ، هب أن هؤلاء كانوا أسوة إسلامية في السلوك والمعاملات في عاصمة غير إسلامية ، حينئذ يجد أهل ذلك البلد جالية إسلامية ملتزمة ولم تفتنها زخارف المدنية : لا يشربون الخمر ، ولا يرقصون ، ولا يترددون على الأماكن السيئة السمعة ، ولا تتبرج نساؤهم ، بالله ألا يلفت النظر سلوكُ هؤلاء؟
لكن ما يحدث للأسف هو أن أهل الغرب على باطلهم غلبوا بني الإسلام على حقهم وأخذوهم إلى تحللهم ، وهذا الاتباع الأعمى يجعل الغربيين يقولون : لو كان في الإسلام مناعة لحفظ أبناءه من الوقوع فيما وقعنا فيه .
(1/512)

إذن الإحسان من المسلمين أكبر دعاية ودعوة إلى دين الإسلام . إن الحق يقول : { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } والحب كما نعرفه هو ميل قلب المحب إلى المحبوب ، وذلك الأمر يكون بالنسبة للبشر ، لكن بالنسبة للحق هو تودد الخالق بالرحمة والكرامة على المخلوق ، والحق سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يكونوا على خُلقه ، فكما أن الله أحسن كل شيء خلقه { الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } يريد من عباده وقد تفضل عليهم بالعقل المفكر فيخطط ، وبالطاقات فتبرز التفكير إلى عمل يريد الحق منا أن يكون رائدنا في كل عمل أن نحسنه ، حتى نكون متخلقين بأخلاق الله ، فتشيع كلمة " الله " هذا اللفظ الكريم الذي يستقبل به الإنسان كل جميل في أي صنعة فيقول : " الله " .
إذن تشيع كلمة " الله " نغمة في الوجود تعليقاً على كل شيء حسن ، حتى الذي لا يؤمن بذلك الإله يقول أيضاً : " الله " ، كأن الفطرة التي فطر الله الناس عليها تنطق بأن كل حسن يجب أن يُنسب إلى الله سواء كان الله هو الذي فعل مباشرة كالأسباب والكونيات والنواميس ، أو خلق الذي فعل الحسن ، فكل الأمور تؤول إلى الله .
ولو علم الذين لا يحسنون أعمالهم بماذا يحرمون الوجود لتحسروا على أنفسهم ، وليتهم يحرمون الوجود من كلمة " الله " ، ولكنهم يجعلون مكان " الله " كلمة خبيثة فيشيعون القبح في الوجود ، وحين يشيع القبح في الوجود يكون الإنسان في عمومه هو الخاسر .
فقول الله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } تشجيع لكل من يلي عملاً أن يحسنه ليكون على أخلاق الله . وبعد ذلك يقول الحق : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ . . . }
(1/513)

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
والنسق القرآني نسق عجيب ، فأنتم تذكرون أنه تكلم عن الصيام . ورمضان يأتي قبل أشهر الحج ، فكان طبيعياً أن يتكلم عن الحج بعد أن تكلم عن رمضان وعن الأهلة وعن جعل الأهلة مواقيت للناس والحج كما أن هناك شيئاً آخر يستدعي أن يتكلم في الحج وهو الكلام عن القتال في الأشهر الحرم ، وعن البيت الحرام فقد قال سبحانه : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } [ البقرة : 191 ]
إذن فالكلام عن الحج يأتي في سياقه الطبيعي . وحين يقول الله : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } نفهم منه أن الأمر بإتمام الشيء لا يكون إلا إذا جاء الأمر بفرض هذا الفعل ، فكأنك بدأت في العمل بعد التشريع به ، ويريد منك سبحانه ألاّ تحج فقط ، ولكن يريد منك أن تتمه وتجعله تامّاً مستوفياً لكل مطلوبات المشرع له .
وساعة يقول الحق : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة } لقائل أن يقول : إن الحج شيء والعمرة شيء آخر ، بدليل عطفها عليه ، والعطف يقتضي المغايرة كما يقتضي المشاركة ، فإن وجدت مشاركة ولم توجد مغايرة فلا يصح العطف ، بل لابد أن يوجد مشاركة ومغايرة . والمشاركة بين الحج والعمرة أن كليهما نسك وعباده ، وأما المغايرة فهي أن للحج زمناً مخصوصاً ويشترط فيه الوقوف بعرفة ، وأما العمرة فلا زمن لها ولا وقفة فيها بعرفة .
ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في مشروعية الحج : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ]
ولم يأت في تلك الآية بذكر العمرة ، ومنها نعرف أن الحج شيء والعمرة شيء آخر ، والمفروض علينا هو الحج . ولذلك أقول دائما لابد لنا أن نأخذ القرآن جملة واحدة ، ونأتي بكل الآيات التي تتعلق بالموضوع لنفهم المقصود تماماً ، فحين يقول الحق في قرآنه أيضا : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } نعرف من ذلك أن العمرة غير الحج ، وحين تقرأ قول الله في سورة براءة : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ]
نعرف أن هناك حجِّا أكبر ، وحجِّا ثانيا كبيراً . ولذلك فآية { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } جاءت بالبيت المحرم ، وهو القدر المشترك في الحج والعمرة . ونعرف أن الحج الأكبر هو الحج الذي يقف فيه المسلم بعرفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " الحج عرفة " . وهو الحج الأكبر؛ لأن الحشد على عرفة يكون كبيراً ، وهو يأتي في زمن مخصوص ويُشترط فيه الوقوف بعرفة .
إذن قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } الحج هو القصد إلى مُعظّم وهو { حِجُّ البيت } ، أما العمرة فهي الحج الكبير وزمانها شائع في كل السنة ، والقاصدون للبيت يتوزعون على العام كله . وذلك قد ثبت بالتشريع بقوله سبحانه : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } .
(1/514)

وما دام جاء بالأمر المشترك في قوله : حج البيت فهو يريد الحج الأكبر والحج الكبير .
والحق سبحانه وتعالى يخاطب عباده ويعلم أن بعض الناس سيقبلون على العبادات إقبالاً شكلياً ، وقد يقبلون على العبادة لأغراض أخرى غير العبادة ، فكان لابد أن يبين القصد من الحج والعمرة ، وأن المطلوب هو إتمامهما ، ولابد أن يكون القصد لله لا لشيء آخر ، لا ليقال " الحاج فلان " ، أو ليشتري سلعاً رخيصة ويبيعها بأغلى من ثمنها بعد عودته .
ونحن نعلم أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يستمر اقترانها بفاعلها ، فمثلاً لا يقال : " المصلى فلان " ولا " المزكي فلان " ، فإن كان الحاج حريصاً على هذا اللقب ، وهو دافعه من وراء عبادته فلا بد ألا يخرج بعبادته عن غرضها المشروعة من أجله ، إن الحق يقول : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } . وكلمة " لله " تخدمنا في قضايا متعددة ، فما هي هذه القضايا؟
إن المسلم عندما يريد أن يحج لله فلا يصح أن يحج إلا بمال شرع الله وسائله . كثير من الناس حين يسمعون الحديث الشريف : " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " .
يعتقدون أن الإنسان له أن يرتكب ما يشاء من معاص ومظالم ، ثم يظن أن حجة واحدة تُسقط عنه كل ذنوبه ، نقول لهؤلاء : أولاً : لابد أن تكون الحجة لله
وثانيا : أن تكون من مال حلال ، وما دامت لله ومن مال حلال فلا بد أن تعرف ما هي الذنوب التي تسقط عنه بعد الحج ، فليست كل الذنوب تسقط ، وإنما الذنوب المتعلقة بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الذنب المتعلق بالله أنت لم تظلم الله به لكن ظلمت نفسك ، ولكن الذنب المتعلق بالبشر فيه إساءة لهم أو انتقاص من حقوقهم ، وبالتالي فإن ظلم العباد لا يسقط إلا برد حقوق العباد .
ونعرف أن العمرة هي قصد البيت الحرام في مطلق زمان من العام ، والحج قصد البيت في خصوص زمان من العام ، ويقول بعض العلماء : إن هذا تكليف وذاك تكليف ، فهل يجوز أداؤهما معاً ، أم كل تكليف يؤدى بمعزل عن الآخر؟
وبعضهم تناول ملحظيات الفضل والحسن ، فالذي يقول : إن الإفراد بالحج أحسن ، فذلك لأنه خص كل نُسك بسفرة ، والذي يقول : يؤديهما معاً ويحرم بالحج والعمرة معاً بإحرام واحد ، فيذهب أولاً ويأتي بنسك العمرة ، ثم يظل على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحج ، وفي هذه الحالة يكون قد قرن الأمرين معا؛ أي أداهما بإحرام واحد وهذا ما يفضله بعض من العلماء؛ لأن الله علم أن العبد قد أدى نسكين بإحرام واحد ، وهناك إنسان متمتع أي يؤدي العمرة ، ثم يتحلل منها ، وبعد ذلك يأتي قبل الحج ليحرم بالحج ، وهذا اسمه التمتع ، وهو متمتع لأنه تحلل من الإحرام ، ومن العلماء من يقول : إن التمتع أحسن لأنه فصل بين أمرين بما أخرجه عن العادة ، أحرم ثم تحلل ثم أحرم .
(1/515)

إذن كل عالم له ملحظ ، فكأن الله لا يريد أن يضيق على خلقه في أداء نُسك على أي لون من الألوان . وقد احتاط المشرع سبحانه وتعالى عند التكليف ، واحترم كل الظروف سواء كانت الظروف التي قد تقع من غير غريم وهو القدريات ، أو تقع من غريم ، وهي التي لها أسباب أخرى فقال : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } .
وأحصرتم تعني مُنعْتُم . وهناك " حصر " وهي للقدريات ، وهناك " أحصر " وتكون بفعل فاعل مثل تدخل العدو كما حوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية ، وقيل له لا تدخل مكة هذا العام ، لذلك فالحق سبحانه وتعالى يخفف عنا وكأنه يقول لنا : أنا لا أهدر تهيؤ العباد ، ولا نيتهم ولا استعدادهم ولا إحرامهم؛ فإن أُحصِروا { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } والهدى هو ما يتم ذبحه تقربا إلى الله ، وكفارة عما حَدث .
ثم يقول بعد ذلك : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } أي إلى أن يبلغ المكان المخصص لذلك ، هذا إن كنت سائق الهدى ، أما إن لم تكن سائق الهدى فليس ضروريا أن تذبحه ، ويكفي أن تكلف أحداً يذبحه لك ، وقوله الحق : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي } تعني أنه يصح أن يذبح الإنسان الهدي قبل عرفة ، ويصح أن نؤخره ليوم النحر ، ويصح أن يذبحه بعد ذلك كله .
{ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } تعني أيضا إن كان الحصول على الهدى سهلاً ، سواء لسهولة دفع ثمنه ، أو لسهولة شرائه ، فقد توجد الأثمان ولا يوجد المُثمَّن . " والهدي " هو ما يُهدى للحرم ، أو ما يهدي الإنسان إلى طريق الرشاد ، والمعنى مأخوذ من الهُدى ، وهو الغاية الموصلة للمطلوب .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } فالمريض الذي لا يستطيع أن يذبح الهدي وعنده أذى من رأسه " كالصحابي الذي كان في رأسه قمل ، وكان يسبب له ألماً ، فقال له رسول الله : " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة " .
إنها تشريعات متعاقبة وكل تشريع له مناسبة ، فكما شرع لمن أحصر ما استيسر من الهدى ، كذلك شرع لمن حلق رأسه لمرض أن كان به أذى من رأسه ، شرع له ثلاثة أشياء : صيام أو صدقة أو نسك .
والمتأمل لهذه الأشياء الثلاثة يجد أنها مرتبة ترتيبا تصاعدياً . فالصيام هو أمر لا يتعدى النفع المباشر فيه إلى الغير ، والصدقة عبادة يتعدى النفع فيها للغير ، ولكن بقدر محدود لأنها إطعام ستة أفراد مثلاً ، والنسك هو ذبيحة ، ولحمها ينتفع به جمع كبير من الناس .
(1/516)

فانظر إلى الترقي في النفع ، إما صوم ثلاثة أيام ، وإما إطعام ستة مساكين ، وإما ذبح ذبيحة أي شاة . إن هذا تصعيد من الأضعف للأقوى كل بحسب طاقته ومقدرته .
والحق سبحانه وتعالى ساعة يشرع كفارات معينة فذلك من أجل مراعاة العمليات المطلوبة في الحج ، والمناسبة لظروف وحالة المسلم ، فأباح له في حالة التمتع مثلا أن يقسم الصوم إلى مرحلتين : ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم . إنه الترقي في التشريعات ، واختيار للأيسر الذي يجعل المؤمن يخرج من المأزق الذي هو فيه .
{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } .
وكلمة { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } معناها أنه لا يملك ، وهذا الذي لا يملك نقول له : لا تفعل كما يفعل كثير من الناس قبل أن يطوفوا ، إن بعضهم يذهب للسوق ويشتري الهدايا ، وبعد ذلك ساعة وجوب الهدي عليه يقول : ليس معي ولذلك سأصوم . هنا نقول له : ألم يكن ثمن تلك الهدايا يصلح لشراء الهدي؟
إنه لأمر غريب أن تجد الحاج يشتري هدايا لا حصر لها؛ ساعات وأجهزة كهربائية ويملأ حقائبه ، ثم يقول لا أجد ما أشتري به الهدي . أليس ذلك غشاً وخداعاً؟ إن من يفعل ذلك يغش نفسه .
إذن قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } يعني لا يجد حقاً ، لا من تنفذ أمواله في الهدايا ، ثم يصبح صفر اليدين ، ولذلك فالذين يحسنون أداء النسك لا يشترون هداياهم إلا بعد تمام أداء المطلوب في النسك ، وإن بقي معهم مال اشتروا على قدر ما معهم .
والذين ينفقون أموالهم في شراء الهدايا ثم يأتون عند { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } ويقولون ليس معنا ثمن الهدى وسنصوم ، الغريب أنهم لا يتذكرون الصوم إلا عند عودتهم ، ألم يكن الأفضل للواحد منهم أن يصوم من البداية ، ومن لحظة أن يعرف أنه لا يملك ثمن الهدى ويدخل في الإحرام للعمرة؟
إن المفروض أن يبدأ في صوم الثلاثة أيام حتى يكون عذره مسبقاً وليس لاحقاً وبعض العلماء أباح صوم أيام التشريق ، وأيام التشريق الثلاثة هي التي تلي يوم العيد لأنهم كانوا " يشرقون اللحم " أي يبسطونه في الشمس ليحف ويقدد . وبعد ذلك عندما ينتهي من أداء المناسك إما أن يصوم السبعة الأيام في الطريق وهو عائد ، أو عندما يصل لمنزله ، إن له أن يختار ما يناسبه { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } ومعروف أن { ثَلاثَةِ } و { وَسَبْعَةٍ } تساوي { عَشَرَةٌ } ، وذلك حتى لا يظن الناس أن المقصود إما صوم ثلاثة أيام وإما سبعة أيام ، ولذلك قال : { عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } حتى لا يلتبس الفهم .
(1/517)

وربما أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أن الصائم سيصوم عشرة أيام فهي كاملة بالنسبة لأداء النسك . وليس الذابح بأفضل من الصائم ، فما دام لم يجد ثمن الهدى وصام العشرة الأيام ، فله الأجر والثواب كمن وجد وذبح . فإياك أن تظن أن الصيام قد يُنقص الأجر أو هو أقل من الذبح .
ويقول الحق : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } . وهذا التشريع مقصود به من لم يكن أهله مقيمين بمكة . ونعرف أن حدود المسجد الحرام هي اثنا عشر ميلا ، والمقيم داخل هذه المسافة لا يلزمه ذبح ولا صوم ، لماذا؟ بعض العلماء قال : لأن المقيمين حول المسجد الحرام طوافهم دائم فيغنيهم عن العمرة ، فإن حج لا يدخل في هذا التشريع .
ويختم الحق هذه الآية بقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } . كيف يقول الحق : إنه شديد العقاب في التيسيرات التي شرعها؟ أي : إياكم أن تغشوا في هذه التيسيرات ، فليس من المعقول أو من المقبول أن ندلس شيئاً فيها ، لذلك حذرنا سبحانه من الغش في هذه المناسك بقوله : { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
ويقول الحق بعد ذلك : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج . . . }
(1/518)

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
ولنا أن نلحظ أن الحق قال في الصوم : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } ولم يذكر شهور الحج : شوالاً وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر رمضان ، لأن التشريع في رمضان خاص به فلا بد أن يعين زمنه ، لكن الحج كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام ، ويعلمون شهوره وكل شيء عنه؛ فالأمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به ، والشهور المعلومة هي : شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى ، وشهر الحج لا يستغرق منه سوى عشرة أيام ، ومع ذلك ضمه لشوال وذي القعدة ، لأن بعض الشهر يدخل في الشهر .
وكلمة { مَّعْلُومَاتٌ } تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج ، لأنها كانت معلومة عندهم .
{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } والفرق ليس من الإنسان إنما الفرض من الله الذي فرض الحج ركناً ، وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلاً ، وشرعت ونويت الحج في الزمن المخصوص للحج تكون قد فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم لك . وقوله سبحانه : " فرض " يدل على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوباً . أي غير مفروض .
{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } . والرفث للسان ، وللعين . وللجوارح الأخرى رفث ، كلها تلتقي في عملية الجماع ومقدماته ، ورفث اللسان في الحج أن يذكر مسألة الجماع ، ورفث العين أن ينظر إلى المرأة بشهوة . فالرفث هو كل ما يأتي مقدمة للجماع ، أو هو الجماع أو ما يتصل به بالكلمة أو بالنظرة ، أو بالفعل .
والرفث وإن أُبيح في غير الحج فهو محرم في الحج ، أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي غير الحج ، فكأن الله ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج ، فليس من الأدب أن يكون المسلم في بيت الله ويحدث ذلك الفسوق منه ، إنّ الفسوق محرم في كل وقت ، والحق ينبه هنا المسرف على نفسه ، وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيداً عن بيت الله فليستح أن يعصي الله في بيت الله؛ فالذاهب إلى بيت الله يبغي تكفير الذنوب عن نفسه ، فهل يُعقل أن يرتكب فيه ذنوباً؟ لابد أن تستحي أيها المسلم وأنت في بيت الله ، واعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي يُحاسب فيه على مجرد الإرادة .
ويقول الله عز وجل : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ]
إذن الرفث حلال في مواضع ، لكنه يَحْرُمُ في البيت الحرام ، ولكن الفسوق ممتنع في كل وقت ، وامتناعه أشد في البيت الحرام .
والجدال وإن كان مباحا في غير الحج فلا يصح أن يوجد في الحج .
(1/519)

ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق ، ودون مرتبة العصيان ، والرسول قال : " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " لم يقل : " ولم يجادل " إن بشرية الرسول تراعي ظروف المسلمين ، فمن المحتمل أن يصدر جدال من الحاج نتيجة فعل استثاره ، فكأن عدم ذكر الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن لا يصح أن نتمادى فيها . والجدال ممكن في غير الحج بدليل : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ]
إنما الحج لا جدال فيه .
والجدال هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الآخر ليطوقه بالحجة . ثم انظر إلى تقدير الحق لظروف البشر وعواطف البشر والاعتراف بها والتقنين لأمر واقع معترف به ، فالحج يُخرج الإنسانَ من وطنه ومن مكان أهله ، ومن ماله ، ومما أَلِفَ واعتاد من حياة . وحين يخرج الإنسان هذا الخروج فقد تضيق أخلاق الناس؛ لأنهم جميعاً يعيشون عيشة غير طبيعية؛ فهناك من ينام في غرفة مشتركة مع ناس لا يعرفهم ، وهناك أسرة تنام في شقة مشتركة ليس فيها إلا دورة مياه واحدة ، ومن الجائز أن يرغب أحد في قضاء حاجته في وقت قضاء حاجة شخص آخر ، وحين تكون هذه المسألة موجودة لا رأي لإنسان ، ولذلك يقال : " لا رأي لحاقن " أي لا رأي لمحصور . . أي لمن يريد قضاء حاجته من بول ، وكذلك الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لأنها مسألة تُخِل توازن الإنسان .
إذن فالحياة في الحج غير طبيعية ، وظروف الناس غير طبيعية ، لذلك يحذرنا الحق من الدخول في جدل؛ لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سبباً في إساءة معاملة الآخرين ، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين . وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جداً ، وإما أعداء ألداء .
ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج ، وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله ، وليشتغل بأنس الله ، وليتحمل في جانبه كل شيء ، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } . فبعد أن نهانا الحق بقوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } وتلك أمور سلبية وهي أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها ، وهنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر بالأفعال الإيجابية ، أفعال الخير التي يعلمها الله .
إن الله يريد أن نجمع في العبادة بين أمرين ، سلب وإيجاب ، سلب ما قال عن الرفث والفسوق والجدال ، ويريد أن نوجب ونوجد فعلا . { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } .
(1/520)

وما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهي عنها ، فإذا كان الإنسان لا يرفث في الحج فمطلوب منه أن يعف في كلامه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علاقته بامرأته الحلال له ، فيمتنع عنها ما دام محرماً ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق ، من بر وخير .
وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس ، هذا هو المقصود بقوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } . وكلمة من قوله { مِنْ خَيْرٍ } للابتداء ، كأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيراً وهو سبحانه يرى أقل شيء من الخير؛ ولذلك قال : { يَعْلَمْهُ الله } . فكأنه خير لا يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل الناس؛ والتعبير { يَعْلَمْهُ الله } أي الخير مهما صغر ، ومهما قل فإن الله يعلمه ، وكثير من الخيرات تكون هواجس بالنية ، ويجازي الله على الخير بالجزاء الذي يناسبه .
وقول الحق : { وَتَزَوَّدُواْ } والزاد : هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره ، وكان هذا أمراً مألوفا عند العرب قديماً؛ لأن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام . وكل هذه الظروف تغيرت الآن ، وكذلك تغيرت عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك . كانت الناس قديماً تذهب إلى الحج ومعها أكفانها ، ومعها ملح طعامها ، ومعها الخيط والإبرة ، فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي الناس ، وأصبح الناس يذهبون الآن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة ، وأصبحت لا تجد غرابة في أن فلانا جاء من الحج ومعه كذا وكذا . كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه أخبر قديما يوم كان الوادي غير ذي زرع فقال : { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ . . } [ القصص : 57 ]
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله : { يجبى } ومعناها يؤخذ بالقوة وليس باختيار من يذهب به ، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها ، وهو رزق من عند الله ، وليس من يد الناس .
وهذا تصديق لقوله تعالى : { وارزقهم مِّنَ الثمرات . . . } [ إبراهيم : 37 ]
وقوله الحق : { وَتَزَوَّدُواْ } مأخوذة كما عرفنا من الزيادة ، والزاد هو طعام المسافر ، ومن يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته ، ويأخذه حتى يكفيه مئونة السؤال أو الاستشراف إلى السؤال؛ لأن الحج ذلة عبودية ، وذلة العبودية يريدها الله له وحده . فمن لا يكون عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر ، ويطلب منه أن يعطيه طعاماً ، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد ، ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفي نفسه ، وتظل ذلته سليمة لربه ، فلا يسأل غير ربه ، ولا يستشرف للسؤال من الخلق ، ومَنْ يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئاً من ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه المرحلة لله وهو يوجهها للناس ، والله يريدها له خالصة .
(1/521)

وإن لم يعط الناس السائل والمستشرق للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته ، وتتحول رحلته من قصد البر إلى الشر . وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون : " نحن متوكلون ، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا؟ " . ثم تضطرهم الظروف لأن يسرقوا ، وهذا سبب وجود النهب والسرقة في الحج . إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن ينهب ويسرق ليسد حاجته .
ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال : { وَتَزَوَّدُواْ } إنه أمر من الله بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها الإنسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه ، ويقول سبحانه : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } ونعرف أن الزاد هو ما تَقي به نفسك من الجوع والعطش ، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية ، فما بالك بالحياة الأبدية التي لا فناء فيها ، ألا تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية .
إذن فقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } يشمل زاد الدنيا والآخرة . والله سبحانه وتعالى يذكرنا بالأمور المُحَسّة وينقلنا منها إلى الأمور المعنوية ، ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية . ولذلك نلاحظ في قوله سبحانه وتعالى : { يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } [ الأعراف : 26 ]
هذا أمر حسي . ويفيدنا ويزيدنا سبحانه " ريشاً " إنه سبحانه لا يواري السوءة فقط ، وإنما زاد الأمر إلى الكماليات التي يتزين بها ، وهذه الكماليات هي الريش ، أي ما يتزين به الإنسان ، ثم قال الحق : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ]
أي أنعمت عليكم باللباس والريش ، ولكن هناك ما هو خير منهما وهو { لِبَاسُ التقوى } . فإن كنت تعتقد في اللباس الحسي أنه سَترَ عورتك ووقاك حراً وبرداً وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر حسي ، ولكن الأمر الأفضل هو لباس التقوى ، لماذا؟ لأن مفضوح الآخرة شر من مفضوح الدنيا . إذن فقوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب } . يعني أن الحق يريد منك أن تتزود للرحلة زاداً يمنعك عن السؤال والاستشراف أو النهب أو الغصب ، وأحذر أن يدخل فيه شيء مما حرم الله ، ولكن تزودك في دائرة : { واتقون ياأولي الألباب } أي يا أصحاب العقول ، ولا ينبه الله الناس إلى ما فيهم من عقل إلا وهو يريد منهم أن يُحَكِّمُوا عقولهم في القضية ، لأنه جل شأنه يريد منك أن تُحَكِّمَ عقلك ، فإن حَكَّمْتَ عقلك في القضية فسيكون حُكْمُ العقل في صف أمر الله .
ولما كان الله سبحانه بسعة لطفه ورحمته يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة المباركة أن يتعاون الناس ، أذِنَ لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الآخرين تيسيراً لهم . ومن العجيب أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يُرخصُ الله لهم في الحج أن ينفروا قبل غيرهم؟ لأن تلك مصلحة ضرورية . فهب أن الناس جميعاً امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضاً فمن الذي يقوم بمصالح الناس؟ إذن لابد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج ، والله سبحانه وتعالى بين ذلك ووضحه بقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله . . . }
(1/522)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي لا إثم عليكم ولا حرج { أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } أي أن تتكسبوا في الحج وهو نسك عبادي ، والمكسب الذي يأتي فيه هو فضل من الله . وقديماً كانوا يقولون : فيه " حاج " ، وفيه " داجّ " ، واحدة بالحاء وواحدة بالدال ، " فالداجّ " هو الذي يذهب إلى الأراضي المقدسة للتجارة فقط ، ونقول له : لا مانع أن تذهب لتحج وتتاجر؛ لأنك ستيسر أمراً؛ لأننا إن منعناه فمن الذي يقوم بأمر الحجيج؟
ولماذا قال الحق : { تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } ولم يقل رزقاً؟ . لقد أوضح الحق في الآية التي قبلها : ألاّ تذهبوا إلاّ ومعكم زادكم . إذن أنت لا تريد زاداً بعملك هذا ، أي لا تذهب إلى الحج لتأكل من التجارة ، إنما تذهب ومعك زادك وما تأتي به هو زائد عن حاجتك ويكون فضلاً من الله سبحانه وتعالى ، وهو جل شأنه يريد منك ألاّ يكون في عملك المباح حرجٌ؛ فنفى الجناح عنه؛ فأنت قد جئت ومعك الأكل والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول ، فلا يكون فيه شائبة ظلم كالاستغلال لحاجة الحجيج ، لذلك أسماه " فضلاً " يعني أمراً زائداً عن الحاجة .
وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل لا يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل ، فكله من عند الله . إياك أن تقول : قوة أسباب ، وإياك أن تقول : ذكاء أو احتياط ، فلا شيء من ذلك كله؛ لأن الرزق كله من الله هو فضل من الله . ولا ضرر عليك أن تبتغي الفضل من الرب؛ لأنه هو الخالق وهو المربي . ونحن مربوبون له ، فلا غضاضة أن تطلب الفضل من الله .
ثم يقول الحق بعد ذلك : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } . وأنت حين تملأ كأسا عن آخرها فهي تفيض بالزائد على جوانبها ، إذن فالفائض معناه شيء افترق عن الموجود للزيادة .
قوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } تدل على أن الله قد حكم بأن عرفات ستمتلئ امتلاء ، وكل من يخرج منها كأنه فائض عن العدد المحدد لها . وهذا حكم من الله في الحج . وأنت إذا ما شهدت المشهد كتبه الله للمسلمين جميعاً . إن شاء الله سترى هذه المسألة ، فكأن إناءً قد امتلأ ، وذلك يفيض منه . ولا تدري من أين يأتي الحجيج ولا إلى أين يذهبون . ومن ينظر من يطوفون بالبيت يظن أنهم كتل بشرية ، وكذلك إذا فاض الحجيج في مساء يوم عرفة يخيل إليك عندما تنظر إليهم أنه لا فارق بينهم؛ ولذلك يقال : سالت عليه شعاب الحي كأنها سيل .
وقال الشاعر :
فسالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أصحابه بوجوه كالدنانير
وقال آخر :
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
أي كأنه سيل متدفق ، هكذا تماما تكون الإفاضة من عرفات . وعندما تتأمل الناس المتوجهين إلى " مزدلفة " تتعجب أين كان كل هذا الجمع؟ ترى الوديان يسير فيها الناس والمركبات كأنهم السيل ولا تستطيع أن تفرق شخصاً من مجموعة ، وفي موقف الحجيج إفاضتان : إفاضة من عرفات ، ثم إفاضة ثانية بينتها الآية التي بعدها يقول سبحانه : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(1/523)

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
وعرفات ننطقها بمنطوقين : مرة نقول " عرفات " كما وردت في هذه الآية ، ومرة ننطقها " عرفة " كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " . وعرفات جمع ، وعرفة مفرد .
هذه الكلمة أصبحت علماً على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي الحجة ، ولا تظن أنها جبل ، فإذا سمعت : " جبل عرفات " كما يقول الناس فافهم أن المقصود هو الجبل المنسوب إلى عرفات . وليس عرفات في ذاتها ، ولذلك تجد أناساً كثيرين يظنون أنهم إن لم يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات التي وقف عليها رسول الله في حجة الوداع فكأن الإنسان منهم لم يحج . نقول لهم : لا . الوقوف يكون في الوادي ، والجبل المجاور للوادي أسميناه جبل عرفات ، فالجبل هو المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل .
وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة . وهناك فرق بين الاسم يكون وصفا ثم يصير اسماً . وبين أن يكون عَلَماً من أول الأمر . وقلنا : إنه إذا سميت العَلَم من أول الأمر فلا ضرورة أن يكون فيه معنى اللفظ؛ فقد تسمى واحداً شقياً ب " سعيد " ، وتُسمى زنجية ب " قمر " ، وهذا لا يُسمى " وصفا " وإنما يُسمى عَلََماً إلا أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالأصل ، فيقال : أُسَمِّي ابني " سعيداً " تفاؤلا بأن يكون " سعيداً " ، وعندما تكون بنتاً فقد تعطيها اسماً مخالفاً لحالها ، فقد تكون دميمة وتسميها " جميلة " تفاؤلاً بالاسم . هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل . والعرب عندما كانوا يسمون الأسماء كانوا يتفاءلون بها . مثلاً كانوا يسمون " صخراً " ليتفاءلوا به أمام الأعداء . ويسمون " كلباً " حتى لا يجرؤ عليه أحد .
وقيل لعربي : إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون " سعيداً " و " سعداً " و " فضلاً " وتسيئون أسماء أبنائكم؛ تسمونهم : " مُرة " ، " كلباً " ، " صخراً " قال العربي : نعم؛ لأننا نسمي أبناءنا لأعدائنا ليكونوا في نحورهم ، ونسمي عبيدنا لنا . وكلمة " عرفة " هي الآن علم على مكان ، لكن سبب تسميتها فيه خلاف : قيل : لأن آدم هبط في مكان وحواء هبطت في مكان ، وظل كلاهما يبحث عن الآخر حتى تلاقيا في هذا المكان ، فسُمي " عرفة " .
والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كلا منهما يبحث عن الآخر ، إذا كان الله عز وجل خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما؟ . لك أن تتصور حال آدم وهو مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده ، وينظر حوله فلا يجد بشراً مثله ، بالله ألا يشتاق لإنسان يؤنس وحدته؟ .
(1/524)

وماذا يكون حاله عندما يرى إنساناً؟ . لاشك أنه سيقابله باشتياق شديد . من أجل هذا فرق الله بينهما وجعل كلاًّ منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته ، ولو ظل كل منهما بجوار الآخر فربما كان الأمر عادياً . وهكذا أراد الله لكل من آدم وحواء أن يشتاق كل منهما للآخر ، فأبعدهما عن بعضهما ثم تلاقيا بعد طول بعاد ، فكان الشوق للقاء . وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة والألفة والسكن ، وهو مطلوب الحياة لزوجين . وهناك قول آخر بخصوص تسمية عرفات : إن سيدنا آدم قالت له الملائكة وهو في ذلك المكان : اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ]
فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب . أو حينما أراد الله أن يُعَلِّم إبراهيم عليه السلام ، وهو الذي دعا ربَّه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا المكان . إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه . وتلك مسألة شاقة من ثلاثة وجوه : المشقة الأولى أنها رؤيا وليست وحياً . والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد ، والمشقة الثالثة أنه هو الذي سيذبحه .
إنها ثلاث مشقات صعاب ، وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي الأنبياء بيسر وسهولة ، بل لابد أنه تحدّث فيها كثيراً بينه وبين نفسه ، وهل هي رؤيا أم ماذا؟ . ومن هنا سُمي اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية . وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا الأنبياء حق عرف أنه لابد أن ينفذ ما رأى . والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سُمي عرفة . أو أنه حين جاءت له الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر ، وكان لابد أن يدخل ليوسوس لإبراهيم . أليس هو القائل : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ]
فعندما تمثل الشيطان لإبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الأولى ، ثم عاوده مرة أخرى فرجمه سبعاً ، وجاءه في الثالثة فرجمه سبعاً ، بعدها لم يأت له ثانية ، فجرى إبراهيم مخافة أن يلاحقه ، ولذلك سُمى المكان بالمزدلفة ، والمزدلف هو المسرع ، ويسمى " ذا المجاز " أي أنه اجتاز المزدلفة ، ويكون قد عرف المسألة عند عرفة .
أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان ، فيقول له : عرفتَ؟ فيرد إبراهيم : " عرفتُ " . أو أن الإنسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الأركان : هذا عرف ، وذاك عرف ، وثالث ، ورابع ، وهكذا فيكون كلنا : عرفات ، ويصبح المكان عبودية لله . اشترك فيها جميع الحجاج .
{ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } . والمشعر الحرام في مزدلفة : { فاذكروا الله } معناها أن الله يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة ، وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت الله الحرام ، ثم تعودون مغفورا لكم ، وهي مسألة تستحق أن تذكروا الله بالشكر والعرفان .
(1/525)

{ واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } ؛ لأن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من الله لخلقه ، والتحية يجب أن يُرَدّ عليها ، فكما هداكم اذكروه . { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } ؛ لأنهم طالما حجوا كثيراً ، في الجاهلية ، فأنتم كنتم تحجون بضلال ، والآن تحجون بهدى . { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } . قوله : { ثُمَّ } تدل على أنه لابد من الوقوف بعرفة أو المبيت في مزدلفة؛ لأن { ثُمَّ } تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل .
إذن قوله : " { ثُمَّ أَفِيضُواْ } حجة لمن قال : إنه لابد من المبيت في مزدلفة . وهذه الآية نزلت لأن قريشاً كانت ترى نفسها أهل الحرم فلا يُطالبون أبداً بما يُطالب به سائر الناس ، ولذلك لا يذهبون مع الناس إلى عرفات ، والله يريد بالحج المساواة بين الناس ، ولذلك قال النبي في حجة الوداع : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " فلابد أن ينسخ الله مسلك قريش فقال : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } يعني لا تميز لكم ولا تفرقة بين المسلمين .
وبعض المفسرين يقول : إن معنى { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } المقصود به من حيث أفاض إبراهيم ، بمعنى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد رسم مناسك الحج كلها بعد أن علمها الله له ، فالناس وإن كانوا جمعاً إلا أن المراد بكلمة " الناس " هو " إبراهيم " . ولا نستغرب أن يكون معنى : " الناس " هو " إبراهيم " لأن الله وصفه بأنه " أمة " . وكلمة الناس تُطلق على الإنسان الذي يجمع خصائص متعددة؛ ولذلك قال الله عز وجل عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ]
لقد وصف الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس . والرجل الذي ذهب للمؤمنين يخبرهم باستعداد المشركين لقتالهم نزل فيه قوله تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } إنه إنسان واحد ومع ذلك وصفه الله بالناس ، كأنه بتنبيهه للمسلمين يكون جمع كل صفات الخير في الناس .
{ واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إنّ الحق سبحانه وتعالى يعلم أن بني آدم لا يمكن لهم أن يراعوا حقوقه كما يجب أن تُراعى ، فلا بد أن تفلت منهم أشياء ، وهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك؛ لأنه خالقهم ، فأمرهم جلت حكمته أن يستغفروه؛ ليكفروا عن سيئاتهم .
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً . . . }
(1/526)

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
ونعرف أن " قضى " تأتي بمعان متعددة ، والعمدة في هذه المعاني فصل الأمر بالحكمة ، قد يُفصل الأمر بحكمة لأنه فرغ منه أداء { فَإِذَا قَضَيْتُمْ } أي إذا فرغتم من مناسككم ، هذه واحدة . وقد يكون لأنك فصلت الأمر بخبر يقين مثل قوله الحق : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ]
وقد يكون " قضى " بمعنى حكم حكما لازماً كما تقول : قضى القاضي . إذن فكلها تدور حول معنى : فصل بحكمة . { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله } . أي إذا فرغتم من مناسككم ، والمناسك هي الأماكن لعبادة ما ، فعرفات مكان للموقف ، و " مزدلفة " مكان للمشعر الحرام يبيت فيه الحجاج . و " منى " منسك للمبيت أيضا ، إذن كل مكان فيه عبادة يُسمى " منسكا " .
وقوله سبحانه : { فاذكروا الله } أي فلا يزال ذكر الله دائما وارداً في الآيات ، كأنك حين توفق إلى أداء شيء إياك أن تغتر ، بل اذكر ربك الذي شرع لك ثم وفقك وأعانك . وكأن الحق يريد أن يضع نهاية لما تعودت عليه العرب في ذلك الزمان فقديماً كانوا يحجون ، فإذا ما اجتمعت القبائل في منى ، كانت كل قبيلة تقف بشاعرها أو بخطيبها ليعدد مآثره ومآثر آبائه ، وما كان لهم من مفاخر في الجاهلية ويحملون الديات ، ويحملون الحمالات ، ويطعمون الطعام ، ويفعلون غير ذلك من العادات ، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينهي فيهم هذه العادة التي هي التفاخر بالآباء وبأعمالهم فقال : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } والذكر معناه توجيه الفكر إلى شيء غير موجود ساعة تأتي به ، ولا يمكن أن يذكر الإنسان من أحداث الماضي إلا الحدث الذي له الأثر النافع فيه ، وعلى مقدار الأثر النافع يكون الذكر .
وكانوا قديماً يطعمون الطعام ، والذي يطعم الطعام يؤدي مهمة في مثل هذه البلاد البُدائية أي البدوية وكان من المبالغة في الجفنات أن بعضهم كالمطعم بن عدي مثلاً كانت له جفنة يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستظل بها ساعة الهجير . والجفنة هي الوعاء الذي يوضع فيه الطعام ، فتأمل الجفنة كيف تكون؟!
ويحملون الحمالات ، بمعنى أنه إذا قامت قبيلة على قبيلة وقتلت منها خلقاً كثيراً يتطوع منهم ذو الحسب وذو المروءة وذو الشهامة وذو النجدة فيحمل كل هذه الآثار في ماله . والديات هي التي يتطوع بدفعها أهل الشهامة منهم إذا ما قتل قاتل قتيلاً ، ولا يقدر على أن يعطي ديته ، وكانت كل تلك الأعمال هي المفاخر .
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم في كل شيء إلى ذاته ، فقال لهم : أنتم تذكرون آباءكم؛ لأنهم كانوا يفعلون كذا وكذا ، وآباؤكم يفتخرون بآبائهم ، انقلوها وسلسلوها إلى خالق كل الآباء وكل البشر ، فكل ما يجري من خير على يد الآباء مرده إلى الله ، فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير ، فاذكروا من أمدهم بذلك الخير .
(1/527)

وهو يريد منهم أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لأن كل كائن إنما يستحق من الذكر على مقدار ما قدم من الخير ، ولن تجد كل الخير إلا لله ، إذن لابد أن نذكر الله .
وأيضاً فإن الإسلام أراد أن ينهي التفاخر بالآباء ليجعل الفخر ذاتيا في نفس المؤمن ، أي فخراً من عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون في أمثال هؤلاء الذين يفخرون بأسلافهم إنهم : " عظاميون " أي منسوبون إلى مجد صنعه من صاروا عظاما تضمها القبور ، والله يريدنا أن نكون ذاتيين في مفاخرنا ، أي أن نفخر بما نفعل نحن ، لا بما فعل آباؤنا ، فالآباء أفضوا إلى ما قدموا ، ويريد الله أن يأخذ الإنسان ذاتية إيمانية تكليفية . ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه ولذلك يقول الشاعر :
ولا تكونوا عظاميين مفخرة ... ماضيهم عامر في حاضر خرب
لا ينفع الحسب الموروث من قدم ... إلا ذوي همة غاروا على الحسب
والعود من مثمر إن لم يلد ثمراً ... عَدّوه مهما سَمَا أصلاً من الحطب
فالنبات الذي ليس له ثمرة ، يعتبره الناس مجرد حطب ، ويريد الحق أن ينبه في المؤمن ذاتية تفعل ، وليس ذاتية تفتخر بأنه كان وكان ، بل على كل إنسان أن يقدم ما يفتخر به :
ليس الفتى من يقول كان أبي ... إن الفتى من يقول هأنذا
وعندما كان العرب يتفاخر بعضهم على بعض يقول أحدهم للآخر : يا أخي أنت تفتخر عليّ بماذا؟
فيرد عليه الثاني : أفتخر عليك بآبائي وأجدادي .
فيرد الأول : اذكر جيدا أن مجد آبائك انتهى بك ، ومجد آبائي بدأ بي ، ولماذا لا أجعل لآبائي الفخر بأنهم أنجبوني؟
وفي ذلك يقول أحدهم :
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبانُ
وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَا شَرَفٍ ... كما عَلتْ برسول الله عدنانُ
وما دام القوم يفتخرون بحي منهم ، فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا شيئا باقياً ومؤثراً في الوجود ، وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل في أنه يطعم الطعام ، ويحمل الحمالات ويؤدي الديات ، وإنما يكون بحمل رسالة الإنسانية العالمية .
{ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } . لأن ذكركم الله سيصلكم بالمدد منه ، ويعطيكم المعونة لتكونوا أهلا لقيادة حركة الحياة في الأرض ، فتوطدوا فيها الأمن والسلام والرحمة والعدل ، وهذا هو ما يجب أن يكون مجالا للفخر .
وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتي إلى أن الإنسان إذا ما قضى المناسك كان أهلا لأن يضرع إلى الله ، ويسأل الله بما يحب أن يسأله ، والسؤال لله يختلف باختلاف همة السائلين ، وكانوا لا يسألون الله إلا قائلين : يا رب أعطني إبلاً ، يا رب أعطني غنماً ، يا رب أعطني بقراً ، ويا رب أعطني حائطاً أي بستاناً ، يا رب كما أعطيت أبي أعطني .
(1/528)

ولم يكن في بالهم إلا الأمور المادية ، وأراد الله أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة لله ، وأن يُصَعِّدُوها إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع ، ومن هنا تأتي المزية الإيمانية ، فإذا كنتم ستسألون الله متاعا من متاع الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟
ذلك ما نفهمه من قول الله عز وجل في ختام هذه الآية : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } . فالعبد حين يؤدي مناسكه لله يجد نفسه أهلا لأن يسأل الله ، وما دمت قد وجدت نفسك أهلا لأن تسأل الله فاسأل الله بخير باق؛ لأن الإنسان إنما يُصَعدُ حاجته إلى المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش ، وقد تذهب لآخر أغنى من الأول فتقول له : أعطني جنيها ، ولثالث : تطلب منه عشر جنيهات ، إنك تطلب على قدر همة كل منهم في الإجابة على سؤالك .
إذن ما دام العباد بعد أداء المناسك في موقف سؤال لله فليُصَعِّدُوا مسألتهم لله وليطلبوا منه النافع أبداً ، ولا ينحطوا بالسؤال إلى الأمور الدنيوية الفانية البحتة . { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } إن العبد قد لا يريد من دعائه لله إلا الدنيا ، ولا حظ ولا نصيب له في الآخرة ، ومثل هذا الإنسان يكون ساقط الهمة؛ لأنه طلب شيئاً في الدنيا الفانية ، ويريد الله أن نُصَعِّد همتنا الإيمانية . ولذلك يتبعها بقوله الحق : { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار }
(1/529)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
ولماذا لم ننس الدنيا هنا؟ لأنها هي المزرعة للآخرة . وقوله سبحانه : { آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً } اختلف فيها العلماء؛ بعضهم ضيقها وقال : إن حسنة الدنيا هي المرأة الصالحة . وقال عن حسنة الآخرة إنها الجنة . ومنهم من قال : إن حسنة الدنيا هي العلم؛ لأن عليه يُبْنَي العمل ، وفي حسنة الآخرة قال : إنها المغفرة؛ لأنها أم المطالب .
ومن استعراض أقوال العلماء نجدهم يتفقون على أن حسنة الآخرة هي ما يؤدي إلى الجنة مغفرة ورحمة ، لكنهم اختلفوا في حسنة الدنيا . أقول : لماذا لا نجعل حسنة الدنيا أعم وأشمل فنقول : يا رب أعطنا كل ما يُحَسِّنُ الدنيا عندك لعبدك .
ويذيل الحق هذه الآية بقول : { وَقِنَا عَذَابَ النار } وسبحانه وتعالى حين يَمْتَنُّ على عباده يمتن عليهم بأن زحزحهم عن النار وأدخلهم الجنة ، كأن مجرد الزحزحة عن النار نعيم ، فإذا ما أدخل الجنة بعد الزحزحة عن النار فكأنه أنعم على الإنسان بنعمتين؛ لأنه سبحانه قال : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ]
ومعناها أن كل إنسان سيرى النار إما وهو في طريقه للجنة ، فيقول : الحمد لله ، الإيمان أنجاني من هذه النار وعذابها . فهو عندما يرى النار وبشاعة منظرها يحمد الله على نعمة الإسلام . التي أنجته من النار . فإذا ما دخل الجنة ورأى نعيمها يحمد الله مرة ثانية . وكذلك يرى النار من هو من أهل الأعراف أي لا في النار ولا في الجنة ، يقول الحق : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ]
ويقول الحق من بعد ذلك : { أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب }
(1/530)

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
والنصيب هو الحظ ، وأما { مِّمَّا كَسَبُواْ } فنعرف من قبل أن فيه " كسب " وفيه " اكتساب " . والاكتساب فيه افتعال ، إنما الكسب هو أمر عادي ، ولذلك تجد أن الاكتساب لا يكون إلا في الشر؛ كأن الذي يفعل الشر يتكلف فيه ، لكن من يفعل الخير فذلك أمر طبيعي من الإنسان . والمقصود ب { مِّمَّا كَسَبُواْ } هنا هو الكسب من استيفاء أعمالهم التي فعلوها في الحج إحراماً ، وتلبية . وطوافاً ، وسعياً ، وذهاباً إلى " منى " ، وذهاباً إلى " عرفات " ووقوفاً بها ، وإفاضة إلى " مزدلفة " ، ورمياً للجمار . في " منى " ، وطواف إفاضة ، وكل هذا كسب للإنسان الذي نال شرف الحج .
وعندما نقرأ : { والله سَرِيعُ الحساب } فلنفهم أن السرعة هي أن يقل الزمن عن الحدث ، فبدلا من أن يأخذ الحدث منك ساعة ، وقد تنهيه في نصف ساعة ، وكل حدث له زمن ، والحدث حين يكون له زمن وتريد أن تقلل زمن الحدث فلابد أن تسرع فيه حتى تنجزه في أقل وقت . وتقليل الزمن يقتضي سرعة الحركة في الفعل ، وذلك في الأفعال العلاجية التي تحتاج مُعَالجة ، وعملاً من الإنسان ، لكن سبحانه يفعل ب " كُن " ولا يحتاج عمله إلى علاج ، وبالتالي لا يحتاج إلى زمن ، إذن فهو سريع الحساب؛ لأنه لا يحتاج إلى زمن ، ولأنه لا يشغله شأن عن شأن ، وهذا هو الفرق بين قدرة الواحد سبحانه وقدرة الحادث؛ لأن الحادث عندما يؤدي عملاً ، فهذا العمل يشغله عن غيره من الأعمال ، فلا يستطيع أن يؤدي عمليتين في وقت واحد ، لكن الواحد الأحد لا يشغله فعل عن فعل ، وبالتالي يفعل ما يريد وقتما يريد ولكل من يريد .
ولذلك سُئل الإمام علي بن أبي طالب : كيف يحاسب الله الخلائق جميعاً في لحظة واحدة؟ . فقال : " كما يرزقهم في ساعة واحدة " . فهو سبحانه الذي يرزقهم ، وكما يرزقهم يحاسبهم . ويقول الحق من بعد ذلك : { واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ . . . }
(1/531)

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
ونلاحظ أن ذكر الله أمر شائع في جميع المناسك ، و { في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } أي في أيام التشريق . في اليوم التاسع نكون في عرفة وليلة العاشر نبيت فيها ب " مزدلفة " ، ثم بعد ذلك نفيض من حيث أفاض الناس ، نذهب لرمي جمرة العقبة ، وبعضنا يذهب ليطوف طواف الإفاضة وينهي مناسكه ، أو قد يذهب ليذبح ويتحلل التحلل الأصغر ، إن لم يكن معه امرأة ، وإن طاف فهو يتحلل التحلل الأكبر . أما الأيام المعدودات أي أيام التشريق فهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر . وقد سميت بذلك نسبة إلى الشروق ، والشروق خاص بالشمس ، كانوا قديماً إذا ما ذبحوا ذبائحهم سميت هذه الأيام بأيام التشريق . وعندما نسمع قوله : { في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } نفهم منها أنها فوق يومين .
وبعد ذلك يقول الحق : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى } . قول الحق سبحانه وتعالى : { في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } ثم قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } يدل على أن كلمة " أيام " تطلق على الجمع وهو الأكثر من يومين ، أي ثلاثة أيام ، لكن الحق سبحانه وتعالى جعل للقيام بيومين حكم القيام بالثلاثة ، فإن تعجلت في يومين فلا إثم عليك ومن قضى ثلاثة أيام فلا إثم عليه كيف يكون ذلك؟ .
لأن المسألة ليست زمناً ، ولكنها استحضار نية تعبدية ، فقد تجلس ثلاثة أيام وأنت غير مستحضر النية التعبدية؛ لذلك قال سبحانه : { لِمَنِ اتقى } ، فإياك أن تقارن الأفعال بزمنها ، وإنما هي بإخلاص النية والتقوى فيها .
ويذيل الحق الآية بالقول الكريم : { واتقوا الله واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . وقد جاء سبحانه وتعالى بكلمة { تُحْشَرُونَ } لتتناسب زحمة الحج؛ لأنه كما حشركم هذا الحشر وأنتم لكم اختيار ، هو سبحانه القادر أن يحشركم وليس لكم اختيار . فإذا كنت قد ذهبت باختيارك إلى هذا الحشر البشري الكبير في الحج فاعرف أن الذي كلفك بأن تذهب باختيارك لتشارك في هذا الاجتماع الحشد هو القادر على أن يأتي بك وقد سلب منك الاختيار . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام }
(1/532)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية ، وهذه القضية الوجودية هي أن كل عمل له ظاهر وله باطن . ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس في الباطن ، فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن . فمن مصلحة الإنسان أن ينتمي هو والناس جميعاً إلى عالم يعرف فيه كل إنسان أن هناك إلهاً حكيماً يعرف كل شيء عنا جميعاً .
فإذا كان عندك شيء لا أعلمه ، وأنا عندي شيء أنت لا تعلمه كيف تسير مصالحنا؟ ولذلك فمن ضروريات حياتنا أن نؤمن معا بإله يطلع على سرائرنا جميعاً ، وهذا ما يجعلنا نلزم الأدب . ولذلك قيل : " إن عَمّيْتَ على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء " .
إذن فقضاء السماء وعلم الله بالغيب مسألة يجب أن نحمده عليها ، لأنه هو الذي سيحمي كل واحد منا من غيره . وعندما ستر الله غيبنا فذلك نعمة يجب أن نشكره عليها؛ لأن النفوس متقلبة . فلو علمت ما في نفسي عليك في لحظة قد لا يسرك . . وقد لا تنساه أبداً ويظل رأيك فيَّ سيئاً ، لكن الظنون والآراء تمر عندي وعندك وتنتهي . ولو اطلع كل منا على غيب الآخر لكانت الحياة مرهقة ، والقول المأثور يذكر ذلك : " لو تكاشفتم ما تدافنتم " .
إذن فمن رحمة الله ومن أكبر نعمه على خلقه أن ستر غيب خلقه عن خلقه . والحق يحذرنا ممن قال فيهم : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } أي الذين يظهرون من خير خلاف ما يبطنون من شر ، ولذلك صور الشاعر هذه المسألة فقال :
على الذم بتنا مجمعين وحالنا ... من الخوف حال المجمعين على الحمد
أي لو تكاشفنا لقلنا كلنا ذماً ، إنما كلنا مداحون حين يلقى بعضنا بعضا كل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . و " يعجبك قوله " فهل الممنوع أن يعجبك القول؟ لا ، يعجبني القول ولكن في غير الحياة الدنيا ، فالقول الذي يعجب هو ما يتعلق بأمر الحياة الآخرة الباقية ليضمن لنا الخير عند من يملك كل الخير .
وكفى بالذي يسمع من مادح له مدحاً ، والمادح نفسه يضمر في قلبه كرهاً له ، وكفى بذلك شهادة تغفيل للممدوح ، بأنه يقول بينه وبين نفسه : " إن الممدوح غبي؛ لأني أمدحه وهو مصدق مدحي له " . إن الله سبحانه وتعالى ينبهنا إلى ضرورة أن يكون المسلم يقظا وفطناً ، ومن يقول لنا كلاماً يعجبنا في الحياة نتهمه بأن كلامه ليس حسنا؛ لأن خير الكلام هو ما يكون في الأمر الباقي .
ولذلك عندما أرسل خليفةُ المسلمين للإمام جعفر الصادق يقول له : لماذا لا تغشانا أي لا تزورنا كما يغشانا الناس؟ فكتب الإمام جعفر الصادق للخليفة يقول : أما بعد فليس عندي من الدنيا ما أخاف عليه ، وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له .
(1/533)

وكأنه يريد أن يقول له اتركنا وحالنا؛ أنت محتاج لمن يجلس معك ويمدحك ، وأنت لا تعلم أن أول أناس لهم رأي سيء فيك هم من يمدحونك .
{ وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } وهذه الآية نزلت في الأخنس ابن شريق الثقفي واسمه أبيّ ولقب بالأخنس لأنه خنس ورجع يوم بدر فلم يقاتل المسلمين مع قريش واعتذر لهم بأن العير قد نجت من المسلمين وعادت إليهم ، وكان ساعة يقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر إسلامه ويلين القول للرسول ويدعي أنه يحبه ، ولكنه بعد أن خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بزرع وحُمُر لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر . والآية وإن نزلت في الأخنس فهي تشمل كل مُنافق .
{ وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } لا تقولوا : " الله يشهد " ، وإنما هاتوا شهداءكم ليشهدوا على صدق قولكم؛ لأن معنى " الله يشهد " هو إخبار منك بأن الله يشهد لك . وأنت كاذب في هذه ، وتريد أن تضفي المصداقية على كذبك بإقحام الله في المسألة .
وساعة تسمع واحداً يقول لك : أُشْهِدُ الله على أني كذَا ، فقل له : هذا إخبار منك بأن الله يشهد ، وأنت قد تكذب في هذا الخبر ، أنا أفضل أن يشهد اثنان من البشر ولا نقحم الله في هذه الشهادة . { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } وألد الخصام هو الفاسق في معصيته ، ويقال : فلان عنده لدد أي فسق في خصومته ، ويجادل بالباطل . ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن أبغض الرجال إلى الله هو الألد الخصم " .
يعني المجادل بالباطل الذي عنده قسوة في المعصية ، فهو عاصٍ وفي الوقت نفسه قاس في معصيته . ولماذا هو ألد الخصام؟ لأن الذي يجابهك بالأمر يجعلك تحتاط له ، أما الذي يقابلك بنفاق فهو الذي يريد أن يخدعك ، وهذا عنف في الخصومة فالخصم الواضح أفضل لأنه يواجهك بما في باطنه ، لكن إذا جابهت الذي يبطن خصومته ويظهر محبته يكون قاسياً عليك في خصومته؛ لأنه يريد أن يخدعك ويُبَيّتُ لك .
{ وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا } و { تولى } : انصرف أي يقول لك ما يعجبك ، فإذا تولى عنك نقل المسألة إلى الحقيقة بإظهار ما كان يخفيه ، ويحتمل المعنى أنه إذا تولى شيئاً آخر ، من الولاية ، ففيه { تولى } من التولي وهو الانصراف والإعراض ، وفيه { تولى } من الولاية .
{ وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } كانت الأرض بدون تدخل البشر مخلوقة على هيئة الصلاح ، والفساد أمر طارئ من البشر .
(1/534)

ونعرف أن الفساد لم يطرأ على أي أمر إلا وللإنسان فيه دخل .
لماذا اشتكينا أزمة قوت ولم نشتك أزمة هواء؟ لأن الهواء لا تدخل للإنسان فيه ، وبمقدار تدخل الإنسان يكون الفساد . لقد تدخلنا قليلاً في المياه فجاء في ذلك فساد ، فلم نحسن نقلها في مواسير جيدة فوصلت لنا ملوثة ، أو زاد عليها الكلور أو نقص . وبقدر ما يكون التدخل يكون الإفساد ، أما في الزمن القديم فقد كان الإنسان يذهب إلى مصدر الماء المباشر في الآبار ويأخذ الماء الطبيعي الذي خلقه الله بلا تدخل من الإنسان ولم يكن تلوث أو غيره .
إذن على مقدار وجود الإنسان في حركة الحياة غير المُرشّدة بالإيمان بالله ينشأ الفساد ، ولذلك كان لابد له من منهج سماوي للإنسان . والكائنات غير الإنسان ليس لها منهج وهي مخلوقة بالغريزة وتؤدي مهمتها فقط؛ فالدابة لم تمتنع يوماً عن ركوبك عليها ، ولم تمتنع أن تحمل عليها أثقالك ، أو تستعين بها في الحرث ، أو الري ، حتى عندما تذبحها لا تمتنع عليك ، لماذا؟ لأنها مخلوقة بالغريزة التي تؤدي بها الحركة النافعة بدون اختيار منها . وإذا امتنعت في وقت فإنما يكون ذلك لأمر طارئ كمرض مثلا .
لكن الذي له اختيار لابد أن يكون له منهج يقول له : افعل هذا ولا تفعل تلك . فإن استقام مع المنهج في " افعل " و " لا تفعل " سارت حياته بشكل متوازن ، لكن إذا لم يستقم تفسد الحياة . وهذا ما نفهمه من قوله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا } ، كأن الإفساد هو الذي يحتاج إلى عمل ، اترك الطبيعة والمخلوقات كما هي تجدها تعمل في انضباط وكمال على ما يرام .
إذن فالفساد طارئ من الإنسان الذي يحيا بلا منهج لأنه { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا } فكأن الأصل في الأرض وما فيها جاء على هيئة الصلاح ، فإن لم تزد الصالح صلاحاً فلا تحاول أن تفسده . قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 11-12 ]
ومن هنا نفهم أنهم ظنوا أن الأرض تحتاج إلى حركتهم لإصلاحها ، برغم أن الأرض بدون حركتهم صالحة؛ لأنهم لا يتحركون بمنهج الله .
إذن هذه الآية نفهم منها أن الإنسان إذا { تولى } بمعنى رجع أو تولى ولاية سعى في الأرض ليفسد فيها؛ فكأن الفساد في الأرض أمر طارئ وينتج من سعي الإنسان على غير منهج من الله . وما دام للإنسان اختيار فيجب أن يكون له منهج أعلى منه يصون ذلك الاختيار ، فإن لم يكن له منهج وسار على هواه فهو مفسد لا محالة .
وانظر إلى غباء الذي يفسد في الأرض ، هل يظن أنه هو وحده الذي سيستفيد في الأرض ، فأباح لنفسه أن يفسد في الأرض لغيره؟ إنه ينسى الحقيقة ، فكما يفسد لغيره ، فغيره يُفسد له ، فمن الخاسر؟ كلنا سنخسر إذن .
(1/535)

{ وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل . . . } [ البقرة : 205 ]
والحرث له معنيان : فمرة يُطلق على الزرع ، ومرة يُطلق على النساء ، المعنى الأول ورد في قوله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم } [ الأنبياء : 78 ]
فالحرث في الآية معناه : الزرع ، والزرع ناتج عن إثارة الأرض وإهاجتها . وعملك يا أيها الإنسان أن تهيج الأرض وتثيرها ، وتأتي بالبذر الذي خلقه الله في الأرض التي خلقها الله ، وتسقيها بالماء الذي خلقه الله ، وتكبر في الهواء الذي خلقه الله ، ولذلك يلفتنا وينبهنا الحق سبحانه فيقول : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 63-64 ]
والمعنى الثاني : يُطلق الحرث على المرأة في قوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 223 ]
وإذا كان حرث الزرع هدفه إيجاد النبات فكذلك المرأة حتى تلد الأولاد . ويقول سبحانه وتعالى : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } [ البقرة : 223 ]
وأراد المتحللون الإباحيون أن يُطلقوا إتيان المرأة في جميع جسدها ، نقول لهم : لاحظوا قوله : " حرثكم " والحرث محل الإنبات ، فالإتيان يكون في محل الإنبات فقط ، لا تفهمها تعميماً وإنما هي تخصيص . ويتابع الحق وصف الذي يقول القول الحسن ، ولكنه يسعى في الأرض بالفساد فيقول : { وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } . والنسل هو الأنجال والذرية .
ويذيل الحق الآية : { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } أي أن الحق يريد منكم إن لم تدخلوا بطاقة الله التي خلقها لكم فكراً وعطاء ، فعلى الأقل اتركوا المسألة كما خلقها الله؛ لأن الله لا يحب أن تفسدوا فيما خلقه صالحاً في ذاته .
وما سبق في هذه الآية هو مجرد صورة من صور استقبال الدعوة الإسلامية في أول عهدها ، من الذين كانوا ينافقون واقعها القوي ، فيأتون بأقوال تُعجب ، وبأفعال تُعجب من ينافق . ونعرف أن النفاق كان دليلا على قوة المسلمين ، ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة ، وإنما نشأ في المدينة . فقد قال الحق : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق } [ التوبة : 101 ]
وربما يتساءل إنسان : وكيف تظهر هذه الظاهرة في البيئة الإيمانية القوية في المدينة؟ ونقول : لأن الإسلام في مكة كان ضعيفاً ، والضعيف لا ينافقه أحد ، والإسلام في المدينة أصبح قوياً ، والقوي هو الذي ينافقه الناس .
إذن فوجود النفاق في المدينة كان ظاهرة صحية تدل على أن الإيمان أصبح قويا بحيث يدعيه مَنْ ليس عنده إسلام . وهؤلاء كانوا يقولون قولاً حسناً جميلاً ، وقد يفعلون أمام من ينافقونه فعلاً يُعجب مَنْ يراهم أو يسمعهم ، ولكنهم لا يثبتون على الحق ، فإذا ما تولوا ، أي اختفوا عن أنظار مَنْ ينافقونه رجعوا إلى أصلهم الكفري ، أو إذا ائتمنوا على شيء فهم يسعون في الأرض فساداً .
والآية هنا تتعرض لشيء يدل على فطنة المؤمنين ، إن الآية فضحت مَنْ نافق وكان الأخنس عمدة في النفاق ، وفضيحة المنافق بهذه الصورة ، تدل على أن وراء محمد صلى الله عليه وسلم ووراء المؤمنين بمحمد ، ربَّاً يخبرهم بمَنْ يدلس عليهم ، وأيضاً ينبههم لضرورة أن تكون لهم فطنة بدليل قول الحق : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم . . . }
(1/536)

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
ولا يقال له اتق الله إلا إذا كان قد عرف أنه منافق ، وماداموا قد قالوا له ذلك فهذا دليل على أن فطنتهم لم يجز عليها هذا النفاق . ونفهم من هذه الآية أن المؤمن كَيِّس فطن ، ولابد أن ينظر إلى الأشياء بمعيار اليقظة العقلية ، ولا يدع نفسه لمجرد الصفاء الرباني ليعطيه القضية ، بل يريد الله أن يكون لكل مؤمن ذاتية وكياسة .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } فكأن المظهر الذي يقول أو يفعل به ، وينافي التقوى؛ لأنه قول معجب لا ينسجم مع باطن غير معجب ، صحيح أنه يصلي في الصف الأول ، ويتحمس لقضايا الدين ، ويقول القول الجميل الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم ويعجب المؤمنين ، لكنه سلوك وقول صادر عن نية فاسدة . ومعنى " اتق الله " أي ليكن ظاهرك موافقاً لباطنك ، فلا يكفي أن تقول قولاً يُعجب ، ولا يكفي أن تفعل فعلاً يروق الغير؛ لأن الله يحب أن يكون القول منسجماً مع الفعل ، وأن يكون فعل الجوارح منسجماً مع نيات القلب .
إذن ، فالمؤمن لابد وأن تكون عنده فطنة ، وذكاء ، وألْمعِيَّة ، ويرى تصرفات المقابل ، فلا يأخذ بظاهر الأمر . ولا بمعسول القول ولا بالفعل ، إن لم يصادف فيه انسجام فعل مع انسجام نية . ولا يكتفي بأن يعرف ذلك وإنما لابد أن يقول للمنافق حقيقة ما يراه حتى يقصر على المنافق أمد النفاق ، لأنه عندما يقول له : " اتق الله " يفهم المنافق أن نفاقه قد انكشف ، ولعله بعد ذلك يرتدع عن النفاق ، وفي ذلك رحمة من المؤمن بالمنافق . وكل مَنْ يرى ويلمح بذكائه نفاقاً من أحد هنا يقول له : " اتق الله " فالمراد أن يفضح نفاقه ويقول له : " اتق الله " . فإذا قال له واحد : " اتق الله " وقال له آخر : " اتق الله " ، وثالث ، ورابع ، فسيعرف تماما أن نفاقه قد انكشف ، ولم يعد كلامه يعجب الناس .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } ، وتقييد العزة بالإثم هنا يفيد أن العزة قد تكون بغير إثم ، ومادام الله قد قال : { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } ، فهناك إذن عزة بغير إثم . نعم ، لأن العزة مطلوبة للمؤمن والله عز وجل حكم بالعزة لنفسه وللرسول وللمؤمنين : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ]
وهذه عزة بالحق وليست بالإثم . وما الفرق بين العزة بالحق وبين العزة بالإثم؟ ولنستعرض القرآن الكريم لنعرف الفرق . ألم يقل سحرة فرعون : فيما حكاه الله عنهم : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشعراء : 44 ]
هذه عزة بالإثم والكذب . وكذلك قوله تعالى : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 2 ]
وهي عزة كاذبة أيضا أما قوله عز وجل :
(1/537)

{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ]
فتلك هي العزة الحقيقة ، إذن فالعزة هي القوة التي تَغْلِبُ ، ولا يَغْلِبها أحد . أما العزة بالإثم فهي أنفة الكبرياء المقرونة بالذنب والمعصية . والحق سبحانه وتعالى يقول لكل من يريد هذا اللون من العزة بالإثم : إن كانت عندك عزة فلن يقوى عليك أحد ، ولكن يا سحرة فرعون يا من قلتم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ، أنتم الذي خررتم سجداً لموسى وقلتم : { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47-48 ]
ولم تنفعكم عزة فرعون؛ لأنها عزة بالإثم ، لقد جاءت العزة بالحق فغلبت العزة بالإثم . لذلك يبين لنا الحق سبحانه وتعالى أن العزة حتى لا تكون بالإثم ، يجب أن تكون على الكافر بالله ، وتكون ذلة على المؤمن بالله . { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ]
وكذلك قوله الحق : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ]
وهذا دليل العزة بالحق ، وعلامتها أنها ساعة تغلب تكون في منتهى الانكسار ، ولنا القدوة في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي خرج من مكة لأنه لم يستطع أن يحمي الضعفاء من المؤمنين ، وبعد ذلك يعود إلى مكة فاتحاً بنصر الله ، ويدخل مكة ورأسه ينحني من التواضع لله حتى يكاد أن يمس قربوس سرج دابته ، تلك هي القوة ، وهي على عكس العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى ، إنما العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى ، إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } أي أن الأنفة والكبرياء مقرونة بالإثم ، والإثم هو المخالف للمأمور به من الحق سبحانه وتعالى ، { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد } . أي عزة هذه التي تقود في النهاية إلى النار؟ إنها ليست عزة ، ولكنها ذلة ، فلا خير في عمل بعده النار ، ولا شر في عمل بعده الجنة . فإن أردت أن تكون عزيزاً فتأمل عاقبتك وإلى أين ستذهب؟
{ فَحَسْبُهُ } أي يكفيه هذا فضيحة لعزته بالإثم ، وأما كلمة " مهاد " فمعناها شيء ممهد ومُوطأ ، أي مريح في الجلوس والسير والإقامة . ولذلك يسمون فراش الطفل المهد . وهل المهاد بهذه الصورة يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تماماً؛ لأن الذي يجلس في المهاد لا إرادة له في أن يخرج منه ، كالطفل فلا قوة له في أن يغادر فراشه . إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على أبعاضه . فإن كان المهاد بهذه الصورة في النار فهو بئس المهاد . هذا لون من الناس وفي المقابل يعطينا سبحانه لوناً آخر من الناس فيقول سبحانه : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله . . . }
(1/538)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
والله سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة " يشري " يجب أن نلاحظ أنها من الأفعال التي تستخدم في الشيء ومقابله ، ف " شرى " يعني أيضا " باع " . إذن ، كلمة " شرى " لها معنيان ، واقرأ إن شئت في سورة يوسف قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ]
أي باعوه بثمن رخيص . وتأتي أيضا بمعنى اشترى ، فالشاعر العربي القديم عنترة ابن شداد يقول :
فخاض غمارها وشرى وباعا ... .
إذن " شرى " لغة ، تُستعمل في معنيين : إما أن تكون بمعنى " باع " ، وإما أن تكون بمعنى " اشترى " ، والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منهم فقول عنترة : " شرى وباع " نفهم أن المقصود من " شري " هنا هو " اشترى " ، لأنها مقابل " باع " ، وقوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ]
يوضحه سياق الآية بأنهم باعوه . وهذا من عظمة اللغة العربية ، إنها لغة تريد أناساً يستقبلون اللفظ بعقل ، ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني .
{ وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } ونفهم " يشري " هنا بمعنى يبيع نفسه ، والذي يبيع نفسه هو الذي يفقدها بمقابل . والإنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحي بها ، وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهي الشهادة في سبيله عز وجل ، كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله . ومثل ذلك قوله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } [ التوبة : 111 ]
إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم . إذن فقوله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } يعني باع نفسه وأخذ الجنة مقابلاً لها ، هذا إذا كان معنى " يشري " هو باع .
وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل شيء في سبيل أن تسلم نفسه الإيمانية . ومن العجب أن هذه الآية قيل في سبب نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين ، معنى " باع " ومعنى " اشترى " فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن سنان الرومي كان في مكة ، وقد كبر سنه ، وأسلم وأراد أن يهاجر ، فقال له الكفار : لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا وأنت الآن ذو مال كثير ، وتريد أن تهاجر بمالك .
فقال لهم : أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟
فقالوا : نعم .
قال : تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟
قالوا : لك هذا .
إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته ، فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر فقالا له : ربح البيع يا أبا يحيى .
قال : وأربح الله كل تجارتكم .
وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره بقصتك ، ويروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع أبا يحيى .
(1/539)

إذن معنى الآية وفق هذه القصة : أنه اشترى نفسه بماله ، وسياق الآية يتفق مع المعنى نفسه . وهذه من فوائد الأداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين .
ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى ، ففي غزوة بدر ، وهي أول غزوة في الإسلام ، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة ، وتمكن المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد ، وأسروا منهم كثيرين أيضا ، وكان مِمَّنْ قتلوا في هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث بن عامر والذي قتله هو صحابي اسمه خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي ، وهو من قبيل الأوس بالمدينة ، وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ، إننا قد أسلمنا ، ونريد أن ترسل إلينا قوما ليعلمونا الإسلام . فأرسل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن ، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة فقتلوهم إلا خبيب بن عدي ، استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة ، لكن خبيباً وقع في الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة الحارث في غزوة بدر ، فباعوه لابن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه ، فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حياً ، فلما تركه مصلوباً على الخشبة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة : من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟
قال الزبير : أنا يا رسول الله .
وقال المقداد : وأنا معه يا رسول الله .
فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه ، فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه ، فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه ، فرآهم الزبير ، فألقى خبيباً على الأرض ، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض . وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها وقال : أنا الزبير بن العوام ، أمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد ، فإن شئتم فاضلتكم يعني يفاخر كل منا بنفسه وإن شئتم نازلتكم يعني قاتلتكم وإن شئتم فانصرفوا ، فقالوا : ننصرف ، وانصرفوا ، فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة التي صار إليها خبيب .
إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة . وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبي يحيى صهيب بن سنان الرومي تكون " شرى " بمعنى اشترى ، وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى : باع .
(1/540)

وهكذا نجد أن اللفظ الواحد في القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع .
وخبيب بن عدي هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذي اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله مقابل أبيه ، قالت : والله لقد رأيت خبيباً يأكل قطفا من العنب كرأس الإنسان! ووالله ما في مكة حائط بستان ولا عنب وإنما هو رزق ساقه الله له .
ولما جاءوا ليقتلوه قال : أنظروني أصلِّ ركعتين . فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال : والله لولا أني أخاف أن تقولوا إنه زاد في الصلاة لكي نبطئ بقتله لزدت . وقال قبل أن يقتلوه : اللهم أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تبق منهم أحداً . ثم هتف وقال :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وكان ذلك آخر ما قاله .
ويقول الحق : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } وما العلاقة بين ما سبق وبين رءوف بالعباد؟ مادام الله رءوفاً بالعباد فلم يشأ الله أن يجعل ذلك أمراً كلياً في كل مسلم ، وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق القضية الإيمانية ، لأنه لا يريد أن يضحي كل المسلمين بأنفسهم ، وإنما يريد أن يستبقي منا أناساً يحملون الدعوة .
وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى أصناف الناس الذين يستقبلون الدعوة كفراً ونفاقاً ، ومَنْ يقابلهم ممن يستقبلونها إيماناً خالصاً ، نادى جميع المؤمنين فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
(1/541)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
تبدأ الآية بنداء الذين آمنوا بالله وكأنه يقول لهم : يا مَنْ آمنتم بي استمعوا لحديثي . فلم يكلف الله من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وآمنوا به ، وماداموا قد أحبوا الله فلابد أن يتجه كل مؤمن إلى من يحبه؛ لأن الله لن يعطيه إلا ما يسعده .
إذن فالتكليف من الله إسعادٌ لمن أحب ، { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } ، وكلمة " في " تُفيد الظرفية ، ومعنى الظرفية أن شيئا يحتوي شيئا ، مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول : " الماء في الكوب " ، وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول : " المصلون في المسجد " .
والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف ، ومادام الظرف قد أحاط بالمظروف إذن فلا جهة يفلت منها المظروف من الظرف . ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة الظرفية عندما يقول : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ]
إن الصلب دائماً يكون على شيء ، وتشاء الآية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون الصلب متمكناً من المصلوب . فأنت إذا أردت أن تصلب شيئاً على شيء فأنت تربطه على المصلوب عليه ، فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه .
ومثال ذلك ، هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطا جيداً ، ستلاحظ أن العود قد غاص في جلدك . والحق يقول : { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } والسِّلْم والسَّلْمُ والسَّلَم هو الإسلام ، فالمادة كلها واحدة؛ لأن السلم ضد الحرب ، والإسلام جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلام مع الله وفي سلام مع الكون ، وفي سلام مع الناس . وفي سلام مع نفسك .
قوله : { ادخلوا فِي السلم } معناه حتى يكتنفكم السلم . إن الله هو الإله الخالق للكون ولابد أن تعيشوا في سلام معه؛ لأنكم لا تؤمنون إلا به إلهاً واحداً . فيجب علينا أن نعيش مع الأرض والسماء والكون في سلام؛ لأن الكون الخاضع المقهور المسخر الذي لا يملك أن يخرج عما رُسم له يعمل لخدمتك ولا يعاندك .
والإنسان حين يكون طائعاً يُسَرّ به كل شيء في الوجود؛ لأن الوجود طائع ومُسبِّح ، فساعة يجد الإنسان مُسبِّحاً مثله يُسَرّ به لأنه في سلام مع الكون . وأنت في سلام مع نفسك؛ لأن لك إرادة ، وهذه الإرادة قَهَرَ اللهُ لها كل جوارحك ، والذي تريده من أي عضو يفعله لك ، لكن هل يرضى أي عضو عمّا تأمره به؟ تلك مسألة أخرى ، مثلاً ، لسانك ينفعل بإرادتك ، فتقول به : " لا إله إلا الله " وقال به غيرنا من المشركين غير ذلك ، وأشركوا مع الله بشراً وغير بشر يعبدونهم وقال الملحدون بألسنتهم والعياذ بالله : " لا إله في الكون " ولم يعص اللسان أحداً من هؤلاء لأنه مقهور لإرادتهم .
(1/542)

وتنتهي إرادة الإنسان على لسانه وعلى جميع جوارحه يوم القيامة فيشهد عليه كما تشهد عليه سائر أعضائه : الأرجل ، والأيدي ، والعيون ، والآذان ، وكل عضو يقر بما كان يفعل به ، لأنه لا سيطرة للإنسان على تلك الأبعاض في هذا اليوم . إنما السيطرة كلها للخالق الأعلى .
{ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } . والحق حين ينادي المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة فالمعنى يحتمل أيضا أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب المسلمين ألا يأخذوا بعضاً من الدين ، ويتركوا البعض الآخر ، فيقول لهم : خذوا الإسلام كُله وطبقوه كاملاً؛ لأن الإسلام يمثل بناء له أسس معلومة ، وقواعد واضحة ، فلا يحاول أحد أن يأخذ شيئاً من حكم بعيداً عن حكم آخر ، وإلا لحدث الخلل .
وعلى سبيل المثال قد تجد خلافاً بين الزوج والزوجة ، وقد يؤدي الخلاف إلى معارك وطلاق ، وبعد ذلك نجد من يتهم الإسلام بأنه أعطى الرجل سيفاً مسلطاً على المرأة . ونقول لهم : ولماذا تتهمون الإسلام؟ هل دَخَلْتَ على الزواج بمنطق الإسلام؟ . إن كنت قد دخلت على الزواج بمنطق الإسلام فستجد القواعد المنظمة والتي تحفظ للمرأة كرامتها ، ولكن هناك مَنْ يدخل على الزواج بغير منطق الإسلام ، فلما وقع في الأزمة راح ينادي الإسلام . هل اختار الرجل مَنْ تشاركه حياته بمقياس الدين؟ وهل وضع نُصب عينيه شروط اختيار الزوجة الصالحة التي جاءت في الحديث الشريف :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
هل فضّل الرجل ذات الدين على سواها؟ أم فضل مقياساً آخر؟ . وعندما جاء رجل ليخطب ابنة من أبيها هل وضع الأب مقاييس الإسلام في الاعتبار عند موافقته على هذا الزواج؟ هل فضلتم مَنْ ترضون دينه وخلُقُه؟ أم تركتم تلك القواعد . أنت تركت قواعد الإسلام فلماذا تلوم الإسلام عند سوء النتائج والعواقب؟ .
إنك إن أردت أن تحاسب فلا بد أن تأخذ كل أمورك بمقاييس الإسلام ، ثم تصرف بما يناسب الإسلام . فإن كنت كذلك فالإسلام يحميك من كل شيء . فالإسلام يساند القوي في الكون ويساند القُوَى في النفس بحيث تعيش في سلام ولا تتعاند؛ لأن كل ذلك يقابله الحرب . والحرب إنما تنشأ من تعاند القوي ، فتتعاند قوى نفسك في حرب مع نفسك ، وتتعاند قوى البشر في حرب مع البشر ، وتتعاند قواك مع قوى الكون الأخرى ، فأنت تعاند الطبيعة وتعاند مع الحق سبحانه وتعالى .
إذن فالتعاند ينشأ منه الحرب ، والحرب لا تنشأ إلا إذا اختلفت الأهواء . وأهواء البشر لا يمكن أن تلتقي إلا عندما تكون محروسة بقيم مَنْ لا هوى له ، ولذلك يقول الله عز وجل :
(1/543)

{ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ]
لماذا؟ . دعك من الكون الأصم حولك ، أو دعك من الكون الذي لا اختيار له في أن يفعل أو ينفعل لك؛ فهو فاعل أو منفعل لك بدون اختيار منه ، ولكن انظر إلى البشر من جنسك ، فما الذي يجعل هوى إنسان يسيطر على أهواء غيره؟ .
ما الذي زاده ذلك الإنسان حتى تكون أنت تابعاً له؟ أو يكون تابعاً لك؟ . وفي قانون التبعية لا يمكن إلا أن يكون التابع مؤمناً بأن المتبوع أعلى منه ، ولا يمكن لبشر أن توجد عنده هذه الفوقية أبداً . لذلك لابد للبشر جميعاً أن يكونوا تبعاً لقوة آمنوا بأنها فوقهم جميعاً . فحين نؤمن ندخل في السلم ، ولا يوجد تعاند بين أي قوى وقوة أخرى؛ لأني لست خاضعاً لك ، وأنت لست خاضعاً لي ، وأنا وأنت مسلمون لقوة أعلى مني ومنك ، ويشترط في القوة التي نتبعها طائعين ألا يكون لها مصلحة فيما تشرع .
إن المشرعين من البشر يراعون مصالحهم حين يشرعون ، فمشرع الشيوعية يضع تشريعه ضد الرأسمالية ، ومشرع الرأسمالية يضع تشريعه ضد الشيوعية ، لكن عندما يكون المشرع غير منتفع بما يشرع ، فهذا هو تشريع الحق سبحانه وتعالى .
وحين ندخل في الإسلام ندخل جميعاً لا يشذ منا أحد ، ذلك معنى { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } ، هذا معنى وارد ، وهناك معنى آخر وارد أيضا وهو ادخلوا في السلم أي الإسلام بجميع تكاليفه بحيث لا تتركوا تكليفاً يشذ منكم .
وحين يأتي المعنى الأول فلأننا لو لم ندخل في السلم جميعاً لشقي الذين يُسلمون بالذين لا يُسلمون؛ لأن الذي يُسلم سيهذب سلوكه بالنسبة للآخرين ، ويكون نفع المسلم لسواه ، ويشقى المسلم بعد إسلام من لم يسلم ، فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون جميعاً مسلمين . والذين لا يدركون هذه الحقيقة يفسرون قول الله تعالى : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } [ المائدة : 105 ]
على غير ظاهرها ، فمن ضِمْن هدايتكم أن تُبَصّروُا من لم يؤمن بأن يؤمن؛ لأن مصلحتكم أن تسلموا جميعاً ، فإذا أسلمت أنت فسيعود إسلامك على الغير؛ لأن سلوكك سيصبح مستقيماً مهذباً ، والذي لم يسلم سيصبح سلوكه غير مستقيم وغير مهذب ، وستشقى أنت به . إذن فمن مصلحتك أن تقضي وقتاً طويلاً وتتحمل عناء كبيراً في أن تدعو غيرك ليدخل في الإسلام . وإياك أن تقول : إن ذلك يضيع عليك فرص الحياة . لا إنه يضمن لك فرص الحياة ، ولن يضيع وقتك لأنك ستحمي نفسك من شرور غير المسلم .
وأذكر جيداً أننا حين تكلمنا في فاتحة الكتاب قلنا : إن الله يُعلمنا أن نقول : { إياك نعبد } فكلنا يا رب نعبدك وسنسعد جميعا بذلك ، واهدنا كلنا يا رب؛ لأنك إن هديتني وحدي فسيستمتع غيري بهدايتك لي ، وأنا سوف أشقى بضلاله .
(1/544)

فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون مهديين جميعاً .
هذا على معنى { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } أي جميعاً . أما معنى قوله تعالى : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } أي لا تتحملون أوزار ضلالهم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر . أما المعنى الثاني فادخلوا في الإسلام بحيث لا يشذ منكم أحد . ويأخذ شيئا وبعضا من الإسلام ويترك بعضا منه ، فأنت تريد أن تبني حياتك . ورسول الله صلى الله عليه وسلم شرح أن للإسلام أسساً هي الأركان الخمسة ، وإياك أن تأخذ ثلاثة أركان وتترك ركنين؛ لأن هندسة الإسلام مبنية على خمسة أركان .
وقد قال لي أحد المهندسين : إننا نستطيع أن ننشئ بنياناً على ثلاثة أركان أو على أربعة أو على خمسة . فقلت له : ولكن حين تجعل البنيان على أربعة أركان ، وتوزيع الأحمال والأثقال على أربعة أسس ، هل يمكنك حين تُنشئ أن تجعلها ثلاثة أركان فقط؟ . قال : لا .
قلت : إذن فالبناء إنما ينشأ من البداية على الأسس التي تريدها ، ولذلك فأنت توزع القوى على ثلاثة أو أربعة أو خمسة من البداية . والله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل أسس الإسلام خمسة ، وبعد ذلك يُبْنَى الإسلام ، وحين يبنى الإسلام فإياك أن تأخذ لبنة من الإسلام دون لبنة ، بل يُؤخذ الإسلام كله ، فالضرر الواقع في العالم الإسلامي إنما هو ناتج من التلفيقات التي تحدث في العالم المسلم . تلك التلفيقات التي تحاول أن تأخذ بعضاً من الإسلام وتترك بعضا ، وهذا هو السبب في التعب والضرر؛ لأن الإسلام لابد أن يؤخذ كله مرة واحدة . إذن { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } يعني إياكم أن تتركوا حكماً من الأحكام . إن الذي يتعب المنتسبين إلى الدين الآن أننا نريد أن نلفق حياة إسلامية في بلاد تأخذ قوانينها من بلاد غير إسلامية .
إذن حتى ننجح في حياتنا ، فلابد أن نأخذ الإسلام كله . وللأسف فإن كثيراً من حكام البلاد المسلمة لا يأخذون من الإسلام إلا آخر قوله تعالى : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } إنهم يأخذون { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } ويتركون { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } .
وأقوال : لماذا تأخذون الأخيرة وتتركون ما قبلها؟ إن الله لم يجعل لولي الأمر طاعة مستقلة بل قال : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } ليدل على أن طاعة ولي الأمر من باطن طاعة الله وطاعة الرسول . فنحن لا نريد تلفيقاً في الإسلام ، خذوه كاملاً ، تستريحوا أنتم ونستريح نحن معكم .
إن الحق سبحانه وتعالى يريد بدعوتنا إلى دخول الإسلام أن يعصم الناس من فتنة اختلاف أهوائهم فخفف ورفع عن خلقه ما يمكن أن يختلفوا فيه ، وتركهم أحراراً في أن يزاولوا مهمة استنباط أسرار الله في وجوده بالعلم التجريبي كما يحبون ، فإن أرادوا رقياً فليُعْمِلُوا عقولهم المخلوقة لله؛ في الكون المخلوق لله ، بالطاقة المخلوقة لله؛ ليسعدوا أنفسهم ويدفعوها إلى الرقي ، وإن انتهى أحد منهم إلى قضية كونية ، واكتشف سراً من الأسرار في الكون فهو لن يقدم للناس جديداً في المنهج ، وسيأخذ الناس هذا الجديد ولا يعارضونه .
(1/545)

إذن فمن الممكن أن يستنبط العلماء بعضاً من أسرار قضايا الكون المادية بوساطة العلم التجريبي ، وهي أمور سيتفق عليها الناس ، ولكن البشر يمكن أن يختلفوا في الأمور النابعة من أهوائهم؛ لأن لكل واحد هوى ، وكل واحد يريد أن يتبع هواه ولا يتبع هوى الآخرين ، والحق سبحانه يريد أن يعصمنا من الأهواء لذلك قال لنا : { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } أي ادخلوا في كل صور الإسلام ، حتى لا يأتي تناقض الأهواء في المجتمع .
وكن أيها المؤمن في سلم مع نفسك فلا يتناقض لسانك مع ما في قلبك ، فلا تكن مؤمن اللسان كافر القلب . كن منسجماً مع نفسك حتى لا تعاني من صراع الملكات . وأيضاً كن داخلاً في السلام مع الكون الذي تعيش فيه ، مع السماء ، مع الأرض ، مع الحيوان ، مع النبات . كن في سلم مع كل تلك المخلوقات لأنها مخلوقة مسخرة طائعة لله ، فلا تشذ أنت لتغضبها وتُحْفِظها عليك .
كن منسجماً مع الزمن أيضاً ، لأن الزمن الذي يحدث فيه منك ما يخالف منهج الله سيلعنك هو والمكان ، وإذا أردت أن تشيع سلامك في الكون فعليك كما علمك الرسول صلى الله عليه وسلم أن تسالم كل الكون ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشيع السلام في الزمان والمكان ، وعلى سبيل المثال كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس صياماً في شعبان ، ولما سأله الصحابة عن هذا أخبرهم أن شعبان شهر يهمله الناس لأنه بين رجب ، وهو من الأشهر الحرم الأربعة وبين رمضان ، فأحب أن يحيى ذلك الشهر الذي يغفل عنه الناس ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يسعد الزمان بأن يشيع فيه لونا من العبادة فلا يجعله أقل من الأزمنة الأخرى .
كذلك الأمكنة تريد أن تسعد بك ، فكل الأماكن تسعد بذكر الله فيها . والحق سبحانه بعد أن أمرنا جميعاً بالدخول في السلم بافعل ولا تفعل ، حذرنا من اتباع الشيطان لأنه هو الذي يعمل على إبعادنا عن منهج الله فقال جل شأنه : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ البقرة : 208 ]
ولماذا لا نتبع خطوات الشيطان؟ لأن عداوته للإنسان عداوة مسبقة ، وقف من آدم هذا الموقف ، وبعد ذلك أقسم بعزة الله أن يغويكم جميعاً ، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حكى لنا القصة فكأنه أعطانا المناعة ، أي أن الشيطان لم يفاجئنا . وإنما وضع الحق أمامنا قصة الشيطان مع آدم واضحة جلية ليعطينا المناعة ، بدليل أننا حين نريد أن نصون أجسامنا نجعل لأنفسنا مناعة قبل أن يأتي المرض ، نُطعم أنفسنا ضد شلل الأطفال ، وضد الكوليرا ، وضد كذا ، وكذا ، فكأن الله سبحانه وتعالى يذكر قصة الشيطان مع أبينا آدم ليقول لنا : لاحظوا أن عداوته مسبقة .
(1/546)

وما دام له معكم عداوة مسبقة فلن يأخذكم على غرة؛ لأن الله نبهكم لتلك المسألة مع الخلق الأول . والشيطان عندما يُذكر في القرآن يراد به مرة عاصي الجن ، لأن طائع الجن مثل طائع البشر تماماً ، ومرة يريد به شياطين الإنس . إذن من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين .
وحتى تستطيع أن تفرق بين ما يزينه الشيطان وبين ما تزينه لك نفسك ، فإن رأيت نفسك مصراً على معصية من لون واحد فاعلم أن السبب هو نفسك ، لأن النفس تريدك عاصياً من لون يشبع نقصاً فيها فهي تصر عليه : إنسان يحب المال فتتسلط عليه نفسه من جهة المال ، وإنسان آخر يحب الجنس فتتسلط عليه نفسه من جهة النساء ، وثالث يحب الفخر والمديح فتتسلط عليه نفسه من جهة مَنْ ينافقه . لكن الشيطان لا يصر على معصية بعينها ، فإن رآك قد امتنعت عن معصية فهو يزين لك معصية أخرى؛ لأنه يريدك عاصياً على أية جهة .
والحق يحذرنا { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } . وليس هناك عداوة أوضح من عداوة الشيطان بعد أن وقف من آدم وقال ما أورده الحق على لسانه : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ]
ويقول الحق من بعد ذلك : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(1/547)

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
والزّلة هي المعصية ، وهي مأخوذة من " زال " ، وزال الشيء أي خرج عن استقامته ، فكأن كل شيء له استقامة ، والخروج عنه يعتبر زللا ، والزلل : هو الذنوب والمعاصي التي تُخالف بها المنهج المستقيم .
{ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } إنه سبحانه يوضح لنا أنه لا عذر لكم مطلقا في أن تزلوا؛ لأنني بينت لكم كل شيء ، ولم أترككم إلى عقولكم ، ومن المنطقي أن تستعملوا عقولكم استعمالا صحيحا لتديروا حركة الكون الذي استخلفتكم فيه ، ومع ذلك ، إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل . ولذلك قال سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
لقد رحم الله الخلق بإرسال الرسل ليبينوا للإنسان الطريق الصحيح من الطريق المعوج . والحق سبحانه وتعالى يترك بعض الأشياء للبشر ليأتوا بفكر من عندهم ثم يرتضي الإسلام ما جاءوا به ليعلمنا أن العقل إذا ما كان طبيعيا ومنطقيا فهو قادر على أن يهتدي إلى الحكم بذاته . وفي تاريخ الإسلام نجد أن سيدنا عمر قد رأى أشياء واقترح بعضا من الاقتراحات ، ووافق عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم ينزل القرآن على وفق ما قاله عمر ، وقد يتساءل أحد قائلا : ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أولى؟
نقول : لو كانت تلك الآراء قد جاءت من النبي صلى الله عليه وسلم لما كان فيها غرابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ويوحي إليه ، لكن الله يريد أن يقول لنا : أن العقل الفطري عندما يصفو فهو يستطيع أن يهتدي للحكم الصحيح ، وإن لم يكن هناك حكم قد نزل من السماء . ولذلك تستفز أحكام سيدنا عمر عدداً كبيراً من المستشرقين ويقولون : أليس عندكم سوى عمر؟ لماذا لا تقولون محمدا؟
نقول لهم : لقد تربى عمر في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم ، فما يقوله هو ، إنما قد أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أقر عمر بذلك وقال : " ما عمر لولا الإسلام " ، ونحن نستشهد بعمر لأنه بشر وليس رسولاً ، ويسري عليه ما يسري على البشر ، فلا يوحى إليه ولم يكن معصوما .
إذن كأن الحق أراد أن يُقَرِّب لنا القدرة على الاستنباط والفهم فنكون جميعا عمر؛ لأن عمر بالفطرة كان يهتدي إلى الصواب ، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " نفعل كذا " ، فينزل الوحي موافقا لرأيه ، فكأن الله لم يكلفنا شططا ، إنما جاء تكليفه ليحمي العقول من أهواء النفس التي تطمس العقول ، فآفة الرأي الهوى ، ولولا وجود الأهواء لكانت الآراء كلها متفقة .
وقديما أعطوا لنا مثلا بالمرأة التي جمعت الصيف والشتاء في ليلة واحدة ، فقد زوجت ابنها وابنتها ، وعاش الأربعة معها في حجرة واحدة ، ابنها معه زوجته ، وابنتها معها زوجها ، والمرأة معهم ، تنام نوما قليلا وتذهب لابنتها توصيها : " دفئي زوجك وأرضيه " فالجو بارد ، وتذهب لابنها وتقول : " ابعد عن زوجتك فالدنيا حر " .
(1/548)

إن المكان واحد ، والليل واحد ، لكن المرأة جعلته صيفاً وشتاء في وقت واحد والسبب هو هوى النفس . والله سبحانه يبين لنا ذلك في قوله : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ]
إذن فالحق سبحانه وتعالى يعصمنا حين يُشَرع لنا ، فالبشر يضيقون ذرعا بتقنينات أنفسهم لأنفسهم ، فيحاولون أن يخففوا من خطأ التقنين البشري ، فيقننوا أشياء يعدلون بها ما عندهم ، ولو نظرت إلى ما عدلوه من قوانين لوجدته تعديلا يلتقي مع الإسلام أو يقترب من الإسلام .
لقد سألوني في أمريكا : لماذا لم يظهر الإسلام فوق كل العقائد برغم أنكم تقولون : إن الله يقول في كتابه : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } . ومع ذلك لم يظهر دينكم على كل الأديان ، ولم يزل كثير من الناس غير مسلمين سواء كانوا يهودا أو نصارى أو بلا دين؟ قلت : لو فطنتم إلى قول الله : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } و { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } لدلكم ذلك على أن ظهور الإسلام قد تم مع وجود كفار ، وظهوره مع وجود مشركين ، وإلا لو ظهر ولا شيء معه فممن يُكرَه؟ إن العقيدة التي يكرهها أهل الكفر هي التي تعزز وجود الإسلام . إذن { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } يدل على أن ظهور الإسلام يعني وجود كافر ووجود مشرك كلاهما سيكون موجودا وسيكرهان انتشار الدين .
وعندما نرى أحداث الحياة تضطر البلاد الغربية عندما يجدون خطأ تقنينهم فيحاولون أن يعدلوا في التقنيات فلا يجدون تعديلا إلا أن يذهبوا إلى أحكام الإسلام ، لكنهم لم يذهبوا إليه كدين إنما ذهبوا إليه كنظام ، إن رجوعهم إلى الإسلام لدليل وتأكيد على صحة وسلامة أحكام الإسلام ، لأنهم لو أخذوا تلك الأحكام كأحكام دين لقال غيرهم : قوم تعصبوا لدين آمنوا به فنفذوا أحكامه . ولكنهم برغم كرههم للدين ، اضطروا لأن يأخذوا بتعاليمه ، فكأنه لا حل عندهم إلا الأخذ بما ذهب إليه الإسلام .
إذن قول الله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } قوة لنظام الإسلام ، لا لتؤمن به وإنما تضطر أن تلجأ إليه ، وكانوا في إيطاليا على سبيل المثال يعيبون على الإسلام الطلاق ويعتبرونه انتقاما لحقوق المرأة ، ولكن ظروف الحياة والمشكلات الأسرية اضطرتهم لإباحة الطلاق ، فهل قننوه لأن الإسلام قال به؟ لا ، ولكن لأنهم وجدوا أن حل مشكلاتهم لا يأتي إلا منه .
وفي أمريكا عندما شنوا حملة شعواء على تناول الخمور ، هل حاربوها لأن الإسلام حرمها؟ لا ، ولكن لأن واقع الحياة الصحية طلب منهم ذلك . إذن { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } ، { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } : معناهما أنهم سيلجأون إلى نظام الإسلام ليحل قضاياهم . فإن لم يأخذوه كدين فسوف يأخذونه نظاما .
{ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي إياكم أن تظنوا أنكم بزللكم أخذتم حظوظ أنفسكم من الله ، فإن مرجعكم إلى الله وهو عزيز وعزته سبحانه هي أنه يَغلب ولا يُغلب ، فهو يدبر أمورنا برحمة وحكمة . ويقول الحق بعد ذلك : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام . . . }
(1/549)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
أي ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم الأمور ويجدوا أنفسهم في كون وإن أخذ زخرفة فهو يتحول إلى هشيم تذروه الرياح ، ويصير الإنسان أمام لحظة الحساب .
وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ } مأخوذة من النظر . والنظر هو طلب الإدراك لشيء مطلق . وطلب الإدراك لأي شيء بأي شيء يُسمى نظرا . ومثال ذلك أننا نقول لأي إنسان يتكلم في أي مسألة معنوية : أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الإدراك أم لا؟
إذن فالنظر هو طلب الإدراك للشيء ، فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين ، وإن طلبت أن تعرف وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب . وأحيانا يُطلق النظر على الانتظار ، وهو طلب إدراك ما يتوقع .
و { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } ، يعني هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم في الزمن الخاص؟ لأنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام ، فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات كبرى ، ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى ، أن ذلك دليل على أن الله يمهلنا لنتدارك أنفسنا ، فلا يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها .
وساعة نسمع قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } نقول : ما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك : ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا على الدخول في السلم كافة وإلا فماذا تنظرون؟
و { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة } ساعة تقول : { يَأْتِيَهُمُ الله } أو " جاء ربك " أو يأتي سبحانه بمثل في القرآن مما نعرفه في المخلوقين من الإتيان والمجيء وكالوجه واليد ، فلتأخذه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فالله موجود وأنت موجود ، فهل وجودك كوجوده؟ لا .
إن الله حي وأنت حي ، أحياتك كحياته؟ لا . والله سميع وأنت سميع ، أسمعك كسمعه؟ لا . والله بصير وأنت بصير ، أبصرك كبصره؟ لا . وما دمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك ، فتأخذها بالنسبة لله في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
ولذلك يقول المحققون : إنك تؤمن بالله كما أعطاك صورة الإيمان به لكن في إطار لا يختلف عنه عمَّا في أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، وإن أمكن أن تتصور أي شيء فربك على خلاف ما تتصور ، لأن ما خطر ببالك فإن الله سبحانه على خلاف ذلك ، فبال الإنسان لا يخطر عليه إلا الصور المعلومة له ، وما دامت صورا معلومة فهي في خلق الله وهو سبحانه لا يشبه خلقه .
إن ساعة يتجلى الحق ، سيفاجئ الذين تصوروا الله على أية صورة ، أنه سبحانه على غير ما تصوروا وسيأتيهم الله بحقيقة لم تكن في رءوسهم أبداً؛ لأنه لو كانت صورة الحق في بال البشر لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره ، وهو القادر لا ينقلب مقدوراً عليه أبداً ، ومن عظمته أن العقل لا يستطيع أن يتصوره مادياً .
(1/550)

ولذلك ضرب الله لنا مثلاً يقرِّب لنا المسألة ، فقال : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ]
إن الروح الموجودة في مملكة جسمنا والتي إذا خرجت من إنسان صار جيفة ، وعاد بعد ذلك إلى عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد ، هذه الروح التي في داخل كل منا لم يستطع أحد تصورها ، أو تحديد مكانها أو شكلها ، هذه الروح المخلوقة لله لم نستطع أن نتصورها ، فكيف نستطيع أن نتصور الخالق الأعظم؟
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } يعني بما لم يكن في حسبانهم . هل ينتظرون حتى يروا ذلك الكون المنسق البديع قد اندثر ، والكون كله تبعثر ، والشمس كورت والنجوم انكدرت ، وكل شيء في الوجود تغير ، وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم . فماذا ينتظرون؟ .
إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك الأمر ، وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم ويُنهي أمد رجوعهم إلى الله . لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ أينتظرون أن يتغير الله؟ أو أن يتغير منهج الله؟ إن ذلك لن يحدث .
ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئاً يتعلق بالحق فيما يكون مثله في البشر فلنأخذه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . فكما أنك آمنت بأن لله ذاتاً لا كالذوات ، فيجب أن تعلم أن لله صفات ليست كالصفات ، وأن لله أفعالاً ليست كالأفعال ، فلا تجعل ذات الله مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتي في الصفات التي قال الله فيها عن نفسه وتجعلها مثل صفات الناس ، فإذا كان الله يجيء؛ فلا تتصور مجيئه أنه سيترك مكاناً إلى مكان ، فهو سبحانه يكون في مكان بما لا يخلو عنه مكان ، تلك هي العظمة .
فإذا قيل : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } فلا تظن أن إتيانه كإتيانك ، لأن ذاته ليست كذاتك ، ولأن الناس في اختلاف درجاتهم تختلف أفعالهم ، فإذا كان الناس يختلفون في الأفعال باختلاف منازلهم ، وفي الصفات باختلاف منازلهم ، فالحق منزه عن كل شيء وكل تصور ، ولنأخذ كل شيء يتعلق به في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ ففعْل ربك يختلف عن فعلك . وإياك أن تُخضع فعله لقانون فعلك؛ لأن فعلك يحتاج إلى علاج وإلى زمن يختلف باختلاف طاقتك وباختلاف قدرتك ، والله لا يفعل الأشياء بعلاج بحيث تأخذ منه زمناً ولكنه يقول : { كُنْ فَيَكُونُ } .
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن الإنجاز الذي لا دخل لاختيار البشر في أن يخالفوا فيه فيقول : ساعة يجيء الأمر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك الأمر وأصبح الأمر لله وحده .
و { فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام } . فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به ، والشيء الذي يظللك لا يكون لك ولاية عليه في أن يظللك إلاّ أن ترى أين ظله وتذهب إليه ، وشيء آخر تستطيع أنت التصرف فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد .
(1/551)

وكلمة " ظلل " معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يصور لنا ذلك قال : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله } [ لقمان : 32 ]
أي جاءهم الفزع الأكبر كالظلة محيطاً بهم ، فكأن الله يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله وسيأتيك الأمر المفزع ، الأمر المفجع ، والمؤمن كان يتوقعه ، وسيدخل عليه برداً وسلاماً؛ لأنه ما آمن من أجله ، لكن الكافر سيصاب بالفزع الأكبر؛ لأنه فوجيء بشيء لم يكن في حسابه .
وقارن بين مجيء الأمر لمن يؤمله ، وبين مجيء الأمر لمن لا يؤمله . إن الحق سبحانه وتعالى قال : ساعة تجيء هذه الظلل والملائكة فقد قضى الأمر . وعندما تسمع { قُضِيَ الأمر } فاعلم أن المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس ، فمن لم يرجع إلى ربه قبل الآن فليست له فرصة أن يرجع . ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوح : { وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي } [ هود : 44 ]
أي انتهى كل شيء ، ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه . فالله يقول : ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لابد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن تفلت منكم فرصة العودة . { وَإِلَى الله تَرْجَعُ الأمور } ، ومرة تأتي { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } .
وفيه فرق بين " تَرجع الأمور " بفتح التاء وبين " تُرجع الأمور " بضم التاء . فكأن الأمور مندفعة بذاتها ، ومرة تساق إلى الله . إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لأنه ذاهب إلى الخير الذي ينتظره ، أما غير الراغب والذي كان لا يرجو لقاء ربه فَسَيُرجَع بالرغم عنه ، تأتي قوة أخرى تُرجعه ، فمن لم يجيء رغَباً يأتي رهَباً .
ويقول الحق بعد ذلك : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله . . . }
(1/552)

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
فكأن الله لم يحمل على بني إسرائيل ويريد منهم أن يقروا على أنفسهم بما أكرمهم به الله من خير سابق؛ فساعة تقول : " اسأل فلاناً عما فعلته معه " ، كأنك لا تأمر بالسؤال إلا عن ثقة ، وأنه لن يجد جواباً إلا ما يؤيد قولك . والحق يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل عن الخير السابق الذي غمرهم به وهو سبحانه عليهم أنهم لن يستطيعوا مع لددهم أن يتكلموا إلا بما يوافق القضية التي يقولها الحق وتصبح حجة عليهم .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } ساعة تسمع { كَمْ } في مقام كهذا فافهم أنها كناية عن الإخبار عن الأمر الكثير بخلاف { كَمْ } التي تريد بها الاستفهام . وأنت تقول : " كم فعلت كذا مع فلان " و " كم صنعت معه معروفاً " و " كم تهاونت معه " و " كم أكرمته " . لذلك فعندما تسمع { كَمْ } هذه فاعرف أن معناها الكمية الكثيرة التي يُكنى بها على أن عدد لا يحصى .
{ سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } إن الحق يريد أن يضرب لنا مثلاً كمثل إنسان يأكل خيرك وينكر معروفك ، ويشكوك إلى إنسان ، فترد أنت لم ينقل لك الشكوى : سله ماذا قدمت له من جميل ، أنا لن أتكلم بل سأجعله هو يتكلم . وأنت لا تقول ذلك إلا وأنت على ثقة من أنه لا يستطيع أن يغير شيئاً .
ألم يفلق لهم البحر؟ . ألم يجعل عصا موسى حية؟ ألم يظللهم الله بالغمام؟ ألم يعطهم الله المن والسلوى؟ كل ذلك أعطاه الله لهم؛ فلم يشكروا نعمة الله ، فحل عليهم غضبه؛ أخذهم بالسنين والجوع وأخذهم بالقمل والضفادع والدم ، كل ذلك فعله الله معهم . . وحين يقول الحق لرسوله : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } فالقول منسحب على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا جاءك واحد منهم فاسأله : كم آيةٍ أعطاها الله لكم فأنكرتموها ، وتلكأتم . وتعنّتُّم . { كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } إن { كَمْ } تدل على الكمية الكبيرة ، و { مِّنْ آيَةٍ } : معناها الأمر العجيب . و { بَيِّنَةٍ } تعني الأمر الواضح الذي لا يمكن أن يغفل عنه أحد .
{ سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } . وكيف يبدل الإنسان نعمة الله؟ . إن نعمة الله حين تصيب خلقاً فالواجب عليهم أن يستقبلوها بالشكران ، ومعنى الشكران هو نسبتها إلى واهبها والاستحياء أن يعصوا من أنعم عليهم بها . فإذا استقبل الناس النعمة بغير ذلك فقد بُدِلَت . ولذلك يقول الحق في آية أخرى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } وما داموا قد بدلوها كفراً ، فيكون الكفر هو الذي جاء مكان الإيمان .
(1/553)

إذن كان المطلوب أن يقابلوا النعمة بالإيمان ، بالازدياد في التقرب إلى الله ، لكنهم بدلوا النعمة بالكفر .
{ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } قد نفهم أن معنى { شَدِيدُ العقاب } هو أمر يتعلق بالآخرة ، ولعل أناساً يستبطئون الآخرة ، أو أناساً غير مؤمنين بالآخرة ، فلو كان الأمر بالعقاب يقتصر على عقاب الآخرة لشقي الناس بمن لا يؤمنون بالآخرة . . أو يستبطئونها لأن هؤلاء يعيثون في الأرض فساداً؛ لأنهم لا يخافون الآخرة ولا يؤمنون بها ، أو أنها لا تخطر ببالهم .
فالذي يؤمن بأن هناك آخرة تأتي وسيكون فيها حساب ، هو الذي سيكون سلوكه على مقتضى ذلك الإيمان . أما الذي لا يؤمن أن هناك يوماً آخر فالدنيا تشقى به . فإذا لم يعجل الله بلون من العقوبة للذين لا يؤمنون بالآخرة أو الذين يستبطئون الآخرة لشقي الناس بهؤلاء الذين لا يؤمنون أو يستبطئون .
وكل جماعة لا تقبل على منهج الله ، ويبدلون نعمة الله كفراً لابد أن يكون لله فيهم عقاب عاجل ، وذلك ليعلم الناس أن من لم يرتدع إيماناً وخوفاً من اليوم الآخر فعليه أن يرتدع مخافة أن يأتيه العقاب في الدنيا . فالظالم إذا علم أن ظالماً مثله لقي عقابه وحسابه في الدنيا فسيخاف أن يظل؛ وإن لم يكن مؤمناً بالآخرة ، لأنه سيتأكد أن الحساب واقع لا محالة . ولذلك لا يؤجل الله العقاب كله إلى الآخرة ولكن ينزل بعضا منه في الدنيا . ويقول الحق في الذين يبدلون نعمة الله كفراً : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } [ إبراهيم : 28-29 ]
هذه عقوبة الآخرة ولن يتركهم الله في الدنيا دون أن ينالهم العقاب .
وحتى الذين يظلمون ويتعسفون مع أنهم مسلمون لا يتركهم الله بلا عقاب في الدنيا حتى يأتيهم يوم القيامة بل لابد أن يجيء لهم من واقع دنياهم ما يخيف الناس من هذه الخواتيم حتى تستقيم حركة الحياة بين الناس جميعا ، وإلا فسيكون الشقاء واقعا على الناس من هؤلاء ومن الذين لا يؤمنون بعقاب الآخرة .
وكان بعض الصالحين يقول : " اللهم إن القوم قد استبطأوا آخرتك وغرهم حلمك فخذهم أخذ عزيز مقتدر "؛ لأنه سبحانه لو ترك عقابهم للآخرة لفسدوا وكانوا فتنة لغيرهم من المؤمنين . ولذلك شاء الله أن يجعل في منهج الإيمان تجريماً وعقوبة تقع في الدنيا ، لماذا؟ حتى لا يستشري فساد من يشك في أمر الآخرة . وشدة عقاب الله لا يجعلها في الآخرة فقط ، بل جعلها في الدنيا أيضاً؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 124 ]
ثم يقول سبحانه وتعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة . . . }
(1/554)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع الإنسان في الكون ، هذا الواقع الذي يدل على أنه سيد ذلك الكون ، ومعنى ذلك أن كل الأجناس تخدمه . وقد عرفنا أن الجماد يخدم النبات ، والجماد والنبات يخدمان الحيوان ، والجماد والنبات والحيوان تخدم الإنسان ، فالإنسان سيد هذه الأجناس .
وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه ، فكما كانت الأجناس التي دونه في خدمته ، فلابد أن يكون هذا الجنس الأعلى يناسب سيادته ، ولن يجد شيئا في الوجود أبدا أعلى من الجنس الذي ينتسب إليه ، لذلك كان المفروض أن يقول الإنسان : أنا أريد جنسا ينبهني عن نفسي؛ فأنا في أشد الاحتياج إليه . فإذا جاء الرسل وقالوا : إن الذي أعلى منك أيها الإنسان هو الله وليس كمثله شيء وتعالى عن كل الأجناس . كان يجب على الإنسان أن يقول : مرحبا؛ لأن معرفة الله تحل له اللغز . والرسل إنما جاءوا ليحلوا للإنسان لغزاً يبحث عنه ، وكان على الإنسان أن يفرح بمجيء الرسل ، وخصوصاً أن الله عز وجل لا يريد خدمة منه ، إن الإنسان هو الذي يحتاج لعبادة الله ليسخر له الكائنات ، ويعبده ليعزه . إذن فالمؤمن بين أمرين : بين خادم له مسخر وهو من دونه من الجهاد والنبات والحيوان ، ومعطٍ متفضلٍ عليه مُختارٍ وهو أعلى منه . إنه هو الله .
فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الأدنى وترك الأعلى ، فيقول له الحق : خذ الأعلى . فإذا كنت سعيداً بعطاء المخلوقات الأدنى منك ، وتحب أن تستزيد منها فكيف لا تستزيد ممن هو أعلى منك؟ . إنه الله .
والحق عندما يقول : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } فهو يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين مقاييس هابطة نازلة؛ لأن الذي زُين لهم هو الأمر الأدنى . ومن خيبة التقدير أن يأخذ الإنسان الأمر الأدنى ويفضله على الأعلى . وكلمة { زُيِّنَ } عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم فاعله مثل قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } [ آل عمران : 14 ]
هناك { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } وفي آية البقرة التي نحن بصددها { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } لماذا قال الحق هناك : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } ولماذا قال هنا : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ؟ لقد قال الحق ذلك لأن الذين كفروا ليس عندهم إلا الحياة الدنيا ، فالأعلى لا يؤمنون به ، ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول الله عز وجل : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } فهو سبحانه يقول للناس : خذوا الحياة على قدرها . وزُينت يعني حسُنت . فمن الذي حسنها؟ لقد حسنها الله عز وجل .
(1/555)

فكيف تنسى الذي حسنها لك ، وجعلها جميلة وجعلها تحت تصرفك .
كان يجب أن تأخذها وسيلة للإيمان بمن رزقك إياها ، وكلما ترى شيئا جميلا في الوجود تقول : " سبحان الله " ، وتزداد إيمانا بالله ، أما أن تأخذ المسألة وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس النازل .
أو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه هذه الحياة الدنيا ، ونقول : هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجا لتعلية هذه الغرائز؟ لا ، لقد أعلى الغرائز وأعطى المنهج لتعلية الغرائز ، فلا تأخذ هذه وتترك تلك . ولذلك يقول الحق : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ } [ الكهف : 46 ] والحق عندما يقول : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } فهو يفضح من يعتقدون أنه لا حياة بعد هذه الحياة ، ونقول لهم : هذا مقياس نازل ، وميزان غير دقيق ، ودليل على الحمق؛ لأنكم ذهبتم إلى الأدنى وتركتم الأعلى . ومن العجيب أنكم فعلتم ذلك ثم يكون بينكم وبين من اختار الأعلى هذه المفارقات . أنتم في الأدنى وتسخرون من الذين التفتوا إلى الأعلى ، إن الحق يقول : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ } . لماذا يسخرون منهم .
لأن الذين آمنوا ملتزمون ، ومادام الإنسان ملتزما فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي تأتيه من غير حل ، لكن هؤلاء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من الحياة .
لذلك تجد إنساناً يعيش في مستوى دخله الحلال ، ولا يملك إلا حُلَّةً واحدة " بدلة " ، وإنساناً آخر يسرق غيره ، فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن المظهر والهندام وعندما يلتقي الاثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على الحلال ، لماذا؟ لأنه يعتبر نفسه في مقياس أعلى منه ، يرى نفسه حسن الهندام و " الشياكة " فيحسم الحق هذه المسألة ويقول : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } . لماذا يوم القيامة ، أليسوا فوقهم الآن؟
إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس؛ لأنهم لا ينظرون إلى الراحة النفسية وهي انسجام ملكات الإنسان حينما يذهب لينام ، ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ولا سقطة خلقية ، ولا يؤذي أحداً ، ولا يرتشي ، ولا ينم ولا يغتاب ، كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعاله يومه قبل نومه؟ لابد أن يكون في سعادة لا تقدر بمال الدنيا .
ولذلك لم يدخل الله هذا الإحساس في المقارنة ، وإنما أدخل المسألة التي لا يقدر عليها أحد . { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 29-33 ]
ثم يقول الحق بعد ذلك : { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
(1/556)

[ المطففين : 34-36 ]
أي هل عرفنا أن نجازيهم؟ نقول : نعم يا رب . خصوصا أن ضحك الآخرة ليس بعده بكاء .
{ والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } ولنلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى خالف الأسلوب في هذه الآية ، لقد كان المفروض أن يقول : والذين آمنوا فوقهم . لكنه قال : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ } لأنه قد يؤخذ الإيمان على أنه اسم ، فقد شاع عنك أنك مؤمن ، فأنت بهذا الوصف لا يكفي لتنال به المرتبة السامية إلا إذا كانت أفعالك تؤدي بك إلى التقوى .
فلا تقل : " أنا مؤمن " ويقول غيرك : " أنا مؤمن " ، ويصبح المؤمنون مليارا من البشر في العالم ، نقول لهؤلاء : أنتم لن تأخذوا الإيمان بالاسم وإنما تأخذون الإيمان بالالتزام بمنهج السماء . ولذلك لم يقل الله : " والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة " وإنما قال : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } ليعزل الاسم عن الوصف . ويذيل الحق الآية بالقول الكريم : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . ما هو الرزق؟ الرزق عند القوم : هو كل ما ينتفع به؛ فكل شيء تنتفع به هو رزق . وطبقا لهذا التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام رزقا ، ولكنه رزق حرام .
والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائما وهو " المال " نقول لهم : لا ، إن الرزق هو كل ما يُنتفع به ، فكل شيء يكون مجاله الانتفاع يدخل في الرزق : علمك رزق ، وخُلُقُك رزق ، وجاهك رزق ، وكل شيء تنتفع به هو رزق . ساعة تقول : إن كل ذلك رزق تأخذ قول الله : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } [ النحل : 71 ]
كأن الله يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم ، وكل إنسان متميز وتزيد عنده حاجة عليه أن يردها على الناس ، لكن الناس لا تفهم الرزق إلا على أنه مال ، ولا يفهمون أنه يطلق على كل شيء ينتفعون به .
إذا كان الأمر كذلك فما معنى { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } كلمة { بِغَيْرِ حِسَابٍ } لابد أن نفهمها على أن الحساب يقتضي مُحاسِب ، ومُحَاسَب ، ومُحَاسَب عليه . وعلى هذا يكون { بِغَيْرِ حِسَابٍ } ممن ولمن وفي ماذا؟
إنه رزق بغير حساب من الله؛ فقد يرزقك الله على قدر سعيك . وربما أكثر ، وهو يرزق بغير حساب ، لأنه لا توجد سلطة أعلى منه تقول له : لماذا أعطيت فلانا أكثر مما يستحق .
وهو يرزق بغير حساب؛ لأن خزائنه لا تنفد . ويرزق بغير حساب؛ لأنه لا يحكمه قانون ، وإنما يعطي بطلاقة القدرة . إنه جل وعلا يعطي للكافر حتى تتعجب أنت وتقول : يعطي الكافر ولا يعطي المؤمن لماذا؟
إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأله لماذا يفعل ذلك؟ إنه يعطي مقابلا للحسنة سبعمائة ضعف بغير حساب . إن الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدوداً ، فإذا أخذت مثلا مائة من ألف فأنت طرحت معدوداً من معدود فلا بد أن ينقص ، وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء .
(1/557)

لكن الله بخلاف ذلك ، إنه يعطي معدوداً من غير معدود .
إذن ساعة تقرأ { بِغَيْرِ حِسَابٍ } فقل إن الحساب إن كان واقعا من الله على الغير ، فهو لا يعطي على قدر العمل بل يزيد ، ولن يحاسب نفسه ولن يُحاسبه أحد . { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ]
إذن { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى غيره قد رُزق أكثر منه؛ لأنه لا يعلم حكمة الله فيها . وهناك أناس كثيرون عندما يعطيهم الله نعمة يقولون : " ربنا أكرمنا ، وعندما يسلبهم النعمة يقولون : " ربنا أهاننا " ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15-16 ]
كلا . مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من الله ، وأنت مخطئ أيضاً يا مَن اعتبرت سلب النعمة إهانة من الله؛ إن النعمة لا تكون إكراما من الله إلا إذا وفقك الله في حسن التصرف في هذه النعمة ، وحق النعمة في كل حال يكون بشكر المنعم ، وعدم الانشغال بها عمن رزقك إياها .
ونحب أن نفهم أيضا أن قول الله سبحانه وتعالى : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ينسحب على معنى آخر ، وهو أنه سبحانه لا يحب أن تُقَدِّر أنت رزقك بحساب حركة عملك فقط؛ فحساب حركة عملك قد يخطئ . مثال ذلك الفلاح الذي يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ من الأرض ، وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما نلاحظ ونشاهد ، ويصبح رزق الفلاح في ذلك الوقت من مكان آخر لم يدخل في حسابه أبداً .
ولهذا فإن على الإنسان أن يعمل في الأسباب ، ولكنه لا يأخذ حسابا من الأسباب ، ويظن أن ذلك هو رزقه؛ لأن الرزق قد يأتي من طريق لم يدخل في حسابك ولا في حساباتك ، وقال الحق في ذلك : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2-3 ]
وبعد ذلك يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ما يوضح لنا ويبين قضية العقيدة وموكب الرسالات في الأرض ، بداية وتسلسلاً وتتابعاً في رسل متعاقبين ، فقال الحق سبحانه وتعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ . . . }
(1/558)

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
ولقائل أن يقول : إذا كان الناس أمة واحدة ، وقد رتب الله بعث وإرسال النبيين على كونهم أمة واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ ونقول : لابد أن تُحمل هذه الآية المجملة على آية أخرى مفصلة في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ يونس : 19 ]
لابد لنا إذن أن نأخذ هذه الآية في ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب العقل البشري يريد أن بخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل كلام الله بجماع تفكيره ، وأن يكون القرآن كله حاضراً في ذهنك ، ويخدم بعضه بعضا .
{ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين } . فقبل بعث الله النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون آدم ، وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن اجتباه وهداه ، وعلم آدم أبناءه منهج الله ، فظل الناس من أبنائه على إيمان بعقيدة واحدة ، ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلاف أهوائهم ، فالعالم كان واسعاً ، وكانت القلة السكانية فيه هي آدم وأولاده فقط ، وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا . إذن لا تطاحن على شيء ، ومن يريد شيئاً يأخذه ، وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لأنه لم تكن هناك ملكية لأحد؛ فمن يريد أن يبني بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا ، ومن يريد أن يأكل فاكهة أو يأخذ ثمراً من أي بستان فله أن يأخذ ما يريد .
والمثال على ذلك في حياتنا اليومية ، هناك رب الأسرة الذي يأتي بعشرين كيلو برتقالاً ويتركها أمام أولاده ، وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بلا حرج ، لكن لو اشترى رب البيت كيلو برتقالاً واحداً فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط .
إذن كان الناس أمة واحدة ، أي لم توجد الأطماع ، ولم يوجد حب الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون . إذن فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا ، ومن هنا ينشأ الهوى .
وكان من المفروض في آدم عليه السلام بعد أن بلغه الله المنهج أن يبلغه لأولاده ، وأن يتقبل أبناؤه المنهج ، ولكن بعض أولاده تمرد على المنهج ، ونشأ حب الاستئثار من ضيق المُسْتَأثر والمُنْتَفع به ، ومن هنا نشأت الخلافات . ولنا في قصة هابيل وقابيل ما يوضح ذلك : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ]
ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود ، حواء تلد توأمين في كل مرة ، وأراد آدم أن يزاوجهم فكيف تكون المزاوجة وهم جميعاً أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن الذي أمامه هو أخوه .
(1/559)

لقد واجه الشرع تلك المشكلة في ذلك الوقت ، واعتبر أن البعد هو بعد البطن ، أي أن الذي يولد مع أخيه في بطن واحد فهو أخوه ، أما الذي وُلد بعده أو قبله فكأنه ليس أخاه ، لذلك كان آدم وحواء يبادلان زواج الأبناء حسب ابتعاد البطون ، وكان الغرض من هذا التباعد أن تكون المرأة وكأنها أجنبية عن أخيها .
روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : " أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر ، وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه . وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى ، فأمرهما أن يقربا قرباناً فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم ، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه فنزلت نارُ فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ، فقال : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } .
إذن ، كان ميلاد أول خلاف بين البشر حينما تنافس اثنان للاستئثار بمنفعة ما ، وكان هذا مثالاً واضحاً لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافق عن الأطماع .
{ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } لكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع ، وأصبح لكل إنسان هوى . ولو شاء الله أن يجعل منهجه لآدم منهجاً دائماً إلى أن تقوم الساعة لفعل . لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه خلقنا ، ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة ، ونلتزم مرة ، ونهمل مرة أخرى ، فشاء الله أن يواصل لخلقه مواكب الرسل . ولذلك يأتي قول الحق : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } . ومهمة " التبشير والإنذار " هي أن يتذكر الناس أن هناك جنة وناراً ، ولذلك يبشر كل رسول مَنْ آمن من قومه بالجنة ، وينذر مَنْ كفر من هؤلاء القوم بالنار . ويذكرنا الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا على وحدانيته فقال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } [ الأعراف : 172-173 ]
يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو كما أنه فطرهم على ذلك : ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود من آدم جاء للخلق الأول وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الأهواء غير موجودة ، فظل المنهج مطبقا بين بني آدم . وبعد ذلك تعددت الأهواء ، وتعدد الأهواء إنما ينشأ عن الاستئثار بالمنافع ، وذلك بسبب الخوف من استئثار الغير ، فنشأ حب الذات ، ولما كانت المنافع لا تتسع لأطماع الناس فقد استشرى حب الاستئثار والتملك .
ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر الأسواق .
(1/560)

وتستطيع أن تشتري أي سلعة في أي وقت تحب ، وتجدها متوافرة ، عند ذلك لا توجد أزمة ، لكن الأزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس ، فيتكالب الناس على الاستئثار بها . وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد ، وتكون دون الأطماع هنا تتولد المشكلات .
ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق ، ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم وأمام استئثارهم بالمنافع ، أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا . { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } فكأن الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا ، وإنما الغفلة من الناس هي التي أوجدت هذا الاختلاف . { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ } ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغي ، والبغي هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه . وما دام كل منا يريد أن يأخذ غير حقه فلا بد أن ينشأ البغض .
{ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ } أي أن الله يهدي الذين آمنوا من كل قوم بالرسول الذي جاء مبشرا ومنذرا وحاملا منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . وبذلك يظل المنهج سائداً إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس ، وتبدأ من خلالها المطامع ويحدث النسيان لمنهج الله ، وتنشأ الأهواء ، فيرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم ، واستمر هذا الأمر حتى جاءت رسالة الإسلام خاتمة وبعث الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم للدنيا كافة ، وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى ألا ينشأ خلاف في الأصل؛ لأننا لو كنا سنختلف في أصل العقيدة لجرى علينا ما جرى على الأمم السابقة . هم اختلفوا فأرسل الله لهم رسلا مبشرين ومنذرين ، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الاختلاف في أصل العقيدة . وإن اختلف الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يسترشدوا بالمنهج الحق المتمثل في القرآن والسنة .
ونعرف أن من مميزاته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء بحق ، ولن تجد في الموكب الرسالي رسولا أوكل له الله أن ينشئ حكما جديدا لم ينزل في كتاب الله إلا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم . لقد أعطى الله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التفويض في أن يشرع عن الله؛ في ظل عصمة الله له فقد قال سبحانه : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ]
إنه أمر واضح للمؤمنين بأن يأتمروا بأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، لأن ما يأمرهم به فيه الصلاح والخير ، وأن ينتهوا عما ينهاهم عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما ينهي عن الأمور التي ليس فيها خير لأمة المسلمين .
(1/561)

ويأمر الحق جل وعلا جماعة المسلمين بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها من طاعة الله ، فيقول جل وعلا : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [ النساء : 80 ]
وهكذا نرى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله ، ومن يعرض عن طاعته فله العقاب في الآخرة . ويؤكد الحق سبحانه على طاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } [ آل عمران : 32 ]
هكذا نعرف أن طاعة الرحمن تستوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم . إذن فقد فوض الله رسوله أن يُشَرِّع للبشر . وهو عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى .
وميزة أخرى لأمة المسلمين هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك لنا حق الاجتهاد في المسائل التي لم يأتي فيها نص في القرآن ولا من السنة ، أو ورد فيها نص ولكنه يحتمل أكثر من معنىً ، ومعنى ذلك أن الحق سبحانه قد أمِنَ أمة محمد عليه الصلاة والسلام بأن تصل بالاجتهاد لما يحسم أي خلاف ، وأن أي اختلاف لن يصل إلى الجوهر . فلو علم الله أزلا أننا سوف نختلف اختلافا في صحيح العقيدة لكان قد أرسل لنا رسلاً .
ونحن نجد كل الاختلافات بين طوائف المسلمين لا تخرج عن إطار فهم نصوص القرآن أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل مسلم يريد أن يستقي دليله من الكتاب والسنة .
ومعنى ذلك أننا لن نترك الأصل ، ولكن كل منا يريد أن يأخذ الحكم الصحيح بل إننا نجد أن بعضا من المسلمين الذين لم يجدوا دليلهم من القرآن والسنة قد حاولوا أن يضعوا حديثا ينسبونه إلى رسول الله ليبنوا عليه الحكم الذي يريدونه . وهؤلاء مأواهم النار؛ لأنهم نطقوا بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله الرسول الكريم لقد كذبوا عليه ، ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار .
إذن فكلنا نلتقي حول القرآن والسنة والنبوية ، أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أن يكون الناس أذكياء وعلى علم حتى يعرفوا هل المأخوذ من القرآن مقبول أو غير مقبول؟ وهل الأحاديث المستند إليها بمقاييس الجرح والتعديل موجودة أو لا؟ إذن فحصافة الاجتهاد والرأي عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم جعلتهم مأمونين على كل شيء في المنهج . وأن الخلاف فيما بينهم لم يصل إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة ، ولكن عليهم أن ينتهوا ويرتقوا حتى يميزوا الأمور التي تكون من غير معطيات القرآن ، ثم يريد قوم أن يحملوها على القرآن .
إن عليهم ألا يفسروا القرآن حسب أهوائهم بل حسب ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون هواهم تبعا لما جاء به وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قد أمِنَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم على القرآن وعلى رسالة الإسلام ، والقرآن ورسالة الإسلام لن يصيبها التغيير أو التحريف ، وكل ما هو مطلوب أن يكون المؤمنون أهل دقة وفطنة ، فإذا أراد إنسان أن يستغل أية سلطة زمنية أو أن يجيء بحديث موضوع ليروج لباطله فعلى المسلمين أن يكشفوا سوء مقصد هذا الإنسان .
(1/562)

فنحن نفهم أن الله شاء بالإسلام حياة القيم ، كما شاء بالماء حياة المادة ، والماء حتى يظل ماء فلا بد أن يظل بلا طعم ولا لون ولا رائحة ، فإذا أردت أن تجعل له طعماً خرج عن خاصيته؛ ربما أصبح مشروبا أو عصيراً أو غير ذلك ، وقد يحب بعض الناس نوعا من العصير ، لكن كل الناس يحبون الماء؛ لأن به تُصان الحياة ، فإذا رأيت ديناً قد تلون بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن ذلك خارج عن نطاق الإسلام . وكل جماعة تريد أن تصبغ دين الله بلون إنما يخرجونه عن طبيعته الأصلية ، ولذلك نجد أمتنا في مصر قد صانت علوم الإسلام بالأزهر الشريف وكل عالم من علماء الإسلام في أي بقعة من بقاع الأرض مدين للأزهر الشريف . ونجد أننا نحب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا نجد عندنا متشيعا واحدا ، وفي الوقت نفسه لا نجد واحداً يكره أبا بكر وعمر ، وهذا هو الإسلام الذي لا يتلون؛ لأنه إسلام الفطرة . { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ]
فالذين يحاولون في زمان من الأزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو برسوم أو هيئة خاصة نقول لهم : أنتم تريدون أن تُخرجوا الإسلام عن عموميته الفطرية التي أرادها الله له ، ولابد أن تقفوا عند حد الفطرة الإسلامية ، ولا تلونوا الإسلام هذا التلوين . وبذلك نحقق قول الله : { فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ونعرف أن الهداية معناها الأمر الموصل للغاية ، وحين ترد الهداية من الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفهم أن الهداية من الله ترد على معنيين : المعنى الأول هو الدلالة على الطريق الموصل ، والمعنى الثاني هو المعونة .
وضربت من قبل المثل بشرطي المرور الذي يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التي تريدها ، فإن احترمت كلامه ونفذته فهو يعطي لك شيئاً من المعونة ، بأن يسير معك أو يوصلك إلى المكان الذي تريد . فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى؟ إنه يهدي الجميع بمعنى يدلهم ، فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى ، وهي أن يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه . وبعضنا يدخله العجب عندما يسمع قول الحق :
(1/563)

{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ } [ فصلت : 17-18 ]
بعضنا يتعجب متسائلا : كيف يقول سبحانه : إنه هداهم ، ثم استحبوا العمى على الهدى؟ ونقول : إن " هداهم " جاءت هنا بمعنى " دلّهم " لكنهم استحبوا العمى على الهدى ، أما الذين استجابوا لهداية الدلالة وآمنوا فقد أعانهم الله وأنجاهم؛ لأنهم عرفوا تقواه سبحانه .
ونحن نسمع بعض الناس يقولون : ما دام الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فما ذنب الذي لم يهتد؟ نقول : إن الحق يهدي من شاء إلى صراط مستقيم؛ أي يبين الطريق إلى الهداية ، فمن يأخذ بهداية الدلالة يزده الله بهداية المعونة وييسر له ذلك الأمر . ونحن نعلم أن الله نفى الهداية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آية ، وأثبتها له في آية أخرى برغم أنه فعل واحد لفاعل واحد . قال الحق نافيا الهداية عن الرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ]
والحق يذكر للرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في موضع آخر فيقول له : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ]
ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان : هداية الدلالة ، فهو " يهدي " أي يدل الناس على طريق الخير . وهناك هداية أخرى معنوية ، وهي من الله ولا دخل للرسول صلى الله عليه وسلم فيها ، وهي هداية المعونة .
إذن قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } معناها : أنك تدل على الصراط المستقيم ، ولكن الله هو الذي يعين على هذه الهداية . { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فعلينا أن نستحضر الآيات التي شاء الله أن يهدي فيها مؤمنا وألا يهدي آخر . ويقول الحق سبحانه : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ]
معنى ذلك أن الله لا يهدي إلا الذين آمنوا به . وهدايته للمؤمنين تكون بمعونتهم على الاستمرار في الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدلالة ولكن الحق يختص المؤمنين بهداية المعونة . والحق يقول في ذلك : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ التوبة : 109 ]
إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذي يؤسس بنيان حياته على تقوى من الله ابتغاء الخير والجنة ، وهو الذي جاءته هداية الدلالة فاتبعها ، فجاءته هداية المعونة من الله . وبين ذلك الذي يؤسس بنيان حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به البنيان في نار جهنم ، إنه الذي جاءته هداية الدلالة فتجاهلها ، فلم تصله هداية المعونة ، ذلك هو الظالم المنافق الذي يريد السوء بالمؤمنين . والحق تبارك وتعالى يقول : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ التوبة : 80 ]
إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يُظهرون الإسلام ، ويبطنون الكفر فلن يغفر الله لهم ، لماذا؟ لأن هداية الدلالة قد جاءت لهم فادعوا أنهم مؤمنون بها ، ولم تصلهم هداية المعونة؛ لأنهم يكفرون بالله ورسوله ، والله لا يهدي مثل هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم عن منهج الله . وبعد ذلك يقول الحق : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم . . . }
(1/564)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلاءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا الظن ويقول : ليس الأمر كذلك ، بل لابد من تحمل تبعات الإيمان ، فلو كان الإيمان بالقول لكان الأمر سهلا ، لكن الذي يُصَعِبُ الإيمان هو العمل ، أي حمل النفس على منهج الإيمان . لقد استكبر بعض من الذين عاصروا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : " لا إله إلا الله " لأنهم فهموا مطلوبها؛ لأن الأمر لو اقتصر على مجرد كلمة تقال بلا رصيد من عمل يؤديها ، لكان أسهل عليهم أن يقولوها ، لكنهم كانوا لا يقولون إلا الكلمة بحقها ، ولذلك أيقنوا تماما أنهم لو قالوا : " لا إله إلا الله " لانتهت كل معتقداتهم السابقة ، لكنهم لم يقولوها؛ لأنهم أبوا وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها .
إن الحق يقول : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء } فما العلاقة بين هذه الآية وما سبق من الآيات؟ لقد كان الحديث عن بني إسرائيل الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا ، وصارت لهم أهواء يحرفون بها المنهج . أما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا للابتلاء ، وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب .
ونحن نعرف في النحو أن هناك أدوات نفي وجزم . ومن أدوات النفي " لم " و " لما " فعندما نقول : " لم يحضر زيد " فهذا حديث في الماضي ، ومن الجائز أن يحضر الآن . ولكن إذا قلت : " لما يحضر زيد " فالنفي مستمر حتى الآن ، أي أنه لم يأتي حتى ساعة الكلام لكن حضوره ومجيئه متوقع . ولذلك يقول الحق : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ]
وعندما سمع الأعراب ذلك قالوا : نحمد الله ، فمازال هناك أمل أن نؤمن . لقد أراد الله أن يكون الأعراب صادقين مع أنفسهم ، وقد نزلت هذه الآية كما يقول بعض المفسرين في قوم من بني أسد ، جاءوا إلى المدينة في سنة جدب ، وأعلنوا الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وكانوا يطلبون الصدقة ، ويحاولون أن يمنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يقاتلوه كما فعل غيرهم ، فجاءت هذه الآية لتوضح أن الإيمان درجة أرقى من إظهار الإسلام . لكن ذلك لا يعني أنهم منافقون ، ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار الإسلام لا يعني الإيمان؛ لأن الإيمان عملية قلبية .
لقد أعلنوا الخضوع لله ، وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو كل الإيمان . وهم قالوا : { آمَنَّا } فقال الحق لهم : لا لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع أنفسكم فالإيمان عملية قلبية ، ولا يقال إنك آمنت؛ لأنها مسألة في قلبك ، ولكن قل أسلمت ، أي خضعت وفعلت مثلما يفعل المؤمنون ، فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان .
(1/565)

إن ذلك هو موضوع آخر . هنا تقول الآية : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } أي لا يمكن أن تدخلوا الجنة إلا إذا جاءكم من الابتلاء مثل من سبقكم من الأمم ولابد أن تُفتنوا وأن تمحصوا ببأساء وضراء ، ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة ، فلا تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الاختبار ، فأنتم لن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء ، بل على العكس سيكون لكم الابتلاء على قدر النعماء .
أنتم ستأخذون مكانة عالية في الأمم ولذلك لابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر مكانتكم ، فإن كنتم ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الدنيا فلا بد أن يكون ابتلاؤكم على قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم .
{ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ } إن قول الله : { وَلَمَّا } يفيد بأن ما حدث للذين من قبلهم من ابتلاء عليهم سيقع على المؤمنين مثله .
وعندما نتأمل قوله الحق : { وَزُلْزِلُواْ } فأنت تكتشف خاصية فريدة في اللغة العربية ، هذه الخاصية هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة ، فكلمة " زلزلوا " أصلها زلزلة ، وهذه الكلمة لها مقطعان هما " زل ، زل " . و " زل " : أي سقط عن مكانه ، أو وقع من مكانه ، والثانية لها المعنى نفسه أيضاً ، أي وقع من مكانه ، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر : وقوع أول ، ووقوع ثانٍ ، والوقوع الثاني ليس امتداداً للوقوع الأول؛ ولكنه في اتجاه معاكس ، فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة ، إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الأولى في الاتجاه ، فكأنها سقوط جهة اليمين مرة ، وجهة الشمال مرة أخرى .
ومثل ذلك " الخلخلة " أي حركة في اتجاهين معاكسين " خَلّ " الأولى جهة اليمين ، و " خَلّ " الثانية جهة اليسار ، وبهذا تستمر الخلخلة .
وهكذا " الزلزلة " تحمل داخلها تغير الاتجاه الذي يُسمى في الحركة بالقصور الذاتي . والمثال على ذلك هو ما يحدث للإنسان عندما يكون راكباً سيارة ، وبعد ذلك يأتي قائد السيارة فيعوقها بالكابح " الفرامل " بقوة ، عندئذ يندفع الراكب للأمام مرة ، ثم للخلف مرة أخرى ، وربما تكسر زجاج السيارة الأمامي حسب قوة الاندفاع؛ ما الذي تسبب في هذا الاندفاع؟ إن السبب هو أن جسم الراكب كان مهيأ لأن يسير للأمام؛ والسائق أوقف السيارة والراكب لا زال مهيأ للسير للأمام ، فهو يرتج ، وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة . وعملية " الزلزلة " مثل ذلك تماماً ، ففيها يصاب الشيء بالارتجاج للأمام والخلف ، أو لليمين واليسار ، وفي أي جهتين متعاكستين .
(1/566)

و { وَزُلْزِلُواْ } يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى ، الملهية ، المتكررة ، وهي لا تتكرر على نمط واحد ، إنما يتعدد تكرارها ، فمرة يأخذها الإيمان ، ثم تأخذها المصائب والأحداث ، وتتكرر المسألة حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه : { متى نَصْرُ الله } ؟
ويأتي بعده القول : { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } فهل يتساءلون أولاً ، ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون على أنفسهم { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين { متى نَصْرُ الله } وبين { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } ؟ .
لقد بلغ الموقف في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختيار والابتلاء إلى القمة ، ومع ذلك واصل الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه الاستمساك بالإيمان . لقد مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ، أي أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم ، حتى وصل الأمر من أثر هذه الهزة أن { يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } . إن مجيء الأسلوب بهذا الشكل { متى نَصْرُ الله } يعني استبطاء مجيء النصر أولاً ، ثم التبشير من بعد ذلك في قوله الحق : { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } . ولم يكن ذلك للشك والارتياب فيه . وهذا الاستبطاء ، ثم التبشير كان من ضمن الزلزلة الكبيرة ، فقد اختلطت الأفكار : أناس يقولون : { متى نَصْرُ الله } فإذا بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائلا : { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } .
وسياق الآية يقتضي أن الذين قالوا : { متى نَصْرُ الله } هم الصحابة ، وأن الذي قال : { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى قضية أخرى ، هذه القضية شاعت في هذه الصورة وهي ظاهرة سؤال المؤمنين عن الأشياء ، وهي ظاهرة إيمانية صحية ، وكان في استطاعة المؤمنين ألا يسألوا عن أشياء لم يأتي فيها تكليف إيماني خوفاً من أن يكون في الإجابة عنها تقييد للحركة ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " .
ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة ، وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا التكليف من الله؛ فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلامياً ، ويريدون أن يسألوا عن حكم الإسلام في كل عمل ليعملوا على أساسه . يقول الحق سبحانه وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ . . . }
(1/567)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً فقال : يا رسول الله ، إن مالي كثير فبماذا أتصدق ، وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط ، بل كان يترجم عن مشاعر غيره أيضا ، ولذلك جاءت الإجابة عامة لا تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين .
والسؤال عن { مَاذَا يُنْفِقُونَ } ؛ فكأن الشيء المُنْفق هو الذي يسألون عنه ، والإنفاق كما نعرف يتطلب فاعلاً هو المُنْفق؛ والشيء المُنفَق هو المال ؛ ومنفَقَاً عليه . وهم قد سألوا عن ماذا ينفقون ، فكأن أمر الإنفاق أمر مُسَلَّمُ به ، لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتي السؤال على هذه الوجه ويجيء الجواب حاملا الإجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد .
يقول الحق : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } هذا هو السؤال ، والجواب { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } . إن الظاهر السطحي يظن أن السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟ وأن الجواب جاء عن المنفق عليه . نقول : لا ، لماذا نسيت قوله الحق : إن الإنفاق يجب أن كون من " خير " فالمال المُنفق منه لا بد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير .
وبعد ذلك زاد وبيّن أنه : مادمتم تعتقدون أن الإنفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو الشيء الذي تنفقونه ، ومَنْ الذي يستحق أن يُنْفَقَ عليه . { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } . والخير هو الشيء الحسن النافع . والمُنْفَق عليه هو دوائر الذي يُنْفِق؛ لأن الله يريد أن يُحَمّل المؤمن دوائره الخاصة ، حتى تلتحم الدوائر مع بعضها فيكون قد حمّل المجتمع على كل المجتمع ، لأنه سبحانه حين يُحَمّلني أسرتي ووالدي والأقربين ، فهذه صيانة للأهل ، وكل واحد منا له والدان وأقربون ، ودائرتي أنا تشمل والديّ وأقاربي ، ثم تشيع في أمر آخر؛ في اليتامى والمساكين .
وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والأقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين ، ويكون المجتمع قد حمل بعضه بعضاً ، ولا يوجد بعد ذلك إلا العاجز عن العمل . وعرفنا أن السائل هو " عمرو بن الجموح " ، وكانت له قصة عجيبة؛ كان أعرج والأعرج معذور من الله في الجهاد ، فليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج . " وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من غزوة فجاءه عمرو بن الجموح وقال : يا رسول الله لا تحرمني من الجهاد فإن أبنائي يحرمونني من الخروج لعرجتي . قال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد عذرك فيمن عذر . قال : ولكني يا رسول الله أحب أن أطأ بعرجتي الجنة " .
هذا هو مَنْ سأل عن ماذا ينفقون ، فجاءت الإجابة من الحق : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } أي ما أخرجتم من مال؛ لأن الإنفاق يعني الإخراج ، والخير هنا هو المال ، والإنفاق يقتضي إخراج المال عن ملكية الإنسان ببيع أو هبة أو صلة ، وأصل كلمة " الإنفاق " مأخوذ من " نفقت السوق " أي راجت؛ لأن السوق تقوم على البضاعة ، وحين تأتي إلى السوق ولا تجد سلعاً فذلك يعني أن السوق رائجة ، ولكن عندما تجد البضائع مكدسة بالسوق فذلك يعني أن السوق لازالت قائمة .
(1/568)

إذن فمعنى " نفقت السوق " أي ذهبت كل البضائع كما تذهب الحياة من الدابة ، فعندما نقول : نفقت الدابة ، أي ماتت . وأوجه الإنفاق بينها سبحانه في قوله : { فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } . فهل كل يتيم محتاج؟ ربما يكون اليتيم قد ورث المال لكن علينا أن نفهم أن المسألة ليست هي سد حاجة محتاج فقط ، ولكنها الوقوف بجانب ضعيف في أي زاوية من زوايا الضعف؛ لأن الطفل عندما يكون يتيماً ولديه ماله ، ثم يراك تعطف عليه فهو يشعر أن أباه لم يمت؛ لأن أبوته باقية في إخوانه المؤمنين ، وبعد ذلك لا يشب على الحسد لأولاد آباؤهم موجودين ، لكن حين يرى اليتيم كل أب مشغولا بأبنائه عن أيتام مات أبوهم ، هنا يظهر فيه الحقد ، وتتربى فيه غريزة الاعتراض على القدر ، فيقول " لماذا أكون أنا الذي مات والدي؟ " ، ولكن حين يرى الناس جميعا آباءه ، ويصلونه بالبسمة والود والترحاب والمعونة فلسوف يشعر أن من له أب واحد يتركه الناس اعتماداً على وجود أبيه ، لكن حينما يموت أبوه فإن الناس تلتفت إليه بالمودة والمحبة ، ويترتب على ذلك أن تشيع المحبة في المجتمع الإسلامي والألفة والرضا بقدر الله ، ولا يعترض أحد على وفاة أبيه ، فإن كان القدر قد أخذ أباه فقد ترك له آباء متعددين .
ولو علم الذين يرفضون المودة والعطف على اليتيم لأن والده ترك له ما يكفيه ، لو علموا ما يترتب على هذا التعاطف من نفع معنوي لتنافسوا على التعاطف معه؛ فليست المسألة مسألة حاجة مادية ، وإنما هي حاجة معنوية .
وأنا أقول دائما : يجب أن نربي في الناشئة أن الله لا يأخذ أحداً من خلقه وفي الأرض حاجة إليه؛ وارقبوا هذا الأمر فيمن حولكم تجدوا واحداً وقد تُوفى وترك أولاداً صغاراً فيحزن أهله ومعارفه؛ لأنه ترك أولاده صغاراً ، وينسون الأمر من بعد ذلك ، وتمر فترة من الزمن ويفاجأ الناس بأن أولاد ذلك الرجل قد صاروا سادة الحي ، وكأن والدهم كان محبسا على رزقهم ، فحينما انتهى الأب فتح الله على الأبناء صنابير الرزق ، وذلك حتى لا يُفتَن إنسان في سبب .
وبعد الإنفاق على اليتامى نجد الإنفاق على المساكين وابن السبيل ، وقد عرفنا أن المسكين هو المحتاج وابن السبيل هو المنقطع عن أهله وماله .
(1/569)

ويختم الحق هذه الآية بقوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } . إن الله يريد أن يرد الطبع البشري إلى قضية هي : إياك أن تطلب جزاء الخير الذي تفعله مع هؤلاء من أحد من الخلق ، ولكن اطلبه من الله ، وإياك أن تحاول أن يعلم الناس عنك أنك مُنْفِق على الأقارب واليتامى وابن السبيل؛ لأن الذين تريدهم أن يعلموا لا يقدرون لك على جزاء ، وعلمهم لن يزيدك شيئا ، وحسبك أَنْ يعلم الله الذي أعطاك ، والذي أعطيت مما استخلفك فيه ابتغاء مرضاته . فحين ينفق الناس لمرضاة الناس ، يلقون من بعد ذلك النكران والجحود فيكون من أعطى قد خسر ما أنفق ، واستبقى الشر ممن أنفقه عليهم .
ولو أن الإنسان المسلم قصد بالإنفاق وعمل الخير مرضاة الخالق الأعلى عز وجل لاستبقى ما أنفق من حسنات وثواب ليوم القيامة ، ولسخر الله له قلوب من تصدق عليهم بالمحبة والوفاء بالمعروف ، وهذه عدالة من الله تتجلى في أنه يفعل مع المرائين ذلك؛ لأنهم يعطون وفي بالهم أنهم أعطوا له ، ولو أعطوا الله لما أنكر الآخذ جميل العطاء . أنت أعطيته لمرضاته هو ، فكأن الله يقول لك : سأتركك له ليجازيك ولهذا كان المتصدق في السر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فمنهم : " . . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وهذا هو الأفضل في صدقة التطوع ، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل ، وكذلك الحال بالنسبة للصلاة فالفريضة تكون إعلانها أفضل ، والنافلة يكون إسرارها أفضل . لكن لو عملت وفي بالك الله فستجد أثر العطاء وفي وفاء من أخذ . فإياك أن تحاول ولو من طرف خفيّ أن يعلم الناس أنكم تفعلون الخير . وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } يرجع الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال فيقول : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ . . . }
(1/570)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق الإنسان فهو سبحانه لا يعالج الأمر علاجا سوفسطائيا ، بمعنى أن يقول : وماذا في القتال؟ لا ، إن الخالق يقول : أعلم أن القتال مكروه . وحتى إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر ذلك . ولو لم يقل الحق إن القتال كره : لفهم الناس أن الله يصور لهم الأمر العسير يسيرا .
إن الله عز وجل يقول للذين آمنوا : اعلموا أنكم مقبلون على مشقات ، وعلى متاعب ، وعلى أن تتركوا أموالكم ، وعلى أن تتركوا لذتكم وتمتعكم . ولذلك نجد كبار الساسة الذين برعوا في السياسة ونجحوا في قيادة مجتمعاتهم كانوا لا يحبون لشعوبهم أن تخوض المعارك إلا مضطرين ، فإذا ما اضطروا فهم يوضحون لجندهم أنهم يدرأون بالقتال ما هو أكثر شراً من القتال ، ومعنى ذلك أنهم يعبئون النفس الإنسانية حتى تواجه الموقف بجماع قواها ، وبجميع ملكاتها ، وكل إرادتها .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } إنه سبحانه يقول لنا : أعلم أن القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية ، هذه القضية هي ألا تحكموا في القضايا الكبيرة في حدود علمكم؛ لأن علمكم دائما ناقص ، بل خذوا القضايا من خلال علمي أنا؛ لأنني قد أشرع مكروها ، ولكن يأتي منه الخير . وقد تَرَون حبا في شيء ويأتي منه الشر . ولذلك ينبهنا الحق إلى أن كثيراً من الأمور المحبوبة عندنا يأتي منها الشر ، فيقول الواحد منا : " كنت أتوقع الخير من هذا الأمر ، لكن الشر هو ما جاءني منه " .
وهناك أمور أخرى نظن أن الشر يأتي منها ، لكنها تأتي بالخير . ولذلك يترك الحق فلتات في المجتمع حتى يتأكد الناس أن الله سبحانه وتعالى لا يُجري أمور الخير على مقتضيات ومقاييس علم العباد ، إنما يُجري الحكم على مقتضى ومقاييس وعلم رب العباد . ولننظر إلى ما رواه الحق مثلا للناس على ذلك : { وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 60-64 ]
إن موسى عليه السلام يسير مع فتاه إلى مجمع البحرين ، ويقال : إنه ملتقى بحرين في جهة المشرق ، وكان معهما طعام هو حوت مملوح يأكلان منه ، لكن السفر والمشقة أنساهما الحوت وانطلق الحوت بآية من الله إلى البحر ، وعندما وصل موسى إلى مجمع البحرين طلب من فتاه أن يأتي بالطعام بعد طول التعب ، لكن الفتى يقول لموسى : إنه نسي الحوت ، ولم ينسه إياه إلا الشيطان .
(1/571)

وإن الحوت اتخذ طريقه إلى البحر ، فقال موسى : إن هذا ما كنا نطلبه علامة على وصولنا إلى غايتنا وهي مجمع البحرين ، أي أمر الحوت وفقده هو الذي نطلب ، فإن الرجل الذي جئنا من أجله هناك في هذا المكان ، وارتد موسى والغلام على آثارهما مرة أخرى .
فما الذي يحدث؟ يلتقي موسى عليه السلام بالعبد الصالح الخضر ، وهو ولي من أولياء الله ، علمه الله العلم الرباني الذي يهبه الله لعباده المتقين كثمرة للإخلاص والتقوى . ويطلب موسى عليه السلام من العبد الرباني سيدنا الخضر عليه السلام أن يتعلم منه بعض الرشد . لكن العبد الرباني الذي وهبه الله من العلم ما يفوق استيعاب القدرة البشرية يقول لموسى عليه السلام : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ الكهف : 67-68 ]
لقد كان موسى على علم سابق بأن ضياع الحوت هو مسألة في ظاهرها شر لكن في باطنها خير؛ لأن ذلك هو السبيل والعلامة التي يعرف بها موسى كيف يلتقي بالعبد الصالح . ويستمر السياق نفسه في قصة موسى والعبد الصالح ، قصة ظاهرها الشر وباطنها الخير ، سواء في قصة السفينة التي خرقها أو الغلام الذي قتله ، أو الجدار الذي أقامه .
لقد كان علم العبد الصالح علماً ربانياً ، لذلك أراد موسى أن يتعلم بعضاً من هذا العلم لكن العبد الصالح ينبه موسى عليه السلام أن ما قد يراه هو فوق طاقة الصبر؛ لأن الذي قد يراه موسى من أفعال إنما قد يرى فيها شراً ظاهراً ، لكن في باطنها كل الخير .
وقَبِل موسى عليه السلام أن يقف موقف المتعلم بأدب مع العالم الذي وهبه الله العلم الرباني . ويشترط العبد الرباني على موسى ألا يسأل إلا بعد أن يحدثه العبد الرباني عن الأسباب . ويلتقي موسى والعبد الرباني بسفينة فيصعدان عليها ، ويخرق العبد الرباني السفينة ، فيقول موسى : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [ الكهف : 71 ]
فيرد العبد الصالح : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ الكهف : 72 ]
ويتذكر موسى أنه وعد العبد الصالح بالصبر ، لكن ما الذي يفعله موسى وقد وجد العبد الصالح يخرق سفينة تحملهم في البحر؟ إنه أمر شاق على النفس . ولذلك يقول موسى : { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } [ الكهف : 73 ]
إن موسى يعود إلى وعده للعبد الصالح ، ويطلب منه فقط ألا يكلفه بأمور تفوق قدرته . وينطلق العبد الصالح ومعه موسى عليه السلام ، فيجد العبد الصالح غلاما فيقتله ، فيقول موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } [ الكهف : 74 ]
ويُذكر العبد الصالح موسى أنه لن يستطيع الصبر معه ، ويعتذر موسى عما لا يعلم .
(1/572)

ويمر العبد الصالح ومعه موسى بقرية فطلبا من أهل القرية الضيافة ، لكن أهل القرية يرفضون الضيافة ، ويجد العبد الصالح جدارا مائلا يكاد يسقط فيبدأ في بنائه ، فيقول موسى : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] ويكون الفراق بين العبد الصالح وموسى . ويخبر العبد الصالح موسى بما لم يعلمه ولم يصبر عليه . إن خرق السفينة كان لإنقاذ أصحابها من اغتصابها منهم؛ لأن هناك ملكا كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ، فأراد أن يعيبها ليتركها الملك لهؤلاء المساكين .
وقتل الغلام كان رحمة بأبويع المؤمنين ، كان هذا الابن سيجلب لهما الطغيان والكفر ، وأراد الله أن يبدله خيراً منه .
وأن الجدار الذي أقامه كان فوق كنز ، وكان ليتيمين من هذه القرية وكان والد الغلامين صالحاً ، لذلك كان لابد من إعادة بناء الجدار حتى يبلغ الغلامان أشدهم ويستخرجا الكنز ويقول العبد الصالح عن كل هذه الأعمال : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 82 ]
إن العبد الصالح لا ينسب هذا العمل الرباني لنفسه ، ولكن ينسبه إلى الخالق الذي علمه . إذن فالحق يطلق بعضاً من قضايا الكون حتى لا يظن الإنسان أن الخير دائماً فيما يحب ، وأن الشر فيما يكره ، ولذلك يقول سبحانه : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } فإن كان القتال كرهاً لكم ، فلعل فيه خيراً لكم . وبمناسبة ذكر الكُره نوضح أن هناك " كَره " و " كُره " . إن " الكَره " بفتح الكاف : هو الشيء المكروه الذي تُحمل وتُكْرَهُ على فعله ، أما " الكُره " بضم الكاف فهو الشيء الشاق .
وقد يكون الشيء مكروها وهو غير شاق ، وقد يكون شاقاً ولكن غير مكروه . والحق يقول : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } . ولنلاحظ أن الحق دائماً حينما يشرع فهو يقول : { كُتِبَ } ولا يقول : " كَتبت " ذلك حتى نفهم أن الله لن يشرع إلا لمَنْ آمن به؛ فهو سبحانه لم يكتب على الكافرين أي تكاليف ، وهل يكون من المنطقي أن يكلف الله مَنْ آمَن به ويترك الكافر بلا تكليف؟
نعم ، إنه أمر منطقي؛ لأن التكليف خير ، وقد ينظر بعض الناس إلى التكليف من زاوية أنه مُقيِّد ، نقول لهم : لو كان التكليف الإيماني يقيد لكلف الله به الكافر ، ولكن الله لا يكلف إلا مَنْ يحبه ، إنه سبحانه لا يأمر إلا بالخير ، ثم إن الله لا يكلف إلا مَنْ آمن به؛ لأن العبد المؤمن مع ربه في عقد الإيمان .
إذن فالله حين يقول : " كُتب " فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم على أحد حركة اختياره الموهوبة له ، والله سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الاختيار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا .
(1/573)

ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع الله في عقد إيمان ، وبمقتضى هذا العقد كتب الله عليه التكاليف . ومن هذه التكاليف القتال ، فقال سبحانه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } .
وقوله : { عَلَيْكُمُ } يعني أن القتال ساعة يكتب لا يبدو من ظاهر أمره إلا المشقة فجاءت { عَلَيْكُمُ } لتناسب الأمر . وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم ، وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا الجنة .
ويعبر الحق عن ظاهر الأمر في القتال فيقول عنه : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } . إنها قضية عامة كما قلنا . لذلك فعلينا أن نرد الأمر إلى من يعلمه ، { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فكل أمر علينا أن نرده إلى حكمة الله الذي أجراه؛ لأنه هو الذي يعلم .
وهناك قصة من التراث الإنساني تحكي قضية رجل من الصين ، وكان الرجل يملك مكانا متسعا وفيه خيل كثيرة ، وكان من ضمن الخيل حصان يحبه . وحدث أن هام ذلك الحصان في المراعي ولم يعد ، فحزن عليه ، فجاء الناس ليعزوه في فقده الحصان ، فابتسم وقال لهم : ومن أدراكم أن ذلك شر لتعزوني فيه؟
وبعد مدة فوجئ الرجل بالجواد ومعه قطيع من الجياد يجره خلفه ، فلما رأى الناس ذلك جاءوا ليهنئوه ، فقال لهم : وما أدراكم أن ذلك خير ، فسكت الناس عن التهنئة . وبعد ذلك جاء ابنه ليركب الجواد فانطلق به ، وسقط الولد من فوق الحصان فانكسرت ساقه ، فجاء الناس مرة أخرى ليواسوا الرجل فقال لهم : ومن أدراكم أن ذلك شر؟
وبعد ذلك قامت حرب فجمعت الحكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا العدو ، وتركوا هذا الابن؛ لأن ساقه مكسورة ، فجاءوا يهنئونه ، فقال لهم : ومن أدراكم أن ذلك خير؟ فعلينا ألا نأخذ كل قضية بظاهرها ، إن كانت خيراً أو شراً ، لكن علينا أن نأخذ كل قضية من قضايا الحياة في ضوء قول الحق : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ]
والحق هو القائل : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } . ولله المثل الأعلى ، سبق لنا أن ضربنا المثل من قبل بالرجل الحنون الذي يحب ولده الوحيد ويرجو بقاءه في الدنيا ، لذلك عندما يمرض الابن فالأب يعطيه الدواء المر ، وساعة يعطيه الجرعة فالابن يكره الدواء ولكنه خير له . وبعد ذلك يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن سؤال آخر يقول فيه : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ . . . }
(1/574)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
والسؤال هنا ليس عن الشهر الحرام؛ لأنه كان معروفا عندهم من أيام الجاهلية ولكن السؤال عن القتال في الشهر الحرام ، فما جدوى السؤال إذن؟ إنه سؤال استفزازي ، والمسألة لها قصة . ونعرف أن للسنة أثنى عشر شهراً ، وقد جعل الله فيها أربعة أشهر حرم : شهر واحد فرد وهو رجب ، وثلاثة سرد ، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . ومعنى أشهر حرم أي أن القتال محرم فيها .
لقد علم الله كبرياء الخلق على الخلق ، لذلك جعل الله لخلقه ساترا يحمي كبرياءهم ، ومن هذه السنن التي سنها الله هي حرمة القتال في الأشهر الحرم ، والأماكن الحرم ، فيجوز أن الحرب تضر المحارب ، لكن كبرياءه أمام عدوه يمنعه من وقف القتال ، فيستمر في الحرب مهما كان الثمن ، فيأتي الحق سبحانه وتعالى ويقول للمتحاربين : ارفعوا أيديكم في هذه الشهور لأني حرمت فيها القتال . وربما كان المحاربون أنفسهم يتمنون من أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف الحرب ، ولكن كبرياءهم يمنعهم من التراجع ، وعندما يتدخل حكم السماء سيجد كل من الطرفين حجة ليتراجع مع حفاظه على ماء الوجه . وكذلك جعل الله أماكن محرمة ، يحرم فيها القتال حتى يقول الناس إن الله هو الذي حرمها ، وتكون لهم ستاراً يحمي كبرياءهم .
إذن فالحق سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان أراد أن يصون الإنسان حتى يحقن الدماء ، فإذا ظل الناس ثلاثة أشهر بلا حرب ، ثم شهراً آخر ، فنعموا في هذه الفترة بالسلام والراحة والهدوء ، فربما يألفون السلام ، ولا يفكرون في الحرب مرة أخرى ، لكن لو استمرت الحرب بلا توقف لظل سعار الحرب في نفوسهم ، وهذه هي ميزة الأشهر الحرم .
والأشهر الحرم حُرُمٌ في الزمان والمكان؛ لأن الزمان والمكان هما ظرف الأحداث ، فكل حدث يحتاج زمانا ومكانا . وعندما يحرم الزمان ويحرم المكان فكل من طرفي القتال يأخذ فرصة للهدوء .
إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هنا قضية أراد بها خصوم الإسلام من كفار قريش واليهود أن يثيروها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض السرايا للاستطلاع ، والسرية هي عدد محدود من المقاتلين ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسل سرية على رأسها عبد الله بن جحش الأسدي ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسل معه ثمانية أفراد ، وجعله أميرا عليهم ، وأعطاه كتابا وأمره ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين ، وذلك حتى لا يعلم أحد أين تذهب السرية ، وفي ذلك احتياط في إخفاء الخبر .
فلما سارت السرية ليلتين فتح عبد الله الكتاب وقرأه فإذا به : اذهب إلى " بطن نخلة " وهو مكان بين مكة والطائف واستطلع عير قريش ، ولا تُكره أحدا ممن معك على أن يسير مرغما ، بمعنى أن يكون لكل فرد في السرية حرية الحركة ، فمن يفضل عدم السير فله هذا الحق .
(1/575)

وبينما هم في الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعقبة بن غَزْوان ، وذهبا يبحثان عن البعير ، وبقى ستة مقاتلين مع عبد الله ، وذهب الستة إلى " بطن نخلة " فوجدوا " عمرو بن الحضرمي " ومعه ثلاثة على عير لقريش ، فدخلوا معهم في معركة ، وكان هذا اليوم في ظنهم هو آخر جمادى الآخرة ، لكن تبين لهم فيما بعد أنه أول رجب أي أنه أحد أيام شهر حرام .
وقتل المسلمون ابن الحضرمي ، قتله واقد بن عبد الله من أصحاب عبد الله ابن جحش ، وأسروا اثنين ممن معه ، وفر واحد ، فلما حدث هذا ، وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك في أول رجب ، عند ذلك اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب .
وثارت المسألة أخذا وردّاً بين المسلمين قبل أن تتحدث فيها قريش حيث قالوا : إن محمداً يدعي أنه يحترم المقدسات ويحترم الأشهر الحرم ، ومع ذلك قاتل في الأشهر الحرم ، وسفك دمنا ، وأخذ أموالنا ، وأسر الرجال . فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغنائم والأسرى حتى يفصل الله في القضية فنزل حكم السماء في القضية بهذا القول الحكيم :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 217 ]
نحن مُسلّمون أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير ، ولكن انظروا يا كفار قريش إلى ما صنعتم مع عبادنا وقارنوا بين كِبْر هذا وكِبْر ذاك . أنتم تقولون : إن القتال في الشهر الحرام مسألة كبيرة ، ولكن صدكم عن سبيل الله وكفركم به ، ومنعكم المسلمين من المسجد الحرام ، وإخراج أهل مكة منها أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام ، فلا تفعلوا ما هو أكبر من القتال في الشهر الحرام ، ثم تأخذكم الغيرة على الحرمات .
فكأن الحق أراد أن يضع قضية واضحة هي : لا تؤخذوا من جزئيات التدين أشياء وتتحصنوا فيها خلف كلمة حق وأنتم تريدون الباطل فالواقع يعرض الأشياء ، ونحن نقول : نعم إن القتال في الشهر الحرام كبير . ولكن يا كفار قريش اعلموا أن فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عن طريق الله ، وكفركم به سبحانه وإهداركم حرمة البيت الحرام بما تصنعون فيه من عبادة غير الله ، وإخراجكم أهله منه ، إن هذه الأمور الآثمة هي عند الله اكبر جرماً وأشد إثماً من القتال في الأشهر الحرم لاسترداد المسلمين بعض حقهم لديكم .
(1/576)

ولهذا يرد الحق سهام المشركين في نحورهم { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } أي إياكم أن تعتقدوا أنهم سيحترمون الشهر الحرام ولا المكان الحرام ، بل { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أي وسيصرون ، ويداومون على قتالكم { حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } . وتأمل قوله : { إِن اسْتَطَاعُواْ } إن معناها تحد لهم بأنهم لن يستطيعوا أبدا ف " إنْ " تأتي دائما في الأمر المشكوك فيه . ويتبع الحق { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } سيظلون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . ثم يختم الحق الآية بقضية يقول فيها : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ } هذه الآية يقابلها آية أخرى يقول الحق فيها : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } [ المائدة : 5 ]
وإذا قارنّا بين الآيتين نجد أن الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد ورد فيها قوله : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } وفي سورة المائدة لم يرد هذا وإنما ورد قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وقد اختلف العلماء في المسألة اختلافات جميلة . ولكنهم اتفقوا أَوَّلا على أن أي إنسان يرتد عن الإسلام ثم يموت مرتداً فقد حبطت أعماله . ولكن اختلافهم تركز فيما لو رجع وآمن مرة ثانية ، أي لم يمت وهو كافر ، بل رجع فآمن بعد ردته ، فهل حبط عمله أم لم يحبط؟ .
وللإمام الشافعي رأي يقول : إن الذي يرتد عن الدين تحبط أعماله إن مات على الكفر ، أما إن عاد وأسلم مرة أخرى فإن أعماله التي كانت قبل الارتداد تكون محسوبة له . والإمام أبو حنيفة له رأي مختلف فهو يقول : لا ، إن آية سورة المائدة ليس فيها { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } وعليه فإننا نحملها على آية سورة البقرة التي ذكر فيها ذلك من باب حمل المطلق على المقيد ، وعلى ذلك فالذي يكفر بعد إيمانه عمله محبط سواء رجع إلى الإيمان بعد ذلك أو لم يرجع ، فلا يحتسب له عمل .
أين موضوع الخلاف إذن؟ . هي أن إنساناً آمن وأدى فريضة الحج ثم لا قدر الله كفر وارتد ، ثم رجع فآمن أتظل له الحجة التي قام بها قبل الكفر أم تحبط ويطلب منه حج جديد؟ هذه هي نقطة الخلاف . فالشافعي يرى أنه لا يحبط عمله مادام قد رَجع إلى الإيمان لأن الله قال : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } فمعنى ذلك أنه إن لم يمت على الكفر فإن عمله لا يحبط . ولكن لا يأخذ ثوابا على ذلك الحج الذي سبق له أن أداه ، لقد التفت الإمام الشافعي رضي الله عنه إلى شيء قد يغفل عنه كثر من الناس ، وهو أن الحج ركن من أركان الإسلام ، فالذي لا يحج وهو قادر على الحج فالله يعاقبه على تقصيره ، والذي حج لا يعاقب ويأخذ ثواب فعله .
(1/577)

فكأن الأعمال التي طلبها الحق سبحانه وتعالى إن لم تفعلها وكانت في استطاعتك عوقبت ، وإن فعلتها يمر عملك بمرحلتين ، المرحلة الأولى هي ألا تُعاقب ، والمرحلة الثانية هي أن تُثاب على الفعل . فالشافعي قال : إن الشخص إذا فعل فعلاً يُثاب عليه الإنسان ، ثم كفر ، ثم عاد إلى الإسلام فهو لا يُعاقب ، ولكنه يُثاب . أما الإمام أبو حنيفة فقد قال : إنه لا عبرة بعمله الذي سبق الردة مصداقا لقوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي أبطلت وزالت ، وكأنها لم تكن . إن القرآن استخدم هنا كلمة " حبط " ، وهي تستخدم تعبيرا عن الأمر المحسوس فيقال : " حبطت الماشية " أي أصابها مرض اسمه الحباط ، لأنها تأكل لونا من الطعام تنتفخ به ، وعندما تنتفخ فقد تموت . والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : " إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم " .
إنه صلى الله عليه وسلم يحذرنا من أن الخير قد يندس فيه شر ، مثلما يحدث في الربيع الذي ينبت فيه من النبات الذي يعجب الماشية فتأكله فيأتيها مرض " الحُباط " ، فتنتفخ ثم تموت ، أو " يلم " أي توشك أن تموت ، وكذلك الأعمال التي فعلها الكفار تصبح ظاهرة مثل انتفاخ البطن ، وكل هذه العمليات الباطلة ستحبط كما تحبط الماشية التي أكلت هذا اللون من الخضر ، ثم انتفخت فيظن المشاهد لها أنها سمنة؛ وبعد ذلك يفاجأ بأنه مرض . لقد أعطانا الله من هذا القول المعنى المحسوس لتشابه الصورتين؛ فالماشية عندما تحبط تبدو وكأنها نمت وسمنت ، لكنه نمو غير طبيعي إنه ليس شحماً أو لحما ، لكنه ورم ، كذلك عمل الذين كفروا؛ عمل حابط ، وإن بدا أنهم قد قاموا بأعمال ضخمة في ظاهرها أنها طيبة وحسنة .
ويقول بعض الناس : وهل يُعقل أن الكفار الذين صنعوا إنجازات قد استفادت منها البشرية ، هل من المعقول أن تصير أعمالهم إلى هذا المصير؟ . لقد اكتشفوا علاجا لأمراض مستعصية وخففوا آلام الناس ، وصنعوا الآلات المريحة والنافعة . ونقول لأصحاب مثل هذا الرأي : مهلاً ، فهناك قضية يجب أن نتفق عليها وهي أن الذي يعمل عملاً؛ فهو يطلب الأجر ممن عمل له ، فهل كان هؤلاء يعملون وفي بالهم الله أم في بالهم الإنسانية والمجد والشهرة ، وما داموا قد نالوا هذا الأجر في الدنيا فليس لهم أن ينتظروا أجراً في الآخرة . لذلك يقول الحق : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ]
إن الكافر يظن أن أعماله صالحة نافعة لكنها في الآخرة كالسراب الذي يراه الإنسان في الصحراء فيظنه ماء ، ويجد نفسه في الآخرة أمام لحظة الحساب فيوفيه الله حسابه بالعقاب ، وليس لهم من جزاء إلا النار ، وينطبق عليهم ما ينطبق على كل الكافرين بالله ، وهو { وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
(1/578)

هذا وإن الحق سبحانه وتعالى يوضح حقيقة الأمر للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم حتى يعطيهم مناعة إيمانية ضد آمال الكافرين في الإضرار بالمؤمنين ، فيعلمنا أنهم لن يدخروا وسعا حتى يردوكم عن دينكم؛ لأن منهج الله دائماً لا يخيف إلا المبطلين؛ فالإنسان السوي الذي يريد أن يعايش العالم في سلام ويأخذ من الخير على قدر حركته في الوجود لا ترهقه سيادة مبادئ الإسلام ، إنما تُرهق مبادئ الإسلام هؤلاء الذين يريدون أن يسرقوا عرق وكدّ غيرهم وهم يبذلون كل الجهد ويستخدمون كافة الأساليب التي تصرف المسلمين عن دينهم ، ولكن هل يُمكّنهم الله من ذلك؟ لا؛ فلا يزال هناك أمل في الخير إن تمسكت أمة الإسلام بالمنهج الحق .
إنه سبحانه يعطي المناعة للمؤمنين ، والمناعة كما نعرف هي أن تنقل للسليم ميكروب المرض بعد إضعافه ، وبذلك تأخذ أجهزة جسمه فرصة لأن تنتصر على هذا الميكروب؛ لذلك قال الحق : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } . إن الخلاف الجوهري بين المؤمن والكافر ، هو أن المؤمن إنما يعمل العمل الصالح وفي نيته أن المكافئ هو الله ، وهو يتجه بنية خالصة في كل عمل . ويأخذ بأسباب الله في العلم لينتفع به غيره من الناس؛ فتكون الفائدة عميمة وعظيمة ، وعلى المؤمن أن يكون سباقاً إلى الاكتشاف والاختراع ونهضة العالم المسلم ، وأن يكون المؤمن العالم منارة تشع بضوء الإيمان أمام الناس ، لا أن يترك غيره من الكافرين يصلون إلى المكتشفات العلمية وهو متواكل كسلان .
إن على المؤمن أن يأخذ بأسباب الله في الحياة؛ لأن الإسلام هو دين ودنيا ، وهو دين العلم والتقدم ، ويضمن لمن يعمل بمنهجه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة . وإذا كان المؤمن يستمتع بإنتاج يصنعه الكافر فليعلم أن الكافر إنما أخذ أجره مُسخراً ممن عمل له ، أما المؤمن فحين يتفوق في الصناعة والزراعة والعلم والاكتشاف فهو يأخذ الأجر في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن الذي يعطي هنا هو الله .
أما عمل الكافر فهو عمل من مسخر كالمطايا وكالجماد والنبات والحيوان المسخر لخدمة الإنسان . وإذا كان الله قد ميز المؤمن على الكافر بالأجر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة ، ألا يليق بالمؤمن أن يسبق الكافر في تنمية المجتمع الإسلامي ، وأن يكون بعمله منارة هداية لمن حوله؟! ويقول الحق من بعد ذلك : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله . . . }
(1/579)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
إن الآية قد عددت ثلاثة أصناف : الصنف الأول هم الذين آمنوا ، والصنف الثاني هم الذين هاجروا ، والصنف الثالث هم الذين جاهدوا . إن الذين آمنوا إيماناً خالصاً لوجه الله ، وهاجروا لنصرة الدين ، وجاهدوا من أجل أن تعلو كلمة الإسلام هؤلاء قد فعلوا كل ذلك وهم يرجون رحمة الله . ولقائل أن يقول : أليست الرحمة مسألة متيقنة عندهم؟
ونقول : ليس للعبد عند الله أمر متيقن؛ لأنك قد لا نفطن إلى بعض ذنوبك التي لم تُحسن التوبة منها ، ولا التوبة عنها . وعليك أن نضع ذلك في بالك دائماً ، وأن تتيقن من استحضار نية الإخلاص لله في كل عمل تقوم به؛ فقد تحدثك نفسك بشيء قد يفسد عليك عملك ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الموصولين بربهم يقول : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يُرفع ودعاء لا يُسمع " .
إن الرسول الكريم وهو سيد المحتسبين في كل أعماله يعلمنا أن النفس قد تخالط صاحبها بشيء يفسد الطاعة . وعلى المسلم أن يظل في محل الرجاء . والمؤمن الذي يثق في ربه لا يقول : إن على الله واجباً أن يعمل لي كذا؛ لأن أصل عبادتك لله سبق أن دفع ثمنها ، وما تناله من بعد ذلك هو فضل من الله عليك ، مدفوع ثمنها لك إيجاداً من عدم وإمداداً من عُدْم ، ومدفوع ثمنها بأن متعك الله بكل هذه الأشياء ، فلو قارنت بين ما طلبه الله منك على فرض أنك لا تستفيد منه فقد أفدت مما قدم لك أولا ، وكل خير يأتيك من بعد ذلك هو من فضل الله عليك ، والفضل يرجى ولا يُتيقن .
وعظمة الحق سبحانه وتعالى في أنك تدعوه خوفاً وطمعاً . ويقول هذا المثل ولله المثل الأعلى إن من عظمتك أمام والدك أنك تجد لك أباً تخاف منه ، وترغب أن يحقق لك بعضاً من أحلامك ، ولو اختلت واحدة من الاثنتين لاختلت الأبوة والبنوة .
كذلك عظمة الرب يُرغب ويُرهب : إن رغبت فيه ولم ترهبه فأنت ناقص الإيمان ، وإن رهبت ولم ترغب فإيمانك ناقص أيضاً ، لذلك لابد من تلازم الاثنتين : الرهبة والرغبة . ولو تبصّر الإنسان ما فرضه الله عليه من تكاليف إيمانية لوجد أنه يفيد من هذه التكاليف أضعافاً مضاعفة . فكل ما يجازي به الله عباده إنما هو الفضل ، وهو الزيادة . وكل رزق للإنسان إنما هو محض الفضل . ومحض الفضل يُرجى ولا يُتيقن . وها هو ذا الحق يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين }
(1/580)

[ الأعراف : 55-56 ]
إن الدنيا كلها مسخرة تحت قهر الرحمن ومشيئته وتسخيره ، وله تمام التصرف في كل الكائنات وهو الخالق البديع ، لذلك فليدع الإنسان الله بخشوع وخضوع في السر والعلانية ، والحق لا يحب من يعتدي بالقول أو الرياء أو الإيذاء .
إن الإيمان يجب أن يكون خالصا لله ، فلا يفسد الإنسان الأرض بالشرك أو المعصية؛ لأن الحق قد وضع المنهج الحق لصلاح الدنيا وهو القرآن ، ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورحمة الله قريبة من المطيعين للحق جل وعلا .
إن عظمة الرب في أنه يُرغب ويُرهب؛ إن رغبت فيه ولم ترهبه فعملك غير مقبول ، وإن رهبته ولم ترغبه فعملك غير مقبول . إن الرغب والرهب مطلوبان معاً ، لذلك فالمؤمن المجاهد في سبيل الله يرجو رحمة الله .
والحق يقول : { أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله } ما هي الرحمة؟ الرحمة ألا تبتلى بالألم من أول الأمر ، والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ]
الشفاء هو أن تكون مصابا بداء ويبرئك الله منه ، لكن الرحمة ، هي ألا يأتي الداء أصلا { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
والله سبحانه وتعالى يعلم عن عباده أن أحداً منهم قد لا يبرأ من أن يكون له ذنب . فلو حاسبنا بالمعايير المضبوطة تماما فلسوف يتعب الإنسان منا ، ولذلك أحب أن أقول دائما مع إخواني هذا الدعاء : " اللهم بالفضل لا بالعدل وبالإحسان لا بالميزان وبالجبر لا بالحساب " . أي عاملنا بالفضل لا بالعدل ، وبإحسانك لا بالميزان ، لأن الميزان يتعبنا .
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة لا يكون بالأعمال وحدها ، ولكن بفضل الله ورحمته ومغفرته . إن الرسول الكريم يقول : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله . فقالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا حتى يتغمدني الله برحمته " .
إذن فالمؤمن يرجو الله ولا يشترط على الله ، إن المؤمن يتجه بعمله خالصا لله يرجو التقبل والمغفرة والرحمة ، وكل ذلك من فضل الله . ويأتي الحق لسؤال آخر : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ . . . }
(1/581)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
والخمر كما نعرف مأخوذة من الستر ، ويقال : " دخل فلان خمرة " أي في أيكة من الأشجار ملتفة فاختبأ فيها . و " الخِمار " هو القناع الذي ترتديه المسلمة لستر رأسها ، وهو مأخوذ أيضا من نفس المادة . و " خامرة الأمر " أي خالطه . وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر . و " الميسر " مأخوذ من اليسر؛ لأنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بلا تعب .
والخمر والميسر من الأمور التي كانت معروفة في الجاهلية . والإسلام حين جاء ليواجه نُظُما جاهلية واجه العقيدة بلا هوادة ، ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول الأمر ، ورفع راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، ثم جاء الإسلام في الأمور التي تُعتبر من العادات فبدأ يهونها؛ لأن الناس كانت تألفها ، لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة . وكان هذا من حكمة الشرع ، فلم يجعل الأحكام في أول الأمر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي الوجود كله ، وإنما أخذ الأمور بالهوادة .
وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر ، فماذا تستر؟ إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب عن وعيه . ولا يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان الذي كرمه الله بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه به ويُسَيِّر به أمور الخلافة في الأرض ويستره ويغيِّبه ، لأن من يفعل ذلك فكأنه رد على الله النعمة التي أكرمه بها ، وهذا هو الحمق .
ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا ، ونسأل هؤلاء : وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ لا ، ولذلك فالإسلام يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها بجماع عقلك ، فإذا كانت هناك هموم ومشكلات فالإسلام لا يريد منك أن تنساها ، لا ، بل لابد أن توظف عقلك في مواجهتها ، وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلات بعقلك فلا تأتي لمركز إدارة الأمور الحياتية وهو العقل ، والذي يعينك على مواجهة المشكلات وتقهره بتغييبه عن العمل .
وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد السبيل للخروج منها ، فإذا كان الأمر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه؛ لأن الله يريد منك أن تريح عقلك في مثل هذه الأمور ، وإن كان الأمر له حل وفي استطاعتك حله ، فأنت تحتاج للعقل بكامل قوته .
والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم ، ويعطينا عطاء لنحكم نحن في الأمر قبل أن يطلب منا . إنه سبحانه يمتن علينا ويقول : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ]
فعندما ذكر الله { سَكَراً } مر عليها بلا تعليق .
(1/582)

وعندما قال : { رِزْقاً } وصفه بأنه { حَسَناً } فكان يجب أن نتنبه إلى أن الله يمهد لموقف الإسلام من الخمر؛ فهو لم يصف " السكر " بأي وصف ، وجعل للرزق وصفا هو الحسن؛ فالناس عندما يستخرجون من هذه الثمرات سكراً ، فهم قد أخرجوها عن الرزق الحسن ، لأن هناك فرقا بين أن تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده وتجعله ساتراً للعقل .
وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح . فعندما تنصح شخصا فأنت تقول له : سأدلك على طريق الخير وأنت حر في أن تسير فيه أو لا تسير . وعندما تشرع وتضع الحكم ، فأنت تأمر هذا الشخص أو ذاك بأن يفعل الأمر ولا شيء سواه .
والحق سبحانه وتعالى عندما قال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } ، ذكر لنا المفاسد وترك لنا الحكم عليها ، قال سبحانه مُبَلغّاً رسوله : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ولو لم يقل { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } لاستغرب الناس وقالوا : نحن نأخذ من الخمر منافع ، ونكتسب منها ، وننسى بها همومنا ، كانت هذه هي المنافع بالنسبة لهم ، لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما ، أي أن العائد من وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما ، وهذا تقييم عادل ، فلم تكن المسألة قد دخلت في نطاق التحريم ، لأنها مازالت في منطقة النصح والإرشاد .
وقوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } يجعل فيهما نوعا من الذنب ، لقد كان التدرج في الحكم أمراً مطلوباً لأنه سبحانه يعالج أمراً بإلف العادة ، فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة . والعادة شيء يقود إلى الاعتياد؛ بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّدَتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك اضطراب . وما دامت المسألة تقود إلى الاعتياد ، فالأفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع الاعتياد .
لقد كانت بداية الحكم في أمر الخمر أن أحداً من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائياً ، وجاء ليصلي ، فقال : " قُلْ ياأيها الكافرون * أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ " وبعدها نزل تأديب الحق بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ . . } [ النساء : 43 ]
وفي ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر ألا يقربها؛ فالإنسان الذي يصلي صدر عليه الحكم ألا يقرب الصلاة وهو سكران ، فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فلا يقرب الخمر حتى يصلي الصبح ، ويقترب الظهر فيستعد للصلاة ، ثم العصر بعد ذلك ، ويليه المغرب فالعشاء ، أي لن يصبح عنده وقت ليشرب في الأوقات التي ينتظر فيها الصلاة ، إذن فلا تصبح عنده فرصة إلا في آخر الليل ، فإذا ما جاء الليل يشرب له كأساً ثم يغط في نومه . ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن الخمر أطول من الوقت الذي يتعاطى فيه الخمر .
ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع ، حدثت بعض الخلافات والمشكلات التي دفعتهم لأن يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح لهم حكماً فاصلاً في الخمر فنزل قوله تعالى :
(1/583)

{ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 90-91 ]
فقالوا : انتهينا يا رب .
إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على الإنسان عقله؛ لأن العقل هو مناط التكليف للإنسان ، وهو مناط الاختيار بين البدائل ، فأراد الحق أن يصون للإنسان تلك النعمة .
إن هدف الدين في المقام الأول سلامة الضرورات الخمس التي لا يستغني عنها الإنسان : سلامة النفس ، وسلامة العرض ، وسلامة المال ، وسلامة العقل ، وسلامة الدين . وكل التشريعات تدور حول سلامة هذه الضرورات الخمس ، ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن الحفاظ عليها يبدأ من سلامة العقل ، فسلامة العقل تجعله يفكر في دينه . وسلامة العقل تجعله يفكر في حركة الحياة . وسلامة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض .
إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التي تدور حولها هذه المسألة ، والحق سبحانه وتعالى يريد ألا يخمر الإنسان عقله بأي شيء مُسكر . حتى لا يحدث عدوان على هذه الضرورات الخمس .
وقد جمع الله في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر ، وهو جل وعلا يريد أن يحمي غفلة الناس . فلعب الميسر يتمثل في صورته البسيطة في اثنين يجلسان أمام بعضهما البعض ، وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر ، فأي أخوة تبقى بين هؤلاء؟ إن كلاًّ منهما حريص على أن يعيد الآخر إلى منزله خاوي الجيوب فأي أخوة تكون بين الاثنين؟
ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر في صورة الأصحاب ، ويحرص كل منهما على لقاء الآخر ، فأي خيبة في هذه الصداقة؟!
ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله ، يأخذ ماله ويبقى على صداقته ، والعجيب الأكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر . ولو لاحظت حياة هؤلاء الذين يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بلا احتياط ولا ينتفعون أبداً بما يصل أيديهم من مال مهما كان كثيراً ، لماذا؟
لأن المال حين يُكتسب بيسر ، يُصرف منه بلا احتياط ، هذا هو حال من يكسب ، أما بالنسبة للخاسر فتجده يعيش في الحسرة والألم على ما فقد ، وتجده في فقر دائم ، وربما اضطر إلى التضحية بعرضه وشرفه ، إن لم يبع ملابسه ، وأعز ما يملك ، ويحدث كل ذلك بأمان زائفة ، وآمال كاذبة يزينها الشيطان للطرفين ، الذي كسب والذي خسر ، فالذي كسب يتمنى زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر ، والذي خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب .
وعندما يتعود الإنسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه ، ويعتاد أن يعيش على الكسب السهل الرخيص ، وحين لا يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس .
(1/584)

وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر؛ إنهم أصحاب الرذائل في المجتمع ، فهم الذين يرتشون ويسرقون ويعربدون ، ولا أخلاق عندهم وليس لهم صاحب ولا صديق ، وبيوتهم منهارة ، وأسرهم مفككة ، وعليهم اللعنة حتى في هيئتهم وهندامهم .
ولذلك قال الحق : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } وما دام الإثم أكبر من النفع ، فقد رجح جانب الإثم . هذا في العملية الذاتية ، أما في العملية الزمنية فقد قال سبحانه : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ]
وبعد ذلك أنهى سبحانه المسألة تماما بقوله الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ]
ثم تمضي الآية إلى سؤال آخر هو { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } إنه السؤال نفسه من عمرو بن الجموح وكان الجواب عليه من قبلُ هو { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } وهنا جواب بشكل وصورة أخرى { قُلِ العفو } والعفو معناه الزيادة وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الأعراف : 94-95 ]
إن الله جلت قدرته يحذر وينذر لعل الناس تتذكر وتعتبر ، إنه سبحانه لم يرسل نبيًّا إلى قومٍ فقابلوه بالتكذيب والنكران إلاّ أخذهم وابتلاهم بالفقر والبؤس والمرض والضر لعلهم يتوبون إلى ربهم ويتذلّلون له سبحانه ليرفع عنهم ما ابتلاهم به ، ثم لما لم يرجعوا ويقلعوا عما هم فيه من الكفر والعناد اختبرهم وامتحنهم بالنعم؛ بالخصب والثراء والعافية والرخاء حتى كثروا وزادت أموالهم وخيراتهم ، وقالوا وهم في ظل تلك النعم : إن ما يصيبنا من سراء وضراء وخير وشر إنما هو سنة الكون ، وعادة الدهر ، فأسلافنا وآباؤنا كان يعتريهم مثل ما يصيبنا ، ولما أصروا على كفرهم باغتهم الله بالعذاب ، وأنزل بهم العقاب المفاجئ . قلبهم الله بين الشدة والرخاء ، وعالجهم بالضر واليسر ، حتى لا تكون لهم حجة على الله ، ولما ظهرت خسة طبعهم وأقاموا على باطلهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر . ولنتأمل قوله تعالى في ذلك : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }
(1/585)

[ الأنعام : 42-44 ]
أي لم نعجل بعقابهم بل تركناهم فتمادوا في المعصية حتى إذا فرحوا بما أتوا من النعمة والثروة وكثرة العدد ، { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } أي يائسون من رحمة الله أو نادمون متحسرون ، ولا ينفعهم الندم حينئذ . فقد فاتت الفرصة وضيّعوها على أنفسهم .
إن الحق ينزل هذا الأمر كعقاب وبه تكون النقلة صعبة ، إنهم يتمادون فيعاقبهم الحق عقاباً صاعقاً ، كالذي يرفع كائناً في الفضاء ثم يتركه ليهوى على الأرض ، والعفو هنا يمكن أن يكون بمعنى أنهم ازدادوا في الطغيان . وهناك معنى آخر للعفو فقد يأتي بمعنى الترك : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف } [ البقرة : 178 ]
أي فمن ترك له أخوه شيئا فليأخذه . إذن فالعفو تارة يكون بمعنى الزيادة ، وتارة أخرى يكون بمعنى الترك ، والحق هنا يقول : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } أي أن الإنفاق إنما يكون من الزائد عن الحاجة ، فيكون معنى العفو هنا هو الزائد أو المتروك ، وهكذا نرى أن العفو واحد في كلا الأمرين ، فلا تظن أن المعاني تتضارب؛ لأن بها يتحقق المعنى المقصود في النهاية . فالعفو هو الزيادة ، والعفو أيضا يؤخذ بمعنى الصفح .
إذن فالإنفاق من الزائد عن الحاجة يحقق الصفح ويحقق الرفاهية في المجتمع . فالذي يزرع أرضا وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد ، فهل يترك ما يزيد عن حاجته ليفسد أم ينفق منه على قريبه أو جاره المحتاج؟ أيهما أقرب إلى العقل والمنطق؟ وكان ذلك قبل أن يشرع الحق الزكاة بنظامها المعروف . وما سر تبديلها من عفو إلى زكاة؟
لأن الحق أراد أن يقدر حركة المتحرك ، فجعل حركته تخفف عنه ولا تثقل عليه . لأن حركة المتحرك تنفع المتحرك ، أراد المتحرك أو لم يرد؛ ولذلك نجد " زكاة الركاز " وهي الزكاة المفروضة على ما يوجد في باطن الأرض من ثروات كالمعادن النفيسة والبترول وغيرها ، لقد جعل الحق نصاب تلك الزكاة عشرين في المائة ، أي الخمس بينما الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويتركها حتى ينزل المطر فتنمو فنصاب الزكاة هو العشر على ما أنتجته زراعته .
وأما الذي يزرع على ماء الري فعليه نصف العشر . والذي يتاجر كل يوم ويتعب فيذهب للمنتج ويشتري منه ، ثم يوفر السلعة على البائع فيشتريها ، هذا نقول له : عليك اثنان ونصف في المائة ( 2 . 5% ) فقط .
إذن فالزكاة متناسبة مع الحركة والجهد ، كأن الحق يحمي الحركة الإنسانية من حمق التقنين البشري . إن المتحرك القوي يدفعه الله ليزيد من حركته لينتفع المجتمع ، وأوكل الله للحاكم الذي يتبع منهج الإسلام أن يأخذ من الأثرياء ما يقيم به كرامة الفقراء . إِنْ بَخِلَ الأغنياء بفضل الله عليهم ، ولم ينفقوا على الفقراء من رزق الله؛ فالمنهج الحق يحمي المال من فساد الطمع ، ومن فساد الكسل ، ويريد الحياة مستقيمة وآمنة للناس .
(1/586)

فالذي ينفق من ماله على أهله يحيا وهو آمن . وكذلك من ينفق على أهله وتوابعه فتزداد دائرة الأمان ، وهكذا لقد حمى الله بالزكاة طموح البشر من حمق التقنين من البشر ، فالمقنن من البشر يأتي للمتحرك أكثر ويزيد عليه الأعباء ، نقول له : إن هذا المتحرك إن لم يقصد أن ينفع المجتمع فالمجتمع سينتفع بجهده بالرغم عنه؛ فالإنسان الذي يملك مالا يُلقي الله خاطرا في باله ، فيقول : " ماذا لو بنيت عمارة من عشرة أدوار ، وفي كل دور أربع شقق " ويحسب كم تعطيه تلك العمارة من عائد كل شهر . إن هذا الرجل لم يكن في باله إلا أن يربح ، فنتركه يفكر في الربح ، وعندما نراقب الفائدة التي ستعود على المجتمع منه فسنجد الفائدة تعود على المجتمع من هذا العمل ، ولنا أن نحسب كم فردا سوف يعمل في بناء تلك العمارة الجديدة؟ ابتداء من البنائين ومرورا بالنجارين والحدادين والمبيضين والسباكين وغيرهم .
إن كل طبقات المجتمع الفقيرة تكون قد أفادت واستفادت من مال هذا الرجل قبل أن يدخل جيبه مليم واحد؛ لقد ألقى الله في نفسه خاطراً ، فأخرج كل ما في جيبه ، وألقاه في جيوب الآخرين قبل أن توجد له عمارة . وهكذا يحمي الله حركة المتحرك لأن حركته ستفيد سواه قصد إلى ذلك أو لم يقصد .
أما إذا قلنا له : سنأخذ ما يزيد عن حاجتك قسراً فلا بد أن يقول لنفسه : " سأجعل حركتي على قدر حاجتي ولا أزيد إلا قليلا " . والحق عز وجل لا يريد أن يشيع هذا المنطق بين الناس ، ولكن يريد لهم أن يتحركوا في الحياة بالجدية والحلال ، وكلما تكثر حركتهم تقل الزكاة المفروضة عليهم ، لأن الحركة لا يستفيد منها صاحبها فقط ولكن يستفيد منها الجميع ، فبعضه يسكن ، وآخر يزرع ، وثالث يعمل ، وخير للإنسان أن يأكل من عمل يديه من أن يأكل من صدقات الناس وزكاتهم .
عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده " .
ويقول الحق من بعد ذلك : { فِي الدنيا والآخرة وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ . . . }
(1/587)

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
إن الحق يبدأ هذه الآية بقوله : { فِي الدنيا والآخرة } وكأنه يقول لنا : إياك أن تعتقدوا أن كل تكليف من الله جزاؤه في الآخرة فقط ، أبدا إن الجزاء سيصيبكم في الدنيا أيضا .
وتأمل سيرة المستقيمين الملتزمين بمنهج دينهم ومنهج الأخلاق في حياتهم تجدهم قد أخذوا جزاءهم في الدنيا رضا وسعادة وأمنا حتى أنك تجد الناس تتساءل : كيف ربى فلان أولاده ، وكيف علمهم برغم أن مرتبه بسيط؟
هم لا يعلمون أن يد الله معه بالبركة في كل حركات حياته . فلا تظن أن الجزاء مقصور على الآخرة فقط ، بل يعجل الله بالجزاء في الدنيا ، أما الآخرة فهي زيادة ونحن نأخذ متاع الآخرة بفضل الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وأحب أن يتأمل كل منا أحوال الناس المستقيمين في منهج الحياة ، ويرى كيف يعيشون وكيف ينفقون على أولادهم ، ويتأمل البشر والرضا الذي يتمتعون به وكيف تخلو حياتهم من المشاكل والعقد النفسية .
وكأنه سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن كل ما جاء في المنهج القويم ، إنما جاء لينظم لنا حركة الحياة ويخرجنا من أهواء النفوس .
ونقول بعد أن استكمل الحق الكلام عن الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام ، بين لنا صنفين من المجتمع : أما الصنف الأول فهو الصنف المنافق الذي لا ينسجم منطقه مع واقع قلبه ونفسه : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام * وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد } [ البقرة : 204-205 ]
وليت هذا الصنف حين يتنبه إلى ذلك يرتدع ويرجع ، لا ، إنه إذا قيل له من ناصح محب مشفق : " اتق الله " أخذته العزة بالإثم!! . والصنف الآخر في المجتمع هو من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، ويتمثل ذلك في أنه إما أن يبيع نفسه في القتال فيكون شهيداً ، وإما أن يستبقيها استبقاءً يكون فيه الخير لمنهج الله . فقال سبحانه : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد } [ البقرة : 207 ]
ثم تكلم الحق عن الدخول في السلم كافة ، والدخول في السلم أي الإسلام يطلب منا أن ندخل جميعاً في كل أنواع السلم في الحياة ، سلم مع نفسك فلا تتعارض ملكاتك ، فلا تقول قولاً يناقض قلبك ، وسِلمٌ مع المجتمع الذي تعيش فيه ، وسلم مع الكون الذي يخدمك جماداً ونباتاً وحيواناً ، وسلم مع أمتك التي تعيش فيها ، فقال سبحانه : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
(1/588)

[ البقرة : 208 ]
كل ذلك يدلنا على أن الحق حين خلق الخلق ، وضع لهم المنهج الذي يضمن لهم السلامة والأمن في كل أطوار هذه الحياة ، فإن رأيت خللاً أو اضطراباً في الكون ، أو رأيت خوفاً أو قلقاً فاعلم أن منهجاً من مناهج الإسلام قد عُطل . والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا أن ندخل في السلم كافة فهو سبحانه يحذرنا أننا إن زللنا عن المنهج فإن الله عزيز حكيم فلا يغلبه أحد ، ولا يقدر عليه أحد ، فهو القادر القوي الذي يُجري كل شيء بحكمة ، فلا تظنوا أنكم بذلك تسيئون إلى الله بالزلل عن منهجه ، وإنما تسيئون إلى أنفسكم وإلى أبناء جنسكم؛ لأن الله لا يُغلب .
وينبهنا الحق سبحانه تنبيها آخر ، إنه يلفتنا إلى أننا لا نملك أمر الساعة ، فالساعة تأتي بغتة ومفاجئة ، وصاخة طامة ، مرجفة مزلزلة . فاحذروا أن تصيبكم هذه الرجفة وأنتم في غفلة عنها . وكل ذلك لندخل أيضا في السلام في اليوم الآخر ، وكأن الحق سبحانه يلفتنا إلى أن كلمات القرآن ليست مجرد كلمات نظرية ، ولكنها كلمات الحكيم الخبير التي حكمت تاريخ الأمم التي سبقت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم .
فكم من آيات أرسلها الحق إلى بني إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان ، وشقوا هم ، وشقي بهم المجتمع ، إذن فالكلام ليس كلاماً نظرياً . ويريد الله لنا أن ننظر بعمق إلى أمور الحياة ، وألا ننظر إلى سطحيات الأمور ، فيجب ألا تخدعنا زينة الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة؛ لأن الحياة الدنيا أَمَدُها قصير ، وعلينا أن نقيس عمر الدنيا بأعمارنا منها ، وأعمارنا فيها قصيرة؛ لأن منا من يموت كبيراً ومنا من يموت صغيراً .
ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملاً ، وإنما أرسل لهم رسُلاً يبينون لهم منهج الله ، فكان الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الأهواء في نفوسهم ، ومع ذلك رحمهم الله فلم يسلمهم إلى الأهواء ، بل استمر موكب الرسالات في البشر ، وكلما غلبتهم الأهواء وطم الفساد ، أرسل الحق برحمته رسولا لينبه إلى أن جاء الرسول الخاتم الذي ميزه الله بخلود منهجه ، وجعل القيم في أمته . وصارت الأمة المحمدية هي حاملة أمانة حراسة المنهج الذي يصون حركة الحياة في الأرض؛ لأن الحق سبحانه لم يأمن أمة سواها ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء .
ثم نبهنا الله من بعد ذلك إلى أن نهاية الإنسان إلى نعيم الله في الجنة لن يأتي سهلاً ميسوراً ، بل هو طريق محفوف بالمكارة ، فيجب أن تنبهوا أنفسكم وتروضوها وتدربوها على تحمل هذه المكاره ، وتوطنوها على تحملها لتلك المشاق . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " .
(1/589)

ويمتن الحق من بعد ذلك على خلقه أنه أهدى للإنسان الخليفة في الأرض عقلاً يفكر به ، وطاقة تنفذ تخطيط العقل ، وكوناً مادياً أمامه يتفاعل معه في الحركة : فالعقل يخطط ، والطاقة تنفذ في المادة المخلوقة المسخرة لله . إذن فكل أدوات الحركة موجودة لله ، وليس لك أيها الإنسان أن تخلق شيئاً فيها إلا أن تُُُوجه طاقات مخلوقة للعمل في مادة مخلوقة ، فأنت لا توجد شيئا .
وبعد ذلك يطلب الحق منك أيها المسلم أن تحافظ على حركة الحياة ، بأن تقدر للعاجز عن هذه الحركة نصيباً من حركتك؛ لذلك فعليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك ، وتسع من تعول ، وتسع العاجز عن الحركة . وبذلك تؤمّن السماء كل عاجز عن الحركة بحركة المتحركين من إخوانه المؤمنين ، وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا فعلت ذلك وأَمَّنْتَ العاجز ، فهو جل وعلا يؤمنك حين يطرأ عليك العجز .
لقد جعل الله سبحانه حالة الحياة دولاً بين الناس ، فلا يوجد قوم قادرون دائماً ولا قوم عاجزين دائماً ، بل يجعل الحق من القادرين بالأمس عاجزين اليوم؛ ومن العاجزين بالأمس قادرين اليوم؛ حتى تتوزع الحركة في الوجود . وحتى يعلم كل منا أن الله يطلب منك حين تقدر؛ ليعطيك حين تعجز . لذلك طلب منا أن ننفق ، والنفقة على الغير لا تتأتى إلا بعد استيفاء الإنسان ضروريات حياته ، فكأن الحق يقول لك : إن عليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك وتسع أن تنفق على من تعول ، وإلا لو تحركت حركة على قدرك فقد لا تجد ما تنفقه .
وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية الإنفاق على الدائرة القريبة منه؛ ليتحمل كل موجود في الحياة مسئولية قطاع من المجتمع مربوط به رباطا نَسَبِيّاً؛ كالوالدين والأقربين . وأن نجعل الضعفاء من الأيتام مشاعاً على المجتمع مطلوبين من الجميع . سواءٌ كانت تربطهم بنا قرابة أو لا تربطنا بهم قرابة فهم جميعاً أقاربنا؛ لأن الله كلفنا بأن نرعاهم .
ولكن هل يمكن أن يستقر منهج الله دون أن يعاديه أحد؟ طبعاً لا؛ لذلك ينبهنا الحق إلى أننا سنجد أقواماً لا يسعدهم أن يطبق منهج الله في الوجود؛ لأنهم لا يعيشون إلا على مظالم الناس ، هؤلاء قوم سيسوؤهم أن يُطبق منهج الله ، فلتنتبهوا لهؤلاء؛ ولذلك فرض الحق سبحانه القتال حتى نمنع الفتنة بالكفر من الأرض؛ لأن الكفر يعدد الآلهة في الكون وسيتبع كل إنسان الهوى ، ويصبح إلهه هواه وستتعدد الآلهة بتعدد الأهواء ، ولذلك كتب الله على المؤمنين القتال وقال : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } ، كل ذلك ليضمن لنا الغاية التي يريدها ، وهي الدخول في السلم والسلام والإسلام كافة . وبعد ذلك يطلب منا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وأن نهجر أوطاننا وأهلنا إن احتاجت إلى ذلك الحركة الإيمانية فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(1/590)

[ البقرة : 218 ]
ويلفتنا الحق بعد ذلك إلى قمة الجهاز التخطيطي في الإنسان ليحميه ويجعله جهازاً سليماً قادراً على التخطيط بصفاء وحكمة وقوة ، وهو العقل ، ويلفتنا بضرورة أن نمنع عن العقل كل ما يخمره أي يستره عن الحركة نمنع عنه الخمر لماذا؟ ليظل العقل كما يريده الله أداة الاختيار بين البدائل .
وما دام العقل هو الذي يخطط للطاقة الموجودة في الإنسان لتعمل في المادة الموجودة في الكون فيجب أن يظل هذا العقل المخطط سليماً ، فلا يحاول الإنسان أن يستره ، ولا يقل أحد : " إني أستره من فرط زيادة المشكلات " ، لا : لأن المشكلات لا تريد عقلاً واحداً منك فقط ، ولكنها تريد عقلين ، فلا تأتي للعقل الواحد لتطمسه بالخمر ، فمواجهة المشكلات تقتضي أن نخطط تخطيطاً قوياً .
وبعد ذلك يحذرنا الحق أن نأخذ من حركة الآخرين بغير عرق وبغير جهد ، فيحذرنا من الميسر وهو الرزق السهل ، والتحذير من الميسر إنما جاء ليضمن لكل إنسان أن يتحرك في الحياة حركة سليمة لا خداع فيها . وكأن كل ما تقدم هو من إشراقات قوله الحق : { فِي الدنيا والآخرة } ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 220 ]
ونعرف أن اليتامى قد لا يدخلون في دائرة المحتاجين لكن الله ينبهنا إلى أن المسألة في اليتيم ليست مسألة احتياج إلى الاقتيات ، ولكنه في حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل الإيماني عما فقده من الأب ، وذلك يمنع عنه الحقد على الأطفال الذين لم يمت آباؤهم . وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين آباء له فيشعر بالتكافل الذي يعوضه حنان الأب ولا يعاني من نظرة الأسى التي ينظر بها إلى أقرانه المتميزين عليه بوجود آبائهم ، وبذلك تخلع منه الحقد .
وكان المسلمون القدامى يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ليسهلوا على أنفسهم ، وعلى أمر حركة اليتيم مئونة العمل ، فلو أن يتيماً دخل تحت وصاية إنسان ، وأراد هذا الإنسان أن يجعل لليتيم القاصر حياة مستقلة وإدارة مستقلة ومسلكاً مستقلاً في الحياة لشق ذلك على نفس الرجل ، ولذلك أذن الله أن يخلط الوصي ماله بمال اليتيم ، وأن يجعل حركة هذا المال من حركة ماله ، بما لا يوجد عند الوصي مشقة . ولما نزل قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ]
وتحرج الناس ، وتساءلوا كيف يعاملون اليتيم خصوصا أن الحق سبحانه وتعالى قال : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ]
وكف الناس أيديهم عن أمر اليتامى ، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسهل الأمر ، فأنزل القول الحق : { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } والمخالطة تكون على أساس أن اليتامى إخوانكم واحذروا جيداً أن يكون في هذا الخلط شيء لا يكون فيه إصلاح لليتيم .
(1/591)

وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الاجتماعية تكفي الوصي في أن يكون مشرفاً على مال اليتيم دون حساب؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح . فلا يحاول أحد أن يقول أمام الناس : إنه قد فتح بيته لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما الأمر على غير ذلك؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح .
ويقول الحق : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } والإعنات هو أن توقع غيرك وتدخله في أمر فيه مشقة ، فلو لم يبح الله لكم مخالطتهم لأصابتكم مشقة فيسر الله للمؤمنين من الأوصياء أن يخالطوا اليتامى ، ومعنى المخالطة : هو أن يُوحد الوصي حركة اليتيم مع حركته ، وأن يوحد معاش اليتيم مع معاشه ، بدلاً من أن يكون لليتيم على سبيل المثال أدوات طعام مستقلة ، وقد كان هذا هو الحاصل .
وكان يفسد ما يتبقى من الطعام؛ فلم تكن هناك وسائل صيانة وحفظ الأطعمة مثل الثلاجات ، وكان ذلك ضرراً باليتيم ، وضرراً أيضا بمن يشرف عليه . لكن حين قال : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ } ، فكان ذلك توفيرا للمشقة على الأوصياء . فالمخالطة هي المعاشرة التي لا يتعثر فيه التمييز .
وقد درسنا في طفولتنا درسا بعنوان " الخلط والمزج " فالخلط هو أن تخلط على سبيل المثال حبوب الفول مع حبوب العدس ، أو حبوب الأرز مع حبوب البندق .
وعندما تأتي لتمييز صنف من آخر ، فأنت تستطيع ذلك ، وتستطيع أن تفصل الصنفين بعضا عن بعض بالغربال؛ ولذلك فالمخالطة تكون بين الحبوب ونحوها .
أما المزج فهو في السوائل . والحق سبحانه يرشدنا أن نخالط اليتامى لا أن نمزج مالهم بمالنا؛ لأن اليتيم سيصل يوما إلى سن الرشد ، وسيكون على الوصي أن يفصل ماله عن مال اليتيم .
ويتابع الحق : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } لأن الوصي قد يدعي أمام الناس أنه يرعى حق اليتيم ، وأنه يقوم بمصالحه ويحترم ماله ، لكن الأمر قد يختلف في النية وهو سبحانه لم يكل الأمر إلى ظواهر فهم المجتمع لسلوك الوصي مع اليتيم وعن المخالطة ، بل نسب ذلك كله إلى رقابته سبحانه ، وذلك حتى يحتاط الإنسان ويعرف أن رقابة الله فوق كل رقابة ، ولو شاء الحق لأعنت الأوصياء وجعلهم يعملون لليتيم وحده ، ويفصلون بين حياة اليتيم وحياتهم ومعاشهم . وفي ذلك مشقة شديدة على النفس . وحتى نفهم معنى العنت بدقة فلنقرأ قول الحق سبحانه : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ]
لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول منكم ، عربي ومن قريش يبلغكم رسالة الله سبحانه وتعالى . يحرص عليكم كيلا تقعوا في مشقة أو تعيشوا في ضنك الكفر ، حريص على أن تكونوا من المهتدين .
(1/592)

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتي من جنس الملائكة ، ولكن جاء من جنس البشر ، فلا يقولن أحد : إنه لا يصلح أسوة لي . إنه نشأ في مكة التي تعيش بها قريش ، وتاريخه معروف لقومه : بدليل أنهم خلعوا عليه أول الأوصاف المطلوبة والواجبة للرسالة وهي الأمانة ، فالحق جاء به من البشر وليس بغريب عليهم ، وبمجرد أن أخبر بالوحي وجد أناسا آمنوا به قبل أن يقرأ قرآنا ، وقبل أن يأتيهم بتحدٍ . " فعندما جاءه المَلَكُ جبريلُ عليه السلام في غار حراء ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، [ أي ضمني وعصرني ، والحكمة فيه شغله عن الالتفات ليكون قلبه حاضراً ] ثم أرسلني فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني الثالثة فغطني ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم * الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال لها : " زملوني . زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : " لقد خشيت على نفسي " لكن خديجة رضي الله عنها بحسن استنباطها تقول : " كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " " .
إن خديجة رضوان الله عليها تستنبط أن من فيه هذه الخصال إنما هو مهيأ للرسالة . { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ]
أي محب لكم يشق عليه ويتعبه ما يشق عليكم ويتعبكم؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولا بأمته . ويروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمتي . أمتي . أمتي " . والحق سبحانه وتعالى يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بأمته . " عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي . . } الآية . وقال عيسى عليه السلام : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي وبكى . فقال الله عز وجل : " يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك . فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " " .
(1/593)

إننا عندما نتأمل دقة الجواب النبوي نعرف أن الرسول الكريم مشغول بأمته ، ولكنه ينظر إلى نفسه على أنه أخ لكل مؤمن . والأخ قد يتغير على أخيه؛ لذلك لم يشأ الرسول الكريم أن يُخرج أمر المسلمين من يد الله ورحمته وهو الخالق الكريم إلى أمره هو صلى الله عليه وسلم .
إن الرسول يعرف أن الله أرحم بخلقه من أي إنسان ، حتى الرسول نفسه . نقول ذلك في معرض حديثنا عن العنت الذي يمكن أن يصاحب الإنسان أن لم يرع حق الله في مال اليتيم؛ لأن الله عزيز حكيم ، وهو الحق الذي يغلب ولا يغلبه أحد . ونرى في قول الحق : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أن صفة العزة متآزرة بصفة الحكمة .
وبعد ذلك يدخل معنا الحق سبحانه وتعالى في مسألة جديدة لو نظرنا إليها لوجدناها أساس أي حركة في الحياة وفي المجتمع ، إنها مسألة الزواج . ويريد سبحانه أن يضمن الاستقرار والسعادة للكائن الذين كرمه وجعله خليفة في الأرض ، وجعل كل الأجناس مسخرة لخدمته .
إن الحق يريد أن يصدر ذلك الكائن عن ينبوع منهجي واحد؛ لأن الأهواء المتضاربة هي التي تفسد حركة الحياة ، فأراد أن يصدر المجموع الإنساني كله عن ينبوع عقدي واحد ، وأراد أن يحمي ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والأهواء ، لذلك ينبهنا الحق إلى هذا الموقف . إنه سبحانه يريد سلامة الوعاء الذي سيوجد ذلك الإنسان ، من بعد الزواج ، فبالزواج ينجب الإنسان وتستمر الحياة بالتكاثر . ولذلك لابد من الدقة في اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل . فهو سبحانه يقول : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ . . . }
(1/594)

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
إن الحق يقول : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } ، وهذه أول لبنة في بناء الأسرة وبناء المجتمع ، لأنها لو لم تكن مؤمنة ، فماذا سوف يحدث؟ إنها ستشرف على تربية الطفل الوليد إشرافاً يتناسب مع إشراكها ، وأنت مهمتك كأب ومرب لن تتأتى إلا بعد مدة طويلة تكون فيها المسائل قد غُرست في الوليد ، فإياك أن يكون الرجل مؤمنا والمرأة مشركة؛ لأن هذا يخل بنظام الأسرة فعمل الأم مع الوليد يؤثر في أوليات تكوينه إنه يؤثر في قيمه ، وتكوين أخلاقه . وهذا أمر يبدأ من لحظة أن يرى ويعي ، والطفل يقضي سنواته الأولى في حضن أمه ، وبعد ذلك يكبر؛ فيكون في حضن أبيه ، فإذا كانت الأم مشركة والأب مؤمنا فإن الإيمان لن يلحقه إلا بعد أن يكون الشرك قد أخذ منه وتمكن وتسلط عليه .
ونعرف أن الطفولة في الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في الكائنات كلها ، فهناك طفولة تمكث ساعتين اثنتين مثل طفولة الذباب ، وهناك طفولة أخرى تستغرق شهراً ، وأطول طفولة إنما تكون في الإنسان؛ لأن هذه الطفولة مناسبة للمهمة التي سيقوم بها الإنسان ، كل الطفولات التي قبلها طفولات لها مهمة سهلة جدا ، إنما الإنسان هو الذي ستأتي منه القيم ، لهذا كانت طفولته طويلة؛ إنها تستمر حتى فترة بلوغ الحلم . والحق هو القائل : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ النور : 59 ]
فكأن الطفل يظل طفلاً إلى أن يبلغ الحلم ، فكم سنة إذن ستمر على الطفل؟ . وكم سنة سوف يتغذى هذا الطفل من ينابيع الشرك إن كانت أمه مشركة؟ إنها فترة طويلة لا يمكن له من بعد ذلك أن يكون مؤمنا غير مضطرب الملكات . وإن صلح مثل هذا الإنسان أن يكون مؤمنا فسيقوم إيمانه على القهر والقسر والولاية للأب وسيكون مثل هذا الإيمان عملية شكلية وليست مرتكزة ولا معتمدة على أساس صادق .
ونحن نعرف أن الثمرات التي ننعم نحن بأكلها لا يكون نضجها إلا حين تنضج البذرة التي تتكوّن منها شجرة جديدة ، وقبل ذلك تكون مجرد فاكهة فِجة وليس لها طعم . وقد أراد الحق أن ينبهنا إلى هذا الأمر ليحرص الإنسان على أن يستبقى الثمرة إلى أن تنضج ويصير لها بذور .
إن المرأة لا تكون ثمرة طيبة إلا إذا أنجبت مثلها ولداً صالحا نافعا ، يريد الحق للنشء أن يكون غير مضطرب الإيمان؛ لذلك يقول : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } أي إياكم أن تنخدعوا بالمعايير الهابطة النازلة ، وعلى كل منكم أن يأخذ حكم الله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } لأن إعجاب الإنسان بالمرأة بصرف النظر عن الإيمان سيكون إعجابا قصير العمر .
(1/595)

إن عمر الاستمتاع بالجمال الحسي للمرأة إن جمعنا لحظاته فلن يزيد مجموعه عن شهر من مجموع سنوات الزواج . فكل أسبوع يتم لقاء قد يستغرق دقائق وبعدها يذبل الجمال ، وتبقى القيم هي المتحكمة ، ونحن نجد المرأة حين تتزوج ، ثم يبطئ الحمل فإنها تعاني من القلق وكذلك أهلها .
إن الرجل إن كان قد تزوجها للوسامة والقسامة والقوام والعينين ، فهذا كله سيبرد ويهدأ بعد فترة ، ثم توجد مقاييس أخرى لاستبقاء الحياة ، وعندما يلتفت إليها الإنسان ولا يجدها فهو يغرق في الندم؛ لأنها لم تكن في باله وقت أن اختار .
لذلك تريد المرأة أن تُمكن لنفسها بأن يكون عندها ولد لتربط الرجل بها ، وحتى يقول المجتمع : " عليك أن تتحملها من أجل الأولاد "! فالرجل بعد الزواج يريد قيماً أخرى غير القيم الحسية التي كانت ناشئة أولاً ، لذلك يحذرنا الله قائلاً : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } . وجاء قوله { حتى يُؤْمِنَّ } لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ما دامت قد آمنت فقد انتهت المسألة .
وانظروا إلى دقة قوله سبحانه : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } أي إنّ الأمة المسلمة خير من حرة مشركة ، { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } لقد جاء قول الحق هنا بمقاييس الإعجاب الحسي . ليلفتنا إلى أننا لا يصح أن نهمل مقاييس خالدة ونأخذ مقاييس بائدة وزائلة .
ثم يقول الحق : " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " وهذا هو النظير في الخطاب وهو ليس متقابلا فهو لم يخاطب المؤمنات ألا ينكحن المشركين ، إنما قال { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } وتلك دقة في الأداء هنا؛ لأن الرجل له الولاية في أن يُنْكح ، فيأمره بقوله : لا تُنكح ، لكن المرأة ليس لها ولاية أن تُنكح نفسها . فنحن نعرف القاعدة الشرعية التي تقول : " لا نكاح إلا بولي " ، وهو لم يوجه حديثه للنساء؛ لأن المرأة تتحكم فيها عاطفتها لكن وليها ينظر للأمر من مجموعة زوايا أخرى تحكم الموقف .
صحيح أننا نستأذن الفتاة البكر كي نضمن أن عاطفتها ليست مصدودة عن هذا الزواج ، لكن الأب أو ولي الأمر الرجل يقيس المسائل بمقاييس أخرى ، فلو تركنا للفتاة مقياسها لتهدم الزواج بمجرد هدوء العاطفة ، وساعة تأتي المقاييس العقلية الأخرى فلن تجد ذلك الزواج مناسباً لها فتفشل الحياة الزوجية . لذلك يطالبنا الإسلام أن نستشير المرأة ، كي لا نأتيها بواحد تكرهه ، ولكن الذي يزوجها إلى ذلك الرجل هو وليها؛ لأن له المقاييس العقلية والاجتماعية والخلقية التي قد لا تنظر إليها الفتاة؛ فقد يبهرها في الشاب قوامه وحسن شكله وجاذبية حديثه ، لكن عندما تدخل المسألة في حركة الحياة ودوامتها قد تجده إنساناً غير جدير بها .
ولكي تكون المسألة مزيجاً من عاطفة بنت ، وعقل أب ، وخبرة أم ، كان لابد من استشارة الفتاة ، وأن يستنير الأب برأي الأم ، ثم يقول الأب رأيه أخيراً ، وكل زواج يأتي بهذا الأسلوب فهو زواج يحالفه التوفيق ، لأن المعايير كلها مشتركة ، لا يوجد معيار قد اختل؛ فالأب بنى حكما على أساس موافقة الابنة ، أما إذا رفضت الفتاة وكانت معايير الأب صحيحة ، لكن الابنة ليس لها تقبل لهذا الرجل؛ لذلك فلا يصح أن يتم هذا الزواج .
(1/596)

وكثير من الزيجات قد فشلت لأننا لم نجد من يطبق منهج الله في الدخول إلى الزواج . وحين لا يطبقون منهج الله في الدخول إلى الزواج ثم يُقَابَلون بالفشل فهم يصرخون منادين قواعد الإسلام لتنقذهم .
ونقول لهم : وهل دخلتم الزواج على دين الله؟ إنكم مادمتم قد دخلتم الزواج بآرائكم المعزولة عن منهج الله فلتحلوا المسألة بآرائكم . فالدين ليس مسئولاً إلا عمن يدخل بمقاييسه ، لكن أن تدخل على الزواج بغير مقاييس الله ثم تريد من الله أو من القائمين على أمر الله أن يحلوا لك المشاكل فذلك ظلم منك لنفسك وللقائمين على أمر الله . وإن لم تحدث مثل هذه المشكلات لكنا قد اتهمنا منهج الله . ولقلنا : قد تركنا منهج الله وسعدنا في حياتنا . ولذلك كان لابد أن تقع المشكلات .
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } هذه قضية لها سبب ، لكن العبرة فيها بعموم موضوعها لا بخصوص سببها ، لقد كان السبب فيها هو ما روى أنه كان هناك صحابي اسمه مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين . وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها " عناق " وكانت تحبه ، وساعة رأته أرادت أن تخلو به فقال لها : ويحك إن الإسلام قد حال بيننا ، فقالت له : تزوجني ، فقال لها : أتزوجك لكن بعد أن أستأمر وأستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما استأمره نزل قوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } .
وقيل إن قوله تعالى : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان ، فقال لها حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك وأنزل الله ذكرك في كتابه ، فأعتقها حذيفة وتزوجها .
ويتابع الحق فيقول : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْْ } . إن المقاييس واحدة في اختيار شريك الحياة ، إنها الرغبة في بناء الحياة الأسرية على أساس من الخير ، وغاية كل شيء هي التي تحدد قيمته ، وليست الوسيلة هي التي تحدد قيمة الشيء ، فقد تسير في سبيل وطريق خطر وغايته فيها خير ، وقد تسير في سبيل مفروش بالورود والرياحين وغايته شر ، ولذلك يقول الحق : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .
(1/597)

والذين يدعون إلى النار هم أهل الشرك . أما الله فهو يدعو إلى الجنة ، والمغفرة تأتي بإذن الله أي بتيسير الله وتوفيقه . ونعرف جميعاً الحكمة التي قالها الإمام " علي " كرم الله وجهه : لا خير في خير بعده النار ، ولا شر في شر بعده الجنة .
وقوله الحق؛ { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ترد كثيراً ، هذا التذكر ماذا يفعل؟ إن التذكر يُشعرك بأن القضية كانت معلومة والغفلة هي التي طرأت ، لكن الغفلة إذا تنبهت إليها ، فهي تذكرك ما كنت قد نسيته من قبل ، لكن إن طالت الغفلة ، نُسى الأصل فهذه هي الطامة ، التي تنطمس بها المسألة .
إذن فالتذكر يشمل مراحل : المرحلة الأولى : أن تعرف إن لم تكن تعرف ، أو تعلم إن كنت تجهل ، والمرحلة الثانية : هي أن تتذكر إن كنت ناسياً ، أو توائم بين ما تعلم وبين ما تعمل؛ فالتذكر يوحي لك بأن توائم ما بين معرفتك وسلوكك حتى لا تقع في الجهل ، والجهل معناه أن تعلم ما يناقض الحقيقة . لقد أراد الله أن يصون الإنسان الذي اختار الإيمان عندما حرم عليه الزواج بواحدة من أهل الشرك .
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن لمن جعله خليفة في الأرض عقيدة واحدة يصدر عنها السلوك الإنساني؛ لأن العقائد إن توزعت حسب الأهواء فسيتوزع السلوك حسب الأهواء . وحين يتوزع السلوك تتعاند حركة الحياة ولا تتساند .
فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر يؤثر فيها؛ فشرط في بناء اللبنة الأولى للأسرة ألاّ ينكح مؤمن مشركة؛ لأن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى حضانة الطفل لمدة طويلة هي كما قلنا أطول أعمار الطفولة في الكائن الحي . ولو كان الأب مؤمناً والأم مشركة فالأب سيكون مشغولاً بحركة الحياة فتتأصل عن طريق الأم معظم القيم التي تتناقض مع الإيمان .
وأراد الحق سبحانه وتعالى أيضا ألا تتزوج المؤمنة مشركاً؛ لأنها بحكم زواجها من مشرك ستنتقل إليه وإلى بيئته المشركة وإلى أسرته . وسينشأ طفلها الوليد في بيئة شركية فتتأصل فيه الأشياء القيمية التي تناقض الإيمان . ويريد الحق سبحانه وتعالى بهذه الصيانة ، أي بعدم زواج المؤمن من مشركة ، وبعدم زواج المؤمنة من مشرك ، أن يحمي الحاضن الأول للطفولة . وحين يحمي الحاضن الأول للطفولة يكون الينبوع الأول الذي يصدر عنه تربية عقيدة الطفل ينبوعا واحداً ، فلا يتذبذب بين عقائد متعددة . لذلك جاء قول الحق :
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ البقرة : 221 ]
كل ذلك حتى يصون الحق البيئة التي ينشأ فيها الوليد الجديد .
(1/598)

وعلينا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى رخص للمؤمنين في أن ينكحوا أهل الكتاب بقوله الحق : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } [ المائدة : 5 ]
وقد وقف العلماء من مسألة ترخيص الحق للمؤمنين في أن يتزوجوا من أهل الكتاب موقفين : الموقف الأول : هو موقف مانع؛ لأن بعض العلماء رأى أن أهل الكتاب قد ينحرفون في معتقداتهم إلى ما يجعلهم في الشرك ، وقالوا : وهل هناك شرك أكثر من أن تُدعى الربوبية لبشر؟ والموقف الثاني : أجاز بعض العلماء أن يتزوج الإنسان من كتابية ويجب عليه أن يسألها أهي تدين بألوهية أحد من البشر أم تدين بالله الواحد القهار؟ فإن كانت المسألة مجرد الخلاف في الرسول فالأمر يهون ، أما إن كانت تؤمن بألوهية أحد من البشر بجانب الله فقد دخلت في الشرك وعلى المؤمن أن يحتاط .
وإذا كان للرجل الولاية وله أن يتزوج بكتابية فهو غالباً ما ينقلها إلى بيئته هو وستكون البيئة المؤثرة واحدة ، ووجود الولاية للأب مع الوجود في البيئة الإيمانية سيؤثر ويخفف من تأثير الأم الكتابية على أولادها ، وإن كان على الإنسان أن يتيقظ إلى أن هناك مسالك تتطلف وتتسلل ناحية الشرك ، فمن الخير أن يبتعد المسلم عن ذلك ، وأن يتزوج ويعصم ويعفّ فتاة مسلمة .
وحين يحمي الحق سبحانه وتعالى الحضانة الأولى للطفل فهو يريد أن يربي في الطفل عدم التوزع ، وعدم التمزق ، وعدم التنافر بين ملكاته . وحين نضمن للطفل التواجد والنشأة في بيئة متآلفة فهو ينشأ طفلاً سوياً . والإسلام يريد أن يحافظ على سويَّة هذا الطفل . ويقول بعض الناس : ولماذا لا نوجد محاضن جماعية؟ وكأنهم بذلك يريدون أن يحلوا الإشكال .
نقول لهم : إن الإشكال لم يحل عند الذين فعلوا ذلك من قبلنا ، ولذلك فعندما نقرأ مؤلفاتهم مثل كتاب " أطفال بلا أسر " فسنجد أن الطفولة عندهم معذبة . ولماذا نذهب بعيداً؟ إننا عندما نتتبع كيفية النشأة الجماعية للأطفال في إسرائيل فالبحوث العلمية تؤكد على أن الأطفال يعيشون في بؤس رهيب لدرجة أن التبول اللاإرادي ينتشر بينهم حتى سن الشباب .
وكيف يغيب عن بالنا أن الطفل يظل حتى تصل سنه إلى عامين أو أكثر وهو يطلب ألا يشاركه في أمه أحد ، حتى وإن كان أخاً له فهو يغار منه فما بالك بأطفال متعددين تقوم امرأة ليست أمهم برعايتهم؟ ولا يغني عن حنان الأم حنان مائة مربية؛ فليس للمربيات جميعاً قلب الأم التي ولدت الطفل ، فالحنانُ الذي تعطيه الأم ليس حناناً شكلياً ولا وظيفياً ، ولكنه طبيعة حياة خلقها الله لتعطي العطاء الصحيح ، لذلك لابد من إعطاء الطفل فترة يشعر فيها بأن أمه التي ولدته له وحده ، ولا يشاركه فيها أحد حتى لو كان أخا له ، وتمر عليه فترة بعد أن يخرج من مهد الطفولة الأولى إلى الشارع ليجد حركة الحياة ، ويجد القائمين على حركة الحياة هم الرجال وآباء أمثاله من الأطفال فيجب بعد ذلك أن ينسب إلى أب له كيان معروف في المجتمع الخارجي .
(1/599)

فمن مقومات تكوين الطفل أن يشعر أن له أمّاً لا يشاركه فيها أحد ، وأن له أباً لا يشاركه فيه أحد . وإن شاركه فيهما أحد فهم إخوته ويضمهم ويشملهم جميعا حنان الأم ورعاية الأب . لقد اعترف أهل العلم بتربية الأطفال أن احتياج الطفل لأمه هو احتياج هام وأساسي للتربية لمدة عامين وبضعة من الشهور ، والحق تبارك وتعالى حين أنزل على رسوله قبل أربعة عشر قرناً من الآن؛ القول الحكيم الصادق بين هذه الحقيقة واضحة في أجلى صورها : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين } [ الأحقاف : 15 ]
إن الأم هي الحاضنة الطبيعية للطفل كما أرادها الحق . إذن ، فالحق يريد أن يحمي اللبنة الأولى في تكوين المجتمع وهي الأسرة في البناء العَقَدي من أن تتأثر بالشرك ، ويريد أن يحفظ للأسرة كياناً سليماً .
ويعالج الحق بعد ذلك قضية التواصل مع المرأة أثناء فترة الحيض فيأتي التشريع ليقنن هذه المسألة لأن الإسلام جاء وفي الجو الاجتماعي تياران :
تيار يرى أن الحائض هي امرأة تعاني من قذارة ، لذلك لا يمكن للزوج أن يأكل معها أو يسكن معها أو يعاشرها أو يعيش معها في بيت واحد وكذلك أبناؤه . وتيار آخر يرى المرأة في فترة الحيض امرأة عادية لا فرق بينها وبين كونها غير حائض أي تباشر حياتها الزوجية مع زوجها دون تحوط أو تحفظ . كان الحال إذن متأرجحا بين الإفراط والتفريط ، فجاء الإسلام ليضع حداً لهذه المسألة فيقول الحق سبحانه وتعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض . . . }
(1/600)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
حين تقرأ { هُوَ أَذًى } فقد أخذت الحكم ممن يُؤمنُ على الأحكام ، ولا تناقش المسألة ، مهما قال الطب من تفسيرات وتعليلات وأسباب نقل له : لا ، الذي خلق قال : { هُوَ أَذًى } . والمحيض يطلق على الدم ، ويراد به أيضاً مكان الحيض ، ويراد به زمان الحيض .
وقوله تعالى عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لأن يتلقى حكما في هذا الأذى ، وبذلك يستعد الذهن للخطر الذي سيأتي به الحكم . وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته .
إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية ضرورية لحياتها وحياة الإنجاب . وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛ لأن المحيض أذى لهم . لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء معا؛ لأن الآية أطلقت الأذى ، ولم تحدد من المقصود به . والذي يدل على ذلك أن الحيض يعطي قذارة للرجل في مكان حساس هو موضوع الإنزال عنده ، فإذا وصلت إليه الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة .
والذي يحدث أن الحق قد خلق رحم المرأة وفي مبيضيها عدد محدد معروف له وحده سبحانه وتعالى من البويضات ، وعندما يفرز أحد المبيضين البويضة فقد لا يتم تلقيح البويضة ، فإن بطانة الرحم المكون من أنسجة دموية تقل فيها نسبة الهرمونات التي كانت تثبت بطانة الرحم ، وعندما تقل نسبة الهرمونات يحدث الحيض .
والحيض هو دم يحتوي على أنسجة غير حية ، وتصبح منطقة المهبل والرحم في حالة تهيج ، لأن منطقة المهبل والرحم حساسة جدا لنمو الميكروبات المسببة للالتهابات سواء للمرأة ، أو للرجل إن جامع زوجته في فترة الحيض . والحيض يصيب المرأة بأذى في قوتها وجسدها؛ بدليل أن الله رخص لها ألاّ تصوم وألاّ تصلي إذن فالمسألة منهكة ومتعبة لها ، فلا يجوز أن يرهقها الرجل بأكثر مما هي عليه .
إذن فقوله تعالى : { هُوَ أَذًى } تعميم بأن الأذى يصيب الرجل والمرأة . وبعد ذلك بين الحق أن كلمة " أذى " حيثية تتطلب حكما يرد ، إما بالإباحة وإما بالحظر ، وما دام هو أذى فلابد أن يكون حظراً .
يقول عز وجل : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } والذي يقول : إن المحيض هو مكان الحيض يبني قوله بأن المحرم هو المباشرة الجنسية ، لكن ما فوق السرة وما فوق الملابس فهو مباح ، فقوله الحق : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } أي لا تأتوهن في المكان الذي يأتي منه الأذى وهو دم الحيض . { حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } . و " يطهرن " من الطهور مصدر طهر يطهر ، وعندما نتأمل قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } نجد أنه لم يقل : " فإذا طهرن " ، فما الفرق بين " طهر " و " تطهر "؟
إنّ " يطهرن " معناها امتنع عنهن الحيض ، و " تطهرن " يعني اغتسلن من الحيض؛ ولذلك نشأ خلاف بين العلماء ، هل بمجرد انتهاء مدة الحيض وانقطاع الدم يمكن أن يباشر الرجل زوجته ، أم لابد من الانتظار حتى تتطهر المرأة بالاغتسال؟ .
(1/601)

وخروجا من الخلاف نقول : إن قوله الحق : " تطهرن " يعني اغتسلن فلا مباشرة قبل الاغتسال . ومن عجائب ألفاظ القرآن أن الكلمات تؤثر في استنباط الحكم ، ومثال ذلك قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 77-79 ]
ما المقصود إذن؟ هل المقصود أن القرآن لا يمسكه إلا الملائكة الذين طهرهم الله من الخبث ، أو أن للبشر أيضا حق الإمساك بالمصحف لأنهم يتطهرون؟ بعض العلماء قال : إن المسألة لابد أن ندخلها في عموم الطهارة ، فيكون معنى { إِلاَّ المطهرون } أي الذين طهرهم من شرع لهم التطهر؛ ولذلك فالمسلم حين يغتسل أو يتوضأ يكون قد حدث له أمران : التطهر والطهر .
فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو الاغتسال ، والطهر بتشريع الله ، فكما أن الله طهر الملائكة أصلا فقد طهرنا معشر الإنس تشريعا ، وبذلك نفهم الآية على إطلاقها ونرفع الخلاف . وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { حتى يَطْهُرْنَ } أي حتى يأذن الله لهن بالطهر ، ثم يغتسلن استجابة لتشريع الله لهن بالتطهر . { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } يعني في الأماكن الحلال .
{ إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } وأراد الحق تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا ، فكما أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل أيضاً منك أن تتطهر معنويا بالتوبة ، لذلك جاء بالأمر حسيا ومعنويا . وبعد ذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بحكم جديد ، هذا الحكم ينهي إشكالا أثاره اليهود .
وقد كان اليهود يثيرون أن الرجل إذا أتى امرأته من خلف ولو في قُبلها بضم القاف جاء الولد أحول . " القُبل " هو مكان الإتيان ، وليس معناه الإتيان في الدبر والعياذ بالله كما كان يفعل قوم لوط . ولّما كان هذا الإشكال الذي أثاره اليهود لا أساس له من الصحة فقد أراد الحق أن يرد على هذه المسألة فقال : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ واتقوا الله . . . }
(1/602)

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
إن الحق سبحانه وتعالى يفسح المجال للتمتع للرجل والمرأة على أي وجه من الأوجه شريطة أن يتم الإتيان في محل الإنبات . وقد جاء الحق بكلمة { حَرْثٌ } هنا ليوضح أن الحرث يكون في مكان الإنبات . { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } وما هو الحرث؟ الحرث مكان استنبات النبات ، وقد قال تعالى : { وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } [ البقرة : 205 ]
فأتوا المرأة في مكان الزرع ، زرع الولد ، أما المكان الذي لا ينبت منه الولد فلا تقربوه . وبعض الناس فهموا خطأ أن قوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } معناه إتيان المرأة في أي مكان ، وذلك خطأ؛ لأن قوله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } يعني محل استنبات الزرع ، والزرع بالنسبة للمرأة والرجل هو الولد ، فأتها في المكان الذي ينجب الولد على أي جهة شئت .
ويتابع الحق : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي إياك أن تأخذ المسألة على أنها استمتاع جنسي فحسب ، إنما يريد الحق سبحانه وتعالى بهذه اللذة الجنسية أن يحمي متاعب ما ينشأ من هذه اللذة؛ لأن الذرية التي ستأتي من أثر اللقاء الجنسي سيكون لها متاعب وتكاليف ، فلو لم يربطها الله سبحانه وتعالى بهذه اللذة لزهد الناس في الجماع .
ومن هنا يربط الحق سبحانه وتعالى بين كدح الآباء وشقائهم في تربية أولادهم بلذة الشهوة الجنسية حتى يضمن بقاء النوع الإنساني . ومع هذا يحذرنا الحق أن نعتبر هذه اللذة الجنسية هي الأصل في إتيان النساء فقال : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } ، يعني انظروا جيداً إلى هذه المسألة على ألا تكون هي الغاية ، بل هي وسيلة ، فلا تقلبوا الوسيلة إلى الغاية ، { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي ادخروا لأنفسكم شيئاً ينفعكم في الأيام المقبلة .
إذن فالأصل في العملية الجنسية الإنجاب . { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي لا تأخذوا المتاع اللحظي العاجل على أنه هو الغاية بل خذوه لما هو آت . وكيف نقدم لأنفسنا أو ماذا نفعل؟ حتى لا نشقى بمَنْ يأتي ، وعليك أن تتبين هذه العملية فقدم لنفسك شيئاً يريحك ، وافعل ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . . ساعة تأتي هذه النعمة وتقترب من زوجتك لابد أن تسمي الله ويقول : " اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني " ، وعندما يأتي المسلم أهله وينشأ وليده فلن يكون للشيطان عليه دخل . وقال بعض العلماء : لا يمكن أن يؤثر فيه سحر ، لماذا كل ذلك؟ .
لأنك ساعة استنبته أي زرعته ، ذكرت المُنْبِتَ وهو الله عز وجل . وما دمت ذكرت المنبت الخالق فقد جعلت لابنك حصانة أبدية . وعلى عكس ذلك ينشأ الطفل الذي ينسى والده الله عندما يباشر أهله فيقع أولاده فريسة للشياطين .
{ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي قدموا لها ما يريحكم وما يطيل أمد حياتكم وأعمالكم في الحياة؛ لأنك عندما تقبل على المسألة بنية إنجاب الولد ، وتذكر الله وتستعيذ من الشيطان فينعم عليك الخالق بالولد الصالح ، هذا الولد يدعو لك ، ويعلم أولاده أن يدعوا لك ، وأولاده يدعون لك ، وتظل المسألة مسلسلة فلا ينقطع عملك إلى أن تقوم الساعة ، وهنا تكون قدمت لنفسك أفضل ما يكون التقديم .
(1/603)

وهب أنك رُزقت المولود ثم مات ففجعت به واسترجعت واحتسبته عند ربك ، إنك تكون قد قدمته ، ليغلق عليك بابا من أبواب النيران . إذن فكل أمر لابد أن تذكر فيه { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } .
ويقول الحق : { واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين } معنى { اتقوا الله } أي إياكم أن تغضبوا ربكم في أي عمل من هذه الأعمال ، وكن أيها المسلم في هذه التقوى على يقين من أنك ملاقي الله ، ولا تشك في هذا اللقاء أبداً . وما دمت ستتقي الله وتكون على يقين أنك تلاقيه لم يبقى لك إلا أن تُبَشَّر بالجنة . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ . . . }
(1/604)

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
وفي الآية ثلاثة أشياء : أولا : أن تبروا ، أي أن تفعلوا البر . والبر قد يكرهه الإنسان لأنه شاق على النفس . ثانيا : أن تتقوا ، أي أن تتجنبوا المعاصي ، والتقوى تكون أيضا شاقة في بعض الأحيان . ثالثا : أن تصلحوا بين الناس ، أي أن تصلحوا ذات البيْن ، وقد يكون في الإصلاح بين الناس مئونة وذلك بعد أن تمتنعوا أن تجعلوا الله عرضة للقسم .
وحين يقول الحق : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } فالعرضة هي الحجاب ، وهي ما يعترض بين شيئين ، { عُرْضَةً } هي أيضا الأمر الصالح لكل شيء ، فيقال : " فلان عرضة لكل المهمات " . أي صالح . والعرضة كما عرفنا هي ما اعترض بين شيئين ، كأن يضع الإنسان يده على عينيه فلا يرى الضوء ، هنا تكون اليد " عُرْضة " بين عيني الإنسان والشمس إن الإنسان يحجب بذلك عن نفسه الضوء .
كأن الحق يقول : " أنا لا أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بين الإنسان وفعل الخير والبر والتقوى " . فعندما يطلب منك واحد أن تبر من أساء إليك فقد تقول : " أنا أقسمت ألا أبر هذا الإنسان " إنك بذلك جعلت اليمين بالله مانعاً بينك وبين البر .
ويريد الحق بذلك القول أن ينبهنا إلى أن القسم به لا يجوز في منع البر أو صلة الرحم أو إصلاح بين الناس . . ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليفعل الخير وليكفر عن يمينه لماذا؟ لأن المؤمن عندما يحلف على ألا يفعل خيراً فهو يضع الله مانعاً بينه وبين الخير ، وبذلك يكون قد ناقض المؤمن نفسه بأن جعل المانع هو الحلف بالله . إن الله هو صاحب الأمر بالبر والتقوى والإصلاح بين الناس . لذلك فالحق يقول : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } . أي أن الحق يريد أن يحمي عمليات البر والتقوى والإصلاح بين الناس .
إنك إن حلفت أيها المؤمن ألا تفعل هذه العمليات ، فالحق يريد لك أن تحنث في هذا القسم وأن تفعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس حتى لا تتناقض مع تشريع الله . ونحن عندما نجد المجتمع وقد صنع فيه كل فرد البر ، واتقى فيه كل إنسان المعاصي ، ورأى فيه كل إنسان نزاعاً بين جماعتين فأصلح هذا النزاع ، أليس هذا دخولا في السلم كافة . إذن فالحق يريد أن يستبقى للناس ينابيع الخير وألا يسدوها أمام أنفسهم .
إن الحق هو الآمر بألا يجعل المؤمن اليمين مانعاً بين الإنسان والبر ، أو بين الإنسان والتقوى ، أو بين الإنسان والإصلاح بين الناس . ويتساهل الإسلام في مسألة التراجع والحنث في البر فيقول السلف الصالح : " لا حنث خير من البر " .
(1/605)

إذن فالمجتمع الذي فيه صنع البر ، وتقوى المعاصي ، والصلح بين المتخاصمين يدخل في إطار : { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ]
والإنسان قد يتعلل بأي سبب حتى يبتعد عن البر أو التقوى أو الإصلاح بين الناس ، بل يعمل شيئاً يريحه ويخلع عليه أنه ممتثل لأمر الله ، ولنضرب لذلك مثلا . سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة واشترك مع من خاضوا في الإفك الذي اتهموا فيه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها .
وخلاصة الأمر أن عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كانت قد خرجت مع الرسول الكريم في غزوة " بني المصطلق " وكان الأمر بالحجاب قد نزل لذلك خرجت عائشة رضي الله عنها في هودج .
وقام الرسول بغزوته وحان وقت العودة . وفقدت عائشة عقداً لها . وكانت رضي الله عنها خفيفة الوزن؛ لأن الطعام في تلك الأيام كان قليلا . راحت عائشة رضي الله عنها تبحث عن عقدها المفقود ، وعندما حملوا هودج عائشة رضي الله عنها لم يفطنوا أن عائشة ليست به . ووجدت عائشة عقدها المفقود ، وكان جيش رسول الله قد ابتعد عنها . وظنت أنهم سيفتقدونها فيرجعون إليها . وكان خلف الجيش صفوان بن المعطل السلمي وعرفته عائشة وأناخ راحلته وعادت عائشة إلى المدينة . ودار حديث الإفك بوساطة عبد الله بن أبَيّ بن سلول رأس النفاق .
وكان الغم والحزن يصيبان السيدة عائشة طوال مدة كبيرة وأوضح الحق كذب هذا الحديث . وذاع ما ذاع عن أم المؤمنين عائشة وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تكون بنت أبي بكر . وأبو بكر صديِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن غير عائشة حدث لها ما حدث لعائشة لكان موقف أبي بكر هو موقفه عندما جاء قريبه مسطح بن أثاثة واشترك في حديث الإفك مع من اشتركوا ثم يبرئ الله عائشة وينزل القول الذي يثبت براءة أم المؤمنين في حديث الإفك ، وحين يبرئها الله يأتي أبو بكر وكان ينفق على مسطح فيقطع عنه النفقة ويقول : " والله لا أنفق عليه أبداً " لماذا؟ لأنه اشترك في حديث الإفك . والمسألة في ظاهرها ورع . لذلك سيمتنع عن النفقة على مسطح بن أثاثة لأن مسطحاً خاض في الإفك . لكن انظر إلى مقاييس الكمال والجمال والفضائل عند الله فقد أوضح الحق أن هذا طريق وذاك طريق آخر ، فيقول سبحانه وتعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 22 ]
فإذا كنت تحب أن يغفر الله لك ، أفلا تغفر لمن فعل معك سيئة؟ . وما دمت تريد أن يغفر الله لك فاغفر للناس خطأهم .
(1/606)

قالها الحق عز وجل لأبي بكر؛ لأنه وقف موقفاً من رجل خاض في الإفك مع من خاض ومع ذلك يبلغه أن ذلك لا يصح .
قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } لا تقل : إني حلفت بالله على ألا افعل ذلك الخير ، لا افعله فالله يرضى لك أن تحنث وتكفر عن يمينك .
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . إن الله عز وجل يبلغنا : أنا لا أريد أن تجعلوا الحلف بي عرضة ، يعني حاجزاً أو مانعاً عن فعل الخير . مثلاً لو طُلب منك أن تبر شخصاً أساء إليك فلا تقل : حلفت ألا أبر به لأنه لا يستحق ، عندها تكون قد جعلت اليمين بالله مانعاً للبر . وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لك : لا ، أنا متجاوز عن اليمين بي؛ إن حلفت ألا تبر أو لا تتقي أو لا تصل رحماً أو لا تصلح بين اثنيْن ، أنا تسامحت في اليمين .
والحديث يقول : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وهكذا يحمي الله سبحانه وتعالى فعل البر ويحمي التقوى ويحمي عمليات الإصلاح بين الناس ، ولو كنت قد حلفت بالله ألا تفعلها ، لماذا؟ لأنك عندما تحلف بالله ألا تفعل ، وتجعل الله سبحانه وتعالى هو المانع ، فقد ناقضت التشريع نفسه؛ لأن الله هو الآمر بالبر والإصلاح والتقوى ، فلا تجعل يمين البشر مانعاً من تنفيذ منهج رب البشر .
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس } إن حلفت على ترك واجب وجب أن ترجع في اليمين . احنث فيه وكفر عنه ، والحكم نفسه يسري على الذي يمنع ممتلكاته كالدابة أو الماكينة أو السيارة من انتفاع الناس بها بحجة أنه حلف ألا يعيرها لأحد ، وذلك أمر يحدث كثيراً في الأرياف .
ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بالقول الكريم : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . إنه سبحانه سميع باليمين الذي حلفته ، وعليم بنيتك إن كانت خيراً أو شراً فلا تتخذ اليمين حجة لأن تمنع البر والتقوى والإصلاح . والحق سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن اليمين يعطينا أصلاً من أصول اعتبار اليمين هل هو يمين حقا أو لغو ، ومن رحمة الله أنه سبحانه وتعالى لم يأخذ إلا اليمين الذي عقد القلب عليه ، أي الذي يقصد صاحبه ألا يحنث فيه ، أما لغو اليمين فقد تجاوز الله عنه .
مثلاً ، الأيمان الدارجة على ألسنة الناس كقولهم : " والله لو لم تفعل كذا لفعلت معك كذا " ، " والله سأزورك " ، " والله ما كان قصدي " أو الحلف بناءً على الظن؛ كأن تحلف بقولك : " والله حدث هذا " وأنت غير متأكد من تمام حدوثه ، لكن ليس في مقصدك الكذب .
أما اليمين الغموس فهي الحلف والقسم الذي تعرف كذبه وتحلف بعكس ما تعرف ، كأن تكون قد شاهدت واحداً يسرق أو يقتل وتحلف بالله أنه لم يسرق أو لم يقتل . من أجل ذلك كله يحسم الله سبحانه وتعالى هذه القضية بقوله : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ . . . }
(1/607)

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
وكان من المناسب أن تأتي هذه الآية كل ما سبق لأنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي لا تقع وكأنه قال لنا : ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، فإذا كان قد قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلأن له مقابلا في فعل الخير . وقوله الحق : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } هو المعنى نفسه لقوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ]
أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك ، لكن الشيء الذي يمر على اللسان فلا يؤاخذنا الله به . { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } والأيمان جمع يمين ، واليمين : هو الحلف أو القسم ، وسمى يميناً؛ لأنهم كانوا قديماً إذا تحالفوا صرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه ، وذلك لأن اليمين هو الجارحة الفاعلة .
وبالمناسبة ، فالجارحة الفاعلة إياك أن تظن أنها تفعل بالرياضة والتدريب ، وإنما تفعل بالخلق أي كما خلقها الله ، فهي مجبرة على الفعل حسب خلقتها .
ولذلك عندما تجد إنسانا ويده اليمنى لا تعمل ويزاول أعماله باليسرى فلا تحاول أن تجعله يستخدم اليمنى بدلا من اليسرى؛ لأن محاولتك عبث لن يجدي؛ لأن السبب في أنه يستخدم اليسرى بدلا من اليمنى سبب خلقي ، فالجهاز الخاص بالتحكم في الحركة في المخ هو الذي يقر هذا الأمر : إن كان مخلوقا في النصف الأيمن من المخ كانت اليد اليمنى هي الفاعلة ، وإن كان مخلوقا في النصف الأيسر من المخ فاليد اليسرى هي التي تعمل .
لذلك تجد الذي يكتب بيده اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل من الذي يكتب باليمنى في بعض الأحيان ، ومن هنا نقول : إنه من الخطأ أن تحاول تغيير سلوك الذي يعمل بيده اليسرى بدلاً من اليمنى؛ لأن ذلك عبث لن يصل لنتيجة .
وأحيانا تجد الجهاز المتحكم في حركة اليدين موجوداً في منتصف ووسط المخ فيرسل حركات متوازنة لليد اليمنى واليد اليسرى معاً ، ولذلك تجد شخصاً يكتب بيده اليمنى واليسرى معاً بالسرعة نفسها وبالإتقان نفسه ، ويؤدي بها الأعمال بتلقائية عادية ، ولله في خلقه شئون ، فهو يعطينا الدليل على أنه لا تحكمه قواعد ، فهو قادر على أن يجعل اليد اليمنى تعمل ، وقادر على أن يجعل اليد اليسرى تعمل ، أو يجعلهما يعملان معاً بالقوة نفسها ، أو يجعل كلتا اليدين غير قابلتين للعمل . إنها ليست عملية آلية خارجة عن إرادة لله ، بل كل شيء خاضع لإرادته سبحانه .
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } المقصود به الحلف ، والحلف من معانيه التقوية ، وهي مأخوذة من الحِلْف ، وهو أن يتحالف الناس على عمل ما . ونحن عندما نتحالف على عمل فنحن نقسِّم العمل بيننا ، وعندما نفعل ذلك يسهل علينا جميعاً أن نفعله . { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } والكسب عملية إرادية . لأنك ساعة تقسم بالله دون أن تقصد فهو لا يؤاخذك ، وهذا دليل على أن الله واسع حليم . ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(1/608)

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
يؤلون : أي يحلفون ألا يقربوا أزواجهن في العملية المخصوصة ، ويريد الرجل أحيانا أن يؤدب زوجته فيهجرها في الفراش بلا يمين ، وبدون أن يحلف . وبعض الناس لا يستطيعون أن يمتنعوا عن نسائهم من تلقاء أنفسهم ، فيحلفون ألا يقربوهن حتى يكون اليمين مانعا ومشجعا له على ذلك . وكان هذا الأمر مألوفا عند العرب قبل الإسلام .
كان الرجل يمتنع عن معاشرة زوجته في الفراش أي فترة من الزمن يريدها ، وبعضهم كان يحلف ألا يقرب زوجته زمنا محدداً ، وقبل أن ينتهي هذا الزمن يحلف يمينا آخر ليزيد المدة فترة أخرى ، وهكذا حتى أصبحت المسألة عملية إذلال للمرأة ، وإعضالا لها ، وامتناعا عن أداء حقها في المعاشرة الزوجية . وكان ذلك إهداراً لحق الزوجة في الاستمتاع بزوجها .
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن ينهي هذه المسألة ، وهو سبحانه لا ينهيها لحساب طرف على طرف ، وإنما بعدل الخالق الحكيم الرحيم بعباده . وكان من الممكن أن يجرمها ويحرمها نهائيا ويمنع الناس منها . لكنه سبحانه عليم بخفايا وطبيعة النفوس البشرية ، فقد ترى امرأة أن تستغل إقبال الرجل عليها ، إما لجمال فيها أو لتوقد شهوة الرجل ، فتحاول أن تستذله؛ لذلك أعطى الله للرجل الحق في أن يمتنع عن زوجته أربعة أشهر ، أما أكثر من ذلك فالمرأة لا تطيق أن يمتنع زوجها عنها . { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والإسلام يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي لا على أفكار مجنحة ومجحفة لا تثبت أمام الواقع ، فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن لا يهدمها ، ويعترف بالغرائز فلا يكتمها ولكن يضبطها .
وهناك فرق بين الضبط والكبت؛ فإن الكبت يترك الفرصة للداء ليستشري خفيا حتى يتفجر في نوازع النفس الإنسانية تفجرا على غير ميعاد وبدون احتياط ، لكن الانضباط يعترف بالغريزة ويعترف بالميول ، ويحاول فقط أن يهديها ولا يهدمها . ويخضع البشر في كل أعمالهم لهذه النظرية حتى في صناعتهم ، فالذين يصنعون المراجل البخارية مثلا يجعلون في تلك المراجل التي يمكن أن يضغط فيها الغاز ضغطا فيفجرها يجعلون لها متنفسا حتى يمكن أن يخفف الضغط الزائد إن وجُد ، وقد يصممون داخلها نظاما آليا لا يتدخل فيه العقل بل تحكم الآلة نفسها .
والحق سبحانه وتعالى وضع نظاما واضحا في خلقه الذين خلقهم ، وشرع لهم تكوين الأسرة على أساس سليم . وبنى الإسلام هذا النظام أولا على سلامة العقيدة ونصاعتها ووحدتها حتى لا تتوزع المؤثرات في مكونات الأسرة ، لذلك منع المسلم من أن يتزوج من مشركة ، وحرم على المسلمة أن تتزوج مشركا . وبعد ذلك علمنا معنى الالتقاء الغريزي بين الزوجين . ولقد أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يطلق العنان للغريزة في كل زمان التواجد الزوجي ، فجعل المحيض فترة يحرم فيها الجماع وقال :
(1/609)

{ فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } [ البقرة : 222 ]
وهكذا يضبط الحق العلاقة الجنسية بين الزوجين ضبطا سليما نظيفا .
الحق سبحانه وتعالى يعلم أن النفس البشرية ذات أغيار؛ لأن الإنسان حادث له بداية ونهاية ، وكل ما يكون حادثا لابد أن يطرأ عليه تغيير . فإذا ما التقى الرجل بالمرأة . كان لابد من أن يتحدد هذا اللقاء على ضوء من منهج الله؛ لأن اللقاء إن تم على منهج البشر وعواطفهم كان المصير إلى الفشل؛ لأن مناهج البشر متغيرة وموقوتة ، ولذلك يجب أن يكون لقاء الرجل بالمرأة على ضوء معايير الله .
فالله يعلم أن للنفس نوازع ومتغيرات ، ومن الجائز جدا أن يحدث خلاف بين الزوجين ، فيجعل الله سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب والإبقاء ، فشرع للرجل إن رأى في امرأته إذلالا له بجمالها وبحسنها ، وقد يكون رجل له مزاج خاص ورغبة جامحة في هذه العملية؛ لذلك شرع الله له فترة من الفترات أن يحلف ألا يقرب امرأته ، ولم يجعل الله تلك الفترة مطلقة ، إنما قيدها بالحلف حتى يكون الأمر مضبوطا .
فالحق يريد العلاج لا القسوة . فلو لم يكن الرجل مضبوطا بيمين فقد يُغير رأيه بأن يأتي زوجته ، ولذلك قال الحق : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أي إنّ لك أيها الزوج أن تحلف ألا تقرب زوجتك أربعة أشهر لكن إن زادت المدة على أربعة أشهر فهي لن تكون تأديبا بل إضرارا . والخالق عز وجل يريد أن يؤدب لا أن يضر . فإذا ما تجاوزت المدة يكون الزوج متعديا ولا حق له .
إن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الميول والعواطف والغرائز ويقنن لها التقنين السليم . إنه عز وجل يترك لنا ما يدلنا على ذلك ، ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يمر عمر في جوف الليل فيسمع امرأة تقول الأبيات المشهورة :
تطاول هذه الليل وأسود جانبه ... وأرقني إلا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزلزل من هذا السرير جوانبه
معنى ذلك أن المرأة تعاني من الوحشة إلى الرجل ، وتوشك المعاناة أن تدفعها إلى سلوك غير قويم ، لكن تقوى الله هي التي تمنعها من الانحراف . ومن الجائز أن نتساءل كيف سمع عمر هذه المرأة وهو يسير في الشارع ، وأقول : إن المرأة تأتي عندها هذه الأحاسيس تترنم في سكون الليل ، وعندما يسكن الليل لا تكون فيه ضجة فيسهل سماع ما يقال داخل البيوت ، ألم يسمع عمر كلام المرأة التي تجادل ابنتها في غش اللبن؟
ولما سمع الفاروق كلام هذه المرأة التي تعاني من وحشة إلى الرجل ، ذهب بفطرته السليمة وأَلمعيَّته المشرقة إلى ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وقال لها : كم تصبر المرأة على بعد الرجل ، فقالت : من ستة شهور إلى أربعة أشهر .
(1/610)

فسن عمر سنةً أصبحت دستورا فيما بعد ، وهي ألا يبعد جندي من جنود المسلمين عن أهله أربعة أشهر . إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } سبق حادثة عمر ، ثم ترك الحق لواقع الحياة أن يبين لنا صدق ما قننه لنا ، ويأتي عمر ليستنبط الحكم من واقع الحياة .
{ فَإِنْ فَآءُو } أي فإن رجع الرجل ، وأراد أن يقترب من زوجته قبل مضي الأربعة أشهر؛ فللرجل أن يكفر عن يمينه وتنتهي المسألة . ولكن إذا مرت الشهور الأربعة وتجاوزت المقاطعة مدتها يؤمر الزوج بالرجوع عن اليمين أو بالطلاق ، فإن امتنع الزوج طلقها الحاكم ، وقال بعض الفقهاء : إنّ مضي مدة الأربعة أشهر دون أن يرجع ويفئ يجعلها مطلقة طلقة واحدة بائنة . ولذلك يقول الحق : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(1/611)

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
واختلف العلماء؛ هل تطلق الزوجة طلقة بائنة أو طلقة رجعية؟ ومعنى " طلاق رجعي " مأخوذ من اللفظ نفسه ، أي أن الزوج له الحق أن يراجع امرأته دون إذن منها أو رضاً . أما الطلاق البائن فإنه لا عودة إلا إذا عَقَد عليها عقدا جديداً بمهر جديد .
والطلقة في الإيلاء بينونة صغرى وهي التي تحتاج إلى عقد ومهر جديدين ، هذا إذا لم يسبق طلاقان . والبينونة الكبرى وهي التي توصف بأنها ذات الثلاث ، فالزوجة فيها تطلق ثلاث مرات ، فلا يصح أن يعيدها الزوج إلا إذا تزوجت زوجا غيره ، وعاشت معه حياة زوجية كاملة ، ثم طلقها لأي سبب من الأسباب ، وبعد ذلك يحق لزوجها القديم أن يراجعها ويعيدها إليه بعقد ومهر جديدين ، لكن بعد أن يكتوي بغيرة زواجها من رجل آخر . والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المسألة فيقول : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 226-227 ]
فالإسلام دين واقعي يعطي الزوج المسلم أشياء تنفس عن غضبه ، وأشياء تمكنه من أن يؤدب زوجته ، ولكن الإسلام لا يحب أن يتمادى الرجل في التأديب . وإذا تمادى وتجاوز الأربعة الأشهر نقول له : لابد أن يوجد حد فاصل .
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه وتعالى في التكليف إلى أن يتكلم عن الطلاق وقد تكلم من قبل عن الزواج والإيلاء حتى وصل الطلاق .
وعندما نتأمل موقف الإسلام من الطلاق نجده يتكلم كلاماً واقعياً يناسب الميول الإنسانية؛ لأننا ما دمنا أغياراً فمن الممكن أن يطرأ على حياة الزوجين أحداث أو مشاعر لم تكن في الحسبان ساعة الزواج . ويجوز أن يكون الإنسان في ساعة الزواج مدفوعا بحرارة ملكة واحدة ، وبعد ذلك عندما يجئ واقع الحياة تتملكه ملكات متعددة ، وقد تسيطر عليه المسألة الجنسية ، وتدفعه للزواج ، وفي سبيل إرضاء شهوته الجنسية قد يهمل بقية ملكات نفسه ، فإذا ما دخل واقع الزواج وهدأت شِرّة وحرارة غرائز الإنسان تتنبه نفس الإنسان إلى مقاييس أخرى يريد أن يراها في زوجته فلا يجدها ويتساءل ما الذي أخفاها عنه؟
أخفاها سعار وعرامة النظرة الجنسية ، فقد نظر للمرأة قبل الزواج من زاوية واحدة ، ولم ينظر لباقي الجوانب . مثلا قد يجد الزوج أن أخلاق الزوجة تتنافر مع أخلاقه ، وقد يجد تفكيرها وثقافتها تتنافر مع تفكيره وثقافته ، وربما وجد عدم التوافق العاطفي بينه وبينها ولم يحدث تآلف نفسي بينهما ، والعواطف كما نعلم ليس لها قوانين .
فمن الجائز أن يكون الرجل غير قادر على الاكتفاء بوليمة جنسية واحدة ، فهو لذلك لا يبني حياته على طهر ، وإنما يريد من امرأته أن تكون طاهرة عفيفة في حياتها معه ، بينما يعطي لنفسه الحرية في أن يعدد ولائمه الجنسية مع أكثر من امرأة ، وربما يحدث العكس ، وذلك أن يجد الرجل أنّ امرأة واحدة تكفيه ، لكن المرأة تريد أكثر من رجل .
(1/612)

وقد يكون الرجل طاهر الأسلوب في الحياة ، وتكون زوجته راغبة في أن يأتيها بالمال من أي طريق ، فيختلفان . وقد تكون المرأة طاهرة الأسلوب في الحياة فلا ترضى أن يتكسب زوجها من مال حرام .
من هنا يأتي الشقاق ، إن الشقاق يأتي عندما يريد أحد الزوجين أن تكون حياتهما نظيفة طاهرة ، مستقيمة ، ولا يرى الآخر ذلك . مثل هذه الصورة موجودة في الواقع حولنا ، فكم من بيوت تشقى عندما تختفي الوحدة الأسرية ، وتختلف نظرة أحد الزوجين للأمور عن الآخر .
وهذا هو سبب الشقاق الذي يحدث بين الزوجين عندما لا يكتفي أحد الزوجين بصاحبه . ولو اتفق رجل وامرأته على العفاف ، والطهر ، والخيرية لاستقامت أمور حياتهما . ولذلك يأتي الإسلام بتشريعاته السامية لتناسب كل ظروف الحياة فيقول الحق سبحانه : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ . . . }
(1/613)

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
الآية كلها تتضمن أحكاماً تكليفية ، والحكم التكليفي الأول هو : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } ولنا أن نلحظ أن الحكم لم يرد بصيغة الأمر ولكن جاء في صيغة الخبر ، فقال : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } ، وحين يريد الحق سبحانه وتعالى حكماً لازماً لا يأتي له بصيغة الأمر الإنشائي ، ولكن يأتي له بصيغة الخبر ، هذا آكد وأوثق للأمر كيف؟
معنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يأمر فالأمر يصادف من المؤمنين به امتثالاً ، ويُطبق الامتثال في كل الجزئيات حتى لا تشذ عنه حالة من الحالات فصار واقعا يُحكى وليس تكليفا يُطلب ، وما دام قد أصبح الأمر واقعا يُحكي فكأن المسألة أصبحت تاريخا يُروى هو : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } . ويجوز أن نأخذ الآية على معنى آخر هو أن الله قد قال : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } فيكون كلاماً خبرياً .
وقلنا إن الكلام الخبري يحتمل الصدق والكذب ، إن الله قد قال ذلك فمن أراد أن يصدق كلام الله فلينفذ الحكم ، ومن أراد أن يبارز الله بالتكذيب ولا يصدقه فلا ينفذ الحكم ، ويرى في نفسه آية عدم التصديق وهي الخسران المبين ، أليس ذلك أكثر إلزاما من غيره؟ ومثل ذلك قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ النور : 26 ]
إن هذا وإن كان كلاما خبريا لكنه تشريع إنشائي يحتمل أن تطيع وأن تعصي ولكن الله يطلب منا أن تكون القضية هكذا { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } يعني أن ربكم يريد أن تكون { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } وأن تكون { الطيبات لِلطَّيِّبِينََ } وليس معنى ذلك أن الواقع لابد أن يكون كما جاء في الآية ، إنما الواقع يكون كذلك لو نفذنا كلام الله وسيختلف إذا عصينا الله وتمردنا على شرعه . والمعنى نفسه في قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ]
أي اجعلوا من يدخل البيت الحرام آمناً . ويحتمل أن يعصي أحد الله فلا يجعل البيت الحرام آمناً . إذن فقوله الحق : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } هو حكم تكليفي يستحق النفاذ لمن يؤمن بالله ، وقوله : { يَتَرَبَّصْنَ } أي ينتظرن ، واللفظ هنا يناسب المقام تماما ، فالمتربصة هي المطلقة ، ومعنى مطلقة أنها مزهود فيها ، وتتربص انتهاء عدتها حتى ترد اعتبارها بصلاحيتها للزواج من زوج آخر . ولم ينته القول الكريم بقوله : { يَتَرَبَّصْنَ } وإنما قال : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } مع أن المتربصة هي نفسها المطلقة؛ ذلك لأن النفس الواعية المكلفة والنفس الأمارة بالسوء تكونان في صراع على الوقت وهو { ثَلاَثَةَ قرواء } ، " وقروء " جمع " قرء " وهو إما الحيضة وإما الطهر الذي بين الحيضتين . وقوله الحق سبحانه وتعالى : { ثَلاَثَةَ قرواء } وما المقصود به؟
هل هو الحيضة أو الطهر؟ إن المقصود به الطهر ، لأنه قال : " ثلاثة " بالتاء ، ونحن نعرف أن التاء تأتي مع المذكر ، ولا تأتي مع المؤنث ، و " الحيضة " مؤنثة و " الطهر " مذكر ، إذن ، { ثَلاَثَةَ قرواء } هي ثلاثة أطهار متواليات .
(1/614)

والعلة هي استبراء الرحم وإعطاء مهلة للزوجين في أن يراجعا نفسيهما ، فربما بعد الطهر الأول أو الثاني يشتاق أحدهما للآخر ، فتعود المسائل لما كانت عليه ، لكن إذا مرت ثلاثة أطهار فلا أمل ولا رجاء في الرجوع .
ثم يقول الحق بعد ذلك : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } وما معنى الخلق؟ الخلق هو إيجاد شيء كان معدوماً ، وهذا الشيء الذي كان معدوما إما أن يكون حملاً وإما أن يكون حيضا ، وللحامل عدة جاءت في قوله الحق . { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ]
أما المرأة الحائل وهي التي بدون حمل ، فعدتها أن تحيض وتطهر ثلاث مرات وهناك حالة ثالثة هي : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ]
أي أن المرأة التي انقطعت عنها الدورة الشهرية فعدتها " ثلاثة أشهر " الحكم نفسه للصغيرة التي لم تحض بعد ، أي عدتها ثلاثة أشهر . إذن فنظام العدة له حالات :
* إن كانت غير حامل فعدتها ثلاثة قروء أي ثلاثة أطهار إن كانت ممن يحضن
* إن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها .
* وإن لم تكن حاملا وقد بلغت سن اليأس ولم تعد تحيض ، أو كانت صغيرة لم تصل لسن الحيض ، هذه وتلك عدتها ثلاثة أشهر .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } يدل على أن المرأة لها شهادتها لنفسها في الأمر الذي يخصها ولا يطلع عليه سواها . وهي التي تقرر المسألة بنفسها ، فتقول : أنا حامل أو لا ، وعليها ألا تكتم ذلك ، فقد يجوز أن تكون حاملا وبعد ذلك تكتم ما في بطنها حتى لا تنتظر طول مدة الحمل وتتزوج رجلاً آخر فينسب الولد لغير أبيه ، فغالباً ما يستمر الحمل تسعة أشهر ولكن فيه استثناء ، فهناك حمل مدته سبعة شهور ، وأحيانا ستة شهور . وقد تتزوج المرأة المطلقة بعد ثلاثة شهور وتدعي أنها حامل من الزوج الجديد وأن حملها لم يستمر سوى سبعة أشهر أو ستة أشهر .
وبعضنا يعرف قصة الحامل في ستة شهور ، فقد جاءوا بامرأة لسيدنا عثمان رضي الله عنه لأنها ولدت لستة أشهر ، فأراد أن يقيم عليها حد الزنى ، فتدخل الإمام علي ابن أبي طالب وقال : كيف تقيم عليها الحد لأنها ولدت لستة أشهر ، ألم تقرأ قول الحق سبحانه وتعالى؟ قال عثمان : وماذا قال الحق في ذلك؟ فقرأ الإمام علي قول الله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }
(1/615)

[ البقرة : 233 ]
أي أنها ترضع الوليد لمدة أربعة وعشرين شهراً ، وفي آية أخرى قال الحق : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ]
فإذا أخذنا من الآية الأولى أربعة وعشرين شهراً وهي مدة الرضاع وطرحناها من الثلاثين شهراً التي تجمع بين الحمل والرضاع في الآية الثانية فهمنا أن الحمل قد يكون ستة أشهر . هنا قال سيدنا عثمان متعجبا : والله ما فطنت لهذا .
إذن فحمل الستة الشهور أمر ممكن ، ومن هنا نفهم الحكمة في قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } ، حتى لا تدعي المرأة أنها ليست حاملا وتتزوج رجلا آخر وتنسب إليه ولداً ليس من صلبه ويترتب على ذلك أكثر من إشكال ، منها ألا يرث الولد من الأب الأول ، وأن محارمه لم تعد محرمة عليه ، فأخته من أبيه لم تعد أخته ، وكذلك عماته وخالاته وتنقلب الموازين ، هذا من جانب الأب الأصلي .
أما من جانب الزوج الثاني فالطفل يكتسب حقوقا غير مشروعة له ، سيرث منه ، وتصبح محارم الرجل الثاني محارمه فيدخل عليهن بلا حق ويرى عوراتهن ، وتحدث تداخلات غير مشروعة .
إذن فقوله الحق : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } هو قول يريد به الحق أن تقوم الحياة على طهر وعلى شرف وعلى عفاف ، ولا يعتدي أحد على حقوق الآخر . هذا بالنسبة للحمل . فكيف يكون الحال بالنسبة للحيض؟
أيضا لا يحل لها أن تكتم حيضها لتطيل زمن العدة مع زوجها . ويقول الحق : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } . فما علاقة الإيمان هنا بالحكم الشرعي؟ إنها علاقة وثيقة؛ لأن الحمل أو الحيض مسائل خفيفة لا يحكمها قانون ظاهر ، إنما الذي يحكمها هو عملية الإيمان ، ولذلك قيل : " الغيب لا يحرسه إلا غيب " وما دام الشيء غائباً فلن يحرسه إلا الغيب الأعلى وهو الله تعالى .
ويتابع الحق : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } والبعل هو الزوج ، وهو الرب والسيد والمالك ، وفي أثناء فترة التربص يكون الزوج أحق برد زوجته إلى عصمته ، وقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } هل يعني ذلك أن هناك أناساً يمكن أن يشاركوا الزوج في الرد؟ لأن الحق جاء بكلمة { أَحَقُّ } وفي ظاهرها تعطي الحق لغير الأزواج أن يراجعوا؟ لا ، إنما المقصود هو أنه لا حق لأحد هنا إلا للزوج ، فالرد خلال العدة من حق الزوج ، فليس للزوجة أن تقول : لا ، وليس لولي الزوجة أن يقول : لا . فالزوج إذا أراد مراجعة زوجته وأبت وامتنعت هي وجب إيثار وتقديم رغبته على رغبتها ، وكان هو أحق منها ، ولا ينظر إلى قولها ، فإنه ليس لها في هذا الأمر حق فقد رضيت به أولاً . أما إذا انتهت العدة فالصورة تختلف ، لابد من الولي ، ولابد من عقد ومهر جديدين واشتراط موافقة الزوجة .
(1/616)

{ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً } هذا إن أرادوا إصلاحاً . والإرادة عمل غيبي ، فكأنها تهديد للزوجين ، إن التشريع يجيز لهما العودة ، لكن إذا كان الزوج يريد أن يردها ليوقع بها الضرر لسبب في نفسه فالدين يقول له : لا ، ليس لك ذلك . وإن كان القضاء يجيز له ردها ، إلا أن الله يحرم عليه ذلك الظلم . إن من حق الزوج أن يرد زوجته رداً شرعياً للعفة من الإحصان ولغرض الزوجية لا لشيء آخر ، أما غير ذلك كالإضرار بها والانتقام منها فلا يجيز له الدين ذلك .
أما قضائياً فالقضاء يعطيه الحق في ردها ولا يستطيع أحد أن يقف أمامه مهما كانت الأسباب الكامنة في نفسه ، لكن عليه أن يتحمل وزر ذلك العمل . ويتابع الحق : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } أي أن للزوجة مثل ما للزوج ، لكن ما الذي لهن وما الذي عليهن؟
المثلية هنا في الجنس ، فكل منهما له حق على الآخر حسب طبيعته ، الزوج يقدم للزوجة بعضاً من خدمات ، والزوجة تقدم له خدمات مقابلة؛ لأن الحياة الزوجية مبنية على توزيع المسئوليات ، إن الرجل عليه مسئوليات تقتضيها طبيعته كرجل ، والمرأة عليها مسئوليات تحتمها طبيعتها كأنثى . والرجل مطالب بالكدح والسعي من أجل الإنفاق . والمرأة مطالبة بأن توفر للرجل البيت المناسب ليسكن إليها عندما يعود من مهمته في الحياة . ولذلك يقول الله عز وجل : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم : 21 ]
والسكن إلى شيء هو نقيض التحرك ، ومعنى { لتسكنوا إِلَيْهَا } أي إنكم تتحركون من أجل الرزق طوال النهار ثم تعودون للراحة عند زوجاتكم ، فالرجل عليه الحركة ، والمرأة عليها أن تهيئ له حسن الإقامة ، وجمال العشرة وحنان وعطف المعاملة . فالمسئوليات موزعة توزيعاً عادلاً ، فهناك حق لك هو واجب على غيرك ، وهناك حق لغيرك وهو واجب عليك .
ويقول الحق : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } وهي درجة الولاية والقوامة . ودرجة الولاية تعطينا مفهوما أعم وأشمل ، فكل اجتماع لابد له من قَيِّم ، والقوامة مسئولية وليست تسلطاً ، والذي يأخذ القوامة فرصة للتسلط والتحكم فهو يخرج بها عن غرضها؛ فالأصل في القوامة أنها مسئولية لتنظيم الحركة في الحياة .
ولا غضاضة على الرجل أن يأتمر بأمر المرأة فيما يتعلق برسالتها كامرأة وفي مجالات خدمتها ، أي في الشئون النسائية ، فكما أن للرجل مجاله ، فللمرأة مجالها أيضاً .
والدرجة التي من أجلها رُفع الرجل هي أنه قوام أعلى في الحركة الدنيوية ، وهذه القوامة تقتضي أن ينفق الرجل على المرأة تطبيقاً لقوله الحق : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ]
إذن فالإنفاق واجب الرجل ومسئوليته ، وليعلم أن الله عزيز لا يحب أن يستذل رجل امرأة هي مخلوق لله ، والله حكيم قادر على أن يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن درجته فوق المرأة هي للاستبداد ، أو فهمت المرأة أن وجودها مع الرجل هي منة منها عليه ، فلا استذلال في الزواج؛ لأن الزواج أساسه المودة والمعرفة . ويقول الحق بعد ذلك : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ . . . }
(1/617)

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
هنا يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق بعد أن تحدث عن المطلقة في عدتها وكيفية ردها ومراجعتها ، وإنه سبحانه يتحدث عن الطلاق في حد ذاته . والطلاق مأخوذ من الانطلاق والتحرر ، فكأنه حل عقدة كانت موجودة وهي عقدة النكاح . وعقدة النكاح هي العقدة التي جعلها الله عقداً مغلظاً وهي الميثاق الغليظ ، فقال تعالى : { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ]
إنه ميثاق غليظ لأنه أباح للزوجين عورات الآخر ، في حين أنه لم يقل عن الإيمان إنه ميثاق غليظ ، قال عنه : " ميثاق " فقط ، فكأن ميثاق الزواج أغلظ من ميثاق الإيمان . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في الناس حل المشكلات بأيسر الطرق . لذلك شرع لنا أن نحل عقدة النكاح ، ونهاية العقدة ليست كبدايتها ، ليست جذرية ، فبداية النكاح كانت أمراً جذريا ، أخذناه بإيجاب وقبول وشهود وأنت حين تدخل في الأمر تدخله وأنت دارس لتبعاته وظروفه ، لكن الأمر في عملية الطلاق يختلف؛ فالرجل لا يملك أغمار نفسه ، فربما يكون السبب فيها هيناً أو لشيء كان يمكن أن يمر بغير الطلاق؛ فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل للناس أناة وروية في حل العقدة فقال : { الطلاق مَرَّتَانِ } يعني مرة ومرة ، ولقائل أن يقول : كيف يكون مرتين ، ونحن نقول ثلاثة؟ وقد سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال يا رسول الله قال الله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } فلم صار ثلاثاً؟
فقال صلى الله عليه وسلم مبتسماً : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } . فكأن معنى { الطلاق مَرَّتَانِ } ، أي أن لك في مجال اختيارك طلقتين للمرأة ، إنما الثالثة ليست لك ، لماذا؟ لأنها من بعد ذلك ستكون هناك بينونة كبرى ولن تصبح مسألة عودتها إليك من حقك ، وإنما هذه المرأة قد أصبحت من حق رجل آخر . . { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ]
أما قول الرجل لزوجته أنت " طالق ثلاثاً " يُعتبر ثلاث طلقات أم لا؟ نقول : إن الزمن شرط أساسي في وقوع الطلاق ، يطلق الرجل زوجته مرة ، ثم تمضي فترة من الزمن ، ويطلقها مرة أخرى فتصبح طلقة ثانية ، وتمضي أيضا فترة من الزمن وبعد ذلك نصل لقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ولذلك فالآية نصها واضح وصريح في أن الطلاق بالثلاث في لفظ واحد لا يوقع ثلاث طلقات ، وإنما هي طلقة واحدة ، صحيح أن سيدنا عمر رضي الله عنه جعلها ثلاث طلقات؛ لأن الناس استسهلوا المسألة ، فرأى أن يشدد عليهم ليكفوا ، لكنهم لم يكفوا ، وبذلك نعود لأصل التشريع كما جاء في القرآن وهو { الطلاق مَرَّتَانِ } .
وحكمة توزيع الطلاق على المرات الثلاث لا في العبارة الواحدة ، أن الحق سبحانه يعطي فرصة للتراجع . وإعطاء الفرصة لا يأتي في نفس واحد وفي جلسة واحدة .
(1/618)

إن الرجل الذي يقول لزوجته : أنت طالق ثلاثاً لم يأخذ الفرصة ليراجع نفسه ولو اعتبرنا قولته هذه ثلاث طلقات لتهدمت الحياة الزوجية بكلمة . ولكن عظمة التشريع في أن الحق سبحانه وزع الطلاق على مرات حتى يراجع الإنسان نفسه ، فربما أخطأ في المرة الأولى ، فيمسك في المرة الثانية ويندم . وساعة تجد التشريع يوزع أمراً يجوز أن يحدث ويجوز ألا يحدث ، فلا بد من وجود فاصل زمني بين كل مرة . وبعض المتشدقين يريدون أن يبرروا للناس تهجمهم على منهج الله فيقولون : إن الله حكم بأن تعدد الزوجات لا يمكن أن يتم فقال : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ]
ويقولون : إنّ الله اشترط في التعدد العدل ، ثم حكم بأننا لن نستطيع أن نعدل بين الزوجات مهما حرصنا ، فكأنه رجع في التشريع ، هذا منطقهم . ونقول لهم : أكملوا قراءة الآية تفهموا المعنى ، إن الحق يقول : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } ثم فرع على النفي فقال : { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } [ النساء : 129 ]
وما دام النفي قد فُرِّع عليه فقد انتفى ، فالأمر كما يقولون : نفي النفي إثبات . أن الاستطاعة ثابتة وباقية وكان قوله تعالى : { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } إشارة إليها . وكذلك الأمر هنا { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } . فما دام قد قال : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقال : { الطلاق مَرَّتَانِ } أي أن لكل فعل زمناً ، فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب ، وإلا فالطلاق الثلاث بكلمة واحدة في زمن واحد ، يكون عملية قسرية واحدة ، وليس فيها تأديب أو إصلاح أو تهذيب ، وفي هذه المسألة يقول الحق : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } لأن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه بالبضع ، فإذا ما حدث الطلاق لا يحل للمطلق أن يأخذ من مهره شيئاً ، لكن الحق استثنى في المسألة فقال : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } .
فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجاً إن أريد بها الضرر وهي لا تقبل هذا الضرر . فيأتي الحق ويشرع : وما دام قد خافا ألا يقيما حدود الله ، فقد أذن لها أن افتدي نفسك أيتها المرأة بشيء من مال ، ويكره أن يزيد على المهر إلا إذا كان ذلك ناشئا عن نشوز منها ومخالفة للزوج فلا كراهة إذن في الزيادة على المهر .
وقد جاء الواقع مطابقاً لما شرع الله عندما وقعت حادثة " جميلة " أخت " عبد الله ابن أبي " حينما كانت زوجة لعبد الله بن قيس ، فقد ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : " أنا لا أتهمه في دينه ولا خلقه ولكن لا أحب الكفر في الإسلام " وهي تقصد أنها عاشت معه وهي تبغضه ، لذلك لن تؤدي حقه وذلك هو كفر العشير أي إنكار حق الزوج وترك طاعته .
(1/619)

وهي قد قالت : إنها لا تتهمه لا في دينه ولا في خلقه لتعبر بذلك عن معانٍ عاطفية أخرى ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم منها ذلك ، فقالت : لقد رفعت الخباء فوجدته في عدة رجال فرأيته أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً ، فقال لها صلى الله عليه وسلم : " " أتردين حديقته "؟ فقالت : وإن شاء زدته ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا حاجة لنا بالزيادة ، ولكن ردي عليه حديقته " .
ويُسمى هذا الأمر بالخلع ، أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف ألا تؤدي له حقاً من حقوق الزوجية ، إنها تخلع نفسها منه بمال حتى لا يصيبه ضرر ، فقد يريد أن يتزوج بأخرى وهو محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه . ويتابع الحق سبحانه : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } وهذا الشيء هو الذي قال عنه الله في مكان آخر : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [ النساء : 20 ]
ويتابع الحق الآية بقوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } والمقصود هنا هما الزوجان ، ومن بعد ذلك تأتي مسئولية أولياء أمر الزوجين والمجتمع الذي يهمه أمرهما في قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } .
وحدود الله هي ما شرعه الله لعباده حداً مانعاً بين الحل والحرمة . وحدود الله إما أن ترد بعد المناهي ، وإما أن ترد بعد الأوامر ، فإن وردت بعد الأوامر فإنه يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } أي آخر غايتكم هنا ، ولا تتعدوا الحد ، ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } ، لأن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس ، فتلح عليها أن تفعل ، فإن كنت بعيداً عنها فالأفضل أن تظل بعيداً .
وانظر جيداً فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه " .
وما دامت الحدود تشمل مناهي الله وتشمل أوامر الله فكل شيء مأمور به وكل شيء منهي عنه يجب أن يظل في مجاله من الفعل في " افعل " ومن النهي في " لا تفعل " . وإذا انتقل نظام ( افعل ) إلى دائرة ( لا تفعل ) وانتقل ما يدخل في دائرة " لا تفعل " إلى دائرة " افعل " ، هنا يختل نظام الكون ، وما دام نظام الكون أصابه الخلل فقد حدث الظلم؛ فالظلم هو أن تنقل حق إنسان وتعطيه لإنسان آخر ، وتشريع الطلاق حد من حدود الله ، فإن حاولت أن تأتي بأمر لا يناسب ما أمر الله به في تنظيم اجتماعي فقد نقلت المأمور به إلى حيز المنهي عنه ، وبذلك تُحْدِثُ ظلماً .
(1/620)

والحق سبحانه وتعالى حينما يعالج قضايا المجتمع يعالجها علاجاً يمنع وقوع المجتمع في الأمراض والآفات ، والبشر إن أحسنا الظن بهم في أنهم يشرعون للخير وللمصلحة ، فهم يشرعون على قدر علمهم بالأشياء ، لكننا لا نأمن أن يجهلوا شيئاً يحدث ولا يعرفوه ، فهم شرّعوا لِمَا عرفوا ، وإذا شرعوا لما عرفوا وفوجئوا بأشياء لم يعرفوها ماذا يكون الموقف؟ إن كانوا مخلصين بحق داسوا على كبرياء غرورهم التشريعي وقالوا : نُعَدِّل ما شرعنا ، وإن ظلوا في غلوائهم فمن الذي يشقى؟ إن المجتمع هو الذي يشقى بعنادهم .
والحق سبحانه وتعالى لا يتهم الناس جميعاً في أن منهم من لا يريد الخير ، ولكن هناك فرق بين أن تريد خيراً وألا تقدر على الخير . أنت شرعت على قدر قدرتك وعلمك . ونعرف جميعاً أن شقاء التجارب في القوانين الاجتماعية النظرية تقع على المجتمع .
ونعرف جيداً أن هناك فرقاً بين العلم التجريبي المعملي والكلام النظري الأهوائي؛ فالعلم التجريبي يشقى به صاحب التجربة ، إن العَالِم يكد ويتعب في معمله وهو الذي يشقى ويضحي بوقته وبماله وبصحته ويعيش في ذهول عن كل شيء إلا تجربته التي هو بصددها ، فإذا ما انتهى إلى قضية اكتشافية فالذي يسعد باكتشافه هو المجتمع . لكن الأمر يختلف في الأشياء النظرية؛ لأن الذي يشقى بأخطاء المقننين من البشر هو المجتمع ، إلى أن يجيء مقنن يعطف على المجتمع ويعدل خطأ من سبقه .
أما الحق سبحانه وتعالى فقد جاءنا بتشريع يحمي البشر من الشقاء ، فالله سبحانه يتركنا في العالم المادي التجريبي أحراراً . ادخلوا المعمل وستنتهون إلى أشياء قد تتفقون عليها ، لكن إياكم واختلافات الأهواء؛ لذلك تولى الله عز وجل تشريع ما تختلف فيه الأهواء ، حتى يضمن أن المجتمع لا يشقى بالخطأ من المشرعين ، لفترة من الزمن إلى أن يجيء مشرع آخر ويعدل للناس ما أخطأ فيه غيره .
لذلك نجد في عالمنا المعاصر الكثير من القضايا النابعة من الهوى ، ويتمسك الناس فيها بأهوائهم ، ثم تضغط عليهم الأحداث ضغطا لا يستطيعون بعدها أن يضعوا رءوسهم في الرمال ، بل لابد أن يواجهوها ، فإذا ما واجهوها فإنهم لا يجدون حلاً لها إلا بما شرعه الإسلام ، ونجد أنهم التقوا مع تشريعات الإسلام .
إن بعضاً من الكارهين للإسلام يقولون : أنتم تقولون عن دينكم : إنه جاء ليظهر على كل الأديان ، مرة يقول القرآن :
(1/621)

{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً } [ الفتح : 28 ]
ومرة يقول القرآن : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون * هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } [ الصف : 8-9 ]
ويستمر هؤلاء الكارهون للإسلام في قولهم ويضيفون : إن إسلامكم ليظهر على الدين كله حتى الآن بدليل أن هناك الملايين لم يدخلوا الإسلام؟ ونقول لهم : أو يظهر على الدين كله بأن يؤمن الناس بالإسلام جميعاً ، لا ، لو فطنوا على قول الله : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } لعلموا أن إظهار الإسلام على الدين لابد أن يلازمه وجود كافرين كارهين ، وما دام الإسلام موجوداً مع كافرين كارهين ، فهو لن يظهر كدين ، ولكنه يظهر عليهم أي يغلبهم كنظام يضطرون إليه ليحلوا مشكلات مجتمعاتهم الكافرة ، فسيأخذون من أنظمة وقوانين الإسلام وهم كارهون ، ولذلك نجدهم يستقون قوانينهم وإصلاحاتهم الاجتماعية من تعاليم الإسلام .
ولو كانوا سيأخذونه كدين لما قال الحق : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } أو { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } لأنهم عندما يعتنقونه كدين فلن يبقى كاره أو مشرك . لكن حين يقول سبحانه : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } و { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } فذلك يعني : أن اطمئنوا يا من آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخذتم الإسلام ديناً ، إن تجارب الحياة ستأتي لتثبت لدى الجاحدين صدق دينكم ، وصدق الله في تقنينه لكم ، وسيضطر الكافرون والمشركون إلى كثير من قضايا إسلامكم ليأخذوها كنظام يحلون بها مشاكلهم رغم عنادهم وإصرارهم على أن يكونوا ضد الإسلام .
وضربنا على ذلك مثلاً بما حدث في إيطاليا التي بها الفاتيكان قبلة الكاثوليك الروحية؛ فقد اضطروا لأن يشرعوا قوانين تبيح الطلاق ، وحدث مثل ذلك في أسبانيا وغيرها من الدول . انظر كيف تراجعوا في مبادئ كانوا يعيبونها على الإسلام! لقد اضطرتهم ظروف الحياة لأن يقننوا إباحة الطلاق تقنيناً بشرياً لا بتقنين إلهي . ومثل هذه الأحداث تبين لنا مدى ثقتنا في ديننا ، وأن مشكلات البشرية في بلاد الكفر والشرك لن يحلها إلا الإسلام ، فإن لم يأخذوه كدين فسيضطرون إلى أخذه كنظام .
ومن شرف الإسلام ألا يأخذوه كدين؛ لأنهم لو آمنوا به لكانت أفعالهم وقوانينهم تطبيقا للإسلام من قوم مسلمين ، ولكن أن يظلوا كارهين للإسلام ثم يأخذوا من مبادئ الدين الذي يكرهونه ما يصلح مجتمعاتهم الفاسدة فذلك الفخر الأكبر للإسلام . إن هذا هو مفهوم قول الحق : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } و { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } وإذا ما جاء لك أحد في هذه المسألة فقل : من شرف الإسلام أن يظل في الدنيا مشرك ، وأن يظل في الدنيا هؤلاء الكفار ثم يرغموا ليحلوا مسائل مجتمعاتهم بقضايا الإسلام ، والإسلام يفخر بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرناً إلى ما يلهثون وراءه الآن بعد مضي كل هذا الزمن . ويقول الحق بعد ذلك : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ . . . }
(1/622)

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
وسبق أن قال الحق : { الطلاق مَرَّتَانِ } وبعدها قال : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } . وهنا يتحدث الحق عن التسريح بقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } . وذلك حتى يبين لنا أنه إن وصلت الأمور بين الزوجين إلى مرحلة اللا عودة فلابد من درس قاس؛ فلا يمكن أن يرجع كل منهما للآخر بسهولة . لقد أمهلهما الله بتشريع البينونة الصغرى التي يعقبها مهر وعقد جديدان فلم يرتدعا ، فكان لابد من البينونة الكبرى ، وهي أن تتزوج المرأة بزوج آخر وتجرب حياة زوجية أخرى . وبذلك يكون الدرس قاسياً .
وقد يأخذ بعض الرجال المسألة بصورة شكلية ، فيتزوج المرأة المطلقة ثلاثاً زواجاً كامل الشروط من عقد وشهود ومهر ، لكن لا يترتب على الزواج معاشرة جنسية بينهما ، وذلك هو " المحلل " الذي نسمع عنه وهو ما لم يقره الإسلام .
فمن تزوج على أنه محلل ومن وافقت على ذلك المحلل فليعلما أن ذلك حرام على الاثنين ، فليس في الإسلام محلل ، ومن يدخل بنية المحلل لا تجوز له الزوجة ، وليس له حقوق عليها ، وفي الوقت نفسه لو طلقها ذلك الرجل لا يجوز لها الرجوع لزوجها السابق ، لأن المحلل لم يكن زوجاً وإنما تمثيل زوج ، والتمثيل لا يُثبت في الواقع شيئاً . ولذلك قال الحق : { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } .
والمقصود هنا النكاح الطبيعي الذي ساقت إليه الظروف دون افتعال ولا قصد للتحليل . وعندما يطلقها ذلك الرجل لظروف خارجة عن الإرادة وهي استحالة العشرة ، وليس لأسباب متفق عليها ، عندئذ يمكن للزوج السابق أن يتزوج المرأة التي كانت في عصمته وطلقها من قبل ثلاث مرات . { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي أن يغلب على الظن أن المسائل التي كانت مثار خلاف فيما مضى قد انتهت ووصل الاثنان إلى درجة من التعقل والاحترام المتبادل ، وأخذا درساً من التجربة تجعل كلا منهما يرضى بصاحبه . وبعد ذلك يقول الحق : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . }
(1/623)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
ولنلاحظ قوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ونسأل : هل إذا بلغت الأجل وانتهت العدة ، هل يوجد بعدها إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؟ ، هل يوجد إلا التسريح؟ . إن هناك آية بعد ذلك تقول : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف } [ البقرة : 232 ]
إذن نحن أمام آيتين كل منهما تبدأ بقوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } . لكن تكملة الآية الأولى هو : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وتكملة الآية الثانية هو : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } . ما سر هذا الاختلاف إذن؟
نقول : إن البلوغ يأتي بمعنيين ، المعنى الأول : أن يأتي البلوغ بمعنى المقاربة مثل قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } . أي عندما تقارب القيام إلى الصلاة فافعل ذلك . والمعنى الثاني : يطلق البلوغ على الوصول الحقيقي والفعلي . إن الإنسان عندما يكون مسافرا بالطائرة ويهبط في بلد الوصول فهو يلاحظ أن الطيار يعلن أنه قد وصل إلى البلد الفلاني . إذن مرة يطلق البلوغ على القرب ومرة أخرى يطلق على البلوغ الحقيقي .
وفي الآية الأولى { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } هنا طلق الرجل زوجته لكن عدتها لم تنته بل قاربت على الانتهاء فربما يمكنه أن يسرحها أو يمسكها بإحسان ، وأصبح للزوج قدر من زمن العدة يبيح له أن يمسك أو يسرح ، لكنه زمن قليل . إن الحق يريد أن يتمسك الزوج بالإبقاء إلى آخر لحظة ويستبقي أسباب الالتقاء وعدم الانفصال حتى آخر لحظة ، وهذه علة التعبير بقوله : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي قاربن بلوغ الأجل . إن الحق يريدنا أن نتمسك باستبقاء الحياة الزوجية إلى آخر فرصة تتسع للإمساك ، فهي لحظة قد ينطق فيها الرجل بكلمة يترتب عليها إما طلاق ، وإما عودة الحياة الزوجية .
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } فالله سبحانه وتعالى يريد أن يحصر مناقشة الأسباب في الانفصال أو الاستمرار بين الزوج والزوجة فقط فلا تتعدى إلى غير الزوج والزوجة؛ لأن بين الاثنين من الأسباب ما قد تجعل الواحد منهما يُلين جانبه للآخر .
لكن إذا ما دخل طرف ثالث ليست عنده هذه فسوف تكبر في نفسه الخصومة ولا توجد عنده الحاجة فلا يبقى على عشرة الزوجين . فإذا ما دخل الأب أو الأخ أو الأم في النزاع فسوف تشتعل الخصومة ، وكل منهم لا يشعر بإحساس كل من الزوجين للآخر ، ولا بليونة الزوج لزوجته ، ولا بمهادنة الزوجة لزوجها ، فهذه مسائل عاطفية ونفسية لا توجد إلا بين الزوج والزوجة ، أما الأطراف الخارجية فلا يربطها بالزوج ولا بالزوجة إلا صلة القرابة . ومن هنا فإن حرص تلك الأطراف الخارجية على بقاء عشرة الزوجين لا يكون مثل حرص كل من الزوجين على التمسك بالآخر .
(1/624)

ولذلك يجب أن نفهم أن كل مشكلة تحدث بين زوج وزوجته ولا يتدخل فيها أحد تنتهي بسرعة بدون أم أو أب أو أخ ، ذلك لأنه تدخل طرفٍ خارجي لا يكون مالكا للدوافع العاطفية والنفسية التي بين الزوجين ، أما الزوجان فقد تكفي نظرة واحدة من أحدهما للآخر لأن تعيد الأمور إلى مجاريها . فقد يُعجب الرجل بجمال المرأة ويشتاق إليها ، فينسى كل شيء . وقد ترى المرأة في الرجل أمراً لا تحب أن تفقده منه فتنسى ما حدث بينهما ، وهكذا .
لكن أين ذلك من أمها وأمه ، أو أبيها وأبيه؟ ليس بين هؤلاء وبين الزوجين أسرار وعواطف ومعاشرة وغير ذلك .
ولهذا فأنا أنصح دائما بأن يظل الخلاف محصوراً بين الزوج والزوجة؛ لأن الله قد جعل بينهما سيالا عاطفيا . والسيال العاطفي قد يسيل إلى نزوع ورغبة في شيء ما ، وربما تكون هذه الرغبة هي التي تصلح وتجعل كلا من الطرفين يتنازل عن الخصومة والطلاق . ولذلك شاءت إرادة الله عز وجل ألا يطلق الرجل زوجته وهي حائض ، لماذا؟
لأن المرأة في فترة الحيض لا يكون لزوجها رغبة فيها ، وربما ينفر منها ، لكن يريد الحق عز وجل ألا يطلق الرجل زوجته إلا في طهر لم يسبق له أن عاشرها فيه معاشرة الزوج زوجته وبعد أن تغتسل من الحيض ، وذلك حتى لا يطلقها إلا وهو في أشد الأوقات رغبة لها .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن تكون الخلافات بين الزوج والزوجة في إطار الحياة الزوجية ، حتى يحفظهما سياج المحبة والمودة والرحمة . لكن تدخل الأطراف الأخرى يحطم هذا السياج ، أياً كان الطرف أما أو أبا أو أخا .
ويقول الحق : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } أي لا تبق أيها الرجل على الحياة الزوجية من أجل الإضرار بالمرأة وإذلالها ، ومعنى الضرار أنك تصنع شيئا في ظاهره أنك تريد الخير وفي الباطن تريد الشر . ولذلك أطلق اللفظ على " مسجد الضرار " فظاهر بنائه أنه مسجد بني للصلاة فيه ، وفي الباطن كان الهدف منه هو الكفر والتفريق بين المؤمنين . وكذلك الضرار في الزواج؛ يقول الرجل أنا لا أريد طلاقها وسأعيدها لبيتها ، يقول ذلك ويُبيت في نفسه أن يعيدها ليذلها وينتقم منها ، وذلك لا يقره الإسلام؛ بل وينهى عنه .
إن الحق عز وجل يحذر من مثل هذا السلوك فيقول : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فإياك أن تظن أنك حين تعتدي على زوجتك بعد أن تراجعها أنك ظلمتها هي ، لا ، إنما أنت تظلم نفسك؛ لأنك حين تعتدي على إنسان فقد جعلت ربه في جانبه ، فإن دعا عليك قِبل الله دعوته ، وبذلك تحرم نفسك من رضا الله عنك ، فهل هناك ظلم أكثر من الظلم الذي يأتيك بسخط الله عليك .
(1/625)

ويتابع الحق سبحانه وتعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً } أي خذوا نظام الله على أنه نظام جاء ليحكم حركة الحياة حكما بلا مراوغة وبلا تحليق في خيال كاذب ، إنما هو أمر واقعي ، فلا يصح أن يهزأ أحد بما أنزله الله من أنظمة تصون حياة وكرامة الإنسان رجلاً كان أو امرأة .
{ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } ونعمة الله عليهم التي يذكرهم الله بها في معرض الحديث عن الطلاق هي أنه سبحانه يلفتهم إلى ما كانوا عليه قبل أن يشرع لهم أين كان حظ المرأة في الجاهلية في أمور الزواج والطلاق ، وما أصبحت عليه بعد نزول القرآن؟ لقد صارت حقوقها مصونة بالقرآن .
إن الحق عز وجل يمتن على المؤمنين ليلفت نظرهم إلى حالتهم قبل الإسلام؛ فقد كان الرجل يطلق امرأته ويعيدها ، ثم يطلقها ويعيدها ولو ألف مرة دون ضابط أو رابط . وكان يحرم عليها المعاشرة الزوجية شهوراً ويتركها تتعذب بلوعة البعد عنه ، ولا تستطيع أن تتكلم .
وكانت المرأة إذا مات زوجها تنفى من المجتمع فلا تظهر أبداً ولا تخرج من بيتها وكأنها جرثومة ، وقبل ذلك كله كانت مصدر عار لأبيها ، فكان يقتلها قبل أن تصل إلى سن البلوغ بدعوى الحرص على عرضه وشرفه .
باختصار كان الزواج أقرب إلى المهازل منه إلى الجد ، فجاء الإسلام ، فحسم الأمور حتى لا تكون فوضى بلا ضوابط وبلا قوانين . فاذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم بالإسلام ، وانظروا إلى ما أنعم به عليكم من نظام أسري يلهث العالم شرقه وغربه ليصل إلى مثله .
كنتم أمة بلا حضارة وبلا ثقافة ، تعبدون الأصنام وتقيمون الحرب وتشعلونها بينكم على أتفه الأسباب وأدونها ، وتجهلون القراءة والكتابة ، ثم نزل الله عليكم هذا التشريع الراقي الناضج الذي لم تصل إليه أية حضارة حتى الآن . أَلاَ تذكرون هذه النعمة التي أنتم فيها بفضل من الله؟ لذلك قال سبحانه : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } والكتاب هو القرآن ، والحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويختتم الحق تلك الآية الكريمة بقول : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد فاته شيء من التشريع لكم ، فكل تشريع جاهز في الإسلام ، لأن الله عليم بما تكون عليه أحوال الناس ، فلا يستدرك كون الله في الواقع على ما شرع الله في كتابه ، لأنه سبحانه خالق الكون ومنزل التشريع . وبعد ذلك يقول الحق : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ . . . }
(1/626)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } هنا أي فانتهت العدة ، ولم يستنفد الزوج مرات الطلاق ، ولم يعد للزوج حق في أن يراجعها إلا بعد عقد ومهر جديدين . هب أن الزوج أراد أن يعيد زوجته إلى عصمته مرة أخرى ، وهنا يتدخل أهل اللدد والخصومة من الأقارب ، ويقفون في وجه إتمام الزواج ، والزوجان ربما كان كل منهما يميل إلى الآخر ، وبينهما سيال عاطفي ونفسي لا يعلمه أحد ، لكن الذين دخلوا في الخصومة من الأهل يقفون في وجه عودة الأمور إلى مجاريها ، خوفا من تكرار ما حدث أو لأسباب أخرى ، وتقول لهؤلاء : ما دام الزوجان قد تراضيا على العودة فلا يصح أن يقف أحد في طريق عودة الأمور إلى ما كانت عليه .
وقوله الحق : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } نعرف منه أن العضل هو المنع ، والكلام للأهل والأقارب وكل من يهمه مصلحة الطرفين من أهل المشورة الحسنة . و { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } أي الذين طلقوهن أولا .
والمعنى : لا تمنعوا الأزواج أن يعيدوا إلى عصمتهم زوجاتهم اللائي طلقوهن من قبل . وليعلم الأهل الذين يصرون على منع بناتهم من العودة لأزواجهن أنهم بالتمادي في الخصومة يمنعون فائدة التدرج في الطلاق التي أراد حكمة لله .
إن حكمة التشريع في جعل الطلاق مرة ، ومرتين هي أن من لم يصلح في المرأة الأولى قد يصلح في المرة الثانية ، وإذا كان الله العليم بنفوس البشر قد شرع لهم أن يطلقوا مرة ومرتين ، وأعطى فسحة من الوقت لمن أخطأ في المرة الأولى ألا يخطئ في الثانية ، لذلك فلا يصح أن يقف أحد حجر عثرة أمام إعادة الحياة الزوجية من جديد .
وقوله الحق : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } ونلحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى ينسب النكاح للنسوة ، فقال : { يَنكِحْنَ } وهذا يقتضي رضاء المرأة عن العودة للزوج فلا يمكن أن يطلقها أولا ثم لا يكون لها رأي في العودة إليه .
{ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف } وما داموا تراضوا ورأوا أن عودة كل منهم للآخر أفضل ، فليبتعد أهل السوء الذين يقفون في وجه رضا الطرفين ، وليتركوا الحلال يعود إلى مجاريه . { ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } إن هذا تشريع ربكم وهو موعظة لكم يا من تؤمنون بالله ربا حكيماً مشرعاً وعالماً بنوازع الخير في نفوس البشر .
وكلمة { وَأَطْهَرُ } تلفتنا إلى حرمة الوقوف في وجه المرأة التي تريد أن ترجع لزوجها الذي طلقها ثم انتهت العدة ، وأراد هو أن يتزوجها من جديد ، إن الحق يبلغنا : ولا تقفوا في وجه رغبتهما في العودة لأي سبب كان ، لماذا يا رب؟
وتأتي الإجابة في قوله الحق : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } تأمل جمال السياق القرآني وكيف خدم قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } المعنى الذي تريده الآيات . إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أن في عودة الأمور لمجاريها بين الزوجين أزكى وأطهر . ويقول الحق بعد ذلك : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة . . . }
(1/627)

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
انظر إلى عظمة الإسلام ها هو ذا الحق سبحانه يتكلم عن إرضاع الوالدات لأولادهن بعد عملية الطلاق ، فالطلاق يورث الشقاق بين الرجل والمرأة ، والحق سبحانه وتعالى ينظر للمسألة نظرة الرحيم العليم بعباده ، فيريد أن يحمي الثمرة التي نتجت من الزواج قبل أن يحدث الشقاق بين الأبوين ، فيبلغنا : لا تجعلوا شقاقكم وخلافكم وطلاقكم مصدر تعاسة للطفل البريء الرضيع .
وهذا كلام عن المطلقات اللاتي تركن بيوت أزواجهن ، لأن الله يقول بعد ذلك : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } وما دامت الآية تحدثت عن { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } فذلك يعني أن المرأة ووليدها بعيدة عن الرجل ، لأنها لو كانت معه لكان رزق الوليد وكسوته أمرا مفروغا منه . والحق سبحانه يفرض هنا حقا للرضيع ، وأمه لم تكن تستحقه لولا الرضاع . وبعض الناس فهموا خطأ أن الرزق والكسوة للزوجات عموما ونقول لهم : لا . إن الرزق والكسوة هنا للمطلقات اللاتي يرضعن فقط .
ويريد الحق سبحانه أن يجعل هذا الحق أمرا مفروغا منه ، فشرع حق الطفل في أن يتكفله والده بالرزق والكسوة حتى يكون الأمر معلوما لديه حال الطلاق .
وقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } نلحظ فيه أنه لم يأت بصيغة الأمر فلم يقل : يا والدات أرضعن ، لأن الأمر عرضة لأن يطاع وأن يعصى ، لكن الله أظهر المسألة في أسلوب خبري على أنها أمر واقع طبيعي ولا يخالف .
ويقول الحق : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ولنتأمل عظمة الأداء القرآني في قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } إنه لم يقل : " وعلى الوالد " ، وجاء ب { المولود لَهُ } ليكلفه بالتبعات في الرزق والكسوة ، لأن مسئولية الإنفاق على المولود هي مسئولية الوالد وليست مسئولية الأم ، وهي قد حملت وولدت وأرضعت والولد يُنسب للأب في النهاية يقول الشاعر :
فإنما أمهات الناس أوعية ... مستوعادت وللآباء أبناء
وما دام المولود منسوباً للرجل الأب ، فعلى الأب رزقه وكسوته هو وعليه أيضا رزق وكسوة أمه التي ترضعه بالمعروف المتعارف عليه بما لا يسبب إجحافاً وظلما للأب في كثرة الإنفاق ، ويقول الحق : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } هنا الحديث عن الأم والأب . فلا يصح أن ترهق المطلقة والد الرضيع بما هو فوق طاقته ، وعليها أن تكتفي بالمعقول من النفقة .
ويتابع الحق : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } ولازال الحق يُذكرُ الأب بأن المولود له هو ، وعليه ألا يضر والدة الطفل بمنع الإنفاق على ابنه ، وألا يتركها تتكفف الناس من أجل رزقه وكسوته ، وفي الوقت نفسه يُذَكرُ الأم : لا تجعلي رضيعك مصدر إضرار لأبيه بكثرة الإلحاح في طلب الرزق والكسوة .
إنه عز وجل يضع لنا الإطار الدقيق الذي يكفل للطفل حقوقه ، فهناك فرق بين رضيع ينعم بدفء الحياة بين أبوين متعاشرين ، ووجوده بين أبوين غير متعاشرين .
(1/628)

والحق سبحانه وتعالى يعطينا لفتة أخرى هي أن والد المولود قد يموت فإذا ما مات الوالد فمن الذي ينفق على الوليد الذي في رعاية أمه المطلقة؟ هنا يأتينا قول الحق بالجواب السريع : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } .
إن الحق يقرر مسئولية الإنفاق على من يرث والد الرضيع ، صحيح أن الرضيع سيرث في والده ، لكن رعاية الوليد اليتيم هي مسئولية من يرث الوصاية وتكون له الولاية على أموال الأب إن مات . وهكذا يضمن الله عز وجل حق الرضيع عند المولود له وهو أبوه إذا كان حياً ، وعند من يرث الأب إذا تُوفى .
وبذلك يكون الله عز وجل قد شَرَّع لصيانة أسلوب حياة الطفل في حال وجود أبويه ، وشرع له في حال طلاق أبويه وأبوه حيٌّ وشرع له في حال طلاق أبويه ووفاة أبيه . ويتابع الحق : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } .
انظر إلى الرحمة في الإسلام؛ فطلاق الرجل لزوجته لا يعني أن ما كان بينهما قد انتهى ، ويضيع الأولاد ويشقون بسبب الطلاق ، فقوله تعالى : { عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } دليل على أن هناك قضية مشتركة مازالت بين الطرفين وهي ما يتصل برعاية الأولاد ، وهذه القضية المشتركة لابد أن يلاحظ فيها حق الأولاد في عاطفة الأمومة ، وحقهم في عاطفة الأبوة ، حتى ينشأ الولد وهو غير محروم من حنان الأم أو الأب ، وإن اختلفا حتى الطلاق .
إن عليهما أن يلتقيا بالتشاور والتراضي في مسألة تربية الأولاد حتى يشعروا بحنان الأبوين ، ويكبر الأولاد دون آلام نفسية ، ويفهمون أن أمهم تقدر ظروفهم وكذلك والدهم وبرغم وجود الشقاق والخلاف بينهما فقد اتفقا على مصلحة الأولاد بتراضٍ وتشاور .
إن ما يحدث في كثير من حالات الطلاق من تجاهل للأولاد بعد الطلاق هي مسألة خطيرة؛ لأنها تترك رواسب وآثارا سلبية عميقة في نفوس الأولاد ، ويترتب عليها شقاؤهم وربما تشريدهم في الحياة . وما ذنب أولاد كان الكبار هم السبب المباشر في مجيئهم للحياة؟ أليس من الأفضل أن يوفر الآباء لهم الظروف النفسية والحياتية التي تكفل لهم النشأة الكريمة؟ إن منهج الله أمامنا فلماذا لا نطبقه لنسعد به وتسعد به الأجيال القادمة؟
والحق سبحانه وتعالى قال في أول الآية : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } لكن ماذا يكون الحال إن نشأت ظروف تقلل من فترة الرضاعة عن العامين ، أو نشأت ظروف خاصة جعلت فترة الرضاعة أطول من العامين؟ هنا يقول الحق : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } .
إنه جل وعلا يبين لنا أن الفصال أي الفطام يجب أن يكون عن تراض وتشاور بين الوالدين ولا جناح عليهما في ذلك . ويقول الحق : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف } ، و { أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } أي أن تأتوا للطفل بمرضعة ، فإن أردتم ذلك فلا لوم عليكم في ذلك .
(1/629)

إن المطلق حين يوكل إلى الأم أن ترضع وليدها فالطفل يأخذ من حنان الأم الموجود لديها بالفطرة ، لكن هب أن الأم ليست لديها القدرة على الإرضاع أو أن ظروفها لا تسعفها على أن ترضعه لضعف في صحتها أو قوتها ، عند ذلك فالوالد مُطالب أن يأتي لابنه بمرضعة ، وهذه المرضعة التي ترضع الوليد تحتاج إلى أن يعطيها الأب ما يُسخِّيها ويجعلها تقبل على إرضاع الولد بأمانة ، والإشراف عليه بصدق .
ويختم الحق هذه الآية الكريمة بقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، إن الحق يحذر أن يأخذ أحد أحكامه ويدعي بظاهر الأمر تطبيقها ، لكنه غير حريص على روح هذه الأحكام ، مثال ذلك الأب الذي يريد أن يدلس على المجتمع ، فعندما يرى الأب مرضعة ابنه أمام الناس فهو يدعي أنه ينفق عليها ، ويعطيها أجرها كاملا ، ويقابلها بالحفاوة والتكريم بينما الواقع يخالف ذلك .
إن الله يحذر من يفعل ذلك : أنت لا تعامل المجتمع وإنما تعامل الله و { الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . ويقول الحق بعد ذلك : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً . . . }
(1/630)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
والعدة كما عرفنا هي الفترة الزمنية التي شرعها الله بعد زواج انتهى بطلاق أو بوفاة الزوج . والعدة إما أن تكون بعد طلاق ، وإما بعد وفاة زوج ، فإن كانت العدة بعد طلاق فمدتها ثلاثة قروء ، والقرء كما عرفنا هو الحيضة أو الطهر ، فإن كانت المطلقة صغيرة لم تخض بعد أو كانت كبيرة تعدت سن الحيض فالعدة تنقلب من القروء إلى الأشهر وتصبح " ثلاثة أشهر " .
وعرفنا أن من حق الزوج أن يراجع زوجته بينه وبين نفسه دون تدخل الزوجة أو ولي أمرها ، له ذلك في أثناء فترة العدة في الطلاق الرجعي ، فإن انتهت عدتها فقد سقط حقه في مراجعة الزوجة بنفسه ، وله أن يراجعها ، ولكن بمهر وعقد جديدين ما دام قد بقى له حق أي لم يستنفد مرات الطلاق .
وقد قلنا : إن تعدت الطلقات اثنتين وأصبحت هناك طلقة ثانية فلابد من زوج آخر يتزوجها بالطريقة الطبيعية لا بقصد أن يحللها للزوج الأول . وأما عدة المتوفى عنها زوجها فقد عرفنا أن القرآن ينص على أنها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا ، هذا إن لم تكن حاملا ، فإن كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين ، فإن كان الأجل الأبعد هو أربعة أشهر وعشرا فتلك عدتها ، وإن كان الأجل الأبعد هو الحمل فعدتها أن ينتهي الحمل . لكن أليس من الجائز أن يموت زوجها وهي في الشهر التاسع من الحمل فتلد قبل أن يدفن؟ وهل يعني ذلك أن عدتها انتهت؟ لا ، إنها تنتهي بأبعد الأجلين وهو في هذه الحالة مرور أربعة أشهر وعشرا ، وإن قال بعض الفقهاء : إن عدة الحامل بوضع الحمل .
لكن إذا لم يكن زوجها متوفَّى عنها فعدتها أن تضع حملها ، وإن شاءت أن تتزوج بعد ذلك فلها ذلك ولو بعد لحظة . وبعض الناس يفسرون الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها زوجة أربعة أشهر وعشرا ، فيقولون : لأنها إن كانت حاملا بذكر فسيظهر حملها عندما يتحرك بعد ثلاثة أشهر ، وإن كانت حاملا بأنثى فستتحرك بعد أربعة أشهر ونعطيها مهلة عشر ليالٍ .
ونقول لهم : جزاكم الله خيرا على تفسيركم ، لكن العدة ليست لاستبراء الرحم؛ لأنها لو كانت لاستبراء الرحم لانتهت عدة المرأة بمجرد ولادتها . ولو كان الأمر للتأكد من وجود حمل أو عدمه ، لكانت عدتها ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض ، وإن كانت من غير ذوات الحيض لصغر أو لكبر سن لكانت عدتها ثلاثة أشهر . لكن الله اختصها بأربعة أشهر وعشر وفاءً لحق زوجها عليها وإكراما لحياتهما الزوجية .
إذن فالله عز وجل جعل المتوفى عنها زوجها تتربص أقصى مدة يمكن أن تصبر عليها المرأة .
(1/631)

فالمرأة ساعة تكون متوفى عنها زوجها لا تخرج من بيتها ولا تتزين ولا تلقى أحداً وفاءً للزوج ، فإذا انتهت عدتها أي مضت عليها الأربعة الأشهر والعشرة ، { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ } وهو يعني أن تتزين في بيتها وتخرج دون إبداء زينة وأن يتقدم لها من يريد خطبتها . وقوله تعالى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } والمقصود بهذه المدة أربعة أشهر وعشر ليال .
وهنا لفتة تشريعية إيمانية تدل على استطراق كل حكم شرعي في جميع المكلفين وإن لم يكن الحكم ماسا لهم؛ فالمتوفى عنها زوجها تربصت أربعة أشهر وعشرا وبلغتها في مدة العدة ، وكان من حكم الله عليها ألا تتزين وألا تكتحل وألا تخرج من بيتها وفاءً لحق زوجها فإذا بلغت الأجل وانتهى قال : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ } ، ولم يقل : فلا جناح عليهن . لقد وجه الخطاب هنا للرجال؛ لأن كل مؤمن له ولاية على كل مؤمنة ، فإذا رأى في سلوكها أو أسلوب عنايتها بنفسها ما ينافي العدة فله أن يتدخل . مثلا إذا رآها تتزين قال لها أو أرسل إليها من يقول لها : لماذا تتزينين؟ إن قول الله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يجعل للرجال قوامة على المتوفى عنها زوجها ، فلا يقولون : لا دخل لنا؛ لأن الحكم الإيماني حكم مستطرق في كل مؤمن وعلى كل مؤمن . فالحق سبحانه وتعالى يقول : { وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ]
إن قوله الحق : { وَتَوَاصَوْاْ } لا يعني أن قوما خُصوا بأنهم يُوصون غيرهم وقوما آخرين يُوصيهم غيرهُم ، بل كل واحد منا موصٍ في وقت؛ وموصىً من غيره في وقت آخر ، هذا هو معنى { وَتَوَاصَوْاْ } .
فإذا رأيت في غيرك ضعفاً في أي ناحية من نواحي أحكام الله ، فلك أن توصيه . وكذلك إن رأى غيرُك فيك ضعفا في أي ناحية من النواحي فله أن يوصيك ، وعندما نتواصى جميعاً لا يبقى لمؤمن بيننا خطأ ظاهر .
إذن فالآية لا تَخُصُ بالوصاية جماعة دون أخرى إنما الكل يتواصون ، لأن الأغيار البشرية تتناوب الناس أجمعين . فأنت في فترة ضعفي رقيب علي ، فتوصيني ، وأنا في فترة ضعفك رقيب عليك ، فأوصيك . ولذلك جاء قول الحق : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } إنه سبحانه لم يوجه الخطاب للنساء ، ولكن خاطب به المؤمنين ولم يخص بالخطاب أولياء أمور النساء فحسب وإنما ترك الحكم للجميع حتى لا يقول أحد : لا علاقة لي بالمرأة التي توفى عنها زوجها ولتفعل ما تشاء . إن لها أن تتزين بالمتعارف عليه إسلاميا في الزينة ، ولها أن تتجمل في حدود ما أذن الله لها فيه .
ويختتم الحق هذه الآية بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي والله أعلم بما في نفسها وبما في نيتها . وهب أنها فعلت أي فعل على غير مرأى من أحد فلا تعتقد أن المجتمع وإن لم يشهد منها ذلك أن المسألة انتهت ، لا ، إن الله عليم بما تفعل وإن لم يطلع عليها أحد من الناس .
(1/632)

إن الحق سبحانه وتعالى قد حمى بكل التشريعات السابقة حق الزوج حتى تنتهي العدة ، وحق المتوفى عنها زوجها في أثناء العدة ، وحمى أيضا بكل التشريعات كرامة المرأة . وجعل المرأة حرما لا يقترب منه أحد يخدش حجابها ، إنّ عليها عدة محسوبة في هذا الوقت لرجل آخر ، فلا يحق لأحد أن يقترب منها .
لماذا؟ لأن المرأة خاصة إذا كانت مطلقة قد تتملكها رغبة في أن تثأر لنفسها ولكرامتها ، وربما تعجلت التزوج ، وربما كانت مسائل الافتراق أو الخلاف ناشئة عن اندساس رغبة راغب فيها ، وبمجرد أن يتم طلاقها وتعيش فترة العدة فقد يحوم حولها الراغبون فيها ، أو تستشرق هي من ناحيتها من تراه صالحاً كزوج لها . ولذلك يفرض الحق سياجا من الزمن ويجعل العدة كمنطقة حرام ليحمي المرأة حماية موضوعية لا شكلية .
التشريع لأنه من إله رحيم لا يهدر عواطف النفس البشرية : لا من ناحية الذي يرغب في أن يتزوج ، ولا من ناحية المرأة التي تستشرق أن تتزوج ، فيعالج هذه المسألة بدقة وبحزم وبحسم معا جل شأنه : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء . . . }
(1/633)

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
و { عَرَّضْتُمْ } مأخوذة من التعريض . والتعريض : هو أن تدل على شيء لا بما يؤديه نصا ، ولكن تعرض به تلميحا .
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية ، والتنفيس ليس مجرد تعبير عن العاطفة ، ولكنه رعاية للمصلحة ، فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان في ذلك ضياع فرصة الزواج للمرأة ، أو قد يفوت هذا المنع الفرصة على من يطلبها من الرجال؛ لذلك يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الاحتياط ، وكأنه يقول لنا : أنا أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلاماً صريحاً وواضحاً فيها ، لكن لا مانع من التلميح من بعيد .
مثلا يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلام لا يعد خروجا على آداب الإسلام مثل هذا الكلام هو تلميح وتعريض ، وفائدته أنه يعبر عما في نفسه قائله تجاه المطلقة فتعرف رأيه فيها ، ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لإنفاذ ما في نفسه ، ومنعه من أن يتقدم لخطبتها بعد انتهاء العدة ، وقد يدفعه ذلك لأن يفكر تفكيرا آخر : للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ .
إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلان فيها حتى إن جاءها غيره لا توافق عليه مباشرة . وهكذا نرى قبساً من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا ، بأن جعل العدة كمنطقة حرام تحمي المرأة ، وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس مصلحة من بعد ذلك .
إن الحق يقول : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } والخطبة مأخوذة من مادة " الخاء " و " الطاء " و " الباء " وتدل على أمور تشترك في عدة معالم : منها خُطبة بضم الخاء ، ومنها خَطْب وهو الأمر العظيم ، ومنها المعنى الذي نحن بصدده وهو الخِطبة بكسر الخاء . وكل هذه المعالم تدل على أن هناك الأمر العظيم الذي يُعالج ، فالخطب أمر عظيم يهز الكيان ، وكذلك الخُطبة لا يلقيها الخطيب إلا في أمر ذي بال ، فيعظ المجتمع بأمر ضروري .
والخِطبة كذلك أمر عظيم؛ لأنه أمر فاصل بين حياتين : حياة الانطلاق ، وحياة التقيد بأسرة وبنظام . وكلها معان مشتركة في أمر ذي بال ، وأمر خطير . وهو سبحانه وتعالى يقول : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } أي لا جناح عليكم أن وضعتم في أنفسكم أمرا يخفى على المرأة ، وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء ، ولكن ما الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لابد أن تلمح وأن تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة .
ويقول الحق : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ، إن الذي خلقك يعلم أنها ما دامت في بالك ، ومات زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أملا بالنسبة لك ، فلو أنه ضيق عليك لعوق عواطفك ، ولضاعت منك الفرصة لأن تتخذها زوجة من بعد ذلك ، ولهذا أباح الحق التعريض حتى لا يقع أحدكم في المحظور وهو { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } بأن تأخذوا عليهن العهد ألا يتزوجن غيركم ، أو يقول لها : تزوجيني .
(1/634)

بل عليه أن يعرض ولا يفصح ولا يصرح . إن المواعدة في السر أمر منهي عنه ، لكن المسموح به هو التعريض بأدب ، { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } كأن يقول : " يا سعادة من ستكون له زوجة مثلك " . ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب المرأة . ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو المتوفى عنها زوجها تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلام ومراده .
ويتابع الحق : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } وهكذا نرى أن مجرد العزم الأكيد أمر نهى عنه . والعزم مقدم على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد وأنهى ، فلك أن تنوى الزواج منها وتتوكل على الله ، لكن لا تجعله أمرا مفروغا منه ، إلا بعد أن تتم عدتها ، فإن بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا عقدة النكاح . فكأن عقدة النكاح تمر بثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : وهي التعريض أي التلميح .
والمرحلة الثانية : هي العزم الذي لا يصح ولا يستقيم أن يتم إلا بعد انتهاء فترة العدة .
والمرحلة الثالثة : هي العقد .
والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا الأمر الجاد ، فإن كان التفكير قد هدى إلى العزم فإن للإنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة ، وإن كان التفكير قد اهتدى إلى الابتعاد وصرف النظر عن مثل هذا الأمر فللإنسان ما يريد .
ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في الآخر أمرا لا يعجبه . وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد لا يكون إلا بعزم ، فلا يوجد عقد دون عزم ، إن الحق يريد من المسلم ألا يقدم على عقدة النكاح إلا بعد عزم . والعزم معناه التصميم على أنك تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته ، وبكل مهر الزواج ، ومشروعيته ، وإعفافه؛ فالزواج بدون أرضية العزم مصيره الفشل .
ومعنى العزم : أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد ، ثم لك أن تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء لا مجرد شهوة طارئة ليس لها أرضية من عزيمة النفس عليها .
ولذلك فإن الزواج القائم على غير رويّة ، والمعلق على أسباب مؤقتة كقضاء الشهوة لا يستمر ولا ينجح . ومثل ذلك زواج المتعة؛ فالعلة في تحريم زواج المتعة أن المقدم عليه لا يريد به الاستمرار في الحياة الزوجية ، وما دام لا يقصد منه الديمومة فمعناه أنه هدف للمتعة الطارئة .
(1/635)

والذين يبيحون زواج المتعة مصابون في تفكيرهم؛ لأنهم يتناسون عنصر الإقبال بديمومة على الزواج ، فما الداعي لأن تقيد زواجك بمدة؟ إن النكاح الأصيل لا يُقيد بمثل هذه المدة . وتأمل حمق هؤلاء لتعلم أن المسألة ليست مسألة زواج ، إنما المسألة هي تبرير زنى ، وإلا لماذا يشترط في زواج المتعة أن يتزوجها لمدة شهر أو أكثر؟
إن الإنسان حين يشترط تقييد الزواج بمدة فذلك دليل على غباء تفكيره وسوء نيته؛ لأن الزواج الأصيل هو الذي يدخل فيه بديمومة ، وقد ينهيه بعد ساعة إن وجد أن الأمر يستحق ذلك ، ولن يعترض أحد على مثل هذا السلوك ، فلماذا تقيد نفسك بمدة؟ إن المتزوج للمتعة يستخدم الذكاء في غير محله ، قد يكون ذكيا في ناحية ولكنه قليل الفطنة في ناحية أخرى .
إن على الإنسان أن يدخل على الزواج بعزيمة بعد تفكير عميق وروية ثم ينفذ العزم على عقد . حذار أن تضع في نفسك مثل هذا الزواج المربوط على مطامع وأهداف في نفسك كعدم الديمومة أو لهدف المتعة فقط ، فكل ما يفكر فيه بعض الناس من أطماع شهوانية ودنيوية هي أطماع زائلة . اصرف كل هذه الأفكار عنك؛ لأنك إن أردت شيئاً غير الديمومة في الزواج ، وإرادة الإعفاف؛ فالله سبحانه يعلمه وسيرد تفكيرك نقمة عليك فاحذره .
إن الله سبحانه لا يحذر الإنسان من شيء إلا إذا كان مما يغضبه سبحانه . لذلك يذيل الحق هذه الآية الكريمة بقوله : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } . وهو سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الأحيان ، فإن كان قد حدث منها شيء فالله يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لأنه سبحانه هو الغفور الحليم . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً . . . }
(1/636)

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
نحن نلاحظ أن الكلام فيما تقدم كان عن الطلاق للمدخول بها ، أو عن المرأة التي دخل بها زوجها ومات عنها . ولكن قد تحدث بعض من المسائل تستوجب الطلاق لامرأة غير مدخول بها . وتأتي هذه الآية لتتحدث عن المرأة غير المدخول بها ، وهي إما أن يكون الزوج لم يفرض لها صداقاً ، وإما أن يكون قد فرض لها صداقاً .
والطلاق قبل الدخول له حكمان : فُرضت في العقد فريضة ، أو لم تفرض فيه فريضة ، فكأن عدم فرض المهر ليس شرطاً في النكاح ، بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد ثبت لها مهر المثل والعقد صحيح . ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ومعنى ذلك أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول للزوج بها .
ولنا أن نسأل ما هو المس؟ ونقول : فيه مس ، وفيه لمس ، وفيه ملامسة . فالإنسان قد يمس شيئا ، ولكن الماس لا يتأثر بالممسوس ، أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو ناعم؟ دافئ أو بارد ، وإلى غير ذلك .
أما اللمس فلا بد من الإحساس بالشيء الملموس ، أما الملامسة فهي حدوث التداخل بين الشيئين . إذن فعندنا ثلاث مراحل : الأولى هي : مس . والثانية : لمس . والثالثة : ملامسة . كلمة " المس " هنا دلت على الدخول والوطء ، وهي أخف من اللمس ، وأيسر من أن يقول : لامستم أو باشرتم ، ونحن نأخذ هذا المعنى؛ لأن هناك سياقا قرآنيا في مكان آخر قد جاء ليكون نصاً في معنى ، ولذلك نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة " المس " هنا ، فقد قالت السيدة مريم : { قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ]
إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحداً من البشر لم يتصل بها ذلك الاتصال الذي ينشأ عنه غلام ، والتعبير في منتهى الدقة ، ولأن الأمر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس ، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لها إعفافاً حتى في اللفظ ، فنفى مجرد مس البشر لها ، وليس الملامسة أو المباشرة برغم أن المقصود باللفظ هو المباشرة؛ لأن الآية بصدد إثبات عفة مريم .
ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الآية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير .
والحق يقول : { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } وتعرف أن " أَوْ " عندما ترد في الكلام بين شيئين فهي تعني " إما هذا وإما ذاك " ، فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟ .
(1/637)

إن الأصل المقابل في { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } هو أن تمسوهن . ومقابل { تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } هو : أن لا تفرضوا لهن فريضة . كأن الحق عز وجل يقول : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة . وهكذا يحرص الأسلوب القرآني على تنبيه الذهن في ملاحظة المعاني .
ولنا أن نلاحظ أن الحق قد جاء بكلمة " إن " في احتمال وقوع الطلاق ، و " إن " كما نعرف تستخدم للشك ، فكأن الله عز وجل لا يريد أن يكون الطلاق مجترءاً عليه ومحققاً ، فلم يأت ب " إذا " ، بل جعلها في مقام الشك حتى تعزز الآية قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .
ثم يقول الحق عز وجل بعد ذلك : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } أي إنّك إذا طلقت المرأة قبل الدخول ، ولم تفرض لها فريضة فأعطها متعة . وقال العلماء في قيمة المتعة : إنها ما يوازي نصف مهر مثيلاتها من النساء؛ لأنه كان من المفروض أن تأخذ نصف المهر ، وما دام لم يُحَّدد لها مهرٌ فلها مثل نصف مهر مثيلاتها من النساء . ويقول الحق : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة الزوج؛ فالموسع الغني : عليه أن يعطي ما يليق بعطاء الله له ، والمقتر الفقير : عليه أن يعطي في حدود طاقته .
وقول القرآن : { الموسع } مشتق من " أوسع " واسم الفاعل " موسع " واسم المفعول " موسع عليه " ، فأي اسم من هؤلاء يطلق على الزوج؟ إن نظرت إلى أن الزرق من الحق فهو " موسع عليه " ، وإن نظرت إلى أن الحق يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك ، وعلى قدر توسيعها يكون اتساع الله لك ، فهو " موسع " .
إذن فالموسع : هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة . والإقتار هو الإقلال ، وعلى قدر السعة وعلى قدر الإقتار تكون المتعة . والحق سبحانه وتعالى حينما يطلب حكماً تكليفياً لا يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب ، ولكنه يوزع المسئولية في الحق الإيماني العام؛ فقوله : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } يعني إذا وُجد من لا يفعل حكم الله فلا بد أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر الله في أن يمتع كل واحد طلق زوجته قبل أن يدخل بها . والجمع في الأمر وهو قوله : { وَمَتِّعُوهُنَّ } دليل على تكاتف الأمة في إنفاذ حكم الله . وبعد ذلك قال : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ . . . }
(1/638)

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
أي ما دام لم يدخل بها ولم يتمتع بها فلا تأخذ المهر كله ، إنما يكون لها النصف من المهر . ولنعلم أن هناك فرقاً بين أن يوجد الحكم بقانون العدل ، وبين أن يُنظر في الحكم ناحية الفضل ، وأحكي هذه الواقعة لنتعلم منها :
ذهب اثنان إلى رجل ليحكم بينهما فقالا : احكم بيننا بالعدل . قال : أتحبون أن أحكم بينكما بالعدل؟ أم بما هو خير من العدل؟ فقالا : وهل يوجد خير من العدل؟ قال : نعم . الفضل .
إن العدل يعطي كل ذي حق حقه ، ولكن الفضل يجعل صاحب الحق يتنازل عن حقه أو عن بعض حقه . إذن فالتشريع حين يضع موازين العدل لا يريد أن يحرم النبع الإيماني من أريحية الفضل؛ فهو يعطيك العدل ، ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } ؛ فالعدل وحده قد يكون شاقاً وتبقى البغضاء في النفوس ، ولكن عملية الفضل تنهي المشاحة والمخاصمة والبغضاء .
والمشاحة إنما تأتي عندما أظن أني صاحب الحق ، وأنت تظن أنك صاحب الحق ، ومن الجائز أن تأتي ظروف تزين لي فهمي ، وتأتي لك ظروف تزين لك فهمك ، فحين نتمسك بقضية العدل لن نصل إلى مبلغ التراضي في النفوس البشرية . ولكن إذا جئنا للفضل تراضينا وانتهينا .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أي من قبل أن تدخلوا بهن { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } يعني سميتم المهر { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } والمقصود ب { يَعْفُونَ } هو الزوجة المطلقة .
إن بعض الجهلة يقولون والعياذ بالله : إن القرآن فيه لحن . وظنوا أن الصحيح في اللغة أن يأتي القول : إلا أن يعفوا بدلا من { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } . وهذا اللون من الجهل لا يفرق بين " واو الفعل " و " واو الجمع " إنها هنا " واو الفعل " فقول الحق : { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } مأخوذ من الفعل " عفا " و " يعفو " .
وهكذا نفهم أن للزوجة أن تعفو عن نصف مهرها وتتنازل عنه لزوجها . ويتابع الحق : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } والمقصود به الزوج وليس الولي ، لأن سياق الآية يفهم منه أن المقصود به هو الزوج ، مع أن بعض المفسرين قالوا : إنه ولي الزوجة . ولنا أن نعرف أن الولي ليس له أن يعفو في مسألة مهر المرأة؛ لأن المهر من حق الزوجة ، فهو أصل مال ، وأصل رزق في حياة الناس؛ لأنه نظير التمتع بالبضع .
ولذلك تجد بعض الناس لا يصنعون شيئاً بصداق المرأة ، ويدخرونه لها بحيث إذا مرض واحد اشترت له من هذا الصداق ولو قرص اسبرين مثلا؛ لأنه علاج من رزق حلال ، فقد يجعل الله فيه الشفاء .
(1/639)

فالمرأة تحتفظ بصداقها الحلال لمثل هذه المناسبات لتصنع به شيئا يجعل الله فيه خيراً ، لأنه من رزق حلال لا غش فيه ولا تدليس .
وأراد المفسرين الذين نادوا بأن ولي الزوجة هو الذي يعفو وأقول : لماذا يأتي الله بحكم تتنازل فيه المرأة عن حقها وأن تعفو عن النصف ، والرجل لا يكون أريحياً ليعفو عن النصف؟ لماذا تجعل السماء الغرم كله على المرأة؟ هل من المنطقي أن تعفو النساء أو يعفو الذي بيده عقد النكاح يعني أولياء الزوجة ، فنجعل العفو يأتي من الزوجة ومن أوليائها؛ أي من جهة واحدة؟
إن علينا أن نحسن الفهم لسياق الفضل الذي قال الله فيه : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } ، إن التقابل في العفو يكون بين الاثنين ، بين الرجل والمرأة ، ونفهم منه المقصود بقوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } أنه هو الزوج ، فكما أن للمرأة أن تعفو عن النصف المستحق لها فللزوج أن يعفو أيضا عن النصف المستحق له .
ويقول الحق : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } ؛ لأن من الجائز جدا أن يظن أحد الطرفين أنه مظلوم ، وإن أخذ النصف الذي يستحقه . لكن إذا لم يأخذ شيئا فذلك أقرب للتقوى وأسلم للنفوس . ولنا أن نتذكر دائما في مثل هذه المواقف قول الحق : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } فحتى في مقام الخلاف الذي يؤدي إلى أن يفترق رجل عن امرأة لم يدخل بها يقول الله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } أي لا تجعلوها خصومة وثأراً وأحقاداً ، واعلموا أن الحق سبحانه يجعل من بعض الأشياء أسباباً مقدورة لمقدور لم نعلمه . وهذه المسألة تجعل الإنسان لا يعتقد أن أسبابه هي الفاعلة وحدها .
ومثال ذلك : قد نجد رجلا قد أعجب بواحدة رآها فتزوجها ، أو واحدة أخرى رآها شاب ولم تعجبه ، ثم جاء لها واحد آخر فأعجب بها ، معنى ذلك أن الله عز وجل كتب لها القبول ساعة رأت الشاب أهلاً لها ورآها هي أهلاً له . ولذلك كان الفلاحون قديماً يقولون : لا تحزن عندما يأتي واحد ليخطب ابنتك ولا تعجبه؛ لأنه مكتوب على جبهة كل فتاة : أيها الرجال عِفّوا بكسر العين وتشديد الفاء عن نساء الرجال؛ فهي ليست له ، ولذلك فليس هذا الرجل من نصيبها . وعلينا ألا نهمل أسباب القدر في هذه الأمور؛ لأن هذا أدعى أن نحفظ النفس البشرية من الأحقاد والضغائن .
ويختم الحق الآية بقوله : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } إنه سبحانه يعلم ما في الصدور وما وراء كل سلوك . وبعد ذلك تأتي آية لتثبت قضية إيمانية ، هذه القضية الإيمانية هي أن تكاليف الإسلام كلها تكاليف مجتمعة ، فلا تستطيع أن تفصل تكليفاً عن تكليف ، فلا تقل : " هذا فرض تعبدي " و " هذا مبدأ مصلحي " و " هذا أمر جنائي " ، لا . إن كل قضية مأمور بها من الحق هي قضية إيمانية تُكَوِّنُ مع غيرها منهجا متكاملاً . فبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق يقول : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى . . . }
(1/640)

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
ثم يعود إلى الأسرة وإلى المتوفى عنها زوجها فيقول : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 240 ]
إذن فالحق سبحانه وتعالى فَصَلَ بآية : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات . . } بين قضية واحدة هي قضية الفراق بين الزوجين وقسمها قسمين ، وأدخل بينهما الحديث عن الصلاة ، وذلك لينبهنا إلى وحدة التكاليف الإيمانية ، ونظرا لأن الحق يتكلم هنا عن أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري بالطلاق ، وإما افتراق قدري بالوفاة ، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدخل الإنسان في العملية التعبدية التي تصله بالله الذي شرع الطلاق والصلاة وقدر الوفاة .
ولماذا اختار الله الصلاة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلام عن تشريع الطلاق والفراق؟ لأن الصلاة هي التي تهب المؤمنين الاطمئنان ، إن كانت أمور الزواج والطلاق حزبتهم وأهمتهم في شقاق الاختيار في الطلاقات التي وقعت أو عناء الافتراق بالوفاة . ولن يربط على قلوبهم إلا أن يقوموا لربهم ليؤدوا الصلاة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يفعل ذلك ، كان إذا ما حزبه أمر قام إلى الصلاة .
إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلاق والفراق؛ ليسأله أن يخفف عنه الهم والحزن . ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري الأقدار فله أن يعرف أن الله الذي أجرى تلك الأقدار عليه لم يتركها بلا أحكام ، بل وضع لكل أمر حكما مناسبا ، وما على المؤمن إلا أن يأخذ الأمور القدرية برضا ثم يذهب إلى الله قانتا وخاشعا ومصليا . لأن المسألة مسألة الطلاق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار أو فراق الموت القدري .
ويأتي قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } فنفهم أن المقصود في الآية هي الصلوات الخمس ، فما المقصود بالصلاة الوسطى؟
ساعة يأتي خاص وعام مثل قوله تعالى : { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } [ نوح : 28 ]
فكم مرة دخل الأب والأمر هنا؟ لقد دخلوا في قوله تعالى : { اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } ، وفي قوله : { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ } ، وفي قوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } ، أي دخلوا ثلاث مرات .
إذن فإيجاد عام بعد خاص ، يعني أن يدخل الخاص في العام فيتكرر الأمر بالنسبة للخاص تكراراً يناسب خصوصيته .
وقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } تفهم ذلك المعنى فإذا سألنا : ما معنى حافظوا؟ الجواب إذن يقتضي أن نفهم أن عندنا " حفظاً " يقابل " النسيان " ، و " حفظا " يقابله " التضييع " ، والاثنان يلتقيان ، فالذي حفظ شيئا ونسيه فإنه قد ضيعه .
(1/641)

والذي حفظ مالا ثم بدده ، لقد ضيعه أيضاً ، إذن كلها معانٍ تلتقي في فقد الشيء ، فالحفظ معناه أن تضمن بقاء شيء كان عندك؛ فإذا ما حفظت آية في القرآن فلابد أن تحفظها في نفسك ، ولو أنعم الله عليك بمال فلا بد أن تحافظ عليه .
وقوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } معناه لا تضيعوها . ويُحتمل أيضاً معنى آخر هو أنكم قد ذقتم حلاوة الصلاة في القرب من معية ربكم ، وذلك أجدر وأولى أن تتمسكوا بها أكثر ، وذلك القول يسري على الصلوات الخمس التي نعرفها .
قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } ذكر للخاص بعد العام ، فكأن الله أمر بالمحافظة على ذلك الخاص مرتين ، مرة في دائرة العموم ومرة أخرى أفردها الله بالخصوص . وما العلة هنا في تفرد الصلاة الوسطى بالخصوص؟ إن " وسطى " هي تأنيث " أوسط " ، والأوسط والوسطى هي الأمر بين شيئين على الاعتدال ، أي أن الطرفين متساويان ، ولا يكون الطرفان متساويين في العدد وهي الصلوات الخمس إلا إذا كانت الصلوات وتراً؛ أي مفردة؛ لأنها لو كان زوجية لما عرفنا الوسطى فيها ، ومادام المقصود هو وسط الخمس ، فهي الصلاة الثالثة التي يسبقها صلاتان ويعقبها صلاتان ، هذا إن لاحظت العدد ، باعتبار ترتيب الأول والثاني والثالث والرابع والخامس .
وإذا كان الاعتبار بفريضة الصلاة فإن أول صلاة فرضها الله عز وجل هي صلاة الظهر ، هذا أول فرض ، وبعده العصر ، فالمغرب ، فالعشاء ، فالفجر . فإن أخذت الوسطى بالتشريع فهي صلاة المغرب وهذا رأي يقول به كثير من العلماء .
وإن أخذت الوسطى بحسب عدد ركعات الصلاة فستجد أن هناك صلاة قوامها ركعتان هي صلاة الفجر وصلاة من أربع ركعات وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء ، وصلاة من ثلاثة ركعات هي صلاة المغرب . والوسط فيها هي الصلاة الثلاثية ، وهي وسط بين الزوجية والرباعية فتكون هي صلاة المغرب أيضا . وإن أخذتها بالنسبة للنهار فالصبح أول النهار والظهر بعده ثم العصر والمغرب والعشاء ، فالوسطى هي العصر .
وإن أخذتها على أنها الوسط بين الجهرية والسرية فيحتمل أن تكون هي صلاة الصبح أو صلاة المغرب؛ لأن الصلوات السرية هي الظهر والعصر ، والجهرية هي المغرب والعشاء والفجر . وبين العشاء والظهر تأتي صلاة الصبح ، أو صلاة المغرب باعتبار أنها تأتي بين الظهر والعصر من ناحية ، والعشاء والصبح من ناحية أخرى .
وإن أخذتها لأن الملائكة تجتمع فيها فهي في طرفي النهار والليل فذلك يعني صلاة العصر أو صلاة الصبح . إذن ، فالوسط يأتي من الاعتبار الذي تُحسب به إن كان عدداً أو تشريعا ، أو عدد ركعات ، أو سرية أو جهرية أو بحسب نزول ملائكة النهار والليل ، وكل اعتبار من هؤلاء له حكم .
ولماذا أخفى الله ذكرها عنا؟ نقول : أخفاها لينتبه كل منا ويعرف أن هناك فرقا بين الشيء لذاته ، والشيء الذي يُبهم في سواه؛ ليكون كل شيء هو الشيء فيؤدي ذلك إلى المحافظة على جميع الصلوات .
(1/642)

فما دامت الصلاة الوسطى تصلح لأن تكون الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فذلك أدعى للمحافظة على الصلوات جميعا . فإبهام الشيء إنما جاء لإشاعة بيانه . ولذلك أبهم الله ليلة القدر للعلة نفسها وللسبب نفسه ، فبدل أن تكون ليلة قدر واحدة أصبحت ليال أقدار .
كذلك قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } أي على الصلوات الخمس بصفة عامة وكل صلاة تنفرد بصفة خاصة . ويريد الحق سبحانه أن نقوم لكل صلاة ونحن قانتون ، والأمر الواضح هو { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } وأصل القنوات في اللغة هو المداومة على الشيء ، وقد حضر وحث القرآن الكريم على ديمومة طاعة الله ولزوم الخشوع والخضوع ، ونرى ذلك في قول الحق الكريم : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } [ الزمر : 9 ]
إن الحق سبحانه يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغنا نحن المسلمين المؤمنين برسالته أن نقارن بين الذي يخشع لله في أثناء الليل فيقضيه قائماً وساجداً يرجو رحمة ربه ، وبين الذي يدعو ربه في الضراء وينساه في السراء ، هل يستوي الذين يعلمون حقوق الله فيطيعوه ويوحدوه والذين لا يعلمون فيتركوا النظر والتبصر في أدلة قدرات الله؟ إن السبيل إلى ذكر الله هو تجديد الصلة به والوقوف بين يديه مقيمين للصلاة .
ونحن نتلقى الأمر بإقامة الصلاة حتى في أثناء القتال ، لذلك شرع لنا صلاة الخوف ، فالقتال هو المسألة التي تخرج الإنسان عن طريق أمنه ، فيقول سبحانه : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } ، إننا حتى في أثناء القتال والخوف لا ننسى ذكر الله؛ لأننا أحوج ما نكون إلى الله أثناء مواجهتنا للعدو ، ولذلك لا يصح أن نجعل السبب الذي يوجب أن نكون مع الله مبررا لأن ننسى الله .
وكذلك المريض ، مادام مريضاً فهو مع معية الله ، فلا يصح أن ينقطع عن الصلاة؛ لأنه لا عذر لتاركها ، حتى المريض إن لم يستطع أن يصلي واقفا صلى قاعداً ، فإن لم يستطع قاعدا؛ فليصل مضطجعا ، ويستمر معه الأمر حتى لو اضطر للصلاة برموش عينيه . كذلك إن خفتم من عدوكم صلوا رجالا ، يعني سائرين على أرجلكم أو ركبانا و " رجالا " جمع " راجل " أي يمشي على قدميه ، ومثال ذلك قوله الحق : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] لقد كان الناس يؤدون فريضة الحج سيراً على الأقدام أو ركباناً على إبل يضمرها السفر من كل مكان بعيد . إذن فالراجل هو من يمشي على قدميه .
(1/643)

والأرجل مخلوقة لتحمل بني الإنسان : الواقف منهم ، وتقوم بتحريك المتحرك منهم ، فإن كان الإنسان واقفا حملته رجلاه ، وإن كان ماشيا فإن رجليه تتحركان . والمقصود هنا أن الصلاة واجبة على المؤمنين سائرين على أقدامهم أو ركبانا .
هذه المسألة قد فصلها الحق سبحانه وتعالى في صلاة الخوف بأن قسم المسلمين قسمين : قسما يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى ، ثم يتمون الصلاة وحدهم ويأتي القسم الآخر ليأتم بالرسول في الركعة التي بعدها حتى تنتهي الصلاة بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وينتظرهم حتى يفرغوا من صلاتهم ويسلم بهم ، فيكون الفريق الأول أخذ فضل البدء مع الرسول ، والفريق الآخر أخذ فضل الانتهاء من الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم . وكان ذلك في غزوة ذات الرقاع فكلٌ من الفرقتين كانت تقف في وجه العدو للحراسة في أثناء صلاة الفرقة الأخرى .
ولي رأي في هذه المسألة هو أن صلاة الخوف بالصور التي ذكرها الفقهاء إنما كانت للمعارك التي يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا يصح أن يكون هناك جيش يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويحرم الباقي من أن يصلي خلفه ، لذلك جعل الله بركة الصلاة مع رسول الله للقسمين .
لكن حينما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فمن الممكن أن يكون للواقفين أمام العدو إمام وللآخرين إمام ، إذن كان تقسيم الصلاة وراء الإمام في صلاة الخوف إنما كان لأن الإمام هو الإمام الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يشأ الله أن يحجب قوما عن الصلاة مع رسول الله عن قوم آخرين ، فقسم الصلاة الواحدة بينهم . لكن في وقتنا الحالي الذي انتظمت فيه المسائل ، وصار كل الناس على سواء ، ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، لذلك يصح أن تُصلي كل جماعة بإمام خاص بهم . وقوله الحق : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } نفهم منه الصلاة لا تسقط حتى عند لقاء العدو ، فإذا حان وقت الصلاة فعلى المؤمن أن يصليها إذا استطاع فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين ويتابع الحق فيقول : { فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } أي اذكروا الله على أنه علمكم الأشياء التي لم تكونوا تعلمونها ، فلو لم يعلمكم فماذا كنتم تصنعون؟
وبعد ذلك يعود الحق لسياق الحديث عن المتوفى عنها زوجها فيقول : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ . . . }
(1/644)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
في آية سابقة قال الحق : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ البقرة : 234 ]
إذن نحن أمام حكمين للذين يتوفون ويذرون أزواجا ، حكم أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا ، وحكم آخر بأن للزوج حين تحضره الوفاة أو أسبابها أو مقدماتها أن ينصح ويوصي بأن تظل الزوجة في بيته حولا كاملا لا تُهاج ، وتكون الأربعة الأشهر والعشر فريضة وبقية الحول والعام وصية ، إن شاءت أخذتها وإن شاءت عدلت عنها . { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً } هذه وصية من الزوج عندما تحضره الوفاة . إذن فالمتوفى عنها زوجها بين حكمين : حكم لازم وهو فرض عليها بأن تظل أربعة أشهر وعشراً ، وحكم بأن يوصي الزوج بأن تظل حولا كاملا لا تُهاج إلا أن تخرج من نفسها . و { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } أي لا يخرجها أحد . { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . إن لها الخيار أن تظل عاما حسب وصية زوجها ، ولها الخيار في أن تخرج بعد الأربعة الأشهر والعشر .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين }
(1/645)

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
إن لكل المطلقات في أي صورة من الصور متاعاً ، ولكنه سبحانه قد بين المتاع في كل واحدة بدليل أنه أوضح لنا : إن لم تفرضوا لهن فريضة فقال : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } . وإن كنتم فرضتم لها مهراً فنصف ما فرضتم ، فكأن الله قد جعل لكل حالة حكما يناسبها ، ولكل مطلقة متعة بالقدر الذي قاله سبحانه . وعندما نتأمل قول الحق من بعد ذلك : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
(1/646)

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
فنحن نعرف مما سبق أن الآيات هي الأمور العجيبة ، والحق سبحانه وتعالى حين ينبه العقل إلى استقبال حكم بالتعقل يكون العقل المحض لو وجه فكره إلى دراسة أسباب هذا الموضوع فلن ينتهي إلا إلى هذا الحكم . ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يترك لبعض المشادات في التعامل والثارات في الخصومة أن تخرج عن حكم ما شرع الله في أي شيء من الأشياء التي تقدمت ، ثم يصيب المجتمع شر من المخالفة ، وكأنه بذلك يؤكد حكمته في تشريع ما شرع . وإلا لو لم تحدث من المخالفات شرور لقال الناس : إنه لا داعي للتشريع . ولتركوا التشريع دون أن يصيبهم شر .
إذن فحين لا نلتزم بالتشريع فالمنطق والكمال الكوني أن تحدث الشرور؛ لأنه لو لم تحدث الشرور لاتهم الناس منهج الله وقالوا : إننا لم نلتزم يا رب بمنهجك ، ومع ذلك لا شرور عندنا . فكأن الشرور التي نجدها في المجتمع تلفتنا إلى صدق الله وكمال حكمته في تحديد منهجه . وهكذا يكون المخالفون لمنهج الله مؤيدين لمنهج الله . وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى علاج قضية إيمانية وهو أن الله حين يقدر قدرا لا يمكن لمخلوق أن يفلت من هذا القدر ، يقول سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت . . . }
(1/647)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى على ما يتعلق بالأسرة المسلمة في حالة علاج الفراق في الزواج إما بالطلاق وإما بالوفاة ، أراد الحق سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن تعرف أن أحداً لن يفر من قدر الله إلا إلى قدر الله ، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي أمنها على حمل رسالة ومنهج السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ، فلم يعد محمد صلى الله عليه وسلم بأتى ولا نبي يُبعث . ولابد لمثل هذه الأمة أن تُربى تربية تناسب مهمتها التي حملها الله إليها . ولابد أن يضع الحق سبحانه وتعالى بين يدي هذه الأمة كل ما لاقته وصادفته مواكب الرسل في الأمة السابقة ليأخذوا العبرة من المواقف ويتمثلوا المنهج لا من نظريات تُتلى ولكن من واقع قد دُرس ووقع في المجتمع .
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة ولا أحد غيره ، وواهب الحياة هو الذي يأخذها . ولم يضع لهبة الحياة سبباً عند الناس . وإنما هو سبحانه الذي يحيى ويميت . وفي الحياة والموت استبقاء للنوع الإنساني ، ولكن استبقاء حياة الأفراد إنما ينشأ من التمول .
ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلام مع قومه وهم بنو إسرائيل ، ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لأنها الأمة التي أتعبت الرسل ، وأتعبت الأنبياء ، وكان لابد أن يعرض الحق هذا الأمر برمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من واقع ما حدث ، فقال سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت } . ونعرف من هذا القول أن علة الخروج إنما كانت مخافة أن يموتوا . أما عن سبب هذا الموت فلم تتعرض له الآيات ، وإن تعرض المفسرون له وقالوا كلاما طويلاً ، فمنهم من قال : إنهم خرجوا هربا من وباء يحل بالبلد خشية أن يموتوا ، وبعضهم قال : إنهم خرجوا فِراراً من عدو قد سُلط عليهم ليستأصلهم ، المهم أنهم أرادوا أن يفروا خوفا من الموت .
إذن فالقرآن يعالج تلك المسألة من الزاوية التي تهم ، ولكن ما هو السبب ولماذا الخروج؟ فذلك أمر لا يهم؛ لأن القرآن لا يعطي تاريخا ، فلم يقل متى كانت الوقائع ولا زمنها ، ولا على يد من كان هذا ، ولا يحدد أشخاص القضية ، كل ذلك لا يهتم به القرآن . والذين يتعبون أنفسهم في البحث عن تفاصيل تلك الأمور في القصص القرآني إنما يحاولون أن يربطوا الأشياء بزمن مخصوص ، ومكان مخصوص وأشخاص مخصوصة .
ونقول لهم : إن القرآن لو أراد ذلك لفعل ، ولو كان ذلك له أصل في العبرة والعظة لبيّنه الحق لنا ، وأنتم تريدون إضعاف مدلول القصة بتلك التفاصيل؛ لأن مدلول القصة إن تحدد زمنها ، فربما قيل : إن الزمان الذي حدثت فيه كان يحتمل أن تحدث تلك المسألة والزمن الآن لم يعد يحتملها ، وربما قيل : إن هذا المكان الذي وقعت فيه يحتمل حدوثها ، إنما الأمكنة الأخرى لا تحتمل .
(1/648)

وكذلك لو حددها بشخصيات معينة لقيل : إنّ القصص لا يمكن أن تحدث إلا على يد هذه الشخصيات؛ لأنها فلتات في الكون لا تتكرر .
إن الله حين يبهم في قصة ما عناصر الزمان والمكان والأشخاص وعمومية الأمكنة إنه - سبحانه - يعطي لها حياة في كل زمان وفي كل مكان وحياة مع كل شخص ، ولا يستطيع أحد أن يقول : إنها مشخصة . وأضرب دائما هذا المثل بالذين يحاولون أن يعرفوا زمن أهل الكهف ومكان أهل الكهف وأسماء أهل الكهف وكلب أهل الكهف . نقول لهؤلاء : أنتم لا تثرون القصة ، لأنكم عندما تحددون لها زمانا ومكانا وأشخاصا فسيقال : إنها لا تنفع إلا للزمان الذي وقعت فيه .
ولذلك إذا أراد الحق أن يبهم فقد أبهم ليعمم ، وإن أراد أن يحدد فهو يشخِّص ومثال ذلك قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } [ التحريم : 10 ]
لم يحدد الحق هنا اسم أي امرأة من هاتين المرأتين ، بل ذكر فقط الأمر المهم وهو أن كلا منهما كانت زوجة لرسول كريم ، ومع ذلك لم يستطع نوح عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته ، ولم يستطع لوط عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته ، بل كانت كل من المرأتين تتآمر ضد زوجها - وهو الرسول - مع قومها ، لذلك كان مصير كل منهما النار ، والعبرة من القصة أن اختيار العقيدة هو أمر متروك للإنسان ، فحرية العقيدة أساس واضح من أسس المنهج .
وأيضا قال سبحانه في امرأة فرعون : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ]
لم يذكر اسمها؛ لأنه لم يهمنا في المسألة المهم أنها امرأة من ادعى الألوهية ، ومع ذلك لم يستطع أن يقنع امرأته بأنه إله . لكن حينما أراد أن يشخص قال في مريم عليها السلام : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ]
لقد ذكرها الحق وذكر اسم والدها ، ذلك لأن الحدث الذي حدث لها لن يتكرر في امرأة أخرى . فالذين يحاولون أن يُقَوّوا القصة بذكر تفاصيلها نقول لهم : أنتم تُفقرون القصة؛ فالمهم هو أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول : إنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت .
(1/649)

ونريد أن نقف موقفا لغويا عند قول الحق : { أَلَمْ تَرَ } . أنت تقول لإنسان : { أَلَمْ تَرَ } يعني ألم ير بعينيه ، وبالله هل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل المؤمنون معه والمؤمنون بعده إلى أن تقوم الساعة رأوا هذه المسألة؟ لا . لقد وصلتهم بوسيلة السماع وليس بالرؤية . ونحن نعلم أن الرؤية تكون بالعين ، والسماع يكون بالأذن ، والتذوق يكون باللسان ، والشم يكون بالأنف ، واللمس يكون باليد ، إن هذه هي الوسائل التي تعطي للعقل إدراكا وإحساسا لكي يعطي معنويات ، وفي ذلك اقرأ قوله تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
إذن فوسيلة العلم تأتي من الحواس ، وسيدة الحواس هي العين؛ لأنه من الممكن أن تسمع شيئا من واحدٍ بتجربته هو ، لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التجربة خاصة بك ، ولذلك يقال : " ليس مَن رأى كمن سمع " ، فإذا أراد الحق أن يقول : ألم تعلم يا من أخاطبك بالقرآن خبر هؤلاء القوم؟ فهو سبحانه يأتي بها على هذه الصورة : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } ويعني ألم تعلم والعلم هنا بأي وسيلة؟ بالسمع . ولماذا لم يختصر سبحانه المسافة ويقول : " ألم تسمع " بدلا من { أَلَمْ تَرَ } ؟ . إنه في قوله : { أَلَمْ تَرَ } يخبرك بشيء سابق عن وجودك أو بشيء متأخر عن وجودك ، فعليك أن تستقبله استقبالك لما رأيته؛ لأن الله الذي خلق الحواس هو سبحانه أصدق من الحواس ، ولذلك جاء قوله تعالى في سورة الفيل : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ]
إننا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل ولم ير هذه الحادثة فكيف يقول الله له ألم تر؟ إن المعنى من ذلك هو " ألم تعلم "؟ " ألم تسمع مني " ولم يقل " ألم تسمع "؟ لكي يؤكد له أنه سيقول له حدثاً هو لم يره ولكن الحق سيخبره به ، وإخبار الحق له كأنه يراه . فكأن الله يقول : إن هذه مسألة مفروغ منها وساعة أخبرك بها فكأنك رأيتها .
ونحن نسمع في حياتنا قول الناس : إن فلانا ألمعي . ومعنى ذلك أنه يحدثك حديثاً كأنه رأى أو سمع .
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
ويحدثنا الحق عن هؤلاء القوم فيقول : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } . إنه سبحانه يخبرنا بأن الأمر الذي يفرون منه لاحق بهم ، لأنه لا يَحتاط من قدر الله أحد ، لذلك أماتهم الله ثم أحياهم ليتعظوا . ولو أخر الله الإحياء إلى يوم البعث فلن تؤثر العبرة؛ لأنه بعد يوم القيامة لا اعتبار ولا تكليف ، وكل ذلك لا قيمة له .
(1/650)

وقوله تعالى : { حَذَرَ الموت } بيان لعلة الخروج ، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لهم أن هذه قضية لا ينفع فيها الحذر ، أنتم خرجتم خوفا من الموت سأميتكم والذي كنتم تطلبونه بعد الموت سأحدث لكم غيره ، لذلك أحياهم إحياءً آخر حتى يتحسروا ، ويأخذوا أجلهم المكتوب { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } حتى يبين لكم أن أمر الموت بيده سبحانه سواءً كان خوفهم من الموت نابعاً من أعدائهم أو من وباء وطاعون ، فالأمر في جوهره لا يختلف ، ولو أن الآية ذكرت أنهم خرجوا خوفا من وباء ما كنا فهمنا منها احتمال خروجهم خوفاً من أعدائهم . إذن إبهام السبب المباشر في القضية أعطاها ثراءً .
وقوله تعالى : { وَهُمْ أُلُوفٌ } يبين لنا مدى الخيبة والغباء الذي كانوا فيه ، لأنهم كيف يخرجون خائفين من الأعداء وهم ألوف مؤلفة . ولم يظهر واحد من هؤلاء الألوف ليقول لهم : إن الموت والحياة بيد الله . { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } .
وساعة تأمر مأمور منك بأمر فلا بد أن يكون عندك طلاقة قدرة أن تفعل ، وهل إذا قلت لأحد : مت ، سيموت؟ إذا أمات نفسه فقد قتلها ، وفرق كبير بين الموت والقتل . إنما الموت يأتي بلا سبب من الميت ، ولكن القتل ربما يكون بسبب الانتحار أو بأي وسيلة أخرى ، المهم أنه قتل للنفس وليس موتا .
ويوضح لنا الحق الفرق بين القتل والموت حين يقول : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } [ آل عمران : 144 ]
ولقد جاءت هذه الآية في مجال استخلاص العبر من هزيمة أحد حين شاع بين المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ففكر بعض منهم في الارتداد ، وجاء قول الحق موضحاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نبي سبقه رسل جاءوا بالمنهج ، والأمة المسلمة التي أمنها الله على تمام المنهج لا يصح أن يهتز الإيمان فيها بموت الرسول الكريم؛ لأن من ينقلب ويرتد فلن يضر الله شيئاً ، إنما الجزاء سيكون للشاكرين العارفين فضل منهج الله .
ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه جاء بالموت كمقابل للقتل ، وأوضح في الآية التالية أمر الموت حين قال : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين } [ آل عمران : 145 ]
إذن فأمر الموت مرهون بمشيئة الله وطلاقة قدرته وتحديده لكل أجل بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ، وسيلقى كل إنسان نتيجة عمله ، فمن عمل للدنيا فقط نال جزاءه فيها ، ومن عمل للآخرة فسيجزيه الله في دنياه وآخرته .
(1/651)

لذلك يصدر الأمر من الحق بقوله : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } فلم يكن بإرادتهم أن يصنعوا موتهم ، أو أمر عودتهم إلى الحياة ، لكنه أمر تسخيري . إنهم يموتون بطلاقة قدرته المتمثلة في " كن فيكون " . ويعودون إلى الحياة بتمام طلاقة القدرة المتمثلة في " كن فيكون " . فليس لهم رأي في مسألة الموت أو العودة للحياة ، إنه أمر تسخيري ، كما قال الحق من قبل للأرض والسماء : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ]
لقد شاءت قدرته أن يخلق السماء على هيئة دخان فوُجدت ، وخلقه للسماوات والأرض على وفق إرادته وهو هين عليه بمنزلة ما يقال للشيء احضر راضيا أو كارها ، فيسمع الأمر ويطيعه . وهذه أمور تسخيرية من الخالق الأكرم ، وليس للمخلوق من سماوات وأرض وما بينهما إلا الامتثال للأمر التسخيري من الخالق عز وجل . فعندما يقول الحق سبحانه : { مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } فهذا أمر تسخيري بالموت ، وأمر تسخيري بعودتهم إلى الحياة .
وأليس الموت هو ما خافوه وفروا منه واحتاطوا بالهرب منه؟ نعم ، لكن لا أحد بقادر على أن يحتاط على قدر الله؛ لأن الحق أراد لهم أن يعرفوا أن أحداً لا يفر من قدر الله إلا لقدر الله . ولذلك فسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد للناس ألا تذهب إلى أرض فيها الطاعون . قالوا له :
أتفر من قدر الله؟
قال عمر : نعم : نِفرُّ من قدر الله إلى قدر الله .
إن ذلك يجعل الإنسان في تسليم مطلق بكل جوارحه لله . صحيح على الإنسان أن يحتاط ، ولكن القدر الذي يريده الله سوف ينفذ . والمؤمن يأخذ بالأسباب ، ويسلم أمره إلى الله .
وقد يقول قائل : لماذا لم يترك الله هؤلاء القوم من بني إسرائيل ليموتوا وإلى أن يأتي البعث يوم القيامة ليحاسبهم .
وأقول : لقد أراد الحق سبحانه بالأمر التسخيري بالإحياء ثانية أن توجد العبرة والعظة ، ولتظل ماثلة أمام أعين الخلق ومحفوظة في أكرم كتاب حفظه الله منهجا للناس وهو القرآن الكريم . إن الحق أراد بالأمر عظة واعتبارا وتجربة يموتون بأمر تسخيري ، ويعودون إلى الحياة بأمر تسخيري آخر ، ثم يعيشون الحياة المقدرة لهم ويموتون بعدها حتف أنوفهم ، ولتظل عبرة ماثلة أمام كل مؤمن حق ، فلا يخاف الموت في سبيل الله .
لقد أراد الله بهذه التجربة أن نستخدم قضية الجهاد في سبيل الله ، فلا يظن ظان أن القتال هو الذي يسبب الموت ، إنما أمر الموت والحياة بيد واهب الحياة . وهاهو ذا قول خالد بن الوليد على فراش الموت باقياً ليعرفه كل مؤمن بالله :
لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي شبرا إلا وفيه ضربة سيف أو طعنه برمح ، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر ، فلا نامت أعين الجبناء .
(1/652)

إذن فأمر الحياة والموت ليس مرهونا بقتال أو غيره ، إنما هو محدد بمشيئة الله .
ولننظر إلى تذييل الآية حين يقول الحق : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } . وما الفضل؟ إنه أن تتلقى عطاءً يزيد على حاجتك . والحق سبحانه وتعالى لا يعطي الناس فقط على قدر حاجتهم إنما يعطيهم ما هو أكثر من حاجتهم . إذن فلو مات هؤلاء القوم الذين خرجوا من ديارهم خوفاً من وباء أو عدو لكان هذا الموت فضلا من عند الله؛ لأنهم لو ماتوا بالوباء لماتوا شهداء ، وهذا فضل من الله . ولو ماتوا في لقاء عدو وحاربوا في سبيل الله لنالوا الشهادة أيضا ، وذلك فضل من الله .
لماذا يكون مثل هذا الموت فضلا من الله؟ لأننا جميعا سوف نموت ، فإن مات الإنسان استشهادا في سبيله فهذا عطاء زائد . لكن أكثر الناس لا يشكرون؛ لأنهم لا يعلمون مدى النعمة فيما يجريه الحق سبحانه وتعالى عليهم من أمور؛ لأن الناس لو علمت مدى النعمة فيما يجريه الحق عليهم من أحداث بما فيها الإحياء والإماتة ، لشكروا الله على كل ما يجريه عليهم ، فالحق سبحانه وتعالى لا يجري على البشر ، وهم من صنعته إلا ما يصلح هذه الصنعة ، وإلا ما هو خير لهذه الصنعة .
لقد استبقى الحق سبحانه هذه العبرة بما أجراه على بعض من بني إسرائيل لنرى أن القتال في سبيل الله هو من نعم الله على العباد ، فلا مهرب من قضاء الله . وهاهو ذا الشاعر العربي يقول :
ألا أيها الزاجري أحضر الوغي ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
إن الشاعر يسأل من يوجه له الدعوة لا إلى القتال ، ولكن إلى الاستمتاع بملذات الحياة قائلاً : ما دمت لا تملك لي خلوداً في هذه الحياة ولا أنت بقادر على رد الموت عني فدعني أقاتل في سبيل الله بما تملكه يداي .
وبعد الحديث عن محاولة هرب بعض من بني إسرائيل من قدر الله فأجرى عليهم الموت تسخيراً وأعادهم إلى الحياة تسخيرا ، وهذا درس واضح للمؤمنين الذين سيأتي إليهم الأمر بالقتال في سبيل الله . فلا تبالوا أيها المؤمنون إن كان القتال يجلب لكم الموت؛ لأن الموت يأتي في أي وقت . بعد ذلك يقول الحق : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . . . }
(1/653)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
إنه الأمر الواضح بالقتال في سبيل الله دون مخافة للموت . لماذا؟ لأن واهب الحياة وكاتب الأجل سميع عليم ، سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه .
وكان الجهاد قديما عبئاً ثقيلاً على المجاهد؛ لأنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل المركبة حصاناً أو جملاً ويتحمل سلاحه ، كان كل مجاهد يُعِدّ عدته للحرب ، فكان ولابد إذا سمح لنفسه أن تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله ، وأن يجهز عدته للحرب ، وعلى ذلك كان القتال بالنفس والمال أمراً ضروريا .
وقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إلى الأموال فقال : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً . . . }
(1/654)

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
ساعة تسمع { يُقْرِضُ الله } فذلك أمر عظيم؛ لأنك عندما تقرض إنسانا فكأنك تقرض الله ، ولكن المسألة لا تكون واضحة ، لماذا؟ لأن ذلك الإنسان سيستفيد استفادة مباشرة ، لكن عندما تنفق في سبيل الله فليس هناك إنسان بعينه تعطيه ، وإنما أنت تعطي المعنى العام في قضية التدين ، وتعاملك فيها يكون مع الله . كأنك تقرض الله حين تنفق من مالك لتعد نفسك للحرب .
والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا بكلمة القرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة على النفس البشرية ، وهو سبحانه يعلم بما طبع عليه النفوس . والقرض في اللغة معناه قضم الشيء بالناب ، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن عملية الإقراض هي مسألة صعبة ، وحتى يبين للناس أنه يعلم صعوبتها جاء بقوله : { يُقْرِضُ } ، إنه المقدر لصعوبتها ، ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة .
{ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } . وما هو القرض الحسن؟ وهل إذا أقرضت عبداً من عباد الله لا يكون القرض حسنا؟
أولا إذا أقرضت عبداً من عباد الله فكأنك أقرضت الله ، صحيح أنت تعطي الإنسان ما ييسر له الفرج في موقف متأزم ، وصحيح أيضا أنك في عملية الجهاد لا تعطي إنساناً بعينه وإنما تعطي الله مباشرة ، وهو سبحانه يبلغنا : أن من يقرض عبادي فكأنه أقرضني . كيف؟ لأن الله هو الذي استدعى كل عبد له للوجود ، فإذا احتاج العبد فإن حاجته مطلوبة لرزقه في الدنيا ، فإذا أعطى العبد لأخيه المحتاج فكأنه يقرض الله المتكفل برزق ذلك المحتاج .
وقوله تعالى : { يُقْرِضُ الله } تدلنا على أن القرض لا يضيع؛ لأن القرض شيء تخرجه من مالك على أمل أن تستعيده ، وهو سبحانه وتعالى يطمئنك على أنه هو الذي سيقترض منك ، وأنه سيرد ما اقترضه ، لكن ليس في صورة ما قدمت وإنما في صورة مستثمرة أضعافا مضاعفة ، إن الأصل محفوظ ومستثمر ، ولذلك يقول : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } إنها أضعاف كثيرة بمقاييس الله عز وجل لا بمقاييسنا كبشر .
والتعبير بالقرض الحسن هنا يدلنا على أن مصدر المال الذي تقرض منه لابد أن يكون من حلال ، ولذلك قيل للمرأة التي تتصدق من مال الزنا : " ليتها لم تزن ولم تتصدق " .
وقيل : إن القرض ثوابه أعظم من الصدقة ، مع أن الصدقة يجود فيها الإنسان بالشيء كله ، في حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه ، لأن الألم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة فأنت تخرجها وتفقد الأمل فيها ، لكن القرض تتعلق نفسك به ، فكلما صبرت مرة أتتك حسنة ، كما أن المتصدق عليه قد يكون غير محتاج ، ولكن المقترض لا يكون إلا محتاجاً .
والقرض من المال الذي لديك يجعل المال يتناقص ، لذلك فالله يعطيك أضعافا مضاعفة نتيجة هذا القرض ، وذلك مناسب تماماً لقوله تعالى : { يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } التي جاء بها في قوله تعالى : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا حقه بالحساب أي أن المال الذي تقرض منه ينقص في ظاهر الأمر ولكن الله سبحانه يزيده ويبسطه أضعافا مضاعفة وفي الآخرة يكون الجزاء جزيلا .
(1/655)

ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه : { أَلَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ، يقول سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى . . . }
(1/656)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
إن الحق سبحانه يبلغنا بوسيلة السماع عنه ، وعلينا أن نتلقى ذلك الأمر كأننا نراه بالعين ، فماذا نرى؟ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ } ، ما معنى الملأ؟ هي من ملأ يعني ازدحم الإناء ، ولم يعد فيه مكان يتحمل زائداً . وأن الظرف قد شُغل بالمظروف شغلا لم يعد يتسع لسواه . وكلمة " ملأ " تُطلق على أشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم ولا يستطيع غيرهم أن يزاحمهم . و { الملإ } من أشراف الوجوه والقوم يجلسون للتشاور . { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى } أي ألم يأتك خبر وجوه القوم وأشرافهم من بعد موسى عليه السلام مثلا في عصر " يوشع " أو " حزقيل أو شمويل " أو أي واحد منهم ، ولا يعنينا ذلك لأن القرآن لا يذكر في أي عهد كانوا ، المهم أنهم كانوا بعد موسى عليه السلام . { إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله } .
لقد اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصراً لهم وقالوا له : ابعث لنا ملكا . ونفهم من ذلك أنه لم يكن لهم ملك . وماذا نستفيد من ذكر وجود نبي لهم وعدم وجود ملك لهم؟
نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال ، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال . ولو كانت النبوة تباشر أعمالاً لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا . وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضه للكراهية من كثير من الناس وعرضه أن يفشل في تصريف بعض الأمور ، فبدلا من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا ، ينقلون ذلك لمن هو أقل وهو الملك . ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعاً للحق ، ولا تكون موطناً للوم في أي شيء .
الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال لنبي بني إسرائيل :
أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ أي أشراف القوم وأتيتم بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه لم تعد لكم ديار ، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم . إذن علة طلب القتال موجودة ، ومع ذلك قال لهم النبي : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال : إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله ، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال ، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم عزما على القتال وتتخاذلون .
لكنهم قالوا : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } . . انظر إلى الدقة في قولهم : { فِي سَبِيلِ الله } وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا : إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء ، إذن فالله هو الملجأ في كل أمر ، وقبل سبحانه منهم قولهم ، واعتبر قتالهم في سبيله .
(1/657)

وكان إخراجهم من ديارهم أمراً معقولاً ، لكن كيف يخرجون من أبنائهم؟ ربما كانوا قد تركوا أبناءهم للعدو ، وربما أخذهم العدو أسرى . لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم ، وينطبق عليهم في علاقتهم بالأبناء قول الشاعر :
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون همو
وانظر إلى التمحيص ، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له : ابعث لنا ملكا حتى يجعلوها حربا مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله ، وقال لهم النبي ما قال وردوا عليه هم : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله } يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله؟
وجاء لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ } إن قوله : { كُتِبَ } لأنهم هم الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد فجاء التعبير ب { كُتِبَ } ولم يأت ب " كَتبَ " ، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال .
لقد كان لنبيهم حق في أن يتشكك في قدرتهم على القتال ، ويقول لهم : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } . ولكن هل أعرضوا جميعا عن القتال؟ لا؛ فقد كان فيهم من ينطبق عليه قول الشاعر :
إن الذي جعل الحقيقة علقماً ... لم يخل من أهل الحقيقة جيلاً
لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة ، وهذا تمهيد مطلوب ، حتى إذا انحسرت الجمهرة ، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول : " إني قليل "؛ لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع ، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى .
وقد يكون عدوك كثيراً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية ، وقد تكون في قلة من العدد ، لكن لك رصيد من ألوهية عالية ، وهذا ما يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً } . كلمة { إِلاَّ قَلِيلاً } جاءت لتخدم قضية ، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 249 ]
أي أن الغلبة تأتي بإذن الله ، إذن فالشيء المرئي واحد ، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني . أنت ترى زهرة جميلة ، والرؤية قدر مشترك عند الجميع ، ورآها غيرك ، أعجبتك أنت وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك ، بينما رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال مِلْكُ من هي ، وهكذا تعرف أن العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر ، فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة ، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً ، لكن المواجيد تختلف . أنا سأحسب نفسي ومعي ربي ، وغيري رآهم كثيرين وقال : لا نقدر عليهم؛ لأنه أخرج ربه من الحساب .
(1/658)

{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } إذن فالتولي ظلم للنفس؛ لأن الظلم في أبسط معانيه أن تنقل الحق لغير صاحبه ، وأنت أخرجت من ديارك وظللت على هذا الحال ، إذن فقد ظلمت نفسك ، وظلمت أولادك الذين خرجوا منك ، وفوق ذلك كله ظلمت قضيتك الدينية .
إذن فالجماعة الذين تولوا كانوا ظالمين لأنفسهم ولأهليهم ولمجتمعهم وللقضية العقدية . وقوله الحق : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } هو إشارة على أن الله مطلع على هؤلاء الذين تخاذلوا سراً ، وأرادوا أن يقتلوا الروح المعنوية للناس وهم الذين يطلق عليهم في هذا العصر " الطابور الخامس " الذين يفتتون الروح المعنوية دون أن يراهم أحد ولكن الله يعرفهم .
لقد طلب هؤلاء القوم من بني إسرائيل من نبيهم أن يبعث لهم ملكا ، وكان يكفي النبي المرسل إليهم أن يختار لهم الملك ليقاتلوا تحت رايته ، لكنهم يزيدون في التلكؤ واللجاجة ويريدون أن ينقلوا الأمر نقلة ليست من قضايا الدين . ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا . . . }
(1/659)

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
هم الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا . وكان يكفي إذن أن يختار نبيهم شخصا ويوليه الملك عليهم . لكن نبيهم أراد أن يغرس الاحترام منهم في المبعوث كملك لهم . لقد قال لهم : { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } . والنبي القائل ذلك ينتمي إليهم ، وهو منهم ، وعندما طلبوا منه أن يبعث لهم ملكاً كانوا يعلمون أنه مأمون على ذلك .
ويتجلى أدب النبوة في التلقي ، فقال : { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } . إنه يريد أن يطمئنهم على أن مسألة اختيار طالوت كملك ليست منه؛ لأنه بشر مثلهم ، وهو يريد أن ينحي قضيته البشرية عن هذا الموضوع ، فقال : { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } . فماذا كان ردهم؟ { قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال } . وهذه بداية التلكؤ واللجاجة ونقل الأمر إلى مسألة ليست من قضايا الدين .
إنهم يريدون الوجاهة والغنى . وكان يجب عليهم أن يأخذوا المسألة على أن الملك جاء لصالحهم ، لأنهم هم الذين طلبوه ليقودهم في الحرب . إذن فأمر اختيار الملك كان لهم ولصالحهم ، فلماذا يتصورون أن الاختيار كان ضدهم وليس لمصلحتهم؟
شيء آخر نفهمه من قولهم : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } ، إن طالوت هذا لم يكن من الشخصيات المشار إليها؛ فمن العادة حين يَحزُب الأمر في جماعة من الجماعات أن تفكر فيمن يقود ، فعادة ما يكون هناك عدد من الشخصيات اللامعة التي يدور التفكير حولها ، وتظن الجماعة أنه من الممكن أن يقع على واحد منهم الاختيار ، وكان اختيار السماء لطالوت على عكس ما توقعت تلك الجماعة . لقد جاء طالوت من غمار القوم بدليل أنهم قالوا : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك } أي لم يؤت الملك من قبل .
ولقد كانوا ينتمون إلى نسلين : نسل أخذ النبوة وهو نسل بنيامين ، ونسل أخذ الملوكية وهو نسل لاوى بن يعقوب . فلما قال لهم : { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } ، بدأوا يبحثون عن صحيفة النسب الخاصة به فلم يجدوه منتمياً لا لهذا ولا لذاك ، ولذلك قالوا : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } . وهذا يدلنا على أن الناس حين يريدون وضعاً من الأوضاع لا يريدون الرجل المناسب للموقف ، ولكن يريدون الرجل المناسب لنفوسهم ، بدليل قولهم : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ } .
وهل الملك يأتي غطرسة أو كبرياء؟ ومادام طالوت رجلا من غمار الناس فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضع قضية كل مؤمن وهي أنك حين تريد الاختيار فإياك أن يغشك حسب أو نسب أو جاه ، ولكن اختر الأصلح من أهل الخبرة لا من أهل الثقة .
(1/660)

لقد تناسوا أن القضية التي طلبوها من نبيهم تحتاج إلى صفتين : رجل جسيم ورجل عليم ، والله اختار لهم طالوت رجلا جسيماً وعليما معا .
وعندما نتأمل سياق الآيات فإننا نجد أن الله قال لهم في البداية : { بَعَثَ لَكُمْ } حتى لا يحرج أحداً منهم في أن طالوت أفضل منه ، ولكن عندما حدث لجاج قال لهم : { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } وهو بهذا القول يؤكد إنه لا يوجد فيكم من أهل البسطة والجسامة من يتمتع بصفة العلم . وكذلك لا يوجد من أهل العلم فيكم من يتمتع بالبسطة والجسامة { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } . وكان يجب أن يستقبلوا اصطفاء الله طالوت للملك بالقبول والرضى فما بالك وقد زاده بسطة في العلم والجسم؟
والبسطة في العلم والجسم هي المؤهلات التي تناسب المهمة التي أرادوا من أجلها ملكا لهم . ولذلك يقول الحق : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } وكأن الحق يقول لهم : لا تظنوا أنكم أنتم الذين ترشحون لنا الملك المناسب ، يكفيكم أنكم طلبتم أن أرسل لكم ملكا فاتركوني بمقاييسي اختر الملك المناسب .
ويختم الحق الآية بقوله : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي عنده لكل مقام مقال ، ولكل موقع رجل ، وهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذه المهمة . ومن يصلح لتلك ، لا عن ضيق أو قلة رجال ، ولكن عن سعة وعلم .
لقد استقبلوا هذا الاختيار الإلهي باللجاج ، واللجاج نوع من العناد ولا ينهيه إلا الأمر المشهدي المرئي الذي يلزم بالحجة ، لذلك كان لابد من مجيء معجزة . لذلك يأتي قوله الحق : { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ . . . }
(1/661)

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
لقد أرسل الحق مع الملك طالوت آية تبرهن على أنه ملك من اختيار الله فقال لهم نبيهم : { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } أي إن العلامة الدالة على ملكه هي { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } وهذا القول نستدل منه على أن التابوت كان غائباً ومفقوداً ، وأنه أمر معروف لديهم وهناك تلهف منهم على مجيئه .
وما هو التابوت؟ إن التابوت قد ورد في القرآن في موضعين : أحدهما في الآية التي نحن بصددها الآن ، والموضوع الآخر في قوله تعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 38-39 ]
إذن فالتابوت نعرفه من أيام قصة موسى وهو رضيع ، عندما خافت عليه أمه؛ فأوحى لها الله : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } فهل هو التابوت نفسه الذي تتحدث عنه الآيات التي نحن بصددها؟
غالب الظن أنه هو؛ لأنه مادام جاء به على إطلاقه فهو التابوت المعروف ، وكأن المسألة التي نجا بها موسى لها تاريخ مع موسى وفرعون ومع نبيهم ومع طالوت وهذه عملية نأخذ منها أن الآثار التي ترتبط بالأحداث الجسيمة في تاريخ العقيدة يجب أن نعنى بها ، ولا نقول إنها كفريات ووثنيات؛ لأن لها ارتباطاً بأمر عقدي ، وبمسائل تاريخية ، وارتباطا بالمقدسات . انظر إلى التابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وتحمله الملائكة . إن هذا دليل على أنه شيء كبير ومهم .
إذن فالآثار التي لها مساس وارتباط بأحداث العقيدة وأحداث النبوة ، هذه الآثار مهمة للإيمان ، وكأنّ القرآن يقول : اتركوها كما هي ، وخذوا منها عظة وعبرة؛ لأنها تذكركم بأشياء مقدسة . لقد كان التابوت مفقوداً ، وذلك دليل على أن عدواً غلب على البلاد التي سكنوها ، والعدو عندما يغير على بلاد يحاول أولاً طمس المقدسات التي تربط البلاد بالعقيدة . فإذا كان التابوت مقدساً عندهم بهذا الشكل ، كان لابد أن يأخذه الأعداء . هؤلاء الأعداء هم الذين أخرجوهم من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . وإذا كانوا قد أخرجوهم من ديارهم فمن باب أولى أنهم أجبروهم على ترك التابوت .
والله سبحانه وتعالى يطمئنهم بأن آية الملك لطالوت هي مجيء التابوت الذي تتلهفون عليه ، وترتبط به مقدساتكم . { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } فكأن الاستقرار النفسي سيأتيكم مع هذا التابوت؛ لأن الإنسان حين يجد التابوت الذي نجا به نبي ، وفي الأشياء التي سنعرفها فيما بعد ، إن الإنسان يستروح صلته بالسماء ، وهي صلة مادية تجعل النفس تستريح .
وعلى سبيل المثال تأمل مشاعرك عندما يقال لك : " هذا هو المصحف الذي كان يقرأ فيه سيدنا عثمان " .
(1/662)

إنه مصحف مثل أي مصحف آخر ، ولكن ميزته أنه كان يقرأ فيه سيدنا عثمان؛ إنك تستريح نفسياً عندما تراه . وأيضاً حين تذهب إلى دار الخلافة في تركيا ، ويقال لك : " هذا هو السيف الذي كان يحارب به الإمام علي " . فتنظر إلى السيف ، وتجد أن وزنه وثقله يساوي عشرة سيوف ، وتتعجب كيف كان يحمله سيدنا علي كرم الله وجهه وكيف كان يحارب به .
وكذلك عندما يقال لك : " هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المكحلة التي كان يكتحل بها " ، لاشك أن مثل هذه المشاهد ستترك إشراقاً وطمأنينة في نفسك . وعندما يراها إنسان به بعض الشكوك والمخاوف فإن العقيدة تستقر في نفسه .
ومن هذا كله أقول : إن ولاة الأمر يجب ألا يعتبروا مقدسات الأشياء ضرباً من الشركيات والوثنيات ، بل يجب أن يولوها عناية ورعاية ويبرزوها للناس؛ لتكون مصدر سكينة وأمن نفس للناس ، وعليهم أن ينصحوا الناس بألا يفتنوا بها ، ولكن عليهم أن يتركوها لتذكرنا بأمر يتصل بعقيدتنا وبنبينا .
وانظر إلى حديث القرآن عن التابوت . إن الحق سبحانه لم يقل : إن التابوت سيأتي كاملاً ، ولم يقل كذلك إنه التابوت الذي وُضع فيه موسى ، وإنما قال : { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } كأن آل موسى وهارون قد حافظوا على آثار أنبيائهم ، وأيضا قوله تعالى : { تَحْمِلُهُ الملائكة } يؤكد لنا أنه لا شك أن الأثر الذي تحمله الملائكة لابد أن يكون شيئاً عظيماً يوجب العناية الفائقة { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } .
ونلحظ في قوله : { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } إنه سبحانه قد نسب الإتيان إلى التابوت ، فهل كان من ضمن العلامة أن يأتيهم التابوت وهم جالسون ينتظرون ولأن التابوت تحمله الملائكة فلن يراهم القوم لأنهم كائنات غير مرئية ، فلن يراهم أحد وإنما سيرى القوم التابوت آتياً إليهم ، ولذلك أسند الحق أمر المجيء للتابوت .
وهذا المشهد يخلع القلوب ويجعل أصحاب أشد القلوب قساوة يخرون سجدا ويقولون " طالوت أنت الملك ، ولن نختلف عليك " . ونريد الآن أن نعرف الأشياء التي يمكن لآل موسى أن يحافظوا عليها من آثار موسى عليه السلام ، والآثار التي يحافظ عليها آل هارون من هارون عليه السلام .
قال بعض الناس إنها عصا موسى ، وهي الأثر الذي تبقى من آل موسى ، وذلك أمر معقول؛ لأنها أداة من أدوات معجزة موسى عليه السلام . ألم تكن هي المعجزة التي انقلبت حية تسعى وابتلعت بسرعة ما صنعه السحرة؟ إن مثل هذه الأداة المعجزة لا يمكن أن يهملها موسى ، أو يهملها المؤمنون به بعد ما حدث منها . وليس من المعقول أن يفرط آل موسى في عصا تكلم الله فيها وقال :
(1/663)

{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [ طه : 17-18 ]
إن هناك قصة طويلة استغرقها الحديث عن هذه العصا ، فكيف يفرط فيها موسى وقومه بسهولة؟ لاشك أنهم حافظوا عليها ، وقدسوها ، وجعلوها من أمجادهم .
ويرينا الحق سبحانه وتعالى أن هؤلاء القوم أهل لجاج وأهل جدل وأهل تلكؤ ، فهم لا يؤمنون بالأمور إلا إذا كانت حسية كالتابوت الذي يأتيهم وحدهم ، صحيحا تحمله الملائكة ، لكنهم لا يرون الملائكة؛ وإنما رأوا التابوت يسير إليهم ، { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الملائكة إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } وليس هناك آيات أعجب من مجيء التابوت حتى يثبت صدق النبي في أن الله قد بعث طالوت ملكاً ، فإن لم يؤمنوا بهذه المسألة فعليهم أن يراجعوا إيمانهم .
والسياق القرآني يدل على أن الله بهتهم بالحجة ، وبهتهم بالآية ، وبهتهم بالقرآن ، بدليل أنه حذف ما كان يجب أن يقال وهو : فقبلوا طالوت ملكاً . ونظم طالوت الحرب فقام وقسم الجنود ورتبهم ، وكل هذه التفاصيل لم تذكرها الآيات . والحق يقول بعد ذلك : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ . . . }
(1/664)

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
الفصل هو أن تعزل شيئا عن شيء آخر ، ومثل ذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [ يوسف : 94 ]
{ فَصَلَتِ العير } أي غادرت مصر وخرجت منه . ونحن نستخدم كلمة " فصل " في تبويب الكتب ، ونقصد به قدراً من المعلومات المترابطة التي تكون وحدة واحدة ، وعندما تنضم الفصول مع بعضها في الكتب تصير أبواباً ، وعندما تنظم الأبواب الموضوعة في مجال علم واحد مع بعضها نقول عنها : هذا " كتاب " .
ونحن نستخدم كلمة " فصل " في وصف مجموعة من التلاميذ المتقاربين في العمر والمستوى الدراسي ونقسمهم إلى فصل أول وثانٍ وثالث ، على حسب سعة الفصول وعدد التلاميذ . وهكذا نفهم معنى قول الحق : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود } أي فصلهم عن بقية غير المقاتلين ، وقسمهم إلى جماعات مرتبة ، وكل جماعة لها مهمة .
وكلمة " جنود " هي جمع " جند " وهي مفردة لكنها تدل على جماعة ، وأصل الكلمة من " جَنَد " وهي الأرض الغليظة الصلبة القوية ، ونظرا لأن الجنود مفروض فيهم الغلظة والقوة فقد أُطلق عليهم لفظ : جُنْد . وبرغم أن كلمة " جند " مفرد؛ إلا أنها تدل على القوم مثل " رهط " و " طائفة " ويسمونها اسم جمع . { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } أي عندما خرج إلى مكان إقامة الجيش بدأ في مباشرة أولى مهماته كملك ، لقد أراد أن يختبرهم ، فهم قوم وقفوا ضد تعيينه ملكاً ، لذلك أراد أن يدخل الحكم على أرض صلبة . فقال لهم عن الحق : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } .
لقد أوضح لهم : أنتم مقبلون على مهمة لله في سبيل الله ، وهو سبحانه الذي سيجري عليكم الاختبار ، ولست أنا لأن الاختبار يكون على قدر المهمة؛ أنا مشرف فقط على تنفيذ الأمر ، والله مبتليكم بنهر من يشرب منه فليس منا إلا من اغترف غرفة بيده .
وساعة تسمع كلمة { مُبْتَلِيكُمْ } فلا تفسرها على أنها مصيبة ، ولكن فسرها على أنها اختبار ، قد ينجح من يدخل وقد يفشل . والاختبار هنا بنهر . ومادام كان الاختبار بنهر فلا بد أن لهذه الكلمة موقعاً وأثراً نفسيا عندهم ، لابد أنهم كانوا عِطاشاً ، وإلا لو لم يكونوا عطاشاً لما كان النهر ابتلاء . { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } .
إنهم عطاش ، وساعة يُرى الماء فسيقبلون عليه بنهم شرباً ورياً ، ومع ذلك يختبر الحق صلابتهم فيطالبهم بأن يمتنعوا عن الشرب منه ، لقد جاء الاختبار في منعهم مما تصبو إليه نفوسهم .
(1/665)

{ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } لماذا؟
لأنهم ساعة يرون ما يحبونه ويشتهونه فسيندفعون إليه وينسون أمر الله . ومن ينس أمر الله ويفضل نفسه ، فهو غير مأمون أن يكون في جند الله . لكن الذي يرى الماء ويمتنع عنه وهو في حاجة إليه ، فهو صابر قادر على نفسه ، وسيكون من جند الله ، لأنه آثر مطلوب الله على مطلوب بطنه ، وهو أهل لأن يُبتلى .
ومع ذلك لم يَقْسُ الله في الابتلاء ، فأباح ما يفك العطش ولم يحرمهم منه نهائياً . { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } لقد سمح لهم بغرفة يد تسد الرمق وتستبقي الحياة ، أباح لهم ما تقتضيه الضرورة . لكن ما صلة هذا الابتلاء بالعملية التي سيقبلون عليها؟
إن العملية الحربية التي سيدخلونها سيقابلون فيها الويل وسيعرضون لنفاذ الزاد وهم أيضا عرضة لأن يحاصرهم عدوهم ، وعلى الإنسان المقاتل في مثل هذه الأمور أن يقوى على شهوته ويأخذ من زاده ومائه على قدر ضرورة استبقاء الحياة ، لذلك تكفي غرفة واحدة لاستبقاء الحياة . كأن التدريب هنا ضرورة للمهمة . فهل فعلوا ذلك؟
يأتينا الخبر من الحق { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } . وهكذا تتم التصفية ، ففي البداية سبق لهم أن تولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا ، وهنا امتنع عن الشرب قليل من القليل ، وهذه غرابيل الاصطفاء أو مصافي الاختبار ، فقد يقوى واحد على نصف المشقة ، ويقوى آخر على ثلث المشقة ، ويقوى ثالث على ربعها . لقد بقي منهم القليل ، لكنه القليل الذي يصلح للمهمة؛ إنّه الذي ظل على الإيمان .
وانظر كيف تكون مصافي الابتلاء في الجهاد في سبيل الله؟ حتى لا يحمل راية الجهاد إلا المأمون عليها الذي يعرف حقها . { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } أي عندما عبروا النهر واجتازوا كل الاختبارات السابقة قال بعضهم : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } لقد خاف بعض منهم من الاختبار الأخير ، ولكن الذين آمنوا بالله لم يخافوا ، ويقول الحق : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } .
لقد اختلفت المواجيد وإن اتحدت المرائي . فالذين جاوزوا النهر انقسموا قسمين ، قسم رأى جالوت وجنوده ، والقسم الآخر رأوه أيضا ، ولم ينقسموا عند الرؤية لكنهم انقسموا عند المواجيد التابعة للرؤية ، فقسم خاف وقسم لم يخف ، والذين خافوا قالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } لقد وجد الخوف من جالوت وجنوده في نفوسهم فقالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ، لقد مروا بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى : هي إدراك لجالوت وجنوده ، والثانية : هي وجدان متوجس من قوة جالوت وجنوده ، والأخيرة : هي نزوع إلى الخوف من جالوت وجنوده ، لكن القسم الذي لم يخف رأوا المشهد أيضا وجاء فيهم قول الله : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } .
(1/666)

كأنهم أدخلوا ربهم في حسابهم فاستهانوا بعدوهم ، لكن الفئة السابقة عزلت نفسها عن ربها فرأوا أنفسهم قلة فخافوا . لقد كان مجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقو الله قد جعل لهم هذه العقيدة ، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟ { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } . ونعرف أن هناك معارك يفوز فيها الأقدر على الصبر ، ودليلنا على ذلك قول الحق : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ]
هذا هو الوعد لكن إذا صبرتم كم يكون المدد؟ يقول الحق : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ]
فكأن البدء بثلاثة آلاف لمساندة أهل الإيمان ويزيد العدد في المدد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا . إذن فالمدد يأتي على قدر الصبر؛ لأن حنان القدرة الإلهية عليك يزداد ساعة يجدك تتحمل المشقة فيحن عليك ويعطيك جزءا أكبر . فالله يريد من عبده أن يستنفد أسباب قوته الخاصة ، وحين تستنفد الأسباب برجولة وثبات ، تأتيك معونة الله ، ويقول الله لملائكته : هذا يستحق أن يعان فأعينوه . ولذلك جاء قوله الحق على ألسنة المؤمنين : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } . ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً }
(1/667)

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
هذه هي الشحنة الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه فهو ينادي قائلا : { رَبَّنَآ } إنه لم يقل : يا الله ، بل يقول : { رَبَّنَآ } ؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء ، بينما مطلوب " الله " هو العبودية والتكاليف؛ لذلك ينادي المؤمن ربه في الموقف الصعب " يا ربنا " أي يا من خلقتنا وتتولانا وتمدنا بالأسباب ، قال المؤمنون مع طالوت : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } .
وعندما نتأمل كلمة { أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } تفيدنا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } حتى يواجهوا العدو بإيمان ، وعند نهاية الصبر وتثبيت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين ، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني والقتال في قوله الحق : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله . . . }
(1/668)

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
إن الحق يبلغنا أنه قد نصر المؤمنين به . ويجيء الحق بكلمة { هَزَمُوهُمْ } وهي تدل على فرار من كان يجب أن يكون مهاجما . والمحارب يجب أن يكون مهاجما كاراً دائما ، فحين يلجأ إلى أن يفر ، هنا نتوقف لنتبين أمره ، هل هذا الفِرار تحرفا لقتال وانعطافا وميلا إلى موقف آخر هو أصلح للقتال فيه؟ لو كان الأمر كذلك فلا تكون الهزيمة ، لكن إذا كان الفِرار لغير كَرٍ ومخادعة للعدو بل كان للخوف هنا تكون الهزيمة .
وقول الله : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله } يدل على أن جنود جالوت لم يُقتلوا كلهم ، ولكن الذين قُتلوا هم أئمة الكفر فيهم ، بدليل قوله بعد ذلك : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } . وجالوت هو زعيم جيش الكفار الذي هرب ، فطارده داود وقتله . ولأول مرة يظهر لنا اسم { دَاوُدَ } في هذه القصة الطويلة ، وهو اسم لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل ، وستأتي الفكرة عنه بعد هذه القصة في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد * أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ سبأ : 10-11 ]
إذن فبداية داود جاءت من هذه المعركة بعد قتل جالوت ، وكان { دَاوُدَ } أخاً لعشرة وهو أصغرهم ، وقال النبي للقوم : إن من يدخل المعركة ضد جالوت لابد أن يأتي درع موسى على مقاسه ، وهنا استعرض والد { دَاوُودَ } الدرع على جميع أبنائه ، فلم يأتي على مقاس أي واحد منهم إلا على أصغرهم ، وهو { دَاوُودَ } . جاء الدرع على مقاسه ، ودخل { دَاوُودَ } المعركة فقتل جالوت قائد المشركين ، وشاءت حكمة الله أن يكون أصغر المؤمنين هو الذي يقتل كبير جيش المشركين .
كانت هذه المعركة بداية تاريخ داود ، وقد جاءت له هذه المعركة بالفتح العظيم ، ثم أنعم الله عليه بالملك والحكمة وجعل الجبال والطير تردد وترجع معه تسبيح الله وتنزيهه ، كل ذلك نتيجة قتل جالوت . وأحب داود الدرع وصار أمله أن يعلمه الله صناعة الدروع ، ولذلك لم يتخذ صنعة في حياته إلا عمل الدروع . وجعل الله له الحديد ليناً ليصنع منه ما يشاء كما جاء في قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } [ الأنبياء : 80 ]
وهذا دليل على أن الإنسان يحب الشيء الذي له صلة برفعة شأنه . ولقد كان قتل جالوت هو البداية لداود . { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } إن الحق يأتي هنا بقضية كونية في الوجود ، وهي أن الحرب ضرورة اجتماعية ، وأن الحق يدفع الناس بالناس . وأنه لولا وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛ فلو سيطرت قوة واحدة في الكون لفسد .
(1/669)

فالذي يعمر الكون هو أن توجد فيه قوى متكافئة؛ قوة تقابلها قوة أخرى . ولذلك نجد العالم دائما محروسا بالقوتين العظميين ، ولو كانت قوة واحدة لعم الضلال . ولو تأملنا التاريخ منذ القدم لوجدنا هذه الثنائية في القوى تحفظ الاستقرار في العالم .
في بداية الإسلام كانت الدولتان العظميان هما الفرس في الشرق ، والروم في الغرب . والآن سقطت قوة روسيا من كفة ميزان العالم ، وتتسابق ألمانيا واليابان ليوازنا قوة أمريكا .
إن قول الله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } جاء تعقيبا على قصة الصراع بين بني إسرائيل وبين أعدائهم الذين أخرجوهم من ديارهم وعندما نتأمل هذه القصة من بدايتها نجد أنهم طلبوا أولا من الله الإذن بالقتال . وبعث الله لهم ملكا ليقاتلوا تحت رايته؛ وكانت علامة هذا الملك في الصدق أن يأتي الله بالتابوت . ثم جاءت قضية اجتماعية ينتهي إليها الناس عادة بحكيم الرأي ولو بدون الوحي ، وهي أن الإنسان إذا ما أقبل على أمر يجب أن يعد له إعداداً بالأسباب البشرية ، حتى إذا ما استوفى إعداده كل الأسباب لجأ إلى معونة الله ، لأن الأسباب كما قلنا هي من يد الله ، فلا ترد أنت يد الله بأسبابها ، لتطلب معونة الله بذاته ، بل خذ الأسباب أولا لأنها من يد ربك .
ويعلمنا الحق أيضا أن من الأسباب تمحيص الذين يدافعون عن الحق تمحيصا يبين لنا قوة ثباتهم في الاختبار الإيماني؛ لأن الإنسان قد يقول قولاً بلسانه؛ ولكنه حين يتعرض للفعل تحدثه نفسه بألا يوفي ، وقد نجح قلة من القوم في الابتلاءات المتعددة . وفعلا دارت المعركة؛ وهزم هؤلاء المؤمنون أعداءهم ، وانتصر داود بقتل جالوت .
إذن فتلك قضية دفع الله فيها أناسا بأناس ، ويطلقها الحق سبحانه قضية عامة { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } ، فالدفع هو الرد عن المراد ، فإذا كان المراد للناس أن يوجد شر ، فإن الله يدفعه . إذن فالله يدفع ولكن بأيدي خلقه ، كما قال سبحانه : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ]
إنه دفع الله المؤمنين ليقاتلوا الكافرين ، ويعذب الحق الكافرين بأيدي المؤمنين . وعندما نتأمل القول الحكيم : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } فإننا نجد مقدمة سابقة تمهد لهذا القول ، لقد أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم ، فكان هذا هو مبرر القتال . وتجد آية أخرى أيضا تقول : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ]
والسياق مختلف في الآيتين ، السياق الذي يأتي في سورة البقرة عن أناس يحاربون بالفعل ، والسياق الذي يأتي في سورة الحج عن أناس مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم المستضعفون من مكة لينضموا إلى أخوتهم المؤمنين في دار الإيمان ليعيدوا الكرة ، ويدخلوا مكة فاتحين .
(1/670)

صحيح أننا نجد وحدة جامعة بين الآيتين . وهو الخروج من الديار . إذن فمرة يكون الدفاع بأن تَفِرَّ لَتِكِرّ . . أي أن تخرج من ديار الكفر مهاجراً لتجمع أمر نفسك أنت ومن معك وتعود إلى بلدك مقاتلاً فاتحاً ، ومرة يكون الدفاع بأن تقاتل بالفعل ، فالآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هنا تفيد أنهم قاتلوا بالفعل ، والآية الثانية تفيد أنهم خرجوا من مكة ليرجعوا إليها فاتحين ، فالخروج نفسه نوع من الدفع ، لماذا؟ لأن المسلمين الأوائل لو مكثوا في مكة فربما أفناهم خصومهم فلا يبقى للإسلام خميرة ، فذهبوا إلى المدينة وكوّنوا الدولة الإسلامية ثم عادوا منتصرين فاتحين : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ]
إن السياق في الآيتين واحد ولكن النتيجة تختلف ، هنا يقول الحق : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } لماذا تفسد الأرض؟ لأن معنى دفع الله الناس بعضهم ببعض أن هناك أناساً ألفوا الفساد ، ويقابلهم أناس خرجوا على من ألف الفساد ليردوهم إلى الصلاح . ويعطينا الحق سبحانه وتعالى في الآية الثانية السبب فيقول : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } [ الحج : 40 ]
والصوامع هي ما يقابل الآن الدير للنصارى وكانوا يتعبدون لله فيها ، لأن فيه متعبداً عَمِلَ بالتكليف العام؛ ومتعبداً آخر قد ألزم نفسه بشيء فوق ما كلفه الله به . فالذين يعبدون الله بهذه الطريقة يجلسون في أماكن بعيدة عن الناس يسمونها الصوامع ، وهي تشبه الدير الآن . والمعنى العام في التعبد للنصارى هو التعبد في الكنائس وهو المقصود بالبيع ، والمعنى الخاص هو التعبد في الصوامع .
إذن { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } هذه لخاصة المتدينين ، وكنائس أو بيع لعامة المتدينين . وقول الحق : { وَصَلَوَاتٌ } ، من صالوت ، وهي مكان العبادة لليهود ، و { وَمَسَاجِدُ } وهي مساجد المسلمين .
إن قوله تعالى : { لَفَسَدَتِ الأرض } في هذه الآية ، وقوله تعالى هناك { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } أي أنه ستفسد الأرض إذا لم تقم الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؛ لأنها هي التي تربط المخلوق بالخالق . وما دامت تلك الأماكن هي التي تربط المخلوق بالخالق فإن هدمت . . يكون الناس على غير ذكر لربهم وتفتنهم أسباب الدنيا .
فالأديرة والكنائس والصوامع حين كانت والمساجد الآن هي حارسة القيم في الوجود ، لأنها تذكرك دائما بالعبودية وتمنع عنك الغرور ، وهي من السجود الذي هو منتهى الخضوع للرب ، نخضع بها لله خمس مرات في اليوم والليلة؛ فإن كان عند العبد شيء من الغرور لابد أن يذوب ، ويعرف العبد أن الكون كله فضل من الله على العباد؛ فلا يدخلك أيها المسلم شيء من الغرور .
(1/671)

فإذا لم يدخلك شيء من الغرور استعملت أسباب الله في مطلوبات الله . أما أن تأخذ أنت أسباب الله في غير مطلوبات الله فهذه قحة منك . فإذا كان الله قد أقدر يدك على الحركة فلماذا تعصى الله بها وتضرب بها الناس؟ والله أقدر لسانك على الكلام ، فلماذا تؤذي غيرك بالكلمة؟ إن الله قد أعطاك النعمة فلا تستعملها في المعصية .
قال الله تعالى في هذه الآية : { لَفَسَدَتِ الأرض } وشرح ذلك في قوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } فهذه الأماكن هي التي تبقى أصول القيم في التدين . " وأصول القيم في التدين " غير " كل القيم في التدين " ، ولذلك نحن قلنا : إن الحق سبحانه وتعالى جعل للإسلام خمسة أركان ، وهي التي بني عليها الإسلام . ولابد أن نقيم بنيان الإسلام على هذه الأركان الخمسة ، فلا تقل : إن الإسلام هو هذه الأركان الخمسة ، لا؛ لأن الإسلام مبني عليها فقط فهي الأعمدة أو الأسس التي بني عليها الإسلام . فأنت حين تضع أساسا لمنزل وتقيم الأعمدة فهذا المنزل لا يصلح بذلك للسكن ، بل لابد أن تقيم بقية البنيان ، إذن فالإسلام مبني على هذه الأسس .
والحق سبحانه وتعالى يوضح ذلك فيأمر بالمحافظة على أماكن هذه القيم؛ لأن المساجد ونحن نتكلم بالعرف الإسلامي هي ملتقى فيوضات الحق النورانية على خلقه ، فالذي يريد فيض الحق بنوره يذهب إلى المسجد . إذن لكيلا تفسد الأرض لابد أن توجد أماكن العبادة هذه ، فمرة جاء الحق بالنتيجة ومرة جاء بالسبب .
ولماذا يدفع الله الناس بعضهم ببعض؟ لأن هناك أناساً يريدون الشر وأناساً يريدون الخير ، فمن يريد الشر يدفع من يريد الخير ، وإذا وقعت المعركة بهذا الوصف فإن يد الله لا تتخلى عن الجانب المؤمن الباحث عن الخير ، فهو سبحانه القائل : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ]
أي إن المعركة لا تطول . ولذلك قلنا سابقا : إن المعارك التي نراها في الكون لا نجد فيها معركة بين حقين؛ لأنه لا يوجد في الوجود حقان ، فالحق واحد ، فلا يقولن أحد : إنه على حق وخصمه على حق . لا ، إن هناك حقاً واحداً فقط . والمعركة إن وجدت توجد بين حق وباطل ، أو بين باطل وباطل . والمعركة بين الحق والباطل لا تطول؛ لأن الباطل زهوق . والذي يطول من المعارك هي المعارك بين الباطل والباطل؛ فليس أحدهما أولى بأن ينصره الله . فهذا على فساد وذاك على فساد ، وسبحانه يدك هذا الفساد بذاك الفساد . وحين يندك هذا الفساد بذاك الفساد ، فجناحا الفساد في الكون ينتهيان . ويأتي من بعد ذلك أناس ليس عندهم فساد ويعمرون الكون .
والمعارك التي تدور في أي مكان تجد أن هذا الطرف له هوى والآخر له هوىً مختلف .
(1/672)

ولا يقف الله في أي جانب منهما؛ لأنه ليس هناك جانب أحمق بالله من الآخر؛ لذلك يتركهم يصطرع بعضهم مع بعض ، ومادام الحق قد تركهم لبعضهم البعض فلا بد أن تطول المعركة . ولو كان الله في بال جانب منهم لوقف سبحانه في جانبه . وكذلك نرى في معارك العصر الحديث أن المعركة تطول وتطول؛ لأننا لا نجد القسم الثالث الذي جاء في قوله سبحانه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ الحجرات : 9 ]
إن الحق سبحانه وتعالى يأمر عند اقتتال طائفتين من المؤمنين أن يصلح بينهما قوم مؤمنون ، فإن تعدت إحداهما على الأخرى ، ورفضت الصلح فالحق يأمر المؤمنين بأن يقاتلوا الفئة التي تتعدى إلى أن ترجع إلى حكم الله ، فإن رجعت إلى حكم الله فالإصلاح بين الفئتين يكون بالإنصاف؛ لأن الله يحب العادلين المنصفين .
ونحن نجد الباطل يتقاتل مع الباطل؛ لذلك لا نجد من يصلح بين الباطلين ، بل نجد أهواءً تتعارك ، وكل جانب ينفخ في الطائفة التي تناسب هواه .
وهذه هي الخيبة في الكون المعاصر؛ إن المعارك تطول لأنه ليس في بال المتقاتلين شيء جامع ، ولو كان في بالهم شيء جامع ، لما حدثت الحرب . وماداموا قد غفلوا عن هذا الشيء الجامع ، فمن المفروض أن تتدخل الفئة القادرة على الإصلاح ، ولكن حتى هؤلاء لم يدخلوا للإصلاح ، وهذا معناه أن الخيبة في العالم كله . وسيظل العالم في خيبة إلى أن يرعووا ويرتدعوا . إنهم يطيلون على أنفسهم أمد التجربة وسيظلون في هذه الخيبة حتى يفطنوا إلى أنه لا سبيل إلى أن تنتهي هذه المشاكل إلا أن يرجعوا جميعاً عن أهوائهم إلى مراد خالقهم .
{ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } ، نعم تفسد الأرض فيما جعل الله للإنسان يداً فيه ، أما الشيء الذي لم يجعل الله للإنسان يداً فيه فستظل النواميس كما هي لا يؤثر فيها أحد ، فلا أحد يؤثر في الشمس أو القمر أو الهواء أو المطر ، إنما الفساد جاء فيما للإنسان فيه يد .
انظر إلى الكون ، إنك تجد المسائل التي لا دخل للإنسان فيها مستقيمة على أحسن ما يكون ، وإنما يأتي الفساد من النواحي التي تدخل فيها الإنسان بغير منهج الله . ولو أن الإنسان دخل فيها بمنهج الله لاستقامت الأمور كما استقامت النواميس العليا تماما .
في سورة الرحمن قوله تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 7 ]
ومادام الحق قد رفع السماء ووضع الميزان ، فالسماء لا تقع على الأرض والنظام محكم تماما ، الشمس تطلع من الشرق وتغرب في الغرب ، والقمر والنجوم تسير في منتهى الدقة والإبداع ، لأنه لا دخل لأحد من البشر فيه .
(1/673)

فإن أردتم أن تصلح حياتكم ، وأن تستقيم أموركم كما استقامت هندسة السماء والأرض فخذوا الميزان من السماء في أعمالكم ، واتبعوا القول الحق : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 7-9 ]
ومادمتم قد رأيتم أن الأمور الموجودة التي تسير بنظام لا تتحكمون فيه تعمل باستقامة وترون أن الفساد قد جاء من ناحية الأمور التي دخلتم فيها ، فلماذا لا نتبع منهج الله في الأمور التي لنا دخل فيها؟ إنك إن عملت في الحياة بمنهج الله الذي خلق الحياة فإن أمورك تستقيم لك كما استقامت الأمور العليا في الكون . واحفظ جيداً قوله تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان } [ الرحمن : 7-8 ]
ليحفظ كل منا هذا القول لنعرف أن الأمور العليا موزونة لأن يد الإنسان لا تدخل فيها . إن السماء لا تقع على الأرض لأنها محكومة بنظام محكم تماماً .
والأرض لا تدور بعيداً عن فلكها؛ لأن خالقها قد قدر لها النظام المحكم تماماً . ولهذا يقول الحق سبحانه عن نظام الكواكب في الكون : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ]
إنه نظام دقيق محكم لأنه لا دخل للإنسان فيه . اصنعوا ميزاناً في كل الأمور التي لكم فيها اختيار حتى لا تطغوا في الميزان .
ومادام الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ومنحه الاختيار ، وبعض الناس اختار مذهباً ، والبعض الآخر اختار مذهبا مضادا ، وكلٌّ من المذهبين خارج عن منهج الله ، فالحق سبحانه وتعالى يترك الفئتين للتقاتل والتناحر . ولأنه سبحانه ذو رحمة على العالمين ، يبقى عناصر الخير في الوجود ، لعل أحداً يرى ويتنبه ويتلفت ويذهب ليأخذها . فعندما تطغى جماعة يأتي لهم الحق بجماعة يردونهم ، حتى تبقى عناصر الخير في الوجود لعل إنساناً يأتي ليأخذ عنصراً منها يحرك به حياته ، وصاحب الخير إنما يأتي من فضل الله على العالمين . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين }
(1/674)

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
ونعرف أن { تِلْكَ } إشارة يخاطب الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويشير إلى الآيات التي سبقت والتي تدل على عظمة الحق وقيومته ، فقد قال الحق من قبل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } [ البقرة : 243 ]
وساعة طلبوا أن يقاتلوا ، وأن يبعث لهم ملكاً ، وبعثه لهم ، وبعث لهم التابوت فيه سكينة ، أليست هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك أراد الحق أن يأتي مقتل جالوت العملاق الضخم على يد داود الصبي الصغير . أليست هذه آية؟ وآية أخرى هي أن جماعة قليلة بإقرارهم حيث قالوا : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } هذه الجماعة القليلة تدخل المعركة وتهزم الكثرة ، أليست هذه آية؟
وهل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الآيات التي سبقت رسالته؟ لا ، ولكنها من إخبار الله له مع إقرار الجميع ، وخاصة الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ بأنه لا قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم ، ولا أحد قال له شيئا؛ حتى الرحلة التي ذهب فيها للتجارة كان يصحبه فيها أناس غيره ، ولو كانوا قد رأوه جالسا إلى أحد يعلمه شيئا ، لأذاعوا أن محمداً قد جلس مع فلان ، وتعلم منه كذا وكذا . ولكن هذا لم يقله أحد؛ لأنه لم يحدث أصلا ، ولذلك كان إخباره صلى الله عليه وسلم بما يعلمونه هم عندهم هو بعضاً من أسرار معجزته ، إنه قد عرف الأخبار السابقة رغم أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلق علماً من أحد . وقد تماحك بعض المشركين وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى فتى عند المروة يعلمه هذه الأخبار ، فنزل القول الحق يدحض هذا الافتراء : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ]
لقد أثبت الحق أنها حجة باطلة ، وزعم كاذب من ناحيتهم . لأن الذي ادّعوا أنه علم الرسول كان أعجميا . ويقول الحق سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } . إن كلمة { آيَاتُ الله } تعني الأشياء العجيبة ، و { نَتْلُوهَا } أي نجعل كلمة بعد كلمة ، وهي من " ولي " أي جاء بعده بلا فاصل . { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } والحق هو الشيء الذي وقع موقعه حيث لا يتغير عنه ، فلا يتضارب أبداً .
فهب أن حادثة وقعت أمامك ، ثم سُئلت عنها ألف مرة في طيلة حياتك ستجد أن جوابك لن يختلف عليها أبداً؛ لأنك تحكي واقعاً رأيته ، لكن لو كانت الحكاية كذباً؛ فستجد أن روايتك لها في المرة الثانية تتغير؛ لأنك لا تذكر ماذا قلت في المرة الأولى؛ لأنك لا تحكي عن واقع يأخذك وتلتزم به ، وكذلك الحق لا يتغير ، ولا يتضارب ، ولا يتعارض .
(1/675)

{ تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } ومادام الحق سبحانه هو الذي يقولها ، فسيقولها لك حقيقة ، وعندئذ يعرف الآخرون أنك عرفت ما عندهم مما يخفونه في كتبهم يقوله بعضهم لبعض ، هنا يعرفون أنك من المرسلين ، ولذلك نحن نجد في " ماكانات القرآن " التي يقول فيها تعالى : " ما كُنت " ، " ما كُنت " ، و " ما كنت " ومثل قوله الحق : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } [ القصص : 44 ]
أي ما كنت يا محمد حاضراً مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة ، ولم تكن معاصراً لموسى ولا شاهداً تبليغه للرسالة فكيف يكذبك قومك وأنت تتلو عليهم أنباء السابقين؟ ومثال ذلك قوله الحق : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ]
إن الذي رواه القرآن لك يا محمد من الأخبار الجليلة عمن اصطفاهم الله هي من الغيب الذي أوحى الله به إليك . وما كنت حاضراً معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون مريم ، وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف النبيل . ومثال ذلك قوله الحق سبحانه : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 46 ]
أي ما كنت أيها الرسول حاضراً في جانب الطور حين نادينا موسى لما أتى الميقات وكلمه ربه وناجاه ، ولكن الله أعلمك بهذا عن طريق الوحي رحمة بك وبأمتك ، ولتبلغه لقوم لم يأتهم رسول من قبلك لعلهم يتذكرون ويؤمنون . ومثال ذلك قوله الحق : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ]
إن القرآن هو وحي منزل من عند الله ، يُعرِّف المؤمنين النور إلى الهداية وتكاليف الحق ، ويهدي من اختار الهدى ، وإنك يا محمد لتدعو بهذا القرآن إلى صراط مستقيم . إن كل { مَا كُنتَ } في القرآن الكريم هي دليل على أن ما أخبرك به جبريل رسولاً من عند الله إليك ، وحاملا للوحي من الله هو الحق؛ فتعلمه أنت يا محمد بطريقة خاصة وعلى نهج مخصوص ، رغم أنك لم تقرأ كتاباً ولم تجلس إلى معلم . وما تخبرهم به من آيات هي موافقة لما معهم ، وكان من الواجب أن يقولوا إن الذي علمك هذا هو الله سبحانه وتعالى ، وكان يجب أن يقروا ويشهدوا بأنك من المرسلين . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ . . . }
(1/676)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله : { تِلْكَ الرسل } و { الرسل } هي جمع لمفرد هو " رسول " . والرسول هو المكلف بالرسالة . والرسالة هي الجملة من الكلام التي تحمل معنى إلى هدف . ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق " هؤلاء الرسل " وقال { تِلْكَ الرسل } ؟ ذلك ليدلك القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد . وكما عرفنا من قبل أن الإشارة ب " تلك " هي إشارة لأمر بعيد . فعندما نشير إلى شيء قريب فإننا نقول : " ذا " ، وعندما نستخدم صيغة الإشارة مع الخطاب نقول : " ذاك " . وعندما نشير إلى مؤنث فنقول : " ت " وعندما نشير إلى خطاب مؤنث : " تيك " . و " اللام " كما عرفنا هنا للبعد أو للمنزلة العالية .
إذن فقوله الحق : { تِلْكَ الرسل } هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني . والسياق القرآني الذي تقدم تحدث عن موسى عليه السلام ، وعن عيسى عليه السلام ، وتكلم السياق عن أولي العزم من الرسل .
إن أردت الترتيب القرآني هنا ، فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة ، وإن أردت ترتيب النزول تكون الإشارة إلى من عَلِمَهُ الرسول من الرسل السابقين ، والمناسبة هنا أن الحق قد ختم الآية السابقة بقوله هناك : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } ، ولما كانت { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } تفيد بعضيته صلى الله عليه وسلم لكلية عامة ، كأنه يقول : إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في أنهم مرسلون أو أنهم رسل الله ، أنهم أيضا متساوون في المنزلة ، لا ، بل كل واحد منهم له منزلته العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل . إنهم جميعاW رسل من عند الله ، ولكن الحق يعطي كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل .
فلماذا كان قول الله : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } يؤكد لنا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الرسل فلا تأخذ هذا الأمر على أساس أن كل الرسل متساوون في المكانة ، وتقول إنهم متماثلون في الفضل . لا . إن الله قد فضل بعضهم على بعض .
وما هو التفضيل؟
إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة ، وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد يقول لك إنسان ما " هذه محاباة " ، لذلك نقول لمن يقول ذلك : الزم الدقة ، ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة ، أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة ، فمثلاً إذا أردنا أن نختار أحداً من الناس لمنصب كبير ، فنحن نختار عدداً من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق عليهم المواصفات ونقول : " هذا يصلح ، وهذا يصلح ، وهذا يصلح " و " هذا فيه ميزات عن ذاك " وهكذا ، فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل ، ولكن إن اخترنا واحداً لأنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة .
(1/677)

إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة ، وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية ، ولكن لهوى في نفسك . فمثلا هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير ، ومعك سائق القارب البخاري ، وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري ، وجلس مكان السائق وأخذ يسوق . ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت السائق أن يتولى القيادة ، وهنا قد يصرخ الولد ، فهل هذه محاباة منك للسائق؟ لا ، فلو كانت محاباة لكانت لابنك ، لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير . إذن إذا نظرت إلى حيثية الإيثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل ، ولكن في المحاباة يكون الهوى هو الحاكم .
وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة ، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء . إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية ، يكون القصد فيها إلى حكمة ما .
وحينما قال الحق : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } جاء بعدها بالقول الكريم : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } وأعطانا نماذج التفضيل فقال : { منهم من كلم الله } . وساعة تسمع { منهم من كلم الله } يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلام ، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } . ثم قال : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } إنه سبحانه قد حدد أولا موسى عليه السلام بالوصف الغالب فقال : { كَلَّمَ الله } وكذلك حدد سيدنا عيسى عليه السلام بأنه قد وهبه الآيات البينات . وبين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام قال الحق { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } والخطاب في الآيات لمحمد عليه الصلاة والسلام . إذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وساعة يأتي التشخيص بالاسم أو بالوصف الغالب ، فقد حدد المراد بالقضية ، ولكن ساعة أن يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه لا ينطبق قوله : " ورفعنا بعضهم درجات " بحق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده . وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت في الوسط ، وإنما جاء آخر الأنبياء ، ولكنك تجد أن منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسط . فاليهودية قد أسرفت في المادية بلا روحانية ، والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بلا مادية ، والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فكأن محمداً صلى الله عليه وسلم قطب الميزان في قضية الوجود .
(1/678)

وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل ، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل سيدنا لوط مثلا ، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود ، ولَكِنْ هناك رسول واحد قيل له : أنت مرسل للإنس والجن ، ولكل من يوجد من الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة إنّه هو محمد صلى الله عليه وسلم .
فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا نظرنا إلى المعجزات التي أنزلها الله لرسله ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم ، نجد أن كل المعجزات قد جاءت معجزاته كونية ، أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها ، فالذي رأى عصا موسى وهي تضرب البحر فانفلق ، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى ، والذي رأى عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها ، ولكن هل لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود .
لكن محمد صلى الله عليه وسلم حينما يشاء الله أن يأتيه بالمعجزة لا يأتي له بمعجزة من جنس المحسات التي تحدث مرة وتنتهي ، إنه سبحانه قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة ، فرسالته غير محدودة ، ولابد أن تكون معجزته صلى الله عليه وسلم غير محسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع ، لذلك كانت معجزته القرآن . ويستطيع كل واحد الآن أن يقول : محمد رسول الله وتلك معجزته .
إن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي واقع محسوس . وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا ، إنما كانوا ينقلون الأحكام عن الله ، وليس لهم أن يشرعوا ، أما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ]
فهو صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله بالتشريع أيضا ، أليست هذه مزية؟ إن المراد من المنهج السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلافة في الأرض ، وتلك القوانين نوعان : نوع جاء من الله ، وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء ، ولكنْ هناك نوع ثانٍ من القوانين فوض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع من التشريع ليلائم ما يرى ، وهذا تفضيل للرسول صلى الله عليه وسلم .
إذن حين يقول الله تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } فهذا لا ينطبق إلا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا أكثر من التصريح بالاسم . وأضرب هنا المثل ولله المثل الأعلى أنت أعطيت لولدك قلماً عادياً ، ولولدك الثاني قلماً مرتفع القيمة ، ولولدك الثالث ساعة ، أما الولد الرابع فاشتريت له هدية غالية جداً ، ثم تأتي للأولاد وتقول لهم : أنا اشتريت لفلان قلماً جافاً ، ولفلان قلم حبر ، واشتريت لفلان ساعة ، وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة .
(1/679)

ف " بعضهم " هذا قد عُرف بأنه الابن الرابع الذي لم تذكر اسمه ، فيكون قد تعين وتحدد .
{ تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } وحين تقول كلم الله إياك أن تغفل عن قضية كلية تحكم كل وصف لله يوجد في البشر ، فأنا أتكلم والله يتكلم ، لكن أكلامه سبحانه مثل كلامي؟ إن كنت تعتقد أن وجودي مثل وجوده فاجعل كلامي ككلامه ، وإن كان وجودي ليس كوجوده فكيف يكون كلامي ككلامه؟
ربما يقول أحد : إن الكلام صوت وأحبال صوتية وغير ذلك ، نقول له : لا ، أنت لا تأخذ ما يخص الله سبحانه إلا في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ونحن نأخذ كل وصف يرد عن الله بواسطة الله ، ولا نضع وصفاً من عندنا ، وبعد ذلك لا نقارنه بوصف للبشر . فلله حياة ولك حياة . لكن أحياة أي منا كحياته سبحانه؟ لا ، إن حياته ذاتية ، وحياة كل منا موهوبة مسلوبة ، فليست مثل حياته .
وعندما يقول الحق : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } [ السجدة : 4 ]
فهل جلوس الحق كجلوس الخلق؟ أو هل يكون كرسي الخالق ككرسي المخلوق؟ طبعا لا . ونحن المؤمنين نأخذ كل صفة عن الله في نطاق التنزيه : سبحان الله وليس كمثله شيء ، فليس استواء الله مثل استواء البشر ، وليس جلوس الحق مثل جلوس الإنسان .
ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد هب أن صاحباً لك دعاك لتأكل عنده ، ثم دعاك أحد كبراء القوم لتأكل عنده ، لابد أنك تجد الطعام متفاوتا في جودته وأصنافه بين كل مائة من موائد من دعوك ، فإذا كان البشر أنفسهم تتفاوت بينهم الأمور الوصفية تبعاً لمقاماتهم وقدراتهم وإمكاناتهم ، فإذا ما ترقيت بالصفة إلى خالق كل الأشياء أيقنت أنه سبحانه مُنزه عن كل من سواه ، وليس كمثله شيء .
إذن { كَلَّمَ الله } تعني أنه أعلم رسوله بأي وسيلة من وسائل الإعلام . { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } والحق سبحانه وتعالى يؤكد دائما في الكلام عن سيدنا عيسى أنّ عيسى ابن مريم مؤيد بروح القدس ؛ لأن المسائل التي تعرض لها سيدنا عيسى تتطلب أن تكون روح القدس دائما معه ، ولذلك يقول الحق سبحانه عنه : { والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ]
ففي الميلاد سيدنا عيسى تعرض لمشكلة؛ لأنه ولد على غير طريقة ميلاد الناس ، واتهمت فيها أمه ، وجاء القرآن فنزهها ، وبرأها ، ووضع الأمر في نصابه الحق ، وأيضا في موته عندما أرادوا أن يقتلوه .
(1/680)

وحين ننظر إلى الرسل نجد أن مقتضى أن يرسل الله رسلاً إلى العالم هو أنه سبحانه قد خلق الخلق غير مكرهين على فعل ، ولا مسخرين كما تسخر بقية الأجناس في الكون ، ودونه مباشرة الحيوان الذي ينقص عنه العقل ، وبعد الحيوان يأتي جنس النبات الذي ينقص عنه الحس والحركة ، وبعد ذلك الجماد الذي ينقص عن النبات ، تلك هي أجناس الوجود . والإنسان هو سيد هذه الأجناس . والسيادة جاءت له من ناحية أن الأجناس كلها مسخرة لخدمته لا بالاختيار ، ولكن بالقهر والقسر .
فالشمس لم تجيء مرة لتقول : لم يعد الخلق يعجبونني لذلك لن أشرق لهم اليوم ولا الهواء امتنع عن أن يهب ، ولا المطر امتنع عن أن ينزل ، ولا الأرض امتنعت عن أن تعطي النبات عناصر غذائه ، إن الإنسان يركب الدابة ويسيرها كما يحب وكما يريد ، لا شيء يتأبى أبدا على الإنسان . وأنت أيها الإنسان الجنس الوحيد الذي وهبك الله الاختيار لتمارس مهمتك في الوجود ، فإن شئت فعلت كذا ، وإن شئت لم تفعل كذا .
ولكن الله لم يدعك هكذا على إطلاقك ، بل إنّ فيه أموراً تصير برغم أنفك وأنت مسخر فيها ، لا تستطيع مثلا أن تتحكم في يوم ميلادك ، ولا في يوم وفاتك ، ولا فيما ينزل عليك من الأحداث الخارجة عنك ، ولا فيما يدور من الحركة في بدنك ، كل ذلك أنت مسخر فيه فلا تنفلت من قبضة ربك . ولكنك مختار في أشياء .
ونعرف أنه سبحانه وتعالى قهر أجناساً على أن تكون كما يريد ، وكما يحب ، وتلك صفة القدرة؛ لأن صفة القهر تفيد السيطرة . فإذا ما ترك جنساً يختار أن يؤمن ، ويختار ألا يؤمن ، وإن آمن يختار أن يطيع ويختار أن يعصي ، فهذه تثبت المحبوبية لله سبحانه وتعالى لمن اختار وآثر طاعة الله على المعصية .
ونحن نعرف أن القهر يخضع القوالب لكنه لا يخضع القلب . فأنت تستطيع أن تهدد إنساناً بمسدس وتقول له : " اسجد لي " فيسجد لك ، لكنك لا تستطيع أن تقول له وهو تحت التهديد " أحبني " . فالحق سبحانه وتعالى يترك لنا الإيمان بالاختيار ، ويترك لنا الطاعة والمعصية اختياراً ، ليعلم من يأتيه حباً ومن يأتيه قهراً .
والعالم كله يأتي لله قهراً . وأنت أيها الإنسان في ذاتك أشياء أنت مقهور فيها . ومن هنا ثبتت لله تعالى القدرة . وبقى أن تثبت له الحب . والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب . ونحن قد سبق لنا أن ضربنا مثلاً ولله المثل الأعلى وقلنا إن إنسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والآخر اسمه سعيد ، سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائلا : " يا سعد " فهل لسعد ألا يجيء؟ لا .
(1/681)

لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحرية ، وعندما يناديه فهو يأتيه .
إذن ، أيهما يحبه ، الذي جاء بالحبل أم الذي جاء بالمحبة؟ إذن ، فمن كرامة الإنسان أن يثبت لله صفة المحبة إن آمن بالله؛ لأنه سبحانه وتعالى لو شاء أن يهدي الناس جميعاً ما استطاع أي واحد منهم أن يكفر به ، ولو شاء أن يكون مطاعاً دائماً ما استطاع واحد أن يعصيه أبداً . ولذلك قلنا : إن إبليس كان عالماً حينما قال أمام الله تعالى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ]
أقسم الشيطان لله بعزته سبحانه عن خلقه ، وكأنه قال : أنت يا رب لو كنت تحتاج عباد فأنا لا أستطيع أن آخذهم ، لكن لأنك عزيز عليهم ، إن أرادوا أن يؤمنوا آمنوا ، وإن أرادوا ألا يؤمنوا لم يؤمنوا؛ فهذا هو المدخل الذي سأدخل منه . ولذلك استثنى الشيطان بعضاً من العباد لأنه لن يستطيع أن يجد لوسوسته لديهم مدخلا : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 83 ]
أي إن الذي يريد الله أن يستخلصه لنفسه فلن يستطيع الشيطان أن يقترب منه . إذن فإبليس ليس داخلاً في معركة مع الله تعالى ، ولكنه في معركة معنا نحن . ولقد أوضح الحق ذلك حين جاء على لسان إبليس في القرآن : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ]
إذن لو أراد الله أن نكون طائعين جميعاً ، أيستطيع واحد أن يعصي؟ لا يستطيع . ولو أرادنا مؤمنين جميعاً ، أيستطيع واحد أن يكفر؟ لا يستطيع . إنما شاء الله تعالى لبعض الأمور والأفعال أن يتركها لاختيارك؛ لأنه يريد أن يعرف من الذي يأتيه طوعاً وليظل العبد بين الخوف والرجاء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد " .
ولهذا فإن مطلوب الارتفاع الإيماني ، والارتفاع اليقيني أن تحب الله لذات الله . وهو سبحانه يجري عليك من الأحداث ما يشاء ، وتظل تحبه فيباهي الله بك الملائكة فتقول الملائكة : يا رب يحبك لنعمتك عليه فيقول لهم : وأسلب نعمتي ولا يزال يحبني ، ويسلب الحق النعمة لكن العبد لا يزال يحب الله ، فهو يحب الله ولا يحب نعمته لأنه سبحانه ذات تحب لذاتها بصرف النظر عن أنه يعطينا النعم .
إذن الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل يحملون منهج الله لمَنْ يريد أن يعلن حبه لله ، وأن يكون خليفة في الأرض بحق ، وأن يُصلح في الكون ولا يفسده . ونعرف أن الإصلاح له مرتبتان : أن تترك الصالح بطبيعته فلا تفسده ، أو أن تزيد الصالح صلاحاً . فلا تأتي على عين الماء التي تتدفق للناس وتردمها ، ولكنك تتركها على صلاحها إن لم تستطع أن تزيدها إصلاحاً .
(1/682)

وقد تستطيع أن تزيد عين الماء صلاحاً؛ فبدلاً من أن يذهب الناس متعبين إلى العين ويحملون منها الماء ، قد تصنع لهم مضخة عالية لها خزان ترفع إليه الماء وتمد " المواسير " وتوصل المياه إلى منازلهم . فأنت بذلك تزيد الأمر الصالح صلاحاً ، وهذه خلافة وعمارة في الوجود . فإن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فجنبنا شر إفسادك ، ودع الحال كما هي عليه ، واقعد كما أنت عالة في الكون .
ولو أن الإنسان كان منصفاً في الكون لسأل نفسه : مَنْ الذي اهتدى إلى صناعة الرغيف الذي نأكله الآن؟ وسيعرف أنه قد أخذ تجارب الناس من أول آدم حتى وصل إلى صناعة هذا الرغيف ، فهناك إنسان زرع القمح ، وهناك إنسان آخر هداه الله أن يطحن هذا القمح ، وهو سبحانه هدى الإنسان أن يصنع منخلاً ليفصل الدقيق عن النخالة ، ثم هداه أن يعجن الدقيق حتى يجد له طعماً أفضل . ولاشك أنه ترك مرة قطعة من العجين ثم شُغل عنها بأي شاغل أو بأي سبب ثم رجع لها مرة أخرى فوجدها متخمرة ، فلما خبزها خرج له العيش أفضل طعماً ، إنه سبحانه قدر فهدى ، وإلا كيف تأتي هذه التجربة الطويلة؟
ومثال آخر : إن الإنسان حين ينظف ثوبه ، لو أنه استعرض أعمال من سبقوه في هذا الموضوع منذ آدم ، لعلم أن كل واحد سبقه في الوجود أعطاه مرحلة من النفعية إلى أن وصل للغسالة الكهربائية التي تغسل له بدون تعب ، كل هذه الأشياء جاءت له بهدايات من الله . وقد قلت مرة : لماذا طبخت الناس " الكوسة " ولم تطبخ " الخيار "؟ إن هذه دليل على أن هناك تجارب كثيرة مرت على الإنسان حتى يميز طعم الكوسة المطبوخة عن الخيار ، وكذلك طبخ الناس الملوخية ولم يطبخوا النعناع ، مع أن النعناع أحسن منها ، حدث ذلك؛ لأن هناك تجارب وصلتنا بأن النعناع لا يُستساغ طعمه مطبوخا .
وأنت لو نظرت إلى أي شيء تستفيد به اليوم ، وقدرت الأعمال التي تداولته من يوم أن وُجد ، ستجد أن الحق قد قدر لكل إنسان عملاً ومجالاً ، وظل يخدمك أنت . ومادمت قد خُدمتَ بهؤلاء الناس كلهم من أول آدم وحتى اليوم ، فلا بد أن تنظر لترى ماذا ستقدم لمن يأتي من بعدك ، فلا تكن كسولاً في الحياة؛ تأخذ خير غيرك كله في الوجود ، وبعد ذلك لا تعطي أي شيء ، بل لابد أن يكون لك عطاء ، فكما أخذت من بيئتك لابد أن تعطي هذه البيئة ، ولو لم يوجد هذا لما ارتقت الحياة؛ لأن معنى ارتقاء الحياة أن إنساناً أخذ خبرة من سبقوه ، وحاول أن يزيد عليها ، أي أن يأخذ أكبر ثمرة بأقل مجهود .
(1/683)

فلو قدر الناس جهد الإنسان الذي ابتكر " العجلة " مثلا التي تسير عليها السيارة لكان عليهم أن يستغفروا الله له بمقدار ما أراحهم ، فبعد أن كان الإنسان يحمل على أكتافه قصارى ما يحمل ، وَفَّر عليه مَن اختراع هذا أن يحمل ويتعب ، وجعله يحمل أكبر كمية وينقلها بأقل مجهود .
إذن لابد أن تنظر إلى النعم التي تستفيد بها الآن وترى كم مرحلة مرت بها ، وهل صنعها الناس هكذا أم تعبوا وكدوا واجتهدوا منذ بدء الوجود على الأرض ، وعرف الإنسان جيلا بعد جيل كيفية تطوير تلك الأشياء ، وقد يحدث خطأ في مرحلة معينة فيبدأ الإصلاح أو التحسين وهكذا . فأنت عندما تجد أن العالم قدم لك كل هذه المنتجات ، لابد أن تسأل نفسك : ما الذي ستقدمه أنت لهذا العالم ، وبذلك تظل الحلقة الإنسانية مرتقية ومتصلة .
والحق سبحانه يرسل الرسل ويضع المنهج : " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ، حتى تستقيم حياة الناس على الأرض ، لكن الناس غلبت عليهم الغفلة عن أمر المنهج؛ ولذلك تظهر في الوجود فسادات بقدر الغفلة ، وعندما يزداد الفساد يبعث الحق سبحانه رسولا جديدا يذكرهم بالمنهج مرة أخرى ، وعندما يأتي الرسول يؤمن به بعض من الناس ويحاربون معه ، وينتصر الرسول وتستقر مبادئ الله في الأرض ، ثم تمر فترة وتأتي الغفلة فيحدث الخلاف ، فهناك أناس يتمسكون بمنهج الله ، وأناس يفرطون في هذا المنهج ، ويحدث الخلاف وتقوم المعارك .
ولو كان الحق سبحانه وتعالى يريد الكون بلا معارك بين حق وباطل لجعل الحق مسيطراً سيطرة تسخير . لكن الله تعالى أعطانا تمكيناً ، وأعطانا اختباراً؛ لذلك نجد من ينشأ مؤمناً ، ومن ينشأ كافراً ، نجد الطائع ، ونجد العاصي ، هذا فريق ، وهذا فريق . وإياك أن تفهم أن وجود الكافرين في الأرض ، أو وجود العصاة في الكون دليل على أنهم غير داخلين في حوزة الله ، لا . بل إن الله تعالى هو الذي أعطاهم هذا الاختيار ، ولو شاء الله أن يجعل الناس أمة واحدة لما استطاع إنسان أن يخرج على مراد الله .
وفي الآية التي نحن بصددها جاء الحق بأولي العزم من الرسل : سيدنا موسى عليه السلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيدنا عيسى عليه السلام وبعد ذلك يقول سبحانه :
{ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ البقرة : 253 ]
إذن ما الذي جعل الناس تقتتل فيما بينها؟ إنه الاختلاف بين الناس ، لقد اختلفوا فاقتتلوا . لكن ألا يمكن أن يكونوا قد اختلفوا ولم يقتتلوا؟ إن ذلك لو حدث لكان إجماعاً على الفساد . والحق سبحانه لا يريد أن يحدث الإجماع على الفساد ، فإن لم يسيطر الخير على أمور البشر فلا أقل من أن يظل عنصر الخير موجوداً ، ويأتي واحد ليجد عنصر الخير وينميه .
(1/684)

إن الحق سبحانه لا يمحو في أزمنة الباطل معالم الخير والأفعال الحسنة ، بل يستبقي سبحانه معالم الخير والأفعال الحسنة ليذهب إليها أي إنسان يريد الخير ، وقد يكون الخير ضعيفاً ، ولكن الله لا يمحوه؛ لأنه يعطي به دفعة جديدة لمؤمنين جدد يرفعون راية الحق ، وإن بدأوا ضعفاء . ولذلك نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول : " لولا عباد الله ركع وصبية رُضّع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا " .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا ألا ننظر إلى الضعفاء على أنهم عالة وأننا أقوياء لمجرد أنهم يعيشون في أكنافنا . بل قد يكونون سياج لطف ورحمة كما في الحديث السابق .
إن الله سبحانه وتعالى رفع عنا العذاب من أجل وجود الضعفاء بيننا ، لأن في الضعاف يوجد شيء من الخير ، ولتظل في الوجود خلية من الخير حتى إذا ما أراد الوجود أن يفيق إلى الرشد فإنه سيجد من الخير ما يرشده . إذن لولا الاقتتال لعم الفساد ، وانتهت المسألة . لكن الناس اختلفت فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا } أي لظلوا على منهج واحد من الكفر أو من الفساد ، لكن الله يفعل ما يريد . وفي الاقتتال كما نعرف هناك تضحيات بالنفس ، وتضحيات من أجل أن تظل القيم السماوية على الأرض .
وتقتضي التضحية إما أن يجود الإنسان بنفسه وإما أن يجود بماله ، ولذلك فمن المناسب هنا أن نتكلم عن النفقة وهي الجود بالمال ، وخاصة أنه في الزمن القديم كان المقاتل هو الذي يجهز عدة قتاله : فرسه ، رمحه ، سيفه ، سهامه ، لذلك فهو يحتاج إلى إنفاق ، ويتكلم الحق عن هذه المسألة لأن الأمر بصدد استبقاء خلية الإيمان المصورة في المنهج السماوي الذي جاء به الرسل؛ ليظل هذا المنهج في الأرض حتى يفيء إليه الناس إن صدمهم الشر أو صدمهم الباطل فيقول : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم . . . }
(1/685)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا } إنما يدل على أن ما يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بالله ، وليس تكليفاً للناس على إطلاقهم؛ لأن الله لا يكلف من كفر به ، إنما يكلف الله من آمن به ، ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين الإيماني فهو أهل لمخاطبة الله له ، فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له : يا من آمن بي إلها حكيما قادرا مشرعاً لك ، أنا أريد منك أن تفعل هذا الأمر .
إذن الإيمان هو حيثية كل حكم ، فأنت تفعل ذلك لماذا؟ لا تقل : لأن حكمته كذا وكذا . لا . ولكن قل : لأن الله الذي آمنت به أمرني بهذه الأفعال ، سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها ، بل ربما كان إقبالك على أمر أمرك الله به وأنت لا تفهم له حكمة أشد في الإيمان من تنفيذك لأمر تعرف حكمته .
ولو أن إنساناً قال له الطبيب : إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا ، وبعد ذلك امتنع عن الخمر ، صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة لله ، لكن هل هو امتنع لأن الله قال؟ لا ، لم يمتنع لأن الله قال ، ولكنه امتنع لأن الطبيب قال ، فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب الطبيب . أما المؤمن فيقول : أنا لا أشرب الخمر؛ لأن الله قد حرمها ، ولماذا انتظر حتى يقول لي الطبيب : إن كبدك سيضيع بسبب الخمر ، فالرحمة هي ألا يجيء الداء .
إن الحق يقول : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } أي أنا لا أطلب منكم أن تنفقوا علي ، ولكن أنفقوا من رزقي عليكم؛ لأن الرزق يأتي من حركة الإنسان ، وحركة الإنسان تحتاج طاقة تتحرك في شيء أو مادة ، وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر ، وهذا الفكر رتبه من خلقه ، والجوارح التي تنفعل ، واليد التي تتحرك ، والرِّجل التي تمشي خلقها الله ، والمادة التي تفعل بها مخلوقة لله . وسنأخذ الزارع نموذجا ، نجد أن الأرض التي فيها العناصر مخلوقة لله ، إذن فالإنسان يعمل بالعقل الذي خلقه الله ، ويخطط بالجوارح التي خلقها الله لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في المادة التي خلقها الله لتعطي للإنسان خيرها . . فأي شيء للإنسان إذن؟
ومع ذلك إن حصل للإنسان خير من هذا كله فهو سبحانه لا يقول : " إنه لي " بل أمنحه لك أيها الإنسان ، ولكن أعطني حقي فيه ، وحقي لن آخذه لي ولكن هو لأخيك المسكين ، والحق يقول : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ]
وإياك أن تقول : ما دخلي أنا بالمسكين؟ عليك أن تعلم أنّ المسكنة عَرَض ، والعرض من الممكن أن يلحق بك أنت .
(1/686)

فلا تُقدِّر أنك معطٍ دائما ، ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لاَ أنْ تعطي . الحق يقول لك : أعط المسكين وأنت غني؛ لأنه سبحانه سيقول للناس : أن يعطوك وأنت فقير ، فقدِّر حكم الله ساعة يُطلب منك ، ليحميك ساعة أن يُطلب لك ، وبذلك تتوازن المسألة .
ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق ، فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضا ، حتى تُمحى الضغائن من قلوبكم؛ لأن الإنسان الضعيف ضعفا طبيعياً وليس ضعف التسول أو الكسل أو الاحتراف ، بل ضعف عدم القدرة على العمل هو مسئولية المؤمنين ، فسبحانه وتعالى يجعل القوي مسئولا أن يساعدك وأنت ضعيف .
وأنت حين ترى وأنت ضعيف لا تقدر الأقوياء الذين قدروا لم ينسوك ، وذكروك بما عندهم ، عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير ، فإن رأيت نعمة تنالك إن عجزت فأنت لا تحسدها أبداً ، ولا تحقد على معطيها ، بل تتمنى من حلاوة وقعها في نفسك لأنها جاءتك عن حاجة تتمنى لو أن الله قدرك لتردها ، فيكون المجتمع مجتمعاً متكافلاً متضامناً .
فحين يقول الله تعالى : { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } فأنتم لا تتبرعون لذات الله بل تنفقون مما رزقكم ، ومن فضل الله عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك ، فهو سبحانه يقول : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 245 ]
إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل الله هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل رزق . وحتى نفهم معنى النفقة أقول : قد قلنا من قبل : إن الكلمة مأخوذة من مادة " النون والفاء والقاف " ، ويقال : نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالأثمان المقررة لها ، ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان . والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة . والثمن ما لا يستفاد به مباشرة .
فعندما تكون جائعا أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب؟ إن هذا الجبل من الذهب أنت لا تستفيد منه مباشرة ، أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة ، وكذلك كوب الماء الممتلئ ، تستفيد منه مباشرة ، والملابس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة . إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه سلعة ، والذي لا يستفاد منه مباشرة نسميه ثمناً . ولذلك يقول لنا الحق إنذاراً وتحذيراً من الاعتزاز بالمال :
{ ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ]
إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الآخر الذي لا بيع فيه؛ أي لا مجال فيه لاستبدال أثمان بسلع أو العكس ، وأيضا لا يكون في هذا اليوم " خُلة " ، ومعنى " خلة هي الود الخالص ، وهي العلاقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلاً بالآخر بالمحبة؛ لأن كُلاًّ منكما منفصل عن الآخر وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الآخرة سيكون كل إنسان مشغولا بأمر نفسه .
(1/687)

إن اليوم الآخر ليس فيه بيع ولا شراء ولا فيه خلة ولا شفاعة ، وهذه هي المنافذ التي يمكن للإنسان أن يستند عليها . فأنت لا تملك ثمنا تشتري به ، ولا يملك غيرك سلعة في الآخرة ، إذن فهذا الباب قد سد . وكذلك لا يوجد خلة أو شفاعة ، والشفاعة هذه مأذون فيها . إن كانت ممن أذن له الله أن يشفع فهي في يد الله ، ومعنى " شفيع " مأخوذة من الشفع والوتر . الوتر واحد والشفع اثنان ، فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلان . فيتشفع الإنسان بإنسان له جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب . ولكن هذه الوسائل في الآخرة غير موجودة . فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة؛ فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم ، فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة .
وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تُغلق في هذا اليوم العظيم . وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : أنا لم أفوت فرصة على خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا الموقف ، فأنا لم أظلمهم . لذلك يذيل الحق الآية بقوله : { والكافرون هُمُ الظالمون } .
وبعد أن تكلم الله سبحانه وتعالى عن الرسل ، وعن الاختلاف ، وعن القتال لتثبيت منهج الحق ، وعن الإنفاق ، يوضح لنا التصور الإيماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل . فقد جاء موكب الرسالات كلها من أجل هذا المنهج فقال سبحانه : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . . . }
(1/688)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
ونقف بالتأمل الآن عند قوله الحق : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } . إن كلمة { الله } هي عَلَمٌ على واجب الوجود . وعندما نقول : " الله " فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود .
ما معنى " واجبة الوجود "؟ إن الوجود قسمان : قسم واجب ، وقسم ممكن . والقسم الواجب هو الضروري الذي يجب أن يكون موجودا ، والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه { الله } أعطانا فكرة على أن كلمة { الله } هذه يتحدى بها سبحانه أن يُسمى بها سواه . ولو كنا جميعاً مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من الإيمان . ولكنْ هنا كافرون بالله ومتمردون وملحدون يقولون : " الله خرافة " ، ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه { الله } ؟
لم يفعل أحد هذا؛ لأن الله تحدى بذلك ، فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة . وعدم جرأة الكفار والملاحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم ، فلو كان كفرهم صحيحاً لقالوا : سنسمي ونرى ما يحدث ، ولكن هذا لم يحدث .
إذن { الله } علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال . وبعد ذلك جاء بالقضية الأساسية وهي قوله تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وهنا نجد النفي ونجد الإثبات ، النفي في { لاَ إله } ، والإثبات في { إِلاَّ هُوَ } . والنفي تخلية والإثبات تحلية . خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته . و " لا إله إلا الله " أي لا معبود بحق إلا الله . ونعرف أن بعضنا من البشر في فترات الغفلة قد عبدوا أصناماً وعبدوا الكواكب . ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ لقد كانت آلهة بباطل . ودليل صدق هذه القضية التي هي " لا إله إلا الله " ، أي لا معبود إلا الله أن أحدا من تلك الآلهة لم يعترض على صدق هذه القضية . إذن فهذا الكلام هو حق وصدق .
وإن ادعى أحد غير ذلك ، نقول له : إن الله قد أخبرنا أنه لا معبود بحق غيره؛ لأنه هو الذي خلق وهو الذي رزق ، وقال : أنا الذي خلقت . إن كان هذا الكلام صحيحاً فهو صادق فيه ، فلا نعبد إلا هو . وإن كان هذا الكلام غير صحيح ، وأن أحداً غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الأحد الذي خلق ، ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول : " أنا الذي خلق الكون "؟ إنه أمر من اثنين ، الأمر الأول : هو أنه ليس هناك إله غيره . فالقضية إذن منتهية . والأمر الآخر : هو أنه لو كان هناك آلهة أخرى ، وبعد ذلك جاء واحد وقال : " أنا الإله وليس هناك إله إلا أنا " .
(1/689)

فأين هذه الآلهة الأخرى؟ ألم تعلم بهذه الحكاية؟
إن كانوا لم يعلموا بها ، فهم لا يصلحون أن يكونوا آلهة ، وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا : لا . نحن الآلهة ، وهذا الكلام كذب؟ وكما بعث الله رسلا بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسولا بمعجزات . فصاحب الدعوة إذا ادّعاها ولم يوجد معارض له ، تثبت الدعوى إلى أن يوجد مُنازِع .
إذن كلمة " لا إله إلا الله " معها دليل الصدق؛ لأنه إما أن يكون هذا الكلام حقا وصدقا فتنتهي المسألة ، وإن لم يكن حقا فأين الإله الذي خلق والذي يجب أن يُعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه هذه القضية؟ وبعد ذلك لا نسمع له حساً ولا حركة ، ولا يتكلم ، ولا نعلم عنه شيئا ، فما هو شأنه؟ إما أنه لم يعلم فلا يصلح أن يكون إلها؛ لأنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة . ولذلك ربنا سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقول : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 42-43 ]
فلو كان عند تلك الآلهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته ، ولو كان هناك إله غير الله لحدثت معركة بين الآلهة ، ولكن هذا لم يحدث . فالكلمة " لا إله إلا الله " صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها ، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوى؛ لأنه إن لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه لا إله إلا الله . وإن وجد المنازع نقول : أين هو؟
وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى هب أننا في اجتماع ، وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود ، فعرضناها على الموجودين ، فلم نجد لها صاحباً ، ثم جاء واحد كان معنا وخرج ، وقال : يا قوم بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي . ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته هو .
إذن " لا إله إلا الله " هي قضية تمتلئ بالصدق والحق ، والله هو المعبود الذي يُتَوَجّه إليه بالعبادة ، والعبادة هي الطاعة . فمعنى عابد أي طائع ، وكل طاعة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً ، ومادامت العبادة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً ، فلا بد أن يكون المأمور والمنهي صالحاً أن يفعل وصالحاً ألاّ يفعل . فعندما نقول له : افعل كذا كمنهج إيمان ، فهو صالح لئلا يفعل . وعندما نقول له : لا تفعل فهو صالح لأن يفعل ، وإلا لو لم يكن صالحا ألا يفعل أيقول له " افعل "؟ لا ، لا يقول له ذلك . ولو كان صالحا ألا يفعل أيقول له " لا تفعل "؟ إن ذلك غير ممكن .
(1/690)

إذن لابد أن يكون صالحاً لهذه وتلك وإلا لكان الأمر والنهي عبثاً ولا طائل من ورائهما . لذلك عندما أرادوا أن يقصروا الإسلام في العبادات الطقسية التي هي شهادة لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، قالوا : هل هذا هو كل الإسلام ، وقالوا : إنه دين يعتمد على المظاهر فقط ، قلنا لهم : لا ، إن الإسلام هو كل حركة في الحياة تناسب خلافة الإنسان في الأرض؛ لأن الله يقول في كتابه الكريم : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } [ هود : 61 ]
{ واستعمركم فِيهَا } أي طلب منكم أن تعمروها ، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الأرض فهي من العبادة ، فلا تأخذ العبادة على أنها صوم وصلاة فقط؛ لأن الصوم والصلاة وغيرهما هي الأركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سَيُبني عليها الإسلام ، فلو جعلت الإسلام هو هذه الأركان فقط لجعلت الإسلام أساسا بدون مبنى ، فهذه هي الأركان التي يُبني عليها الإسلام ، فإذن الإسلام هو كل ما يناسب خلافة الإنسان في الأرض يبيّن ذلك ويؤكده قول الله تعالى : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } [ هود : 61 ]
ويخرج إلينا أناس يقولون : نحن ليس لنا إلا أن نعبد ولا نعمل . ونقول لأي منهم : كم تأخذ الصلاة منك في اليوم؟ ساعة مثلا . والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوماً واحداً في العام؟ والصوم كم يأخذ منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد . وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟ فبالله عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟ إنك لا تأخذ أكثر من ساعة في اليوم للصلاة ، ولا تأخذ أكثر من يوم في السنة لإخراج الزكاة ، وتقضي شهراً في السنة تصوم نهاره . وتحج مرة واحدة في عمرك ، فماذا تفعل في بقية الزمان ، ستأكل وتلبس ، ستطلب رغيف الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها . ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة .
إن المحل الذي يبيعه فقط ولا يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره ، ولابد أن يعمل فيه من يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز ، وينقله إلى المحل ويبيعه وإذا نظرت إلى الفرن فسوف تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق ، ثم إلى العجين ، وإلى النار التي توقد بالمازوت ، ويقوم بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم ، وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب ، وتم طحنها لتصير دقيقاً ، وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن ، ويعملون على صيانتها ، وبعد ذلك الأرض التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها ، وتهيئتها للزراعة ، وريها ، وتسميدها ، وزرعها ، وحصدها ، وكيف دُرِسَ القشر والسنابل ، وكيف تتم تذريته من بعد ذلك ، لفصل الحبوب عن التبن ، وتعبئة الحبوب ، إلى غير ذلك؟
انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله ، وكم من الطاقات وكم رجال للعمل ، فكيف تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك ، وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟ لا ، إياك أن تأخذ عمل غيرك دون جهد منك .
(1/691)

مثال آخر ، أنت تلبس جلبابا ، كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فلا تقعد ، وتنتفع بحركة المتحرك في الحياة ، وتقول : أنا مخلوق للعبادة فقط ، فليست هذه هي العبادة ، ولكن العبادة هي أن تطيع الله في كل ما أمر ، وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالى : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } إن كل عمل يعتبر عبادة ، وإلا ستكون " تنبلاً " في الوجود . والإيمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ولا تعتمد على عمل غيرك .
إن الحق سبحانه وتعالى قد استخلفنا في الأرض من أجل أن نعمرها . ومن حسن العبادة أن نتقن كل عمل وبذلك لا نقيم أركان الإسلام فقط ، ولكن نقيم الأركان والبنيان معا . ونكون قد أدينا مسئولية الإيمان ، وطابق كل فعل من أفعالنا قولنا : " لا إله إلا الله " .
ولقد عرفنا أن كلمة { الله } هي علَم على واجب الوجود ، وهي الاسم الذي اختاره الله لنفسه وأعلمنا به ، ولله أسماء كثيرة كما روى في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل الله بكم اسم هو له أنزله في كتابه أو علمه أحداً من خلقه أي خصّه به أو استأثر به في علم الغيب عنده ، فلا تظنن أن أسماء الله هي كلها هذه الأسماء التي نعرفها ، ولكن هذه الأسماء هي التي أذن الله سبحانه وتعالى بأن نعلمها .
ومن الجائز ، أو من لفظ الحديث نعلم أن الله قد يُعلّم بعضا من خلقه أسماء له ، ويستأثر لنفسه بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه ، وحين نتكلم عن الأسماء الأخرى نجد أنها ملحوظ فيها الصفة ، ولكنها صارت أسماء لأنها الصفة الغالبة ، فإذا قيل : " قادر " نجد أننا نستخدم هذه الكلمة لوصف واحد من البشر ، ولكن " القادر إذا أطلق انصرف إلى القادر الأعلى وهو الله . وكذلك " السميع " ، و " البصير " . و " العليم " .
إننا نجد أن بعضاً من أسماء الله سبحانه وتعالى له مقابل ، ومن أسماء الله الحسنى ما لا تجد له مقابلاً . فإذا قيل " المحيي " تجد " المميت " و " المعز " تجد " المذل " ، لأنها صفة يظهر أثرها في الغير ، فهو مميت لغيره ، ومعزّ لغيره ، ومذل لغيره ، لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها صفة ذات ، فهو " حي " ولا نأتي بالمقابل إنما " مُحيي " نأتي بالمقابل وهو " المميت " ، فهذه اسمها صفة فعل .
(1/692)

فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لأنها في الغير . لكن صفة الذات لا يتصف إلا بها .
وحينما قال الحق : { الله } فهو سبحانه يريد أن يعطينا بعض تجليات الله في أسمائه ، فقال : " الله لا إله إلا هو " ليحقق لنا صفة التوحيد ، ويجب أن نعلم أن " إلا " هنا ليست أداة استثناء ، لأنها لو كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون الله من ضمن هذه الآلهة التي نفيتها وذلك غير صحيح . وإنما المراد أنه لا آلهة أبداً غير الله فهو واحد لا شريك له ، وأنه لا معبود بحق إلا هو فكلمة " إلاّ " ليست للاستثناء وإنما هي بمعنى غير ، أي لا إله غير الله .
وقد عرفنا أن هذه القضية معها دليلها ، وإلا فلو كان هناك إله آخر لقال لنا : إنه موجود . لكن لا إله إلا هو سبحانه أبلغنا { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } . وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام رحمة الله عليه وكان متأثرا بالشاعر الباكستاني " إقبال " ، كان للشاعر إقبال شيء اسمه " المثاني " ، أي أن يقول بيتين من الشعر في معنى ، وبيتين من الشعر في معنى ، وكان يغلب على شعر إقبال الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي ، وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام بشعر إقبال فجعل له مثاني أيضا يناظر فيها " إقبال " ، فيقول :
إنما التوحيد إيجاب وسلب ... وفيهما للنفس عزم ومضاء
وقوله : " إنما التوحيد إيجاب وسلب " هو قول متأثر بالقضية الكهربية . فيقول : إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء . فأنت عندما تقول " لا إله " ، ف " لا " للنفي ، وعندما تكمل قولك : " إلا الله " ف " إلا " للإثبات ، ويكمل الدكتور عزام قوله : لا وإلا قوة قاهرة . فهما في القلب قطبا الكهرباء كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتوجب . فالإيجاب في " إلا " والسلب في " لا " . ومادام فيه إيجاب وسلب ، إذن ففيه شرارة كهرباء .
{ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } ، و { الحي } هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله ، لأن القدرة بعد الحياة ، والعلم بعد الحياة . فكل صفة لابد أن تأتي بعدها الذكر وإلا فليست صفة من صفات الله أسبق من صفة ولا متقدمة عليها فكلها قديمة لا أول لها ، فلو كان عدماً فكيف تأتي الصفات على العدم؟ ، وكلمة " حيّ " عندما نسمعها نقول : ما هو الحي؟ . إن الفلاسفة قد احتاروا في تفسيرها . فمنهم من قال : الحيّ هو الذي يكون على صفة تجعله مُدْرِكاً إن وُجِدَ ما يُدْرَكْ .
كأن الفيلسوف الذي قال ذلك : يعني بالحياة حياتنا نحن ، وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك .
(1/693)

ونقول لصاحب هذا الرأي : لا ، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلابد أن تقول : الحياة هي أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلاحيته لمهمته هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف ، ف { الحي } : هو الذي يكون على صفة تُبقى له صلاحيته لمهمته ، مثال ذلك النبات ، مادمت تجده ينمو ، إذن ففيه حياة تبقى له صلاحية مهمته . فلو قطع لانتهت الصلاحية . ومثال الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته ، والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل ، هذا التفاعل فرع وجود الحياة ، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا .
أنت مثلاً ترى " الزلط " الناعم الأملس ، تجده على مقدار واحد؟ لا ، إن أشكاله مختلفة ، وهذا دليل على أن هناك مراحل للحجر الواحد منها ، ولو استمرت تلك الأحجار في بيئتها الطبيعية فلا شك أن هذه الكبيرة تتفتت يوماً وتصير صغيرة ثم تكبر مرة أخرى ، لكن الإنسان حين يستخدم هذه الأحجار تكون قد خرجت من بيئتها . ومن حكمة الله أنه لا يوجد شيء تنتهي جدواه أبداً ، بل هو سبحانه يهيئ لكل شيء مهمة أخرى .
إذن فكل كائن يكون على صفة تُبقى له صلاحيته لمهمة ، وتكون له حياة مناسبة لتلك المهمة . نحن لا نأتي بهذا الكلام من عندنا ، ولكننا نأتي بهذا الكلام لأننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر ، ونقول : ماذا يقابل الحياة في القرآن؟ إنه الهلاك بدليل أن الله قال : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ]
إذن فالحياة مقابلة للهلاك . و { الحي } غير هالك . والهالك لا يكون حياً ، ويقول تعالى في الآخرة : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ]
ومعنى ذلك أن كل الأجناس من أعلاها إلى أدناها ، سواء الإنسان ، أو الملائكة ، أو الحيوان أو النبات ، كلها ستكون هالكة ، ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكاً قبل ذلك ، وله حياة مناسبة له . أليست الحجارة شيئاً ، وستدخل في الهلاك يوم القيامة؟ . إذن فهي قبل ذلك غير هالكة . لكننا نحن البشر لا نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة . مع أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران ، ولها حياة . وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة من النبات ، وترى ما بها من خضر وخلايا ، وتشاهد العمليات التي تحدث بها ، وتقول : هذه حياة أرقى من حياتنا ، وأدق منها .
إذن فكل شيء له حياة ، إياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها ، فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه في الفرن لتصنع الجير؛ إياك أن تقول : إنك أذهبت من الأحجار الحياة المناسبة لها ، أنت فقط قد حولت مهمتها من حجر صلب ، وصارت لها مهمة أخرى ، فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل شيء في الوجود حياة تناسب المهمة التي يصلح لها .
(1/694)

وانظر إلى مهمة الحق ، ما شكلها؟ إنها الحياة العليا ، وهو الحي الأعلى وحي لا تُسلب منه الحياة ، لأن أحدا لم يعطه الحياة ، بل حياته سبحانه ذاتية ، فهذا هو الحي على إطلاقه .
إذن فالحي على إطلاقه هو الله والحق سبحانه وتعالى قال : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي } وأثر صفة هذه موجود في كل الصفات الأخرى فقال : { القيوم } . والقيوم هو صفة مبالغة في قائم . ومثلها قولنا : " الله غفور " لكن ألا يوجد غافر؟ يوجد غافر ، لكن " غفور " هي صفة مبالغة .
وقد يقول قائل : هل صفات الله فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟ . نقول : لا ، فصفات الله لا يصح أن توصف بالضعف أو بالقوة ، صفات الله نظام واحد . وحتى نفهم ذلك فنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نقول : كلنا نأكل كي نستبقي حياتنا ، فكل واحد منا " آكل " ، لكن عندما نقول : فلان أكول ، فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الأكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها فنقول عليه : " أكّال " أو " أكول " .
من أي ناحية تأتي هذه الزيادة؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفاً وهو يأكل رغيفين أو ثلاثة ، إذن فالحدث له في الأكل أثر كبير ، فنقول عليه : أكول . وقد يأكل معك رغيفا في الوجبة الواحدة ، لكنه يأكل خمس وجبات بدلا من ثلاث وجبات؛ فيكون أيضا أكولا ، إذن ف " أكول " إما مبالغة في الحدث نفسه وإما بتكرار الحدث .
ونحن ننظر إلى صفات الله ونقول : إنها لا تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث ، إنما في تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعاً ، فالله غافر لهذا ، وغافر لذاك ، وغافر لكل عاص يتوب ، إذن فالحدث يتكرر ، فيكون " غفوراً " وغفاراً " . وهذا ما يحل لنا الإشكال في كثير من الأمور ، فعندما يقول سبحانه : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ]
فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول : إنك إذا جئت بصيغة المبالغة ، وأثبتها ، تكون الصيغة الأخرى الأقل منها ثابتة بالضرورة ، مثال ذلك عندما نقول : فلان " علاّم " أو " عالم " ، فما دمت أثبت له الصفة القوية؛ تكون الصفة الضعيفة موجودة ، لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها قد تكون الصفة الأخرى موجودة ، فهو ليس " علامة " لكنه قد يكون " علاماً " أو عالما " ، فإذا قلت : فلان " علامة " فقد أثبت له الأدنى أيضاً ، فيكون " علاَّما " أو " عالما " . لكن إذا نفيت عنه " علامة " انتفى عنه الباقي؟ لا ، إذن فنفي الأكثر لا ينفي الأقل .
لكن إذا أُثبت الأكثر ثبت الأقل ، وإذا نفيت الأكثر فلن ينتفي الأقل ، فإذا قلت : الله ليس بظلام للعبيد ، نفيت الأكثر .
(1/695)

صحيح أنه غير مبالغ في الظلم ، فهل يمكن أن يكون ظالماً؟ على حسب ما قلنا : إذا نفينا الأكثر لا ينتفي الأقل نقول : لا ، لأننا هنا يجب أن نأخذ القضية الأولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث ، ومرة في تكرار الحدث؛ فيكون معاذ الله ظلاَّماً ، ولذلك لم يقل : بظلاّم للعبد ، بل قال : بظلاّم للعبيد .
إذن فهذا العبد يحتاج ظالماً ، والعبد الآخر يحتاج ظالماً ، وذاك يحتاج ظالماً! فعندما يظلم كل هؤلاء يكون ظلاماً ، ولذلك نفاها سبحانه وقال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
والحق هنا يقول : " قيوم " وهذه صفة مبالغة من قائم ، فالأصل فيها : القائم على أمر بيته ، والقائم على أمر رعيته ، والقائم على أمر المدرسة ، والقائم على أمر هذه الإدارة ، ومعنى قائم على أمرها : أنه متولي شئونها ، فكأن القيام هو مظهر الإشراف . فنحن لا نقول : " قاعد على إدارتها " . وعندما نقول " قيوم " فمعناها أنه أوسع في القيام . كيف جاء هذا الاتساع؟ . لأن القائم قد يكون قائماً بغيره ، لكن حين يكون قائما بذاته ، وغيره يستمد قيامه منه ، فهو قائم على كل نفس وهو سبحانه القائل : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الرعد : 33 ]
إن المشركين قد بلغو السفه في جحودهم فجعلوا لله شركاء في العبادة ، فهل يستطيع أحد أن يبلغ تلك المرتبة العالية ، مرتبة خلق العالم والقيام على كل أمر فيه ، صغر أو كبر؟ . إنه الحافظ المراقب لكل نفس ، العالم بكل ما خفي وظهر ، وهذه الأوثان لا تضر ولا تنفع ، فكيف تتوهمون يا من أشركتم بالله له نداً ، إن الحق مُنزه عن ذلك بقيامه على كل نفس وكل الخلق . لكن أهل الضلال أغواهم ضلالهم فلم يعد لهم هاد بعد الله .
إن الحق سبحانه قائم بذاته ، وقائم على غيره . والغير إن كان قائماً إنما يستمد منه القيام . فلابد أن يكون " قيوماً " ، ومن قيومته أنه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ، وقيل في كتب العلم : إن قوم بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام : أينام ربنا؟ .
فأوحى الله إليه : أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان ، ودعه إلى أن ينام ، ثم انظر الجواب . فلما وضع في يده الزجاجتين ونام . انكسرت الزجاجتان فقال : هو كذلك ، هو قائم على أمر السماء والأرض ، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتحطمت الدنيا .
وهو سبحانه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } . و " السنة " هي أول ما يأتي من النعاس؛ أي النوم الخفيف ، فالواحد منا يكون جالساً ثم يغفو ، لكن النوم هو " السُباتْ العميق " ، فلما قال : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } قالوا : إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟ .
(1/696)

فقال الحق عن نفسه : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } . وعرفنا أن السنة هي : النعاس الذي يأتي في أول النوم ، ومظهرها يبدو أولاً في العين وفي الجفن ، فعندما يذهب إنسان في النوم؛ فإن أثر ذلك يظهر في عينيه ، ولذلك يقولون : إن العين هي الجارحة التي يمكن أن تعرف بها أحوال الإنسان ، وقد اكتشفوا في عصرنا الحديث أن الشرايين لا يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إلا من العين . فالفتور الذي يأتي في العين أولاً هو السنة أو مقدمات النوم ونسميه : النعاس .
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } أتريدون تطميناً من إله لمألوه ، ومن معبود لعابد ، ومن خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق : " نم أنت ملء جفونك ، واسترح؛ لأن ربك لا ينام " . ماذا تريد أكثر من هذا؟ هو سبحانه يعلم أنه خلقك ، وأنك تحتاج إلى النوم ، وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك تعمل . أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟ أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ لا ، بل كل شيء في دولابك يقوم بعمله . فمن الذي يُشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟
إذن فأنت تنام وهو لا ينام . وبالله هل هذه عبودية تُذلنا أو تُعزنا؟ إنها عبودية تُعزنا؛ فالذي نعبده يقول : ناموا أنتم؛ لأنني لا تأخذني سنة ولا نوم . وإياك أن تفهم أنه لا تأخذه سنة ولا نوم ، وأن شيئا في كونه يخرج على مراده ، لا؛ لأن كل ما في السماوات والأرض له ، فلا شيء ولا أحد يخرج عن قدرته . ولذلك يقول الحق : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
ويتابع سبحانه بقوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } إنّه سبحانه وتعالى يوضح : أنا أعطيتك الراحة في الدنيا ، وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي ، ولم أجعل الأسباب تضن عليه ، وأعطيته مادام قد اجتهد في تلك الأسباب مما يدل على أنني ليس عندي محاباة ، قلت للأسباب : يا أسباب من يُحسنك يأخذك ولو كان كافراً بي . لكنه سيأتي يوم القيامة وليس للكافر إلا العذاب ، لأنه ما دام قد عمل في الدنيا وأحسن عملاً فقد أخذ جزاءه ، فإياكم أن تظنوا كما قالوا : " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " ، وجاء فيهم قول الحق : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 ]
إن هؤلاء الذين افتروا على الله بالشرك به ، واتخذوا أصناما باطلة لا تضرهم ولا تنفعهم .
(1/697)

يقولون عن هذه الأصنام : إنها تشفع لهم عند الله في الآخرة ، ويأمر الحق سبحانه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المشركين : قل لهم يا محمد : هل تخبرون الله بشريك لا يعلم الله له وجودا في السموات ولا في الأرض ، وهو الخالق لكل ما في السموات والأرض ومُنزه سبحانه عن أن يكون له شريك في الُملك .
لقد أرادوا أن يخلوا بقضية التوحيد ويجعلوا لله شركاء ويقولون : إن هؤلاء الشركاء هم الذين سيشفعون لنا عند الله . فيقول الحق سبحانه : إن الشفاعة لا يمكن أن تكون عندي إلا لمن أذنت له أن يشفع . إن الشفاعة ليست حقا لأحد . ولكنها عطاء من الله ، لذلك يقول : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } .
ويقول الحق : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } . ساعة يتعرض العلماء إلى : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } يشرحون لنا أن ما بين اليدين أي ما أمامك ، وما خلفك أي ما وراءك ، وما بين يدي الإنسان يكون : مواجها لآلة الإدراك الرائدة وهي العين ، فهو أمر يُشهد .
والذي في الخلف يكون غيباً لا يراه ، كأن ما بين اليد يراد به المشهود والذي في الخلف يراد به الغيب ، فهو { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي يعلم مشهدهم وغيبهم ، ويطلق " ما بين اليد " إطلاقا آخر . إننا قد نسأل عمّا بين يديك . هل هو مواجه لك أو غير مواجه؟ فلو كان أمامك بشر ، فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟
إنهم إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم ، ومن وراءك سيأتي من بعدك . أي أن الحق سبحانه يخبرنا أنه يعلم الماضي والمستقبل . فمرة يعلم الحق ما بين أيديهم ، أي العالم المشهود ويسمونه " عالم الملك " ، وما خلفهم أي الغيب ، ويسمونه " عالم الملكوت " . إنه يعلم المشهود لهم والخفي عنهم . وكما يقول الحق : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ]
إن عند الله علم جميع الغيب ويحيط علمه بكل شيء ، ولا تخفى عليه خافية . إنها إحاطة من كل ناحية . { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } . إنه الحق يعلم مطلق العلم . وكون الحق يعلم فإن ذلك لا ينفي أن يكون غيره يعلم أيضا ، لكن علم البشر هو بعض علم موهوب من الخالق لعباده .
فعندما يقول واحد : أنا أقول الشعر . فهل منع ذلك القول أحداً آخر من أن يقول الشعر؟ لا .
(1/698)

إنه لم يقل : ما يقول الشعر إلا أنا .
ويقول سبحانه : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } ، و " العلم " هو الصفة التي تعلم الأشياء على وفق ما هي عليه ، هذا هو العلم . وصفة الله وعلمه أعظم من أن يحاط بهم ، لأنها لو أحيطت لحددت ، وكمالات الله لا تحدد ، مثلما ترى شيئا يعجبك فتقول : هذه قدرة الله ، هل هي قدرة الله أو مقدور الله؟ إنها مقدور الله أي أثر القدرة ، فعندما يقول : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } أي من معلومه .
" ويحيطون " هي دقة في الأداء ، لأنك قد تدرك معلوما من جهة وتجهله من جهات ، فأوضح سبحانه : أنك لا تقدر أن تحيط بعلم الله أو قدرته؛ لأن معنى الإحاطة أنك تعرف كل شيء ، مثل المحيط على الدائرة ، لكن ذلك لا يمنع أن نعلم جزئية ما ، ونحن نعلم بما آتانا الله من قوانين الاستنباط ، فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج ، مثل الطالب الذي يحل مسألة جبر ، أو تمرين هندسة ، أيعلم هذه الطالب غيبا؟ لا ، ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة له ويصل إلى نتائج معروفة سلفا لأستاذه . وأنت لا تحيط بعلم إلا بما شاء لك الله أن تحيط ، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } .
وقول الله : { إِلاَّ بِمَا شَآءَ } هو إذن منه سبحانه بأنه سيتفضل على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا شيئا من معلومه ، وكان هذا المعلوم خفيا عنهم ومستورا في أسرار الكون ، ثم يأذن الله للسر أن ينكشف ، وكل شيء اكتشفه العقل البشري ، كان مطمورا في علم الغيب وكان سراً من أسرار الله ، وبعد ذلك أذن الله للسر أن ينكشف فعرفناه ، بمشيئته سبحانه . فكل سر في الكون له ميلاد كالإنسان تماما ، أي أن له ميعاداً يظهر فيه ، وهذا الميعاد يسمى مولد السر . لقد كان هذا السر موجودا وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه . لقد كنا نحن نستفيد على سبيل المثال من قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية ، وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها ، وهذا ما يبينه لنا الحق في موضع آخر من القرآن الكريم ، قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ]
ما دام قال سبحانه : { سَنُرِيهِمْ } ، فهذا يعني أنه سبحانه سيولد لنا أسراراً جديدة ، وهذا الميلاد إيجاداً وإنما هو إظهار ، ولذلك يقول الناس عن الأسرار العلمية : إنها اكتشافات جديدة ، لقد تأدبوا في القول مع أن كثيراً منهم غير متدينين ، قالوا : اكتشفنا كذا ، كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم لا يقصدون هذا الأدب . إنما هي جاءت كذلك ، أما المؤمنون فيقولون : لقد أذن الله لذلك السر أن يولد .
(1/699)

وقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } فيه تحد واضح . فحتى إذا اجتمع البشر مع بعضهم فلن يحيطوا بشيء إلا بإذنه . وهذا تحد للكل حين يشاء سبحانه أن يجد إظهار سر في الوجود ، فهذا السر يولد ، وقد يكون إظهار السر موافقا لبحث الناس مثل العالم الذي يجلس في معمله ليجرب في العناصر والتفاعلات ، ويهتدي لهذه وهذه ، إنه يتعب كثيرا كي يعرف بعضا من الأسرار ، ونحن لا ندري بتعبه وجهده إلا يوم أن يكشف سره .
لقد أخذ المقدمات التي وضعها الله في الكون حتى إذا تتبعناها نصل إلى سره ، مثلما نريد أن نصل إلى الولد فنتزوج حتى يأتي ، وقد يأذن الله مراراً كثيرة أن يولد السر بدون أن يشتغل الخلق بمقدماته ، لكن ميعاد ميلاد السر قد جاء ولم ينشغل العلماء بمقدماته؛ فيخرجه الله لأي مخترع كنتيجة لخطأ في تجربة ما .
وعندما نبحث في تاريخ معظم الاكتشافات نجدها كذلك ، لقد جاءت مصادفة ، فهناك عالم يبحث في مجال ما ، فتخرج له حقيقة أخرى كانت مخفية عنا جميعاً . لقد جاء ميعاد ميلادها على غير بحث من الخلق ، فجاء الله بها في طريق آخر لغيرها ، وفي بعض الأحيان يوفق الله عالما يبحث المقدمات ويكشف له السر الذي يبحث عنه .
إذن ، ف { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } تعني أن الإنسان قد يصادف السر بالبحث ، ومرة يأتي سر آخر في مجال البحث عن غيره ، فالله لا يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به ونسميها نحن مصادفة إن كل شيء يجري في الكون إنما يجري بمقدار ، وهذا هو الذي يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجوداً وله مقدمات في كون الله نستطيع أن نصل إليه بها ، وشيء مستور عند الله ليست له مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه من عنده تفضلا؛ من باب فضل الجود لا بذل المجهود وهو سبحانه يفيضه في " المصادفة " هنا ويفيضه فيما لا مقدمات له على بعض أصفيائه من خلقه ، ليعلم الناس جميعاً أن لله فيوضات على بعض عبيده الذين وَالاَهُمُ الله بمحبته وإشراقاته وتجليه .
لكن هل هذا يعني أن باستطاعتنا أن نعرف كل الغيب؟ لا ، فالغيب قسمان : غيب جعل الله له في كونه مقدمات ، إن استعملناها نصل إليه ، ككثير من الاكتشافات ، وإذا شاء الله أن يولد سر ما ولم نبحث عنه فهو يعطيه لنا " مصادفة " من باب فيض الجود لا بذل المجهود . ونوع آخر من الغيب ليست له مقدمات ، وهذا ما استأثر الله بعلمه إلا أنه قد يفيض به على بعض خلقه كما يقول سبحانه : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }
(1/700)

[ الجن : 26-27 ]
إن الله هو عالم الغيب فلا يُطلع أحدا من خلقه على غيبه إلا من ارتضاه واصطفاه من البشر ، لذلك فلا أحد يستطيع أن يتعلم هذا اللون من الغيب . ولذلك فلا يوجد من يفتح دكانا لعلم الغيب يذهب إليه الإنسان ليسأله عن الغيب . إن الحق يقول : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ]
وهو سبحانه لا يعطي المفتاح لأحد من خلقه . وقد يريد الله أن يعطي لواحد كرامة ، فأعطاه كلمة على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها! فيقول : من يسمح هذا القول وينتفع به . فلان قال لي : كذا وكذا . . يا سلام! وهذا فيض من الله على عبده حين يبين الله لنا أنه يوالي هؤلاء العباد الصالحين .
وقوله الحق : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ } نجد أن كلمة { بِشَيْءٍ } تعني أقل القليل . وقوله سبحانه : { مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } يعلمنا أن الحق فيما يتكلم به عن نفسه ولخلقه فيه نظائر ، كالوجود ، هو سبحانه موجود وأنت موجود ، كالغني هو غني وأنت غني ، كالعلم هو عالم وأنت تكون عالماً ، فهل نقول : إن الصفة لله كالصفة عندنا؟ لا ، كذلك كل ما يرد بالنسبة للغيب فيما يتعلق بالله إضافة أو وصفاً؛ لا تأخذها بالمناسب عندك؛ بل خذها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . فإذا قيل لله يد ، قل : هو له يد كما أن له وجوداً؛ وبما أن وجوده ليس كوجودي فيده ليست كيدي بل افهمها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، فإذا قال : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } نقول : هو قال هذا ، ومادام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . فلا تقل له كرسي وسيقعد عليه مثلنا ، لا . لقد وجدنا من قال : أين يوجد الله؟!! متى وجد؟!! وقلنا ونقول : " متى " و " أين " لا تأتي بالنسبة لله ، إنها تأتي بالنسبة لكم أنتم ، لماذا؟ لأن " متى " زمان و " أين " مكان . والزمان والمكان ظرفان للحدث ، فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان ، مثال ذلك أن أقول : " أنا شربت " ومادام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان ، لكن هب أنني لم أشرب ، أيكون هناك زمان أو مكان؟! لا ، فمادام الله ليس حدثاً فليس متعلقاً به زمان أو مكان ، لأن الزمان والمكان نشأ عندما خلق الله وأحدث هذا الكون ، فلا تقل : " متى " لأن " متى " خُلِقَت به ، ولا تقل " أين " لأن أين خُلِقَت به ولأن " متى " و " أين " ظرفان؛ هذه للزمان ، وهذه للمكان ، والزمان والمكان فرعا الحديث .
(1/701)

وعندما يوجد حدث فقل زمان ومكان .
إذن فما دام الله ليس حدثاً ، فإياك أن تقول فيه متى ، وإياك أن تقول فيه أين ، لأن " متى " و " أين " وليدة الحدث . وقوله الحق : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } نأخذه كما قلنا في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، الكرسي : في اللغة من الكِرْس . والكِرْسُ هو : التجميع ، ومنه الكراسة وهي عدة أوراق مجمعة ، وكلمة " كرسي " استعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يُبنى عليه الشيء ، فمادة " الكرسي " ( الكاف والراء والسين ) تدل على التجميع وتدل على الأساس الذي تثبت عليه الأشياء؛ فنقول : اصنع لهذا الجدار كرسيًّا ، أي ضع لهذا الجدار أساساً يقوم عليه . وتطلق أيضاً على القوم والعلماء الذين يقوم بهم الأمر فيما يشكل من الأحداث ، والشاعر العربي قال : " كراسي في الأحداث حين تنوب " أي يعتمد عليهم في الأمور الجسيمة .
وحين يُنسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى . فإن السلف لهم فيها كلام والخلف لهم فيها كلام ، والسلف يقولون : كما قال الله نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، وبعضهم قال : نؤولها بما يُثبت لها صفة من الصفات ، كما يثبتون قدرة الحق بقوله الحكيم : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ]
أي أن قدرة الله فوق قدرتهم ، وكما قال سبحانه عن قدرته في الخلق : { والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [ الذاريات : 47 ]
إن كمال قدرة الله أحكمت خلق السماء ، والحق سبحانه مقدس وَمُنَزَّهٌ عن أن يتصور المخلوق كلمة " يد " بالنسبة لله . ونحن نقول : الله قال ذلك ، ونأخذها من الله؛ لأنه أعلم بذاته وبنفسه ، ونُحيلها إلى ألاَّ يكون له شبيه أو نظير ، كما أثبتنا لله كثيراً من الصفات ، في خلق الله مثلها ومع ذلك نقول : علمه لا كعلمنا ، وبصره لا كبصرنا ، فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟ . فتكون في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
والعلماء قالوا عن الكرسي : إنه ما يُعتمد عليه ، فهل المقصود علمه؟ . نعم . وهل المقصود سلطانه وقدرته؟ . نعم ، لأن كلمة " كرسي " توحي بالجلوس فوقه ، والإنسان لا يجلس عن قيام إلا إذا استتب له الأمر ، ولذلك يسمونه " كرسي الملك "؛ لأن الأمر الذي يحتاج إلى قيام وحركة لا يجعلك تجلس على الكرسي ، فعندما تقعد على الكرسي ، فمعنى ذلك أن الأمر قد استتب ، إذن فهو بالنسبة لله السلطان ، والقهر ، والغلبة ، والقدرة .
أو نقول : مادام قال : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } فوسع الشيء أي : دخل في وسعه واحتماله . " والسماوات والأرض " نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا ، إنه سبحانه يقول : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ]
وعندما يقول : إن الكرسي وسع السماوات والأرض ، إذن ، فهو أعظم من السماوات والأرض أي دخل في وسعه السماوات والأرض .
(1/702)

ولذلك " يقول أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال : يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة . وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ) " .
والبشرية بكل ما وصلت له من إنجازات علمية قد وصلت إلى القمر فقط وهو مجرد ضاحية من ضواحي الأرض ، ومفصول عنا بمسافة تقاس بالثواني الضوئية ، ولقد تعودنا في حياتنا أن نستخدم وحدات الميل والكيلومتر لقياس الأطوال والأبعاد الكبيرة ، لكننا اكتشفنا أن هذه الوحدات ليست ذات نفع في قياس أبعاد النجوم؛ لأننا نعرف مثلا أن الشمس تبعد عن الأرض ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال ، ولكن عندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النجوم فلسوف نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الأصفار أمام رقم ما ، وهذا يجعل التعبير غير عملي ، ولهذا السبب وضع علماء الفلك وحدة ملائمة لقياس أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة الضوئية . ونحن نعرف أن سرعة الضوء حوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية . ولذلك فقياس أي مسافة بيننا وبين أي نجم في السماء أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة وكثيرة ودراسة علوم متعددة .
فالشمس بيننا وبينها ثلاثة وتسعون مليوناً من الأميال ويصلنا ضوؤها في خلال ثماني دقائق وثلث الدقيقة . والشعرى اليمانية وهي ألمع نجوم السماء يصل إلينا ضؤوها في تسع سنوات ضوئية .
إذن فالسنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الفلكية . ونحن نذهل عندما نعرف أن بعض النجوم يصل ضؤوها إلينا في خمسين سنة ضوئية!! كل ذلك ونحن لم نصل بعد إلى السماء الدنيا ، فما بالنا ببقية السماوات؟ إذن فحدود ملك الله فوق تصورنا . ولنا أن نعرف أي تكريم من الحق للمؤمنين حين يصور لنا ضخامة الجنة يقول سبحانه : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } [ الحديد : 21 ]
هذه هي الجنة التي أعدها الله للمؤمنين بالله ورسله الذين يسارعون إلى طلب غفران الله . فإذا كان عرض الجنة هو السماوات والأرض ، فما طولها إذن؟ وكم يكون بعدها؟ والعرض كما نعرف هو أقل البعدين .
إذن يجب أن نفهم أن هناك عوالم أخرى غير السماء والأرض ، لكن عيوننا لا تبصر فقط إلا ما أراده الحق لنا من السماء والأرض ، ولذلك فعندما نسمع قول الحق : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } فلنا أن نتخيل أي عظمة هي عظمة كرسي ذي الجلال والإكرام .
إن الحق يقول : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } ، ومعنى آده الشيء ، أي أثقله . وحتى نفهم ذلك هب أن إنساناً يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات ، فإن زدنا هذا الحمل إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه ، ويجعل عموده الفقري معوجاً حتى يستطيع أن يقاوم الثقل .
(1/703)

فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الأرض من فرط زيادة الوزن الثقيل .
إذن فمعنى { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي أنه لا يثقل على الله حفظ السماوات والأرض . إن السماء والأرض وهما فوق اتساع رؤية البشر؛ فقد وسعهما الكرسي الرباني . وقال بعض المفسرين : إذا كان الكرسي لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض فما بالنا بصاحب الكرسي!!؟
هاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يطمئنا فيقول : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ فاطر : 41 ]
إنه الحق وحده سبحانه وتعالى الذي يحفظ السماوات والأرض في توازن عجيب ومذهل ، ولئن قُدِّرَ لهما أن تزولا . فلن يحفظهما أحد بعد الله ، أي لا يستطيع أحد إمساكهما؛ فهما قائمتان بقدرة الواحد القهار ، وإذا أراد الله أن تزولا فلا يستطيع أحدٌ أن يمسكهما ويمنعهما من الزوال .
وإذا كانت هذه الأشياء الضخمة من صنع الله وهو فوقها ، فإنه عندما يصف نفسه بأنه " عليّ " و " عظيم " فذلك أمر طبيعي . إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا تذييلاً منطقياً يقتضيه ما تقدمت به الآية الجليلة : آية الكرسي ، إنه الحق يقول : { وَهُوَ العلي العظيم } وكلمة " عليّ " صيغة مبالغة في العلو . و " العليّ " هو الذي لا يوجد ما هو أعلى منه فكل شيء دونه .
هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لأن كلمة " الكرسي " هي الظاهرة فيها . وكلمة " الكرسي " فيها : تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات الحق جل وعلا .
إنه لا إله إلا هو . إنه الحي . إنه القيوم . إنه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .
والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه . وهو العليم بكل شيء ، الذي يسع كرسيه السماوات والأرض وهو العليّ فلا أعلى منه ، وهو العظيم بمطلق العظمة . وتتجمع كل هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة الإيمانية ، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة ، ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند الله . " فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إني محتاج ، وعليّ عيال ، ولي حاجة شديدة . قال : فخليت عنه ، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة : " ما فعل أسيرك البارحة "؟ قال : قلت يا رسول الله : شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته ، فخليت سبيله ، قال : " أما إنه كذبك وسيعود " فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود ، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج ، وعلي عيال لا أعود ، فرحمته وخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة : " ما فعل أسيرك "؟ فقلت يا رسول الله : شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال : " أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ، قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت : ما هي؟
قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " حتى تختم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فعل أسيرك البارحة "؟ قلت يا رسول الله : زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال : " ما هي " قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " ، وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا ( أي الصحابة ) أحرص شيء على تعلم الخير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما أنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال : لا ، قال صلى الله عليه وسلم : " ذاك الشيطان " " .
(1/704)

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه آية الكرسي " .
وعن أبي أمامه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ دبر كل صلاة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " .
وعن علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأها يعني آية الكرسي حين يأخذ مضجعه آمنه الله تعالى على داره ، ودار جاره ، وأهل دويرات حوله " .
كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الآية الكريمة ، وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه المسألة فقال واحد منهم : انظروا إلى أسماء الله الموجودة فيها .
وبالفعل قام أحد العلماء بحصر أسماء الله الحسنى فيها ، فوجد أن فيها ستة عشر اسماً من أسماء الله ، وبعضهم قال : إن بها سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى ، وبعضهم قال أن فيها واحداً وعشرين اسماً من أسماء الله ، كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء ، ويعلموا فضل وفضائل هذه الآية الكريمة .
(1/705)

والذين قالوا إن بها ستة عشر اسما من أسماء الله قالوا :
إن بها اسم علم واجب الوجود " الله " .
واسم " هو " في لا إله إلا هو : هو الاسم الثاني .
و " الحيّ " هو الاسم الثالث .
و " القيوم " هو الاسم الرابع .
وعندما ندقق في قول الحق " لا تأخذه سنة ولا نوم " نجد أن الضمير في " لا تأخذه عائد إلى ذاته جل شأنه . .
و " له ما في السماوات وما في الأرض " فيها ضمير عائد إلى ذاته سبحانه .
وكذلك الضمائر في قوله : " عنده " و " بإذنه " و " يعلم " و " من علمه " و " بما شاء " و " كرسيه " كلها تعود إلى ذاته جل شأنه .
و " لا يؤوده حفظهما " فيها ضمير عائد إلى ذاته كذلك .
و " هو " في قوله سبحانه " وهو العلي العظيم " اسم من أسمائه تعالى .
و " العلي " اسم من أسمائه جل وعلا .
و " العظيم " كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى .
لكنَّ عالماً آخر قال : إنها سبعة عشر اسماً من أسماء الله؛ لأنك لم تحسب الضمير في المصدر المشتق منه الفعل الموجود بقوله : " حفظهما " إن الضمير في " هما " يعود إلى السماوات والأرض . و " الحفظ " مصدر . فمن الذي يحفظ السماوات والأرض؟ إنه الله سبحانه وتعالى ، وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى في آية الكرسي .
وعالم ثالث قال : لا ، أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لأن في الآية الكريمة أسماء واضحة للحق جل وعلا ، وهناك أسماء مشتقة ، مثال ذلك :
الله لا إله إلا هو . الحي هو . القيوم هو . العلي هو . العظيم هو .
ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك : صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلاماً .
المهم أن في الآية الكريمة ستة عشر اسماً ، وإن حسبنا الضمير المستتر في " حفظهما " نجد أنها سبعة عشر اسماً ، وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل " الحي هو " و " القيوم هو " و " العلي هو " و " العظيم هو " . صارت أسماء الله الحسنى الموجودة في هذه الآية الكريمة واحداً وعشرين اسماً . إذن هي آية قد جمعت قدراً كبيرا من أسماء الله ، ومن ذلك جاءت عظمتها .
وهذه الآية الكريمة قد بيّنت ووضحت قواعد التصور الإيماني ، وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته .
(1/706)

والآية في ذاتها تتضمن حيثيات الإيمان ، إنه ما دام هو الله لا إله إلا هو ، وما دام هو الحيّ القيوم على أمر السماء والأرض ، وكل شيء بيده ، وهو العلي العظيم ، فكل هذه مبررات لأن نؤمن به سبحانه وتعالى ، وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات ، وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا الدين الذي كان أمر الألوهية المطلقة واضحاً وبيّناً فيه .
ولذلك فمن الطبيعي ألا يقهر الحق أحداً على الإيمان به إكراهاً ، لأن الذي يقهر أحداً على عقيدة ما ، هو أول مَنْ يعتقد أنه لولا الإكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد . ونحن في حياتنا اليومية نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على مبادئهم . وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة .
ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقداً أن مبدأه سليم لقال : أطرح هذا المبدأ على الناس ، وأترك لهم الخيار؛ لأنه في هذه الحالة سيكون واثقاً من مبدئه . أما الذي يقهر الناس إكراها بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما ، فهو أول من يشك في هذا المبدأ ، وهو أول من يعتقد أنه مبدأ باطل . مثل هؤلاء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم ينهزم ويسقط بنيانه .
والحق سبحانه وتعالى بعد ذلك يقول : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي . . . }
(1/707)

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا نحن العباد المؤمنين ولسائر البشرية أنه : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } . والإكراه هو أن تحمل الغير على فعل لا يرى هو خيراً في أن يفعله . أي لا يرى الشخص المكرَه فيه خيراً حتى يفعله .
ولكن هناك أشياء قد نفعلها مع من حولنا لصالحهم ، كأن نرغم الأبناء على المذاكرة ، وهذا أمر لصالح الأبناء ، وكأن نجبر الأطفال المرضى على تناول الدواء . ومثل هذه الأمور ليست إكراهاً ، إنما هي أمور نقوم بها لصالح من حولنا؛ لأن أحداً لا يسره أن يظل مريضاً .
إن الإكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الأفعال لا يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم . ولذلك يقول الحق سبحانه : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } . ومعنى هذه الآية أن الله لم يكره خلقه وهو خالقهم على دين ، وكان من الممكن أن الله يقهر الإنسان المختار ، كما قهر السماوات والأرض والحيوان والنبات والجماد ، ولا أحد يستطيع أن يعصى أمره . فيقول سبحانه : { لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } [ الرعد : 31 ]
لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محباً مختاراً وليس مقهوراً ، أن المجيء قهراً يثبت له القدرة ، ولا يثبت له المحبوبية ، لكن من يذهب له طواعية وهو قادر ألا يذهب فهذا دليل على الحب ، فيقول تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } أي أنا لم أضع مبدأ الإكراه ، وأنا لو شئت لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟ . لا ، إنّ الرسول جاء لينقل عن الله لا ليكره الناس ، وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين ، وإلا لو أكرههم لما أرسل الرسل ، ولذلك يقول المولى عز وجل : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ]
إن الرسول له مهمة البلاغ عن الله؛ لأن الله لم يرد خلقه مكرهين على التدين ، إذن فالمبلغ عنه لا يُكره خلقه على التدين ، إلا أن هنا لبساً . فهناك فرق بين القهر على الدين ، والقهر على مطلوب الدين ، هذا هو ما يحدث فيه الخلاف .
تقول لمسلم : لماذا لا تصلي؟ يقول لك : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، ويدعي أنه مثقف ، ويأتيك بهذه الآية ليلجمك بها ، فتقول له : لا . { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } عقيدة وإيماناً ، إنما إن آمنت وأعلنت أنك آمنت بالله وصرت معنا مسلماً فلا بد أن تعرف أنك إن كسرت حكماً من أحكام الإسلام نطلب منك أن تؤديه ، أنت حر أن تؤمن أو لا تؤمن ، لكن حين التزمت بالإيمان ، فعليك مسئولية تنفيذ مطلوب الإيمان ، وإلا حسب تصرفك أنه من تصرفات الإسلام ، فإذا كنت تشرب خمراً فإنك حر؛ لأنك كافر مثلاً ، لكن أتؤمن ثم تشرب خمراً!؟ لا .
(1/708)

أنت بذلك تكسر حداً من حدود الله ، وعليك العقاب .
ولأنك مادمت قد علمت كعاقل رشيد مطلوب الإسلام ، فعليك أن تنفذ مطلوب الإسلام ، ولذلك لم يكلف الله الإنسان قبل أن ينضج عقله بالبلوغ؛ حتى لا يقال : إن الله قد أخذ أحداً بالإيمان وألزمه به قبل أن يكتمل عقله . بل ترك التكليف حتى ينضج الإنسان ويكتمل ، حتى إذا دخل إلى دائرة التكليف عرف مطلوباته ، وهو حر أن يدخل إلى الإيمان أو لا يدخل ، لكن إن دخل سيُحاسب .
إذن فلا يقل أحد عندما يسمع حكماً من أحكام الدين : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ؛ لأن هذه الآية نزلت بشأن العقيدة الأساسية ، فإن اتبعت هذه العقيدة صار لزاماً عليك أن توفي بمطلوباتها . وقد أراد خصوم الإسلام أن يصعدوا هذه العملية فقالوا كذباً وافتراء : إن الإسلام انتشر بحد السيف .
ونقول لهم : لقد شاء الله أن ينشأ الإسلام ضعيفاً ويُضطهد السابقون إليه كل أنواع الاضطهاد ، ويُعذبون ، ويُخرجون من ديارهم ومن أموالهم ومن أهلهم ، ولا يستطيعون عمل شيء . إذن ففترة الضعف التي مرت بالإسلام أولا فترة مقصودة .
ونقول لهم أيضا : من الذي قهر وأجبر أول حامل للسيف أن يحمل السيف؟! والمسلمون ضعاف ومغلبون على أمرهم ، لا يقدرون على أن يحموا أنفسهم ، إنكم تقعون في المتناقضات عندما تقولون : إن الإسلام نُشِرَ بالسيف . ويتحدثون عن الجزية رفضاً لها ، فنقول : وما هي الجزية التي يأخذها الإسلام من غير المسلمين كضريبة للدفاع عنهم؟ لقد كان المسلمون يأخذون الجزية من البلاد التي دخلها الفتح الإسلامي ، أي أن هناك أناساً بقوا على دينهم . ومادام هناك أناس باقون على دينهم فهذا دليل على أن الإسلام لم يُكره أحداً .
وقول الله : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } علته أن الرشد واضح والغي واضح ، ومادام الأمر واضحا فلا يأتي الإكراه يأتي في وقت اللبس ، وليس هناك لبس ، لذلك يقول الحق : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } . ومادام الرشد بائنا من الغيّ فلا إكراه . لكن الله يعطيك الأدلة ، وأنت أيها الإنسان بعقلك يمكنك أن تختار ، كي تعرف أنك لو دخلت الدين لالتزمت ، وحوسبت على دخولك في الدين ، فلا تدخل إلا وأنت مؤمن واثق بأن ذلك هو الحق؛ لأنه سيترتب عليه أن تقبل أحكام الدين عليك .
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } والرشد : هو طريق النجاة ، و " الغي " : هو طريق الهلاك . ويقول الحق إيضاحاً للرشد والغي في آية أخرى من آيات القرآن الكريم : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }
(1/709)

[ الأعراف : 146 ]
إن الحق يعلمنا أن المتكبرين في الأرض بغير حق لن يستطيعوا الفوز برؤية آيات الله ودلائل قدرته ، وحتى إن رأوا السبيل الصحيح فلن يسيروا فيه ، وإن شاهدوا طريق الضلال سلكوا فيه لأنهم يكذبون بآيات الرحمن ويغفلون عنها . والغي أيضا هو ضلال الطريق ، فعندما يسير إنسان في الصحراء ويضل الطريق يقال عنه : " فلان قد غوى " أي فقد الاتجاه الصحيح في السير ، وقد يتعرض لمخاطر جمة كلقاء الوحوش وغير ذلك . ويوضح لنا الحق طريق الرشد بمنطوق آخر في قوله الحق : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن : 10 ]
إن الجن قد ظنوا كما ظن بعض من معشر الإنس أن الله لن يبعث أحداً بعد الموت أو لن يرسل رسولاً من البشر لهداية الكون . وقد طلب الجن بلوغ السماء فوجدوها قد مُلئت حرساً من الملائكة وشُهباً محرقة . وإن الجن لا يعلمون السر في حراسة السماء وهل في ذلك شَرٌّ بالبشر أو أراد الله بهم خيراً وهدى . إذن فالرُّشْد بضم الراء وتسكين الشين والرَشَد بفتح الراء وفتح الشين كلاهما يوضح الطريق الموصل للنجاة . ويقابل الرشد الغيّ .
ويتابع الحق : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أولا : نلحظ أن الحق هنا قد قدم الكفران بالطاغوت ، ثم جاء بالإيمان بالله؛ لأن الأمر يتطلب التخلية أولا والتحلية ثانيا ، لابد أن يتخلى الإنسان من الطاغوت فلا يدخل على أنه يؤمن بالله وفي قلبه الطاغوت ، فنحن قبل أن نكوي الثوب نغسله وننظفه ، والتخلية قبل التحلية .
وما هو " الطاغوت "؟ إنه من مادة " طغى " ، وكلمة " طاغوت " مبالغة في الطغيان . لم يقل : طاغ ، بل طاغوت ، مثل جبروت ، والطاغوت إما أن يطلق على الشيطان ، وإما أن يُطلق على من يعطون أنفسهم حق التشريع فيكَفِّرون وينسبون من يشاءون إلى الإيمان حسب أهوائهم ، ويعطون أشياء بسلطة زمنية من عندهم ، ويُطلق أيضاً على السحرة والدجالين ، ويُطلق على كل من طغى وتجاوز الحد في أي شيء ، فكلمة " طاغوت " مبالغة ، وقد تكون هذه المبالغة متعددة الألوان ، فمرة يكون الطاغي شيطانا ، ومرة يكون الطاغي كاهناً ، ومرة يكون ساحراً أو دجالاً ، ومرة يكون حاكماً .
ومادة " الطاغوت " تدل على أن الموصوف بها هو من تزيده الطاعة له طغياناً ، فعندما يجربك في حاجة صغيرة ، فتطيعه فيها فيزداد بتلك الطاعة طغيانا عليك . والحق سبحانه يقول : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ الزخرف : 54 ]
ويزيد في الأمر حتى يصير طاغية ، ولا يوجد أحد استهل عمله بالطغيان العالي ، إنما يبدأ الأمر خطوة خطوة ، كأي نظام ديكتاتوري قهري ، إنه يبدأ ب ( جس نبض ) فإن صبر الناس ، ازداد هذا النظام في القسوة حتى يصير طاغوتا ، إذن فالطاغوت هو الذي تستزيده الطاعة طغيانا ، وتُطلق على الشيطان؛ لأنه هو الأساس ، وعلى الذين يتكلمون باسم الدين للسلطة الزمنية ( سواء كانوا كهاناً أو غيرهم ) ، وتُطلق على الذين يسحرون ويدجلون ، لأنهم طغوا بما علموه؛ إنهم يستعملون أشياء يتعبون بها الناس ، وقد جاءت الكلمة هنا بصيغة المبالغة لاشتمالها على كل هذه المعاني ، وإذا استعرضنا الكلمة في القرآن نجد أن " الطاغوت " ترد مذكرة في بعض الأحيان ، وقد وردت مؤنثة في آية واحدة في القرآن :
(1/710)

{ والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى الله لَهُمُ البشرى فَبَشِّرْ عِبَادِ } [ الزمر : 17 ]
لقد أوضحت هذه الآية أنهم تركوا كل أنواع الطغيان وأصنافه ، أي إن الذين اجتنبوا الألوان المتعددة من الطغيان هم الذين يتجهون بالعبادة الخالصة لله ، ولهم البشرى . { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } وكلمة { استمسك } غير كلمة " مسك " . لأن { استمسك } تدل على أن فيه مجاهدة في المسك ، والذي يتدين يحتاج إلى مجاهدة في التدين؛ لأن الشيطان لن يتركه ، فلا يكفي أن تمسك ، بل عليك أن تستمسك ، كلما وسوس الشيطان لك بأمر فعليك أن تستمسك بالتدين ، هذا يدل على أن هناك مجاهدة وأخذاً وردّاً . { فَقَدِ استمسك بالعروة } والعروة هي العلاقة ، مثلما نقول : " عروة الدول " ، التي تمسكها منه ، وهذه عادة ما تكون مصنوعة من الحبل الملفوف المتين ، و " الوثقى " هي تأنيث " الأوثق " أي أمر موثوق به ، وقوله : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } ، قد يكون تشبيها بعروة الدلو لأن الإنسان يستخدم الدلو ليأتي بالماء ، وبالماء حياة البدن ، وبالدين حياة القيم .
{ فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } كأنه ساعة جاء بكلمة " عروة " يأتي بالدلو في بال الإنسان ، والدلو تأتي بالماء ، والماء به حياة البدن ، إذن فهذه تعطينا إيحاءات التصور واضحة ، { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } ، وما دامت " عروة وثقى " التي هي الدين والإيمان بالله ، وما دامت هي الدين وحبل الله فهذه وثقى ، وما دامت " وثقى " فلا انفصام لها ، وعلينا أن نعرف أن فيه انفصاماً . وفيه انفصام الأول بالفاء والثاني بالقاف .
الانفصام : يمنع الاتصال الداخلي؛ مثلما تنكسر اليد لكنها تظل معلقة ، والانقصام : أن يذهب كل جزء بعيداً عن الآخر أي فيه بينونة ، والحق يقول : { لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } توحي بأن عملية الطاغوت ستكون دائماً وسوسة ، وهذه الوسوسة هي : الصوت الذي يُغري بالكلام المعسول ، ولذلك أخذت كلمة " وسوسة الشيطان " من وسوسة الحُليّ ، ووسوسة الذهب هي رنين الذهب ، أي وسوسة مغرية مثل وسوسة الشيطان ، والله عليم بكل أمر . ويقول الحق بعد ذلك : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور . . . }
(1/711)

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
إن الله وليّ الذين آمنوا ما دام { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } وكأن الحق يشرح ذلك بهذه الآية ، فما دام العبد سيتصل بالعروة الوثقى ويستمسك بها ، وهذه ليست لها انفصام فقد صارت ولايته لله ، وكلمة " وليّ " إذا سمعتها هي من " وَلِيَ " أي : جاء الشيء بعد الشيء من غير فاصل؛ هذا يليه هذا ، وما دام يليه من غير فاصل فهو الأقرب له ، وما دام هو الأقرب له إذن فهو أول من يفزع لينقذ ، فقد يسير معي إنسان فإذا التوت قدمي أناديه؛ لأنه الأقرب مني ، وهو الذي سينجدني .
فلا يوجد فاصل ، وما دام لا يوجد فاصل فهو أول من تناديه ، وأول من يفزع إليك بدون أن تصرخ له؛ لأن من معك لا تقل له : خذ بيدي ، إنه من نفسه يأخذ بيدك بلا شعور ، إذن فكلمة { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } إذا نظرت إليها وجدتها تنسجم أيضا مع { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، فلا يريدك أن تناديه؛ لأن هناك من تصرخ عليه لينجدك ، وهو لن تصرخ عليه؛ لأنه سميع وعليم ، { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } .
وكلمة " وليّ " أيضا منها ( مولى ) ومنها ( وال ) ، { وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } أي هو الذي يتولى شئونهم وأمورهم ، كما تقول : الوالي الذي تولى أمر الرعية ، وكلمة " مولى " مرة تطلق على السيد ، ومرة تطلق على خادمه ، ولذلك يقول الشاعر :
مولاك يا مولاي طالب حاجة ... أي عبدك يا سيدي طال بحاجة ، فهي تستعمل في معان مترابطة؛ لأننا قلنا : " وَلِيّ " تعني القريب ، فإذا كان العبد في حاجة إلى شيء فمن أول من ينصره؟ سيده ، وإذا نادى السيد ، فمن أول مجيب له؟ إنه خادمه ، إذن فيُطلق على السيد ويُطلق على العبد ، ويُطلق على الوالي ، { اللهُ وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } . وقوله الحق : { الذين آمَنُواْ } يعني جماعة فيها أفراد كثيرة ، كأنه يريد من الذين آمنوا أن يجعلوا إيمانهم شيئا واحداً ، وليسوا متعددين ، أو أن ولاية الله لكل فرد على حدة تكون ولاية لجميع المؤمنين ، وما داموا مؤمنين فلا تضارب في الولايات؛ لأنهم كلهم صادرون وفاعلون عن إيمان واحد ، ومنهج واحد ، وعن قول واحد ، وعن فعل واحد ، وعن حركة واحدة .
وكيف يكون { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } ؟ إنه وليهم أي ناصرهم . ومحبهم ومجيبهم ومعينهم ، هو وليهم بما أوضح لهم من الأدلة على الإيمان ، هل هناك حُب أكثر من هذا؟ هل تركنا لنبحث عن الأدلة أو أنه لفتنا إلى الأدلة؟
وتلك هي ولاية من ولايات الله . فقبل أن نؤمن أوجد لنا الأدلة ، وعندما آمنا وَالانَا بالمعونة ، وإن حاربنا خصومنا يكن معنا ، وبعد ذلك تستمر الولاية إلى أن يعطينا الجزاء الأوفى في الآخرة ، إذن فهو وليّ في كل المراحل ، بالأدلة قبل الإيمان ولي .
(1/712)

ومع الإيمان استصحاباً يكون ناصرنا على خصومنا وخصومه . وفي الآخرة هو وليّنا بالمحبة والعطاء ويعطينا عطاءً غير محدود ، إذن فولايته لا تنتهي .
{ الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } إنه سبحانه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان؛ لأن الظلمات عادة تنطمس فيها المرائي ، فلا يمكن أن ترى شيئاً إلا إذا كان هناك ضوء يبعث لك من المرئي أي أشعة تصل إليك ، فإن كانت هناك ظلمة فمعنى ذلك أنه لا يأتي من الأشياء أشعة فلا تراها ، وعندما يأتي النور فأنت تستبين الأشياء ، هذه في الأمور المُحسَّة؛ وكذلك في مسائل القيم ، { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } .
هل هم دخلوا النور يا ربنا؟ لنا أن نفهم أن المقصود هنا هم المرتدون الذين وسوس لهم الشيطان فأدخلهم في ظلمات الكفر بعد أن كانوا مؤمنين ، أو { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } ، أي يحولون بينهم وبين النور فيمنعونهم من الإيمان كما يقول واحد :
أما دريت أن أبي أخرجني من ميراثه؟ إن معنى ذلك أنه كان له الحق في التوريث ، وأخرجه والده من الميراث . وهذا ينطبق على الذين تركوا الإيمان ، وفضلوا الظلمات . والقرآن يوضح أمر الخروج من الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان في مواقع أخرى ، كقول سيدنا يوسف للشابين اللذين كانا معه في السجن : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } [ يوسف : 36-37 ]
فهل كان سيدنا يوسف في ملة القوم الكافرين ثم تركها؟ لا ، إنه لم يدخل أساساً إلى ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله . إن هذه الملة كانت أمامه ، لكنه تركها ورفض الدخول فيها وتمسك بملة إبراهيم عليه السلام . وفي التعبير ما فيه من تأكيد حرية الاختيار . وهناك آية أخرى يقول فيها الحق : { والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ النحل : 70 ]
إن معنى الآية أن الله قد خلقنا جميعاً ، وقدر لكل منا أجلاً ، فمنا من يموت صغيراً ، ومنا من يبلغ أرذل العمر ، فيعود إلى الضعف وتقل خلايا نشاطه فلا يعلم ما كان يعلمه . وليس معنى الآية أن الإنسان يوجد في أرذل العمر ثم يرد إلى الطفولة .
وعندما يقول الحق : { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } فالحق أورد هنا كلمة أولياء عن الطاغوت ، لأن الطاغوت كما قلنا : ألوان متعددة ، الشيطان طاغوت ، والدجال طاغوت ، والساحر طاغوت .
(1/713)

وجاء الحق بالخبر مفرداً وهو الطاغوت لمبتدأ جمع وهو أولياء ، ووصف هؤلاء الأولياء للطاغوت بأنهم يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات .
لقد أفرد الله الطاغوت وأورد بالجمع الأفراد الذين ينقلهم الطاغوت إلى الظلمات . ولماذا لم يقل الله هنا : " طواغيت " بدلا من طاغوت؟ إن الطاغوت كلمة تتم معاملتها هنا كما نقول : " فلان عدل " أو " الرجلان عدل " أو " الرجال عدل " . وعلى هذا القياس جاءت كلمة طاغوت ، فالشيطان والدجال والكاهن والساحر والحاكم بغير أمر الله؛ كلهم طاغوت ، لقد التزمت الآية بالإفراد والتذكير . فالطاغوت تُطلق على الواحد أو الاثنين أو الجماعة ، أي أن المُخرجين من النور إلى الظلمات هم أولياء الطاغوت ، أو من اتخذوا الطواغيت أولياء ، وهم إلى النار خالدون . والدخول للنار يكون للطواغيت ويكون لأتباع الطواغيت ، كما يقول الحق في كتابه : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ]
إن أتباع الطواغيت ، والطواغيت في نار جهنم . وقانا الله وإياكم عذابها . ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة واقعية في الكون من قوله : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } ، فهو الولي ، وهو الناصر فيقول سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك . . . }
(1/714)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
وساعة تسمع { أَلَمْ تَرَ } ؛ فأنت تعلم أنها مكونة من همزة هي " أ " وحرف نفي وهو " لم " ، ومنفي هو " تر " والهمزة : تأتي هنا للإنكار ، والإنكار نفي بتقريع ، ولكنها لم تدخل على فعل مثبت حتى يقال : إنها أنكرت الفعل بعدها ، مثلما تقول للولد : أتضرب أباك! هنا الهمزة جاءت لا لتستفهم وإنما أتت تنكر هذه الفعلة ، لأن الفعل بعدها مثبت وهو " تضرب " ، وجاءت الهمزة قبله فتسمى " همزة إنكار " للتقريع . إذن فالإنكار : نفي بتقريع إذا دخلت على فعل منفي .
وما دام الإنكار نفيا والفعل بعدها منفيٌ فكأنك نفيت النفي ، إذن فقد أثبته ، كأنه سبحانه عندما يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَرَ } فالمقصود " أنت رأيت " . ولماذا لم يقل له : أرأيت؟ لقد جاء بها بأسلوب النفي كي تكون أوقع ، فقد يكون مجيء الإثبات تلقيناً للمسئول ، فعندما يقول لك صديق : أنت لم تسأل عني وأنت تهملني . فأنت قد ترد عليه قائلا : ألم أساعدك وأنت ضعيف؟ ألم آخذ بيدك وأنت مريض؟
لقد سبق أن قدمت خدماتك لهذا الصديق ، ولكنك تريد أن تنكر النفي الذي يقوله هو ، وهكذا نعلم أن نفي النفي إثبات ، ولذلك فنحن نأخذ من قوله تعالى من هذه العبارة { أَلَمْ تَرَ } على معنى : أنت رأيت ، والرؤية تكون بالعين . فهل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المخاطب الأول بالقرآن الكريم من ربه هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة أيام إبراهيم؟ طبعاً لا ، فكأن { أَلَمْ تَرَ } هنا تأتي بمعنى : ألم تعلم .
ولماذا جاء ب { أَلَمْ تَرَ } هنا؟ لقد جاء بها لنعلم أن الله حين يقول : " ألم تعلم " فكأنك ترى ما يخبرك به ، وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك . فالعين هي حاسة من حواسك ، والحاسة قد تخدع ، ولكن ربك لا يخدع ، إذن ف { أَلَمْ تَرَ } تعني : " ألم تعلم علم اليقين " ، وكأنك قد رأيت ما يخبرك به الله ، ولذلك يقول تعالى للرسول : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ]
والرسول ولد عام الفيل ، فلم ير هذه الحادثة ، وكأن الله يخبره بها ويقول له : ألم تعلم ، وكأنه يقول له : اعلم علماً يقينا كأنك تراه؛ لأن ربك أوثق من عينيك ، وعندما يقال : { أَلَمْ تَرَ } فالمراد بها " ألم تر كذا " ، لكن الحق قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } واستعمال حرف { إِلَى } هنا يشير إلى أمر عجيب قد حدث ومثال ذلك ما نقوله أحيانا : ألم تر إلى زيد يفعل كذا .
(1/715)

فكأن ما فعله زيد أمر عجيب ، وكأنه ينبه هنا إلى الالتفات إلى نهاية الأمر ، لأن " إلى " تفيد الوصول إلى غاية ، فكأنها مسألة بلغت الغاية في العجب ، فلا تأخذها كأنك رأيتها فقط ، ولكن انظر إلى نهايتها فيما حدث .
والحق يقول هنا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } و { إِلَى } جاءت هنا لتدل على أنه أمر بلغ من العجب غاية بعيدة ، وهو بالفعل قد بلغ من العجب غاية بعيدة ، والحق سبحانه وتعالى لم يقل لنا من هو ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم في ربه ، لأنه لا يعنينا التشخيص سواءً كان النمروذ أو غيره .
فإذا ذهب بعض المفسرون إلى القول : إنه ملك واسمه النمروذ . فإننا نقول لهم شكراً لاجتهادكم ، ولكن لو شاء الله تحديد اسم الرجل لحدده لنا ، والذي يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول الله إبراهيم عليه السلام وجادله في هذه المسألة ، والتشخيص هنا ليس ضرورياً ، والحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع الأمر وإمكان حدوثه في أي زمان أو مكان فإن الله لا يشخص الأمر ، فأي إنسان في أي مكان قد يحاجج أي مؤمن . وليس كذلك الأمر بالنسبة لأي تشخيص أو تحديد ، ومثال ذلك هؤلاء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف ، ويتساءلون : أين ومتى ، وكم عددهم ، ومن هم؟
ونقول : لو جاءت واحدة من هؤلاء لفسدت القصة؛ لأنه لو حددنا زمانها سيأتي واحد يقول لك : مثل ذلك الزمان الذي حدثت فيه القصة كان يسمح بها . ولو حددنا المكان سيقول آخر : إن المكان كان يسمح بهذه المسألة . ولو حددنا الأشخاص بأسمائهم فلان وفلان ، فسيقول ثالث : إن مثل هذه الشخصيات يمكن أن يصدر منها مثل هذا السلوك وأنَّى لنا بقوة إيمان هؤلاء؟
والحق لم يحدد الزمان والمكان والأشخاص وجاء بها مبهمة ليدل على أن أي فتية في أي زمان وفي أي مكان يقولون ما يقولون ، ولو شخصها في واحد لفسد المراد . للنظر إلى دقة الحق حين ضرب مثلا للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط حين قال جل وعلا : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } [ التحريم : 10 ]
ولم يحدد لنا اسم امرأة من هاتين المرأتين ، بل ذكر الأمر المهم فقط؛ وهو أن كلا منهما زوجة لرسول كريم ، ولكن كلا منهما أصرت على الكفر فدخلتا النار . ولكن الحق سبحانه وتعالى حين أراد التخصيص بحادث لن يتكرر في أي زمان أو مكان جاء بذكر السيدة مريم بالتشخيص والتحديد الواضح حين قال : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ]
تحديد الحق لمريم بالاسم والحادث لماذا؟ لأن الواقعة غير قابلة للتكرار من أيَّةِ امرأة أخرى .
(1/716)

التشخيص هنا واجب؛ لأنه لن تلد امرأة من غير زوج إلا هذه ، إنما إذا كانت المسألة ستتكرر في أي زمان أو مكان فهو سبحانه يأتي بوصفها العام ، ومثال ذلك قول الحق : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إبراهم } فلم يقل لنا : من هو؟ " حاجَّ " أصلها " حاجج " ، مثل " قاتل " و " شارك " . وعندما يكون هناك حرفان مثلان ، فنحن نسكن الأول وندغم الثاني فيه وذلك للتخفيف ، فتصير ( حاج ) ، و " حاج " من مادة " فاعل " التي تأتي للمشاركة ، وحتى نفهم معنى " المشاركة " . إليكم هذا المثال :
نحن نقول : قاتل زيد عَمراً ، أو نقول : قاتل عمرو زيداً ، ومعنى ذلك أن كُلاًّ منهما قد تقاتل ، وكلاهما فاعل ومفعول في الوقت نفسه ، لكننا غلبنا جانب الفاعل في واحد ، وجانب المفعول في الثاني . برغم أن كلا منهما فاعل ومفعول معا .
ومثال آخر ، حين نقول : شارك زيد عمراً ، وشارك عمرو زيداً ، إذن فالمفاعلة جاءت من الاثنين ، هذا فاعل وهذا مفعول ، لكننا عادة نُغلب الفاعلية فيمن بدأ ، والمفعولية في الثاني ، وإن كان الثاني فاعلا أيضا . ولذلك يقول الشاعر عندما يريد أن يشرح حال إنسان يمشي في مكان فيه حيات كثيرة ومتحرزاً من أن حية تلدغه فقال :
قد سالم الحيات منه القدم ... الأفعوان والشجاع القشعما
إن الشاعر هنا يصف لنا إنساناً سار في مكان مليء بالحيات ، وعادة ما يخاف الإنسان أن تلدغه حية ، لكن هذا الإنسان الموصوف في هذا البيت نجد أن الحيات قد سالمت قدمه ، أي لم تلدغه لأنه لم يَهِجْها ، والثعابين عادة لا تلدغ إلا من يبدأها بالإهاجة ، نجد هنا أن الفاعل هو الحيات؛ لأنها سالمت قدمه . ويصح أيضا أن نقول : إن القدم هي التي سالمت الحيات .
ونحن نعرف من قواعد اللغة ما درسناه قديما ما يسمى بالبدل ، والبدل يأخذ حكم المبدل منه ، فإن كان المبدل منه مجروراً كان البدل كذلك . هنا جاءت " الحيات " في هذا البيت من الشعر مرفوعة ولكن الأفعوانَ جاءت في البيت منصوبة مع أنها بدل من مرفوع هو " الحيات " لأنه لاحظ ما فيها أيضاً من المفعولية فأتى بها منصوبة . كما أن بالإمكان أن تُقرأ " الحيات " بالنصب و " القدم " بالرفع لأن كلا منهما فاعل ومفعول من حيث المسالمة .
وكذلك في قول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إبراهم } نحن نلاحظ أن كلمة { إبراهم } تأتي في الآية الكريمة منصوبة بالفتحة ، أي يغلب عليها المفعولية . فمن إذن الذي حاجّ إبراهيم؟ إنه شخص ما ، وهو الفاعل؛ لأنه الذي بدأ بالمحاجّة ، وهكذا تدلنا الآية الكريمة ، وتصف الآية ذلك الرجل { أَنْ آتَاهُ الله الملك } أي أن الرجل هو الذي بدأ الحجاج قائلا لإبراهيم : من ربك؟
فقال إبراهيم عليه السلام : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } وهذه هي براعة القرآن في أن يترك الشيء ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى أصله ، فقوله الحق : { إِذْ قَالَ إبراهم رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } فكأن الذي حاج إبراهيم سأله : من ربك؟ فقال إبراهيم : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
(1/717)

ولنا أن نلحظ أن هذه الآية قد جاءت بعد قوله الحق في الآية السابقة : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } ، والولاية هي النصر والمحبة والمعونة ، فيريد سبحانه أن يبين لنا كيف أعان الله إبراهيم على من حاجه ، إلا أن الذي حاج إبراهيم دخل في متاهات السفسطة بعد أن سمع قول إبراهيم : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، وقد جاء الحق ب { يُحْيِي وَيُمِيتُ } ؛ لأن تلك القضية هي التي لم يدَّعِ أحد أنه فعلها ، ولم يدَّع أحد أنه شريك فيها ، حتى الكافرون إذا سألتهم : من الذي خلق؟ يقولون الله .
إذن فهذه قضية ثابتة . إلا أن الخصم الذي حاجّ إبراهيم أراد أن ينقل المحاجة نقلة سفسطائية . والسفسطة كما نعلم هي الكلام الذي يطيل الجدل بلا نهاية .
وقال الرجل الذي يحاج إبراهيم عليه السلام : إذا كان ربك الذي يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت .
فسأله إبراهيم عليه السلام؛ كيف تحيي أنت وتميت؟
قال الرجل : أنا أقدر أن أقتل ما عندي من مساجين وأقدر ألا أقتلهم ، فالذي لم أقتله كأنني أحييته ، والذي قتلته فقد أمته .
ولم يقل سيدنا إبراهيم لنتفق أولا ما الحياة؟ وما الموت؟ ذلك أن إبراهيم خليل الرحمن لم يشأ أن يطيل هذه المجادلة ، فجاء له بأمر يُلجمه من البداية وينتهي الجدل ، فقال له : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } . وهكذا أنهى سيدنا إبراهيم هذا الجدل . كان من الممكن أن يدخل معه سيدنا إبراهيم في جدل ، ويقول له : ما هي الحياة؟
ونحن نعرف أن الحياة هي إعطاء المادة ما يجعلها متحركة حساسة مريدة مختارة ، أما الموت فهو إخراج الروح من الجسد ، فالذي يقتل إنساناً؛ إنما يخرج روحه من جسده ، والقتل يختلف عن الموت؛ لأن الموت خروج الروح من الجسد بدون جرح ، أو نقض بنية ، أو عمل يفعله الإنسان في بدنه كالانتحار .
وقد يكون الإنسان جالساً مكانه وينتهي عمره فيموت ، ولا أحد قادر قبل ذلك أن يقول له : مت فيموت ، هذا هو الموت ، لكن إزهاق الروح بجرح جسيم أو نقض بنية فهذا هو القتل وليس الموت ، ولذلك يجعل الله القتل مقابلاً للموت ، في قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين }
(1/718)

[ آل عمران : 144-145 ]
وقد أوضح لنا الله سبحانه وتعالى الفرق بين الموت والقتل ، وجعل كلا منهما مقابلاً للآخر ، فعندما أشيع أن رسول الله قد قتل ، هَمَّ بعض المسلمين بالارتداد إلى الكفر ، فأنكر الله عليهم ذلك قائلاً : إن محمداً رسول من عند الله قد مات من قبله المرسلون أفإن مات أو قتل رجعتم عن الإيمان للكفر ، ومَنْ يفعل ذلك فإنما يضر نفسه ، والثواب عند الله للثابتين على منهج الله الشاكرين لنعمه ، أوضح لنا الحق أن موت أي إنسان لا يمكن أن يحدث إلا بإذن الله ، وقد كتب الله ذلك في كتاب مشتمل على الآجال .
ويريد الله أن يُنبهنا ويُلفتنا إلى حقيقة هامة وهي أن الرسل في جدلهم مع أممهم أو مع المناقشين لهم لا يكون الهدف أنّ النبي يظفر بالغلبة وإنما يكون الهدف بالنسبة للرسول أو النبي أن يصل إلى الحقيقة ، ولذلك لم يتوقف إبراهيم عليه السلام مع الرجل الذي يحاجّه في الله عند نقطة الإحياء والإماتة؛ لأنه رأى في مناقشة الرجل لونا من السفسطة .
وعلينا ونحن نتدبر آيات القرآن بالخواطر الإيمانية أن نفهم الفرق بين الإماتة والقتل . الصحيح أن الإماتة والقتل يشتركان في أمر واحد وهو خروج الروح من الجسد . والإماتة تختلف عن القتل بأنه لا يقدر عليها إلا واهب الحياة الذي وضع مقومات خاصة في البنية الإنسانية حتى تسكنها الروح ، وهو القادر على أن يسلب الروح بأمر غير مُحس .
أما القتل فهو أن تجرح إنساناً فيموت ، أو تنقض بنيته ، تكسر له رأسه مثلاً ، أما " الإماتة " فهي أن تنقبض حياته بمجرد الأمر دون أن تقربه ، هل أحد من البشر يقدر على هذه؟ لا . إذن فالذي حاج إبراهيم لم يحي الذي قال : إنه سيتركه بدون عقوبة ، إنه لم يقتله ، لكنه أبقى الحياة التي كانت فيه ، هذا إذا أردنا أن ندخل في جدل .
والله قد جعل القتل مقابلاً للموت ، صحيح أنهما ينتهيان بأن لا روح ، لكنْ هناك فرق بين أن تؤخذ الروح بدون هذه الوسائل . وأن تترك الروحُ البدنَ لأن بنيته قد تهدمت . وإياك أن تظن أن الروح لا تخضع لقوانين معينة ، إن الروح لا تحل إلا في مادة خاصة ، فإذا انتهت المقومات الخاصة في المادية فالروح لا تسكنها ، فلا تقل : إنه عندما ضربه على رأسه أماته! لا ، هو لم يخرج الروح لأن الروح بمجرد ما انتهت البنية تختفي .
والمثال الذي يوضح ذلك : لنفترض أن أمامنا نوراً ، إذا كسرت الزجاجة يذهب النور . هل الزجاجة هي النور؟ لا ، لكن الكهرباء لا تظهر إلا في هذه الزجاجة ، كذلك الروح لا توجد إلا في بنية لها مواصفات خاصة ، إذن فالقاتل لا يخرج الروح ولكنه يهدم البنية بأمر محس؛ فالأمر الغيبي وهو الروح لا يسكن في بنية مهدومة .
(1/719)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك } ، انظر إلى الطغيان أتجعل إيتاء الملْكُ وهو نعمة وسيلة إلى التمرد على من أنعم عليك بهذا؟ أتجعل شكر النعمة بأنك تخالف المنعم؟ من الذي أبطره؟ أأبطره أن آتاه الله الملك؟ وكيف يعين الله واحداً ليس مؤمنا به؟ والمُلْكُ بمعنى الأمر والنهي إنما يكون للمبلغ عن الله ، إنما الملك الآخر مُلْكُ السلطان بأن يُحَكِّمَ إنسانا على جماعة ، فمن الجائز أن يكون مؤمنا ، وأن يكون كافراً .
وقوله { أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } هو جواب على من قال : " من ربك " فجاءته إجابة إبراهيم عليه السلام { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } وعرفنا ما في هذا الأمر من سفسطة ، فلم يقل له إبراهيم : أأنت تُحيي وتميت ، بل ينقله إلى أمر آخر ، كأنه قد قال له : اترك الأمر الغيبي وهو الروح ، وتعالى للأمر المشهود { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } .
ولأن الله ولي الذي آمنوا فهو سبحانه لم يلهم المحاج أن يَرُدّ؛ كان يستطيع أن يقول له : اجعل من يأتي بها من المشرق يأتِ بها من المغرب ، لكنه لم يقلها! مما يدل على أنه غبي! أو يكون ذكيا فيقول : إن الرب الذي معه بهذا الشكل قد يفعلها ، فخاف . إذن ف { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } حقا . وهو سبحانه { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } . وما معنى كلمة " بُهِتَ "؟ إن البهت يأخذ ثلاث صور : الصورة الأولى : الدهشة؛ نَقَله فيما يمكن أن تحدث فيه مماحكة إلى مالا تحدث فيه مماحكة وجدال ، أراد أن يجد أمراً يرد به فلم يقدر ، مثلما قال : أنا أحيي وأميت ، لقد هش ، وأول ما فاجأه هو الدهش ، ثم كان التحيّر ، أراد أن يجد أي مخرج من هذه الورطة فلم يجد ، إذن فقد هُزم . فهذه هي نهاية البَهت . ف " بُهت " تعني أنه دهش أولا ، فتحير في أن يرد ثانيا ، فكان نتيجة ذلك أنه هُزم ثالثا ، وهذا أمر ليس بعجيب؛ لأنه مادام كافراً فليس له ولي ، أو وليه من لا يقدر { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } ، أما إبراهيم خليل الرحمن فوليه الله .
ويختم الحق الآية بقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } لا يهديهم إلى برهان ، ولا إلى دليل ، ولا إلى حجة ، لأن وليهم الشيطان ، { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } والآية التي تأتي من بعد ذلك كلها ستتدخل في الحياة والموت ، ومن المهم أن الآية تدخل في الحياة والموت كي لا نفهم أن إبراهيم إنما ترك المحاجة مع ذلك الذي حاجّه في أمر الموت والحياة هربا من الكلام فيها ، لذلك يريد الله أن يستوفي تلك القضية استيفاء في قصص متعددة ، ويبسط الحق القضية التي عدل عنها إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا . . . }
(1/720)

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ ب " أو " ، وما بعد " أو " يكون معطوفاً على ما قبلها ، فكأن الحق يريد أن يقول لنا : أو ( أَلَمْ تَرَ ) إلى مثل الذي مر على قرية .
وعندما تسمع كلمة { قَرْيَةٍ } فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود ، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها ، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة . ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها .
قال البعض : إنه هو أرمياء بن حلقيا أو هو الخضر ، أو هو عزير ، وقد قلنا من قبل : إنه إذا أبهم الحق فمعناه : لا تشخص الأمر ، فيمكن لأي أحد أن يحدث معه هذا .
{ أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ } . وقالوا : إنها بيت المقدس ، { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } وحتى نفهم معنى خاوية على عروشها ، لنا أن نعرف أنني عندما أقول : " أنا خويان " أي " أنا بطني خاوية " : " جوعان " ف " خاوية " المقصود بها أنها قرية خالية من السكان ، وقد تكون أبنيتها منصوبة ، لكن ليس فيها سكان ، والحق بقوله عن تلك القرية : إنها خاوية على عروشها ، و " العرش " يطلق على البيت من الخيام ، ويطلق كما نعرف على السقف ، فإذا قال : { خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } أي أن العرش قد سقط أولا ، ثم سقطت الجدران عليه ، مثلما نقول في لغتنا العامية : " جاب عاليها على واطيها " .
وعندما يمر إنسان على قرية مثل هذه القرية فلا بد أن مشهدها يكون شيئاً لافتا للنظر ، قال : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } فكأنه يسأل عن القرية ، وعن إماتة وإحياء الناس الذين يسكنون القرية . والحق حين يذكر القرية في القرآن فهو يقصد في بعض الأحيان الحديث عن أهلها مثل قوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ يوسف : 82 ]
إن أبناء يعقوب عليه السلام حين عادوا من مصر وتركوا أخاهم الأصغر مع يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم : أرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك زملاءنا الذين كانوا معنا في القافلة ، وسيقولون لك : إننا قد تركنا أخانا بمصر . لكن سؤال الذي مر على القرية الخاوية على عروشها هو سؤال عن أهلها .
{ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } وساعة تسمع { أنى } فهي تأتي مرة بمعنى " كيف " ، ومرة تأتي بمعنى : " من أين " ، والمناسب لها هنا هو أن يكون السؤال كالتالي : " كيف يحيي الله هذه بعد موتها "؟ وقوله هذا يدل على أنه مؤمن ، فهو لا يشك في أن قضية الإحياء من الله ، وإنما يريد أن يعرف الكيفية ، فكأنه مؤمن بأن الله هو الذي يحيي ويميت ، وهذه ستأتي في قصة سيدنا إبراهيم :
(1/721)

{ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ]
هو لا يشك في أن الله يُحيي الموتى ، إنما يريد أن يرى كيف تتم هذه الحكاية؛ لأن الذي يريد أن يعرف كيفية الشيء ، لابد أن متعجب من وجود هذا الشيء ، فيتساءل : كيف تم عمل هذا الشيء؟ مثلما نرى الأهرام ، ونحن لا نشك أن الأهرام مبنية بهذا الشكل ، لكننا نتساءل فقط : كيف بنوها؟ كيف نقلوا الحجارة بضخامتها لأعلى ولم يكن هناك سقالات أو روافع آلية؟ إذن فنحن نتعجب فقط ، والتعجب فرع الإيمان بالحدث .
والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث ، فقول الحق : { أنى يُحْيِي هذه الله } . . يعني : كيف يُحيي الله هذه القرية بعد موتها ، فكأن القائل لا يشك في أن الله يُحيي ، ولكنه يريد الكيفية ، والكيفية ليست مناط إيمان ، فالله لم ينهنا عن التعرف عن الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحدث .
وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى فمُصمم الملابس عندما يقوم بتفصيل أزياء جميلة ، أنت تراها ، فأنت تتيقن من أنه صانعها ، ولكنك تتعجب فقط من دقة الصنعة ، وتقول له : بالله كيف عملت هذه؟ كأنك قد عشقت الصنعة! فتشوقت إلى معرفة كيف صارت ، فما بالنا بصنعة الحق تبارك وتعالى؟ إنك تندهش وتتعجب لتعيش في ظل السر السائح من الخالق في المخلوق ، وتريد أن تنعم بهذه النعم .
ومثال آخر ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد أنت ترى مثلا لوحة رسمها رسام ، فتقول له : بالله كيف مزجت هذه الألوان؟ أنت لا تشك في أنه قد مزج الألوان . بل تريد أن تسعد نفسك بأن تعرف كيف رسمها ، إذن فقوله وقول إبراهيم بالسؤال في الإحياء والإماتة فيما يأتي ليس معناه أنه غير مؤمن بل هو عاشق ومشتاق لأن يعرف الكيفية؛ ليعيش في جو الإبداع الجمالي الذي أنشأ هذه الصنعة .
ونعلم أن إحياء الناس سيترتب عليه إحياء القرية ، فالإنسان هو باعث الحركة التي تعمر الوجود ، والناس لهم حياة ولهم موت ، والقرية بأنقاضها وجدرانها وعروشها لها حياة ولها موت . وعندما سأل العبد هذا السؤال ، أراد الله أن تكون الإجابة تجربة معاشة في ذات السائل؛ لذلك يأتي القرآن بالقول { فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ } .
إن صاحب السؤال قد أراد أن يعرف الكيفية ، وطلبه هو إيمان دليل ، ليصبح فيما بعد إيمانا بواقع مشاهد { فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ } لقد جعل الله الأمر والتجربة في السائل ذاته وهذا إخبار الله . لقد أماته مائة عام ، والعام هو الحول ، وقد سموا " الحول " عاما؛ لأن الشمس تعوم في الفلك كله في هذه المدة ، والعوم سَبْحٌ ، والحق يقول :
(1/722)

{ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ]
ولذلك نسميه عاماً . { فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ، فكأن الله قال له كلاماً كما كلم موسى ، أو سمع صوتاً أو ملكاً أو أن أحداً من الموجودين رأى التجربة . فالمهم أن هناك سؤالاً وجواباً . ويخبرنا الحق سبحانه بحوار دار في هذا الشأن ، السؤال هو : كم لبثت؟ فأجاب الرجل : لبثت يوماً أو بعض يوم .
وإجابة الرجل تعني أنه قد تشكك ، فقد وجد اليوم قد قارب على الانتهاء أو انتهى ، أو أنه عندما رأى الشمس مشرقة أجاب هذه الإجابة : { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أو يكون قد قال ذلك؛ لأنه لا يستطيع أن يتحكم في تقدير الزمن . فهل هو صادق في قوله أو كاذب؟ إنه صادق ، لأنه لم ير شيئاً قد تغير فيه ليحكم بمقدار التغير ، فلو كان قد حلق لحيته مثلاً ، وقام بعد ذلك ليجد لحيته قد طالت ، أو قد نام بشعر أسود ، وقام بعد ذلك بشعر أشيب ، فلو حدثت أية تغيرات فيه لكان قد لمسها ، لكنه لم يجد تغيراً .
فماذا كان جواب الحق؟ قال الحق : { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } . إننا هنا أمام طرفين ويكاد الأمر أن يصبح لغزاً ، وطرف يقول : { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ورب يقول : { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } . ونريد أن نحل هذا اللغز . إن الحق سبحانه صادق ومُنزّه والعبد المؤمن صادق في حدود ما رأى من أحواله . ونريد دليلا على هذا ، ودليلا على ذاك . نريد دليلا على صدق العبد في قوله : { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } . ونريد من الحق سبحانه وتعالى دليل اطمئنان لا دليل برهان على أن الرجل قد مات مائة عام وعاد إلى الحياة .
ونقول : إن في القصة ما يؤيد { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ، وما يؤيد { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } ، فقد كان مع الرجل حماره ، وكان معه طعامه وشرابه من عصير وعنب وتين . فقال الحق سبحانه وتعالى : { لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } ، وأراد أن يدلل على الصدق في القضيتين معاً قال : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } ، ونظر الرجل إلى طعامه وشرابه فوجد الطعام والشراب لم يتغيرا ، وهذا دليل على أنه لم يمكث إلا يوما أو بعض يوم ، وبذلك ثبت صدق الرجل ، بقيت قضية { مِاْئَةَ عَامٍ } .
فقال الحق : { وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } وهذا القول يدل على أن هنا شيئا عجيبا ، وأراد الله أن يبين له بنظرة إلى الحمار دليلاً على صدق مرور مائة عام ، ووجد الرجل حماره وقد تحول عظاماً مبعثرة ، ولا يمكن أن يحدث ذلك في زمن قصير ، فإن موت الحمار أمر قد يحدث في يوم ، لكن أن يرم جسمه ، ثم ينتهي لحمه إلى رماد ، ثم تبقى العظام مبعثرة ، فتلك قضية تريد زماناً طويلاً لا يتسع له إلا مائة عام ، فكأن النظر إلى الحمار هو دليل على صدق مرور مائة عام ، والنظر إلى الطعام دليل على صدق { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
(1/723)

فالقضية إذن قضية عجيبة ، وكيف طُوي الزمن في مسألة الطعام ، وكيف بُسط الزمن في مسألة الحمار . إنه سبحانه يظهر لنا أنه هو القابض الباسط ، فهو الذي يقبض الزمن في حق شيء ، ويبسط الزمن في حق شيء آخر ، والشيئان متعاصران معا . وتلك العملية لا يمكن أن تكون إلا لقدرة طليقة لا تملكها النواميس الكونية ، وإنما هي التي تملك النواميس .
وقد قال الحق سبحانه : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } ، فمن هم الناس الذين سيجعل الله من قضية الذي مر على قرية آية لهم؟ كان لابد أن يوجد أناس في القصة ، لكن القرية خاوية على عروشها ، وليس فيها إنسان أو بنيان ، أهم الذين كانوا في القرية أم سواهم؟ قال بعض المفسرين هذا ، وقال البعض الآخر الرأي المضاد .
وأصدق شيء يمكن أن يتصل بصدق الله في قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } هو قبض الله للزمن في حق شيء ، وبسطه في حق شيء آخر ، وعزيز كما قال جمهرة العلماء هو الذي مر على قرية ، وعزيز هذا كان من الأربعة الذين يحفظون التوراة ، فلم يحفظ التوراة إلا أربعة : موسى ، وعيسى ، وعزير ، ويوشع ، وقد أراه الله العظام وكيف ينشزها ويرفعها فتلتحم ثم يكسوها لحما ، أي أراه عملية الإحياء مشهدياً ، وفي هذا إجابة للسؤال : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } ؟
والحق يقول : { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا } و { نُنْشِزُهَا } أي نرفعها ، ورأى " عزير " كل عظمة في حماره ، وهي ترفع من الأرض ، وشاهد كل عظمة تركب مكانها ، وبعد تكوين الهيكل العظمي للحمار بدأت رحلة كسوة العظام لحماً ، وبعد ذلك تأتي الحياة .
لقد وجد عزير إجابة في نفسه ، ووجد إجابة في الحمار ، ومن بعد ذلك تذكر قريته التي خرج منها ، وأراد العودة إليها ، فلما عاد إليها وجد أمرها قد تغير بما يتناسب مع مرور مائة عام ، وكان في تلك القرية مولاة لهم ، أي أمة في أسرته ، وكانت هذه الأمة قد عميت وأصبحت مقعدة ، فلما دخل وقال : أنا العزير . قالت الأمة : ذهب العزيز من مائة عام ولا ندري أين ذهب ولم يعد؟
قال : أنا العزير . قالت : إن للعزير علامة ، هذه العلامة أنه مجاب الدعوة ، ولم تنس نفسها . قالت : فإن كنت العزير فادع الله أن يرد عليَّ بصري وأن يخرجني من قعودي هذا . فدعا عزير الله فبرئت ، فلما برئت؛ نظرت إليه فوجدته هو العزير فذهبت إلى قومها وأعلنت أن العزير قد عاد . وبعد ذلك ذهب العزير إلى ابنه ، فوجده رجلا قد تجاوز مائة سنة ، وكان العزير لا يزال شابا في سن خمسين سنة .
(1/724)

ولذلك ترى الشاعر يقول مُلغزاً : وما ابنٌ رأى أباه وهو في ضعف عمره؟ والمقصود بهذا اللغز هو العزير الذي أماته الله وهو في الخمسين ثم أحياه الله في عمره نفسه بعد مائة عام ، والتقى العزير بابنه . قال الابن : كنت اسمع أن لأبي علامة بين كتفيه " شامة " . فلما كشف العزير كتفه لابنه وجد الشامة .
وتثبت أهل القرية من صدق عزير : بشيء آخر هو أن ( بختنصر ) حينما جاء إلى بيت المقدس وخربها حرق التوراة ، إلا أن رجلا قال : إن أباه قد دفن في مكان ما نسخة من التوراة ، فجاءوا بالنسخة ، قال العزير : وأنا أحفظها . وتلا العزير التوراة كما وُجدت في النسخة ، فصدق القوم أنه العزير ، وتعجب الناس وهم يشاهدون ابنا تخطى المائة وأبا في سن الخمسين . ولذلك يذيل الحق الآية بالقول : { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
ألم يكن قبل ذلك يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الاستدلال ، وهو الآن يعلم علم المشهد ، علم الضرورة ، فليس مع العين أين .
إذن ف { أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } هي تأكيد وتعريف بقدرة الله على أن يبسط الزمن ويقبضه ، وقدرة الله على الإحياء والإماتة ، فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين .
وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة . ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي ، أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ولا تُبدي حركة ، وتظل هكذا إلى أن يذهب الشتاء ، ومدة البيات الشتوي لا تحتسب من عمر الثعابين ، ولذلك يقال : إن ذلك هو عملية تعليق الحياة . وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف . فأهل الكهف أيضا مرت عليهم العملية نفسها : { وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف : 19 ]
إنهم لم يروا شيئاً قد تغير فيهم . وبعد ذلك قال الحق سبحانه : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً } [ الكهف : 25 ]
إن الله حدد الزمن الذي لبثوه ، بينما هم قالوا : إن الزمن هو يوم أو بعض يوم . ومعنى ذلك أنهم عندما ناموا هذا اللون من النوم واستيقظوا وجدوا أنفسهم على حالتهم التي كانت قبل هذا اللون من النوم . إذن فقد علق الله حياتهم . ونلاحظ أن كل هذه العملية قد جاءت هنا في قصة العزير بعد آية الكرسي التي تصور العقيدة الإيمانية : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم }
(1/725)

[ البقرة : 255 ]
وتصور قضية الحياة وقضية الموت ونعلم أن إبراهيم حين حاجَّه الرجل وقال له : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } نقل إبراهيم الحجة إلى الليل والنهار ، وطلب منه أن يعكس آية الليل والنهار ، فقال للرجل : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } .
وحتى لا يظن أحد أن إبراهيم عليه السلام إنما ترك الكلام عن الإحياء والإماتة فراراً من الجدل . ونقل الأمر إلى الشمس ، لكن أراد الله أن يأتي بقصة هذا الإنسان الذي مر على قرية وهي خاوية ، فيحدث له كل ما تقدم ليثبت الحق لنا أن قضية الحياة وقضية الموت بيده وحده . وليخرج الحق سبحانه أمر الحياة والموت عن مجال السفسطة الجدلية . وعرفنا أن قبل معنى السفسطة الجدلية حينما تعرضنا لقول الذي حاج إبراهيم في ربه باثنين من المسجونين وقال : أنا أستطيع أن أقتل واحدا ، وأن أترك الثاني بلاَ قتل .
هذه هي السفسطة : إنه لم يحيي ، بل أبقى حياة . وعرفنا أن الإحياء ضد الإماتة؛ لأن الإماتة هي أن تخرج الروح من الجسد بدون جرح ، أو نقض بنية ، أو عمل يفعله الإنسان في البدن . أما إذا فعل إنسان أي شيء من هذه الأفعال ضد إنسان آخر فلا يقال إنه أماته بل يقال لقد قتله . والموت كما عرفنا غير القتل .
وتأتي بعد ذلك قصة لإبراهيم أيضا بعد أن نقل الجدل مع الرجل إلى الشمس ، فبهت الرجل الذي كفر ، أما إبراهيم عليه السلام فهو يؤمن بقدرة الله ، لكنه يريد أن يعرف الكيفية . إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } " .
ونحن المسلمين لم نشك في هذا الأمر . إذن ، فإبراهيم عليه السلام لم يشك من باب أولى بدليل منطوق الآية حين قال الحق سبحانه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي . . . }
(1/726)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
إن إبراهيم عليه السلام يسأل : كيف تُحيي الموتى؟ أي أنه يطلب الحال التي تقع عليها عملية الإحياء . فإبراهيم عليه السلام لا يتكلم في الإحياء ، وإنما كان شكه عليه السلام في أن الله سبحانه قد يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى؟ ولنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد والمثل لتقريب المسألة من العقول؛ لأن الله مُنزه عن أي تشبيه .
إن الواحد منا يقول للمهندس : كيف بنيت هذا البيت؟ إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلي مُحْدَث وهو البيت الذي تم بناؤه . فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة الإيمان؟ لا .
ولنعلم أولا ما معنى : عقيدة؟ . إن العقيدة هي : أمر معقود ، وإذا كان هذا فكيف يقول : { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ؟ فهل هذا دليل على أن إبراهيم قبل السؤال ، وقبل أن يجاب إليه ، لم يكن قلبه مطمئناً؟ لا ، لقد كان إبراهيم مؤمناً ، ولكنه يريد أن يزداد اطمئناناً ، لأنه أدار بفكره الكيفية التي تكون عليها عملية الإحياء ، لكنه لا يعرف على أية صورة تكون .
إذن فالاطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات متصورة ومتخيلة ، ومادمت تريد الكيفية ، وهذه الكيفية لا يمكن أن نشرحها لك بكلام . بل لابد أن تكون تجربة عملية واقعية ، { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } . و " صرهن " أي أملهن واضممهن إليك لتتأكد من ذوات الطير ، ومن شكل كل طير ، حتى لا تتوهم أنه قد جاء لك طير آخر .
وقال المفسرون : إن الأربعة من الطير هي : الغراب ، الطاووس ، الديك ، الحمامة ، وهكذا كان كل طائر له شكلية مختلفة .
{ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً } ، فهل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أو اكتفى بأن شرح الله له الكيفية؟ إن القرآن لم يتعرض لهذه الحكاية ، فإما أن يكون الله قد قال له الكيفية ، فإن أراد أن يتأكد منها فليفعل ، وإما أنه قد تيقن دون أن يجري تلك العملية . إن القرآن لم يقل لنا هل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أم لا؟ والحق يقول مخاطبا إبراهيم بخطوات التجربة : { ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً } وكان المفروض أن يقول : يأتينك طيرانا . فكيف تسعى الطيور؟ إن الطير يطير في السماء وفي الجو . لكن الحق أراد بذلك ألا يدع أي مجال لاختلاط الأمر فقال : " سعيا " أي أن الطير سيأتي أمامه سائرا ، لقد نقل الحق الأمر من الطيران إلى السعي كي يتأكد منها سيدنا إبراهيم ، إذن فلكي تتأكد يا إبراهيم ويزداد اطمئنانك جئنا بها من طيور مختلفة وأنت الذي قطعتها ، وأنت الذي جعلت على كل جبل جزءا ، ثم أنت الذي دعوت الطير فجاءتك سعيا .
(1/727)

وهنا ملحظية في طلاقة القدرة ، وفي الفرق بين القدرة الواجبة لواجب الوجود ، وهو الحق سبحانه وتعالى ، والقدرة الممنوحة من واجب الوجود وهو الله سبحانه لمنكر واجب الوجود وهو الإنسان ، هذا له قدرة ، وذاك له قدرة؛ إن قدرة الله هي قدرة واجبة ، وقدرة الإنسان هي قدرة ممكنة ، وقدرة الله لا ينزعها منه أحد ، وقدرة الإنسان ينزعها الله منه؛ فالإنسان من البشر ، والبشر تتفاوت قدراتهم؛ فحين تكون لأحدهم قدرة فهناك آخر لا قدرة له ، أي عاجز . ويستطيع القادر من البشر أن يعدي أثر قدرته إلى العاجز؛ فقد يحمل القادر كرسيا ليجلس عليه من لا يقدر على حمله . لكن قدرة الحق تختلف .
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول : أنا أعدي من قدرتي إلى من لا يقدر فيقدر ، أنا أقول للضعيف : كن قادراً ، فيكون . وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه لإبراهيم : { ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً } . إن إبراهيم كواحد من البشر عاجز عن كيفية الإحياء ، ولكن الحق يعطيه القدرة على أن ينادي الطير ، فيأتي الطير سعيا .
إن الحق يعطي القدرة لإبراهيم أن يدعو الطير فيأتي الطير سعيا . وهذا هو الفرق بين القدرة الواجبة ، وبين القدرة الممكنة . إن قدرة الممكن لا يعديها أحدٌ لخالٍ منها ، ولكن قدرة وجب الوجود تُعديها إلى من لا يقدر فيقدر ، ولذلك يأتي القول الحكيم بخصائص عيسى ابن مريم عليه السلام : { وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 49 ]
إن خصائص عيسى ابن مريم لا تكون إلا بإذن من الله ، فقدرة عيسى عليه السلام أن يصنع من الطين ما هو على هيئة الطير ، وإذا نفخ فيه بإذن الله لأصبح طيرا ، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، إن ذلك كله بإذن ممن؟ بإذن من الله .
وكذلك كان الأمر في تجربة سيدنا إبراهيم ، لذلك قال له الحق : { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . إن الله عزيز أي لا يغلبه أحد . وهو حكيم أي يضع كل شيء في موقعه .
وكذلك يبسط الحق قصة الحياة وقصة الموت في تجربة مادية؛ ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم ، وقد جاءت قصة الحياة والموت؛ لأن الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية كان في مسألة البعث من الموت ، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك ، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر : { قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنون : 82 ]
وفي قول آخر : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }
(1/728)

[ يس : 78-79 ]
لقد أمر الحق سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم ليجيب على ذلك : قل يا محمد : يحييها الذي أنشأها أول مرة؛ فقد خلقها من عدم ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } [ الروم : 27 ]
إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يبدأ الخلق على غير مثال ، ثم يعيده بعد الموت ، وإعادته أهون عليه من ابتدائه بالنظر إلى مقاييس اعتقاد من يظن أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه؛ فالله له مطلق القدرة في خلقه ، وهو الغالب في ملكه ، وهو الحكيم في فعله وتقديره .
إن الذي يعيد إنما يعيد من موجود ، أما الذي بدأ فمن معدوم . فالأهون هو الإعادة ، أما الابتداء فهو ابتداء من معدوم ، وكلاهما من قدرة الحق سبحانه وتعالى . إن هذه القضية إنما تثبت اليوم الآخر ، لأن الإيمان باليوم الآخر هو الميزان العقدي فإن استقر في القلب فالإنسان بكل جوارحه يتجه إلى الأفعال التي تسير على ضوء منهج الله لينال الإنسان الجزاء الأوفى .
إن الإنسان حينما يفهم أن هناك حسابا وهناك جزاءً ، وهناك بعثا ، فهو يعرف أنه لم ينطلق في هذا العالم ، ولم يفلت من الإله الواحد القهار ، إن للإنسان عودة ، فالذي يغتر بما آتاه الله نقول له : لا ، إنك لن تفلت من يد الله ، بل لك عودة بالموت وعودة بالبعث . وإذا ما استقرت في أذهان المسلمين تلك العودة ، فكل إنسان يقيم حسابه على هذه العودة .
وبعد أن استقر الأمر في شأن الحياة والموت أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجيء بشيء هو ثمرة الحياة في الكائن الحي وأول مظهر من مظاهر الحياة هو الحس والحركة . والحركة في الوجود أرادها الله للإنسان؛ لأنه وهو الحق قد أراد الإنسان للخلافة في الأرض . والخلافة في الأرض تقتضي أن يعمر الإنسان الأرض ، كما قال الله سبحانه وتعالى : { اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } [ هود : 61 ]
إن خلافة الإنسان في الأرض تقتضي أن يتحرك ويعمر الأرض . وحين يريد الله منا أن نتحرك ونعمر الأرض فلا بد من أعمال تنظم هذه الحركة ، ولا بد من فنون متعددة تقوم على العمارة . ويوزع الله الطاقات الفاعلة لهذه الفنون المتعددة ويجعلها مواهب مفكرة ومخططة في البشر . إن الحق سبحانه لم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب ، بل نثر الله المواهب على الخلق ، وكل واحد أخذ موهبة ما .
لماذا؟ لأن الله قد أراد أن يتكامل العالم ولا يتكرر؛ فالتكامل يوحي بالاندماج فإذا كنت أنت تعرف شيئاً خاضعا لموهبتك ، وأنا لا أعرفه فأنا مضطر أن ألتحم بك ، وأنا أيضا قد أعرف شيئا وأنت لا تعرفه ، لذلك تضطر أنت أن تلتحم بي .
(1/729)

وهذا اللون من الالتحام ليس التحام تفضل ، إنما هو التحام تعايش ضروري .
لكن لو أن كل واحد صار مجمع مواهب ، لاستغنى عن غيره من البشر وأقام وحده بمفرده ، وينتهي احتياجه للمجتمع الإنساني . فكأن الله حين وزع أسباب الفضل على الخلق يريد منهم أن يتكاملوا ويلتحم بعضهم ببعض لا التحام فضل ، ولكن التحام تعايش ضروري؛ لأن واحداً يريد ما ينتجه الآخر بموهبته ، والآخر يريد من إنسان غيره ما هو موهوب فيه . ولذلك فالناس بخير ما تباينوا؛ لأن كلا منهم يحتاج إلى الآخر .
ولذلك لا نجد أي تقدم في مجتمع إلا إذا كانت المواهب في هذا المجتمع مختلفة ومتآزرة . أما حين يوجد قوم لهم مواهب متحدة فلابد أن يقاتل بعضهم بعضا لكن عندما يكون كل واحد في حاجة لموهبة الآخر ، فهم يتعايشون؛ لأن الحياة لا تسير إلا بالكل ، ولذلك إذا استوت جماعة في المواهب فلا بد أن يتفانوا لأنهم يتنافسون فيها ويريد كل واحد منهم أن يستأثر بها لنفسه ، لكن لا أحد في المواهب المتكاملة يقول : لماذا يكون فلان أفضل مني ، لأنه يعرف أنه من الضروري أن يوجد المهندس والطبيب والصانع ، ولذلك تجد الوجود منظما بذاته التنظيم الطبيعي الذي يُوجد قاعدة ويُوجد قمة ، فالقمة الصغيرة تحملها القاعدة الكبيرة . ولو عكست الهرم لصارت مشكلة؛ لأن الأمر في هذه الحالة سَيَجِّدُ به جوانب كثيرة ليس لها أساس ولا ترتكز على شيء ، ولذلك فمن الحكمة إذا رأيت في المجتمع واحداً قد ذهب إلى القمة فأعنه على أن يستمر متفوقا ، ولا تصطرع معه فتسقطوا جميعا ، فلابد من التفاضل كي ينشأ التكامل .
والحق سبحانه وتعالى يعرض لنا هذه القضية عرضا اجتماعيا وعرضا اقتصاديا؛ ليبين لنا أن أصل الوجود يجب أن ينشأ على أمر اجتماعي وأمر اقتصادي ، لماذا؟ لأن الإنسان مشغول أولا باستبقاء حياته ، ثم باستبقاء نوعه . واستبقاء حياة الإنسان بالقوت ، واستبقاء نوعه بالزواج . واستبقاء الحياة بالقوت يحتاج إلى حركة في الحياة ، والحق يحترم ثمرتها ، وعندما يريد الحق أن يرقق قلب المتحرك على أخيه العاجز فهو يقول : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ]
كما ضربنا المثل من قبل ولله المثل الأعلى وقلنا : إن الإنسان يعطي أولاده مصروفا ، وكل واحد منهم يضعه في حصالته ، فهب أن واحداً من الأولاد اضطر إلى شيء عاجل كإجراء جراحة ، هنا يذهب الرجل إلى أولاده ويقول لهم : أقرضوني ما في حصالاتكم لأن أخاكم يحتاج إلى عملية ، وسأرده لكم بعد ذلك مضاعفا . إن الأب لم يرجع في هبته ليقول إن ما في الحصالات هو مالي وسآخذه . لا ، هو مالكم ، لكنه سيكون دينا عندي .
كذلك يصنع الله مع الخلق فيوضح : بعضكم عاجز وبعضكم قادر ، وسأتكفل أنا بالعاجز ، واقترض من القادر .
(1/730)

وكان ضروريا أن يكون بعضنا عاجزاً ، حتى لا يظن أحد أن القوة ذاتية في النفس البشرية . لا ، إن القوة موهوبة؛ ويستطيع من وهبها أن يسلبها . وحتى يعرف صاحب القوة أن القوة ليست ذاتية فيه ، ويجد بجانبه إنساناً آخر عاجزاً . لكن هذا العاجز الذي سيلفت القوي إلى أن القوة ليست ذاتية ، ما ذنبه؟
إنّ الله قد جعله وسيلة إيضاح في الكون وكأن الحق يقول : سنضمن لك أيها العاجز المستوى اللائق من الحياة من أثر قدرة القادر ، وما دام من أثر قدرة القادر ، فهل سيتحرك القادر في الكون على قدر " حاجته " أو على قدر " طاقته "؟ لابد أن يتحرك على قدر طاقته؛ لأنه لو تحرك على قدر حاجته فلن يجد ما يعطيه للعاجز .
ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن تلك القضية المهمة في البناء الاجتماعي والبناء الاقتصادي بعد إثبات قضية البعث والإحياء والإماتة لكي تكون ماثلة أمامنا وينتقل بنا الحق سبحانه وتعالى كي يعطينا الكيان الإسلامي الاقتصادي الاجتماعي فيقول جل شأنه : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ . . . }
(1/731)

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
إن الله ينسب المال للبشر المتحركين؛ لأنهم أخذوا هذه الأموال بحركتهم . وفي موضع آخر من القرآن يقول الحق : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } [ النور : 33 ]
إن المال كله مال الله ، وقد أخذه الإنسان بالحركة ، فاحترم الله هذه الحركة ، واحترم الله في الإنسان قانون النفعية ، فجعل المال المتبقي من حركتك ملكا لك أيها الإنسان ، لكن إن أراد الله هذا المال فسيأخذه ، ومن فضل الله على الإنسان أنه سبحانه حين يطلب من الإنسان بعضا من المال المتبقي من حركته فهو يطلبه كقرض ، ويرده مضاعفا بعد ذلك .
إذن فالإنفاق في سبيل الله يرده الله مضاعفا ، وما دام الله يضاعفه فهو يزيد ، لذلك لا تحزن ولا تخف على مالك؛ لأنك أعطيته لمقتدر قادر واسع عليم . إنه الحق الذي يقدر على إعطاء كل واحد حسب ما يريد هو سبحانه؛ إنه يعطي على قدر نية العبد وقدر إنفاقه . وهذه الآية تعالج قضية الشُح في النفس الإنسانية؛ فقد يكون عند الإنسان شيء زائد ، وتشح به نفسه ويبخل ، فيخاف أن ينفق منه فينقص هذا الشيء .
وهنا تقول لك قضية الإيمان : أنفق لأنه سبحانه سيزيدك ، والحق سيعطيك مثلما يعطيك من الأرض التي تزرعها . أنت تضع الحبة الواحدة . فهل تعطيك حبة واحدة؟ لا . إن حبة القمح تعطي كمية من العيدان وكل عود فيه سنبلة وهي مشتملة على حبوب كثيرة ، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تضاعف لك ما تعطيه أفلا يضاعف العطاء لك الذي خلقها؟ وإذا كان بعض من خلق الله يضاعف لك ، فما بالك بالله جل وعلا؟
إن الأرض الصماء بعناصرها تعطيك ، أئذا ما أخذت كيلة القمح من مخزنك لتبذرها في الأرض أيقال : إنك أنقصت مخزنك بمقدار كيلة القمح؟ لا؛ لأنك ستزرع بها ، وأنت تنتظركم ستأتي من حبوب ، وهذه أرض صماء مخلوقة لله ، فإذا كان المخلوق لله قد استطاع أن يعطيك بالحبة سبعمائة ، ألا يعطيك الذي خلق هذه الأرض أضعاف ذلك؟
إنه كثير العطاء . والحق قد نسب للمنفقين الأموال التي رزقهم الله بها فقال : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } وكلمة { فِي سَبِيلِ الله } كلمة عامة ، يصح أن يكون معناها الجهاد ، أو مصارف الصدقات؛ لأن كل هذا في سبيل الله؛ لأن الضعيف حين يجد نفسه في مجتمع متكافل ، ويجد صاحب القوة قد عدّى من أثر قوته وحركته إليه ، أيحقد على ذي القوة؟ لا؛ لأن خيره يأتيه ، نضرب المثل في الريف نقول :
البهيمة التي تدر لبناً ساعة تسير في الحارة . فالكل كان يدعو الله لها ويقول : " يحميكي " لماذا؟ لأن صاحبها يعطي كل من حوله من لبنها ومن جبنتها ومن سمنها ، لذلك يدعو لها الجميع ، ولا يربطها صاحبها ، ولا يعلفها ، ولا ينشغل عليها ، والخير القادم منها يذهب إلى كل الأهل ، وحين نجد مجتمعاً بهذا الشكل ويجد العاجز من القوي معيناً له ، هنا يقول العاجز : إنني في عالم متكامل .
(1/732)

وإذا ما وُجد في إنسان قوة وفي آخر ضعف؛ فالضعيف لا يحقد وإنما يقول : إن خير غيري يصلني . وكذلك يطمئن الواهب أنه إن عجز في يوم ما سيجد من يكفله والقدرة أغيار ما دام الإنسان من الأغيار . فقد يكون قويا اليوم ضعيفاً غداً .
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } هو قانون يريد به الله أن يحارب الشح في نفس المخلوقين ، إنه يقول لكل منا : انظر النظرة الواعية؛ فالأرض لا تنقص من مخزنك حين تعطيها كيلة من القمح! صحيح أنك أنقصت كيلة من مخزنك لتزرعها ، ولكنك تتوقع أن تأخذ من الأرض أضعافها . وإياك أن تظن أن ما تعطيه الأرض يكون لك فيه ثقة ، وما يعطيه الله لا ثقة لك فيه . { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } إن الآية تعالج الشح ، وتؤكد أن الصدقة لا تنقص ما عند الإنسان بل ستزيده . وبعد ذلك يقول تعالى : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى . . . }
(1/733)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
إنها لقطة أخرى يوضح فيها الحق : إياك حين تنفق مالك في سبيل الله وأنت طامع في عطاء الله أن تمن على من تعطيه أو تؤذيه . والمنّ هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب عليه حقا له وأنه أصبح صاحب فضل عليه ، وكما يقولون في الريف ( تعاير بها ) ، والشاعر يقول :
وإنّ امرَأً أسدى إليّ صنيعة ... وذكَّرنيها مَرَّةً للئيم
ولذلك فمن الأدب الإيماني في الإنسان أن ينسى أنه أهدى وينسى أنه أنفق ، ولا يطلع أحداً من ذويه على إحسانه على الفقير أو تصدقه عليه وخاصة الصغار الذين لا يفهمون منطق الله في الأشياء ، فعندما يعرف ابني أنني أعطي لجاري كذا ، ربما دلّ ابني وَمَنّ على ابن جاري ، ربما أخذه غروره فعيّره هو ، ولا يمكن أن يقدر هذا الأمر إلا مُكَلَّفٌ يعرف الحكم بحيثيته من الله .
إن الحق يوضح لنا : إياك أن تتبع النفقة منّا أو أذى؛ لأنك إن أتبعتها بالمنّ ماذا يكون الموقف؟ يكرهها المُعْطَى الذي تصدقت بها عليه ويتولد عنده حقد ، ويتولد عنده بغض ، ولذلك حينما قالوا : " اتق شر من أحسنت إليه " شرحوا ذلك بأن اتقاء شر ذلك الإنسان بألا تذكره بالإحسان ، وإياك أن تذكره بالإحسان؛ لأن ذلك يولد عنده حقداً .
ولذلك تجد كثيرا من الناس يقولون : كم صنعت بفلان وفلان الجميل ، هذا كذا وهذا كذا ، ثم خرجوا عليّ فانكروه . وأقول لكل من يقول ذلك : ما دمت تتذكر ما أسديته إليهم فمن العدالة من الله أن ينكروه ، ولو أنك عاملت الله لما أنكروه ، فما دمت لم تعامل الله ، فإنك تقابل بنكران ما أنفقت .
فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسخي بالآية الأولى قلب المنفق ليبسط يده بالنفقة ، لذلك قال : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
فالحق سبحانه وتعالى طمأننا في الآية الأولى على أن الصدقة والنفقة لا تنقص المال بل تزيده ، وضرب لنا الحق سبحانه المثل بالأرض التي تؤتينا بدل الحبة الواحدة سبعمائة حبة ، ثم يوضح الحق لنا أن آفة الإنفاق أن يكون مصحوباً ب " المنّ " أو " الأذى "؛ لأن ذلك يفسد قضية الاستطراق الصفائي في الضعفاء والعاجزين ، ولذلك يقول الحق سبحانه :
{ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 262 ]
انظر إلى الدقة الأدائية في قوله الكريم : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } . قد يستقيم الكلام لو جاء كالآتي : " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى " ، لكن الحق سبحانه قد جاء ب " ثم " هنا؛ لأن لها موقعاً .
(1/734)

إن المنفق بالمال قد لا يمن ساعة العطاء ، ولكن قد يتأخر المنفق بالمن ، فكأن الحق سبحانه وتعالى ينبه كل مؤمن :
يجب أن يظل الإنفاق غير مصحوب بالمن وأن يبتعد المنفق عن المن دائماً ، فلا يمتنع عن المن فقط وقت العطاء ، ولكن لابد أن يستمر عدم المن حتى بعد العطاء وإن طال الزمن .
إن " ثم " تأتي في هذا المعنى لوجود مسافة زمنية تراخى فيها الإنسان عن فعل المن . فالحق يمنع المن منعاً متصلاً متراخياً ، لا ساعة العطاء فحسب ، ولكن بعد العطاء أيضاً . وشوقي أمير الشعراء رحمه الله عندما كتب الشعر في حمل الأثقال وضع أبياتاً من الشعر في مجال حمل الأثقال النفسية ، فقال :
أحملت دَيْناً في حياتك مرة؟ ... أحملت يوما في الضلوع غليلا؟
أحملت مَنّاً في النهار مُكَرَّرا؟ ... والليلِ مِن مُسْدٍ إليك جميلا؟
وبعد أن عدد شوقي أوجه الأحمال الثقيلة في الحياة قال :
تلك الحياة وهذه أثقالها ... وُزِنَ الحديدُ بها فعاد ضئيلا
كأن المن إذن عبء نفسي كبير . ويطمئن الحق سبحانه من ينفقون أموالهم دون مَنٍّ ولا أذى في سبيل الله بأن لهم أجراً عند ربهم . وكلمة " الأجر " والإيضاح من عند الرب هي طمأنة إلى أن الأمر قد أحيل إلى موثوق بأدائه ، وإلى قادر على هذا الأداء . أما الذي يمن أو يؤذي فقد أخذ أجره بالمن أو الأذى ، وليس له أجر عند الله؛ لأن الذي يمن أو يؤذي لم يتصور رَبَّ الضعيف ، وإنما تصور الضعيف .
والمنفق في سبيل الله حين يتصور رب الضعيف ، وأن رب الضعيف هو الذي استدعاه إلى الوجود ، وهو الذي أجرى عليه الضعف ، فهو يؤمن أن الله هو الكفيل برزق الضعيف ، وحين ينفق القوي على الضعيف فإنما يؤدي عن الله ، ولذلك نجد في أقوال المقربين :
" إننا نضع الصدقة في يد الله قبل أن نضعها في يد الضعيف " ولننظر إلى ما فعلته سيدتنا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد راحت تجلو الدرهم وتطيبه ، فلما قيل لها : ماذا تصنعين؟ قالت : أجلو درهماً وأطيبه لأني نويت أن أتصدق به . فقيل لها : أتتصدقين به مجلواً ومعطراً؟
قالت الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير . إن الأجر يكون عند من يغليه ويعليه ويرتفع بقيمته وهو الخالق الوهاب .
ولنتأمل قول الحق : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لماذا لم يقل الله : ولا خوف منهم؟ . لأن الحق يريد أن يوضح لنا بقوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أن هناك عنصراً ثالثاً سيتدخل . إنه تدخل من شخص قد يظهر للإنسان المنفق أنه محب له ، فيقول : ادخر للأيام القادمة ، ادخر لأولادك .
(1/735)

لمثل هذا العنصر يقول الحق : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي إياك يا صاحب مثل هذا الرأي أن تتدخل باسم الحب ، ولتوفر كلامك؛ لأن المنفق في سبيل الله إنما يجد العطاء والحماية من الله . فلا خوف على المنفق في سبيل الله ، وليس ذلك فقط ، إنما يقول الحق عن المنفقين في سبيل الله دون منٍّ ولا أذى : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ومعناها أنه سوف يأتي في تصرفات الحق معهم ما يفرحهم بأنهم تصدقوا إما بسرعة الخلف عليهم ، أو برضى النفس ، أو برزق السلب ، فآفة الناس أنهم ينظرون إلى رزق الإيجاب دائما ، أي أن يقيس البشر الرزق بما يدخل له من مال ، ولا يقيسون الأمر برزق السلب ، ورزق السلب هو محط البركة .
هب أن إنسانا راتبه خمسون جنيها ، وبعد ذلك يسلب الله منه مصارف تطلب منه مائة جنيه ، كأن يدخل فيجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة ، فيرزق الله قلب الرجل الاطمئنان ، ويطلب من الأم أن تعد كوبا من الشاي للابن ويعطيه قرصا من الأسبرين ، وتذهب الوعكة وتنتهي المسألة .
ورجل آخر يدخل ويجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة ، وتستمر الحرارة لأكثر من يوم ، فيقذف الله في قلبه الرعب ، وتأتي الخيالات والأوهام عن المرض في ذهن الرجل ، فيذهب بابنه إلى الطبيب فينفق خمسين أو مائة من الجنيهات .
الرجل الأول ، أبرأ الله ابنه بقرش . والثاني ، أبرأ الله ابنه بجنيهات كثيرة . إن رزق الرجل الأول هو رزق السلب ، فكما يرزق الله بالإيجاب ، فالله يرزق بالسلب أي يسلب المصرف ويدفع البلاء . وهناك رجل دخله مائة جنيه ، ويأتي له الله بمصارف تأخذ مائتين ، وهناك رجل دخله خمسون جنيها فيسلب الله عنه مصارف تزيد على مائة جنيه ، فأيهما الأفضل .
إنه الرجل الذي سلب الله عنه مصارف تزيد على طاقته . إذن فعلى الناس أن تنظر إلى رزق السلب كما تنظر إلى رزق الإيجاب ، وقوله الحق عن المنفقين في سبيله دون مَنٍّ أو أذى : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } هذا القول دليل على أن الله سيأتي بنتيجة النفقة بدون مَنّ أو أذى بما يفرح له قلب المؤمن ، إما بالبركة في الرزق وإمّا بسلب المصارف عنه ، فيقول القلب المؤمن : إنها بركة الصدقة التي أعطيتها .
إنه قد تصدق بشيء فرفع وصرف عنه الله شيئا ضارا ، فيفرح بذلك القلب المؤمن . وبعد ذلك ينبهنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية مهمة هي : إن لم تَجُد أيها المؤمن بمالك فأحسن بمقالك ، فإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بحسن الرد ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " .
والحق سبحانه وتعالى يحدد القضية في هذه الآية : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ . . . }
(1/736)

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
ما معنى { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } ؟ إننا في العادة نجد أن المعروف مقابل للمنكر ، كأن الأمر الخَيِّر أمر متعارف عليه بالسجية ، وكأن المتعارف عليه دائما من جنس الجمال ومن جنس الخير ، أما الأمر الذي تنكره النفس فمن جنس الشر وجنس القبح . ولذلك يقول الحق : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } فكأن من شأن الجمال ومن شأن الحسن أن يكون معروفا ، ومن شأن النقيض أن يكون منكرا ، إذن فالقول المعروف هو أن ترد السائل الرد الجميل بحيث لا تمتلئ نفسه بالحفيظة عليك ، وبحيث لا توبخه لأنّه سألك ، وإذا كان السائل قد تجهم عليك تجهم المحتاج فاغفر له ذلك ، لماذا؟
لأن هناك إنسانا تلهب ظهره سياط الحاجة ، ويراك أهلا لغنى أو ليسار أو جدة وسعة من المال ، وقد يزيد بالقول واللسان قليلاً عليك ، وربما تجاوز أدب الحديث معك ، فعليك أن تتحمله .
وإذا كنت أنت أيها العبد تصنع المعاصي التي تغضب الله ، ويحلم الحق عليك ويغفرها لك ولا يعذبك بها ، فإذا ما صنع إنسان معك شيئا فكن أيضا صاحب قول معروف ومغفرة وحلم؛ إن الحق سبحانه يقول لنا : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } ؟
إننا جميعا نحب أن يغفر الله لنا ، ولذلك يجب أن نغفر لغيرنا وخصوصا للمحتاج . والحق حين يقول : { والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ } ففي ذلك تنبيه للقادر الذي حرم الفقير ، وكأنه يقول له : إنما حرمت نفسك أيها القادر من أجر الله . إنك أيها القادر حين تحرم فقيراً ، فأنت المحروم؛ لأن الله غني عنك ، وهو سبحانه يقول : { هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ]
إن الله غني بقدرته المطلقة ، غني وقادر أن يستبدل بالقوم البخلاء قوما يسخون بما أفاء الله عليهم من رزق في سبيل الله . فالذي يمسك عن العطاء إنما منع عن نفسه باب رحمة . ولذلك يقول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى . . . }
(1/737)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
فالذي يتصدق ويتبع صدقته بالمن والأذى ، إنما يُبطل صدقته ، وخسارته تكون خسارتين : الخسارة الأولى أنه أنقص ماله بالفعل؛ لأن الله لن يعوض عليه؛ لأنه أتبع الصدقة بما يبطلها من المن والأذى ، والخسارة الأخرى هي الحرمان من الثواب؛ فالذي ينفق ليقول الناس عنه إنه ينفق ، عليه أن يعرف أن الحق يوضح لنا : أنه يعطي الأجر على قاعدة أن الذي يدفع الأجر هو من عملت له العمل .
إن الإنسان على محدودية قدرته يعطي الأجر لمن عمل له عملا ، والذي يعمل من أجل أن يقول الناس إنه عمل ، فليأخذ أجره من القدرة المحدودة للبشر ، ولذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي يفعل الحسنة أو الصدقة ليقال عنه إنه فعل ، فإنه يأتي يوم القيامة ولا يجد أجرا له . وقد جاء في الحديث الشريف : " ورجل آتاه الله من أنواع المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها؟ قال : ما تركت من شيء تجب أن أنفق فيه إلاّ أنفقت فيه لك ، قال : كذبت إنما أردت أن يقال : فلان جواد فقد قيل ، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار " .
إياك إذن أن تقول : أنا أنفقت ولم يوسع الله رزقي؛ لأن الله قد يبتليك ويمتحنك ، فلا تفعل الصدقة من أجل توسيع الرزق ، فعطاء الله للمؤمن ليس في الدنيا فقط ، ولكن الله قد يريد ألا يعطيك في الفانية وأبقى لك العطاء في الباقية وهي الآخرة . وهو خير وأبقى .
والحق يقول : { وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } والصفوان هو الحجر الأملس ، ويُسمى المروة والذي نسميه بالعامية " الزلطة " . ويقال للأصلع " صفوان " ، أي رأسه أملس كالمروة . والشيء الأملس هو الذي لا مسام له يمكن أن تدركها العين المدركة ، إنما يدرك الإنسان هذه المسام بوضع الحجر تحت المجهر . وعندما يكون الشيء ناعما قد يأتي عليه تراب ، ثم يأتي المطر فينزل على التراب وينزلق التراب من على الشيء الأملس ، ولو كان بالحجر بعض من الخشونة ، لبقى شيء من التراب بين النتوءات ، فالذي ينفق ماله رئاء الناس ، كالصفوان يتراكم عليه التراب ، وينزل المطر على التراب فيزيله كلّه فيصير الأمر : { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي فقدوا القدرة على امتلاك أي شيء؛ لأن الله جعل ما لهم من عمل هباء منثوراً .
وهؤلاء كالحجر الصفوان الذي عليه تراب فنزل عليه وابل . . أي مطر شديد فتركه صلدا . . تلك هي صفات من قصدوا بالإنفاق رئاء الناس ، فيبطل الله جزاءهم؛ لأن الله لا يوفقهم إلى الخير والثواب . ويأتي الله بالمقابل ، وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله فيقول : { وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ . . . }
(1/738)

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
إن ابتغاء مرضاة الله في الإنفاق تعني خروج الرياء من دائرة الإنفاق ، فيكون خالصا لوجهه سبحانه وأما التثبيت من أنفسهم ، فهو لأنفسهم أيضا . فكأن النفس الإيمانية تتصادم مع النفس الشهوانية ، فعندما تطلب النفس الإيمانية أي شيء فإن النفس الشهوانية تحاول أن تمنعها . وتتغلب النفس الإيمانية على النفس الشهوانية وتنتصر لله .
والمراد ب { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } هو أن يتثبت المؤمن على أن يحب نفسه حبا أعمق لا حبا أحمق . إذن فعملية الإنفاق يجب أن تكون أولا إنفاقا في سبيل الله ، وتكون بتثبيت النفس بأن وهب المؤمن أولا دمه ، وثبت نفسه ثانيا بأن وهب ماله ، وهكذا يتأكد التثبيت فيكون كما تصوره الآية الكريمة : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 265 ]
والجنة كما عرفنا تُطلق في اللغة على المكان الذي يوجد به زرع كثيف أخضر لدرجة أنه يستر من يدخله . ومنها " جن " أي " ستر " ، ومن يدخل هذه الجنة يكون مستوراً .
إن الحق يريد أن يضرب لنا المثل الذي يوضح الصنف الثاني من المنفقين في سبيل الله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من أنفسهم الإيمانية ضد النفس الشهوانية ، فيكون الواحد منهم كمن دخل جنة كثيفة الزرع ، وهذه الجنة توجد بربوة عالية ، وعندما تكون الجنة بربوة عالية فمعنى ذلك أنها محاطة بأمكنة وطيئة ومنخفضة عنها ، فماذا يفعل المطر بهذه الجنة التي توجد على ربوة؟ وقد أخبرنا الحق بما يحدث لمثل هذه الجنة قبل أن يتقدم العلم الحديث ويكتشف آثار المياه الجوفية على الزراعة .
فهذه الجنة التي بربوة لا تعاني مما تعاني منه الأرض المستوية ، ففي الأرض المستوية قد توجد المياه الجوفية التي تذهب إلى جذور النبات الشعرية وتفسدها بالعطن ، فلا تستطيع هذه الجذور أن تمتص الغذاء اللازم للنبات ، فيشحب النبات بالاصفرار أولا ثم يموت بعد ذلك ، إنّ الجنة التي بربوة تستقبل المياه التي تنزل عليها من المطر ، وتكون لها مصارف من جميع الجهات الوطيئة التي حولها ، وترتوي هذه الجنة بأحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الري ، إنها تأخذ المياه من أعلى ، أي من المطر ، فتنزل المياه على الأوراق لتؤدي وظيفة أولى وهي غسل الأوراق .
إن أوراق النبات كما نعلم مثل الرئة بالنسبة للإنسان مهمتها التنفس ، فإذا ما نزل عليها ماء المطر فهو يغسل هذه الأوراق مما يجعلها تؤدي دورها فيما نُسميه نحن في العصر الحديث بالتمثيل الكلوروفيلي . وبعد ذلك تنزل المياه إلى الجذور لتذيب العناصر اللازمة في التربة لغذاء النبات ، فتأخذ الجذور حاجتها من الغذاء المذاب في الماء ، وينزل الماء الزائد عن ذلك في المصارف المنخفضة .
(1/739)

وهذه أحدث وسائل الزراعة الحديثة ، واكتشفوا أن المحصول يتضاعف بها .
إن الحق يخبرنا أن من ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل هذه الجنة التي تروى بأسلوب رباني ، فإن نزل عليها وابل من المطر ، أخذت منه حاجتها وانصرف باقي المطر عنها ، { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } ؛ والطلُّ وهو المطر والرذاذ الخفيف يكفيها لتؤتي ضعفين من نتاجها . وإذا كان الضعف هو ما يساوي الشيء مرتين ، فالضعفان يساويان الشيء أربع مرات . والله يضرب لنا مثلا ليزيد به الإيضاح لحالة من ينفق ماله رئاء الناس فيسأل عباده المؤمنين وهو أعلم بهم فيقول جل شأنه : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار . . . }
(1/740)

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
إن الحق سبحانه يشركنا في الصورة كأنه يريد أن يأخذ منا الشهادة الواضحة . فهل يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات . ونعلم أن النخيل والأعناب هما من أهم ثمار نَتاج المجتمع الذي نزل به القرآن الكريم . ونعرف أن هناك حدائق فيها نخيل وأعناب ، ويضيف إليها صاحبها أشجاراً من الخوخ وأشجاراً من الفواكة الأخرى . ولذلك يقول الحق في أصحاب الجنة : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 32-36 ]
كأن الجنتين هنا فيهما أشياء كثيرة ، فيهما أعناب ، وزادهما الله عطاء النخيل ، ثم الزرع ، وهذا يسمى في اللغة عطف العام على الخاص ، أو عطف الخاص على العام ، ليذكر الشيء مرتين ، مرة بخصوصه ، ومرة في عموم غيره . وعندما يتحدث الحق سبحانه عن جنة الآخرة فإنه يقول مرة : { أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذلك الفوز العظيم } [ التوبة : 89 ]
لقد هيأ الله للمؤمنين به ، المقاتلين في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته جنات تتخللها الأنهار ، وذلك هو الفوز والنجاح الكبير . ومرة أخرى يتحدث الحق عن جنة الآخرة بقوله : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم } [ التوبة : 100 ]
إن الحديث عن الأنهار التي تجري تحت الجنة يأتي مرة مسبوقا ب " مِن " . ومرة أخرى غير مسبوق ب " مِن " . فعندما يأتي الحديث عن تلك الأنهار التي تحت الجنة مسبوقا ب " مِن " فإن ذلك يوحي أن نبعها ذاتي فيها والمائية مملوكة لها .
وعندما يأتي الحديث عن تلك الأنهار التي تجري تحت الجنة مسبوق ب " مِن " ، فمعنى ذلك أن نبع هذه الأنهار غير ذاتي فيها ، ولكنه يجري تحتها بإرادة الله فلا يجرؤ أحد أن يمنع الماء عن هذه الجنة التي أعدها الله للمؤمنين . وعندما يشركنا الحق في التساؤل :
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ البقرة : 266 ]
إن الجنة التي بهذه الصفة وفيها الخير الكثير ، لكن صاحبها يصيبه الكبر ، ولم تعد في صحته فتوة الشباب ، إنه محاط بالخير وهو أحوج ما يكون إلى ذلك الخير؛ لأنه أصبح في الكبر وليس له طاقة يعمل بها ، وهكذا تكون نفسه معلقة بعطاء هذه الجنة ، لا لنفسه فقط ولكن لذريته من الضعفاء .
(1/741)

وهذه قمة التصوير للاحتياج للخير ، لا للنفس فقط ولكن للأبناء الضعفاء أيضا .
إننا أمام رجل محاط بثلاثة ظروف . الظرف الأول : هو الجنة التي فيها من كل خير .
والظرف الثاني : هو الكبر والضعف والعجز عن العمل .
والظرف الثالث : هو الذرية من الضعفاء .
فيطيح بهذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت ، فأي حسرة يكون فيها الرجل؟ إنها حسرة شديدة . كذلك تكون حسرة من يفعل الخير رئاء الناس . والإعصار كما نعرف هو الريح الشديد المصحوبة برعد وبرق ومطر وقد يكون فيه نار ، هذا إذا كانت الشحنات الكهربائية ناتجة من تصادم السحب أو حاملة لقذائف نارية من بركان ثائر . هكذا يكون حال من ينفق ماله رئاء الناس . ابتداء مطمع وانتهاء موئس أي ميئوس منه .
إذن فكل إنسان مؤمن عليه أن يتذكر ساعة أن ينفق هذا الابتلاء المثير للطمع ، وذلك الانتهاء المليء باليأس . إنها الفجيعة الشديدة . ويصورها الشاعر بقوله :
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
ويقول آخر :
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت
إن الذي يرائي يخسر كل حاجاته ، ولا يقدر على شيء مما كسب . ويقول الحق من بعد ذلك : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ . . . }
(1/742)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
إن هذه الآية تعطي صورا تحدث في المجتمع البشري . وكانت هذه الصور تحدث في مجتمع المدينة بعد أن أسس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام . فبعض من الناس كانوا يحضرون العِذق من النخل ويعلقه في المسجد من أجل أن يأكل منه من يريد ، والعِذق هو فرع قوي من النخل يضم الكثير من الفروع الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح . وكان بعضهم يأتي بعذق غير ناضج أو بالحَشَف الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح . وكان بعضهم يأتي بعذق غير ناضج أو بالحشف وهو أردأ التمر ، فأراد الله أن يجنبهم هذا الموقف ، حتى لا يجعلوا لله ما يكرهون ، فأنزل هذا القول الحكيم : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } .
إن الإنفاق يجب أن يكون من الكسب الطيب الحلال ، فلا تأتي بمال من مصدر غير حلال لتنفق منه على أوجه الخير . فالله طيب لا يقبل إلا طيبا . ولا يكون الإنفاق من رُذَال وردِيء المال .
ويحدد الحق سبحانه وتعالى وسيلة الإنفاق من عطائه فيقول : { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض } وهو سبحانه يذكرنا دائما حين يقول : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } ألا نظن الكسب هو الأصل في الرزق . لا ، إن الكسب هو حركة موهوبة لك من الله . إنك أيها العبد إنما تتحرك بطاقة موهوبة لك من الله ، وبفكر ممنوح لك من الله ، وفي أرض سخرها لك الله ، إنها الأدوات المتعددة التي خصك بها الله وليس فيها ما تملكه أنت من ذاتيتك . ولكن الحق يحترم حركة الإنسان وسعيه إلى الرزق فيقول : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } .
ويحذرنا الحق من أن نختار الخبيث وغير الصالح من نتاج عملنا لننفق منه بقوله سبحانه : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } أي لا يصح ولا يليق أن نأخذ لأنفسنا طيبات الكسب ونعطي الله رديء الكسب وخبيثه؛ لأن الواحد منا لا يرضى لنفسه أن يأخذ لطعامه أو لعياله هذا الخبيث غير الصالح لننفق منه أو لنأكله . { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي أنك أيها العبد المؤمن لن ترضى لنفسك أن تأكل من الخبيث إلا إذا أغمضت عينيك ، أو تم تنزيل سعره لك؛ كأن يعرض عليك البائع شيئا متوسط الجودة أو شيئا رديئاً بسعر يقل عن سعر الجيد .
لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا بهذه الصور أوجه الإنفاق :
* إن النفقة لا تنقص المال وإنما تزيده سبعمائة مرة .
* إن النفقة لا يصح أن يبطلها الإنسان بالمن والأذى .
* إن القول المعروف خير من الصدقة المتبوعة بالمن أو الأذى .
* إن الإنفاق لا يكون رئاء الناس إنما يكون ابتغاءً لمرضاة الله .
هذه الآيات الكريمة تعالج آفات الإنفاق سواءً آفة الشح أو آفة المن أو الأذى ، أو الإنفاق من أجل التظاهر أمام الناس ، أو الإنفاق من رديء المال . وبعد ذلك يقول سبحانه : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء . . . }
(1/743)

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
إن الشيطان قد يوسوس لكم بأن الإنفاق إفقار لكم ، ويحاول أن يصرفكم عن الإنفاق في وجوه الخير ، ويغريكم بالمعاصي والفحشاء ، فالْغَنِيُّ حين يقبض يده عن المحتاج فإنه يُدْخِل في قلب المحتاج الحقد . وأي مجتمع يدخل في قلبه الحقد نجد كل المنكرات تنتشر فيه . ويعالج الحق هذه المسائل بقوله : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 36-37 ]
إن الحق سبحانه وتعالى لا يسألك أن ترد عطاءه لك من المال ، إنما يطلب الحق تطهير المال بالإنفاق منه في سبيل الله ليزيد ولينمو ، وليخرج الضغن من المجتمع؛ لأن الضغن حين يدخل مجتمعا فعلى هذا المجتمع السلام . ولا يُفيق المجتمع من هذا الضغن إلا بأن تأتيه ضربة قوية تزلزله ، فينتبه إلى ضرورة إخراج الضغن منه لذلك يحذرنا الله أن نسمع للشيطان : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 268 ]
فالذي يسمع لقول الشيطان ووعده ، ولا يستمع إلى وعد الله يصبح كمن رجّح عدو الله على الله أعاذنا الله وإياكم من مثل هذا الموقف إن الشيطان قد وسوس لكم بالفقر إذا أنفقتم ، وخبرة الإنسان مع الشيطان تؤكد للإنسان أن الشيطان كاذب مضلل ، وخبرة الإنسان مع الإيمان بالله تؤكد للإنسان أن الله واسع المغفرة ، كثير العطاء لعباده . والحكمة تقتضي أن نعرف إلى أي الطرق نهتدي ونسير . وبعد ذلك يقول الحق : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً . . . }
(1/744)

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه النافع . فكأن الحق يقول : كل ما أمرتكم به هو عين الحكمة؛ لأني أريد أن أُؤَمِّنَ حياتكم الدنيا فيمن تتركون من الذرية الضعفاء ، وأُؤَمِّنَ لكم سعادة الآخرة . فإن صنع العبد المؤمن ما يأمر به الله فهذا وضع الأشياء في موضعها وهو أخذ بالحكمة .
وقد أراد الحق أن يعلم الإنسان من خلال عاطفته على أولاده ، لأن الإنسان قد تمر عليه فترة يهون فيها عنده أمر نفسه ، ولا ينشغل إلا بأمر أولاده ، فقد يجوع من أجل أن يشبع الأولاد ، وقد يعرى من أجل أن يكسوهم . ولنا المثل الواضح في سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ، لقد ابتلاه ربه في بداية حياته بالإحراق في النار ، ولأن إبراهيم قوى الإيمان فقد جعل الله النار برداً وسلاماً
. وابتلاه الله في آخر حياته برؤيا ذبح ابنه ، ولأن إبراهيم عظيم الإيمان فقد امتثل لأمر الرحمن الذي افتدى إسماعيل بكبش عظيم . والإنسان في العمر المتأخر يكون تعلقه بأبنائه أكبر من تعلقه بنفسه . وهكذا كان الترقي في ابتلاء الله لسيدنا إبراهيم عليه السلام ، ولذلك أراد الله أن يضرب للبشر على هذا الوتر وقال : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ]
إن الحق سبحانه يريد من عباده أن يؤمّنوا على أولادهم بالعمل الصالح والقول السديد .
ومثال آخر حين أراد الحق أن يحمي مال اليتامى ، وأعلمنا بدخول موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي أوتى العلم من الله ، يقول سبحانه : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ]
كان موسى عليه السلام لا يعلم علم العبد الصالح من أن الجدار كان تحته كنز ليتيمين ، كان أبوهما رجلاً صالحا ، وأهل هذه القرية لئام ، فقد رفضوا أن يطعموا العبد الصالح وموسى عليه السلام ، لذلك كان من الضروري إقامة الجدار حتى لا ينكشف الكنز في قرية من اللئام ويستولوا عليه ولا يأخذ الغلامان كنز أبيهما الذي كان رجلاً صالحاً .
إذن فالحق سبحانه يعلمنا أن نُؤَمِنَ على أبنائنا بالعمل الصالح ، وهذه هي الحكمة عينها التي لا يصل إليها أصحاب العقول القادرة على الوصول إلى عمق التفكير السديد .
وسيدنا الحسن البصري يعطينا المثل في العمل الصالح عندما يقول لمن يدخل عليه طالبا حاجة : مرحباً بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة . إن سيدنا الحسن البصري قد أوتي من الحكمة ما يجعله لا ينظر إلى الخير بمقدار زمنه ، ولكن بمقدار ما يعود عليه بعد الزمن .
وقد ضربت من قبل المثل بالتلميذ الذي يَجِدُّ ويتعب في دروسه ليحصل على النجاح ، بينما أخوه يحب لنفسه الراحة والكسل . ثم نجد التلميذ الذي يتعب هو الذي يرتقي في المجتمع ، بينما الذي ارتضى لنفسه الكسل يصير صعلوكاً في المجتمع . وبعد ذلك يقول سبحانه : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
(1/745)

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
وقد عرفنا النفقة من قبل ، فما هي مسألة النذر؟ . إن النذر هو أن تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع الله فوق ما أوجب الله . فإذا نذرت أن تصلي لله كل ليلة عددا من الركعات فهذا نذر من جنس ما شرع الله؛ لأن الله قد شرع الصلاة وفرضها خمسة فروض ، فإن نذرت فوق ما فرضه الله فهذا هو النذر . ويقال في الذي ينذر شيئا من جنس ما شرع الله فوق ما فرضه الله : إن هذا دليل على أن العبادة قد حَلَتَ له ، فأحبها وعشقها ، ودليل على أنه قارب أن يعرف قدر ربه؛ وأن ربه يستحق منه فوق ما افترضه عليه ، فكأن الله في افتراضه كان رحيماً بنا ، لأنه لو فرض ما يستحقه منا لما استطاع واحد أن يفي بحق الله .
إذن فعندما تنذر أيها العبد المؤمن نذراً ، فإنك تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع الله لك فوق ما فرض الله عليك . وأنت مخير أن تقبل على نذر ما ، أو لا تقبل . لكن إن نطقت بنذر فقد لزم . لماذا؟ لأنك ألزمت نفسك به . ولذلك فمن التعقل ألا يورط الإنسان نفسه ويسرف في النذر ، لأنه في ساعة الأداء قد لا يقدر عليه .
وأهل القرب من الله يقولون لمن يخل بالنذر بعد أن نذر : هل جربت ربك فلم تجده أهلاً لاستمرار الود . وليس فينا من يجرؤ على ذلك؛ لأن الله أهل لعميق الود . ولهذا فمن الأفضل أن يتريث الإنسان قبل أن ينذر شيئا .
ونقف الآن عند تذييل الآية : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } . إن الظالمين هم من ظلموا أنفسهم؛ لأن الحق عرفنا أن ظلم الإنسان إنما يكون لنفسه ، وقال لنا : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ]
ومن أشد الظلم للنفس الإنفاق رياءً ، أو الإنفاق في المعاصي ، أو عدم الوفاء بالنذر ، فليس لمن يفعل ذلك أعوان يدفعون عنه عذاب الله في الآخرة . ويقول الحق من بعد ذلك : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء . . . }
(1/746)

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
فإن أظهرتم الصدقة فنعم ما تفعلون؛ لتكونوا قدوة لغيركم ، ولتردوا الضغن عن المجتمع . وإن أخفيتم الصدقة وأعطيتموها الفقراء فإن الله يكفر عنكم بذلك من سيئاتكم ، والله خبير بالنية وراء إعلان الصدقة ووراء إخفاء الصدقة . والتذييل في هذه الآية الكريمة يخدم قضية إبداء الصدقة وقضية إخفاء الصدقة ، فالحق خبير بنية من أبدى الصدقة ، فإن كان غنياً فعليه أن يبدي الصدقة حتى يحمي عرضه من وقوع الناس فيه؛ لأن الناس حين يعلمون بالغني فلا بد أن يعلموا بإنفاق الغني ، وإلا فقد يحسب الناس على الغني عطاء الله له ، ولا يحسبون له النفقة في سبيل الله . لماذا؟ لأن الله يريد أن يحمي أعراض الناس من الناس .
أما إن كان الإنسان غير ظاهر الغنى فمن المستحسن أن يخفي الصدقة . وإن ظهرت الصدقة كما قلت ليتأسى الناس بك ، وليس في ذهنك الرياء فهذا أيضا مطلوب . والحق يقول : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي أن الله يجازي على قدر نية العبد في الإبداء أو في الإخفاء .
إنه باستقراء الآيات التي تعرضت للإنفاق نجده سبحانه يسد أمام النفس البشرية كل منافذة الشُح ، ويقطع عنها كل سبيل تحدثه به إذا ما أرادت أن تبخل بما أعطاها الله ، والخالق الذي وهب للمخلوق ما وهبه يطلب منه الإنفاق ، وإذا نظرنا إلى الأمر في عرف المنطق وجدناه أمراً طبيعيا؛ لأن الله لا يسأل خلقه النفقة مما خَلَقُوا ولكنه يسألهم النفقة مما خلقه لهم .
إن الإنسان في هذا الكون حين يُطلب إيمانياً منه أن ينفق فلازم ذلك أن يكون عنده ما ينفقه ، ولا يمكن أن يكون عنده ما ينفقه إلا إذا كان مالكاً لشيء زاد على حاجته وحاجة من يعوله ، وذلك لا يتأتى إلا بحصيلة العمل . إذن فأمر الله للمؤمن بالنفقة يقتضي أن يأمره أولاً بأن يعمل على قدر طاقته لا على قدر حاجته ، فلو عمل كل إنسان من القادرين على قدر حاجته ، فكيف توجد مقومات الحياة لمن لا يقدر على العمل؟ .
إذن فالحق يريد منا أن نعمل على قدر طاقتنا في العمل لنعول أنفسنا ولنعول من في ولايتنا ، فإذا ما زاد شيء على ذلك وهبناه لمن لا يقدر على العمل .
ولقائل أن يقول : إذا كان الله قد أراد أن يحنن قلوب المنفقين على العاجزين فلماذا لم يجعل العاجزين قادرين على أن يعملوا هم أيضاً؟
نقول لصاحب هذا القول : إن الحق حين يخلق . . يخلق كوناً متكاملاً منسجماً دانت له الأسباب ، فربما أطغاه أن الأسباب تخضع له ، فقد يظن أنه أصبح خالقاً لكل شيء ، فحين تستجيب له الأرض إن حرث وزرع ، وحين يستجيب الماء له إن أدلى دلوه ، وحين تستجيب له كل الأسباب ، ربما ظن نفسه أصيلاً في الكون .
(1/747)

فيشاء الله أن يجعل القوة التي تفعل في الأسباب لتنتج ، يشاء سبحانه أن يجعلها عرضاً من أعراض هذا الكون ، ولا يجعلها لازمة من لوازم الإنسان ، فمرة تجده قادراً ، ومرة تجده عاجزاً .
فلو أنه كان بذاتيته قادراً لما وُجَدَ عَاجزٌ . إذن فوجود العاجزين عن الحركة في الحياة لفت للناس على أنهم ليسوا أصلاء في الكون ، وأن الذي وهبهم القدرة يستطيع أن يسلبهم إياها ليعيدها إلى سواهم ، فيصبح العاجز بالأمس قادراً اليوم ، ويصبح القادر بالأمس عاجزاً اليوم وبذلك يظل الإنسان منتبهاً إلى القوة الواهبة التي استخلفته في الأرض .
ولذلك كان الفارق بين المؤمن والكافر في حركة الحياة أنهما يجتمعان في شيء ، ثم ينفرد المؤمن في شيء ، يجتمعان في أن كل واحد من المؤمنين ومن الكافرين يعمل في أسباب الحياة لينتج ما يقوته ويقوت من يعول ، ذلك قدر مشترك بين المؤمن والكافر . والكافر يقتصر على هذا السبب في العمل فيعمل لنفسه ولمن يعول .
ولكن المؤمن يشترك معه في ذلك ويزيد أنه يعمل لشيء آخر هو : أن يفيض عنه شيء يمكن أن يتوجه به إلى غير القادر على العمل . محتسبا ذلك عند الله .
ولذلك قلنا سابقا : إن الحق سبحانه حينما تكلم عن الزكاة تكلم عنها مرة مطلوبة أداء ، وتكلم عنها مرة أخرى مطلوبة غاية فقال : { والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } . ولم يقل للزكاة مؤدون ، فالمؤمنون لا يعلمون لقصد الزكاة إلا إن عملوا عملا على قدر طاقاتهم ليقوتهم وليقوت من يعولهم ، ثم يفيض منهم شيء يؤدون عنه الزكاة .
والحق سبحانه وتعالى في أمر الزكاة : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 110 ]
إذن فحصيلة الأمر أن الزكاة مقصودة لهم حين يقبلون على أي عمل . لقد صارت الزكاة بذلك الأمر الإلهي مطلوبة غاية ، فهي أحد أركان الإسلام وبذلك يتميز المؤمن على الكافر .
والحق سبحانه وتعالى حين تعرض لمنابع الشُح في النفس البشرية أوضح : أن أول شيء تتعرض له النفس البشرية أن الإنسان يخاف من النفقة لأنها تنقص ما عنده ، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشح في قوله : " اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " . هي كذلك ، ولكن الحق سبحانه أوضح لكل مؤمن : أنها تنقص ما عندك ، ولكنها تزيدك مما عند الله؛ فهي إن أنقصت ثمرة فعلك فقد أكملتك بفعل الله لك . وحين تكملك بفعل الله لك ، يجب أن تقارن بين قوة مخلوقة عاجزة وقوة خالقة قادرة .
ويلفتنا سبحانه : أن ننظر جيداً إلى بعض خلقه وهي الأرض ، الأرض التي نضع فيها البذرة الواحدة أي الحبة الواحدة فإنها تعْطِي سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فلو نظر الإنسان أول الأمر إلى أن ما يضعه في الأرض حين يحرث ويزرع يقلل من مخازنه لما زرع ولما غرس ، ولكنه عندما نظر لما تعطيه الأرض من سبعمائة ضعف أقبل على البذر ، وأقبل على الحرث غير هياب؛ لأنها ستعوضه أضعاف أضعاف ما أعطى .
(1/748)

وإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطي هذا العطاء ، فكيف يكون عطاء خالق الأرض؟ { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ]
إذن فقد سدّ الحق بهذا المثل على النفس البشرية منفذ الشُح . وشيء آخر تتعرض له الآيات ، وهو أن الإنسان قد يُحْرَج في مجتمعه من سائل يسأله فهو في حرصه على ماله لا يحب أن ينفق ، ولحرصه على مكانته في الناس لا يحب أن يمنع ، فهو يعطي ولكن بتأفف ، وربما تعدى تأففه إلى نهر الذي سأله وزجره ، فقال الحق سبحانه وتعالى ليسد ذلك الموقف : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263 ]
وقول الله : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ } يدل على أن المسئول قد أحفظه سؤال السائل وأغضبه الإحراج ، ويطلب الحق من مثل هذا الإنسان أن يغفر لمن يسأله هذه الزلة إن كان قد اعتبر سؤاله له ذنباً : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263 ]
وبعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى " المن " الذي يفسد العطاء؛ لأنه يجعل الآخذ في ذلة وانكسار ، ويريد المعطي أن يكون في عزة العطاء وفي استعلاء المنفق ، فهو يقول : إنك إن فعلت ذلك ستتعدى الصدقة منك إلى الغير فيفيد ، ولكنك أنت الخاسر؛ لأنك لن تفيد بذلك شيئا ، وإن كان قد استفاد السائل . إذن فحرصا على نفسك لا تتبع الصدقة بالمن ولا بالأذى .
ثم يأتي الحق ليعالج منفذا من منافذ الشح في النفس البشرية هو : أن الإنسان قد يحب أن يعطي ، ولكنه حين تمتد يده إلى العطاء يعز عليه إنفاق الجيد من ماله الحسن ، فيستبقيه لنفسه ثم يعزل الأشياء التي تزهد فيها نفسه ليقدمها صدقة فينهانا سبحانه عن ذلك فيقول : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [ البقرة : 267 ]
أي إن مثل هذا لو أُعطى لك لما قبلته إلا أن تغمض وتتسامح في أخذه وكأنك لا تبصر عيبه لتأخذه ، فما لم تقبله لنفسك فلا يصح أن تقبله لسواك . ثم بعد أن تكلم القرآن عن منافذ الشُح في النفس الإنسانية بين لنا أن الذي ينتج هذه المنافذ ويغذيها إنما هو الشيطان :
(1/749)

{ الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 268 ]
فإن سوّيتم بين عِدَةِ الشيطان ووعد الله لكم بالرضوان كان الخسران والضياع . فراجعوا إيمانكم ، وعليكم أن تجعلوا عدة الشيطان مدحورة أمام وعد الله لكم بالفضل والمغفرة .
ثم يتكلم بعد ذلك عن زمن الصدقة وعن حال إنفاقها ظاهرة أو باطنة وتكون النية عندك هي المرجحة لعمل على عمل ، فإذا كنت إنسانا غنيا فارحم عرضك من أن يتناوله الناس وتصدق صدقة علنية فيما هو واجب عليك لتحمي عرضك من مقولهم ، وأن أردت أن تتصدق تطوعا فلا مانع أن تُسر بها حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك . . فعن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا .
وكأن الله فتح أمام النفس البشرية كل منافذ العطاء وسد منافذ الشح . انظروا بعد ذلك إلى الحق سبحانه حينما يحمي ضعاف المؤمنين ليجعلهم في حماية أقوياء المؤمنين . اعلم أيها العبد المؤمن أنك حين تتلقى حكم الله لا تتلقاه على أنه مطلوب منك دائما ، ولكن عليك أن تتلقى الحكم على أنه قد يَصير بتصرفات الأغيار مطلوبا لك ، فإن كنت غنيا فلا تعتقد أن الله يطالبك دائما ، ولكن قَدّرْ أنك إن أصبحت بعرض الأغيار في الحياة فقيراً سيكون الحكم مطلوباً لك . فقدر حال كونه مطلوباً منك الآن؛ لأنك غني أنّه سيطلُب لك إن حصلت لك أغيار ، فصرت بها فقيراً .
إذن فالتشريع لك وعليك ، فلا تعتبره عليك دائما لأنك إن اعتبرته عليك دائما عزلت نفسك عن أغيار الحياة ، وأغيار الحياة قائمة لا يمكن أن يبرأ منها أحد أبدا لذلك أمر سبحانه المؤمنَ أن يكفل أخاه المؤمن .
انظروا إلى طموحات الإيمان في النفس الإنسانية ، حتى الذين لا يشتركون معك في الإيمان . إن طُلب منك أن تعطي الصدقة المفروضة الواجبة لأخيك المؤمن فقد طلب منك أيضا أن تتطوع بالعطاء لمن ليس مؤمنا . وتلك ميزة في الإسلام لا توجد أبدا في غيره من الأديان ، إنه يحمي حتى غير المؤمن . ولذلك يقول الحق : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . . }
(1/750)

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
ما أصل هذه المسألة؟
أصل هذه المسألة أن بعض السابقين إلى الإسلام كانت لهم قرابات لم تسلم . وكان هؤلاء الأقرباء من الفقراء وكان المسلمون يحبون أن يعطوا هؤلاء الأقارب الفقراء شيئا من مالهم ، ولكنهم تحرجوا أن يفعلوا ذلك فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر .
وهاهي ذي أسماء بنت أبي بكر الصديق وأمها " قُتَيْلَةَ " كانت مازالت كافرة . وتسأل أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعطي من مالها شيئا لأمها حتى تعيش وتقتات . وينزل الحق سبحانه قوله : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } ، " وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : قدمتْ عليّ أمي وهي راغبة . أفأصل أمّي؟ قال : " نعم صلي أمّكِ " . ولقد أراد بعض من المؤمنين أن يضيقوا على أقاربهم ممن لم يؤمنوا حتى يؤمنوا ، لكن الرحمن الرحيم ينزل القول الكريم : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } .
إنه الدين المتسامي . دين يريد أن نعول المخلوق في الأرض من عطاء الربوبية وإن كان لا يلتقي معنا في عطاء الألوهية؛ لأن عطاء الألوهية تكليف ، وعطاء الربوبية رزق وتربية .
والرزق والتربية مطلوبات لكل من كان على الأرض؛ لأننا نعلم أن أحداً في الوجود لم يستدع نفسه في الوجود ، وإنما استدعاه خالقه ، وما دام الخالق الأكرم هو الذي استدعى العبد مؤمناً أو كافراً ، فهو المتكفل برزقه . والرزق شيء ، ومنطقة الإيمان بالله شيء آخر ، فيقول الحق : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } .
أو أن الآية حينما نزلت في الحثّ على النفقة ربما أن بعض الناس تكاسل ، وربما كان بعض المؤمنين يعمدون إلى الرديء من أموالهم فينفقونه .
وإذا كان الإسلام قد جاء ليواجه النفس البشرية بكل أغيارها وبكل خواطرها ، فليس بعجيب أن يعالجهم من ذلك ويردهم إلى الصواب إن خطرت لهم خاطرة تسيء إلى السلوك الإيماني .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حين ينزل أي أمر أن يلتفت المسلمون إليه لفتة الإقبال بحرارة عليه ، فإذا رأى تهاوناً في شيء من ذلك حزن ، فيوضح له الله : عليك أن تبلغهم أمر الله في النفقة ، وما عليك بعد ذلك أن يطيعوا . { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } .
ولقائل أن يقول : ما دام الله هو الذي يهدي فيجب أن نترك الناس على ما هم عليه من إيمان أو كفر ، وما علينا إلا البلاغ ، ونقول لأصحاب هذا الرأي : تنبهوا إلى معطيات القرآن فيما يتعلق بقضية واحدة ، هذه القضية التي نحن بصددها هي الهداية ، ولنستقرئ الآيات جميعا ، فسنجد أن الذين يرون أن الهداية من الله ، وأنه ما كان يصح له أن يعذب عاصياً ، لهم وجهة نظر ، والذين يقولون : إن له سبحانه أن يعذبهم؛ لأنه ترك لهم الخيار لهم وجهة نظر ، فما وجهة النظر المختلفة حتى يصير الأمر على قدر سواء من الفهم؟
إن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم في قرآنه الكلام الموحَى ، فهو يطلب منا أن نتدبره ، ومعنى أن نتدبره ألا ننظر إلى واجهة النص ولكن يجب أن ننظر إلى خلفية النص .
(1/751)

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ } يعني لا تنظر إلى الوجه ، ولكن انظر ما يواجه الوجه وهو الخلف . { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن } [ النساء : 82 ]
فالحق سبحانه وتعالى قد قال : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ]
كيف يكون الله قد هداهم ، ثم بعد ذلك يستحبون العمى على الهدى؟ إذن معنى " هدام " أي دلهم على الخير . وحين دلَّهم على الخير فقد ترك فيهم قوة الترجيح بين البدائل ، فلهم أن يختاروا هذا ، ولهم أن يختاروا هذا ، فلما هداهم الله ودلَّهم استحبوا العمَى على الهدى . والله يقول لرسوله في نصين آخرين في القرآن الكريم : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ]
فنفى عنه أنه يهدي . وأثبت له الحق الهداية في آية أخرى يقول فيها : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ]
فكيف يثبت الله فعلاً واحداً لفاعل واحد ثم ينفي الفعل ذاته عن الفاعل ذاته؟ نقول لهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدل الناس على منهج الله ولكن ليس عليه أن يحملهم على منهج الله؛ لأن ذلك ليس من عمله هو ، فإذا قال الله : { إِنَّكَ لتهدي } أي لا تحمل بالقصر والقهر من أحببت ، وإنما أنت " تهدي " أي تدل فقط ، وعليك البلاغ وعلينا الحساب .
إذن فقول الحق : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } ليس فيه حجة على القسرية الإيمانية التي يريد بعض المتحللين أن يدخلوا منها إلى منفذ التحلل النفسي عن منهج الله ونقول لهؤلاء : فيه فرق بين هداية الدلالة وهداية المعونة ، فالله يهدي المؤمن ويهدي الكافر أي يدلهم ، ولكن من آمن به يهديه هداية المعونة ، ويهديه هداية التوفيق ، ويهديه هداية تخفيف أعمال الطاعة عليه .
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُم } تلك قضية تعالج الشُح منطقياً ، وكل معطٍ من الخلق عطاؤه عائد إليه هو ، ولا يوجد معطٍ عطاؤه لا يعود عليه إلا الله ، هو وحده الذي لا يعود عطاؤه لخلقه عليه ، لأنه سبحانه أزلا وقديما وقبل أن يخلق الخلق له كل صفات الكمال ، فعطاء الإنسان يعود إلى الإنسان وعطاء ربنا يعود إلينا .
ولذلك قال بعض السلف الذين لهم لمحة إيمانية : ما فعلت لأحد خيراً قط؟ فقيل له : أتقول ذلك وقد فعلت لفلان كذا ولفلان كذا ولفلان كذا؟ فقال : إنما فعلته لنفسي .
(1/752)

فكأنه نظر حينما فعل للغير أنه فعل لنفسه . ولقد قلنا سابقا : إن العارف بالله " الحسن البصري " كان إذا دخل عليه من يسأله هشّ في وجهه وبشّ وقال له : مرحباً بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة .
إذن فقد نظر إلى أنه يعطيه وإن كان يأخذ منه . فالحق سبحانه وتعالى يعالج في هذه القضية { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } أي إياكم أن تظنوا أنني أطلب منكم أن تعطوا غيركم ، لقد طلبت منكم أن تنفقوا لأزيدكم أنا في النفقة والعطاء ، ثم يقول : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ومعنى التوفية : الأداء الكامل . ولا تظنوا أنكم تنفقون على من ينكر معروفكم؛ لأن ما أنفقتم من خير فالله به عليم . إذن فاجعل نفقتك عند من يجحد ، ولا تجعل نفقتك عند من يحمد ، لأنك بذلك قد أخذت جزاءك ممن يحمدك وليس لدى الله جزاء لك .
كنت أقول دائما للذين يشكون من الناس نكران الجميل ونسيان المعروف : أنتم المستحقون لذلك؛ لأنكم جعلتموهم في بالكم ساعة أنفقتم عليهم ، ولو جعلتم الله في بالكم لما حدث ذلك منهم أبداً . { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله } أهذه الآية تزكية لعمل المؤمنين ، أم خبر أريد به الأمر؟ إنها الاثنان معا ، فهي تعني أنفقوا ابتغاء وجه الله . { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أنتم لا تظلمون من الخلق ، ولا تظلمون من الخالق ، أما من الخلق فقد استبرأتم دينكم وعرضكم حين أديتم بعض حقوق الله في أموالكم ، فلن يعتدي أحد عليكم ليقول ما يقول ، وأما عند الله فهو سبحانه يوفي الخير أضعاف أضعاف ما أنفقتم فيه .
وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن مصرف من مصارف النفقة كان في صدر الإسلام : { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض }
(1/753)

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
ساعة أن نسمع " جاراً ومجروراً " قد استهلت به آية كريمة فنعلم أن هناك متعلقاً . ما هو الذي للفقراء؟ هو هنا النفقة ، أي أن النفقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . وإذا سألنا : ما معنى " أحصروا " فإننا نجد أن هناك " حَصر " وهناك " أحصر " وكلامهما فيه المنع ، إلا أن المنع مرة يأتي بما لا تقدر أنت على دفعه ، ومرة يأتي بما تقدر على دفعه .
فالذي مرض مثلاً وحُصِرَ على الضرب في الأرض ، أكانت له قدرة أن يفعل ذلك؟ لا ، ولكن الذي أراد أن يضرب في الأرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعاً ، إذن فيئول الأمر من الأمرين إلى المنع ، فقد يكون المنع من النفس ذاتها أو منع من وجود فعل الغير ، فهم أحصروا في سبيل الله . حُصِرُوا لأن الكافرين يضيقون عليهم منافذ الحياة ، أو حَصَرُوا أنفسهم على الجهاد ، ولم يحبوا أن يشتغلوا بغيره؛ لأن الإسلام كان لا يزال في حاجة إلى قوم يجاهدون . وهؤلاء هم أهل الصُّفة { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } وعدم استطاعتهم ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في سبيل الله ، هذا من الجائز وذاك من الجائز .
وكان الأنصار يأتون بالتمر ويتركونه في سبائطه ، ويعلقونه في حبال مشدودة إلى صواري المسجد ، وكلما جاع واحد من أهل الصفة أخذ عصاه وضرب سباطة لتمر ، فينزل بعض التمر فيأكل ، وكان البعض يأتي إلى الرديء من التمر والشيص ويضعه ، وهذا هو ما قال الله فيه : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } .
وإذا نظرنا إلى قول الحق : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } و " الضرب " هو فعل مِن جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب ، وما هو الضرب في الأرض؟ إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة ، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً ، وتضربها بذراً ، لا تأخذ الأمر بهوادة ولين ولذلك يقول الحق : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور } [ الملك : 15 ]
إن الأرض مسخرة من الحق سبحانه للإنسان ، يسعى فيها ، ويضرب فيها ويأكل من رزق الله الناتج منها .
وحين يقول الله سبحانه في وصف الذين أحصروا في سبيل الله فلا يستطيعون الضرب في الأرض { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أنهم أغنياء ، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة ، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } والسمة هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها ، فكأنك ستجد فيهم خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أو يطلبوا ، ولكنك تعرفهم من حالتهم التي تستحق الإنفاق عليهم ، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } فكأنه أباح مجرد السؤال ولكنه نهى عن الإلحاحٍ والإلحاف فيه ، ولو أنهم سألوا مجرد سؤال بلا إلحاف ولا إلحاح أَمَا كان هذا دليلاً على أنهم ليسوا أغنياء؟ نعم ، لكنه قال : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } إذن فليس هناك سؤال ، لا سؤال على إطلاقه ، ومن باب أولى لا إلحاف في السؤال؛ بدليل أن الحق يقول : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } ، ولو أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم ، إذن فالآية تدلنا على أن المنفي هو مطلق السؤال ، وأما كلمة " الإلحاف " فجاءت لمعنى من المعاني التي يقصد إليها أسلوب الإعجازي ، ما هو؟
إن " السيما " كما قلنا هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها ، فكأنك ستجد خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي أنت تعرفهم من حالتهم البائسة ، فإذا ما سأل السائل بعد ذلك اعتبر سؤاله إلحاحاً؛ لأن حاله تدل على الحاجة ، ومادامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب أن يجد من يكفيه السؤال ، فإذا ما سأل مجرد سؤاله فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها .
(1/754)

وأيضا يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله بالنظرة إليه ولا يدعه يسأل ، لأنك لو عرفت ب " السيما " فأنت ذكي ، أنت فطن ، أنا لو لم تعرف ب " السيما " وتنتظر إلى أن يقول لك ويسألك ، إذن فعندك تقصير في فطنة النظر ، فهو سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يكون فطن النظر بحيث يستطيع أن يتفرس في وجه إخوانه المؤمنين ليرى من عليه هم الحاجة ومن عنده خواطر العوز ، فإذا ما عرف ذلك يكون عنده فطانة إيمانية .
ولنا العبرة في تلك الواقعة ، فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء ، فأعطاه الطارق ثم عاد باكياً فقالت له امرأته : ما يبكيك؟ . قال : إن فلاناً طرق بابي . قالت : وقد أعطيته فما الذي أبكاك؟ . قال : لأني تركته إلى أن يسألني .
إن العارف بالله بكى؛ لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته ، وأن يتعرف على أخبار إخوانه . ولذلك شرع الله اجتماعات الجمعة حتى يتفقد الإنسان كل أخ من إخوانه ، ما الذي أقعده : أحاجة أم مرض؟ أحدث أم مصيبة؟ وحتى لا يحوجه إلى أن يذل ويسأل ، وحين يفعل ذلك يكون له فطنة الإيمان . { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي ، فالأمر محسوب عنده بميزان ، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره ، وما قدره قديما يلزم حاليا ، وهو سبحانه قد قدر؛ لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل . وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه ، وله هيئة يحدث عليها . والزمن ليل أو نهار .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى مبينا حالات الإنفاق والأزمان التي يحدث فيها وذلك في قوله تعالى : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ باليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً . . . }
(1/755)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
إن المسألة في الإنفاق تقتضي أمرين : إما أن تنفق سراً ، وإما أن تنفق علانية . والزمن هو الليل والنهار ، فحصر الله الزمان والحال في أمرين : الليل والنهار فإياك أن تحجز عطيّةً تريد أن تعطيها وتقول : " بالنهار أفعل أو في الليل أفعل؛ لأنه أفضل " وتتعلل بما يعطيك الفسحة في تأخير العطاء ، إن الحق يريد أن تتعدى النفقة منك إلى الفقير ليلاً أو نهاراً ، ومسألة الليلية والنهارية في الزمن ، ومسألة السرية والعلنية في الكيفية لا مدخل لها في إخلاص النية في العطاء .
{ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ باليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أقالت الآية : الذين ينفقون أموالهم بالليل أو النهار؟ لا ، لقد طلب من كل منا أن يكون إنفاقه ليلاً ونهاراً وقال : " سراً وعلانية " فأنفق أنت ليلاً ، وأنفق أنت نهارا ، وأنفق أنت سراً ، وأنفق أنت علانية ، فلا تحدد الإنفاق لا بليل ولا بنهار ، لا بزمن ولا بكيفية ولا بحال .
إن الحق سبحانه استوعب زمن الإنفاق ليلاً ونهارا ، واستوعب أيضاً الكيفية التي يكون عليها الإنفاق سراً وعلانية ليشيع الإنفاق في كل زمن بكل هيئة ، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى عن هؤلاء : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } وهذا القول يدل على عموم من يتأتى منه الإنفاق ليلاً أو نهاراً ، سراً أو علانية .
وإن كان بعض القوم قد قال : إنها قيلت في مناسبة خاصة ، وهي أن الإمام عليًّا كرم الله وجهه ورضى عنه كانت عنده أربعة دراهم ، فتصدق بواحد نهاراً ، وتصدق بواحد ليلا ، وتصدق بواحد سراً ، وتصدق بواحد علانية ، فنزلت الآية في هذا الموقف ، إلا أن قول الله : { فَلَهُمْ } يدل على عموم الموضوع لا على خصوص السبب ، فكأن الجزاء الذي رتبه سبحانه وتعالى على ذلك شائع على كل من يتأتى منه هذا العمل .
وقول الله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } هنا نجد أن كلمة " أجر " تعطينا لمحة في موقف المؤمن من أداءات الإنفاق كلها؛ لأن الأجر لا يكون إلا عن عمل فيه ثمن لشيء ، وفي أجر لعمل . فالذي تستأجره لا يقدم لك شيئا إلا مجهودا ، هذا المجهود قد ينشأ عنه مُثْمَنٌ ، أَيْ شيء له ثمن ، فقول الله { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } يدل على أن المؤمن يجب أن ينظر إلى كل شيء جاء عن عمل فالله يطلب منه أن ينفق منه .
إن الله لا يعطيه ثمن ما أنفق ، وإنما يعطيه الله أجر العمل ، لماذا؟ لأن المؤمن الذي يضرب في الأرض يخطط بفكره ، والفكر مخلوق لله ، وينفذ التخطيط الذي خططه بفكره بوساطة طاقاته وأجهزته؛ وطاقاتُه وأجهزته مخلوقة لله ، ويتفاعل مع المادة التي يعمل فيها ، وكلها مخلوقة لله ، فأي شيء يملكه الإنسان في هذا كله؟ لا الفكر الذي يخطط ، ولا الطاقة التي تفعل ، ولا المادة التي تنفعل؛ فكلها لله .
(1/756)

إذن فأنت فقط لك أجر عملك؛ لأنك تُعمل فكرا مخلوقا لله ، بطاقة مخلوقة لله ، في مادة مخلوقة لله ، فإن نتج منها شيء أراد الله أن يأخذه منك لأخيك العاجز الفقير فإنه يعطيك أجر عملك لا ثمن عملك . لكن المساوي لك في الخلق هو الإنسان إن أخذ منك حصيلة عملك فهو يعطيك ثمن ما أخذ منك ، فهي من المخلوق المساوي " ثمن " ، وهي من الخالق الأعلى أجر؛ لأنك لا تملك شيئا في كل ذلك .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } والخوف هو الحذر من شيء يأتي ، فمن الخائف؟ من المخوف؟ ومن المخوف عليه؟ { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } ممن؟
يجوز أن يكون { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من أنفسهم؛ فقد يخاف الطالب على نفسه من أن يرسب ، فالنفس واحدة خائفة ومخوف عليها ، إنها خائفة الآن ومخوف عليها بعد الآن . فالتلميذ عندما يخاف أن يرسب ، لا يقال : إن الخائف هو عين المخوف؛ لأن هذا في حاله ، وهذا في حاله .
أو { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من غيرهم ، فمن الجائز أن يكون حول كثير من الأغنياء أناس حمقى حين يرون أيدي هؤلاء مبسوطة بالخير للناس فيغمرونهم ليمسكوا مخافة أن يفتقروا كأن يقولوا لهم : " استعدوا للزمن فوراءكم عيالكم " . لكن أهل الخير لا يستمعون لهؤلاء الحمقى .
إذن ف { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } لا من أنفسهم ، ولا من الحمقى حولهم . ويتابع الحق : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي لا خوف عليهم الآن ، ولا حزن عندهم حين يواجهون بحقائق الخير التي ادخرها الله سبحانه وتعالى لهم بل إنهم سيفرحون .
بعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى قضية من أخطر قضايا العصر ، وهذه القضية كان ولابد أن يتعرض لها القرآن؛ لأنه يتكلم عن النفقة وعن الإنفاق ولا شك أن ذلك يقتضي منفِقا ومنفَقاً عليه؛ لأنه عاجز ، فهب أن الناس شحّوا ، ولم ينفقوا ، فماذا يكون موقف العاجز الذي لا يجد؟ إن موقفه لا يتعدى أمرين : إما أن يذهب فيقترض ، وإن لم يقبل أحد أن يقرضه فهو يأخذ بالربا والزيادة وإلا فكيف يعيش؟
إذن فالآيات التي نحن بصددها تعرّضت للهيكل الاقتصادي في أمة إسلامية جوادة ، أو أمة إسلامية بخيلة شحيحة ، لماذا؟
لأن الذي خلق الخلق قد صنع حسابا دقيقا لذلك الخلق ، بحيث لو أحصيت ما يجب على الواجدين من زكاة ، وأحصيت ما يحتاج إليه من لا يقدر لأن به عجزا طبيعيا عن العمل ، لوجدت العاجزين يحتاجون لمثل ما يفيض عن القادرين بلا زيادة أو نقصان ، وإلا كان هناك خطأ والعياذ بالله في حساب الخالق ، ولا يمكن أن يتأتى ذلك أبداً .
(1/757)

وحين ننظر إلى المجتمعات في تكوينها نجد أن إنساناً غنيا في مكان قد نبا به مكانه ، واختار أن يقيم في مكان آخر ، فيعجب الناس لماذا ترك ذلك المكان وهو في يسر ورخاء وغنى؟ ربما لو كان فقيراً لقلنا طلبا للسعة ، فلماذا خرج من هذا المكان وهو واجد ، وهو على هذا الحال من اليسر؟ إنهم لم يفطنوا إلى أن الله الذي خلق الخلق يُدير كونه بتسخير وتوجيه الخواطر التي تخطر في أذهان الناس ، فتجد مكانه قد نبا به ، وامتلأت نفسه بالقلق ، واختار أن يذهب إلى مكان آخر .
ولو أن عندنا أجهزة إحصائية دقيقة وحسبنا المحتاجين في البيئة التي انتقل منها لوجدنا قدرا من المال زائد على حاجة الذين يعيشون في هذه البيئة؛ فوجهه الله إلى مكان آخر يحتاج إلى مثل هذا الكم منه . وهكذا تجد التبادل منظما . فإن رأيت إنسانا محتاجا أو إنسانا يريد أن يرابي فاعلم أن هناك تقصيراً في حق الله المعلوم ولا أقول في الحق غير المعلوم . أي أن الغني بخل بما يجب عليه إنفاقه للمحتاج .
والقرآن حين يواجه هذه المسألة فهو يواجهها مواجهة تُبشِّع العمل الربوي تبشيعا يجعل النفس الإنسانية المستقيمة التكوين تنفر منه فيقول سبحانه : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس . . . }
(1/758)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
وانظروا إلى كلمة { يَأْكُلُونَ } ، هل كل حاجات الحياة أكل؟ لا ، فحاجات الحياة كثيرة ، الأكل بعضها ، ولكن الأكل أهم شيء فيها؛ لأنه وسيلة استبقاء النفس . و { الربا } هو الأمر الزائد ، وما دام هو الأمر الزائد يعني هو لا يحتاج أن يأكل ، فهذا تقريع له .
إن الحق يريد أن يبشع هذا الأمر فيقول : لهم سمة . هذه السمة قال العلماء أهي في الآخرة يتميزون بها في المحشر ، كما يقول الحق : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } [ الرحمن : 41 ]
فهؤلاء غير المصلين لهم علامة مميزة ، وهؤلاء غير المزكين لهم علامة أخرى مميزة بحيث إذا رأيتهم عرفتهم بسيماهم ، وأنهم من أي صنف من أصناف العصاة فكأنهم حين يقومون يوم القيامة يقومون مصروعين كالذي يتخبطه ويضربه الشيطان من المس فيصرعه ، أو أن ذلك أمر حاصل لهم في الدنيا ، ولنبحث هذا الأمر :
{ الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } . نريد أن نعرف كلمة " التخبط " وكلمة " الشيطان " وكلمة " المس " . " التخبط " هو الضرب على غير استواء وهدى ، أنت تقول : فلان يتخبط ، أي أن حركته غير رتيبة ، غير منطقية ، حركة ليس لها ضابط ، ذلك هو التخبط . و " الشيطان " جنس من خلق الله؛ لأن الله قال لنا : إنه خلق الإنس والجن ، والجن منهم شياطين ، وجن مطلق ، والشيطان هو عاصي الجن . ونحن لم نر الشيطان ، ولكننا علمنا به بوساطة إعلام الحق الذي آمنا به فقال : أنا لي خلقا مستتر ، ولذلك سميته الجن ، من الاستتار ومنه المجنون أي المستور عقله ، والعاصي من هذا الخلق اسمه " شيطان " .
إذن فإيماننا به لا عن حس ، ولكن عن إيمان بغيب أخبرنا به من آمنا به . وحين نجد شيئاً اسمه الإيمان يجب أن نعرف أنه متعلق بشيء غير مُحس؛ لأن المُحس لا يقال لك : آمن به؛ لأنه مشهود لك ، فأنا لا أقول : أنا أؤمن بأن المصباح منير الآن ، أنا لا أؤمن بأننا مجتمعون في المسجد الآن ، لا أقول ذلك لأن هذا واقع مشهود ومُحسّ . إذن فالأمر الإيماني يتعلق بالغيب ، مثل الإيمان بوجود الملائكة . فإذا ما كنا قد آمنا بالغيب نجد الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا صورة للشيطان ، ولكنه حين يعطينا صورة للشيطان أو لرأس الشيطان المميزة له ، كما أن رءوسنا نحن هي التي تميزنا يتكلم سبحانه عن شجرة الزقوم فيقول جل شأنه : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } [ الصافات : 64-65 ]
وشجرة الزقوم في الآخرة في النار ، إذن فنحن لا نراها ، ورءوس الشياطين لا نراها ، فكيف يشبه الله ما لم نره بما لم نره ، يشبه شيئا مجهولاً بشيء مجهول؟ نقول : نعم ، وذلك أمر مقصود للإعجاز القرآني؛ لأن للشيطان صورة متخيلة بشعة ، بدليل أنك لو طلبت من رسامي العالم في فن الكاريكاتير ، وقلت لهم : ارسموا لنا صورة الشيطان ، ولم تعطهم ملامح صورة محددة ، فكل منهم يرسم وفق تخيله كياناً غاية في القبح : فهذا يصوره بالقبح من ناحية ، وذلك يصوره بالقبح من ناحية أخرى بحيث لو جمعت الرسوم لما اتحد رسم مع رسم .
(1/759)

إذن فكل واحد يستبشع صورة يرسمها . وساعة نعطي الجائزة لمن رسم صورة الشيطان أنعطي الجائزة لأجملهم صورة أم لأقبحهم صورة؟ إننا نعطي الجائزة لصاحب أشد الصور قبحا . إذن فصورة الشيطان المتمثلة صورة بشعة قبيحة ، ولو جاء على صورة واحدة من القبح لاختلف الناس حول هذه الصورة فلعل هذا يكون قبحا عندك ولا يكون قبحا عن آخر ، ولكن حين يُطلق الله أخيلة الناس في تصور القبح ، يكون القبح مائلا وواضحا في عمل كل إنسان فتكون الصورة أكمل وأوفى فالأكمل والأوفى أن يكون القبح شائعا فيها جميعا .
ويقول الحق : { الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } الشيطان قلنا : إنه العاصي من الجن ، وقلنا : إن ربنا سبحانه وتعالى حكى لنا كثيرا أن الشياطين لهم التصاق واتصال بكثير من الإنس : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ]
و { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } فكأن الشيطان قد مس التكوين الإنساني مساً أفسد استقامة ملكاته ، فالتكوين الإنساني له استقامة ملكات مع بعضها البعض؛ فكل حركة لها استقامة ، فإذا ما مسّه الشيطان فسد تآزر الملكات ، فملكاته النفسية تكون غير مستقيمة وغير منسجمة مع بعضها البعض ، فتكون حركته غير رتيبة وغير منطقية .
وما المناسبة بين هذه الصورة وبين عملية الربا؟ . إن أردنا في الآخرة ميزة ، فساعة ترى واحداً مصروعاً فاعرف أنه من أصحاب الربا ، هذا في الآخرة ، وفي الدنيا تجد أيضاً أن له حركة غير منطقية ، هستيرية ، كيف؟
انظر إلى العالم الآن ، لقد خلق الله العالم على هيئة من التكامل . فهذا إنسان يتمتع بإمكانات ومواهب ، وذاك يتمتع بمواهب وإمكانات أخرى ، حتى يحتاج صاحب هذه الإمكانات إلى صاحب تلك الإمكانات فيكتمل الكون ، ولو أن كل إنسان كان وحدة متكررة لاستغنى الكل عن الكل . ولو أن الأفراد متساوون في المواهب لما احتاج الناس لبعضهم البعض . لكن المواهب تختلف؛ لأنك إن أجدت فنًّا من فنون الحياة فقد أجاد سواك فنونا أخرى أنت محتاج إليها ، فإن احتاجوا إليك فيما أَجَدْت ، فقد احتجت إليهم فيما أجادوا ، وهكذا يتكامل العالم . وكذلك خلق الله الكون : مناطق حارة ، ومناطق باردة ، ومناطق بها معادن ، ومناطق بها زراعة؛ حتى يضطر العالم إلى أن يتكامل ، ويضطر العالم إلى أن يتعايش مع بعضه ولذلك يقول الحق في سورة " الرحمن " :
(1/760)

{ والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ]
{ وَضَعَهَا } لمن؟ . { والأرض } ، أي أرض ، وأي أنام؟ . الأرض كل الأرض ، والأنام كل الأنام ، فإن تحددت بحواجز فسدت . إن منع الإنسان من حرية الانتقال من مكان إلى مكان يفسد حركة الإنسان في الكون ، فقد يرغب إنسان في أن ينتقل إلى أرض بكر ليعمرها ، فيرفض أهل تلك الأرض ، فلو أن الأرض كل الأرض كانت للأنام بحيث إن ضاق العمل في مكان ذهبت إلى مكان آخر ، بدون قيود عليك ، تلك القيود التي نشأت من السلطات الزمنية التي تحتجز الأماكن لأنفسها ، فهذا ما يفسد الكون . فهناك بيئات تشتكي قلة القوت ، وبيئات تشتكي قلة الأيدي العاملة لأرض خراب وهي تصلح أن تزرع ، فلو أن الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام لما حدث عجز .
ونلاحظ ما يُقال : ازدحام السكان أو الانفجار السكاني ، بينما توجد أماكن تتطلب خلقاً! ويوجد خلق تتطلب أماكن ، فلماذا هذا الاختلال؟ هذا الاختلال ناشئ من أن السلوك البشري غير منطقي في هذا الكون . والكون الذي نعيش فيه ، فيه ارتقاءات عقلية شتّى ، وطموحات ابتكارية صعدت إلى الكواكب ، وتغزو الفضاء ، ووُجِدَت في كل بيت آلات الترفيه ، أما كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم سعيداً مستريحاً؟
كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم مستريحاً هادئاً؛ لأنه في كل يوم يبتكر أشياءَ تعطي له أكبر الثمرة بأقل مجهود في أقل زمن ، فماذا نريد بعد هذا؟ ولكن هل العالم الذي نعيش فيه منطقي مع هذا الواقع؟ لا ، بل نحن نجد أغنى بلاد العالم وأحسنها وفرة اقتصادية هي التي يعاني الناس فيها القلق ، وهي التي تمتلئ بالاضطراب ، وهي التي ينتشر فيها الشذوذ ، وهي التي تشكو من ارتفاع نسبة الجنون بين سكانها .
إذن فالعالم ليس منطقياً . وهذا التخبط يؤكد ما يقوله الحق : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } إنها حركة هستيرية في الكون تدل على أنه كون غير مستريح ، كون غير منسجم مع طموحاته وابتكاراته .
أما كان على هذا الكون بعقلائه أن يبحثوا عن السبب في هذا ، وأن يعرفوا لماذا نشقى كل هذا الشقاء وعندنا هذه الطموحات الابتكارية؟ كان يجب أن يبحثوا ، فالمصيبة عامة ، لا تعم الدول المتخلفة أو النامية فقط ، بل هي أيضاً في الدول المتقدمة ، كان يجب أن يعقد المفكرون المؤتمرات ليبحثوا هذه المسألة ، فإذا ما كانت المسألة عامة تضم كل البلاد متقدمها ومتأخرها وجب أن نبحث عن سبب مشترك ، ولا نبحث عن سبب قد يوجد عند قوم ولا يوجد عن قوم آخرين؛ لأننا لو بحثنا لقلنا : يوجد في هذه البيئة . وكذلك هو موجود في كل البيئات ، فلا بد أن يوجد القدر المشترك .
فالأرزاق التي توجد في الكون تنقسم إلى قسمين : رزق أنتفع به مباشرة ، ورزق هو سبب لما أنتفع به مباشرة .
(1/761)

أنا آكل رغيف الخبز ، هذا اسمه رزق مباشر ، وأشرب كون الماء ، وهو رزق مباشر ، واكتسي بالثوب وذلك أيضاً رزق مباشر ، وأسكن في البيت وهذا رابعاً رزق مباشر ، وأنير المصباح رزق مباشر . ولكن المال يأتي بالرزق المباشر ، ولا يغني عن الرزق المباشر . فإذا كان عندي جبل من ذهب وأنا جوعان ، ماذا أفعل به؟ . إذن فرغيف العيش أحسن منه ، هذا رزق مباشر ، فالنقود أو الذهب أشتري بها هذا وهذا ، لكن لا يغنيني عن هذا وهذا .
وقد جاء وقت أصبح الناس يرون فيه أن المال هو كل شيء حتى صار هدفا وتعلق الناس به . . وفي الحق أنّ المال ليس غاية ، ولا ينفع أن يكون غاية بل هو وسيلة . فإن فقد وسيلته وأصبح غاية فلا بد أن يفسد الكون؛ فعلة فساد الكون كله في القدر المشترك الذي هو المال ، حيث أصبح المال غاية ، ولم يعد وسيلة .
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطهر حياة الاقتصاد للناس طهارة تضمن حِلّ ما يطعمون ، وما يشربون ، وما يكتسون ، حتى تصدر أعمالهم عن خليات إيمانية طاهرة مصفاة؛ ذلك أن الشيء الذي يصدر عن خلية إيمانية طاهرة مصفاة لا يمكن أن ينشأ عنه إلا الخير .
ومن العجيب أن نجد القوم الذين صدروا لنا النظام الربوي يحاولون الآن جاهدين أن يتخلصوا منه ، لا لأنهم ينظرون إلى هذا التخلص على أنه طهارة دينية ، ولكن لأنهم يرون أن كل شرور الحياة ناشئة عن هذا الربا . وليست هذه الصيحة حديثة عهد بنا ، فقديما أي من عام ألف وتسعمائة وخمسين قام رجل الاقتصاد العالمي " شاخت " في ألمانيا وقد رأى اختلال النظام فيها وفي العالم ، فوضع تقريره بأن الفساد كله ناشئ من النظام الربوي ، وأن هذا النظام يضمن للغني أن يزيد غنى ، وما دام هذا النظام قد ضمن للغني أن يزيد غنى ، فمن أين يزداد غنى؟ لاشك أنه يزداد غنى من الفقير . إذن فستئول المسألة إلى أن المال سيصبح في يد أقلية في الكون تتحكم في مصائره كلها ولاسيما المصائر الخلقية . لماذا؟ .
لأن الذين يحبون أن يستثمروا المال لا ينظرون إلا إلى النفعية المالية ، فهم يديرون المشروعات التي تحقق لهم تلك النفعية . وهناك رجل اقتصاد آخر هو " كينز " الذي يتزعم فكرة " الاقتصاد الحر " في العالم يقول قولته المشهورة : إن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى درجة الصفر . ومعنى ذلك أنه لا ربا .
وإذا ما نظرنا إلى عملية عقد الربا في ذاتها وجدناها عقداً باطلاً؛ لأن كل عقد من العقود إنما يوجد لحماية الطرفين المتعاقدين ، وعقد الربا لا يحمي إلا الطرف الدائن فقط ، وهناك أمر خلقي آخر وهو أن الإنسان لا يعطي ربا إلا إذا كان عنده فائض زائد على حاجته .
(1/762)

ولا يأخذ إنسان من المرابي إلا إذا كان محتاجاً . فانظروا إلى النكسة الخلقية في الكون . إن المعدم الفقير الذي لا يجد ما يسد جوعه وحاجته يضطر إلى الاستدانة ، وهذا الفقير المعدم هو الذي يتكفل بأن يعطي الأصل والزائد إلى الغني غير المحتاج .
إنها نكسة خلقية توجد في المجتمع ضِغناً ، وتوجد في المجتمع حقداً ، وتقضي على بقية المعروف وقيمته بين الناس ، وتنعدم المودة في المجتمع . فإذا ما رأى إنسان فقيرٌ إنساناً غنياً عنده المال ، ويشترط الغني على الفقير المعدم أن يعطيه ما يأخذه وأن يزيد عليه ، فعلى أية حال ستكون مشاعر وأحاسيس الفقير؟ كان يكفي الغني أن يعطي الفقير ، وأن يسترد الغني بعد ذلك ما أخذه الفقير ، ولكن الغني المرابي يطلب من الفقير أن يسدد ما أخذه ويزيد عليه . وكانوا يتعللون ويقولون : إن النص القرآني إنما يتكلم عن الربا في الأضعاف المضاعفة ، فإذا ما منعنا القيد في الأضعاف المضاعفة لا يكون حراماً!!
أي أنهم يريدون تبرير إعطاء الفقير مالاً ، وأن يرده أضعافاً فقط لا أضعافاً مضاعفة؛ حتى لا يصير ذلك الاسترداد بالزيادة حراماً . ولهؤلاء نقول : إن الذين يقولون ذلك يحاولون أن يتلصصوا على النص القرآني ، وكأن الله قد ترك النص ليتلصصوا عليه ويسرقوا منه ما شاءوا دون أن يضع في النص ما يحول دون هذا التلصص ، ولو فطنوا إلى أن الله يقول في آخر الأمر : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 279 ]
هذا القول الحاسم يوضح أن الله لم يستثن ضعفاً ولا أضعافاً . إذن فقوله الحق : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 130 ]
إن هذا القول الحكيم لم يجئ إلا ليبين الواقع الذي كانوا يعيشونه ، ولم يستثن الله ضعفاً أو أضعافاً؛ لأن الحق جعل التوبة تبدأ من أن يأخذ الإنسان رأس ماله فقط ، فلا يسمح الله لأحد أن يأخذ نصف الضعف أو الضعف أو الضعفين ، ولا يسمح بالأضعاف ولا بالمضاعفات .
وكانوا يتعللون أن اتفاق الطرفين على أي أمر يعتبر تراضياً ويعتبر عقداً . وقد يكون ذلك صحيحاً إن لم يكن هناك مشرع أعلى من كل الخلق يسيطر على هذا التراضي . فهل كلما تراضى الطرفان على شيء يصير حلالاً؟
لو كان الأمر كذلك لكان الزنا حلالاً : لأنهما طرفان قد تراضيا . وكل ذلك لا يتأتى أي رضاء الطرفين إلا في الأمور التي ليس فيها تشريع صدر عن المشرع الأعلى ، وهو الله الحيّ القيوم .
إن الله قد فرض أمراً يقضي على التراضي بيني وبينك؛ لأنه هو المسيطر ، وهو الذي حكم في الأمر ، فلا تراضي بيننا فيما يخالف ما شرع الله أو حكم فيه .
(1/763)

وإذا نظرنا نظرة أخرى فإننا نجد أن التراضي الذي يدعونه مردود عليه . إنه " تراضٍ " باطل بالفحص الدقيق والبحث المنطقي . لماذا؟ لأننا نقول إن التراضي إنما ينشأ بين اثنين لا يتعدى أمر ما تراضيا عليه إلى غيرهما ، أما إذا كان الأمر قد تعدى من تراضيا عليه إلى غيرهما فالتراضي باطل .
فهب أن واحداً لا يملك شيئا ، وواحداً آخر يملك ألفا ، والذي يملك ألفا هي ملكه ، وأدار بها عملا من الأعمال ، وحين يدير صاحب الألف عملا فالمطلوب له أجر عمله ليعيش من هذا الأجر . أما الذي لا يملك شيئا إذا ما أراد أن يعمل مثلما عمل صاحب الألف ، فذهب إلى إنسان وأخذ منه ألفا ليعمل عملا كعمل صاحب الألف ، فيشترط من يعطيه هذه الألف من الأموال أن يزيده مائة حين السداد ، فيكون المطلوب من الذي اقترض هذه الألف أجر عمله كصاحب الألف الأول ومطلوب منه أيضا أن يزيد على أجره تلك المائة المطلوبة لمن أقرضه بالربا .
فمن أين يأتي من اقترض ألفا بهذه المائة الزائدة؟ إن سلعته لو كانت تساوي سلعة الآخر فإنه يخسر . وإن كانت سلعته أقل من سلعة الآخر فإنها تكسد وتبور .
إذن فلا بد له من الاحتيال النكد ، وهذا الاحتيال هو أن يخلع على سلعته وصفا شكليا يساوي به سلعة الآخر ، ويعمد إلى إنقاص الجواهر الفعالة في صنعة سلعته ، فيسحب منها ما يوازي المائة المطلوب سدادها للمرابي . فن الذي سيدفع ذلك؟ إنه المستهلك .
إذن فالمستهلك قد أضير بهذا التراضي؛ فهو الذي سيغرم؛ لأنه هو الذي يدفع أخيراً قيمة قرض الرجل المتاجر بالسلعة وقيمة النسبة الربوية التي حددها المرابي . إذن فالعقد بين المقترض والمرابي حتى في عرفهم عقد باطل رغم أن الاثنين المقترض والمرابي قد اعتبرا هذا العقد تراضيا .
إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يشيع في الناس الرحمة والمودة . وأن يشيع في الناس التعاطف . إنه الحق سبحانه صاحب كل النعمة أراد أن يشيع في الناس أن يعرف كل صاحب نعمة في الدنيا أنه يجب عليه أن تكون نعمته متعدية إلى غيره ، فإن رآها المحروم علم أنه مستفيد منها ، فإذا كان مستفيداً منها فإنه لن ينظر إليها بحقد ، ولا أن ينظر إليها بحسد ، ولا يتمنى أن تزول لأن أمرها عائد إليه . ولكن إذا كان السائد هو أن يريد صاحب النعمة في الدنيا أن يأخذ بالاستحواذ على كل عائد نعمته ، ولا يراعي حق الله في مهمة النعمة ، ولا تتعدى هذه النعمة إلى غيره ، فالمحروم عندما يرى ذلك يتمنى أن تزول النعمة عن صاحبها وينظر إليها بحسد . ويشيع الحقد ومعه الضغينة ، ويجد الفساد فرصة كاملة للشيوع في المجتمع كله .
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسيطر على الاقتصاد عناصر ثلاثة :
العنصر الأول : الرفد والعطاء الخالص ، فيجد الفقير المعدم غنيا يعطيه ، لا بقانون الحق المعلوم المفروض في الزكاة ، ولكن بقانون الحق غير المعلوم في الصدقة ، هذا هو الرفد .
(1/764)

العنصر الثاني : يكون بحق الفرض وهو الزكاة .
العنصر الثالث : هو بحق القرض وهو المداينة .
إذن فأمور ثلاثة هي التي تسيطر على الاقتصاد الإسلامي : إما تطوع بصدقة ، وإما أداءٌ لمفروض من زكاة ، وإما مداينة بالقرض الحسن ، وذلك هو ما يمكن أن ينشأ عليه النظام الاقتصادي في الإسلام . ولننظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى حين عرض هذه المسألة وبشّع هيئة الذين يأكلون الربا بأنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه ويصرعه الشيطان من المس .
لماذا؟ لأن الحق قال فيهم : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } فهل الكلام في البيع ، أو الكلام في الربا؟ إن الكلام في الربا . وكان المنطق يقتضي أن يقول : " الربا كالبيع " ، فما الذي جعلهم يعكسون الأمر؟
إن النص القرآني هنا يوحي إلى التخبط حتى في القضية التي يريدون أن يحتجوا بها . كأنهم قالوا : ما دمت تريد أن تحرم الربا ، فالبيع مثل الربا ، وعليك تحريم البيع أيضا .
وكان القياس أن يقولوا : " إنما الربا مثل البيع " ، لكن الحق سبحانه أراد أن يوضح لنا تخبطهم فجاء على لسانهم : إنما البيع مثل الربا فإن كنتم قد حرمتم الربا فحرموا البيع ، وإن كنتم قد حللتم البيع فحللوا الربا . إنهم يريدون قياسا إما بالطرد ، وإما بالعكس .
فقال الله القول الفصل الحاسم :
{ وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى } [ البقرة : 275 ]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله " .
إنها موعظة من الله جاءت ، الموعظة إن كانت من غير مستفيد منها ، فالمنطق أن تُقبل بضم التاء أما الموعظة التي يُشَك فيها ، فهي الموعظة التي تعود على الواعظ بشيء ما . فإذا كانت الموعظة قد جاءت ممن لا يستفيد بهذه الموعظة ، فهذه حيثية قبولها { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى } ، ولنر كلمة " ربه " حينما تأتي هنا فلنفهم منها أن المقصود بها الحق سبحانه الذي تولى تربيتكم ، ومتولي التربية خلقا بإيجاد ما يستبقي الحياة ، وإيجاد ما يستبقي النوع ، ومحافظة على كل شيء بتسخير كل شيء لك أيها الإنسان ، فيجب أن تكون أيها الإنسان مهذبا أمام ربك فلا توقع نفسك في اتهام الرب الخالق في شبهة الاستفادة من تلك الموعظة معاذ الله .
لماذا؟ لأن الخالق رب ، وما دام الخالق رباً فهو المتولي تربيتكم ، فإياك أيها الإنسان أن تتأبَّى على عظة المُربّي . { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ } ومعنى ذلك أن الأمر لن يكون بأثر رجعي فلا يؤاخذ بما مضى منه؛ لأنه أخذ قبل نزول التحريم؛ تلك هي الرحمة ، لماذا؟
لأنه من الجائز أن يكون المرابي قد رتب حياته ترتيباً على ما كان يناله من ربا قبل التحريم ، فإذا كان الأمر كذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعفو عما قد سلف .
(1/765)

وعلى المرابي أن يبدأ حياته في الوعاء الاقتصادي الجديد .
تلك هي عظمة التشريع الرباني { فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي أن له ما سبق وما مضى قبل تحريم الربا . وتفيد كلمة { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أن الله سبحانه وتعالى حينما يعفو عما سلف فله طلاقة الحرية في أن يقنن ما شاء ، فيجب أن تتعلق دائما باستدامة الفضل من الله . { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } إن مثل هذا الإنسان ربما قال : سأنهار اقتصاديا ومركزي سيتزعزع ، وسأصبح كذا وكذا . لا . اجعل سندك في الله ، ففي الله عوض عن كل فائت ، هو سبحانه لا يريد أن يزلزل مراكز الناس ، ولكن يريد أن يقول لهم : إنني إن سلبتكم نعمتي فاجعلوا أنفسكم في حضانة المنعم بالنعمة .
وما دمت قد جعلت نفسك في حضانة المنعم بالنعمة ، إذن فالنعمة لا شيء؛ لأن المنعم عوض عن هذه النعمة ، والربا من السبع الموبقات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باجتنابها حيث قال : " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال : الشرك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " { وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ } أي عاد بعد الموعظة ماذا يكون أمره؟ { فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . وكان يكفي أن يقول عنهم : إنهم { أَصْحَابُ النار } فلعل واحداً يكون مؤمنا وبعد ذلك عاد إلى معصية ، فيأخذ حظه من النار .
إنما قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يدل على أنه خرج عن دائرة الإيمان . وافهم السابق جيداً لتفهم التذييل اللاحق؛ لأن هنا أمرين : هنا ربا حرمه الله ، وأناس يريدون أن يُحلّلوا الربا عندما قالوا : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } ، فإن عدت إلى الربا حاكما بحرمته فأنت مؤمن عاصٍ تدخل النار .
إنما إن عدت إلى ما سلف من المناقشة في التحريم ، وقلت : البيع مثل الربا ، وناقشت في حرمة الربا وأردت أن تحلله كالبيع فقد خرجت عن دين الإسلام . وحين تخرج عن دين الإسلام فلك الخلود في النار .
ومن هنا يجب أن نلفت الذين يقولون بالربا ، ونقول لهم : قولوا : إن الربا حرام ، ولكننا لا نقدر على أنفسنا حتى نبطله ونتركه ، وعليكم أن تجاهدوا أنفسكم على الخروج منه حتى لا تتعرضوا لحرب الله ورسوله . إنهم باعتقادهم أن الربا حرام يكونون عاصين فقط ، أما أن يحاولوا تبرير الربا ويحللوه فسيدخلون في دائرة أخرى شر من ذلك ، وهي دائرة الكفر والعياذ بالله .
(1/766)

وقد عرفنا أن آدم عليه السلام عصى ربه ، وأكل من الشجرة ، وإبليس عصى ربه ، فلما تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، أما إبليس فقد طرده الله ، ولماذا طرد الله إبليس وأحل عليه اللعنة؟
لأن آدم أقر بالذنب وقال : " ربنا ظلمنا أنفسنا " . لقد اعترف آدم : حكمك يا رب حكم حق ، ولكني ظلمت نفسي . ولكن إبليس عارض في الأمر وقال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } ، فكأنه رد الأمر على الآمر .
وبعد ذلك حين بين الله الحكم في الربا ، وبين أن من انتهى له ما سلف ، فماذا عن الذي يعود؟ { وَمَنْ عَادَ } وهي المقابل { فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، يريد سبحانه أن يقول : إياكم أن يخدعكم الربا بلفظه ، فالألفاظ تخدع البشر؛ لأنكم سميتموه " ربا " بالسطحية الناظرة : لأن الربا هو الزيادة ، والزكاة تنقص ، فالمائة في الربا تكون مائة وعشرة مثلا حسب سعر الفائدة ، وفي الزكاة تصبح المائة ( 97 . 5 ) ، في الأموال وعروض التجارة ، وتختلف عن ذلك في الزروع وغيرها ، وفي ظاهر الأمر أن الربا زاد ، والزكاة أنقصت ، ولكن هذا النقصان وتلك الزيادة هي في اصطلاحاتكم في أعرافكم . والحق سبحانه وتعالى يمحق الزائد ، وينمي الناقص؛ فهو سبحانه يقول : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات . . . }
(1/767)

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
وكلمة { يَمْحَقُ } من " محق " أي ضاع حالا بعد حال ، أي لم يضع فجأة ، ولكن تسلل في الضياع بدون شعور ، ومنه " المحاق " أي الذهاب للهلال . { يَمْحَقُ الله الربا } أي يجعله زاهيا أمام صاحبه ثم يتسلل إليه الخراب من حيث لا يشعر .
ولعلنا إن دققنا النظر في البيئات المحيطة بنا وجدنا مصداق ذلك . فكم من أناس رابوا ، ورأيناهم ، وعرفناهم ، وبعد ذلك عرفنا كيف انتهت حياتهم . { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } ويقول في آية أخرى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله } [ الروم : 39 ]
فإياكم أن تعتقدوا أنكم تخدعون الله بذلك . . ما هو المقابل؟ { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } [ الروم : 39 ]
و { المضعفون } هم الذين يجعلون الشيء أضعافاً مضاعفة . وعندما يقول الحق : { يَمْحَقُ الله الربا } فلا تستهن بنسبة الفعل لله؛ إن نسبة الفعل لفاعله يجب أن تأخذ كيفيته من ذات الفاعل ، فإذا قيل لك : فلان الضعيف يصفعك ، أو فلان الملاكم يصفعك ، فلابد أن تقيس هذه الصفعة بفاعلها ، فإذا كان الله هو الذي قال : { يَمْحَقُ الله } . أيوجد محق فوق هذا؟ لا ، لا يمكن .
وأيضا حين يقول الله : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } في القرآن الذي يُتلى وهو معجز؛ ومحفوظ ومُتحدي بحفظه ، فهذه قضية مصونة { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } ؛ لأن الذي قالها هو الله في كتاب الله المحفوظ ، الذي يُتلى مُتَعَبِّداً به ، أي أن القضية على ألسنة الجماهير كلها ، وفي قلوب المؤمنين كلها ، أيقول الله قضية يحفظها ذلك الحفظ ليأتي واقع الزمن ليكذبها؟ لا ، لا يمكن . فالإنسان لا يحفظ إلا المستند الذي يؤيده!! أنا لا أحفظ إلا " الكمبيالة " التي تخصني! فما دام هو حافظه وهو القائل : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
فمعنى ذلك أنه سبحانه سيطلق فيه قضايا ، وهذه القضايا هو الذي تَعهد بحفظها ، ولا يتعهد بحفظها إلا لتكون حجة على صدقه في قولها . فالشيء الذي لا يكون فيه حُجة لا نحافظ عليه . وهو سبحانه القائل : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ]
إن هذه قضية قرآنية تعهد الله بحفظها ، فلابد أن يأتي واقع الحياة ليؤيدها ، فإذا كان واقع الحياة لا يؤيدها ، ماذا يكون الموقف؟ أنكذب القرآن وحاشانا أن نكذب القرآن الذي قاله الحق الذي لا إله سواه ليُدير كوناً من ورائه .
{ يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } . ولماذا قال الحق : " كفار " ولم يقل : " كافر " ، ولماذا قال : " أثيم " وليس مجرد " آثم "؟ لأنه يريد أن يرد الحكم على الله وما دام يريد أن يرد الحكم على الله ، فقد كفر كفرين اثنين : كفر لأنه لم يعترف بهذه ، وكفر لأنه ردّ الحكم على الله ، وهو " أثيم " ، ليس مجرد " آثم " ، وفي ذلك صيغة المبالغة لنستدل على أن القضية التي نحن بصددها قضية عمرانية اجتماعية كونية ، إن لم تكن كما أرادها الله فسيتزلزل أركان المجتمع كله .
(1/768)

وبعد أن شرح لنا الحق مرارة المبالغة في " كفار " وفي " أثيم " يأتي لنا بالمقابل حتى ندرك حلاوة هذا المقابل ، ومثال ذلك ما يقول الشاعر :
فالوجه مثل الصبح مبيضّ ... والشعر مثل الليل مسودُّ
ضدّان لما استجمعا حَسُنا ... والضد يظهر حسنَه الضدُّ
فكأن الله بعد أن تكلم عن الكَفَّار والأثيم يرجعنا لحلاوة الإيمان فيقول : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ . . . }
(1/769)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
وقلنا : إن كلمة " أجر " تقتضي أنه لا يوجد مخلوق يملك سلعة ، إنما كلنا مستأجرون ، لماذا؟ لأننا نشغل المخ المخلوق لله ، بالطاقة المخلوقة لله ، في المادة المخلوقة لله ، فماذا تملك أنت أيها الإنسان إلا عملك ، وما دمت لا تملك إلا عملك فلك أجر { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } . وكلمة { عِندَ رَبِّهِمْ } لها ملحظ؛ فعندما يكون لك الأجر عند المساوي لك قد يأكلك ، أما أجرك عند رب تولّى هو تربيتك ، فلن يضيع أبداً .
ويتابع الحق : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } لا من أنفسهم على أنفسهم ، ولا من أحبابهم عليهم ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ؛ لأن أي شيء فاتهم من الخير سيجدونه مُحضرا أمامهم . وبعد ذلك يقول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله . . . }
(1/770)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
وحين يقول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ } فنحن نعرف أن النداء بالإيمان حيثية كل تكليف بعده ، وساعة ينادي الحق ويقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ } أي يا من آمنتم بي إلها قادراً حكيماً ، عزيزاً عنكم غالباً على أمري ، لا تضرني معصيتكم ، ولا تنفعني طاعتكم ، فإذا كنتم قد آمنتم بي وأنا إله قادر حكيم فاسمعوا مني ما أحبه لكم من الأحكام .
إذن فكل { ياأيها الذين آمَنُواْ } في القرآن هي حيثية كل حكم يأتي بعدها ، وأنت تفعل ما يأمرك به الله ، وإن سألك أحد : وقال لك : لماذا فعلت هذا الأمر؟ فقل له فعلته لأني مؤمن ، والذي أمرني به هو الذي آمنت بحكمته وقدرته . وأنت لا تدخل في متاهة علل الأحكام ، لأنك آمنت بأن الله إله حكيم قادر ، أنزل لك تلك التكاليف ، وإياك أن تدخل في متاهة علة الأحكام ، لماذا؟ لأن هناك أشياء قد تغيب علّتها عنك ، أكنت تؤجلها إلى أن تعرف العلة؟ .
أكنا نؤجل تحريم لحم الخنزير إلى أن يثبت حالياً بالتحليل أنه ضار؟ لا ، إذا كان قد ثبت حالياً بالتحليل أنه ضار فنحن نزداد ثقة في كل حكم كلفنا الله به ، ولم نهتد إلى علته ، والحق يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } ومن عجائب كلمة { اتقوا } أنها تأتي في أشياء يبدو أنها متناقضة ، إنما هي ملتقية { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } ولم يقل هنا : اتقوا النار كما قال في آية أخرى : { اتقوا النار } . إذن فكيف يقول : { اتقوا الله } ويقول : { اتقوا النار } ؟ لأن معنى { اتقوا } : أي اجعلوا وقاية بينكم وبين ربكم .
كيف نجعل وقاية بيننا وبين ربنا مع أن المطلوب منا إيمانياً أن نلتحم بمنهج الله لنكون دائما في معية الله؟ نقول : الله سبحانه وتعالى له صفات جلال كالقهار ، والمنتقم ، والجبار ، وذي الطول وشديد العقاب؛ فهو يطلب من عبده المؤمن أن يجعل بينه وبين صفات جلاله وقاية ، فالنار جند من جنود صفات الجلال ، وحين يقول سبحانه : { اتقوا الله } يعني : اجعلوا وقاية بينكم وبين صفات الجلال التي من جنودها النار . إذن ف { اتقوا الله } مثل { اتقوا النار } أي اجعلوا وقاية بينكم وبين النار .
ويتابع الحق : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ، و { ذَرُواْ } أي اتركوا ، ودعوا ، وتناسوا ، واطلبوا الخير من الله فيما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين حقاً بالله . كأن الله أراد أن يجعلها تصفية فاصلة ، يولد من بعدها المؤمن طاهرا نقيا .
إنه أمر من الحق : دعوا الربا الذي لم تقبضوه؛ لأن الذي قبضتموه أمره { فَلَهُ مَا سَلَفَ } والذي لم تقبضوه اتركوه : { اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فإن قلتم إن التعاقد قد صدر قبل التحريم ، والتعاقد قد أوجب لك الحق في ذلك ، تذكر أنك لم تقبض هذا الحق ليصير في يدك ، ولا تقل إن حياتي الاقتصادية مترتبة عليه ، فترتيب الحياة الاقتصادية لم ينشأ بالاتفاق على هذا الربا ، ولكنه ينشأ بقبضه وأنت لم تقبضه . ويتابع الحق : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ . . . }
(1/771)

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
في هذه الآية قضية كونية يتغافل عنها كثير من الناس . لقد جاء نظام ليحمي طائفة من ظلم طائفة ، ولم يأت هذا النظام إلا بعد أن وجدت طائفة المرابين الذين ظلموا طائفة الفقراء المستضعفين . وحَسْبُ هؤلاء المستضعفين الذين استغلوا من المرابين أن ينصفهم القرآن وأن يُنهي قضية الربا إنهاءً يعطي الذين رابوا ما سلف لأنهم بنوا حياتهم على ذلك .
و { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } كلمة ( الألف والذال والنون ) من " الأذن " وكل المادة مشتقة من " الأذن " و " الأذُن " هي الأصل الأول في الإعلام؛ لأن الإنسان ليس مفروضاً أنه قارئ أولا ، إنّه لا يكون قارئاً إلا إذا سمع ، إذن فلا يمكن أن ينشأ إعلام إلا بالسماع والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن أدوات العلم للإنسان قال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
ولذلك عندما جاء علم وظائف الأعضاء ليبحث ذلك وجدوها طبق الأصل كما قال الله عنها . فالوليد الصغير حين يولد إن جاء إصبع إنسان عند عينيه فلا يهتز له رمش؛ لأن عينه لم تؤد مهمتها بعد ، ولكن إن تصرخ بجانب أذنه فإنه ينفعل .
وعرفنا أن أول أداة تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان الوليد هي أذنه ، وهي أيضا الأداة التي تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان مستيقظاً كان أو نائماً . إن العين تغمض في النوم فلا ترى ، لكن الأذن مستعدة طوال الوقت لأن تسمع؛ لأنها آلة الاستدعاء . إذن فمادة " الأَذَان " و " الأُذُن " كلها جاءت من مهمة السمع ، وقال الله سبحانه وتعالى : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 5 ]
ما معنى أذنت؟ . أنت حين تسمع من مساو لك ، فقد تنفذ وقد لا تنفذ ، لكن حين تسمعه من إله قادر فلا مناص لك إلا أن تنفذ ، فكأن الله يقول : إن الأرض تنشق حين تسمع أمري بالانشقاق . فبمجرد أن تسمع الأرض أمر الحق فإنها تفعل ، وحق لها أن تفعل ذلك؛ إنها أذنت لأمر الله ، أي خضعت؛ لأن القائل لها هو الله .
إذن كل المادة هنا جاءت من " الأذن " . ولذلك فالله يقول لمن لا يفعل ما أمر به الله في الربا؛ { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } . أما حرب الله فلا نقول فيها إلا قول الله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ]
ولا يستطيع أحد أن يحتاط لها . وأما حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي الأمر الظاهر . كأن الله سبحانه وتعالى يجرد على المرابين تجريدة هائلة من جنوده التي لا يعلمها إلا هو ، وحرب رسول الله جنودها هم المؤمنون برسوله ، وعليهم أن يكونوا حربا على كل ظاهرة من ظواهر الفساد في الكون؛ ليطهروا حياتهم من دنس الربا .
(1/772)

وهكذا وضع الله نهاية لأسلوب التعامل ، حتى يتطهر المال من ذلك الربا ، فإذا قال الحق : { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } فمعنى هذا أنه سبحانه يبين لنا بهذا القول أنه لا حق للمرابين في ضعف ولا ضعفين ، ولا في أضعاف مضاعفة . وحينئذ { لاَ تَظْلِمُونَ } من رابيتم ، بأن تأخذوا منهم زائدا عن رأس المال .
ولكن ما موقع { وَلاَ تُظْلَمُونَ } ، ومن الذي يظلمهم؟ قد يظلمهم الضعيف الذي ظُلِمَ لهم سابقا ، ويأخذ منهم بعض رأس المال بدعوى أنهم طالما استغلوه فأخذوا منه قدراً زائدا على رأس المال . إن المشرع يريد أن يمنع الظالم السابق فينهي ظلمه ، وأن يسعف المظلوم اللاحق فيعطيه حقه ، وهو سبحانه لا يريد أن يوجه ظلما ليستغل به من ظُلم فيظلم الذي ظلمه أولا ، بل سبحانه يشاء بهذا الحكم أن ينهي هذا النوع من الظلم على إطلاقه ، وأن يجعل الجميع على قدر سواء في الانتفاع بمزايا الحكم .
وكثير من النظريات التي تأتي لتقلب نظاما في مجتمع ما تعمد إلى الطائفة التي ظَلَمَت ، فلا تكتفي بأن تكفها عن الظلم ، ولكن تمكن للمظلوم أن يظلم من ظلمه ، وذلك هو الإجحاف في المجتمع ، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الناس جيدا؛ لأن الله الذي أنصفك أيها المظلوم من ظالمك ، فمنع ظلمه لك ، هنا يجب أن تحترم حكمه حينما قال : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } وبهذا القول انتهت القضية .
ويستأنف سبحانه الأمر بعدالة جديدة تجمعك وتجمعه على قدم المساواة بدون ظلم منك أيها المظلوم سابقا بحجة أنه طالما ظلمك . والمجتمعات حين تسير على هذا النظام { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } إنما تسير على نمط معتدل لا على ظلم موجه . فنحن نعيب على قوم أنهم ظلموا ، ثم نأتي بقوم لنجعلهم يَظْلِمون ، لا . . إن الجميع على قدم المساواة من الآن .
وفساد أي نظام في المجتمع يأتي من توجيه الظلم من فئة جديدة إلى فئة قديمة ، فبذلك يظل النظام قائما ، طائفة ظَلَمَت ، وتأتي طائفة كانت مظلومة لتظلم الطائفة الظالمة سابقا ، نقول لهم : ذلك ظلم موجه ، ونحن نريد أن تنتظم العدالة وتشمل كل أفراد المجتمع بأن يأخذ كل إنسان حقه ، فالذي ظَلَمَ سابقا منعناه عن ظلمه ، والمغلوب سابقا أنصفناه ، وبذلك يصير الكل على قدم المساواة؛ ليسير المجتمع مسيرة عادلة تحكمه قضية إيمانية . إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
وبعد ذلك يجيء القرآن ليفتح باب جديدا من الأمل أمام المظلومين . وليضع حدا للذين كانوا ظالمين أولا ، وحكم لهم برأس المال ومنعهم من الزائد على رأس المال ، فحنن قلوبهم على هؤلاء . أَيْ ليست ضربة لازب أن تأخذوا رأس المال الآن ، ولكن عليكم أن تُنْظِروا وتمهلوا المدين إن كان معسراً ، وإن تساميتم في النضج الإيماني اليقيني وارتضيتم الله بديلا لكم عن كل عوض يفوتكم ، فعليكم أن تتجاوزوا وتتنازلوا حتى عن رءوس أموالكم التي حكم الله لكم بها لتترفعوا بها وتهبوها لمن لا يقدر . فيأتي قول الحق : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ . . . }
(1/773)

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
و { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } حكم بأن للدائن رأس المال ، ولكن هب أنّ المدين ذو عسرة ، هنا قضية يثيرها بعض المستشرقين الذين يدعون أنهم درسوا العربية ، لقد درسوها صناعة ، ولكنها عزت عليهم ملكة؛ لأن اللغة ليست صناعة فقط ، اللغة طبع ، واللغة ملكة ، اللغة وجدان ، يقولون : إن القرآن يفوته بعض التقعيدات التي تقعدها لغته . فمثلا جاءوا بهذه الآية : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
قال بعض المستشرقين : نريد أن نبحث مع علماء القرآن عن خبر { كَانَ } في قوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } ، صحيح لا نجد خبر { كَانَ } ، ولكن الملكة العربية ليست عنده؛ لأنه إذا كان قد درس العربية كان يجب أن يعرف أن { كَانَ } تحتاج إلى اسم وإلى خبر ، اسم مرفوع وخبر منصوب وهذه هي التي يقال عنها كان الناقصة ، كان يجب أن يفهم أيضا معها أنها قد تأتي تامة أي ليس لها خبر ، وتكتفي بالمرفوع ، وهذه تحتاج إلى شرح بسيط .
إن كل فعل من الأفعال يدل على حدث وزمن ، وكلمة { كَانَ } إن سمعتها دلت على وجود وحدث مطلق لم تبين فيه الحالة التي عليها اسمها ، كان مجتهدا؟ كان كسولا؟ مثلا فهي تدل على وجود شيء مطلق أي ليس له حالة ، ومعنى ذلك أن { كَانَ } دلت على الزمن الوجودي المطلق أي على المعنى المجرد الناقص ، والشيء المطلق لا يظهر المراد منه إلا إذا قيد ، فإن أردت أن تدل على وجود مقيد ليتضح المعنى ، ويظهر ، فلا بد أن تأتيها بخبر ، كأن تقول : كان زيد مجتهدا ، هنا وجد شيء خاص وهو اجتهاد زيد . إذن ف { كَانَ } هنا ناقصة تريد الخبر يكملها وليعطيها الوجود الخاص ، فإذا لم يكن الأمر كذلك وأردنا الوجود فقط تكون { كَانَ } تامة أي تكتفي بمرفوعها فقط مثل أن تقول : عاد الغائب فكان الفرح أي وجد ، أو أشرقت الشمس فكان النور ، والشاعر يقول :
وكانت وليس الصبح فيها بأبيض ... وأضحت وليس الليل فيها بأسود
فقوله { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } أي فإن وجد ذو عسرة . . أي إن وجد إنسان ليس عنده قدرة على السداد ، { فَنَظِرَةٌ } من الدائن { إلى مَيْسَرَةٍ } أي إلى أن يتيسر ، ويكون رأس المال في هذه الحالة { قَرْضاً حَسَناً } ، وكلما صبر عليه لحظة أعطاه الله عليها ثوابا .
ولنا أن نعرف أن ثواب القرض الحسن أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن الصدقة حين تعطيها فقد قطعت أمل نفسك منها ، ولا تشغل بها ، وتأخذ ثوابا على ذلك دفعة واحدة ، لكن القرض حين تعطيه فقلبك يكون متعلقا به ، فكلما يكون التعلق به شديدا ، ويهب عليك حب المال وتصبر فأنت تأخذ ثوابا . لذلك يجب أن تلحظ أن القرض حين يكون قرضا حسنا والمقترض معذور بحق؛ لأن فيه فرقاً بين معذور بحق ، ومعذور بباطل ، المعذور بحق هو الذي يحاول جاهدا أن يسدد دينه ، ولكن الظروف تقف أمامه وتحول دون ذلك ، أما المعذور بباطل فيجد عنده ما يسد دينه ولكنه يماطل في السداد ويبقى المال ينتفع به وهو بهذا ظالم .
(1/774)

ولذلك جرب نفسك ، ستجد أن كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن صاحبه حرص على السداد ولم يسدد ، وكل دين كان برداً وسلاماً على قلبك فاعلم أن صاحبه معذور بحق ولا يقدر أن يسدد ، وربما استحييت أنت أن تمر عليه مخافة أن تحرجه بمجرد رؤيتك . وهؤلاء لا يطول بهم الدّيْنُ طويلا؛ لأن الرسول حكم في هذه القضية حكما ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " .
فما دام ساعة أخذها في نيته أن يؤدي فإن الله ييسر له سبيل الأداء ، ومن أخذها يريد إتلافها ، فالله لا ييسر له أن يسدد؛ لأنه لا يقدر على ترك المال يسدد به دينه وهذه حادثة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر لنا هذا الحديث ، فقد مات رجل عليه دين ، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مدين؛ قال لأصحابه : صلوا على أخيكم .
إذن فهو لم يصل ، ولكنه طلب من أصحابه أن يصلوا ، لماذا لم يصل؟ لأنه قال قضية سابقة : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه " ما دام قد مات ولم يؤد إذن فقد كان في نيته أن يماطل ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع أصحابه من الصلاة عليه .
والرسول صلى الله عليه وسلم يأتي للمعسر ويعامله معاملة الأريحية الإيمانية فيقول : " من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " .
ومعنى " أنظر " أي أمهله وأخر أخذ الدين منه فلا يلاحقه ، فلا يحبسه في دَيْنِه ، فلا يطارده ، وإن تسامى في اليقين الإيماني ، يقول له : " اذهب ، الله يعوض عليَّ وعليك " وتنتهي المسألة ، ولذلك يقول الحق : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } والثمرة هي حسن الجزاء من الله . فإما أن تنظر وتؤخر ، وإما أن تتصدق ببعض الدين أو بكل الدين ، وأنت حر في أن تفعل ما تشاء . فانظروا دقة الحق عند تصفية هذه القضية الاقتصادية التي كانت الشغل الشاغل للبيئة الجاهلية .
ولقد عرفنا مما تقدم أن الإسلام قد بنى العملية الاقتصادية على الرفد والعطاء ، وتكلم الحق سبحانه وتعالى عنها في آيات النفقة التي سبقت من أول قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ } .
(1/775)

وتكلم طويلاً عن النفقة . والنفقة تشمل ما يكون مفروضاً عليك من زكاة ، وما تتطوع به أنت . والمتطوع بشيء فوق ما فرض الله يعتبره سبحانه حقاً للفقير ، ولكنه حق غير معلوم ، ولذلك حينما تعرضنا إلى قوله سبحانه : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 15-17 ]
أيتطلب الإسلام منا ألا نهجع إلا قليلاً من الليل؟ لا ، إن للمسلم أن يصلي العشاء وينام ، ثم يقوم لصلاة الفجر ، هذا ما يطلبه الإسلام . لكن الحق سبحانه هنا يتكلم عن المحسنين الذين دخلوا في مقام الإحسان مع الله . { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 15-18 ]
هل التشريع يلزم المؤمن أن يقوم بالسحر ليستغفر؟ لا ، إن المسلم عليه أن يؤدي الفروض ، ولكن إن كان المسلم يرغب في دخول مقام الإحسان فعليه أن يعرف الطريق : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ]
والكلام هنا في مقام الإحسان . ويضيف الحق عن أصحاب هذا المقام : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 19 ]
إن الله سبحانه قد حدد في أموال من يدخل في مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم ، ولم يحدد الله قيمة هذا الحق أو لونه . هل هو معلوم أو غير معلوم . لكن حين تكلم الله عن المؤمنين قال سبحانه : { والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم } [ المعارج : 24-25 ]
وهكذا نجد في أموال صاحب مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم ، لكن في أموال صاحب الإيمان حق معلوم وهو الزكاة . ومقام الإحسان يعلو مقام الإيمان؛ لأن الحق في مال المؤمن معلوم ، أما في مقام الإحسان فإن في مالهم حقا للإحسان إلى الفقير وإن لم يكن معلوما ، أي لم يحدد .
وقد رأينا بعض الفقهاء قد اعتبر الزكاة ما دامت حقاً للفقير عند الغني فإن منع الغني ما قدره نصاب سرقة تُقطع يد الغني ، لأنه أخذ حق الفقير . ونصاب السرقة ربع دينار ذهباً ، فيبني الإسلام قضاياه الاجتماعية إما عل النفقة غير المفروضة وإما على النفقة المفروضة . فإذا ما شحّت نفوس الناس ، ولم تستطيع أن تتبرع بالقدر الزائد على المفروض ، وتمكن حب مالها في نفسها تمكنا قوياً بحيث لا تتنازل عنه يقول الله سبحانه لكل منهم :
أنت لم تتنازل عن مالك ، وأنا حرمت الربا ، فكيف نلتقي لنضع للمجتمع أساساً سليماً؟ سنحتفظ لك بمالك ونمنع عنك فائدة الربا ، وهكذا نلتقي في منتصف الطريق ، لا أخذنا مالك ، ولا أخذت من غيرك الزائد على هذا المال .
وشرح الحق سبحانه آية الديْن ، وأخذت هذه الآية أطول حيز في حجم آيات القرآن ، لماذا؟ . لأن على الديْن هذا تُبنى قضايا المجتمع الاقتصادية عند من لا يجد مورداً مالياً يُسيّر به حركة حياته .
(1/776)

وحين وضع الحق آية الديْن لم يضعها وضعاً تقنينياً جافاً جامداً ، وإنما وضعها وضعاً وجدانيا . أي مزج التقنين بالوجدان ، مزج الحق جمود القانون بروح الإسلام ، فلم يجعلها عملية جافة .
والمشرعون من البشر عندما يقننون فهم يضعون القانون جافاً ، فمثال ذلك : من قتل يقتل ، وغير ذلك . لكن الحق يقول غير ذلك حتى في أعنف قضايا الخلاف ، وهي خلافات الدم ، فقال سبحانه : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 178 ]
والحق سبحانه وتعالى قبل أن يأتي بآية الديْن ، يقول : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله . . . }
(1/777)

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
ولقد أوضحنا من قبل أن تقوى الله تقتضي أن تقوم بالأفعال التي تقينا صفات الجلال في الله ، وأوضحنا أن الله قال : { واتقوا يَوْماً } أي أن نفعل ما يجعل بيننا وبين النار وقاية ، فالنار من متعلقات صفات الجلال . وهاهو ذا الحق سبحانه هنا يقول : { واتقوا يَوْماً } ، فهل نتقي اليوم ، أو نتقي ما ينشأ في اليوم؟ إن اليوم ظرف زمان ، والأزمان لا تُخاف بذاتها ، ولكن يخاف الإنسان مما يقع في الزمن .
لكن إذا كان شيء في الزمن مخيفاً ، إذن فالخوف ينصب على اليوم كله ، لأنه يوم هول؛ كل شيء فيه مفزّع ومخوف ، وقانا الله وإياكم ما فيه من هول ، وانظر إلى الدقة القرآنية المتناهية في قوله : { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } .
إن الرجوع في هذا اليوم لا يكون بطواعية العباد ولكن بإرادة الله . وسبحانه حين يتكلم عن المؤمنين الذين يعملون الصالح من الأعمال؛ فإنه يقول عن رجوعهم إلى الله يوم القيامة : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين * الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 45-46 ]
ومعنى ذلك أن العبد المؤمن يشتاق إلى العودة إلى الله؛ لأنه يرغب أن ينال الفوز .
أما غير المؤمنين فيقول عنهم الحق : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ]
إن رجوع غير المؤمنين يكون رجوعاً قسرياً لا مرغوباً فيه . والحق يقول عن هذا اليوم : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . وبعد ذلك يقنن الحق سبحانه للدين فيقول سبحانه : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه . . . }
(1/778)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
إنها أطول آية في آيات القرآن ويستهلها الله بقوله : { ياأيها الذين آمنوا } وهذا الاستهلال كما نعرف يوحي بأن ما يأتي بعد هذا الاستهلال من حكم ، يكون الإيمان هو حيثية ذلك الحكم ، فما دمت قد آمنت بالله فأنت تطبق ما كلفك به؛ لأن الله لم يكلف كافراً ، فالإنسان كما قلنا سابقاً حر في أن يُقبل على الإيمان بالله أو لا يُقبل .
فإن أقبل الإنسان بالإيمان فليستقبل كل حكم ن الله بالتزام . ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى إن الإنسان حين يكون مريضاً ، هو حر في أن يذهب إلى الطبيب أو لا يذهب ، ولكن حين يذهب الإنسان إلى الطبيب ويكتب له الدواء فالإنسان لا يسأل الطبيب وهو مخلوق مثله : لماذا كتبت هذه العقاقير؟ .
إن الطبيب يمكن أن يرد : إنك كنت حرا في أن تأتي إليّ أو لا تأتي ، لكن ما دمت قد جئت إلى فاسمع الكلام ونفذه . والطبيب لا يشرح التفاعلات والمعادلات لا ، إن الطبيب يشخص المرض ، ويكتب الدواء . فما بالنا إذا أقبلنا على الخالق الأعلى بالإيمان؟
إننا نفذ أوامره سبحانه ، والله لا يأمر المؤمن إلا عن حكمة ، وقد تتجلى للمؤمن بعد ذلك آثار الحكمة ويزداد المؤمن ثقة في إيمانه بالله . يقول الحق : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } وعندما نتأمل قول الحق : { تَدَايَنتُم } نجد فيها " دَيْن " ، وهناك " دِين " ، ومن معنى الدِيّن الجزاء ، ومن معنى الدِّين منهج السماء ، وأما الدَّيْن فهو الاقتراض إلى موعد يسدد فيه . هكذا نجد ثلاثة معان واضحة : الدِّين : وهو يوم الجزاء ، والدَّيْن وهو المنهج السماوي والدَّيْن : هو المال المقترض .
والله يريد من قوله : { تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } أن يزيل اللبس في معنيين ، ويبقى معنى واحداً وهو الاقتراض فقال : { بِدَيْنٍ } فالتفاعل هنا في مسألة الدَيْن لا في الجزاء ولا في المنهج ، والحق يحدد الدَيْن بأجل مُسمّى . وقد أراد الله بكلمة " مُسمّى " مزيداً من التحديد ، فهناك فرق بين أجل لزمن ، وبين أجل لحدث يحدث ، فإذا قلت : الأجل عندي مقدم الحجيج . فهذا حدث في زمن ، ومقدم الحجيج لا يضمنه أحد ، فقد تتأخر الطائرة ، أو يصاب بعض من الحجيج بمرض فيتم حجز الباقين في الحجر الصحي .
أما إذا قلت : الأجل عندي شهران أو ثلاثة أشهر فهذا يعني أن الأجل هو الزمن نفسه ، لذلك لا يصح أن يؤجل أجل دينه إلى شيء يحدث في الزمن؛ لأنه من الجائز ألا يحدث ذلك الشيء في هذا الزمن . إن التداين بديْن إلى أجل مُسمى يقتضي تحديد الزمن ، والحق يوضح لنا : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } وكلمة { فاكتبوه } هي رفع لحرج الأحباء من الأحباء .
(1/779)

إنه تشريع سماوي ، فلا تأخذ أحد الأريحية ، فيقول لصاحبه : " نحن أصحاب " ، إنه تشريع سماوي يقول لك : اكتب الديْن ، ولا تقل : " نحن أصدقاء " فقد يموت واحد منكما فإن لم تكتب الديْن حرجاً فماذا يفعل الأبناء ، أو الأرامل ، أو الورثة؟ .
إذن فإلزام الحق بكتابة الديْن هو تنفيذ لأمر من الله يحقق رفع الحرج بين الأحباء . ويظن كثير من الناس أن الله يريد بالكتابة حماية الدائن . لا ، إن المقصود بذلك والمهم هو حماية المدين ، لأن المدين إن علم أن الديْن عليه موثق حرص أن يعمل ليؤدي ديْنه ، أما إذا كان الدين غير موثق فيمن الجائز أن يكسل عن العمل وعن سداد الديْن . وبذلك يحصل هو وأسرته على حاجته مرة واحدة ، ثم يضن المجتمع الغني على المجتمع الفقير فلا يقرضه؛ ويأخذون عجز ذلك الإنسان عن السداد ذريعة لذلك ، ويقع هذا الإنسان الذي لم يؤد دينه في دائرة تحمل الوزر المضاعف ، لأنه ضيّق باب القرض الحسن .
إن الله يريد أن يسير دولاب الحياة الاقتصادية عند من لا يملك ، لأن من يملك يستطيع أن يسيّر حياته ، أما من لا يملك فهو المحتاج . ولذلك فهناك مثل في الريف المصري يقول : من يأخذ ويعطي يصير المال ماله . إنه يقترض ويسدد ، لذلك يثق فيه كل الناس ، ويرونه أميناً ويرونه مُجداً ، ويرونه مخلصاً ، ويعرفون عنه أنه إذا أخذ وفّى ، فكل المال يصبح ماله .
إذن فالله سبحانه بكتابة الديْن يريد حماية حركة الحياة عند غير الواجد؛ لأن الواجد في غير حاجة إلى القرض . لذلك جاء الأمر من الحق سبحانه : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } . ومن الذي يكتب الديْن؟ .
انظر الدقة : لا أنت أيها الدائن الذي تكتب ، ولا أنت أيها المدين ، ولكن لابد أن يأتي كاتب غير الاثنين ، فلا مصلحة لهذا الثالث من عملية الدين { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } . وفي ذلك إيضاح بأن الإنسان الذي يعرف الكتابة إن طُلب منه أن يكتب ديْناً ألا يمتنع عن ذلك ، لماذا؟ لأن الآية آية الديْن قد نزلت وكانت الكتابة عند العرب قليلة ، كان هناك عدد قليل فقط هم الذين يعرفون الكتابة ، فكان هناك طلب شديد على من يعرف الكتابة .
ولكن إن لم يُطْلَب أحد من الذين يعرفون الكتابة أن يكتب الديْن فماذا يفعل؟ . إن الحق يأمره بأن يتطوع ، وفي ذلك يأتي الأمر الواضح " فليكتب "؛ لأن الإنسان إذا ما كان هناك أمر يقتضي منه أن يعمل ، والظرف لا يحتمل تجربة ، فالشرع يلزمه أن يندب نفسه للعمل .
هب أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة ، وأغرقت الذي يمسك بدفة الزورق ، أو هو غير قادر على إدارة الدفة ، هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفة ، إنه يندب نفسه للعمل ، فلا مجال للتجربة .
(1/780)

والحق سبحانه وتعالى حين عرض قضية الجدب في قصة سيدنا يوسف قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } [ يوسف : 47-48 ]
وقال سيدنا يوسف : { قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 55 ]
إن المسألة جدب فلا تحتمل التجربة ، وهو كفء لهذه المهمة ، يملك موهبة الحفظ والعلم ، فيندبُ نفسه للعمل . كذلك هنا { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } إذا طلب منه وإن لم يطلب منه وتعين { فَلْيَكْتُبْ } .
وهذه علة الأمرين الاثنين ، وما دامت الكتابة للتوثيق في الدَّيْن؛ فمن الضعيف؟ إنه المدين ، والكتابة حجة عليه للدائن ، لذلك يحدد الله الذي يملل : الذي عليه الديْن ، أي يملي الصيغة التي تكون حجة عليه { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق } ولماذا لا يملي الدائن؟ لأن المدين عادة في مركز الضعف ، فلعل الدائن عندما تأتي لحظة كتابة ميعاد السداد فقد يقلل هذا الميعاد ، وقد يخجل المدين أن يتكلم ويصمت؛ لأنه في مركز الضعف . ويختار الله الذي في مركز الضعف ليملي صيغة الديْن ، يملي على راحته ، ويضمن ألا يُؤخذ بسيف الحاجة في أن موضع من المواضع .
لكن ماذا نفعل عندما يكون الذي عليه الديْن سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو؟ إن الحق يضع القواعد { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } والسفيه هو البالغ مبلغ الرجال إلا أنه لا يمتلك أهلية التصرف . والضيف هو الذي لا يملك القدرة التي تُبلغه أن يكون ناضجا النضج العقلي للتعامل ، كأن يكون طفلا صغيرا ، أو شيخا بلغ من الكبر حتى صار لا يعلم من بعد علمه شيئا ، أو لا يستطيع أن يمل . أي أخرس فيقول بالإملاء الولي أو القيمّ أو الوصيّ .
ويأتي التوثيق الزائد : بقوله تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } .
ولننظر إلى الدقة في التوثيق عندما يقول الحق : { واستشهدوا } نستشهد ونكتب ، لأنه سبحانه يريد بهذا التوثيق أن يؤمّن الحياة الاقتصادية عند غير الواجد؛ لأن الحاجة عندما تكون مؤمَّنَة عند غير الواجد فالدولاب يمشي وتسير حركة الحياة الاقتصادية؛ لأن الواجد هو القليل ، وغير الواجد هو الكثير ، فكل فكر جاد ومفيد يحتاج إلى مائة إنسان ينفذون التخطيط .
أن الجيب الواجد الذي يصرف يحتاج إلى مائة لينفذوا ، ولهذا تكون الجمهرة من الذين لا يجدون ، وذلك حتى يسير نظام الحياة؛ لأن الله لا يريد أن يكون نظام الحياة تفضلا من الخلق على الخلق ، إنما يريد الله نظام الحياة نظاما ضروريا؛ فالعامل الذي لا يعول أسرة قد لا يخرج إلى العمل ، لذلك فالحق يربط خروج العامل بحاجته .
(1/781)

إنه يحتاج إلى الطعام ورعاية نفسه وأسرته فيخرج اضطرارا إلى العمل ، وبتكرار الأمر يعشق عمله ، وحين يعشق العمل فهو يحب العمل في ذاته .
وبذلك ينتقل من الحاجة إلى العمل ، إلى حب العمل في ذاته ، وإذا ما أحب العمل في ذاته ، فعجلة الحياة تسير . والحق سبحانه حين يحدد الشهود بهذا القول : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } .
ولماذا قال الحق : { شَهِيدَيْنِ } ولم يقل " شاهدان "؟ لأن مطلق شاهد قد يكون زوراً ، لذلك جاء الحق بصيغة المبالغة . كأنه شاهد عرفه الناس بعدالة الشهادة حتى صار شهيدا . إنه إنسان تكررت منه الشهادة العادلة؛ واستأمنه الناس على ذلك ، وهذا دليل على أنه شهيد . وإن لم يكن هناك شهيدان من الرجال فالحق يحدد لنا { فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } .
إن الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا على قدر طاقتنا أي من نرضى نحن عنهم ، وعلل الحق مجيء المرأتين في مقابل رجل بما يلي : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } ؛ لأن الشهادة هي احتكاك بمجتمع لتشهد فيه وتعرف ما يحدث . والمرأة بعيدة عن كل ذلك غالبا .
أن الأصل في المرأة ألا علاقة لها بمثل هذه الأعمال ، وليس لها شأن بهذه العمليات ، فإذا ما اضطرت الأمور إلى شهادة المرأة فلتكن الشهادة لرجل وامرأتين؛ لأن الأصل في فكر المرأة أنه غير مشغول بالمجتمع الاقتصادي الذي يحيط بها ، فقد تضل أو تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، وتتدارس كلتاهما هذا الموقف ، لأنه ليس من واجب المرأة الاحتكاك بجمهرة الناس وبخاصة ما يتصل بالأعمال .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } فكما قال الحق عن الكاتب ألا يمتنع عن توثيق الديْن ، كذلك الشهادة على هذا الديْن . وكيف تكون الشهادة ، هل هي في الأداء أو التحمل؟ إن هنا مرحلتين : مرحلة تحمل ، ومرحلة أداء .
وعندما نطلب من واحد قائلين : تعال اشهد على هذا الديْن . فليس له أن يمتنع ، وهذا هو التحمل . وبعدما وثقنا الديْن ، وسنطلب هذا الشاهد أمام القاضي ، والوقوف أمام القاضي هو الأداء . وهكذا لا يأبى الشهداء إذا ما دعوا تحملا أو أداءً .
لكن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن كل نفس بشرية لها مجال حركتها في الوجود ويجب ألا تطغى حركة حدث على حدث ، فالشاهد حين يُستدعى بضم الياء ليتحمل أولا أو ليؤدي ثانيا ينبغي ألاّ تتعطل مصالحه؛ إن مصالحه ستتعطل؛ لأنه عادل ، ولأنه شهيد ، لذلك يضع الله لذلك الأمر حداً فيقول : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
(1/782)

إذن فالشهادة هنا تتطلب أن نحترم ظرف الشاهد . فإن كان عند الشاهد عمل أو امتحان أو صفقة أو غير ذلك ، فلنا أن نقول للشاهد : إما أن تتعين في التحمل حيث لا يوجد من يوثق به ويطمأن إليه أما في الأداء فأنت مضطر .
إن الشاهد يمكنه أن يذهب إلى أمره الضروري الذي يجب أن يفعله ، فلا يطغى حدث على حدث ، لذلك علينا أن نبحث عن شاهد له قدرة السيطرة على عمله بدرجة ما . وإن لم نجد غيره ، فماذا يكون الموقف؟
لقد قال الحق : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } إذن فعلينا أن نبحث له عن " جُعْل " يعوض عليه ما فاته ، فلا نلزمه أن يعطل عمله وإلا كانت عدالته وَبالاً عليه ، لأن كل إنسان يُطلب للشهادة تتعطل أعماله ومصالحه . والله لا يحمي الدائن والمدين ليضر الكاتب أو الشهيد .
وقوله الحق لكلمة : { يُضَآرَّ } فمن الممكن أن تأتي الكلمة على وجهين في اللغة ، فمرة تأتي { يُضَآرَّ } بمعنى أن الضرر يأتي من الكاتب أو الشهيد ، ومرة أخرى تأتي كلمة { يُضَآرَّ } بمعنى الضرر يقع على الكاتب أو الشهيد . فاللفظ واحد ، ولكن حالة اللفظ بين الإدغام الذي هو عليه حسب قواعد اللغة وبين فكه هي التي تُبَيِّنُ لنا اتجاه المعنى . فإن قلنا : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } بكسر الراء ، فالمعنى في هذه الحالة هو أن يقع الضرر من الكاتب فيكتب غير الحق ، أو أن يقع الضرر من الشهيد فيشهد بغير العدل .
وإن قلنا : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } بفتح الراء فالمنهي عنه هو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد من الذين تؤدي الكتابة غرضا لهم ، وتؤدي الشهادة واجبا بالنسبة لهم؛ ليضمن الدائن دَيْنه ، وليستوثق أن أداءه محتم .
والكاتب والشهيد شخصان لهما في الحياة حركة ، ولكل منهما عمل يقوم به ليؤدي مطلوبات الحياة ، فإذا عُلِمَ بضم العين وكسر اللام وفتح الميم أنه كاتب أو شهد بأنه عادل ، عند ذلك يتم استدعاؤه في كل وقت من أصحاب المصلحة في المداينة ، وربّما تعطلت مصالح الكاتب أو الشهيد .
ويريد الله أن يضمن لذلك الكاتب أو الشهيد ما يبقى على مصلحته . ولذلك أخذت القوانين الوضعية من القرآن الكريم هذا المبدأ ، فهي إن استدعت شاهدا من مكان ليشهد في قضية فإنّها تقوم له بالنفقة ذهابا وبالنفقة إيابا ، وإن اقتضى الأمر أن يبيت فله حق المبيت وذلك حتى لا يضار ، وهو يؤدي الشهادة ، وحتى لا يتعطل الشاهد عن عمله أو يصرف من جيبه .
ويريد الحق سبحانه وتعالى أيضا أن يضمن مصالح الجميع لا مصلحة جماعة على حساب جماعة .
ويقول الحق في هذه " المضارة " : { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي وإن تفعلوا الضرر من هذا أو من ذاك فإنه فسوق بكم ، إنه سبحانه يحذر أن يقع الضرر من الكاتب أو الشهيد ، أو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد .
(1/783)

ففعل الضرر فسوق ، أي خروج عن الطاعة .
والأصل في " الفسق " هو خروج الرطبة من قشرتها ، فالبلح حين يرطب تكون القشرة قد خلعت عن الأصل من البلحة ، فتخرج الثمرة من القشرة فيقال : " فسقت الرطبة " . ومنها أخذ معنى الفسوق وهو الخروج عن طاعة الله في كل ما أمر .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { واتقوا الله } وعلمنا من قبل معنى كلمة " التقوى " حين يقول الله : { واتقوا الله } أو يقول سبحانه : { واتقوا النار } { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } ، وكل هذه المعاني مبنية على الوقاية من صفات جلال الله ، وجبروته ، وقهره ، وإذا قلنا : { واتقوا النار } فالنار من جنود صفات القهر لله ، ف { واتقوا الله } هي بعينها { واتقوا النار } هي بعينها { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } .
ويقول الحق سبحانه : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله } . وهنا مبدأ إيماني يجب أن نأخذه في كل تكليف من الله؛ فإن التكاليف إن جاءت من بشر لبشر ، فأنت لا تنفذ التكليف من البشر إلا إن أقنعك بحكمته وعلته؛ لأن التكليف يأتي من مساوٍ لك ، ولا توجد عقلية أكبر من عقلية ، وقد تقول لمن يكلفك : ولماذا أكون تبعا لك وأنت لا تكون تبعا لي؟ إنك إذا أردت أن تكلفني بأمر من الأمور وأنت مساو لي في الإنسانية والبشرية وعدم العصمة فلا بد أن تقنعني بحكمة التكليف .
أما إن كان التكليف من أعلى وهو الحق سبحانه وهو الله الذي آمنا بقدرته وعلمه وحكمته وتنزهه عن الغرض العائد عليه فالمؤمن في هذه الحالة يأخذ الأمر قبل أن يبحث في الحكمة؛ لأن الحكمة في هذا الأمر أنه صادر من الله ، وحين ينفذ المؤمن التكليف الصادر من الله فسيعلم سر هذه الحكمة فيما بعد؛ فأسرار الحكم عند الله تأتي للمؤمن بعد أن يقبل على تنفيذ التكاليف الإيمانية .
إن الحق سبحانه على سبيل المثال لا يقنع العبد بأسرار الصوم ، ولكن إن صام العبد المؤمن كما قال الله وعند ممارسة المؤمن لعبادة الصوم سيجد أثر حكمة الصوم في نفسه بما لا يمكن إقناعه به أولا . إن المؤمن حين يفعل التكليف الإيماني فإن الله يعلمه حكمة التكليف . ولنا في قوله سبحانه الدليل الواضح : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ]
إن الله سبحانه يَعِدُ عباده المؤمنين أنهم عندما يتقونه فإنه يجعل لهم دلائل تبين لهم الحق من الباطل ويستر عنهم السيئات ويغفر لهم . لماذا؟ لأن الله الذي يعلمنا هو الحق سبحانه العليم بكل شيء .
(1/784)

وعلم الله ذاتي ، أما علم الإنسان فقد يكون أثرا من ضغط الأحداث عليه فيفكر الإنسان في تقنين شيء يخرجه مما يكون فيه من شر ولكن علم العليم الأعلى سابق على ذلك لأنه علم ذاتي .
وفيما سبق علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الديْن هذه العناية ليضمن للحياة حركتها الطاهرة ، حركتها السليمة؛ لأن المعدم لا وسيلة له في حركة الحياة إلا أمور ثلاثة ، الأمر الأول : الرِّفْدُ أي عطاء تطوعي يستعين به على حركة الحياة . والأمر الثاني : الفرض الذي فرضه الله في الزكاة . والأمر الثالث : القرض الذي شرعه .
فعندما لا يجد المؤمن المعدم الرفد أو الفرض فماذا يكون بعد ذلك؟ إنه القرض . إذن فالقرض هو المفزَع الثالث للحركة الاقتصادية عند المعدمين . وعرفنا أن القرض عند الله يفوق ويعلو الصدقة في الثواب؛ لأن الصدقة حين تتصدق بها تكون قد خرجت من نفسك من أول الأمر فلا مشغولية لذهنك بعد ذلك ، ولكن القرض نفسك تكون متعلقة به؛ لأنك لا تزال مالكاً له ، وكلما صبرت عليه أخذت ثواباً من الله على كل صبرة تصبرها على المدين .
وعرفنا كذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد استوثق لعملية الديْن استيثاقا يجب أن نفهمه من وجهيه ، الوجه الأول : أنه يحفظ بذلك ثمرة حركة المتحرك في الحياة وهي أن يتمول ، أي أن يكون عنده مال؛ فإن لم نَحْم له ثمرة حركته في الحياة استهان بالحركة ، وإذا استهان بالحركة تَعطلت مصالح كثيرة؛ لأن حركة المتحرك في الحياة تنفع بشراً كثيرين قصد المتحرك ذلك أو لم يقصد ، وضربنا المثل بمن يريد بناء عمارة ، وعنده مال ، فيسلط الله عليه خاطراً من خواطره مصداقاً لقوله الحق : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ]
فيقول : ولماذا أكنز المال؟ ولماذا لا أبني عمارة أستفيد من إيجارها؟ . وبذلك لا يتناقص المال بل يزيد . وليس في بال ذلك الرجل أن ينفعَ أحداً . إن باله مشغول بأن ينفع نفسه ، لكن حركته وإن لم يقصد نفعَ الغير ستنفع الغير . . فالذي يحفر الأرض سيأخذ أجراً لذلك ، والذي يضرب الطوب سيأخذ أجراً لذلك ، وكل من يشترك في عمل لإقامة هذا البنيان من بناء أو إدخال كهرباء أو توصيل مياه أو تحسين وتجميل كل واحد من هؤلاء سيأخذ أجره ، وبذلك يستفيد الجميع وإن لم يقصد المتحرك في الحياة .
إذن فالحق يريد أن يحمي حركة المتحرك في الحياة لأنه لو لم يحم الله ثمرة حركته في الحياة؛ لاكتفى المتحرك في حركته بما يقوته ويقوت من يقول ، ويبقى الضعيف في الحياة؛ فمن ذا يعوله؟ . إذن لابد أن يضمن للمتحرك ماله حتى يتشجع على الحركة إن الله الذي وهب الناس أرزاقهم ، عندما يطلب من القوي المتحرك أن يعطي أخاه الضعيف المحتاج قرضاً ، لا يقول الله : " اقرض المحتاج " ، ولكنه جل وعلا يقول :
(1/785)

{ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ]
إن الله سبحانه وتعالى قد احترم حركة الإنسان المتحرك في الحياة وجعل المال مال المتحرك ، فلا يقول الله للمتحرك : أعط المحتاج من المال الذي وهبتك إياه . لا ، إنه مال المتحرك ، ويقول الله للمتحرك : اقرضني لأن أخاك في حاجة إليه ، كما نقول للتقريب لا للتشبيه ولله المثل الأعلى أنت تأخذ من حصالة ابنك لمصلحة أخيه ، وتعد ابنك الذي أخذت من حصالته أنك سوف تعطيه الكثير . والمال الذي أخذته من حصالة ابنك قرضا أنت الذي أعطيته له أولا .
إذن فالله يريد أن يحمي حركة الحياة ، وإن لم نحم حركة الحياة ، لا يكون كل إنسان آمناً على ثمرة حركته ، فستفسد الحياة كلها ويستشري الضغن والحقد والذي يقول الله سبحانه وتعالى : { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 36-37 ]
وساعة يتفشى الضغن في المجتمع فلا فائدة في هذا المجتمع أبداً . إذن فالحق حين يوثق الديْن يريد أن يحمي حركة المتحرك؛ لأن الناس تختلف فيما بينها في الحركات الطموحية . ولا توجد الحركات الطموحية في كل الناس ، بل توجد في بعضهم ، فلنستغل حركة الطموح عند بعض الناس؛ لأنهم سيفيدون المجتمع : قصدوا ذلك أو لم يقصدوا .
وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يحمي أيضاً الإنسان من نفسه؛ لأنه إن علم أن الديْن الذي عليه موثق ، ولا وسيلة لإنكاره حاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليؤديه . وحين يتحرك الإنسان ليؤدي عن نفسه الدين فإن ذلك يزيد الحركة في الحياة ، ويزداد النفع . وهكذا نرى أن الله أراد بالتوثيق للدين حماية المديْن من نفسه؛ لأن المدين قد تطرأ عليه ظروف فيماطل ، وإذا ما ماطل فلن تكون الخسارة فيه وحده ، ولكنه سيصبح أسوة عند جميع الناس وسيقول كل من عنده مال : لا أعطي أحداً شيئاً لأن فلاناً الغني مثلي قد أعطى فلاناً الفقير وماطله وأكله ، وعند ذلك تتوقف حركة الحياة ولكن إذا كان الدين موثقا ومكتوبا فإن المدين يكون حريصا على أدائه . والله يريد أن يضمن لحركة الحياة دواماً واستمراراً شريفاً نظيفاً . ولذلك نجد في آية الدَّين أن كلمة " الكتابة " ومادتها " الكاف والتاء والباء " تتكرر أكثر من مرة بل مرات كثيرة .
{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 282 ]
وهذا التكرار في هذه الآية لعملية الكتابة يؤصل العلاقة بين الناس؛ فالكتابة هي عمدة التوثيق ، وهي التي لا تغش ، لأنك إن سجلت شيئاً على ورقة فلن تأتي الورقة لتنكر ما كتبته أنت فيها ، ولكن الأمر في الشهادة قد يختلف ، فمن الجائز أن يخضع الشاهد لتأثير ما فينكر الحقيقة ، ولذلك فإن الحق يعطينا قضية إيمانية جديدة حين يقول : " أن يكتب كما علمه الله " أي أن يكتب الكاتب على وفق ما علمه الله ، فكأنه لابد أن يكون فقيهاً عالماً بأمور الكتابة ، أو " كما علمه الله " أي أنّ الله أحسن إليه وعلمه الكتابة دون غيره ، فكما أحسن الله إليه بتعلم الكتابة فليحسن ولْيُعَدِّ أثر الكتابة إلى الغير .
(1/786)

وليست المسألة مسألة كتابة فقط ، إنما ذلك يشمل ويضم كل شيء أو موهبة خص الله بها فرداً من الناس من مواهب الله على خلقه؛ فالمؤمن هو من يعمل على أن يعدي أثر النعمة والموهبة إلى الغير . وعليك أن تعدي أثر مواهب الغير إليك فتنفع بها سواك ، وبذلك يشيع الخير ويعم النفع لأنك إن أخذت موهبة فستأخذ موهبة واحدة تكفيك في زاوية واحدة من زوايا حياتك ، وعندما تعديها للجميع وتنقلها إليهم فيعدي الجميع مواهبهم المجتمعة لمصلحتك ، فأيهما أكسب؟
حين تعدي وتنقل موهبتك إلى الناس ، تكون أنت الأكثر كسباً؛ لأن الجميع يعدون وينقلون مواهبهم إليك . وإذا أتقنت صنعك للناس فالصنعة التي في يدك واحدة ، وعندما تتقنها فإن الله يسلط جنود الخواطر على كل من يصنع لك شيئاً أن يتقنه ، كما أتقنْت أنت لسواك . وبعد ذلك يعلمنا الحق سبحانه شدة الحرص على التوثيق فيقول : { وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ . . . }
(1/787)

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن ، ورتابة الحياة في الموطن تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته ، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة . فهب أنك مسافر ، واضطررت إلى أن تستدين ، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد ، فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا الحق يوضح لك : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } . إذن فلم يترك الله مسألة الديْن حتى في السفر فلم يشرِّع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرَّع أيضا للسفر { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } وهكذا الكتابة ، والشهادة في الإقامة والرهان المقبوضة في السفر هدفها حماية الإنسان أمام ظروف ضغط المجتمع .
ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا . إنه الحق سبحانه يقول : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } إنه الطموح الإيماني ، لم يَسُدّ الله مسألة المروءة والإيثار في التعامل . إن كتابة الديْن والإشهاد والرهن ليس إلزاماً لأن الله قال : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } . وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين ، وهنا نقول : لا ، إن الأمر مختلف ، فهنا رهان ، وذلك معناه وجود مسألتين ، المسألة الأولى هي " الديْن " ، والمسألة الثانية هي " الرهان المقبوضة " وهي مقابل الديْن . فواحد مأمون على الرهن في يده . والآخر مأمون على الديْن . ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من بيده الرهن ، ومن بيده الدَّيْن ومعنى ذلك أن يؤدي مَن معه الرهن أمانته ، وأن يؤدي الآخر ديْنه . وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل فإن وازع الإنسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس ، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس ، ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق الإيماني عند كل الناس؟ .
أنضمن الظروف؟ . نحن لا نضمن الظروف ، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل والأخذ ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء فقد يأتي واحد ويقول لك : إن عندي مائة جنيه وخذها أمانة عندك .
ومعنى " أمانة " أنه لا يوجد صك ، ولا شهود ، وتكون الذمة هي الحكم ، فإن شئت أقررت بهذه الجنيهات المائة ، وإن شئت أنكرتها . إن الرجل الذي يفعل معك ذلك إنما يطلب منك توثيق المائة جنيه في الذمة الإيمانية ، ومن الجائز أن تقول له لحظة أن يفعل معك ذلك : نعم سأحتفظ لك بالمائة جنيه بمنتهى الأمانة . وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة أن يطلبها ، ولكنك لا تضمن ظروف الحياة بالنسبة لك ، وأنت كإنسان من الأغيار . ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل معه في أداء الأمانة ، أو يجعلك تنكرها ، فتقول لمن ائتمنك :
ابعد عني؛ أنا لا أملك نفسي في وقت الأداء ، وإن ملكت نفسي وقت التحمل .
(1/788)

والأمانة هي القضية العامة في الكون ، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة التي نحن بصددها والحق سبحانه يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول جل شأنه : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ]
إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة للتصرف والاختيار ، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء . لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمُّل الأمانة وكأنها قالت : إنّا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها الله ، ما عدا الإنسان ، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الاختيار ، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال : إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني أستطيع الاختيار بين البدائل .
وهنا نُذَكِّر الإنسان : إنك قد تكون قوياً لحظة التحمل ، ولكن ماذا عن حالك وقت الأداء؟ لذلك قال الله عن الإنسان : { وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } لقد ظلم الإنسان نفسه حيث حمل الأمانة ولم يف بها فلذلك فهو ظلوم . وهو جهول لأنه قدّرَ وقت التحمل ، ولم يقدّر وقت الأداء ، أو ضمنها ثم خاس وخالف ما عاهد نفسه على أدائها .
إذن فالإنسان وإن كان واثقاً أنه سيؤدي الأمانة إلاّ أنه عرضة للأغيار ، لذلك قال الحق سبحانه : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله } فالكتابة فرصة ليحمي الإنسان نفسه من الضعف وقت الأداء ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوثق الأمر توثيقاً لا يجعلك أيها العبد خاضعاً لذمتك الإيمانية فقط ، ولكنّك تكون خاضعاً للتوثيق الخارج عن إيمانيتك أيضاً ، وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله .
ويقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } وهذه الكلمة { وَلاَ تَكْتُمُواْ } إنما هي أداء معبر ، لأن كلمة " شهادة " تعني الشيء الذي شهدته ، فما دمت قد شهدت شيئاً فهو واقع ، والواقع لا يتغير أبداً ، ولذلك فالإنسان الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه يستوحي واقعاً .
لكن الكذّاب يستوحي غير واقع ، فيقول كلمة ، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لأنه لا يستوحي واقعاً . فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع ، وما دام الأمر مشهوداً وواقعاً ، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج ، فإياك أن تكبته بالكتم؛ لأن كلمة " الكتم " تعني أن شيئاً يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه ، لذلك يقول الحق : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهوداً له لأنه واقع .
(1/789)

لذلك يأتي الأمر من الحق؛ { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه } . وقد يسأل الإنسان : هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان الذي لم يقل الشهادة؟ .
إن الشاعر يقول :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وساعة يؤكد الله شيئاً فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد ، فتقول : أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني ، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي . إنّك تذْكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة .
وعندما يقول الحق : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه } إنّ كل الجوارح تخضع للقلب : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم الله شيئاً ، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء كانت في الموطن العادي أو في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة شريفة وطاهرة .
فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف ، ويصيبها العطل ، فالذي لا يقدر على الحركة فماذا يصنع في الحياة؟ . إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد ، وحين يمتلئ قلبه بالحقد على الواجد فإنه يكره النعمة عنده ، وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد ، فالنعمة نفسها تكره أن تذهب إلى من كره النعمة عند أخيه . إنها مسائل قد رتبها الحق سبحانه بعضها متعلق بالبعض الآخر .
إن النعمة تحب المُنعم عليه بضم الميم وفتح العين أكثر من حب المنعم عليه للنعمة وتذهب إلى من أنعم الله عليه بها بعشق ، فمن كره النعمة عند منعم عليه فالنعمة تستعصي عليه حتى كأنها تقول له : لن تنال مني خيراً . وليجربها كل إنسان .
أحبب النعمة عند سواك فستجد نعمة الكل في خدمتك ، إنك إنْ أحببت النعمة عند غيرك فإنها تأتي إليك لتخدمك . وأيضاً فعلى المؤمن أن يعرف أن بعض النعم ليست وليدة كد وجهد ، قد تكون النعمة مجرد فضل من الله ، يفضل به بعض خلقه ، فحين تكرهها أنت عند المنعم عليه تكون قد اعترضت على قدر الله في النعمة . وحين تعترض على قدر الله في النعمة فإن الحق سبحانه لا يجعلك تنتفع منها بشيء .
فإن رأيت قريباً حبس نعمته عن أقاربه فاعلم أنهم يكرهون النعمة عنده . ولو أحبوها لسعت النعمة إليهم . إن المنهج الإلهي يريد أن يجعل الناس كتلة متكافلة متكاملة بحيث إذا رأيت أنا النعمة عندك ونلت منها ، أحببتها عندك ، وحين أحب النعمة عندك فإن العطاء يجيء من هذه النعمة إليّ ، ولا تجد فارقاً بين واجد ومعدم . إنك لا تجد فارقاً بين واجد ومعدم إلا في مجتمع لا يؤدي حكم الله في شيء .
لقد قلنا ذلك في مجال اضطرار الإنسان إلى الربا لأنه لم يجد من يقرضه قرضاً حسناً ، ولم يجد من يؤدي فرض الله له من الزكاة لتسع حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا ، وبذلك يدخل المجتمع الربوي في حرب مع الله ، وهل لأحد جلد على أن يدخل في حرب مع الله؟ لا .
(1/790)

والمجتمع الربوي يدخل في حرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا وقال في حجة الوداع : " إن كل ربا موضوع ولكن رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله " .
وتلك سمة سمو التشريع السماوي ، إن التشريع البشري يحمي به صاحبه أقاربه من التقنين ، لكن التشريع السماوي يفرض تطبيقاته أولا على الأقارب . وكان الأسوة في ذلك سيدنا عمر بن الخطاب ، فساعة يريد عمر أن يضع التشريع فإنه يجمع أهله وأقاربه ويقول :
سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني في شيء من هذا لأجعلنه نكالاً للمسلمين . ويعلنها عمر أمام الناس ، ولماذا أعلن عمر ذلك؟؛ لأن كثيرا من الناس يجاملون أولياء الأمور ، وقد لا يكون أولياء الأمور على دراية بذلك؛ فقد نجد واحداً يدخل على قوم على أساس أنه فلان بن فلان ، وبالرعب يقضي هذا الإنسان مصالحه عند الناس برغم أنف الناس . وقد يكون ولي الأمر لا يعرف عن مثل هذا التصرف شيئاً .
لكن حين يعلن ولي الأمر على الناس ولأقاربه أنه لا تفرقة أبداً فيما يقنن وأن القانون سائر على نفسه وعلى أهله فمن استغل اسماً لولي الأمر أو اصطنع شيئاً فالتبعة على من فعل له وعليه ، وبذلك تستقيم الأمور . لكن أن تظهر الحقائق في استغلال أقارب الحكام بعد انتهاء فترات حكم الحكام ، فهنا نقول : ولماذا لم نعرف كل شيء من البداية؟ . وأين كانت الحقائق في وقتها؟ .
إن الحاكم المسلم عليه أن يعلن للمحكومين أن القوانين إنما تُطبق عليه أولاً وعلى من يعول . هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " وربَا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع رِبَانا ، رِبَا عباس عبد المطلب فإنه موضوع كله " .
وفي معركة بدر ، أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بيته ليحاربوا؛ لأنه لو لم يخرج أحداً من أَهل بيتهِ لقال واحد من الكفار : إنه يحمي أهل بيته ، ولو أن أجر الاستشهاد هو الجنة فلماذا يقدم الأباعد ولا يقدم أحبابه للقتال؟
لكن هاهو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أقاربه وأحبابه ، فهو العارف من ربه بأمر الشهادة وكيف أنها تقصر على الإنسان متاعب الحياة وتدخل الجنة . هكذا كانت المحاباة في صدر الإسلام ، إنها محاباة في الباقي ، ولم تكن كمحاباة الحمقى في الفاني .
(1/791)

وحين يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ويضرب على أيدي المرابين فهذه هي الحرب التي يجب أن تقوم ، حرب من الله المالك القادر على المحاربة ، أما الضعاف الذين لا يستطيعون القتال فهم لا يحاربون؛ لأنهم أمام خالقهم وقاهرهم فلا يقدرون على حربه ولذلك يجب أن تتنبه الدولة إلى مثل هذه الأمور وتقنن تقنينا إسلامياً وبعد ذلك إذا لم تتسع الزكاة المفروضة إلى ما يقوم بأود المحتاجين فلتفرض الدولة ما تشاء لتفي بحاجة المحتاجين .
والحق سبحانه وتعالى بعد أن أوضح الأمر عقيدة في قوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } ، وتقنيناً للعقيدة في قوله : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، وحماية للعقيدة بأمره سبحانه المؤمنين أن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ، وبعد ذلك تكلم الحق عن حماية حركة الاقتصاد في الإنفاق أولاً في سبيل الله ، والإنفاق على المحتاجين . يقول سبحانه بعد ذلك : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ . . . }
(1/792)

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
استهلت الآية بتقديم { لله } على ما في السماوات والأرض ، والحق سبحانه يقول : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ذلك هو الظرف الكائنة فيه المخلوقات ، السماوات والأرض لم يدع أحد أنها له ، لكن قد يوجد في السماوات أو في الأرض أشياء يدعي ملكيتها المخلوقون ، فإذا ما نظرنا إلى خيرات الأرض فإننا نجدها مملوكة في بعض الأحيان لأناس بما ملكهم الله ، والبشر الذين صعدوا إلى السماء وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن الممكن أن يعلنوا ملكيتهم لهذه الأقمار وتلك المراكب .
ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } وهو يوضح لنا : إنه إن كان في ظاهر الأمر أن الله قد أعطى ملكية السببية لخلقه فهو لم يعط هذه الملكية إلا عَرَضَاً يؤخذ منهم ، فإما أن يزولوا عنه فيموتوا ، وإما أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو نهب .
وكلمة " لله " تفيد الاختصاص ، وتفيد القصر ، فكل ما في الوجود أمره إلى الله ، ولا يدعي أحد بسببية ما آتاه الله أنه يملك شيئا لماذا؟ لأن المالك من البشر لا يملك نفسه أن يدوم .
نحن لم نر واحداً لم تنله الأغيار ، وما دامت الأغيار تنال كل إنسان فعلينا أن نعلم أن الله يريد من خلقه أن يتعاطفوا ، وأن يتكاملوا ، ويريد الله من خلقه أن يتعاونوا ، والحق لا يفعل ذلك لأن الأمر خرج من يده والعياذ بالله لا ، إن الله يبلغنا : أنا لي ما في السماوات وما في الأرض ، وأستطيع أن أجعل دولاً بين الناس .
ولذلك نقول للذين يَصلون إلى المرتبة العالية في الغنى ، أو الجاه ، أو أي مجال ، لهؤلاء نقول : احذر حين تتم لك النعمة ، لماذا؟ لأن النعمة إن تمت لك علواً وغنىً وعافيةً وأولاداً ، أنت من الأغيار ، وما دامت قد تمت وصارت إلى النهاية وأنت لاشك من الأغيار ، فإن النعمة تتغير إلى الأقل . فإذا ما صعد إنسان إلى القمة وهو متغير فلا بد له أن ينزل عن هذه القمة ، ولذا يقول الشاعر :
إذا تم شيء بدا نقصه ... ترقب زوالاً إذا قيل تم
والتاريخ يحمل لنا قصة المرأة العربية التي دخلت على الخليفة وقالت له : أتم الله عليك نعمته . وسمعها الجالسون حول الخليفة ففرحوا ، وأعلنوا سرورهم ، لكن الخليفة قال لهم : والله ما فهمتم ما تقول ، إنها تقول : أتم الله عليك نعمته ، فإنها إن تمت تزول؛ لأن الأغيار تلاحق الخلق . وهكذا فهم الخليفة مقصد المرأة .
والشاعر يقول :
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة ... فكيف آسى على شيء لها ذهبا
إن النفس المالكة هي نفسها ذاهبة؛ فكيف يحزن على شيء له ضاع منه؟
والحق سبحانه يطلب منا أن نكون دائما على ذكر من قضية واضحة هي : أن الكون كله لله ، والبشر جميعا بذواتهم ونفوسهم وما ظهر منها وما بطن لا يخفر على الله ، والحق سبحانه لا يحاسبنا على مقتضى ما علم فحسب ، بل يحاسبنا على ما تم تسجيله علينا .
(1/793)

إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه . . فسبحانه يقول : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13-14 ]
والحساب معناه أن للإنسان رصيدا ، وعليه أيضا رصيد . والحق سبحانه وتعالى يفسر لنا ( له وعليه ) بالميزان كما نعرف في موازين الأشياء عندنا وهو سبحانه يقول : { والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } [ الأعراف : 8-9 ]
إن حساب الحق دقيق عادل ، فالذين ثقلت كفة أعمالهم الحسنة هم الذين يفوزون بالفردوس ، والذين باعوا أنفسهم للشيطان وهوى النفس تثقل كفة أعمالهم السيئة ، فصاروا من أصحاب النار .
إذن نحن أمام نوعين من البشر ، هؤلاء الذين ثقلت كفة الخير في ميزان الحساب ، وهؤلاء الذين ثقلت كفة السيئات والشرور في ميزان الحساب . فماذا عن الذين تساوت الكفتان في أعمالهم . استوت حسناتهم مع سيئاتهم؟ إنهم أصحاب الأعراف ، الذين ينالون المغفرة من الله؛ لأن مغفرة الله وهو الرحمن الرحيم قد سبقت غضبه جل وعلا . ولو لم يجيء أمر أصحاب الأعراف في القرآن لقال واحد : لقد قال الله لنا خبر الذين ثقلت موازينهم ، وأخبار الذين خفت موازين الخير عندهم ، ولم يقل لنا خبر الذين تساوت شرورهم مع حسناتهم .
لكن الحليم الخبير قد أوضح لنا خبر كل أمر وأوضح لنا أن المغفرة تسبق الغضب عنده ، لذلك فالحساب لا يكتفي الحق فيه بالعلم فقط ، ولكن بالتسجيل الواضح الدقيق ، لذلك يطمئننا الحق سبحانه فيقول : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 70 ]
إن الحق يطمئننا على أن ما نصنعه من خير نجده في كفة الميزان ، ويطمئننا أيضا على أنه سبحانه سيجازينا على ما أصابنا من شر الأشرار وأننا سنأخذ من حسناتهم لتضاف إلى ميزاننا ، إذن فالطمأنينة جاءت من طرفين : طمأننا الحق على ما فعلناه من خير ، فلا يُنسى أنه يدخل في حسابنا ، وطمأننا أيضا على ما أصابنا من شر الأشرار وسيأخذ الحق من حسناتهم ليضيفها لنا .
ونحن نجد في الكون كثيراً من الناس قد يحبهم الله لخصلة من خصال الخير فيهم ، وقد تكون هذه الخصلة الخيّرة خفية فلا يراها أحد ، لكن الله الذي لا تخفى عليه خافية يرى هذه الخصلة في الإنسان ، ويحبه الله من أجلها ، ويرى الحق أن حسنات هذا الرجل قليلة ، فيجعل بعض الخلق يصيبون هذا الرجل بشرورهم وسيئاتهم حتى يأخذ من حسنات هؤلاء ليزيد في حسنات هذا الرجل .
(1/794)

ومعنى { تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ } أي تصيروا الوجدانيات إلى نزوعيات عملية ، ولكن هل معنى { أَوْ تُخْفُوهُ } هو ألا تصيروا الوجدانيات النفسية إلى نزوعيات عملية؟ لا ، فليس لكل شيء نزوع عملي ، ومثال ذلك الحب؛ إن الإنسان قد يحب ، ولا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع أنه محترق في حبه ، وكذلك الذي يحقد قد لا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع عن حقده ، إذن فهناك أعمال تستقر في القلوب ، فهل يؤاخذ الله بما استقر في النفوس؟
إن هذه المسألة تحتاج إلى دقة بالغة؛ لأننا وجدنا بعضا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقفوا فيها موقفا أبكى بعضهم ، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما سمع هذه الآية قال : لئن آخذنا الله على ما أخفينا في نفوسنا لنهلكن . وبكى حتى سُمع نشيجه بالبكاء . وبلغ ذلك الأمر ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد وجد إخوانه المسلمون مثلما وجد من هذه الآية . فأنزل الله بعدها { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى آخر السورة . ولنعلم أن نوازع النفس كثيرة؛ فهناك شيء اسمه " هاجس " وهناك شيء آخر اسمه " خاطر " وهناك ما يسمى " حديث نفس " ، وهناك " هم " وهناك " عزم " ، إنها خمس حالات ، والأربع الأولى من هذه الحالات ليس فيها شيء ، إنما الأخيرة التي يكون فيها القصد واضحا يجب أن نتنبه لها ولنتناول كل حالة بالتفصيل .
إن الهاجس هو الخطرة التي تخطر دفعة واحدة ، أما الخاطر فهو يخطر . . أي يسير في النفس قليلا ، وأما حديث النفس فإن النفس تظل تتردد فيه ، وأما الهم فهو استجماع الوسائل ، وسؤال النفس عن كل الوسائل التي ينفذ بها الإنسان رغباته ، أما العزم ( القصد ) فهو الوصول إلى النهاية والبدء في تنفيذ الأمر .
والقصد هو الذي يُعني به قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } وقد وجدنا كثيرا من العلماء قد وقفوا عند هذا القول وتساءل بعض من العلماء : هل الآية التي جاءت بعد ذلك والتي يقول فيها : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } هل هي نسخ للآية السابقة عليها؟
ولكن نحن نعرف أن الآية هي خبر ، والأخبار لا تنسخ إنما الأحكام هي التي يتم نسخها ، وعلى ذلك يكون القصد والعزم على تنفيذ الأمر هو المعنى بقوله الحق : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } فهذا هو الذي يحاسبنا الله عليه .
وعندما يقول الحق سبحانه : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } فمن هم؟ لقد بين الله من يشاء المغفرة لهم ، إنهم الذين تابوا ، وهم الذين أنابوا إلى الله ، هم الذين قال فيهم الحق :
(1/795)

{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 70 ]
وتبديل المغفرة حسنة مسألة يجب أن يقف عندها الإنسان المكلف من الله وقفة ليرى فضل الله ، لأن الذي صنع سيئة ثم آلمته ، فكما آلمته السيئة التي ارتكبها وحزن منها ، فإن الله يكتب له حسنة . ولكن الذي لم يصنع سيئة لا تفزعه هذه ، وبعض العارفين يقول : رُبّ معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة . أورثت عزا واستكبارا .
إنك لتجد الخير الشائع في الوجود كله ربما كان من أصحاب الإسراف على أنفسهم في شيء ما قد اقترفوه وتابوا عنه ولكنه لا يزال يؤرقهم .
يكون الواحد منهم قويا في كل شيء ، إلا أنه ضعيف أمام مسألة واحدة ، وضعفه أمام هذه المسألة الواحدة جعله يعصي الله بها وهو يحاول جاهداً في النواحي التي ليس ضعيفاً فيها أن يزيد كثيراً في حسناته ، حتى يمحو ويذهب الله هذه بهذه . فالخير الشائع في الوجود ربما كان من أصحاب السيئات الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية من النواحي ، فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعلهم متجهين إلى نواحٍ من الخير قائلين : ربما هذه تحمل تلك .
لكن الذي يظل رتيباً هكذا لا تلذعه معصية ربما تظل المسائل فاترة في نفسه . ولذلك يجب أن ننظر إلى الذين أسرفوا على أنفسهم لا في زاوية واحدة ، ولكن في زوايا متعددة ، ونتأدب أمامهم وندعو الله أن يعفيهم مما نعرفه عنهم ، وأن يبارك لهم فيما قدموه؛ ليزيل الله عنهم أوزار ما فعلوا .
وبعض العلماء يرى في قوله الحق : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } أن الله قد جعل المغفرة أمراً متعلقاً بالعابد لله ، فإن شئت أن يغفر الله لك فاكثر من الحسنات حتى يبدل الله سيئاتك إلى حسنات . وإن شئت أن تعذب وهذا أمر لا يشاؤه أحد فلا تصنع الحسنات .
وهذه المسألة تجعلنا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا الإيمان به فإنه يُملكنا الزمام . وبمجرد إيماننا به فنحن نتلقى منه زمام الاختيار ، والدليل واضح في الحديث القدسي : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : " أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني . إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأهم خيرٌ منهم وان تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلىّ ذراعا ، تقربت منه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرْوَلَةً " .
إذن فبمجرد إيمانك ملكك الله الزمام ، فإن أردت أن يتقرب الله إليك ذراعا ، فتقرب أنت إليه شبرا ، فالزمام في يدك .
(1/796)

وإن شئت أن يتقرب الله منك باعا ، فتقرب أنت ذراعا . وإن شئت أنت أن يأتي ربك إليك مهرولاً جرياً فأت إليه مشيا . فبمجرد أن يراك الله وأنت تقبل وتتجه إليه ، كأنه يقول لك : لا . . استرح أنت ، أنا الذي آتي إليك .
ولذلك قلنا من قبل في مسألة الصلاة حين تؤمن أيها العبد بالله وبعد ذلك ينادي المؤذن للصلاة ، فتذهب أنت إلى الصلاة ، صحيح أنت تذهب إلى الصلاة المفروضة ، لكن هل منعك الله أن تقف بين يديه في أية لحظة؟ . لقد طلب الله منك أن تحضر بين يديه خمس مرات في اليوم ، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً لك أيها المؤمن فالله لا يمل حتى يمل العبد .
والإنسان في حياته العادية ولله المثل الأعلى إذا أراد أن يقابل عظيماً من العظماء فإن الإنسان يطلب الميعاد ، فإما أن يقبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد أو يرفض . وإذا قبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد ، فإن العظيم من البشر يحدد الزمن ، ويحدد المكان ، وربما طلب العظيم من البشر أن يعرف سبب وموضوع المقابلة . لكن الله يترك الباب مفتوحاً أمام العبد المؤمن ، يلقى الله عبده في أي شيء ، وفي أي وقت ، وفي أي مكان ، وفي أي زمان .
حسب نفسي عزاً بأنَّيَ عبد ... يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ
هو في قدسه الأعز ولكن ... أنا ألقى متى وأين أحبُّ
الزمام إذن في يد من؟ . إن الزمام في يد العبد المؤمن . لذلك فالذين قالوا في فهم { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } إن البشر في أيديهم أمر المغفرة لهم ، فإن شاء البشر أن يغفر الله لهم فإنهم يفعلون أسباب المغفرة ، ويتوبون إلى الله ، ويكثرون من الحسنات ، ومن يريد أن يتعذب فليظل سادراً في غيه في فعل السيئات . ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون . . . }
(1/797)

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
عندما نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن الإيمان الأول بالله كان من الرسول صلى الله عليه وسلم : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } . وبعد ذلك يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة { والمؤمنون } . وبعد ذلك يمتزج إيمان الرسول بإيمان المؤمنين { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } .
أي أن كلا من الرسول والمؤمنين آمنوا بالله . إن الإيمان الأول هو إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان أيضاً من المؤمنين بالرسالة التي جاء بها الرسول بناءً على توزيع الفاعل في { آمَنَ } بين الرسول والمؤمنين . وبعد ذلك يجمعهما الله الرسول والمؤمنين في إيمان واحد ، وهذا أمر طبيعي ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بالله أولاً ، وبعد ذلك بلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنا بالله وبه ثم امتزج الإيمان فصار إيماننا هو إيمان الرسول وإيمان الرسول هو إيماننا ، وهذا ما يوضحه القول الحق : { كُلٌّ آمَنَ بالله } .
إذن فالرسول في مرحلته الأولى سبق بالإيمان بالله ، والرسول مطلوب منه حتى حين يؤمن بالله أن يؤمن بأنه رسول الله ، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم : أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه أمر في سيرته ذاتها يقول : أشهد أني رسول الله . . إنّه يقولها بفرحة .
ومثال ذلك ما روي " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا فجعلت أستنظره إلى قابل " أي أطلب منه أن يمهلني إلى عام ثان " فيأبى فَأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه : امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول ( اليهودي ) أبا القاسم ، لا أنظره فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل ثم قال : أين عريشك يا جابر فأخبرته ، فقال : افرش لي فيه ففرشته ، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ، ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه ، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال يا جابر ، جذّ واقض فوقف في الجذاذ فَجذذْتُ منها ما قضيته ، وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال : أشهد أني رسول الله " .
والحق سبحانه وتعالى يشهد أن لا إله إلا هو :
(1/798)

{ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } [ آل عمران : 18 ]
إذن فالله يشهد أن لا إله إلا هو ، ورسول الله يشهد أن لا إله إلا الله ، ويشهد أيضاً أنه رسول الله ، يبلغ ذلك للمؤمنين فيكتمل التكوين الإيماني ، ولذلك يقول الحق عن ذلك : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } . والحق يأتي ب " كلً " بالتنوين أي كل من الرسول والمؤمنين .
ويورد لنا سبحانه عناصر الإيمان : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } . ونحن نعرف أن الإيمان بالله وكل ما يتعلق بالإيمان لابد أن يكون غيباً؛ فلا يوجد إيمان بمحس أبداً . فالأشياء المحسة لا يدخلها إيمان؛ لأنها مشهودة . وعناصر الإيمان في هذه الآية هي :
إيمان بالله وهو غيب . وإيمان بالملائكة وهي غيب من خلق الله ، ولو لم يبلغنا الله أن له خلقاً هم الملائكة لما عرفنا ، إن الحق أخبرنا أنه خلق الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم غيب ، ولولا ذلك لما عرفنا أمر الملائكة إيمان بالكتب والرسل .
وقد يقول قائل : هل الرسل غيب؟ وهل الكتب السماوية غيب؟ إن الرسل بشر ، والكتب مشهودة . ولمثل هذا القائل نقول : لا ، لا يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على الرسول ، وهذا يعني أن عملية الوحي للرسول بالكتاب هي غيب يعلمه الله ويؤمن به المؤمنون .
وكيف نؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم؟ . ونقول : إن الرسل المبلغين عن الله إنما يبلغون منهجاً عن الله فيه العقائد التي تختلف باختلاف العصور ، وفيه الأحكام التي تختلف باختلاف العصور ومواقع القضايا فيها .
إذن فالأصل العقدي في كل الرسالات أمر واحد ، ولكن المطلوب في حركة الحياة يختلف؛ لأن أقضية الحياة تختلف ، وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع المناسب ، لكن الأصل واحد والبلاغ من خالق لا إله إلا هو ، ولذلك يأتي القول الحكيم : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } فنحن لا نفرق بين الرسل في أنهم يبلغون عن الله ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية الاعتقاد ، وما تختلف من ناحية الأحكام التي تناسب أقضية كل عصر .
وبعد ذلك يقول الحق؛ { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } إذن السماع هو بلوغ الدعوة والطاعة هي انفعال بالمطلوب ، وأن يمتثل المؤمن أمراً ويمتثل المؤمن نهياً في كل أمر يتعلق بحركة الكون . فالذين يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة يقولون : إن الدين يهتم بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج . وبعد ذلك يحاولون عزل حركة الحياة عن الدين .
لهؤلاء نقول : أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجئ لينظم حركة الحياة ، وإنما جاء ليعطي الجرعة المفقودة عند اليهود وهي الجرعة الروحية ، لكن الدين الإسلامي جاء خاتماً للأديان منظماً لحركة الحياة ، فكل أمر في الحياة وكل حركة فيها داخلة في حدود الطاعة .
(1/799)

ونحن حين نقرأ القرآن الكريم ، نجد القول الحكيم : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ]
إذن الحق سبحانه يأمر المؤمنين ويخرجهم من حركة من حركات الحياة إلى حركة أخرى ، فهو لم يأخذهم من فراغ ، إنما ناداهم لإعلان الولاء الجماعي ، وهو إعلان من كل مؤمن بالعبودية لله أمام بقية المخلوقات . وبعد أن يقضي المؤمنون الصلاة ماذا يقول لهم الحق سبحانه؟ يقول لهم : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ]
إذن فالانتشار في الأرض هو حركة في الحياة ، تماماً كما كان النداء إلى السعي لذكر الله . وهكذا تكون كل حركة في الحياة داخلة في إطار الطاعة ، إذن " سمعنا وأطعنا " أي سمعنا كل المنهج ، ولكن نحن حين نسمع المنهج ، وحين نطيع فهل لنا قدرة على أن نطيع كل المنهج أو أن لنا هفوات؟ .
ولأن أحداً لن يتم كل الطاعة ولنا هفوات جاء قوله الحق : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } فالغاية والنهاية كلها عائدة إليك ، وأنت الإله الحق ، لذلك فنحن العباد نطلب منك المغفرَة حتى نلقاك ، ونحن آمنون على أن رحمتك سبقت غضبك ويقول الحق : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . . }
(1/800)

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إنّه سبحانه لم يكلفكم إلا ما هو في الوسع . لماذا؟ لأن الأحداث بالنسبة لعزم النفس البشرية ثلاثة أقسام : القسم الأول : هو ما لا قدرة لنا عليه ، وهذا بعيد عن التكليف . القسم الثاني : لنا قدرة عليه لكن بمشقة أي يجهد طاقتنا قليلا . القسم الثالث : التكليف بالوسع . إذن { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي أن الحق لا يكلف النفس إلا بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف ، كلف الحق كل مسلم بالصلاة خمسة فروض كل يوم ، وتملأ أوقاتها بالصلاة وكان من الممكن أن تكون عشرة ، بدليل أن هناك أناساً تتطوع وهو سبحانه كلف كل مسلم بالصوم شهراً ، ألا يوجد من يصوم ثلاثة أشهر؟ ومثل هذا في الزكاة؛ فهناك من كان يخرج عن ماله كله لله ، ولا يقتصر على ما يجب عليه من زكاة .
إذن فهذا في الوسع ، ومن الممكن أن تزيد ، إذن فالأشياء ثلاثة : شيء لا يدخل في القدرة فلا تكليف به ، شيء يدخل في القدرة بشيء من التعب ، وشيء في الوسع ، والحق حين كلف ، كلف ما في الوسع . ومادام كلف ما في الوسع فإن تطوعت أنت بأمر زائد فهذا موضوع آخر { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } مادمت تتطوع من جنس ما فرض .
إذن فالتكليف في الوسع وإلا لو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزيادة . فسبحانه يقول : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ويأتي بعد ذلك ليعلمنا فيقول : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ، وهو القائل : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إذن سبحانه يكلفنا بما نقدر عليه ونطيقه .
فقد روي أن الله حينما سمع رسوله وسمع المؤمنين يقولون : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } قال سبحانه : قد فعلت .
وعندما قالوا : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال سبحانه : قد فعلت . ولم يكلفنا سبحانه إلا بما في الوسع ، وهو القدر المشترك عند كل المؤمنين . وهناك أناس تكون همتهم أوسع من همة غيرهم ، ومن تتسع همته فإنه يدخل بالعبادات التي يزيد منها في باب التطوع ، ومن لا تتسع همته فهو يؤدي الفروض المطلوبة منه فقط وعندما يطرأ على الإنسان ما يجعل الحكم في غير الوسع؛ فإن الله يخفف التكليف؛ فالمسافر تقول له الشريعة : أنت تخرج عن حياتك الرتيبة ، وتذهب إلى أماكن ليس لك بها مستقر ، لذلك يخفف الحق عليك التكليف؛ فلك أن تفطر في نهار رمضان ، ولك أن تُقصر الصلاة .
والحق سبحانه يعلم أن الوسع قد يضيق لذلك فإنه جل شأنه يخفف حكم التكليف ويمنح الرخص عند ضيق الوسع ، ومثال ذلك قوله الحق :
(1/801)

{ الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّأْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ]
كانت النسبة في القتال قبل هذه الآية هي واحداً لعشرة ، وخففها الحق وجعلها واحداً إلى اثنين لأن هناك ضعفا ، وهكذا نرى أنه سبحانه سيخفف التكليف إذا ما زاد عن الوسع . وكثير من الناس يخطئون التفسير؛ فيقولون عن بعض التكاليف : إنها فوق وسعهم ولهؤلاء نقول : لا . لا تحدد أنت الوسع ، ثم تقيس التكليف عليه ، بل انظر هل كلفك أو لم يكلفك؟ فإذا كان قد كلفك الحق فاحكم بأنه كلفك بما في الوسع ، وكل تكاليف الرحمن تدخل في الوسع { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } .
و { لَهَا } تفيد الملكية والاختصاص وهي ما تُفيد وتُكْسِبُ النفسَ ثوابا ، و { عَلَيْهَا } تفيد الوزر ، ونلاحظ أن كل { لَهَا } جاءت مع { كَسَبَتْ } ، وكل { عَلَيْهَا } جاءت مع { اكتسبت } إلا في آية واحدة يقول فيها الحق : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 81 ]
وهنا وقفة في الأسلوب؛ لأن " كسب " تعني أن هناك فرقاً في المعالجة الفعلية الحدثية بينها وبين كلمة { اكتسبت } ، لأن " اكتسب " فيها " افتعل " أي تكلف ، وقام بفعل أخذ منه علاجاً ، أما " كسب " فهو أمر طبيعي إذن ف " كسب " غير " اكتسب " وكل أفعال الخير تأتي كسباً لا اكتساباً .
مثال ذلك عندما ينظر الرجل إلى زوجته ، ويرى جمالها ، فهل هو يفتعل شيئاً ، أو أن ذلك أمر طبيعي؟ إنه أمر طبيعي ، ولكن عندما ينظر الرجل إلى غير محارمه فإنه يرقب هل يرى أحد النظرة؟ وهل رآه أحد من الناس؟ وهل سينال سخرية واستهزاء على ذلك الفعل أو لا؟ لماذا؟ لأنه ارتكب عملاً مفتعلاً .
مثال آخر ، إنسان يأكل من ماله ، أو من مال أبيه ، إنه يأكل كأمر طبيعي ، أما من يدخل بستاناً ويريد أن يسرق منه فهو يتكلف ذلك الفعل ، ويريد أن يستر نفسه ، فصاحب الشر يفتعل ، أما صاحب الخير فإن أفعاله سهلة لا افتعال فيها . . فالشر هو الذي يحتاج إلى افتعال .
والمصيبة الكبرى ألا يحتاج الشر إلى افتعال؛ لأن صاحبه يصير إلى بلادة الحس الإيماني ، وتكون الشرور بالنسبة إليه سهلة؛ لأنه تعود عليها كثيراً ، ويقول الحق : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } إن الخطيئة تحيط به من كل ناحية ، ولم يعد هناك منفذ ، وهو لا يفتعل حتى صارت له ملكة في الشر؛ فاللص مثلاً في بداية عمله يخاف ويترقب ، لكن عندما تصبح اللصوصية مهنته فإنه يحمل أدوات السرقة ويصير حسه متبلداً .
(1/802)

ففي المرحلة الأولى من الشر يكون أهل الشر في حياء من فعل الشر ، وذلك دليل على أن ضمائرهم وقلوبهم مازال فيها بعض من خير ، لكن عندما يعتبرون الشر حرفة وملكة فهنا المصيبة ، وتحيط بكل منهم خطيئة وتطوقه ولا تجعل له منفذاً إلى الله ليتوب .
فالذي يلعب الميسر ، أو طوقته خطيئة الفحش قد يقول فرحاً : " كانت سهرة الأمس رائعة " ، أما الذي يرتكب الخطأ لأول مرة فإنه يقول : " كانت ليلة سوداء يا ليتها ما حدثت " ، ويظل يؤنب نفسه ويلومها؛ لأنه تعب وأرهق نفسه؛ لأنه ارتكب الخطأ .
إذن فقول الحق : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } يوضح لنا أن فعل الشر هو الذي يحتاج إلى مجهود ، فإن انتقلت المسألة من اكتسبت إلى كسبت فهذه هي الطامة الكبرى ، ويكون قد أحاطت به خطيئته . ويكون على كل نفس ما اكتسبت . والعاقل هو من يكثر ما لنفسه ، ولا ما عليها؛ لأن الذي يقول ذلك هو الحق العالم المالك الذي إليه المصير ، فليس من هذا الأمر فِكاك . وبعد ذلك يقول الحق على لسان عباده المؤمنين : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } ، ولقائل أن يقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم طمأننا ، فقال : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .
فكيف يأتي القرآن بشيء مرفوع عن الأمة الإسلامية ليدعو به الناس ربهم ليرفعه عنهم؟ .
على مثل هذا القائل نرد : هل قال لك أحد : إن رفع الخطأ والنسيان والاستكراه كان من أول الأمر؟ . لعل الرفع حدث بعد أن دعا الرسول والسابقون من المؤمنين ، فما دام قد رُفِعَ بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين فمعنى ذلك أنه كان موجوداً ، إذن فلا يقولن أحد : كيف تدعو بشيء غير موجود . أو أن ذلك يدل على منتهى الصفاء الإيماني ، أي الله يجب ألاّ يُعْصى إلا خطأ أو نسياناً ، وأن الله لا يصح ولا يستقيم أن يُعصى قصداً؛ لأن الذي يعرف قدر الله حقاً ، لا يليق منه أن يعصي الله إلا نسياناً أو خطأ؛ لأن الخالق هو المنعم بكل النعم ، وبعد ذلك كلفنا ، وكان يجب ألا نقصد المعصية . ولذلك فالحق سبحانه وتعالى قد سمى ما حدث من آدم معصية مع أنه يقول : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ]
وسمى الله النسيان في قصة آدم معصية : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } فكان النسيان أولاً معصية ، ولكن الله أكرم أمة محمد ، فرفع عنها النسيان . وفي مسألة آدم هناك ملحظ يجب على المؤمن أن يتنبه إليه؛ فآدم خُلِقَ بيد الله ، ونحن مخلوقون بقانون التكاثر ، وآدم تلقى التكليف من الله مباشرة وليس بواسطة رسول ، وكُلِّفَ بأمر واحد وهو ألا يأكل من الشجرة .
(1/803)

فإذا كان آدم مخلوقاً من الله مباشرة ومكلفاً من الله مباشرة ، ولم يكلف إلا بأمر واحد وهو ألا يقرب هذه الشجرة ، ولم تكن هناك تكاليف كثيرة فماذا نسى؟ وماذا تذكر؟ إنها معصية إذن . لقد كان النسيان بالنسبة لآدم معصية؛ لأنه مخلوق بيد الله . { قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ]
لذلك فلم يكن من المناسب أن ينسى هذا التكليف الواحد ، وما كان يصح له أن ينسى ، وَلَعلّ سيدنا آدم نُسِّيَ لحكمة يعلمها الله رُبَّما تكون ليعمر الأرض التي جعله الله خليفة فيها؛ أما بالنسبة لأمة محمد فحينما نقول : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } فكأننا يا رب نقدرك ، حق قدرك ، ولا نجترئ على عصيانك عمدا ، وإن عصينا فإنما يكون العصيان نسياناً أوْ خطأ ، وهذه معرفة لقدر الحق سبحانه وتعالى .
ولكن ما النسيان؟ وما الخطأ؟
أولاً فيه " أخْطَأ " وفيه " خَطِئَ " و " الخِطْء " لا يكون إلا إثما؛ لأنه تعمد ما لا ينبغي ، فأنت تعلم قاعدة وتخطئ ، والذي أخطأ قد لا يعرف القاعدة ، فأنت تصوب له خطأه لأنه حاد عن الصواب .
ومثال ذلك : عندما تتعلم في المدرسة أن الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب وفي وسط السنة يصححون لك القاعدة حتى تستقر في ذهنك ، إنما في أيام الامتحان أيصحح لك المدرس أم يؤاخذك؟ إنه يؤاخذك؛ لأنك درست طوال السنة هذه القاعدة ، إذن ففيه خَطِئ وفيه أخطأ ، فأخطأ مرة تأتي عن غير قصد؛ لأنه لا توجد قاعدة أنا خالفتها ، أو لم أعرف القاعدة وإنما نطقت خطأ؛ لأنهم لم يقولوا لي ، أو قالوا لي مرة ولم أتذكر ، أي لم تستقر المسألة كملكة في نفسي؛ لأن التلميذ يخطئ في الفاعل والمفعول مدة طويلة ، وبعد ذلك ينضج وتصير اللغة ملكة في نفسه إن كان مواظبا على صيانتها .
كان التلميذ في البداية يقول : قطع محمد الغصن ، ولا يقولها مُشَكَّلةً ولكن يسكن الآخر في نهاية نطقه لاسم محمد ، وساعة يتذكر القاعدة ينطقها " محمد " بالرفع وينطق " الغصن " بالنصب لماذا؟ لأنه ترد ثلاث قواعد على ذهنه ، هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع ، فهي مرفوعة ، فهو يمر بقضية عقلية ، لكن بعدما يمر عليها يقرأها صحيحة وقد لا يتذكر القاعدة ، فقد صارت المسألة ملكة لغوية عنده ، هذه الملكة اللغوية مثلما نقول : " صارت آلية " .
ومثال ذلك الصبي الذي يتعلم الخياطة ، انظر كم من الوقت يمر ليتعلم كيف يمسك بخيط ليدخله في سم الإبرة ، وقد يضربه معلمه أكثر من مرة ليتعلمها؛ وفتلة الخيط تنثني منه لأنها طويلة فيقصرها ثم لا تدخل في العين فيبرمها لتدخل ، إنه يأخذ وقتا كثيرا ثم يعمل الغرزة فتخرج غير منتظمة وبعد ذلك يظل مدة ، ثم يفعل كل هذه الأعمال بتلقائية وهو يتكلم مع غيره؛ لأن هذه الأعمال صارت ملكة ذاتية أي عملاً آليًّا .
(1/804)

والتدريب على العمل الذهني حسب قواعد محددة مثل تعلم اللغة نسميه ملكة . أما التدريب على عمل الجوارح مثل إدخال الخيط في سم الإبرة نسميه آلية .
وعلى سبيل المثال في العمل الذهني عندما تسأل سؤالاً في الفقه لطالب في الأزهر فإنه يحتار قليلا إلى أن يتعرف على الباب الذي فيه إجابة للسؤال ، أما إذا سألت السؤال نفسه لعالم مدرب فبمجرد أن توجه له السؤال فإنه يقول لك الحكم والباب الذي فيه هذا الحكم ، لقد صار الفقة بالنسبة للعالم ملكة .
ويقول الحق من بعد ذلك : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } والإصر هو الشيء الثقيل الذي يثقل على الإنسان ، ومثال ذلك الإصر الذي نزل على اليهود " إن أردتم التوبة فاقتلوا أنفسكم أو تصدقوا أو زكوا بربع أموالكم " لكن الله لم يعاملنا كما عامل الأمم السابقة علينا ، وعندما نقول : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فنحن نصدق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله نعم " ومعنى قال الله نعم أنه سبحانه وتعالى أجاب الدعاء برفع المشقة عن الأمة .
أي أن الله لن يحملنا ما لا طاقة لنا به . وعندما نقول : { واعف عَنَّا } فنحن نتوجه إلى الله ضارعين : أنت يا حق تعلم أننا مهما أوتينا من اليقظة الإيمانية والحرص الورعي فلن نستطيع أن نؤدي حقك كاملاً ، ولذلك لا ندخل عليك إلا من باب أن تعفو عنا .
ومعنى العفو محو الأثر ، كالسائر في الصحراء تترك قدماه علامة ، وتأتي الريح لتزيل هذا الأثر . كأن هناك ذنباً والذنب له أثر ، وأنت تطلب من الله أن يمحوا الذنب .
وعندما تقول : { واغفر لَنَا } فأنت تعرف أن من مظاهر التكوين البشري النية التي تريد أن تحول العزم إلى حيز السلوك والانفعال النزوعي؛ فالمسألة تحتاج منك إلى تدريب ، ومثال ذلك ، عندما يذنب واحد في حقك فلك أن ترد عليه الذنب بالذنب ، ولك أن تكظم الغيظ ، لكن يظل الغيظ موجوداً وأنت تحبسه ، ولك أن تعفو .
لكن ماذا عن مثل هذا الأمر بالنسبة للخالق الذي له كمال القدرة؟ إن الله قد لا يعذب العبد المذنب ولكنه قد يظل غاضبا عليه ، ومن منا قادر على أن يتحمل غضب الرب؟ لذلك نطلب المغفرة ، ونقول : { واغفر لَنَا وارحمنآ } فنحن ندعوه سبحانه ألا يدخلنا في الذنب الذي يؤدي إلى غضبه والعياذ بالله علينا . فالعفو هو أن نرتكب ذنبا ونطلب من الله المغفرة ، ولكن الرحمة هي الدعاء بألا يدخلنا في الذنب أصلا .
وعندما يقول الحق : { أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فهذا اعتراف بعبوديتنا له ، وأنه الحق خالقنا ومتولي أمورنا وناصرنا ، ومادام الحق هو ناصرنا ، فهو ناصرنا على القوم الكافرين؛ فكان ختام سورة البقرة منسجما مع أول سورة البقرة في قوله : { الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
(1/805)

في أول السورة ضرب الله المثل بالكافرين والمنافقين . . وفي ختامها يقول الحق دعاء على لسان المؤمنين : { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } هذا القول يدل على استدامة المعركة بين الإيمان والكفر ، وأن المؤمن يأخذ أحكام الله دائما لينازل بها الكفر أيان وجد ذلك الكفر ، ويثق المؤمن تمام الثقة أن الله متوليه؛ لأن الله مولى الذين آمنوا ، أما الكافرون فلا مولى لهم . فإذا كان الله هو مولى المؤمن ، وإذا كان الكافر لا مولى له ، فمعنى ذلك أنه يجب أن تظل المعركة بين المؤمن والكافر قائمة ، بحيث إذا رأى المؤمن اجتراءً على الإسلام في أي صورة من صوره فليثق بأن الله ناصره ، وليثق بأن الله معه ، وليثق المؤمن أن الله لا يطلب منه إلا أن ينفعل بحكمه وتأييده بالنصر؛ لأنه هو الذي يغلب فهو القائل جل وعلا : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } .
يجب أن تظل دائما مؤمناً متيقظاً لعملية الكفر في أي لون من ألوانها؛ فهذا الكفر بعملياته يريد أن يشوه حركة الحياة وأن يتعب الكون ، وأن يجعل القوانين الوضعية البشرية هي المسيطرة ، كما يجب عليك أيها المؤمن أن تكون من المتقين الذين استهل بهم الله سورة البقرة ، وبعد ذلك تسأل الله أن ينصرك دائماً على القوم الكافرين . هذا هو مسك الختام من سورة البقرة { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
وختام السورة بهذا النص يوحي بأن الذي آمن يجب أن يعدي إيمانه بربه إلى الخلق جميعا ، حتى تتساند حركة الحياة ، ولا توجد فيها حركة مؤمن على هدى لتصطدم حركة كافر على ضلال؛ لأن في ذلك إرهاقاً للنفس البشرية ، وتعطيلاً للقوى والمواهب التي أمد الله بها ذلك الإنسان الذي سخر من أجله كل الوجود ، فلا يمكن أن يعيش الإنسان الذي سوّده الله وكرّمَه على سائر الخلق إلا في أمان واطمئنان وسلام وحركة تتعاون وتتساعد لتنهض بالمجتمع الذي تعيش فيه نهضة عمرانية تؤكد للإنسان حقاً أنه هو خليفة الله في الأرض .
ولا يكتفي الإيمان منا بأن يؤمن الفرد إيماناً يعزله عن بقية الوجود ، لأنه يكون في ذلك قد خسر حركة الحياة في الدنيا ، والله يريد له أن يأخذ الدنيا تخدمه كما شاء الله لها أن تكون خادمة ، فحين يعدي المؤمن إيمانه إلى غيره ينتفع بخير الغير ، وإن اكتفى بإيمان نفسه فقط وترك الغير في ضلالة ، انتفع الغير بخير إيمانه وأصابته مضرة الكافر وأذاه .
إذن فمن الخير له أن يؤمن الناس جميعاً ، ويجب أن يعدي ذلك الإيمان إلى الغير .
(1/806)

ولكن الغير قد يكون منتفعاً بالضلال؛ لأنه يؤدي به طغيانه ، عندئذ تنشأ المعركة ، تلك المعركة التي غاية كل من دخل فيها أن ينتصر ، فيعلمنا الله أن نطلب النصر على الكافرين منه؛ لأن النصر على الكافرين لا يعتبر نصراًَ حقيقياً إلا إن أَصَّل صفات الخير في الوجود كله ، وحين تتأصل صفات الخير في الوجود كله يكون المؤمن قد انتصر بحق .
وحين يطلب منا الله أن نسأله أن ينصرنا لابد أن نكون على مطلوب الله منا في المعركة ، بأن نكون جنوداً إيمانيين بحق . وقد عرفنا أن المؤمنين حين يدخلون في معركة مع غيرهم يستطيعون أن يحددوا مركزهم الإيماني من غاية المعركة . فإن انتهت المعركة بنصرهم وغلبتهم علموا أنهم من جنود الله ، وإن هُزموا وغُلبوا فليراجعوا أنفسهم؛ لأن الله أطلقها قضية إيمانية في كتابه الذي حفظه فقال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ]
فإن لم نغلب فلننظر في نفوسنا : ما الذي أخللنا به من واجب الجندية لله . وحين يعلمنا الحق أن نقول : { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } ، أي بعد أن أخذنا أسباب وجودنا من مادة الأرض المخلوقة لنا بالفكر المخلوق لله ، نعمل فيها بالطاقة المخلوقة لله ، وحينئذ نكون أهلاً للنصر من الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد مد يده بأسباب النصر : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } [ الأنفال : 60 ]
حينئذ لا تخافون أبداً؛ لأن لله جنوداً لم تروها ، ولا يتدخل الله بالجنود غير المرئية لنا إلا إذا استنفدنا نحن أسباب الله الممدودة لنا .
وحين يختم الحق سبحانه وتعالى سورة البقرة وهي الزهراء الأولى لتأتي بعدها الزهراء الثانية وهي سورة آل عمران نجد أن هذا هو الترتيب القرآني ( الآن ) وهو ليس على ترتيب النزول الذي حدث ، فللقرآن ترتيبان : ترتيب نزولي حين نزلت الآيات لتعالج حدثاً وقع للأمة المسلمة في صراعها مع الكافرين بربهم ، وفي تربيته لنفوسهم ، فكانت كل آية تأتي لتعالج حادثة . والأحداث في الوجود إنما تأتي على أيدي البشر ، فليس من المعقول أن تنزل آيات من القرآن . تعالج أحداثا أخرى لا صلة بينها وبين ما يجري من أحداث في المجتمع الإسلامي أو ما ينشأ في الكون من قضايا .
إذن فلابد أن توجد الأحداث أولا ، ويأتي بعدها النص القرآني ليعالج هذه الأحداث ، ولكن بعد أن اكتمل الدين كما قال الله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ]
جاء الترتيب الذي يرتب القضايا ترتيباً كلياً ، لأنه عالجها من قبل علاجا جزئيا . فحين نقول : إن هذه السورة نزلت بعد كذا ، أو فيها آية كذا ، نزلت بعد كذا ، ونجد أن ذلك يختلف عن النسق النزولي نعلم أن لله سبحانه وتعالى في كتابه ترتيبين :
الترتيب الأول : حسب النزول .
والترتيب الثاني : الذي وُجد عليه القرآن الآن وتمت به كلمة الله في خدمة الهداية الإيمانية وهذا الأخير من عند الله أيضا .
(1/807)

الم (1)
وجاءت أيضاً في سور أخرى ، في سورة العنكبوت ، وفي سورة الروم ، ولقمان ، والسجدة ، وزاد عليها راءً في بعض السور ، وزاد عليها صاداً في بعض السور " المص " و " المر " كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله في هذه الحروف ، وإن لم نكن ندرك ذلك السر .
والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم هذه الأشياء فهو منتفع بها ، وضربنا المثل وقلنا : إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء ، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه ، أهو يعلم سر ذلك؟ لا ، لكنه إنما انتفع به ، فكذلك المؤمن حين يقول : " ألف لام ميم " ، يأخذ سرها من قائلها ، فهمها أم لم يفهمها ، إذن فالمسألة لا تحتاج إلى أن نفلسفها ، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به ، ولكن عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه .
وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة : { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } يناسب أيضاً سورة آل عمران ، لماذا؟ لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب ، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأن هذا جاء ليناقض شيئاً منه ، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله ، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام . ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لهم : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله . { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] .
فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى ، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى ، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران ، وجعل لهم سورة في القرآن .
إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تأت للعصبية ، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر حين يأتي قوم على أنقاض قوم ، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم حتى التاريخ يمحونه ، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً . لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ ، فيأتي بسورة اسمها " آل عمران " وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها .
وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها : بقوله جل شأنه : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم }
(1/808)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
تلك هي قضية القمة ، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية ، { الله لا إله إِلاَّ هُوَ } . و { الله } كما يقولون مبتدأ ، و { لا إله إِلاَّ هُوَ } خبر ، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن ، فكأن كلمة { الله } متضحة في الذهن ، ولكنه يريد أن يعطي لفظ { الله } الوصف الذي يليق به وهو { لا إله إِلاَّ هُوَ } . ولذلك يقول الحق : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ العنكبوت : 61 ] .
إذن فالله متضح في أذهانهم ، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح ، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا { الله لا إله إِلاَّ هُوَ } فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] .
وكفى بالله شهيداً؛ لأنها شهادة الذات للذات ، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحداً آخر إلا هو ، وكذلك ، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله ، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول : إن الحق أطلقها على نفسه وقال : { لا إله إِلاَّ هُوَ } ؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلاً معقداً ، أو دليلاً فلسفياً ، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية ، لا ، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي .
فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعاً؛ فلا فلسفة في هذه المسألة ، لذلك شاء الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله : أنا شهدت ألا إله إلا أنا ، فإما أن يكون الأمر صدقاً وبذلك تنتهي المشكلة ، وليس من حق أحد الاعتراض ، وإن لم تكون صدقاً فقولوا لنا : أين الإله الآخر الذي سمع التحدي ، وأخذ الله منه ذلك الكون ، وقال : أنا وحدي في الكون ، وأنا الذي خلقت ، ثم لم نسمع رداً عليه ولا عن معارض له ، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟
إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهاً ، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهاً . وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع ليناقضها ، ف { لا إله إِلاَّ هُوَ } كلمة حق ، وبالعقل والمنطق هو إله ولم نجدً معارضاً . وقلنا سابقاً : إن الدعوى حين تُدعى ولا يوجد معارض حين نَسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض . وضربنا مثلا : نحن مجتمعون في حجرة ، عشرة أشخاص ، وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود ، فجاء واحد متلهفا وقال : لقد ضاعت مني حافظة نقود .
(1/809)

فقال له صاحب البيت : وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة ، فلما جئ بالعشرة ، وسئلوا لم يدعها أحد ، إذن فهي له .
إن الله قد قال : { لا إله إِلاَّ هُوَ } ، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا ، ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله { لا إله إِلاَّ هُوَ } ومادام لا إله إلا هو ، وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره ، فلا بد أن يكون حيا حياة تناسبه ، لأنه سيهب حيوات كثيرة لكل الأجناس ، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد ، إذن فالذي يوجدها لابد أن يكون حياً ولابد أن تكون حياته مناسبة له .
و " قيّوم " هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لأنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية ، ومرة يقع على صورة قوية . مثلما تقول : فلان أكول ، و " أكول " غير " آكل " ، فكلنا نأكل ، وكلنا يطلق علينا " آكل " ، لكن ليس كلنا يُطلق علينا " أكول " لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث .
وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قَيُّوماً؟ لابد أن يكون قَيُّوماً . و " قيوم " معناها أيضا : قائم بذاته . فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل .
إذن فكلمة " قيّوم " صيغة مبالغة من القيام على الأمر ، قائم بنفسه ، قائم بذاته ، ويُقيم غيره ، والغير متعدد متكرر ، فعندما يكون هذا الغير متعدداً ومتكرراً فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه ، فيكون الخالق قيّوما .
إن قوله الحق : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } هو سند المؤمن في كل حركات حياته ، " عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } فضرب في صدري وقال : " ليهنك العلمُ أبا المنذر "
وقولوا لنا بالله : حين يوجد ولد وأب ، هل يحمل الولد همّا لأي مسألة من مسائل الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها ، والمثل العامي يقول : الذي له أب لا يحمل همّا ، إذن فالذي له ربٌّ عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول : أنا حيّ ، وأنا قيّوم ، و " قيّوم " يعني قائم بأمرك .
ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة ، فقال في آية الكرسي : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ، كأنه يقول لنا : ناموا أنتم لأنني لا أنام ، وإلا فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته ف { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } ، وما دام هو " الحيّ " و " القيّوم " فأمر منطقي أنه قائم بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم .
ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما يبقيها ، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها . أما مطلوبات المادة فيقول فيها : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 10 ] .
إنه سبحانه يطمئنا على القوت ، وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . . . }
(1/810)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط ، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء ، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني . إذن لابد أن تنزل القيم . لذلك قال سبحانه : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق } و { نَزَّلَ } تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه : شيء من أعلى ينزل ، وهو يقول لك : لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك ، إنها من خالق الكون والبشر ، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك .
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة ، فقال : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } . وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الإسراء : 105 ] .
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه " نزل " ، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الإسراء : 105 ] .
وبذلك تتساوى " أنزل " مع " نزل " . وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل : أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث ، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث . ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] .
والحق هنا يحدد زمنا . ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر .
إذن فللقرآن نزولان اثنان : الأول : إنزال من " أنزل " .
الآخر : تنزيل من " نَزّل " .
إذن فالمقصود من قوله سبحانه : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون ، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر .
والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر .
لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل ، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات ، لقد جاءت مرة واحدة ، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا .
(1/811)

ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول :
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل } [ آل عمران : 3 ]
وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن : " نَزَّل " وقال عن التوراة والإنجيل : " أنزل " . لقد جاءت همزة التعدية وجمع سبحانه بين التوراة والإنجيل في الإنزال ، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة ، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين ، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث .
ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث ، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرض لأحداث شتى ، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن . { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] .
وكان النجم من القرآن ينزل ويحفظه المؤمنون ، ويعملون بهديه ، ثم ينزل نجم آخر ، والله سبحانه يقول : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ] .
فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا ، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم .
وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن ، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة ، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به .
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء ، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين ، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه ، وذلك أسهل وأوثق . والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين " نزّل " و " أنزل " فقال : { مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان . . . }
(1/812)

مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
ويأتي القول الفصل في : { وَأَنزَلَ الفرقان } .
هنا الجمع بين " نزل " و " أنزل " .
وساعة يقول الحق عن القرآن : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه ، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام ، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن . أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل ، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل ، فليس في تلك الأمور تغيير .
ومعنى " مصدق " أي أن يطابق الخبر الواقع ، وهذا ما نسميه " الصدق " . وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه " كذبا " . إذن ، فالواقع هو الذي يحكم . ولذلك قلنا من قبل : إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا ، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها ، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه ، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا ، ولذلك يقول الناس : " إن كنت كذوبا فكن ذكورا " . أي إن كنت تكذب والعياذ بالله فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك . فالصادق هو من يستقرئ الواقع ، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء ، فلا يحكي مرة بهوى ، ومرة بهوى آخر .
ومادام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ } .
وقد تكلمنا من قبل عن التوراة ، وقلنا : إن بعضاً من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية ، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية ، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية ، فقال بعضهم من التوراة : إنها " الوَرْى " بسكون الراء وكان الناس قديماً يشعلون النار بضرب عود في عود آخر ، ويقولون : الزند قد ورى " ، أي قد خرجت ناره . وقال بعض العلماء أيضا : إن الإنجيل من " النجْل " ، وهو الزيادة .
وأقول لهؤلاء العلماء : لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية ، لكن التوراة لفظ عبري ، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني ، وصارت تلك الكلمات علما على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا . ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربياً فكل ألفاظه عربية ، لا . صحيح أن القرآن عربي ، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب ، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها .
(1/813)

والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة " بنك " وتكلمنا بها ، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي ، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها ، وهي دائرة في ألسنتهم ، وإن لم تكن في أصلها عربية . وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال : إن القرآن جاء مصدقا لهما قال جل شأنه :
{ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } [ آل عمران : 4 ]
فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم : { هُدًى لِّلنَّاسِ } ؟ لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب . وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا ، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها ، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا . فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا ، فيكون { هُدًى لِّلنَّاسِ } معناها : الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب ، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها .
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى : " وأنزل الفرقان " يدل على أن الكتاب أي القرآن سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة " الفرقان " لا تأتي إلا في وجود معركة ، ونريد أن نفرق بين أمرين : هدى وضلال ، حق وباطل ، شقاء وسعادة ، استقامة وانحراف ، إذن فكلمة " الفرقان " تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر ، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر ، وفيه شر وله معسكر ، إذن ففيه فريقان . ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية بقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟ أي مادام القرآن فرقاناً فلابد أن يفرق بين حق وباطل ، والحق له جنوده ، وهم المؤمنون ، والباطل له جنوده وهم الكافرون ، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } . والعذاب إيلام ، ويختلف قُوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب . فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي ، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته ، فإذا كان العذاب صادراً من قوة القوي وهو الله ، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق . { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } أي لا يُغلب على أمره ، ولا توجد قوة أخرى ضده ، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده .
وقوله الحق سبحانه وتعالى : إنه " قيّوم " أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً وإمداداً ، بناء مادة وإيجاد قيم ، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا ، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم ، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله ، لماذا؟
لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم ، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه ، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن ، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري .
(1/814)

ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره ، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه .
إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل ، فهو سبحانه يعلم علماً واسعاً ، بحيث لا يُستدرك عليه ، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا : إن هذا الحكم غير ملائم للعصر ، نقول لهم : أتستدركون على الله؟! كأنكم تقولون : إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له! .
لا ، لا تستدركوا على الله ، وخذوا حكم الله هكذا؛ لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه ، ولا يطرأ شيء على علمه ، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن ، وهو سبحانه يقول : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء }
(1/815)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها ، مادام قيُّوما وقائما بأمور الخلق ، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق ، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذاباً شديداً فلا يخفى عليه شيء . إن الآية تخدم كل الأغراض ، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض ، فحين يقنن بقيوميته ، فهو يقنن بلا استدراك عليه ، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفى عليه . إذن فالآية حصاد على التشريع وعلى الجزاء { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } . وبعد ذلك يتكلم الحق عن مظهر القيوميّة الأول بالنسبة للإنسان فيقول : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ . . . }
(1/816)

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة تختلف نوعيتها : ذكورة وأنوثة . والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً؛ بيضاء وسمراء وقمحية وخمرية وقصيرة وطويلة ، هذه الأشكال التي يوجد عليها الخلق والتي منها : { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } [ الروم : 22 ] .
هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والأشياء المتعددة يَدُل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع قالباً ثم يشكل عليه ، لا؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية .
إن الصانع الآن إذا أرادت أن يصنع لك كوباً يصنع قالباً ويكرره ، لكن في الخلق البشري كل واحد بقالبه الخاص ، وكل واحد بشكله المخصوص ، وكل واحد بصوته الذي ثبت أن له بصمة كبصمة اليد ، وكل واحد بلون ، إذن فهي من الآيات ، وهذا دليل على طلاقة القدرة ، وفوق كل هذا هو الخلق الذي لا يحتاج إلى عملية علاج ، معنى عملية علاج أي يجعل قالباً واحدا ليصب فيه مادته . لا ، هو جل شأنه يقول : { بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] .
إن الأب والأم قد يتحدان في اللون ولكن الابن قد ينشأ بلون مختلف ، ويخلق الله معظم الناس خلقاً سويا ، ويخلق قلة من الناس خلقاً غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة ما أو بإصبع زائدة أو إصبعين . . وهذا الشذوذ أراده الله في الخلق ليلفتنا الحق إلى حسن وجمال خلقه . لأن من يرى وهو السويّ إنساناً آخر معوَّقاً عن الحركة فإنه يحمد الله على كامل خلقه .
وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنساناً آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده ، يعْرف حكمة وجود الأصابع الخمس ، فالجمال لا يثبت إلا بوجود القبح ، وبضدها تتمايز الأشياء ، الإنسان الذي له سبع أصابع في يد واحدة ، يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن يستأصل الزائد عن حاجة الإنسان الطبيعي . ولو خلق الله الإنسان بثلاث أصابع لما استطاع ذلك الإنسان أن يتحكم عند استعماله الأشياء الدقيقة .
إن الإنسان العادي في حركته اليومية لا يدرك جمال استواء خلقه إلا إذا رأى فرداً من أفراد الشذوذ . والحق يلفت الناس الساهين عن نعم الله عليهم لرتابتها فيهم بفقدها في غيرهم . فساعة أن يرى مبصرٌ مكفوفاً يسير بعكاز ، يفطن إلى نعمة البصر التي وهبها له الله فيشعر بنعمة الله عليه . إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية تلفت الناس إلى نعم الله التي أنعم الله عليهم بها .
هذه المُثُل في الكون تلفت الناس إلى نعم الله فيهم ، ولذلك تجدها أمامك ، وأيضا كي لا تستدرك على خالقك ، ولا تقل ما ذنب هذا الإنسان أن يكون مخلوقاً هكذا؟ فهو سبحانه سيعوضه في ناحية أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر .
(1/817)

ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى عن الذي ساح في الدنيا " تيمور لنك الأعرج " وهو القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة ، إن الله قد أعطاه موهبة التخطيط والقتال تعويضاً له عن العرج . ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالباً ، لماذا؟ لأن الله يجعل للعاجز عجزاً معيناً همة تحاول أن تعوض ما افتقده في شيء آخر ، فيأتي النبوغ . إذن ف { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } وكل تصوير له حكمة . ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق الله جميل .
عليك ألاّ تأخذ الخلق مفصولاً عن حكمة خالقه ، بل خُذ كل خلق مع حكمته . إن الذي يجعلك تقول : هذا قبيح ، إنك تفصل المخلوق عن حكمته ، ومثال ذلك : التلميذ الذي يرسب قد يحزن والده ، ولكن لماذا يأخذ الرسوب بعيداً عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى الجدية في الاستذكار ، فلو نجح مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب ونجح سيلعبون ويقولون : هذا لعب ونجح . . إذن فلا بد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده .
كذلك لا تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة ، فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة بجريمتها ، فساعة ترى واحداً مثلاً سيحكمون عليه بالإعدام تأخذك الرحمة به وتحزن ، هنا نقول لك : أنت فصلت إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقاً ، إنما لو استحضرت جريمته لوجدته يُقتَلُ عدالة وقصاصاً فقد قُتُل غيره ظلماً ، فلا تبعد هذه عن هذه .
{ هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ومعنى { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي سيُصوِّر وهو عالم أن ما يصوِّره سيكون على هذه الصورة؛ لأنه لا يوجد إله آخر يقول له : هذه لا تعجبني وسأصور صورة أخرى ، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك عزيز ، أي لا يغلب على أمر ، وكل ما يريده يحدث وكل أمر عنده لحكمة ، لأنه عندما يقول : { يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام } قد يقول أحد من الناس : إن هناك صوراً شاذة وصوراً غير طبيعية . وهو سبحانه يقول لك : أنا حكيم ، وأفعلها لحكمة فلا تفصل الحدث عن حكمته ، خذ الحدث بحكمته ، وإذا أردت الحدث بحكمته تجده الجمال عينه ، وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء ، هذا من ناحية مادته .
وهو سبحانه يوضح : فلن يترك المادة هكذا بل سيجعل لهذه المادة قيما كي تنسجم حركة الوجود مع بعضها يقول سبحانه : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ . . . }
(1/818)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم ، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم ، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه ، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير . فيقول سبحانه : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } .
ماذا يعني الحق بقول : { آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } ؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم ، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس ، فعندما يقول : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] .
هذه آية تتضمن حُكما واضحا . وهو سبحانه يقول : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } [ النور : 2 ] .
هذه أيضا أمور واضحة ، هذا هو المُحكم من الآيات ، فالمُحكم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه ، و " المُتشابه " هو الذي نتعب في فهم المراد منه ، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟
ويوضح لنا سبحانه كما قلت لك خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق ، أي افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، ومادامت أفعالا مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها ، والذي لم يفعلها يُعاقب ، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب ، فيأتي بها صورة واضحة ، وإلا لقال واحد : " أنا لم أفهم " ، إن الأحكام تقول لك : " افعل كذا ولا تفعل كذا " فهي حين تقول : " افعل "؛ أنت صالح ألا تفعل ، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك : افعل ، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك : " افعل " .
وساعة يقول لك : " لا تفعل " ، فأنت صالح أن تفعل ، فلا يقال : " افعل ولا تفعل " إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل ، ونلحظ أنه حين يقول لي : افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك ، ولذلك يقول الحق في الصلاة : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
فعندما يقول لي : " افعل ولا تفعل " معناها : أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها ، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه ، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما في حيِّزه . على حسب قانون الضوء ، والحق يقول له : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } [ يونس : 101 ] .
ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق : اغضض .
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }
(1/819)

[ النور : 30-31 ] .
ومعنى { يَغُضُّواْ } و { يَغْضُضْنَ } أنه سبحانه حدد حركة العين ، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك سبحانه ألاّ تحركها إلا في مأمور به ، فلا تضرب بها أحداً ، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً .
إذن فهو سبحانه يأتي في " افعل ولا تفعل " ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك ، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام ، يقول الأمر التعبدي : قم وصل ، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني : لا تغضب .
إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان ، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً؛ فيقول له : لا تفعل ، وقد يريد ألاّ يفعل فعل خير يقول له : افعل . إذن فكل حركات الإنسان محكومة ب " افعل ولا تفعل " ، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك ، مثل العين والأذن واللسان . إن مهمة العقل أن يدرك ، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمرا آخر ، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري . ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه ، وأيضا لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات . وإذا قرأنا قول الحق : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الأنعام : 103 ] .
نرى أن ذلك كلام عام . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22-23 ] .
ويتكلم عن الكفار فيقول : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] .
إذن فالعقل ينشغل بقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } ، وهذا يحدث في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله ، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله ، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلا ولا مهيأ لها الآن ، أمر موجود في دنيانا ، فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى . ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها .
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما ، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي ، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر على كل شيء .
إذن فالأمر هنا متشابه ، إن الله يُدرَك بضم الياء وفتح الراء أو لا يُدْرَك ، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء . إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام ، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط ، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم :
(1/820)

" إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به " .
إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به ، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به ، والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم . مثال ذلك عندما نسمع قول الله عز وجل : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ الفتح : 10 ] .
إن الإنسان قد يتساءل : " هل لله يد "؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وعندما يسمع المؤمن قول الحق : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] .
فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول : هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به ، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله ، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضا ليس كاستواء الله . ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟
هو كما قال عن نفسه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء . فله ذلك ، ومن يتسع ظنه ويقول : أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فله ذلك أيضا وهذا أسلم .
والحق يقول : { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب } ومعنى { أُمُّ } أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه ، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول : إن لله يداً ، ولكن ليست كأيدي البشر . إنما تدخل في نطاق : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
ولماذا قال الحق : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } ؟ ولم يقل : هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أما ، ولكن مجموعها هو الأم ، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [ المؤمنون : 50 ] .
لم يقل الحق : إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه ، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى . إذن فهما معاً يكونان الآية ، وكذلك { هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب ، إنما المحكمات كلها هي الأم ، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمن أيَّ متشابهٍ . ومهمة المحكم أن نعمل به ، ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك .
(1/821)

فقوله الحق : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } لا يترتب عليه أي حكم ، هنا يكفي الإيمان فقط .
لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ } ؟ . ولنا أن نعرف أن " الزيغ " هو الميْل ، فزاغ يعني مال ، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان ، أي اختلاف منابتها ، فسنَّةٌ تظهر داخلة ، وأخرى خارجة ، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً .
إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل ، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة . كأن الزيغ أمر طارئ على القلوب ، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ ، فالفطرة السليمة لا زيغ فيها ، لكن الأهواء هي التي تجعل القلوب تزيع ، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله الصحيح في أمر ما ، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله . والميل صنعة القلب ، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه ، ولذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به "
لماذا؟ لأن آفة الرأي الهوى ، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم ، لكن الواحد منهم ينحرف لما يهوى ، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في الانحراف يتوب ويعلن توبته ، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان؛ لأن الميل تَكَلَّفٌ تبريري ، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق ، ومثال ذلك : عندما ينظر الإنسان إلى حلاله ، فإنه لا يجد انفعال ملكة يناقض انفعال ملكة أخرى ، ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته ، فان ملكاته تتعارك ، ويتساءل : هل ستقبل منه النظرة أم لا؟ إن ملكاته تتضارب ، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه . لذلك فالإيمان هو اطمئنان ملكات ، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل ، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى .
مثال آخر : عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله ، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته ، أما إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب ، وكذلك جوارحه؛ لأنها خالفت منطق الحق والاستقامة والواقع .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ } إذن فاتباعهم للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم . فالميل موجود عند قلوبهم أولاً ثم بدأ الفكر يخضع للميل ، والعبارة تخضع للفكر ، وهكذا نرى أن الأصل في الميل قد جاء منهم . . ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] .
كأنه يقول : مادمتم تريدون الميل فسأميلكم اكثر وأساعدكم فيه . والحق سبحانه لا يبدأ إنساناً بأمر يناقض تكليفه ، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ ، فيتخلى الله عنه : ويدفعه إلى هاوية الزيغ .
(1/822)

وآية أخرى يقول فيها الحق : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 127 ] .
إنهم الذين بدأوا؛ انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان . وكذلك الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة ، ويريدون بذلك فتنة عقول الذين لا يفهمون ، وما داموا يريدون فتنة عقول من لا يفهمون فهم ضد المنهج ، وما داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن ، وماداموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى الخير ، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم ، ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله . لكن عندما لا يكون مؤمنا فكيف يطلب المعونة من الله ، إنه سبحانه يقول :
( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ) .
إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه ، ويبتغون تأويله ، ومعنى التأويل هو الرجوع ، لأننا نقول : " آل الشيء إلى كذا " أي رجع الشيء إلى كذا ، فكأن شيئاً يرجع إلى شيء ، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى المُحكم ، أو يؤمنوا به كما هو .
يقول الحق بعد ذلك : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون محكما ، لجاء به من المُحكَم ، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول ، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع ، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط . وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار ، والرياضة على البحث ، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث ، والحاجة هي التي تفتق الحيلة .
إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسألة برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل ، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر . { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] .
كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله ، ويستقبل الأحكام بما يريده الله ، فيريد منك في العقائد أن تؤمن ، وفي الأحكام أن تفعل { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } . والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم ، فلا يصلون إلى الحقيقة . والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله .
قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له : يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله؟ فقال له : لا . قال له : أنا من الذي لا تعلم . وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه .
والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } : بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق : { والراسخون فِي العلم } كلاماً مستأنفاً ، إنهم يقولون : إن الله وحده الذي يعلم تأويل المتشابه ، والمعنى : { والراسخون فِي العلم } أي الثابتون في العلم ، الذين لا تغويهم الأهواء ، إنهم : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، إن الراسخين في العلم يقولون : إن المحكم من الآيات سيعلمون به ، والمتشابه يؤمنون به ، وكل من المتشابه والمحكم من عند الله .
(1/823)

أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله : { والراسخون فِي العلم } نقول له : إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه ، وكان نتيجة علمهم قولهم : { آمَنَّا بِهِ } .
إن الأمرين متساويان ، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف . فالمعنى ينتهي إلى شيء واحد . وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } فالمحكم من عند ربنا ، والمتشابه من عند ربنا ، وله حكمة في ذلك؛ لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل ، وبعد ذلك يلقي الأعلى الأمر آخر ولا يبين علته ، فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة ، وواحد آخر يقول : لا ، عليك أن توضح لي العلة . فهل الذي آمن آمن بالأمر أو بالعلة؟
إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر ، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة للإيمان . إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لأنك إن قمت بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة ، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر .
وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً ، ويظهر في العصر الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار ، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار ، فهل امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه؟ طبعاً لا ، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لأن الله قد حرمه؛ ولأن الأمر قد صدر من الله ، حتى دون أن يَعْرِّفنا الحكمة ، إن المؤمن بالله يقول : إن الله قد خلقني ولا يمكن وهو الخالق أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته .
إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله ، هو الذي ينال الثواب ، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له . وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة . وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للآمر بالحكم .
إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به ، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الأهواء ، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق . ومادامت ابتغاءات غير الحق ، فغير الحق هو الباطل ، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه .
(1/824)

ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء؛ لأن هوى إنسان ما قد يناقض هوى إنسان آخر ، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء . والحق سبحانه يقول : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] .
إذن فلا بد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق ، والدين إنما جاء ليعصمنا من الأهواء؛ فالأهواء هي التي تميلنا ، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء ، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً مقابلاً ، إنه يلوي المسألة على حسب هواه ، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض عند آدم عليه السلام؟
لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية ، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم . ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد . كان الحكم كله لهم ، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله .
ولماذا لم يستمر هذا الأمر ، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم ، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية متشابهة . إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة ، لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى أخرى ، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول ، فقال الناس عن هؤلاء الكهنة :
لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم ، ليثبتوا لهم سلطة زمنية ، فنحن لم نعد نأمنهم على ذلك . وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين . لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لأن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الأحكام من منهج الله ، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم من منهج الله ، ولكن من الهوى البشري ، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة .
وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ :
أولا : الهواء هو ما بين السماء والأرض ، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها وجمعه : الأهوية وهذا أمر حسي . ثانيا : الهوَى : وهو ميل النفس ، وجمعه : الأهواء ، وهو مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال .
ثالثا : الهَوىّ : بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي : بمعنى سقط . وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط ، والاشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعاني .
(1/825)

إنها متلاقية . إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله . وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح . فإن الريح مالت ، مالوا حيث تميل .
ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم : آمنا { والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } . وهنا تلتقي المسألة ، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به ، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى ، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر . وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل . والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان : أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة والحكمة ، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم .
والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند الله ، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا :
ويضيف سبحانه : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } و { أُوْلُواْ الألباب } أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى ، لأن آفة الرأي الهوى ، والهوى يتمايل به . { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } و " اللب " هو : العقل ، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها ، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر ، وأحكام للُبّ . الحق يأمر بقطع يد السارق . وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة ويقول : " هذه وحشية وقسوة "!
هذا ظاهر الفهم ، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛ لأن كل واحد يخاف على ذاته ، فيمنعه ذلك أن يسرق . وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها مشوهون قدر مِنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله ، فلا تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب ، ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه ، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا علمت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل ، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت .
إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن ، هذا " لُبّ " الفهم ، ولذلك يقول تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } ، إياكم أن تقولوا : إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد . لا ، لأن { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } إنّ من علم إنه إن قَتل فسيقتل ، سيمتنع عن القتل ، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه ، وهكذا يكون في القصاص حياة ، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء؛ فالله سبحانه وتعالى يلفتنا وينبهنا ألا نأخذ الأمور بظواهرها ، بل نأخذها بلبها ، وندع القشور التي يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله . و { والراسخون فِي العلم } حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله سبحانه : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب }
(1/826)

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
فكأن قول الراسخين في العلم : إن كل محكم وكل متشابه هو من عند الله ، والمحكم نعمل به ، والمتشابه نؤمن به ، فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية ، والمعنى : يا رب ثبتنا على عبادتك ولا تجعل قلوبنا تميل أو تزيع . وهذا يدلنا على أن القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات الإيماني :
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } [ آل عمران : 8 ] .
إنهم يطلبون رحمة هبة لا رحمة حق ، فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له . والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله إلى هذا الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند الله ويعلموننا كيف يكون الطريق إلى الهداية وطلب رحمة الهبة . والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس ، لذلك يقول لنا :
إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي ، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر ، هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط ، فهناك آخرة ، فالدنيا مقدور عليها لأنها محدودة الأمد ومنتهية ، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود ، فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم : { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ . . . }
(1/827)

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
وقولهم : { رَبَّنَآ } نفهم منه أنه الحق المتولي التربية ، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له ، فهناك ربٌّ يربي ، وهناك عبد تتم تربيته ، والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له .
والمؤمنون يرجون الله قائلين : يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة ، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، ومادمت ربا ، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه ، كقولنا نحن العباد : " إن شاء الله " لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد .
حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } [ الكهف : 23-24 ] .
قُلنا إياك أن تقول : إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت إن وعدت ، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك ، إنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله ، لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة ، لأنك تعد بما لا تضمن ، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا ، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب ، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل . والإنسان لا يملك من هذه الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه . إن الإنسان لا يملك أن يظل فاعلا . والإنسان لا يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول . والإنسان لا يملك الزمن ، ولا يملك المكان ، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر ، الفاعل والمفعول ، والزمان ، والمكان ، والسبب ، لا يملكها إلا الله . لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } [ الكهف : 23-24 ] .
إن كلمة { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا . وعندما لا يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر هذا الفعل . وعندما يقول الحق : { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل ، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل ، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن التغير ليس من صفات القديم الأزلي .
(1/828)

وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه ، وأن الله لا يخلف الميعاد ، فمن المؤكد أننا سنلتقي . وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم : عملنا بالمحكم ، وآمنا بالمتشابه ، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده ، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس فيه ، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا . وبعد ذلك يقول الحق جل شأنه : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً . . . }
(1/829)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
ساعة تسمع وأنت المؤمن ، ويسمع معك الكافر ، ويسمع معك المنافق : { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما سيحدث في ذلك اليوم ، كعزوة الأولاد ، أو كثرة مال يشتري نفسه به ، أو خلة ، أو شفاعة ، هنا يقول الحق لهم : لا ، إن أولادكم وأموالكم لا تغني عنكم شيئا .
وفي اللغة يقال : هذا الشيء لا يغني فلاناً ، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن الغِنَى هو ألا تحتاج إلى الغير ، فالأموال والأولاد لا تُغني أحداً في يوم القيامة ، والمسألة لا عزوة فيها ، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع ، فلا أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه .
وكان الكافرون على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك القول الشاذ يقولون : مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلا بد أن يعطينا في الآخرة ما هو أفضل من ذلك . ولذلك يقول الله لهم : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً } إذن فالأمر كله مردود إلى الله . صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب ، والكافر تحكمه الأسباب ، وكذلك المؤمن ، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة ، ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً ، ولذلك يقول الحق عن اليوم الآخر : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب ، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف أسبابهم ، واختلاف كدحهم في الحياة ، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المُتع ، لكن الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمُسبب في الآخرة وهو الله جلت قدرته فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له . أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم ، لأنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله . { سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] .
إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم ، ويضيف الحق عن الكفار في تذييل الآية التي نحن بصددها : { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } إنهم المعَذبون ، وسوف يتعذبون في النار . ولنر النكاية الشديدة بهم ، إن الذين يُعَذَّبون هم الذي يُعَذَّبُون؛ لأنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار . إن المعَذَّب بفتح العين وفتح الذال مع التشديد يكون هو المعَذِّب بفتح العين وكسر الذال مع التشديد-
فهذه ثورة الأبعاض . فذرّات الكافر مؤمنة ، وذرات العاصي طائعة ، والذي جعل هذه الذرات تتجه إلى فعل ما يُغضب الله هو إرادة صاحبها عليها .
(1/830)

وضربنا قديما المثل ولله المثل الأعلى وقلنا : هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض في الكتيبة أن تسمع أمر القائد ، وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للأمر والقائد الأعلى بعد ذلك فإنهم يرفعون أمرهم إليه ويقولون له : بحكم الأمر نفذنا العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا غير موافقين على رأيه . وفي الحياة الإيمانية نجد القول الحكيم من الخالق : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .
فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لاعِنٌ لصاحبه . واليد تتقدم إلى المعصية وهي كارهةٌ لصاحبها ولاعِنةٌ له ، إن إرادة الله العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على يده ولسانه في الدنيا ، وينزع الله إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه أنه أجبرها على فعل المعاصي ، وتعذب الأبعاض بعضها ، وعندما يقول الحق : { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدّخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين وبالعاصين ، ولذلك فإن الله يُعَجِّلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا .
ويقول الحق مثالاً على ذلك : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا . . . }
(1/831)

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
وساعة تسمع " كدأب كذا " فالدأب هو العمل بكدح وبلا انقطاع فنقول : فلان دأبه أن يفعل كذا أي هو معتاد دائماً أن يفعل كذا . أو نقول : ليس لفلان دأب إلا أن يغتاب الناس .
فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس ، أو أنه يقوم بأفعال أخرى؟ إنه يقوم بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الاغتياب ، وهذا هو الدأب . فالدأب هو السعي بكدح وتوالٍ حتى يصبح الفعل بالتوالي عادة . إذن فقوله الحق : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } أي كعادة آل فرعون . وآل فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة الإسلامية ، وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم .
ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلاء ونرى ما الذي حدث لهم ، إنه سبحانه لم يؤخر عقابهم إلى الآخرة؛ لأنه ربما ظن الناس أن الله قد ادخر عذاب الكافرين إلى الآخرة؛ لأنه قال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } [ آل عمران : 10 ] .
لا ، بل العذاب أيضا في الدنيا مصداقاً لقوله الحق : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] .
إن العذاب لو تم تأجيله إلى الآخرة لشقي الناس بالأشقياء ، لذلك يأتي الله بأمثلة من الحياة ويقول : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } أي كعادة آل فرعون ، ولا تصير مسألة عادة إلا بالكدح في العمل ، وكان دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادّعاء فرعون الألوهية .
ويقول سبحانه : { والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب } فصار الدأب منهم ، ومما وقع بهم ، فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع الله عليهم العذاب . لقد كان دأب آل فرعون هو التكذيب ، والخالق سبحانه يجازيهم على ذلك بتعذيبهم ، ولتقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى : { والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * واليل إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد * الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 1-14 ] .
فدأبهم التكذيب وجزاء الله لهم على ذلك هو العذاب والعقاب . إذن فقوله الحق : { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب } أي أوقع بهم العذاب في الدنيا ، وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون وثمود ومن قبلهم من القوم الكافرين .
وعندما تسمع قول الله : { والله شَدِيدُ العقاب } فالذهن ينصرف إلى أن هناك ذنباً يستحق العقاب . وكل الأمور من المعنويات مأخوذة دائماً من المُحسَّات؛ لأن الأصل في إيجاد أي معلومات معنوية هو المشاهد الحسِّية ، وتُنقل الأشياء الحسّية إلى المعنويات بعد ذلك .
(1/832)

لماذا؟ لأن الشيء الحسِّي مشهود من الجميع ، أما الشيء المعنوي فلا يفهمه إلا المتعقلون ، والإنسان له أطوار كثيرة . ففي طور الطفولة لا يفهم ولا يعقل الإنسان إلا الأمر المحسوس أمامه .
وقلت قديما في معنى كلمة " الغصب " : إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حق بقوة ، وهذا أمر معنوي له صورة مشهدية؛ لأن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصباً . ولنر كيف يكون أخذ الحق من صاحبه ، إنه كالسلخ تماماً ، فالكلمة تأتي للإيضاح .
وكلمة " ذنب " وكلمة " عقوبة " مترابطتان؛ فكلمة " ذنب " مأخوذة من مادة ذنب؛ لأن المادة كلها تدل على " التالي " والذَنَب يتلو المقدمة في الحيوان . والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء .
إذن فهناك ذنب وهناك عقاب . لكن ماذا قبل الذنب ، وماذا يتلو العقاب؟ لا يوجد ذنب إلا إذا وُجِدَ نص يُجرّم ، فلا ذنب إلاّ بنص . فليس كل فعل هو ذنب ، بل لابد من وجود نص قبل وقوع الذنب . يجرّم فعله؛ ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا الأمر ، فقال : لا يمكن أن يعاقب إنسان إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنص ، فلا يمكن أن يأتي إنسان فجأة ويقول : هذا العمل جريمة يعاقب عليها . بل لابد من التنبيه والنص من قبل ذلك على تجريم هذا العمل .
إنه لا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنص . فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من العمل ، وإن قام إنسان بهذا العمل فإنه يُجّرم ، ويكون ذلك هو الذنب ، فكأن الذنب جاء تالياً لنص التجريم . والعقاب يأتي عقب الجريمة ، وهكذا نجد أن كلا من الذنب والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله ومعناه؛ فالذَّنَبُ هو التالي للشيء . ولذلك يسمون الدلو الذي يملأونه بالماء " ذَنُوبَاً " لأنه هو الذي يتلو الحبل . وأيضا الجزاء في الآخرة : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } [ الذاريات : 59 ] .
أي ذَنوباً تتبع ، وتتلو جريمتهم . إذن فالنص القرآني في أي ذنب وفي أي عقاب يؤكد لنا القضية القانونية الاصطلاحية الموجودة في كل الدنيا : إنه لا عقوبة دون تجريم . فكان العقابُ بعد الجريمة أي بعد الذنب ، والذنب بعض النص ، فلا نأتي لواحد بدون نص سابق ونقول له : أنت ارتكبت ذنباً . وهذه تحل إشكالات كثيرة ، مثال ذلك : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } [ النساء : 48 ] .
إن الله يغفر ما دون الشرك بالله ، فالشرك بالله قمة الخيانة العظمى؛ وهذا لا غفران فيه وبعد ذلك يغفر لمن يشاء . ويقول الحق في آية أخرى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم }
(1/833)

[ الزمر : 53 ] .
فهناك بعض من الناس يقولون : إن الله قال : إنه لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، حتى إنهم قالوا : إن ابن عباس ساعة جاءت هذه الآية التي قال فيها الحق : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } قال : " إلا الشرك " وذلك حتى لا تصطدم هذه الآية من الآية الاخرى .
والواقع أنه حين يدقق أولو الألباب فلن نجد اصطداما ، لأن الذين أسرفوا على أنفسهم . هم من عباد الله الذين آمنوا ولم يشركوا بربهم أحداً ، ولكنهم زلُّوا وغووا ووقعوا في المعاصي فهؤلاء يقال عنهم : إنهم مذنبون؛ لأنهم مؤمنون بالله ومعترفون بالذي أنزله ، أما المشرك فلم يعترف بالله ولا بما شرع وقنن من أحكام ، فما هو عليه لا يسمى ذنبا وإنما هو كفر وشرك . فلا تعارض ولا تصادم في آيات الرحمن .
وعندما يقول الحق :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب } [ آل عمران : 11 ] .
فهذا القول الحكيم متوازن ومُتّسِق ، فالذنب يأتي بعد نص ، والعقاب من بعد ذلك . ويقول الحق آمرا رسوله ببلاغ الكافرين : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد }
(1/834)

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
إنه أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن الله ، أن يحمل للكافرين خبراً فيه إنذار . من هم هؤلاء الكفار؟ هل هم كفار قريش؟ الأمر جائز . هل هم اليهود؟ الأم جائز . فالبلاغ يشمل كل كافر .
والنص القرآني حينما يأتي فهو يأتي على غير عادة الناس في الخطاب ، ولأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى وسبحانه منزه عن التشبيه أو المثل أنت تقول لابنك : اذهب إلى عمك ، وقل له : إن أبي سيحضر لزيارتك غدا . فماذا يكون كلام الابن للعم؟ إن الابن يذهب للعم ويقول له : إن أبي سيزورك غدا . لكن الآمر وهو الأب يقول : قل لعمك إن أبي سيزورك غدا . فإذا كان الابن دقيق الأمانة فهو يقول :
قال أبي : قل لعمك إن أبي سيزورك غدا . وعندما يقول الحق سبحانه { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } .
فهذا معناه قمة الأمانة من الرسول المبلغ عن الله ، فنَقَل للكافرين النص الذي أمره الله بتبليغه للكافرين . وإلا كان يكفي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب للكافرين ويقول لهم : ستُغلبون وتُحشرون . لكن من يدريهم أن هذا الكلام ليس من عند محمد وهو بشر؟ لذلك يبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أبلغه أن يبلغهم بقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } .
إن الرسول لم يبلغهم بمقول القول : لا ، إنما أبلغهم نص البلاغ الذي أبلغه به الله . وساعة يأمر الحق في قرآنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ أمرا للكافرين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مُخاطب ، والكفار مُخاطبون ، فعندما يواجههم فإنه يقول لهم : ستُغلبون . . وفي آية أخرى يقول الحق : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ } [ الأنفال : 38 ] .
إن القياس أن يقول : إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف ، لكن الحق قال : { إِن يَنتَهُواْ } ، فكأن الله حينما قال كان الكفار غير حاضرين للخطاب ورسول الله هو الحاضر للخطاب ، والله يتكلم عن غائبين .
ولكن الله سبحانه في هذه الآية التي نحن بصددها يحمل الرسول تمام البلاغ فمرة يكون النقل من الآمر الأول كما صدر منه سبحانه كقوله : { إِن يَنتَهُواْ } ومرة يأمره الآمر الأول أن يبلغ الكلمة التي يكون بها مخاطبا أي لا تقل : سيغلبون وقل : { سَتُغْلَبُونَ } لأنك أنت الذي ستخاطبهم . وهذه الدقة الأدائية لا يمكن إلا أن تكون من قادر حكيم .
إنه بلاغ إلى كفار قريش أو إلى مطلق الذين كفروا . والغلب سيكون في الدنيا ، والحشر يكون في الآخرة .
فإذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل النص القرآني { سَتُغْلَبُونَ } فمتى قالها رسول الله؟ لقد قالها والمسلمون قلة لا يستطيعون حماية أنفسهم ، ولا يقدرون على شيء .
(1/835)

وكل مؤمن يحيا في كنف آخر ، أو يهاجر إلى مكان بعيد . فهل يمكن أن يأتي هذا البلاغ إلا ممن يملك مطلق الأسباب؟
لقد قالها الرسول مبلغا عن الله ، والمسلمون في حالة من الضعف واضحة ومادام قد قالها ، فهي حجة عليه ، لأنّ مَن أبلغه إياها وهو الله قادر على أن يفعلها . { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } ليس العقاب في الدنيا فقط ، ولكن في الآخرة أيضا { وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } هذه المسألة بشارة لرسول الله ولأصحابه وإنذار للكافرين به ، ويتم تحقيقها في موقعة بدر . فسيدنا عمر بن الخطاب لما نزل قول الله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
تساءل عمر بن الخطاب : أي جمع هذا؟ إنه يعلم أن المسلمين ضعاف لا يقدرون على ذلك ، وأسباب انتصار المسلمين غير موجودة ، ولكن رسول الله لم يكن يكلم المؤمنين بالأسباب ، إنما برب الأسباب ، فإذا ما تحدى وأنذرهم ، مع أنه وصحبه ضعاف أمامهم ، فقد جاء الواقع ليثبت صدق الحق في قوله : { سَتُغْلَبُونَ } ويتم انتصار المسلمين بالفعل ، ويغلبون الكافرين .
ألا يُجعل صدق بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحدث في الدنيا دليل صدق على ما يحدث في الآخرة؟ إن تحقيق { سَتُغْلَبُونَ } يؤكد { وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ } . وفي هذه الآية شيئان : الأول؛ بلاغ عن هزيمة الكفار في الدنيا وهو أمر يشهده الناس جميعا ، والأمر الآخر هو في الآخرة وقد يُكذبه بعض الناس . وإذا كان الحق قد أنبأ رسوله بأنك يا محمد ستغلب الكافرين وأنت لا تملك أسباب الغَلَبَة عليهم . ومع ذلك يأتي واقع الأحداث فيؤكد أن الكافرين قد تمت هزيمتهم . ومادام قد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الأولى ولم يكن يملك الأسباب فلابد أن يكون صادقا في البلاغ في الثانية وهي البلاغ عن الحشر في نار جهنم .
وبعض المفسرين قد قال : إن هذه المقولة لليهود؛ لأن اليهود حينما انتصر المسلمون في بدر زُلزِلوا زِلزَالا شديدا ، فلم يكن اليهود على ثقة في أن الإسلام والمسلمين سينتصرون في بدر ، فلما انتصر الإسلام في بدر؛ قال بعض اليهود : إن محمداً هو الرسول الذي وَعَدَنا به الله والأوْلَى أن نؤمن به فقال قوم منهم : انتظروا إلى معركة أخرى . أي لا تأخذوها من أول معركة ، فانتظروا ، وجاءت معركة أحد ، وكانت الحرب سجالا .
ولنا أن نقول : وما المانع أن تكون الآية لليهود وللمشركين ولمطلق الذين كفروا؟ فاللفظ عام وإن كان قد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم : يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسْلِموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل .
(1/836)

فماذا قالوا له؟ قالوا له : لا يَغُرنَّك أنك لقيت قوما أغماراً أي قوما من غمار الناس لم يجربوا الأمور لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس ، فأنزل الله قوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ . . } إلخ الآية .
والمهاد هو ما يُمهّد عادة للطفل حتى ينام عليه نوماً مستقراً أي له قرار ، وكلمة { وَبِئْسَ المهاد } تدل على أنهم لا قدرة لهم على تغيير ما هم فيه ، كما لا قدرة للطفل على أن يقاوم من يضعه للنوم في أي مكان . ويقول الحق بعد ذلك : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ . . . }
(1/837)

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
وحين يقول الحق : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } . فمن المخاطب بهذه الآية؟ لاشك أن المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة ، سواء كان مؤمنا أو كافرا ، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب ، والكافر تأتي له الآية بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب ، إن الله جعل من تلك الموقعة آية . والآية هي الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية .
نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين ، سواء كانت فئة الإيمان أو فئة الكفر . ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل ، لأن لله جنودا لا يرونها . وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون : إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية ، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق .
وكلمة { فِئَةٌ } إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس ، ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة . ولكن حين نسمع كلمة { فِئَةٌ } فهي تدل على جماعة ، وهي بصدد عمل واحد . ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر . ولكن كلمة { فِئَةٌ } تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة .
ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير ، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد من أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده ، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة ، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته . ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته .
إذن فكلمة { فِئَةٌ } تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة ، وتأتي الكلمة دائما في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر . وحين يقول الحق : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا } أي أن هناك صراعا بين فئتين ، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ } . وحين ندقق النظر في النص القرآني ، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة ، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة ، وهذا يعني أنّ الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة ، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان .
لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية .
(1/838)

وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى .
فمقابل الكافرة مؤمنة ، وعرفنا - أيضاً - أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله . ويسمون ذلك في اللغة " احتباك " . وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبت في الثاني ، وتحذف من الثاني نظير ما أثبت في الأول ، وذلك حتى لا تكرر القول ، وحتى توضح الالتحام بين القتال في سبيل الله والإيمان ، والقتال في سبيل الشيطان والكفر .
إذن فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي : لقد كان لكم آية ، أي أمر عجيب جدا لا يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين ، فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة ، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها - وهي القتال في سبيل الله - أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان .
وبعد ذلك يقول الحق : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } فنحن أمام فئتين ، فمن الذي يَرى؟ ومن الذي يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟ إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرين . وإن كان الرائي هم الكافرون فالمرئي هم المؤمنون ولنر الأمر على المعنيين :
فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين ، فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم ، وكان عدد الكافرين يقرب من ألف . إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم ، أي ألفين . وقد يكون المعنى مؤديا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي . وقل يؤدى المعنى الى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلاثمائة وأربعة عشر ، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلا .
فأن أخذنا معنى " مِّثْلَيْهِمْ " على عدد المؤمنين ، فالكافرون يرونهم حوالي ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلا ، وإن أخذنا معنى " مِّثْلَيْهِمْ " على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين . وما الهدف من ذلك؟ إن الحق سبحانه يتكلم عن المواجهة بين الكفر والإيمان حيث ينصر الله الإيمان على الكفر . وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون : كيف يقول القرآن : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } وهو يقول في موقع آخر : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } [ الأنفال : 43-44 ] .
وهذه الآية تثبت كثرة ، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين ، والآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة ، والمشككون في القرآن يقولون : كيف يتناول القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلاء المشككين : أنتم قليلو الفطنة؛ لأن هناك فرقاً بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة ، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين : قلل الحق هؤلاء في أعين هؤلاء ، وقلل هؤلاء في أعين هؤلاء ، لأن المؤمنين حين يرون الكافرين قليلا فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر .
(1/839)

والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم . ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعا المعركة على أمل القلة في الأعداد المواجهة ، فما الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالإستعداد المكثف لمواجهة الكفار . وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما توقع ، إذن فيقول الحق : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } [ الأنفال : 44 ] .
يصور الحالة قبل المعركة؛ لأن الله لا يريد أن يتهيب طرف فلا تنشأ المعركة . لكن ما إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها ، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد ونقل الشيء من الضد الى الضد إيذان بأن قادرا أعلى يقود المشاعر والأحاسيس ، والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد .
لقد قلل الحق الأعداد أولا حتى لا يتهيبوا المعركة ، وفي وقت المعركة جعلهم الله كثيراً في أعين بعضهم البعض ، فترى كل فئةٍ الطرف الآخر كثيرا ، فتتفجر طاقات الشجاعة المؤمنة من نفوس المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة ، وتخور نفوس الكافرين عندما يواجهون أعدادا أكثر مما يتوقعون . والحق سبحانه وتعالى يقول :
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } [ آل عمران : 13 ]
إن هذه الأية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر ، وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل كافر بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة . فإياكم أن تقيموا الأمور بمقاييس الأسباب ، فالأسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر وعليكم أن تتركوا تتمة كل ذلك للقدر ، فلا تخور الفئة المؤمنة أمام عدد كثير ، ولا تغتروا معشر الكفار بأعدادكم الكثيرة؛ فالسابقة أمامكم تؤكد أن عدداً قليلا من المؤمنين قد غلب عددا كثيرا من الكافرين .
ومن معاني الآية - أيضا - أن الكافرين يرون المؤمنين مثلى عدد الكافرين ، أي ضعف عددهم . ومن معانيها - ثالثا - أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي . ومن معاني الآية - رابعا - أن يرى المسلمون الكافرين مثليهم ، أي مثل المؤمنين مرتين ، أي ستمائة نفر وقليلا ، وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من العدد الفعلي لهؤلاء الكافرين . إذن فما حكاية " مِّثْلَيْهِمْ " هذه؟ لقد وعد الله المؤمنين بنصره حين قال :
(1/840)

{ ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال : 65 ] .
والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم ، ذلك وعد الله ، وحين أراد الله التخفيف قال الحق : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } [ الأنفال : 66 ] .
لقد خفف الله النسبة ، فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين . فالمؤمنون موعودون من الله بالغلبة حتى وهم ضعاف . والحق يقول في الآية المبشرة للمؤمنين ، المنذرة للكافرين ، والتي نحن بصددها الآن : { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } .
ونحن نسمع كلمة " عبرة " كثيرا ، والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول من مكان إلى مكان ، فقال عن ذلك " عُبور " ، ونحن في حياتنا العادية نخصص في الشوارع أماكن لعبور المشاة ، أي المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من ضفة الشارع إلى الضفة الأخرى من الشارع نفسه . وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى شاطئ آخر .
إذن فمادة " العبور " تدل على النفاذ من مكان إلى مكان ، و " العَبرة " أي الدمعة لأنها تسقط من محلها من العين على الخد . و " العِبارة " أي الجملة التي نتكلم بها ، فهي تنتقل من الفم إلى الأذن ، وهي عبور أيضا . و " العبير " أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن الإنسان قليلا لتنفذ إلى أنفه . إذن فمادة " العبور " تدل على " النفاذ " .
وحين يقول الحق : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً } . أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم أيها المؤمنون لأنكم قليل ، وهم كثير ، إنها تنقلكم إلى نصر الله أيها المؤمنون ، وتنقلكم أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة عُدتكم وعَددكم . فالعبرة هي حدث ينقلك من شيء إلى شيء مغاير ، كالظالم الذي نرى فيه يوما ، ونقول إن ذلك عبرة لنا ، أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة .
وهكذا تكون العبرة هي العظة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن ، فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل ، فالحق يقول في بداية هذه الآية : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا } وتنتهي الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } .
إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب وذلك إن كنت متروكا لسياسة نفسك ، لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه؛ لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك ، ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين :
(1/841)

{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] .
ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم ، كزلزال يحدث ويدمرهم ، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين . { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } ، و " الأيد " هو القوة ، إذن فهو يريد منك فقط النواة العملية ، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر ، " وأيَّده " أي قواه ، ويؤيد الله بنصره من يشاء ، وتكون العبرة لأولي الأبصار .
وقد يقول قائل : أتكون العبرة لأولي الأبصار؛ أم لأولي البصائر؟ وهنا نقول : إن العبرة هنا لأولى الأبصار لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي ، أمر محسوس ، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما ، فإذا كان التفكير والتدبر ليس أمرا موهوبا لكل مخلوق من البشر ، فإن البصر موجود للغالبية من الناس ، وكل منهم يستطيع أن يفتح عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي .
وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة؛ فالمؤمنون قلة وعددهم معروف محدود ، وعتادهم قليل ، ولم يخرجوا بقصد حرب ، إنما خرجوا لقصد الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضا عما اغتصبه المشركون من أموالهم في مكة ، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيما بالدرجة التي كان عليها؛ لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط . ولكن الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة ، أي الطائفة القوية المسلحة ، لقد وعدهم الله بالنصر على إحدى الطائفتين : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } [ الأنفال : 7 ] .
لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين ، والأمل البشرى كان يود الانتصار على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير ، ولكن مثل هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة ، فقد كان من السهل أن يقال : إن محمداً ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش ، ولكن الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانا وأن يحق الحق .
إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا للقتال ، أما الكفار فقد جاءوا بالنفير ، أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلاذ أكبادها . وعندما يأتي النصر من الله للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي ، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله . وتصير عبرة للغير . لذلك نجد العجائب في هذه المعركة - معركة بدر - .
(1/842)

الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة . وتجد الأب والابن لكل منهما موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما ، فمثلا ابن أبي بكر رضي الله عنه ، وكان هذا الابن لم يسلم بعد ، وكان في جانب الكفار ، وأبوه الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر : لقد تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك . فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي : والله لو تراءيت لي أنت لقتلتك .
وكلا الموقفين منطقي ، لماذا؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر ، ويرى وجه أبيه ، فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل ، ويعرف تمام العلم أنه باطل ، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه ، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه . لكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه ، ومن المؤكد أن الإيمان يزيد عند الصديق أبي بكر ، فلو رآه يوم بدر لقتله .
ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش ، ولله حكمة فيمن أبقى من الكفار بغير قتل؛ لأن هؤلاء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلاء الحسن . فلو مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين؛ لأن الله قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله المسلول ، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلا عبقريا .
لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان؛ لأنهم لم يعلموا حكمة الله في ادخار هؤلاء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان . والله لم يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ إلاّ لأن الله قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها ، ويحاربون في صفوف المؤمنين وهذا نصر جديد .
ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشر بدين الله ، ويعلِّم أهل المدينة ، وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف ، وأمه صاحبة ثراء ، وبعد ذلك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس الحرير ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى الإيمان ماذا فعل بصاحبكم " .
والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز ، وأبو عزيز على الكفر ، ومصعب رضي الله عنه مسلم يقف مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وحين يرى مصعب رضي الله عنه أخاه أبا عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر ، فيقول مصعب : يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛ فإن أمه غنية وذات متاع ، وستفديه بمال كثير .
فيقول له أخوه أبو عزيز : أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيراً إلى أبي اليسر : هذا أخي دونك .
(1/843)

كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر ، طاقة إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة ، وعاطفة الأبوة ، وعاطفة البنوة . وقد جعل الله من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين ، أو قلت عُدّتهم ، وحتى لا يغتر كافر ، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم .
وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني ، ولذلك يقال : احرص على الموت توهب لك الحياة . وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن ، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس . ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم ، فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار ، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } [ التوبة : 52 ] .
فالظفر هنا بأحد أمرين : إما النصر على الكافرين ، وإما الاستشهاد في سبيل الله ، ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل . والمؤمنون يتربصون بالكافرين ، إما أن يصيب الله الكفار بعذاب من عنده ، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين . إنها معادلة إيمانية واضحة جلية . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات . . . }
(1/844)

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
الموضع الذي تأتي فيه هذه الآية الكريمة هو : موقع ذكر المعركة الإسلامية التي جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى الله ، وتتطلب خروج الإنسان المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع . والمعارك الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من ماله في تسليح نفسه ، وتسليح غيره أيضا .
فمن يقعد عن الحرب إنسان تغلبه شهوات الدنيا ، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية التي ترسم طريق الانتصارات المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة من متعة القتال في سبيل الله ولإعلاء كلمته فيقول : " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات " وكلمة " زُيِّنَ " تعطينا فاصلا بين المتعة التي يحلها الله ، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر . فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين ، فتكون زينتها شيئا فوق جوهر جمالها .
فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها ، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها ، بل نأخذها بحقيقتها الاستبقائية فيقول : " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء " . وما الشهوة؟ الشهوة هي ميل النفس بقوة إلى أي عمل ما .
وحين ننظر إلى الآية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول ، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت .
وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس ، وأن الحيوان يفضل الإنسان فيها ، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع بدليل أن الأنثى من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكِّن فحلاً اخر منها . والفحل أيضاً اذا ما جاء إلى أنثى وهي حامل فهو لا يُقبل عليها ، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة ، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة .
ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات ، ونقول في وصف شهوة الإنسان : أن عند فلان شهوة بهيمية . ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لأن البهيمة قد أخذتها على القدر الضروري ، لكن نحن فلسفناها ، إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعا يسمى : دناءة شهوة النفس .
والحق سبحانة وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه ، والبقاء له نوعان : أن يُبقِي الإنسان حياته بالمطعم والمشرب ، وتبقى حياة النوع الإنساني بالتزواج .
ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيما عليما . إنه يعلم أن طفولة أي حيوان بسيطة بالنسبة لأبيه وأمه ، مثال ذلك : الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران ، ثم لا تعرف أين ذهب فرخها ، لكن حصيلة الإلتقاء بين الرجل والمرأة ، والتي أراد الله لها أن تنتج الأولاد تحتاج إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد ، وذلك ليكون هناك تكافؤ وتناسب بين ما يحرص عليه الإنسان من شهوة ، وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل الاستمتاع بها واستبقائها .
(1/845)

فقول الحق سبحانه : " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء " فمن المزين؟ إن كان في الأمر الزائد على ضروريات الأمر ، فهذا من شغل الشيطان ، وإن كان في الأمر الرتيب الذي يضمن استبقاء النوع فهذا من الله .
ونجد الحق يضيف " البنين " إلى مجال الشهوات ويقصد بها الذكران ، ولم يقل البنات ، لماذا؟ لأن البنين هم الذين يُطلبون دائما للعزوة كما يقولون ولا يأتي منهم العار ، وكان العرب يئدون البنات ويخافون العار ، والمحبوب لدى الرجل في الإنجاب حتى الآن هو إنجاب البنين ، حتى الذين يقولون بحقوق المرأة وينادون بها ، سواء كان رجلا أو امرأة إن لم يرزقه الله بولد ذكر فإنه أو إنها تريد ولداً ذكراً .
ويضيف الحق إلى مجال الشهوات : { والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } ، والقناطير هي جمع قنطار ، والقنطار هو وحدة وزن ، وهذا الوزن حددته كثافة الذهب ، إلا أن القنطار قبل أن يكون وزناً كان حجماً ، لكنهم رأوا الحجم هذا يزن قدراً كمياً ، فانتقلوا من الحجم إلى الوزن .
وكان علامة الثراء الواسع في الزمن القديم أن يأتوا بجلد الثور بعد سلخه ويملأوه ذهبا ، وملء جلد الثور بالذهب يسمونه قنطاراً ، وكانت هذه عملية بدائية . وبعد ذلك أخذوا ملء الجلد ذهباً ووزنوه فصار وزنا . إذن فالأصل فيه أنه كان حجماً ، فصار ووزناً . وساعة تسمع { والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } فهو يريد أن يحقق فيها القنطارية ، وذلك يعني أن القنطار المقنطر هو القنطار الكامل الوزن ، وليس مجرد قنطار تقريباً ، كما نقول أيضاً : " دنانير مدنرة " . وعادة نجد في اللغة العربية لفظاً يأتي من جنس اللفظ يضم إليه كي يعطيه قوة ، فيقال " ظل ظليل " أي ظل كثيف ، ويقال " ليل أليل " أي أن الليل في ظلمة شديدة ، وهي مبالغة في كثافة الظلام .
والظلام على سبيل المثال يحجب الشمس ، وحاجب الشمس عنك قد يكون حجاباً واحداً ، وقد يكون الشيء الذي يظلك فوقه شيء آخر يظلله أيضاً فيكون الظل ظليلاً ، ولذلك يكون الظل تحت الأشجار جميلاً ، لأن ورقة تستر الشمس وورقة أخرى تستر الورقة الأولى ، وهكذا ، فتصنع تكييفاً طبيعياً للهواء .
ولذلك فهم يصنعون الآن خياماً مكيفة الهواء مصنوعة من قماش فوقه قماش آخر ، وبينهما مسافة ، فيكون هناك قماش يُظلل ظِلاً آخر ، فإذا ما وضعوا قطعة ثالثة من القماش تُظل الظلين الأولين ، فإن الظل يكون ظليلاً ولذلك قلنا : إن ظل الأشجار هو ظل ظليل ، فيه حنان ، فكل ورقة تظل الإنسان تكون نفسها مظَّللةَ بورقة أخرى ، وتكون أوراق الشجر التي تظلل بعضها بعضا مختلفة الأوضاع ، وتعطي الأوراق للنسيم فرصة المرور ، أما الخيام فهي تحجب النسيم .
(1/846)

والشاعر حين أراد أن يصف الروضة قال :
تصد الشمس أَنَّى واجهتها ... فتحجبها وتأذن للنسيم
إذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان ، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ { مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة } . وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة "
قول الحق : { والخيل المسومة } نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات متعددة من المعاني ، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها ، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى تأكل منها كما تريد ، وليست خيلاً مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط ، ومسوّمة أيضاً تعنى أن لهذا الخيل علامات ، فهذا حصان أغرّ ، وذلك أدهم وذاك أشقر .
ومسوَّمة أيضا ، أن تكون مروضة ، ومدربة ، وتم تعليمها ، فالأصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة بل مُتوحشة ، ولذلك لا بد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان . فكم معنى إذن أعطته لما كلمة " مُسَوَّمَةِ "؟
سائمة ، أي تأكل على قدر ما تشتهي لا على قدر ما نعطيها من طعام . ومُعلَّمة أي فيها علامات كالغّرة والتحجيل ، وهذا جواد أدهم ، وذلك جواد أشقر ، أو أنها معلمة أي مروضة . فماذا تتطلب الحرب؟ .
إن الحرب تتطلب الانقطاع عن الأهل ، فيجب ألا تكون شهوة النفس حاجزاً ، سواء كانت شهوة للنساء ، أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم ، أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن ينفقه في سبيل الله ، والخيل أيضاً يستخدمها الإنسان في القتال لإعلاء كلمة الله .
ونلحظ أن هذه الآية - التي تعدّد أنواع الزينة - جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها :
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } [ آل عمران : 13 ]
وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحى بشهوته الحقيقية وهي إدراك الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في النساء ، وفي البنين ، وفي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وفي الخيل المسوَّمة والأنعام وقد قال الله عن الأنعام في سورة الأنعام : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين }
(1/847)

[ الأنعام : 143-144 ] .
حساب ذلك هو إثنان من الضأن ، وإثنان من الماعز ، وإثنان من الإبل ، وإثنان من البقر أي ثمانية أزواج . ولا يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديماً ، لا؛ إن الزوج لا يعني اثنين من الشيء ، ولكن الزوج واحد ، ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من جنسه . ومثال آخر هو كلمة " التوأم " ، إن التوأم هو واحدٌ معه غيره ، وهما توأمان ، وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين .
والحق يقول في مجال زينة الشهوات : " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " وحين تسمع كلمة " الحرث " فافهم أن المراد بها هنا الزرع ، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن الله حين يُنبت لك أشياء بدون معالجتك فإنه يريد منك أيضاً أن تَسْتنبت أشياء بمعالجتك ، وهذا لا يتأتى إلا بعملية الحرث .
والحرث هو إهاجة الأرض؛ فالتربة تكون جامدة ، فلا بد أن يهيّجها الإنسان بالحرث ، أي أن تفك يبوستها - وتَلاَصُق ذراتها لأن تلاَصُقَ ذرات التربة لا يصلح أن يكون بيئة للنبات؛ لأن النبات يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء ، ويحتاج من الإنسان أن يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج ، وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى .
إذن فالحرث يتثير الأرض ، ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لأن الله قد أودع في فلقتي كل بذرة مقومات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات الحياة من الأرض ، وكلما قوى الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلان ، وتصيران مجرد ورقتين . فأين ذهب حجم الفلقتين؟
لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الأرض ، ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت الأرض محروثة . ولذلك يقولون : إن الأرض الطينية السوداء تكون صعبة ، وغير خصبة ، ويقال : إن الأرض الرملية أيضاً غير خصبة ، لماذا؟ .
لأننا نريد صفتين اثنتين في الأرض : الصفة الأولى أن تكون الأرض صالحة أن يتخللها الماء ليشرب الزرع ، والصفة الأخرى ألاّ تُسرب الماء بعيداً ، فإذا كانت الأرض طينية فإن جذور الزرع تختنق وتتعفن ، وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيداً ، لذلك نحتاج في الزراعة الى أرض بين سوداء ورملية ، أي أرض صفراء . والله حين يتكلم عن الزرع فإنه يقول : " الحرث " وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعاً لا بد أن يجدّ ويحرث الأرض . وهو سبحانه القائل : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 63-64 ] .
وعبِّر الحق عن الزرع بالحرث لأنه السبب الذي يُوجِد الزرع . وكل ما تقدم من الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ، كل ذلك تكون قيمته عند الإنسان ما يوضحه الحق بقوله : " ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب " .
(1/848)

إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا ، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا تكون عنده ، أو أن يفوتها فيموت . وكل ما يفوتك أو تفوته ، فلا تعتز به . وعندما نتأمل الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله ، إنه سبحانه يقول :
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } [ آل عمران : 14 ]
هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه ، إنه - سبحانه - يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله ، فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟ .
لا شك أنه الهوى ، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب ، ولكل هوى مفتاح ، ولكل شخصية من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه ، فواحد مفتاحه النساء ، وواحد مفتاحه البنون ، يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلا فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلاء . وأناس مفاتيحهم الشخصية المال ، أو في زينة الخيل ، والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى .
والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم ، فربما كان هناك إنسان لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب إنما يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب .
إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته ، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من يريدون إغراءه وإغواءه . وحين يقول الحق أنَ هذه الأشياء هي المُزَيِّنة للناس . قد يقول قائل : إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟
وعلى هذا القول نرد : إن الحق مادام قد قال : { زُيِّنَ } وبناها - كما يقول النحاة - للمجهول إي لما لم يُسَمَّ فاعله ، فمن الذي زيِّن؟ لقد كان الله قادرا أن يقول لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديدا ، لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء ، ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو الذي يزين ، ألم يقل الحق سبحانه دعاء على لسان عباده الصالحين : { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان : 74 ] .
إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟ الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل نعمة من نعم الحياة عملا يعمله الإنسان فيها ، فالمرأة إنما اتَّخَذَت سكنا أي ارتياحا عندها ، ارتياحاً يعطيك كل الحنان والعطف ، وهو سبحانه القائل : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
(1/849)

[ الروم : 21 ] .
إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلاله ، وتصرف المرأة الحلال عَيْنَيْ زوجها عن أعراض الناس . لكن ماذا في الرجل الذي يُحب الأبناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 4-6 ] .
لقد طلب زكريا عليه السلام وليَّا يرثه ، والأنبياء لا تُورث منهم أموال ، إنما يُورِّثون العلم والحكمة ، إذن فقد طلب زكريا عليه السلام أن يرث ابنه الحكمة منه ويرث من آل يعقوب وأن يجعله الله رضِيَّا . فلو كان الأنبياء يورِّثون المال ، لكان البعض قد فهم أن طلب زكريا للإبن كي يرثه في المال ، لكن الحق أراد لأنبيائه ألاّ يُورِّثوا المال ، بل يورِّثون العلم بمنهج الله . وقد طلب زكريا الابن لتثبيت منهج الله في الأرض .
وكذلك الذي يريد الأموال لينفقها في سبيل الله ، وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على الجهاد ، وكذلك الذي يريد الحرث ليملأ بطون خلق الله بما يَطعَمُون منه ، كل هؤلاء ينالهم المدح والثناء والجزاء الكثير من الله . لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من الله مُحتملا أن تتجه به إلى الخير المراد لله ، ومحتملا أن تتجه به إلى الشر المراد لنفسك . وأنت - أيها العبد - حين تنظر إلى أي شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد أنه من الممكن أن توجِّهها وِجهة خير . يقول الحق : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان : 74 ] .
لقد أراد الله للأتقياء والأنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج السلوكي ويكونوا مثلا طيبة للناس يقتدون بهم . إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة سلوكية . والذي يحب الخيل يمكن أن يوجه هذا الحب إلى الخير ، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مِنْ خير معاش الناس لهم رجل ممسك عِنَانَ فرسه في سبيل الله يطير على مَتنه كلما سمع هِيْعَة أو فَزْعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مَظَانَّة " .
وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نُروِّض الخيل ، إذن فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء مساراً للخير . وإياكم أن تفهموا أن الله يزهدنا فيها أو ينفرنا منها ، ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما خلقه لنا في غير مراده .
ولننظر إلى تعليق الله على الأشياء المُزينة : " ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا " أي أن الذي ينظر الى هذه الاشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية سيجدها مجرد متاع ، وما عمر هذا المتاع؟ إنه موقوت بالدنيا الفانية .
(1/850)

ولننظر إلى الإنسان عندما يُصَعِّدُ في عمله قيمة الخير ، وتصعيد قيمة الخير يأتي من تنمية نوعه ، أي الزيادة في نوع الخير ، ومن استدامته ، ومن أن الإنسان لا يترك هذا الخير .
إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه . واستدامة الخير فلا ينقطع ، وضمان أن يحيا الإنسان للخير ويعيش له ، وألاّ يذهب الخير عنه ، وأمر رابع هو ألاّ تربط هذا الخير بأغيار ، أي أن تربطه بواحد قوى يأتي لك به ، فقد يضعف ، أو يمرض ، أو يغيب ، أو يغدر بك .
إذن فلا بد من أربعة عناصر : الاول : تصعيد الخير ، أي نوع الخير الذي تفعله يكون أرقى من خير آخر ، فنعمل دائما على زيادته وتنميته . والثاني : استدامة الخير . والثالث : أن تدوم أنت للخير ، وتحرص على أن تعيش له ، والأمر الرابع : ألاّ تربط هذا الخير بالأغيار . بل عليك أن تعتمد على الله ثم على نفسك .
وكل خير يأتي دون هذا فهو خير غير حقيقي . فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال والبنين والخيل والأنعام والحرث فإنها ستعطيك متاع الدنيا . ولنسلم جدلا أن شيئا لن يسلبك هذه الأشياء وأنت حيّ ، وأنها ستظل معك طيلة دنياك . فما قيمة الدنيا وهي مقاسة بآلاف السنين ، والإنسان لا يعيش فيها إلا قدرا محددا من الأعوام يقرره الحق سبحانه وتعالى .
إذن فالدنيا تقاس بعمر الإنسان فيها لا بعمر ذات الدنيا لغيره ، لأن عمر الدنيا لغيرك لا يخصك . هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة وحرث وأنعام وعدة وعتاد قد دامت لك ، فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة . ولا أحد يستطيع أن يستديم الدنيا ، لذلك فلن يستطيع أحد أن يستديم الخير لأن عمره في الدنيا محدود .
وحياة الإنسان في الدنيا لم يضع الله لها حداً يبلغه الإنسان . إن الله لم يحدد عمرا يموت فيه الإنسان ، ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصٌّ محدود بحياته ، فعندما يولد أي طفل لا تنزل معه بطاقة تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا .
وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهما لكل إنسان ، ولذلك يقال إن الإبهام هو أعلى درجات البيان ، الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن الإنسان . متى يأتي؟ في أي زمان وفي أي مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقبا للموت في كل لحظة .
إن الإبهام للموت هو البيان الوافي ، وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير مضمونة للإنسان أن يحياها ، ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته ، وإن لم تذهب الدنيا من الإنسان فالإنسان نفسه يذهب منها . فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة التي نحياها الآن ، إنّ اسمها " الدنيا " أي " السفلى " ومقابل " الدنيا " هو " العليا " وهي الحياة في الآخرة .
(1/851)

ولماذا هي " عليا "؟ لأنها ستصعد الخير .
فبعد انقضاء هذه الحياة المحدودة يذهب المؤمن إلى الجنة وبها حياة غير محدودة ، وهذا أول تصعيد . ويضمن المؤمن أن أكلها دائم لا ينقطع . ويضمن المؤمن أنه خالد في الجنة فلا يموت فيها . ويضمن المؤمن قيمة هذه الجنة؛ لأن الخير إنما يأتي على مقدار معرفة الفاعل للخير . ومعرفة الإنسان للخير جزئية محدودة ، ومعرفة الله للخير كمال مطلق .
فالمؤمن في الآخرة يتنعم في الخير على مقدار ما علم الله من الخير . إذن فحياتنا هي الدنيا ، أي السفلى ، وهناك الآخرة العليا . فإذا طلب المنهج منا ألاّ ننخدع بالدنيا ، وألاّ ننقاد إلى المتاع فهل هذا لون من تشجيع الحب للنفس أو تشجيع للكراهية للنفس؟
إنه منهج سماوي يقود إلى حب النفس؛ لأنه يريد أن يُصَعِّد الخير لكل مؤمن ، لقد بيّن المنهج أن في الدنيا ألوانا من المتع هي كذا وكذا وكذا ، والدنيا محدودة ولا تدوم لإنسان ، ولا يدوم إنسان لها ، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على قدر الإنسان ، أما إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق المربي ، فمن المنطقي جدا أن يقول الله لنا : { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } . وحسن المآب تعني حسن المرجع .
والحق حينما طلب منك أيها المؤمن أن تغض بصرك عما لا يحل لك ، فقد يظن الإنسان السطحي أن في ذلك حجراً على حرية العين ، ولكن هذا الغض للبصر أمر به - سبحانه - إنما ليملأ العين في الآخرة بما أحل الله ، إذن فهذا حب من الله للمخلوق وهذا تصعيد في الخير .
ولنفترض أن معك مبلغا قليلا من المال وقابلت فقيرا مسكينا فآثرت أنت هذا الفقير على نفسك ، فأنت تفعل ذلك لتنال في الآخرة ثوابا مضاعفا . إذن فقضية الدين هي أنانية عالية سامية ، لا أنانية حمقاء . ويوضح الله بعد ذلك حسن المآب بقوله سبحانه : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم . . . }
(1/852)

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
وحين تسمع كلمة " أؤخبركم " فما نسمعه بعد ذلك كلام عادي ، أما عندما نسمع " أَؤُنَبِّئُكُمْ " فما نسمعه بعدها هو خبر هائل لا يقال إلا في الأحداث العظام ، فلا يقول أحد لآخر : سأنبئك بأنك ستأكل كذا وكذا في الغداء ، ولكن يقال " أنا أنبئك بأنك نلت جائزة كبرى " ، هذا في المستوى البشرى فما بالنا بالله الخالق الأعلى ، ولذلك يقول الله الحق : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 1-2 ] .
إنه الأمر الذي يقلب كيان هذه الدنيا كلها ، فحين يقول الحق : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } فمعنى ذلك أن الله يخبرنا بخبر من هذه الأشياء ، ومن ذلك نعرف أن الله قد جعل هذه الأشياء مقياساً ، لماذا؟
لأنه مقياس محس ، وأوضح لنا كيفية التصعيد فقال : { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ } والمؤمن هو من ينظر بثقة إلى كلمة { عِندَ رَبِّهِمْ } أي الرب المتولى التربية والذي يتعهد المربيَِّ حتى يبلغه درجة الكمال المطلوب منه .
والعندية هنا هي عند الرب الأعلى . فماذا أعد المربي الأعلى للمتقين؟ لقد أعد لهم { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } ولنر الخيرية في هذه الجنات ، وهي تقابلٍ في الدنيا الحرث والزرع ، وقد قلنا : إن الحق حين تكلم عن الزرع تكلم واصفاً له ب " الحرث " لنعرف أن الزرع يتطلب منا حركة وعملاً .
أما في الآخرة فالجنات جاهزة لا تتطلب من المؤمن حركة أو تعباً ، ولا يقف الأمر عند ذلك ، بل إن هذه الجنات تجر من تحتها الأنهار وفيها للإنسان المؤمن ما وعده الله به : { خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } إنه الخلود الذي لا يفنى ، ولا يتركه الإنسان ولا يترك هو الإنسانِ .
والأزواج المطهرة هي وعد من الله للمؤمنين ، ومن يحب النساء في الدنيا يعرف أن المرأة في الدنيا يطرأ عليها أشياء قد تنفر ، إما خَلْقاً تكوينياً ، وإمَّا خُلًُقاً ، فهناك وقت لا يحب الرجل أن يقرب فيه المرأة ، وقد يكون فيها خصلة من الخصال السيئة فيكره الإنسان جمالها .
لذلك فالرجل قد ينخدع بالمنظر الخارجي للمرأة في الدنيا ، وقد يقع الإنسان في هوى واحدة فيجد فيها خصلة تجعله يكرهها ، أما في الآخرة فالأمر مختلف ، إنها { أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي مطهرة من كل عيب يعيب نساء الدنيا ، فيأخذ المؤمن جمالها ، ولا يوجد فيها شرور الدنيا ، فقد طهرها الله منها .
{ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } من الذي طهرها؟ إنه هو الله - سبحانه - طهرها خَلْقاً وَخُلُقاً . فالرجل في الدنيا قد يهوى إمرأة ، وتستمر نضارتها خمسة عشر عاماً تستميله وتجذبه ، ثم تبدأ التجاعيد والترهل والتنافر . أما في الآخرة فالمرأة مطهرة من كل شيء ، وتظل على نضارتها وجمالها إلى الأبد ، أليس هذا تصعيداً للخير؟ ونلاحظ أن الحق سبحانه ذكر هنا أمرين :
الأمر الأول : هو جنات تجري من تحتها الأنهار ، ونقارن بينها وبين الحرث في الدنيا .
(1/853)

والأمر الآخر : هو الأزواج المطهرة ، ونقارن بينها وبين النساء في الدنيا أيضا ، ولم يورد الحق أي شيء عن بقية الأشياء ، فأين القناطير المقنطرة من الذهب؟ وأين الخيل؟ وأين الأنعام وأين البنون؟
إننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الأمرين المزينين ، واحداً يستهل به الآية ، والأمر الآخر يأتي في آخر الآية ، ولنقرأ الآية التي فيها التزيين : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث }
إن البداية هي النساء ، ذلك هو القوس الأول ، والنهاية هي الحرث وذلك هو القوس الثاني ، وبين القوسين بقية الأشياء المزينة ، وقد أعطانا الله عوض القوسين ، وأوضح لنا إنهما هما الخير الْمُصَعَّد ، ولم يورد بقية الأشياء المزينة ، وهذا يعني أن نفهم ذلك في ضوء أن الرزق ما به انتُفِعَ ، أي أن كل ما ينتفع به الإنسان رزق ، الخُلُق الطيب رزق سماع العلم رزق ، أدب الإنسان رزق ، حلم الإنسان رزق ، صدق الإنسان رزق ، ولكن الرزق يأتي مرة مباشرا بحيث تنتفع به مباشرة ، ومرة أخرى يأتي الرزق لكنه لا ينفع مباشرة ، بل قد يكون سببا ووسيلة لما ينفع مباشرة .
مثال ذلك الخبز ، إنه رزق مباشر ، والنقود هي رزق ، لكنها رزق غير مباشر؛ لأن الإنسان قد يكون جائعاً وعنده جبل من الذهب فلو قال واحد لهذا الإنسان : خذ رغيفا مقابل جبل من الذهب . سيعطي الإنسان الجائع جبل الذهب مقابل الرغيف؛ لأن الإنسان لا يأكل الذهب ، وكذلك كوب الماء بالنسبة للعطشان .
إذن فهناك رزق لا يطلب لذاته ، ولكن يطلبه الإنسان لأنه وسيلة لغيره فالوسيلة لغيره أنت لن تحتاج إليها في الآخرة؛ لأنك ستعيش ببدل الأسباب بقول الحق : " كن " . فالإنسان لن يحتاج في الجنة إلى مال . أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛ لأن كل ما تشتهيه النفس ستجده ، ولن تحتاج في الآخرة إلى خيل مسومة؛ لأنك لن تجاهد عليها أو تتلذذ وتستأنس بركوبها .
وكل ما لا تحتاج إليه في الآخرة من أشياء أعطاها لك الله في الدنيا لتسعى بها في الأسباب ، ولم يورده الله في قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله والله بَصِيرٌ بالعباد } لم يوردها في النص الكريم ، لأن عطاء الله في الآخرة بالرزق المباشر ، أما الأشياء التي يسعى بها الإنسان إلى الرزق المباشر في الدنيا فلم يوردها لعدم الحاجة إليها في الآخرة ، فنحن نحب المال ، ولماذا؟ لأنه يحقق لنا شراء الأشياء ، والخيل المسومة نحبها؛ لأنها تحقق لنا القدرة على القتال والجهاد في سبيل الله .
(1/854)

والأنعام؛ لتحقق لنا المتعة .
أما الجنة في الآخرة فالمؤمن يجد فيها كل ما تشتهيه الأنفس ، وكل ما يخطر ببال من يرزقه الله الجنة سوف يجده؛ فالوسائط لا لزوم لها . لذلك تكلم الحق عن الأشياء المباشرة ، فأورد لنا ذكر الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، وذكر لنا الأزواج المطهرة .
وعندما نتأمل قول الحق : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } قد يقول قائل : ألم يَكن من المنطق أن يخبرنا الحق مباشرة بما يريد أن يخبرنا به ، بدلاً من أن يسألنا : أيخبرنا بهذا الخير ، أم لا؟
ونقول : أنت لم تلتفت إلى التشويق بالأسلوب الجميل ، وحنان الله على خلقه . إنه سبحانه وتعالى يقول لنا : ألا تريدون أن أقول لكم على أشياء تفضل تلك الأشياء التي تسيركم في الدنيا . فكأن الحق سبحانه وتعالى قد نبه من لم ينتبه . ولم ينتظر الحق أن نقول له : قل لنا يارب .
لا ، إنه يقول لنا دون طلب منا ، ويقال عن هذا الأسلوب في اللغة إنه " استفهام للتقرير " ، فالإنسان حين يسمع : { أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } فالذهن ينشغل ، فإن لم يسمع النبأ ، فلسوف يظل الذهن مشغولاً بالنبأ ، ويأتي الجواب على اشتياق فيتمكن من نفس المؤمن .
ويأتي النبأ { لِلَّذِينَ اتقوا } ، فعندما نمعن النظر في الشهوات التي تقدمت من نساء وبنين وقناطير مقنطرة من ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث ، ألا يكون من المناسب فيها أن يتقي الإنسان ربه في مجالها؟
إن التقوى لله في هذه الأشياء واجبة ، ولذلك قلنا من قبل قضية نرد بها على الذين يريدون أن يجعلوا الحياة زهداً وانحساراً عن الحركة ، وأن يوقفوا الحياة على العبادة في أمور الصلاة والصوم ، وأن نترك كل شيء . لهؤلاء نقول : لا؛ إن حركتك في الحياة تعينك على التقوى؛ لأننا عرفنا أن معنى التقوى هو أن يجعل الإنسان بينه وبين النار حجاباً ، وأن تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية . فإذا ما أخذت نعم الله لتصرفها في ضوء منهج الله فهذا هو حسن استخدام النعم .
وقد أوضحت من قبل أن التقوى حين تأتي مرة في قول الحق : { اتقوا الله } وتأتي مرة أخرى { اتقوا النار } فهما ملتقيان؛ فاتقاء النار حتى لا يصاب الإنسان بأذى ، وعندما يتقي الإنسان الله فهو يتقي غضب الله؛ لأن غضب الله يورد العذاب ، والعذاب من جنود النار . إذن فالذين يتقون الله لا يظنون أنهم زهدوا في هذه الحياة لذات الزهد فيها ، ولكن للطمع فيما هو أعلى منها ، إنه الطمع في النعيم الأخروي الدائم .
ويوضح الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : أنكم لن تتمتعوا في الآخرة لضرورة الحاجة للمتعة ، بحيث إذا ما جاءت النعمة عليكم تفرحون بها ، إن الأمر لا يقتصر على ذلك وإنما يتعداه إلى أنكم - أيها المؤمنون - تحبون فقط أن تروا المنعم ، فمادام المؤمن الذي يدخل الجنة يجد كل ما يشتهي بل إنه لا يشتهي شيئا حتى يأتيه ، ويستمتع على قدر عطاء الله وقدراته .
(1/855)

وإذا لم يشته الإنسان ثماراً في الجنة أو نساء ، ويصبح مشغولاً برؤية ربه فإن مكانه جنة من الجنان اسمها " عليّون " و " عليّون " هذه ليس فيها شيء مما تسمعه عن الجنة ، ليس فيها الا أن تلقى الله . إن الرزق والنعم ليسا من أجل قوام الحياة في الجنة ، بل إن الإنسان سيكون له الخلود فيها؛ فالذي يحتاج إليه الإنسان هو رضوان من الله .
إن رضواناً من الله أكبر من كل شيء . ولقد نبأنا الله بما في الجنات ، ونبأنا بالخير من كل ذلك . لقد نبأنا الله بأن رضوانه الأكبر هو أن يضمن المؤمن أنْ يظفر برؤية ربّه . وهذا ما يقول في الله . { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22-23 ] .
إذن فهناك في الجنة مراتب ارتقائية . ويخبرنا الحق من بعد ذلك : { والله بَصِيرٌ بالعباد } أي أن الله سيعطى كل إنسان على قدر موقفه من منهج ربه ، فمن أطاع الله رغبة في النعيم بالجنة يأخذ جنة الله ، ومن أطاع الله لأن ذات الله أهل لأن تطاع فإن الله يعطيه متعة ولذة النظر إليه - سبحانه - تقول رابعة العدوية في هذا المعنى :
كلهم يعبدون من خوف نار ... ويرون النجاة حظا جزيلاً
إنِنّي لست مثلهم ولهذا ... لست أبغي بمن أحب بديلا
وقالت أيضاً : اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فادخلني فيها ، وإن كنت تعلم أني أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها ، إنما أعبدك لأنك تستحق أن تُعبد .
إذن ف { الله بَصِيرٌ بالعباد } أي أنه سيعطي كل عبد على قدر حركته ونيته في الحركة؛ فالذي أحب ما عند الله من النعمة فليأخذ النعمة ويفيضها الله عليه . أما الذي أحب الله وإن سلب منه النعمة ، فإن الله يعطيه العطاء الأوفى ، وذلك هو مجال مباهاة الله لملائكته . . ومن أقوى دلائل الإيمان وكماله . . إيثار محبة الله ورسوله على كل شيء في الوجود :
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : مّنْ كان الله ورسوله أحبُّ إليه مما سواهما ، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يَقَذف في النار " إن هناك العبد الذي يحب الله لذاته؛ لأن ذاته سبحانه تستحق أن تعبد ، فذات الله تستحق العبادة؛ لأنه الوهاب ، الذي نظم لنا هذا الكون الجميل .
إذن فقوله الحق : { والله بَصِيرٌ بالعباد } يعني أن الله يعلم مقدار ما يستحق كل عابد لربه ، وعلى مقدار حركته ونيته في ربه يكون الجزاء ، فمن عبد الله للنعمة أعطاه الله النعمة المرجوة في الجنة ليأخذها ، ومن أطاع الله لأنه أهل لأن يطاع وإن أخذت - بضم الألف وكسر الخاء - النعمة منه فإن الله يعطيه مكاناً في عليين .
(1/856)

ولذلك قيل : إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل . لماذا؟ لأن ذلك دليل صدق المحبة . والإنسان عادة يحب من يحسن إليه ، ولا يحب من تأتي منه الإساءة إلا إن كانت له منزلة عالية كبيرة . إنه مطمئن إلى حكمته ، إنه ابتلاه - وهو يعلم صبره - ليعطيه ثوابا جزيلا وأجرا كبيرا ، والحق يقول : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] .
لقد قال : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } ولم يقل جنة ربه وهكذا يجب ألا تشغلنا النعمة - الجنة - عن المنعم وهو الله سبحانه وتعالى ، وإذا كان الحق قد طلب منا ألا نشرك بعبادة ربنا أحداً فلنعلم أن الجنة أَحَدٌ .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا . . . }
(1/857)

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
إن قولهم : { رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا } هو أول مرتبة للدخول على باب الله ، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه ، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك ، كأن المؤمن يقول : أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفى بحق الإيمان بك ، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة ، أو من زلة ، أو من كبر ، أو من نزوة نفس .
وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانه لمعنى الإحسان حين قال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك .
وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟ حينئذ يستحضر المؤمن ما جاء إلينا من مأثور القول ، فكأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث : يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم ، فالخلل في إيمانكم . وكنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
وكأن الحق سبحانه يقول للعبد : هل أنا أقل من عبيدي؟ أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو يراك؟ إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟
إن قول المؤمنين : { إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا } دليل على أنهم علموا أن الإيمان مطلوباته صعبة . { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟ لقد رتبوا طلب غفران الذنب على الإيمان . لماذا؟ لإنه مادام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة ، وشرع المغفرة للذنب ، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلا أن عباده قد تخونهم نفوسهم ، فينحرفون عن منهج الله .
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين : { وَقِنَا عَذَابَ النار } لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب ، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب ، أو يسرع بالاستغفار .
ولماذا لا يكون قوله { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة . فإذا أذنبت ذنبا ، واستغفرت ربي ، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] .
فإن الوجل يمتنع ، والخوف يذهب عني ، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله . ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى . وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض .
هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا ، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل في نفسه ، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه ، فإن يرجع إلى ربه .
(1/858)

وتلك واقعية الدين الإسلامي ، فليس الدين مجرد كلام يقال ، ولكنه دين يقدر الواقع البشري ، فإنه - سبحانه - يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب ، فيرسم لهم أيضا طريق الإستغفار . وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا ، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها . وأن يستغفروا الله . فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة .
كأن غفران الذنب شيء ، والوقاية من النار شيء آخر . كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته ، وهو الخالق المربي ، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة . إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم . لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله . وكما قلنا : إن الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف ، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار ، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين : { وَقِنَا عَذَابَ النار } .
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية ، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية ، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك ، وقلنا : إن " اتقوا الله " و " اتقوا النار " ملتقيتان ، لأن معنى " اتقوا النار " كي لا تصيبكم بأذى ، " اتقوا الله " تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية ، لأن غضب الله سيأتي .
وبعد ذلك يقول الحق : { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين . . . . }
(1/859)

الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله ، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، والأزواج المطهرة ، ورضوان من الله أكبر ، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله ، ومستغفرون بالأسحار .
وصابرون على ماذا؟ إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله ، لأننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حرية العبد .
لقد خلقك الحق خلقا صالحا لأن تفعل كذا أو لا تفعل . فساعة يقول لك : افعل . . فإنه قد سد عليك باب " لا تفعل " وساعة يقول لك الحق : لا تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب " افعل " ، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الإختيار فيه مشقة ، فإذا ما جاء أمر الله ب " افعل " فقد يكون الفعل في ذاته شاقا ، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة " افعل " فأنت صابر ، لأنك صبرت على الطاعة . . وقد تصبر عن المعصية ، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض أن ترتكب الذنب ، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب .
إذن ففي " افعل " صبر على مشقتها ، وفي " لا تفعل " صبر عنها ، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان ، لأن التكليف إما أن يكون بافعل ، وإما أن يكون بلا تفعل . فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة . . وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة . . وعندما يأتي التكليف ب " لا تفعل " كأمر الحق بعدم شرب الخمر ، أو " لا تسرق " فأنت قد صبرت عنها . . إذن ف " افعل " ولا " تفعل " قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف ، وبقيت بعد ذلك أحداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل ، وهي ما ينزل عليك نزولا قدريا بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية .
فساعة أن يطلب منك أن تفعل ، أي إنه قد خلقك صالحا ألا تفعل كما قلنا من قبل . إلاّ إن كنت مجبرا على الفعل فقط . وكذلك إذا قال لك الحق : " لا تفعل " . والشيء القدرى الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ إنه يصبر على الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا ، والرب هو الذي يتولى تربية المربي لبلوغه حد الكمال المنشود له فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه ، كالمرض أو الكوارث الطارئة ، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة ، فكل ذلك هي أمور لا دخل ل " افعل " ولا " تفعل " فيها .
وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو الإيمان بحكمة من أجراها عليك . لأن الذي أجراها رب ، وهو الذي خلقني فأنا صنعته .
(1/860)

وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا . فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه ، فالذي أجراه له فيه حكمة فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب الصابرين .
إذن فالصابرون أنواع هم : صابر على الطاعة ومشاقها ، صابر على المعاصي ومغرياتها ، وصابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه . وإذا رأيت إنسانا قد صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به ، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه .
ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه : { الصابرين } { والصادقين } .
والصدق كما نعلم يقابله الكذب ، والصدق كما نعرف حقيقته : يأتي حين توافق النسبة الكلامية التي يتكلم بها الإنسان ، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون .
فإن قلت : " حصل كذا وكذا " فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم ، فإن وافقها الواقع بأنه حصل كذا وكذا فعلا يكون المتكلم صادقا . وإن لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم كاذبا . لماذا؟ لأن كلام المتكلم العاقل لا بد له من نسب ثلاث :
الأولى وهي النسبة الذهنية : فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني ، وذهني هو الذي يعطي الإشارة للساني ليتكلم ، هذه هي النسبة الأولى واسمها " نسبة الذهن " . وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم ، فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدت ، والنسبة الكلامية لم توجد .
وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية . ونأتي بعد النسبة الكلامية لنرى : هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد وقع ، يكون الكلام مني صدقا . وإن لن يكن قد وقع ، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به . فإننا نقول : " هذا كلام كذب " إذن : فالصدق : هو أن تطابق النسبة الكلامية الواقع . والكذب : هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيرا ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الأساليب .
مثال ذلك ، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } [ المنافقون : 1 ] تلك نسبة كلامية صدرت منهم ، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له؟ إنها مطابقة للواقع . ويؤكد الحق ذلك بقوله : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } [ المنافقون : 1 ] .
بعد ذلك يقول الحق سبحانة : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] .
فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } ؟ لا . إن الحق لم يكذبهم في قولهم : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } ؛ لأن الله قد أيد هذه الحقيقة بقوله { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } .
ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } . لقد كذبهم الله في شهادتهم ، لا في المشهود به ، وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من الله ، إن الله يعلم أن محمدا رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين ، لكن الكذب كان في شهادتهم هم .
(1/861)

إن كلام المنافقين مردود من الله . لماذا؟ لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه . وقولهم : شهادة لا توافق قلوبهم وتعنى كذبهم .
إذن ، فالتكذيب هو لشهادتهم ، فلو قالوا : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } دون " نشهد " لكان قولهم : قضية " سليمة " . ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم ، ومن هنا ندرك السر في قول الله : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } . إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولا من عند الحق ، وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم : " نشهد " . فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع . والصدق - كما قلنا من قبل - حق ، والحق لا يتعدد ، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه أن يروي واقعة شهدها بعينيه ، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبدا ، مهما تكرر القول؛ أو عدد مرات الشهادة . لكن إن كانت الواقعة كذبا ، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه ، فيروي الواقعة بألوان متعددة لا اتساق فيها ، وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى ، وهكذا ينكشف سر الكذب . لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق ، هو الذي يحكى ، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق .
فعندما نقول : " إن زيدا مجتهد " ، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولا ، ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده ، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد . إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولا ، وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية ، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية .
ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر ، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمرا لا واقع له ، كأن نقول لواحد : اجتهد . إننا قبل أن نقول لإنسان ما : " اجتهد " فمعنى ذلك أن الإجتهاد كان أمرا في ذهن القائل ، وعندما ينطقها تصبح " نسبة كلامية " . وبعد ذلك يحدث الواقع ، بعد النسبة الذهنية ، والنسبة كلامية ، وهذا هو الإنشاء .
إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية . والصادقون هم الذين أراد الله أن يمدحهم ، لماذا؟ وأين هو مجال صدقهم؟ إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله ، لأنهم حين قالوا : " لا إله إلا الله " ، وآمنوا به ، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة . ومعنى " لا إله إلا الله " أي لا معبود إلا الله . ومعنى إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله .
والطاعة - كما نعرف - هي امتثال أمر ، وامتثال نهي .
(1/862)

إذن فمجال " لا إله إلا الله " يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله ، ولا مُطاع في تكليفه إلا الله ، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلا للأمر القادم من الله؛ فإن امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله : " لا إله إلا الله " كان هذا الإنسان صادقا في قوله : " لا إله إلا الله " .
وهذا هو صدق القمة ، أن تكون كل تصرفات قائل : " لا إله إلا الله " متطابقة مع هذا القول . والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله . هذا هو الإنسان الصادق . أما الذي يقول بلسانه : " لا إله إلا الله ، لا معبود بحق إلا الله " ثم يخالف ربه بعصيانه له ، لنا أن نقول له : أنت كاذب في قولك " لا إله إلا الله " لماذا؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها . إن هذا الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له : أنت منافق ، لماذا؟ لأننا عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا : إن المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقا مع نفسه؛ لأنه قال : " لا إله إلا الله " وهو مؤمن بها ، والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقا مع نفسه أيضا .
أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه ، ولا يصدق مع الناس ، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء . إن المنافق بلا صدق مع النفس ، ولذلك يصفهم الحق : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ] .
إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول : " لا إله إلا الله " لأنه لا يعتقدها . أما المنافق فقد قال : " لا إله إلا الله " وهي غير مطابقة لسلوكه ، لذلك يكون غير صادق مع نفسه ، وغير صادق مع ربه . إذن ، فقول الحق : { والصادقين } مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله ، فلا يؤمنون بقضية ، ويفعلون أخرى . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2-3 ] .
أي أنه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل ، لا تتطابق النسبة . فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسة : " لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله " أي لا مطاع في أمر أو نهي إلا الله ، فإن جئت وطاوعت أحدا في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا لك : أنت كاذب في قولك : " لا إله إلا الله " .
" فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " .
(1/863)

هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن ، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته؛ لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله .
ثم يقول الحق : { والقانتين } والقانت : هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة . والقانت صادق مع نفسه ، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفا ، فقد يكلفهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته .
وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لأن الذي أمرهم به إله قادر ، فهم يثقون في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله .
إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر . وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم الله نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقانا في أنفسهم : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] .
فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان : إن الله قد أراد لي بهذا الأمر أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر ، لذلك قال أحد العارفين بالله :
إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكما كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه ، وحين تتقي الله في هذا الأمر ، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك ، ولذلك يقول الله : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 282 ] .
فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله ، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك ، فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك ، وهذا هو الفارق بين الأمر من المساوى ، والأمر من الأعلى . وعندما ترتقي كلمة " الأعلى " ، فإنها لا تنطبق إلا على الأعلى المطلق وهو الله ، لأنه الأعلى في الحكمة ، والأعلى في المنزلة ، والأعلى في المكانة ، والأعلى في الربوبية .
إذن ، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له ، فإن قال لك أحد من البشر : افعل الشيء الفلاني . فإنك تسأله : لماذا؟ فإن أقنعك ، فأنت تقوم بالفعل . وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له .
ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى ، فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ الأمر فورا عشقا في طاعته . والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه ، فالله الأعلى ، وهو منزه عن كل شبيه ، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية : إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدَّراجة . فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية؟ لا ، ليست هذه هي العلة ، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم الابن ويتفوق في حياته ، ويكبر ، وعند ذلك يدرك العلة ، ويقول لنفسه : لقد كان أبي على حق .
(1/864)

إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر ، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من الله؟ إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف العبد تكليفاً ، فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة . والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى .
إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن ، ولا يساويه أحد ، إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولا بأن الله هو الإله الواحد - سبحانه - له مطلق الحكمة ، وله القوة وله كل شيء في الكون ، وسبق أن ضربت المثل - ولله المثل الأعلى .
إن الإنسان قد يمرض ، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده ، فيفكر في الذهاب إلى طبيب ، ويقول له : إنني أتعب من معدتي ، أو من قلبي أو من أمعائي . إنه يحدد ما يشكو منه . وعقل الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة ، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة . إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء؛ لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيماوية ، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض : لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض : لأن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المختص بعلاج المعدة ، أو القلب ، أو الأمعاء أو أي عضو يشكو منه الإنسان .
والطبيب قد يخطىء ، إنما حكم الله لا يخطئ أبدا ، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماما . إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى ، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية في نفسه . وكلمة " قانتين " كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت ، والقنوت هو عباده مع خضوع ، وخشوع واستدامة . لماذا الخضوع ، والخشوع؟
لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان ، وينقذ نفسه من عذاب النار ، لا؛ إننا نرى كثيرا من الناس - إذا ما لا حظنا واقع الحياة - إذا وجدوا رئيسا قوى الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحا في الميعاد المحدد ، وأن ينصرفوا في الميعاد المحدد ، ولا يسمح لهم بالاشتغال بغير العمل ، فلا يشربون الشاي ، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء ، وغير ذلك من الأعمال . ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس " إنه شديد المراس ، ولذلك فليس له عندي إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق ، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق ، ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه " . إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح ، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء .
(1/865)

إنها طاعة بلا حب ، ولكنها باستعلاء . وقد يحاول عبد أن يقول : ماذا يطلب الله مني؟ ألا يطلب منى الصلاة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك . لمثل هذا العبد نقول : لا ، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان ، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها الله على العبد . إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية ، حتى يكون الإنسان سويا وله قيمة في الحياة .
إن معنى " قانت " هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع ، وباطمئنان ، وباستدامة . لماذا؟ لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله فلم يجد الله أهلا للود . أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة ، لأنه ذاق حلاوة استدامة العبادة لله ، ومادام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع ، واطمئنان ، واستدامة ، ويدخل في دائرة القانتين .
وبعد " القانتين " يقول الله سبحانه : { والمنفقين } وكلمة أنفق و " نفق " ، مأخوذة من كلمة " نفق الحمار " أي مات ، و " ونفقت السوق " أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء . و " نفقة " مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه ، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا ، وعلى علان كذا ، أي يعلم يقينا أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ ، ولا إذلال .
إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد . " والنفقة " ، تقتضي وجود منفق ، ومنفقا عليه ، ومنفقاً به ، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ ، والمنفق عليه هو الفقير ، والمنفَق به هو الخيرات .
ومن أين تأتي هذه الخيرات؟ إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة ، وحركة المتحرك في الحياة تقتضي قدرة ، فإذا كان الإنسان عاجزا ، ولا يجد القدرة على الحركة ، فمن أين يعيش ، إن الله لا بد أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله .
لقد جعل الله القدرة عرضا من أعراض الحياة ، فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا . ومادامت القدرة عرضا من أعراض الحياة ، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر من الله بأن ينفق على غير القادر ، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة ، والقادر الآن من الأغيار ، لذلك فهو عرضة لأن يصير غدا من العاجزين ، ويقول القادر لنفسه : " عندما أصبح عاجزا سوف أجد من يعطيني " . أليس ذلك هو التأمين الحق؟ إنه تأمين المؤمن . إن المؤمن يعطي عند قدرته ، وذلك حتى يجنبه الله مشقة السؤال إن جاءت الأغيار ، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه .
(1/866)

إننا يجب أن نلحظ في الحكم ، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم ، ولكن ساعة أن يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم . فالذي يطلب منه أن ينفق ، عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجرا ، ولنا أن نسأله : لو كنت عاجزا ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى؟
إن هذا هو التأمين الحق ، لأن التأمين في يد الله ، ومادامت الأغيار عرضة لأن يصير القادر عاجزا ويصير العاجز قادرا ، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فلا يتذكر وجه من أنفق عليه ، ولا يخبر أحدا بما أنفق .
عد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق في المسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .
وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ ، إما أن يأخذ إن طرأت له الأغيار في الدنيا ، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافا مضاعفة . إذن ، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّنُ لغير القادر حركته في الحياة ضمانا لنفسه حين لا يقدر؛ أو استثمارا مضاعفا عند الله ، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم ، يظهرون حكمة الله في الوجود ، لأن الله ما دام قد خلقنا ، وفينا القادر ، وفينا العاجز ، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق . فإن قدرت الآن فقد تُسلب - بضم التاء - منك هذه القدرة ، وما دامت القدرة يتم سلبها ، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائما ، وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه ، خلقنا قادرين وانتهت المسألة . لا . إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء . ومادامت الأغيار تذهب وتجيء فلا بد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الأعلى .
وقلنا سابقا : إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا ، والذين أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وذلك حتى يحمى الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة في الوجود . إن الإنفاق ليس أخذا من العبد ، إنما هو مناولة ، هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك ، إلا بحركتك في الحياة .
(1/867)

وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري ، ومادة يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها أو آلة يتم الصنع بها ، ولا شيء للإنسان من هذا في الكون . إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله ، والطاقة التي تنفذ هي عطاء من الله . ونحن نرى في الحياة إنسان قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر ، ونجد إنسانا آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها .
إذن فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان ، إنها كلها عطاء من الله . فليعمل المؤمن مضاربا عند الله ، وليعط المؤمن للعاجز حق الله . إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده الله لأخيك العاجز ، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب الأغيار .
هكذا تكون { والمنفقين } صفة من صفات الذين اتقوا ربهم . والحق سبحانه وتعالى قد جعل في الصبر ، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية . وفي الصدق انسجاما مع واقع لا إله إلا الله ، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر .
وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول : { والمستغفرين بالأسحار } إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس البشرية . البداية هي إقرارهم بالإيمان ، ودعاؤهم الحق - سبحانه - أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار ، وصبروا ، وصدقوا ، وقنتوا في العبادة ، وأنفقوا في سبيل الله ، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضا في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل ، ويستغفرون الله .
إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب ، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد فيما يفعله من أمور الطاعة . وكلمة { بالأسحار } توضح لنا لحظات من اليوم يكون الإنسان فيها محل الكسل والراحة ، إن الذي سوف يصحو في السحر لا بد أن يكون قد اكتفى من الراحة ، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار ، ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليلا .
وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا . إن كد الحياة - إن أخذ - يأخذ نهارا ، وبعد ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا ، مما نشاهده من لهو الحديث ، ولهو السهرات ، وبعد ذلك يأتي الإنسان لينام متأخرا ، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر؟ إن الذي يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة ، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوما هادئا ، ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه ، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس ، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته ، وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو الله ، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة .
(1/868)

وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت ، فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من رحمة الله . وإياك أن تقول : لو صحونا جميعا في الأسحار لنفدت الرحمة والعطاء " لا " لأن الله قد قال : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] .
إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعا دون أن ينقص شيء من عنده . إن كل هذه الأشياء من التقوى ، والإقرار بالإيمان ، وطلب المغفرة للذنوب ، وطلب الوقاية من عذاب النار ، والصبر ، والصدق ، والقنوت ، والإنفاق في سبيل الله ، والاستغفار بالأسحار ، كل ذلك نتيجة للتقوى الأولى .
إنها الثمرة من " لا إله إلا الله " . وما دامت هذه هي الثمرة من " لا إله إلا الله " فليعلم كل إنسان ، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود ، بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله ، وكفى بالله شهيدا . ولذلك يقول الحق : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة . . . } .
(1/869)

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
ولنأخذ الجملة الأولى من الآية الكريمة بمعناها : لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو ، أي أنَّ الحق قد أخبر بما رآه ، وشاهده ، أو ما يقوم مقام ذلك . إن " شهد " بمعنى علم .
إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته ، وعلى أنه إله واحد ، أليس في ذلك إقامة للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟ إنه الله .
ّإذن ، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو . وقلنا : إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي شهادة الذات للذات ، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها . فعندما يقول الحق : { بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] .
بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو ، وليس هناك من يعارض مبتغاه ، أكان يجازف فيقولها؟ إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو ، فساعة أن يقول : " كن " فإنه قد علم ، أنه لا يوجد إله آخر يقول : " لا تكن " . إن الحق لا بد أن يطمئَننا أنه لا إله إلا هو ، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن بأنه لا إله إلا هو ويلقى الأمر ، ويلقى الحكم التسخيري ، ويعلم أنه لا إله يعارضه .
وأليس من مطلوبات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد أنه رسول الله؟ لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في صلاته : " أشهد أن محمدا رسول الله " . ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسولا ، قال ما معناه : أقالها محمد؟ إنه صادق ، وما دام قد قالها فهي حق .
إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة . ونحن نرى في التاريخ امرأة كان السبب في إسلامها لمحة من سيرته صلى الله عليه وسلم . قرأت هذه المرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان له حراس من المؤمنين يقومون بحراسته من الكافرين . وبعد ذلك جاء يوم وصرف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الحراس ، وقال لهم ما معناه : إن الله عصمني من الناس فاذهبوا أنتم .
وقد قرأنا هذه الواقعة كثيرا جدا ، ولكن الفتح جاء من الحق لامرأة ، فشغلتها هذه المسألة ، وتساءلت : ألم يكن هؤلاء الحراس يحرسونه خوفا على حياته؟ فلماذا قال لهم : " لا تحرسوني " لأن الله هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول الله قد غش الدنيا كلها؛ أكان من الممكن أن يغش نفسه في حياته؟
وأجابت المرأة على نفسها : لا يمكن ، لا بد أن رسول الله قد وثق تمام الثقة في أن الله قد أبلغه أمر حمايته بدليل أنه قام بصرف الحراس ، وإلا فكيف يأمن أن يأتي أحد ليقتله؟ قالت المرأة : والله لو خَدع الناس جميعا ما خَدع نفسه في حياته ، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
(1/870)

حدث إسلام هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذن ، { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } هي شهادة الذات للذات ، وكفى بالله شهيدا . وشهدت الملائكة أيضا ، والملائكة هم الغيب الخفي عنا ، وتتلقى الأوامر من الحق . إن الملائكة لم يروا أحدا آخر يعطي لهم الأوامر ، إنه الإله الواحد القادر . وهذه هي شهادة المشهد . ويضاف إلى الملائكة { وَأُوْلُواْ العلم } الأدلة وجلسوا يستنبطون من كون الله أدلة على أنه لا إله إلا الله .
إن هذه أعظم شهادة لأعظم مشهود به من أعظم شهود ، الله في القمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والملائكة وأولوا العلم . ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لأن الله قد قرنهم بالملائكة .
إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة والذي يجلس ، ويتفكر ويتدبر ، ويتفطن وينظر ، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو ، وكما قلنا من قبل : إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة . إن كانت " لا إله إلا الله " صدقا فقد كُفينا ، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله هذا الكون ، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم يَدْر ، أو أنه قد علم ، ولا يستطيع فعل شيء ، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو .
وتظل " لا إله إلا الله " لصاحبها - جل شأنه - " شهد الله أنه لا إله إلا هو " وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا ، وقد يعطي استكبارا . . لذلك نقول : ها هو ذا الخالق الأعلى الذي " لا إله إلا هو " يخبرنا أنه قائم بالقسط . ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك على الله ، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط .
ولنلحظ هنا ملحظاً جميلا في الأداء { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } لماذا لم يقل الله إن " الملائكة " و " أولوا العلم " ، الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو " قائمين " بالقسط؟ لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط ، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضا بهذه القضية . . لماذا؟ لأن الله لو قال : " قائمين بالقسط " لكان الله مشهودا عليه من هؤلاء ، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل .
(1/871)

لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط ، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر ، وأولوا العلم أيضا مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس ، فَنَاسٌ يعملون بعقولهم ، وآخرون يعملون بقلوبهم ، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم ، فهذا هو
لون من عدل الله ، وإلا ، فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة . لا ، وهذه من عدالة الرحمن .
إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر ، فبدلا من أن يعتمد الإنسان على نفسه في صناعة الملبس والمأكل ، والمشرب ، جعل الله المهارات موزعة بين البشر . . فأتقنت مجموعة من البشر حرفة الزراعة لإنتاج الطعام الذي يكفيهم ، ويسد حاجة غيرهم ، وكذلك تبادلوا مع غيرهم المنافع ، فالإنسان - بمفرد - لا يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه ويغزله وينسجه؛ ليلبس ، والإنسان لا يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم يخبزه .
إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة ، إنما وزع الله المواهب ، لتتداخل هذه المواهب ، ويتكامل المجتمع البشري ، فواحد يزرع الأرض ، وثانٍ يغزل القطن ، وثالث ينسج القماش ، ورابع يصنع الأدوات . وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة ، لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهرا عن الناس ، فلم يجعل لأحد تفضيلا على أحد ، فما دام واحد يعرف في مجال ، وآخر لا يعرف في هذا المجال ، فالذي لا يعرف محتاج للآخر ، وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم .
ولذلك نجد الكون متكاملا . ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم ، وكم زاوية من زوايا القدرات ، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟
إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعاً حركة الحياة . وهذا قمة العدل . وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام بين البشر ، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه ، ويتساءل بينه وبين نفسه : أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟ وتكون الإجابة : نعم .
إذن ، فعلى الإنسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما ، فليقل : إن تفوقه في صنعته عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد ، وجعل الناس متكاتفين قهرا عنهم ، لا تفضيلا منهم ، إذن ، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة ، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات ، لذلك نجد المثل الريفي الذي يقول : " باب النجار مخلع " ، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو ، بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا .
(1/872)

وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم ، إنما تعود عليهم جميعا ، وبذلك تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد . وعندما سأل أحد الظرفاء : ولماذا يكون باب النجار هو " المخلع "؟ قال أحد الظرفاء ردا عليه : لأنه الباب الوحيد الذي لن يأخذ النجار أجرا لإصلاحه ، ونلتفت إلى العجائب في الحكمة الشائعة ، فنجد أطباء اخصائيين في ألوان من المرض ، وصاروا أعلاما في مجالات تخصصاتهم ، ويشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يصابوا إلا بما برعوا فيه ، كأن الذي برعوا فيه لم يفدهم هم بشيء ، إنما أفاد الآخرين . ولننظر إلى الآية في مجملها : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } لقد استهلها الله بقوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } ثم قال بعد ذلك : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } فكأن الآية تقول لنا : إذا ثبتت شهادة الذات للذات ، وشهادة المشهد من الملائكة ، وشهادة الاستدلال من العلماء ، فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائيا لا شك فيه ، فخذوها مسلمة : " لا إله إلا هو " .
وما دام " لا إله إلا هو " فليكن اعتمادك عليه وحده ، واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره .
قال صلى الله عليه وسلم : " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رُفعت الأقلام ، وجفت الصحف " .
فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال . إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف أو نضال ، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يغلب . فإن آمنت به وحده ، فلك الفوز . وكلمة " وحده " قد تبدو في ظاهرها تقليلا للسند الذي تستند إليه في القياس البشرى ، فيقال : " أنا لاجئ إلى فلان وحده " وعندما تكون لاجئا إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء إلى الله وحده ، بقياس اللجوء إلى مخلوق . إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير ، فكلمة " وحده " هنا تغنيك وتكفيك عن الكل . اعمل لوجه واحد . يكفك كل الأوجه ، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره .
وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد ، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره وهو صاحب كل الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة مايجريه الله سبحانه وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله ، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قلقٌ ، وما دام الشيء موضوعا في مكانه فهو مستقر ، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه ، وهذه مأخوذة من " الحَكمة " التي تُوضع في فم الفرس ، والتي نسميها " اللجام " وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من الحديد ، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد ، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه الصحيح .
(1/873)

إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يسارا ، وما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو ، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم ، وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو ، وأنه العزيز الحكيم ، فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه ، وأن ينقاد له . وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد ، أي لا يوجد له شريك ينازعه فيما يريد من خلقه ، وليس لله شريك في الخلق ، وليس لله شريك في الرزق ، وليس له شريك في التشريع .
إذن . . فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة ، وكان من الممكن أن تظلم وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على الله ، لكن الله سبحانه عادل ، إنه سبحانه يطمئننا ، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم ، لأنه قال : مع أني إله واحد ، لا يُرد لي حكم ولا أمر فأنا قائم بالقسط .
والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا ، إن الحق يقول عن نفسه : " قائما بالقسط " وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلق الأول ، وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط . وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط . والعدل والقسط يقتضي ميزانا لا ترجح فيه كفة على كفة ، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم ، والحق سبحانه قائم بالقسط في الخلق ، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا ، فلم يجعل أمر الحياة قائما على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش ، بل حكم بالقسط ، لقد جعل الحق بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها ، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على حريتنا في الحركة ، لذلك خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات ، وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات .
(1/874)

إذن . . فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد ، بأن يجبرنا على كل شيء ، بل جبرنا بأنه - سبحانه - لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها الحياة ، فلم يجعل الشمس بأيدينا ، ولا القمر ، ولا الريح ، ولا المطر . كل هذه الأسباب جعلها بيده هو ، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة . هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك الله إياها ، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة ، وتوجد له قدرة وعلم .
لقد جعل الله أسباب الحياة بيده ، كالتنفس مثلا ، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة على الحركة في الحياة ، ولكنه قال لك : أيها الإنسان - وهو سبحانه الإله القادر - تحرك التنفس إلى أن توجد له إرادة . ولا توجد الإرادة إلا إن وجُد عند الإنسان علم بأنه يريد إدخال الأوكسجين إلى الرئتين حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من الأشياء التي تضره ، هذا يقتضي العلم ، فإن كان هذا الأمر يقتضي العلم . فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟
لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس - على سبيل المثال - بيده هو سبحانه ، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو اختيار ، لا ، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره .
إذن ، فالحق لم يلزم العبد تسخيرا ، ولم يمنع تخييرا . وذلك هو العدل المطلق . لقد احترم الحق كينونة الإنسان ، وحياة الإنسان ، ومشيئة الإنسان ، واختيار الإنسان ، فقال : أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلا فيها؛ لأنك إن تدخلت فيها أفسدتها ، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم ، وأنا - الحق - أريدها لك ، وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك ، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي . ولكن لن أقضي على حريتك ، فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة ، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل . وإن شئت أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل . وهذا مطلق العدل .
ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله : { قَآئِمَاً بالقسط } مشتملا على التكليف أيضا ، أي إن عدالته في التكليف مطلقة . فأناس يقولون : " لا إله " وأناس آخرون عددوا الآلهة ، فقام الحق بالقسط بين الأمرين . هو إله موجود يا من تقول : " لا إله " . وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره . وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام . ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق سبحانه من العبد طلبا باتا ، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد فيها الإنسان ، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقا يعربد في الكون كما يشاء ، ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار .
(1/875)

لقد جعل الله للإنسان مجالا في القسر ومجالا في الاختيار ، أوجد في الإنسان القدرة على الحركة في الحياة ، ولكنه قال لك : أيها الإنسان - وهو الإله القادر - تحرك في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه ، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضا منه لأخيك المحتاج .
لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد ، وأعطى لها أن تكدح ، وحفظ لها ما تملك ، ولكنه هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها ، بل قال : لي حق في ذلك . وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا الأمر .
إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط . . نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد أنه قائم بالقسط ، وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط ، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام . . . } .
(1/876)

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
بعد أن قال لنا : إنه إله واحد ، وقائم بالقسط هو نتيجة منطقية لكونه - سبحانه - إلها واحدا فكأن قوله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } هو نتيجة لقوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } . لماذا؟ لأنه لا تسليم لأحد إلا الله ، وما دام الله إلها واحدا ، فلا إله غيره يشاركه ، يقول الحق : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91 ] .
وما دام قد ثبت أنه هو الإله الواحد ، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ إذن فقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } هو أمر منطقي جدا يجب أن ينتهي إليه العاقل ، ومع ذلك رحمنا الله سبحانه وتعالى فأرسل لنا رسلا لينبهونا إلى القضية السببية ، والمسببية ، والمقدمة والنتيجة { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } وإذا سألنا : ما هو الدين؟ تكون الإجابة : إن الدين كلمة لها إطلاقات متعددة فهي من " دان " تقول : دنت لفلان : رجعت له وأسلمت نفسي له ، وائتمرت بأمره . ويُطلق الدين أيضا على الجزاء ، فالحق يقول عن يوم الجزاء : " يوم الدين " وهو يوم الجزاء على الطاعة وعلى المعصية ، وعلى أن الإنسان المؤمن قد دان لأمر الله ، فكلها تلتقي في قول الحق : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } يُشعرنا بأنه قد توجد أديان يخضع لها الناس ، ولكنها ليست أديانا عند الله؛ ألم يقل الحق : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] .
إن معنى ذلك أن هناك دينا لغير الله فيه خضوع واستسلام ، وفيه تنفيذ لأوامر ، ولكن ليس دينا لله ، ولا دينا عند الله . إن الدين المعترف به عند الله هو الإسلام . والدين يطلق مرة على الملة ومرة أخرى على الشريعة ، فإن أراد المؤمن الأحكام المطلوبة فلك أن تسميها شريعة ، وإن أراد المؤمن الطاعة ، والخضوع ، وما يترتب عليهما من الجزاء فليسمها المؤمن الدين ، وإن أراد الإنسان كل ما ينتظم ذلك فليسمها الملة .
إذن فقوله سبحانه : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } تعني أنه لا دين عند الله إلا الإسلام ، وكلمة " الإسلام " مأخوذة من مادة " سين " و " لام " و " ميم " . و " السين " و " اللام " و " الميم " لها معنى يدور في كل اشتقاقاتها ، وينتهي عند السلامة من الفساد . وينتهي المعنى أيضا إلى الصلح بين الإنسان ونفسه ، وبين الإنسان وربه ، وبين الإنسان والكون ، وبين الإنسان وإخوانه ، إنه صلاح وعدم فساد ، كل مادة السين واللام والميم تدل على ذلك ، وما دامت المادة المكونة منها كلمة " إسلام " تدل على ذلك فلماذا لا نتبعها؟ .
(1/877)

لقد قلنا سابقا : إن الإنسان لا يخضع لمثيله إلا إذا اقتنع بما يقول ، إن الإنسان يقول لمساويه الذي يأمره : لماذا تريدني أن أنفذ أوامرك؟ إنك لا بد أن تقنعني بالحكمة من ذلك الأمر ، لكن عندما يؤمن الإنسان بإله واحد قائم بالقسط ، ويصدر من هذا الإله أمر ، فعلى الإنسان الطاعة .
إذن . . فالإسلام معناه الخضوع ، والاستسلام بعزة وفهم ، وعزة وتعقل؛ لأن هناك عبودية تَعَقّل عندما يقف الإنسان عند المعنى السطحي ، وهناك عزة تعقل عندما يقف الإنسان عند المعنى الذي لا يأتيه الباطل من بين يده أو من خلفه ، إن هذا هو عزة العقل فلا يستهويه أي شيء سوى الخضوع للأمر الثابت الذي لا يتناقض أبدا .
فما دام الله إلها واحدا قائما بالقسط فإني كعبدٍ من عبيده حين أؤمن به وآخذ عنه ، فهذه عزة في الفهم وعزة في التعقل ، وعزة في العبودية أيضا ، لأنني أعبد الله الذي هو فوق كل المخلوقات والكائنات ، ولا أعبد مساويا لي ، وإن الذي يعبد مساويا له لا يملك إلا إنفة وحميّة الذليل ، وما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام لله فهو خضوع لغير مساو ، و " أسلم " أي دخل في السلم ، أي دخل في الصلح ، وعدم التناقض ، وفي الأمان والراحة ، أي خلص نفسه من كل شيء إلا وجه الله؛ ولذلك يقول الحق : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] .
كأن الله يريد أن يوضح لنا الفرق بين الخاضع لأمر سيد واحد ، وبين الخاضع لِسَادَةٍ كثيرين . وضرب الله لنا المثل بالأمر المشهور عندنا ، فقال ما معناه : هب أن عبداً له من السادة عشرة ، وكل سيّد له منه طلب ، فماذا يصنع ذلك العبد؟ وعبد آخر له سيد واحد ، هذا العبد يكون مستريحا لأنّ له سيدا واحدا ، بينما الآخر المملوك لعشرة تتضارب حياته بتضارب أوامر سادته العشرة .
إذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لأن الشركاء غير متفقين ، إنهم شركاء متشاكسون ، فإذا رآه سيده يفعل أمرا لسيد آخر ، أمره بالعكس ، وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر تعبه ، ولكن الرجل السلم لرجل ، هو مستريح ، وكذلك التوحيد ، لقد جاء الحق سبحانه بمثل من واقعنا ليقرب لنا حلاوة التوحيد . إن العبد المؤمن بإله واحد يحمد الله لأنه خاضع لإله واحد . إذن فما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام ومعناه الدخول في السلم بكسر السين - أو الدخول في السلم - بفتح السين - يقول الحق : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } [ الأنفال : 61 ] .
هذا الخضوع ليس لمساو ، بل لأعلى . والأعلى الذي نخضع له هو الذي خلق ، وهو الأعلى الذي أمدنا بقيوميته بكل شيء .
(1/878)

إذن فإذا أسلم الإنسان ، فإن هذا الإسلام له ثمن هو المثوبة من الله . إن من مصلحة الإنسان أن يسلم . { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } وما دام الدين المعترف به عند الله هو الإسلام فهو الدين الذي يترتب عليه الثواب والإسلام هو دين الرسل جميعا ، وكلهم قد آمن به؛ فإبراهيم خليل الرحمن قد قال : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } [ البقرة : 128 ] .
ويعقوب عليه السلام يخبر الحق عنه في قوله لبنيه وإجابتهم له : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] .
ويقول - جل شأنه - : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 161-163 ] .
إذن فالإسلام دين شائع ، والمسلمون كلمة شائعة في الأديان ، وبذلك لا يقف الإسلام عند رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقط ، إنما الإسلام خضوع من مخلوق لإله في منهج جاء به رسل مؤيدون بالمعجزات ، إلاّ أن الإسلام بالنسبة لهذه الرسالات كان وصفا ، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بديمومة الوصف لدينها كما كان لأمم الرسل السابقة ، وصار الإسلام - أيضا - علما لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضمنت منتهى ما يوجد من إسلام في الأرض ، فلم يعد هناك مزيد عليها ، وانفردت أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن صار الإسلام علما عليها .
إذن فالإسلام في الأمم السابقة كان وصفا ، وأما بالنسبة لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صار علما لأنه لم يأت بعدها دين ، فإسلامها إسلام عالمي ، ولذلك فنحن بهذا الدين نقول : " نحن مسلمون " أما أصحاب الديانات الأخرى فهم أيضا مسلمون لكن بالوصف فقط . نحن الذين نتبع الدين الخاتم سمانا الله في كتابه المسلمين فهذا من إعجازات التسمية التي وافق فيها خليل الله إبراهيم عليه السلام مراد ربه : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } [ الحج : 78 ] .
لقد صار الإسلام اسما لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولا يُطلق هذا الوصف اسما إلا على من بالغ في التسليم .
(1/879)

كيف؟ نحن نعلم أن لفظ الجلالة " الله " علم لواجب الوجود ، ونعلم أن " حي " صفة من صفات الله سبحانه وتعالى . ولكن صارت كلمة " حي " اسما من أسماء الله؛ لأن الله حي حياة كاملة أزلية . إذن لا تكون الصفة اسما إلا إذا أخذ الوصف فيها الديمومة والإطلاق . وعلى هذا القياس يكون الرسل السابقون على محمد صلى الله عليه وسلم ، والأمم السابقة على أمة الإسلام ، كانوا مسلمين ، وكانوا أمما مسلمة بالوصف ، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بالإسلام وصفا وعَلَما ، فصار الأمر بالنسبة إليها اسما ، ونظرا لأنه لن يأتي شيء بعدها ، لذلك صار إسلام أمة رسول الله " علما " . ولقد بشر سيدنا إبراهيم عليه السلام بهذا الأمر : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين } [ الحج : 78 ] إن الحق قد أورد على لسان سيدنا إبراهيم بالوضوح الكامل { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين } ولم يقل الحق : " هو وصفكم بالمسلمين " . لا ، إنما قال : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين } ، لأن الأمم السابقة موصوفة بالإسلام وأما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مسماة بالإسلام . وتجد من إعجازات التسمية ، أننا نجد لأتباع الأديان الأخرى أسماء أخرى غير الإسلام ، فاليهود يسمون أنفسهم باليهود نسبة ل " يوها " . ويقولون عن أنفسهم : " موسويون " نسبة إلى موسى عليه السلام . والمسيحيون يسمون أنفسهم بذلك نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم . ولم نقل نحن أمة رسول الله عن أنفسنا : " إننا محمديون " لقد قلنا عن أنفسنا : " نحن مسلمون " . ولم يأت على لسان أحد قط إلا هذه التسمية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصار اسم الإسلام لنا شرفا . إذن ، فقول الله الحق : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } يعني أنه ، إن جاز أن يكون لرسول أو لأتباع رسول وصف الإسلام فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند الأمم السابقة فنزيده نحن بالتسليم ، وبزيادتنا - نحن المسلمين - بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذا صار الإسلام لا يُطلق إلا علينا .
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الذين أوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم . ولماذا اختلفوا؟ جاءت الإجابة من الحق . الأعلى : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } وكلمة الاختلاف هذه توحي أن هناك شيئا متفقا عليه ، وما دام الإسلام هو خضوعا لمنهج الله . لأنه إله واحد وقائم بالقسط ، فمن أين يوجد الاختلاف؟ وما الذي زاد حتى يوجد اختلاف؟ أبرز إلهٌ آخر يناقض الله في ملكه؟ لا لم يحدث . وما دام الإله واحدا ، وما دام المنهج القادم من عنده منهجا واحدا ، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟
إن الحق يوضح لنا أن الاختلاف قد جاء للذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم وتلك هي النكاية ، وذلك هو الشر ، فلو كانوا قد اختلفوا من قبل أن يأتي إليهم العلم لقلنا : " إنهم معذورون في الاختلاف " .
(1/880)

ولكن أن يحدث الاختلاف من بعد أن جاء العلم من الإله الواحد القائم بالقسط فلنا أن نقول لهم : ما الذي جَدَّ لتختلفوا؟ إن الذي جَدَّ هو من عالم الأغيار ، وما دام الجديد قد جاء إليهم من عالم الأغيار ، فمعنى ذلك أن هوى النفس قد دخل ، ونريد أن نعرف أولا معنى الاختلاف ، الاختلاف في حقيقته هو ذهاب نفس إلى غير ما ذهبت إليه نفس أخرى .
ولماذا حدث الاختلاف هنا رغم أن الإله واحد ، وهو قائم بالقسط؟ لا بد لنا أن نستنتج أن شيئا جديدا قد نبت ، ما هو هذا الشيء؟ إنه الهوى المختلف ، وحينما يقال : " اختلفوا " فنحن نعلم أن جماعة قد ذهبت إلى شيء وجماعة أخرى ذهبت إلى شيء آخر . وقد نستنتج أن طرفا قد ذهب إلى حق ، وأن الطرف الآخر قد ذهب إلى باطل ، أو أنهم جميعا قد ذهبوا إلى باطل . والذهاب إلى الباطل قد يختلف؛ لأن كل باطل له لون مختلف . هل أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول : أنا أنزلت الأديان ، ومن رحمتي بخلقي تركت بعضا من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وإن طرأ عليهم أناس يختلفون معهم . وتجد المثال لذلك في اليهود ، عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد اختلفوا ، وأسلم منهم أناس وآمنوا برسالة النبي الخاتم ، بينما الآخرون لم يسلموا ، ومن أسلم هم الذين كانوا على الحق ، ومن رحمة الله تعالى أنه جعل الذين علموا برسالة رسول الله أن يعلنوا البشارة في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل أعلنوا الإيمان ، بينما أصر البعض الآخر على كتمان ما جاءهم من العلم وأصروا على الإنكار . إن الذين أسلموا هم الذين ينطبق عليهم قول الشاعر :
إن الذي جعل الحقيقة علقما ... لم يخل من أهل الحقيقة جيلا
وإذا كان الله قد عصم الأجيال المتتالية من أمة الإسلام بأن حفظ لنا القرآن . ففي الأديان الأخرى كان هناك أناس من أهل الحقيقة ، وأنصفهم الله : { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين } [ آل عمران : 113-114 ] .
لقد أنصفهم الله حق الإنصاف ، والذين آمنوا برسول الله من أتباع تلك الديانات قد اهتدوا إلى الحق ، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق : { أُوتُواْ الكتاب } هذا القول يقتضي أن نقف عند " أُوتُواْ " أي أن شيئا قد جاء إليهم من جهة أخرى . إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لأن المنهج لو كان من أفكار البشر لكان من الممكن أن يختلفوا فيه أو حوله ، وبناء " أُوتُواْ " للمفعول يجعلنا نسأل : من الذي آتاهم الكتاب؟ إنه الله سبحانه وتعالى ، والحق سبحانه وتعالى لا يأتي بمختلف فيه .
(1/881)

وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن أن يوجد فيه خلاف . يقول الحق : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وكأن الله بنبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء بنبت من البشر للبشر ، فلا بد أن تحدث فيه خلافات . إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الأحد لا يمكن أن يحدث فيه خلاف أبدا . لا يمكن أن يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إلا إن وجدت - بضم الواو وكسر الجيم - أشياء زائدة عن ذلك ، وهذه الأشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون : إنهم منسوبون إلى الله .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم ، إنما من إله واحد قادر ، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة . أي إنكم أيها الأتباع لا تتبعون إلا منهج الله ، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون أحدا من الخلق ، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم ، ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم ، وهذه عزة لكم ، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج الحق دائما قد أخذه الرسل من الله .
وحين يقول الحق : " الكتاب " فلنا أن نعرف أن كلمة " الكتاب " قد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة " قرآنا " لأنه يقرأ ، ويسميه الحق أيضا " الكتاب " وذلك دليل على أنه يُكتب ، وحين نقول : إن القرآن من " القراءة " فهذا يعني أن نبرز ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الأهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه بما في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب .
وعندما يقول الحق " من أهل الكتاب " ، فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو منهج مكتوب ، أي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس ، لا ، إنه منهج مكتوب ، هكذا حدد الحق أمر المنهج السابق على القرآن ، إنه مكتوب ، فإن لعبت أهواء النفوس كما لعبت ، فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه . ولنا أن ننتقل الآن إلى المعرفة " العلم " : ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية وهذه القضية واقعة في الوجود تستطيع أن تقيم الدليل عليها ، وغير ذلك من القضايا لا يصل إلى مرتبة العلم لأنه لا يستطيع أحد أن يدلل عليه .
(1/882)

مثال ذلك : نحن نقول : " الأرض كروية " إن كروية الأرض هي نسبة حدثت ، ونقولها ونحن جازمون بها . والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم : " إن الأرض مسطحة " ، وحاول أن يجد من الأسباب ما يقيم الدليل على ذلك ولكن الذين أقاموا الدليل على أن الأرض كروية كانوا صادقين بالفعل . وفي العصر الحديث صارت كروية الأرض أمرا مرئيا من سفن الفضاء ، وغيرها من الوسائل ، ونحن نعرف أنه " ليس مع العين أين " إن الكروية بالنسبة للأرض ، هي نسبة ، نقولها ونجزم بها ، والواقع أنها كذلك ، ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل .
هذا هو العلم المستوفى ، إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة ويسمونها " علما " كقولهم : إن الإنسان أصله قرد ، لا ، إن أحدا لا يستطيع الجزم بذلك ، وتلك قضية ليست من العلم ، إن كلمة " علم " تُطلق على القضية المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود ، ونستطيع أن ندلل عليها ، وإذا كانت القضية مجزوماً بها؛ وواقعة في الوجود ، ولكنك لا تستطيع أن تدلل عليها ، فماذا تسمي هذه القضية؟ هذا ما يطلق عليه " تقليد " تماما كما يقلد الولد أباه قبل أن ينضج عقله فيقول : " لا إله إلا الله ، الله واحد " . ومثلما يأخذ التلميذ عن أستاذه القضية العلمية ، ولا يعرف كيفية إقامة الدليل عليها ، فهذا نطلق عليه " تقليدا " ، وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له : ابحث بحثا آخر لتقيم الدليل .
إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها ، وواقعة ، ولا يوجد عليها دليل . وهكذا نعرف أن " العلم " يمتاز عن التقليد بوجود القدرة على التدليل ، لكن إذا ما كانت هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست واقعة ، فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل . إن الجهل لا يعني عدم علم الإنسان ، ولكن الجهل يعني أن يعلم الإنسان قضية مخالفة للواقع ومناقضة له . أما الذي لا يعلم فهو أميّ يحتاج إلى معرفة الحكم الصحيح ، فالجاهل أمره يختلف ، إنه يحتاج منا أن نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه الحكم الصحيح ، وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية مركبة من أمرين ، إخراج الباطل من ذهنه ، ووضع الحكم الصحيح في يقينه .
ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء ، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له ، أما الأميّ فهو لا يعرف ، ويحتاج إلى أن يعرف . وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها ، وتكون نسبة عدم الجزم ، مساوية للجزم؟ هنا نقول : إن هذا الأمر هو الشك ، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن ، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم .
(1/883)

إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالآتي : أولا : علم . ثانيا : تقليد . ثالثا : جهل . رابعا : شك . خامسا : ظن . سادسا : وهم . والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا . ولذلك نجد أن الحق يحدد لنا على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب ، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم من العلم . ولم يقل الحق : إنهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن ، أو الجهل أو الشك ، إنما قال الحق : إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل ، وهو العلم . وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والإله الواحد ، فالمسألة القادمة منه وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم إذن ، ففيم الاختلاف؟ لا بد أن أمراً ما قد جدّ . والذي يجد إنما هو قادم من الأغيار ، وهي الأهواء ، ولذلك يحدد لنا الحق هذا الأمر بقوله " بَغْياً بَيْنَهُمْ " . ما البغي؟ البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق . إذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتا في ذاته؛ لأن طلب الاستعلاء هو قضية الطموح في الكون . وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد ويجتهد ، ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو غيرها ، فهذا حق طبيعي ، ونحن نعرف أن العالم قد ارتقى بالطموحات الإنسانية ، إن العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما ، فإن العالم يحكم على نفسه بالجمود ، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا نافعة ، ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير ، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي بذلوه ، وبدراسة لما بذله السابقون عليهم .
إذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت ، بل محمود ما دام قائما على الجهد . ولكن أن يطلب الإنسان الاستعلاء بغير حق ، فهذا هو البغي . لقد أثبت الله لنا في هذه الآية ، أن كل خلاف بين رجال الدين ، أو بين دين ودين ، إنما مرجعه إلى نشوء البغي ، ونشوء البغي هو طلب رجال الدين الاستعلاء بغير الحق . ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة القوم ، وتخالف ما أنزله الحق .
إن الواحد من هؤلاء يدعى لنفسه التحضر ، ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله الله ، ويدعى أنه يأخذ الدين بروح العصر ، ويدعى لنفسه عدم الجمود ، ويذهب إلى حد اتهام المتمسكين بدينهم بأنهم متخلفون ، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الإنسان هو الاستعلاء في قومه بغير الحق ، ويجب أن نفهم أن كل خلاف بين أهل دين واحد ، أو بين دين ودين ، منبعه قول الحق : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } . وهذا يعني اتباع البعض للهوى النابع من بينهم ولم ينزله الله .
لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل الله حكما محكما لا رأى فيه لأحد ، ولا يستطيع أحد أن ينقضه ، وإما أن ينزل الله حكما قابلا للفهم والاجتهاد .
(1/884)

ولم يجعل الله الأحكام كلها من لون واحد ، إنما جعل الأحكام على لونين ، وذلك حتى يحترم الإنسان ما وهبه الخالق له من عقل ، ويجعل له مهمة ، فيأتي بقضية ويبحثها ويرجع سببا على سبب . وفي ذلك استخدام من الإنسان لعقله ، إنها رحمة من الله حتى لايجمد العقل الإنساني .
إذن فإذا رأيت أي خلاف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في هذا الأمر هو ما عبر عنه في القرآن : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } فمن البغي يهب الهوى الذي تنشأ منه الأعاصير ، إن من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه أنه أرقى في الفكر ، أو يستعلى عند من يملكون له أمرا ، أو يستعلي عندما يوافق حاكما في رأي من الآراء ، ويبرر للحاكم حكما من الأحكام .
إن كلمة { بَغْياً بَيْنَهُمْ } يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله ، والتي نراها في الكون ، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن البغي ، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالإنسان ، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي ، نجد الرسول يعطينا المناعة
فيقول لنا صلى الله عليه وسلم : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في الحديث التالي : فيقول صلى الله عليه وسلم : " البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون " .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا ويصدروا الفتاوى ، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ هل هو مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم الله وبالأحكام؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا . فقد يصبح أصحاب الحق قلة ، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس ، أو أن الذين يملكون الكلمة الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب .
وهنا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون بالحق ، فأمر الدين لن يمر رخاء ، أو بسلام دائم ، بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين بغيا بينهم ، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه ، ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي ، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم ، ولذلك جاءت كلمة " يستفتونك " أكثر من مرة في القرآن الكريم ، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان ، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى ، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى .
(1/885)

ويقول الحق : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله } . إذن فمن هو الذي يكفر بآيات الله؟ وفي أي مجال؟ إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف ، وفي البغي بينهم ، أي طلب الاستعلاء بغير حق ، وسمى الحق كل ذلك " كفرا " والمراد منه هنا التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي ، وجاء التحذير في تذييل الآية بقوله : { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } . فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول : سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة من يهمهم أمر الاختلاف ، ويهمهم أمر البغي ، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك ، لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه ، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في الدنيا ، وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة .
وقد يقول قائل : إن الحساب في الدنيا قد يؤجله الله إلى الآخرة ، والعلامات الصغرى للقيامة نحن في مراحلها ، وما زالت العلامات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر . لمثل هذا القائل نقول : هناك فرق بين الحدث في ذاته ، وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث . هناك فرق بين أن تقوم القيامة على الناس جميعا ، وبين أن تُختصر حياة الإنسان بحادثة ليست في حسبانه ، فقد يفتى الإنسان فتوى اليوم؟ وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة إلى سريع الحساب ، فإن استبطأ إنسان الحساب ، فعليه أن يعرف أن الآخرة قد تجيء له أسرع من مسائل الدنيا لأن الإنسان لا يملك القدرة على أن ينقل إليه من يريد في أي وقت . وهكذا تكون الآخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب الدنيا ، وكلمة " حساب " كلمة تطمئن المؤمن إلى أن الله قائم بالقسط لا يتخلى حتى عمن كفر به أو عصاه ، إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه ، ويقول الحق من بعد ذلك : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ . . . } .
(1/886)

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ فَإنْ حَآجُّوكَ } هذا هو القول يدل على أن الحق سبحانه وتعالى يلقى منهجه على الرسول الخاتم ، ويعطيه الواقع الذي يحيا فيه ، لقد جابه الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة معسكرات . المعسكر الأول : هم مشركو قريش ، وكان كفرهم في القمة . والمعسكر الثاني : هو معسكر اليهود والنصارى ويجمعهم معا لأنهم أهل كتاب . والمعسكر الثالث : هو معسكر المنافقين . والمحاجّة قد أتت من المعسكر الثاني ، لأن كفار قريش لم يدعوا أن عندهم دينا قد نزل من السماء ، أما أهل الكتاب فهم يدعون أن عندهم دينا منزلا من السماء ، وعندما يناطح الشرك دينا فهذا أمر معقول ، أما أن يناطح أهل دين نزل من السماء رسولا جاء بدين خاتم من السماء فهذا أمر يستحق أن نتوقف عنده .
ومعنى { فَإنْ حَآجُّوكَ } أي أنهم يحاججون الرسول صلى الله عليه وسلم وتم إدغام الحرفين المتشابهين وهما حرفا " الجيم " حتى لا تصبح ثقيلة على اللسان . ومعنى المحاجة : أن يدلي كل واحد من الخصمين بحجته . وهذا يعني النقاش ، وما دام هناك نقاش بين حق وبين باطل ، فإن الله لا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل يقول له : { فَإنْ حَآجُّوكَ } أي إن ناقشوك في أمر الإسلام الذي جئت به كدين خاتم مناقض لوثنية أو شرك قريش ومناقض لما قام أهل الكتاب بتغييره من مراد الله فقل يا محمد : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } وقد قلنا من قبل : إننا عندما نسمع قول الحق { فَقُلْ } كان من الجائز أن يكتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقول القول وضربنا مثلا على ذلك ، حين يقول الأب لابنه : اذهب إلى عمك وقل له : كذا وكذا . وساعة أن يذهب الابن إلى العم فيقول له : الأمر كذا ، وكذا . إن الابن لا يقول لعمه : قل لعمك كذا وكذا . . لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حافظ على النص الذي جاءه من ربه لأن النص واضح . { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } فهل هذا رد بالحجة؟ نعم هذا هو الرد ، لأن أهل الكتاب وكفار قريش يأتي فيهم القول : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] .
ويأتي فيهم القول الحكيم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ] .
والكون كما نعرف " مكان " و " مكين " فالمكان : هو السماء والأرض . والمكين وهو الإنسان . والمكان مخلوق لله ، والمكين مخلوق لله . وكان من المنطق أن نسلم وجهنا لمن خلق .
إذن فقول الحق : { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي انتبهوا أيها الناس ، إنني لم أخرج عن دائرة الإيمان بالإله الواحد ، والذي تؤمنون به . إنه هو الذي خلق وهو الذي أوجد الكون .
(1/887)

وبعد ذلك إذا كان في الإسلام خضوع ، فإن الحق يأتي بأشرف شيء في الإنسان ليجعله مظهر الخضوع . لأن الوجه هو السمة العالية المميزة ، وهو الذي يظهر عليه انفعالات الأحداث في الكون من سرور أو حزن ، ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره للسجود ، أو سجدت وأنت مقرب لله سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة .
وقول الحق : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } . تعني أن الوجه المسلم لله وهو أشرف شيء في الإنسان قد خضع للحق ، وكأن القول الكريم لم ينسب الخضوع للبدن ولكن لأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه ، والوجه يطلق مرة ويراد به الذات كلها ، فعندما يقول إنسان : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ } فهو يعني " أسلمت ذاتي " بكل ما أوتيت الذات من جوارح ومن أعضاء . ولنقرأ قول الحق سبحانه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 88 ] .
أي كل شيء هالك إلا ذاته سبحانه وتعالى ، وهذا هو المقصود ب { إلا وجهه } وإلا إن أخذنا الوجه على أنه الوجه فقط فقد يقول قائل : أليس لله يد مثلا؟ ونقول إن له يدا في نطاق ليس كمثله شيء ، ولذلك فلا يد الله تهلك ولا أي شيء فيه يهلك ، ووجهه يعْني ذاته في نطاق ليس كمثله شيء . وأطلق الوجه على الذات ، لأن الوجه هو المشخص للذات ، فلا يستطيع أحد أن يميز أعضاء بدن عن أعضاء بدن ، إنما التمييز يأتي بسمة الوجه ، لأنها السمة المميزة ، وقول الحق في تلقينه لرسول الله : { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } . تدل على أن الرسول قد أسلم وجهه لله؛ لأن الله خاطبه بوساطة الوحي ، والوحي يباشره صلى الله عليه وسلم ، ولكن حين يقول : { وَمَنِ اتبعن } فقد قام الليل لمن اتبعني ، وإن لم يكن مخاطبا من الله مباشرة .
إذن فلا مجال لأن يقول قائل للرسول صلى الله عليه وسلم : أنت أسلمت وجهك لله لأنه خاطبك وحدك ، وكأن صاحب هذا القول يريد خطابا لكل مؤمن ، قال سبحانه : { وَمَنِ اتبعن } فمن اتبع الرسول فقد آمن بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول صدق مبلغ عن الله منهج حق ، فلا مجال لطلب البلاغ لكل فرد؛ لأن البلاغ قد وصل إليهم بالإيمان بما أنزله الله على رسوله الكريم ويأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ } .
وساعة تقرأ أو تسمع أسلوبا فيه " همزة الاستفهام " فلك أن تعرف أن الاستفهام يطلب منه أن تُعرف الحقيقة ، كقول إنسان لآخر : أعندك محمد؟ أو أزارك فلان؟ إن هذا استفهام المراد به فهم الحقيقة ، ومرة يريد الاستفهام مجرد الأمر بشيء ، كأن يأتيك ضيف وتجلس معه ويدخل عليك والدك فيقول لك : أصنعت قهوة لضيفك؟ إن ذلك توجيه لك إن كنت لم تقم بواجب الضيافة فعليك أن تسرع في القيام بهذا الواجب .
(1/888)

وعلى ذلك نفهم قول الحق : { أَأَسْلَمْتُمْ } ولذلك نقرأ قول الحق سبحانه بعد الكلام عن الخمر : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] .
إن قول الحق : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } يتضمن استفهاما ، والاستفهام هنا يعني الأمر بالانتهاء . وفي مجال الآية التي نتعرض لها بالخواطر نجد قول الحق : { أَأَسْلَمْتُمْ } تعني الدعوة للإسلام ، أي " أسلموا " وجاء بعد ذلك قول الحق الكريم : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } ومعنى " اهتدوا " أنهم عرفوا الطريق الموصل للغاية التي خلق الله من أجلها الإنسان . وهنا يجب أن نعلم أن كلمة " الإسلام " هنا جاءت لتدل على الخضوع و الخضوع لا يلمح إلا من خاضع ، وعملية الخضوع تعرف بالحركة والسلوك ، ولا تعرف فقط بالاعتقاد ، ولذلك فالإمام علي كرم الله وجهه الذي أوتي شيئا من نفح النبوة في الأداء الإيماني بالأسلوب البياني الجميل قال الإمام عليّ لإخوانه : سأنسب الإسلام نسبا لم ينسبه قبلى أحد : الإسلام هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، والمؤمن يُعرف إيمانه بالعمل . ونحن في حياتنا العادية نسأل : ما نسب فلان؟
أي أننا نسأل " هو ابن مَن "؟ ومعنى كلمة " نسابة " عند العرب هو الرجل الذي يعرف سلسلة النسب ، ومَن ابن مَن ، ففلان ابن فلان ابن فلان ، ابن فلان . والإمام عليّ كرم الله وجهه ، حين ينسب الإسلام ينسبه بالفعل إلى نسب لم ينسبه قبله أحد . وحين ينتهي الإمام عليّ كرم الله وجهه إلى أن نسب الإسلام إلى العمل
قال :
المؤمن يعرف إيمانه بالعمل ، فالدليل الصحيح على إيمان المؤمن هو عمله . ويضيف الإمام عليّ كرم الله وجهه : والكافر يُعرف كفره بالإنكار ، وإن المؤمن قد أخذ دينه من ربه ، ولم يأخذه برأيه . والسيئة في الإسلام خير من الحسنة في غيره؛ لأن السيئة في الإسلام تغفر ، والحسنة في غيره لا تُقبل؛ لأن الكفر يصاحبها بالله هل هناك نسب للإسلام أروع من هذا؟ وهكذا نجد القول الكريم : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } . والمقابل للإسلام يأتي بعد ذلك : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } إن المقابل هو " تولوا " أي لم يسلموا ، إنه الحق ينبه رسوله ألا يحزن وألا يأسف إن تولوا كما جاء في قوله الكريم : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] .
لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ فقط ، وما دام قد جاء في صدر الآية : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } فإن البلاغ أيضا يشمل النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه ، ولذلك تأتي آية أخرى لتشرح هذه القضية الإيمانية ، ولتبقى الرسالة في أمته صلى الله عليه وسلم ، ولتخبرنا أيضا لماذا لم يعد هناك داع لوجود أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمناء على أن يعدلوا فساد السلوك في الكون ، فلم يعد العالم في حاجة إلى أنبياء جدد ، ولهذا السبب قال الرسول : صلى الله عليه وسلم :
(1/889)

" العلماء ورثة الأنبياء " .
إذن { فعليك البلاغ } نأخذ منها الفهم الواضح أن البلاغ لا تنتهي مهمته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما يشمل كل عالم بالبلاغ الذي وصل إلى رسول الله وآمن به ، فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة ، ويوضح الحق ذلك في آية أخرى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] .
ويقول الحق في آية أخرى : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ . . . } [ الحج : 78 ] ومعنى ذلك أنكم تشهدون على الناس أنكم أبلغتموهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يقم بإبلاغ الناس برسالة رسول الله فهو لم يأخذ ميراث النبوة ، وميراث النبوة كما يكون شرف تبليغ ، فهو أيضا تجلّد وتحمل ، إن ميراث النبوة يكون مرة هو نيل شرف التبليغ لرسالةً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرة أخرى يكون ميراث النبوة هو جلادة التحمل ، في سبيل أداء الرسالة ، وجلادة التحمل هي التي يجب أن يتصف بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فكلما ورثناه نحن المسلمين في شرف النبوة فإننا نرثه في جلادة التحمل ، وهذا هو معنى القول الحق : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ الحج : 78 ] .
فما معنى الأسوة إذن؟ إن الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه ما دام قد تحمل بجلادة بلاغ الناس في رسالته ، فعلينا ايضا أن نقتدي به . لقد ناضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى أتباع رسول الله أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة ، فإن رأيت أهل الدين في استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلاغ عن الله فلتعلم أن هؤلاء القوم لن يأخذوا ميراث النبوة . ولذلك إذا رأيت عالما من علماء الإسلام ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص ميراثه من ميراث الأنبياء .
لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أعداء وكان يواجههم ، فساعة أن ترى رجل دين وله أعداء فاعرف أنه قد أخذ حظه من ميراث الأنبياء ولننظر الآن إلى قول الحق سبحانه تذييلا للآية يوضح لنا ما الإسلام : { والله بَصِيرٌ بالعباد } لم يقل الله : إنه عليم بالعباد ، لأن " عليم " تكون للأمور العقدية ، لقد قال الحق في وصف ذاته هنا : " إنه بصير بالعباد " ، والبصر لايأتي إلا ليدرك حركة وسلوكا .
(1/890)

فماذا يرى الله من العباد؟ إنه - سبحانه - يرى العباد المتحركين في الكون ، وهل حركة العبد منهم تطابق الإسلام أولا؟ ومتابعة الحركة تحتاج إلى البصر ، ولا تحتاج إلى البصر ، ولا تحتاج إلى العلم ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم ، فالخلل في إيمانكم ، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
إذن فقول الحق : { والله بَصِيرٌ بالعباد } نفهم منها أن الإسلام سلوك لا اعتقاد فقط ، لأن الذي يُرى هو الفعل لا المعتقدات الداخلية . ومادام الله بصيرا بكل سكنات الإنسان وحركاته فإن الإنسان يستحي أن يراه ربه على غير ما يحب ، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه فالحق سبحانه له المثل الأعلى وليس كمثله شيء ، ونحن في حياتنا العادية نجد أن الشاب الذي يدخن يستحي أن يظهر أمام كبار عائلته كمدخن ، فيمتنع عن التدخين أثناء تواجده مع الكبار ، فما بالنا بالعبد وهو يعتقد أن الله يراه؟ وبعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله . . . } .
(1/891)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
وقلنا إن الحق حين يقول : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } هم الذين يكفرون بآيات الله على إطلاقها ، وهناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر بالله . لماذا؟ لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله ، والبينات الدالة على وجود الله موجودة في الكون .
إذن فالبينات واضحة ، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق . إن الحق لم يقل هنا : إن الذين يكفرون بالله ، وذلك حتى يوضح لنا أنّ الحق غيب ، ولكن الآيات البينات ظاهرة في الكون ، لذلك قال : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين } . ولنا أن نلاحظ هنا ، أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين ، أي أنها لا تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على مهمة النبي ، وهو الرسول ، فليس من المعقول أن يرسل الله رسولا ليبلغ منهجا لله ، فيُقدر الله خلقه على أن يقتلوا الرسول . ولكن الأنبياء يرسلهم الله ليكونوا أسوة سلوكية للمؤمنين ، ولا يأتي الواحد منهم بتشريعات جديدة ، أما الرسول فإن الله يبعثه حاملا لمنهج من الله . وليس من المعقول أن يصطفي الله عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ منهجه ، ويُمَكّن الله بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا هذا الرسول .
إن الخلق لا يقدرون على رسول أرسله الله ، لكنهم قد يقدرون على الأنبياء ، وكل واحد من الأنبياء هو أسوة سلوكية ، ولذلك نجد ان كل نبيّ يتعبد على دين الرسول السابق عليه ، فلماذا يقتل الخلق الأسوة السلوكية مادام النبيّ من هؤلاء قد جاء ليكون مجرد أسوة ، ولم يأت بدين جديد؟ فلو كان النبي من هؤلاء قد جاء بدين جديد ، لقلنا : إن التعصب للدين السابق عليه هو الذي جعلهم يقتلونه ، لكن النبيّ أسوة في السلوك ، فلماذا القتل؟ إن النبي من هؤلاء يؤدي من العبادة ما يجعل القوم يتنبهون إلى أن السلوك الذي يفعله النبيّ لا يأتي وفق أهوائهم .
إن القوم الذين يقتلون النبيين هم القوم الذين لا يوافقون على أن يسلكوا السلوك الإسلامي الذي يعني إخضاع الجوارح ، والحركة لمنطق الدين ولمنطق الإسلام ، لماذا؟ لأن النبيّ وهو ملتزم بشرع الرسول السابق عليه ، حينما يلتزم بدين الله بين جماعة من غير الملتزمين يكون سلوكه قد طعن غير الملتزمين .
إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع الله ، ويخضع جوارحه ، وسلوكه لمنهج الله بين جماعة تدّعي أنها تدين الله ، ولكنها لا تتمسك بمنهج الله تحملهم إلى أن يقولوا : لماذا يفعل النبي هذا السلوك القويم ، ولماذا يخضع جوارحه لمنطق الإيمان ، ونحن غير ملتزمين مثله؟ وهذا السؤال يثير الغيظ والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير الملتزمة بدين الله ، وإن أعْلنت في ظاهر الأمر التزامها بالدين .
(1/892)

إنهم يحقدون على النبيّ لأنه يرتفع بسلوكه المسلم ، وهم لا يستطيعون أن يرتفعوا ليكونوا مثله .
إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج الله يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد إعلان الإيمان بمنهج الله ، وبين الالتزام السلوكي بمنهج الله ، وتكون أسوة النبيّ مُحقرة لفعلهم . ولذلك حين نجد إنسانا ملتزما بدين الله ومنهجه ، فإننا نجد غير الملتزم ينال الملتزم بالسخرية والاستهزاء ، لماذا؟ لأن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه لمنهج الله ، ويسأل غير الملتزم نفسه :
لماذا يكون هذا الإنسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج الله وأنا غير قادر على ذلك؟ إن غير الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه . لماذا؟ لأن غير الملتزم يتضاءل في نظر نفسه ونظر الآخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج الله ، وعندما يقارن الآخرون بين سلوك الملتزم بمنهج الله وسلوك غير الملتزم بمنهج الله فهم لا يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسى أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه ، إن غير الملتزمين بمنهج الله يسخرون ويتغامزون على الملتزمين بمنهج الله ، كما يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 29-33 ] .
ألا توضح لنا تلك الآيات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا للملتزمين بمنهج الله؟ ألا نسمع قول غير الملتزمين للملتزم بمنهج الله : " خذنا على جناحك "؟ إن هؤلاء غير الملتزمين ينطبق عليهم قول الحق : { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ } [ المطففين : 30-32 ] .
إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم ، لأنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بالله . وقد يتهم غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن الالتزام ضلال . والحق سبحانه وتعالى يرد على هذا الاتهام بالقول الكريم : { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 33 ] .
الحق يرد على الساخرين من الملتزمين بمنهج الله ، فيضحك الذين آمنوا يوم القيامة من الكفار ، ويتساءل الحق بجلال قدرته وتمام جبروته : { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 34-36 ] .
هكذا ينال غير الملتزمين عقابهم ، فماذا عن الذين يقتلون النبيين بغير حق؟ إن لنا أن نسأل : لماذا وصف الله قتل النبيين بأنه " بغير حق " ، وهل هناك قتل لنبيّ بحق؟ لا يمكن أن يكون هناك قتل لنبي بحق ، وإذا كان الله قد قال : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } هذا القول الكريم قد أتى ليوضح واقعا ، إنه سبحانه يقول بعد ذلك في سلسلة أعمال هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق : { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } إنهم لم يكتفوا بقتل النبيين ، بل يقتلون أيضا من يدافع من المؤمنين عن هذا النبيّ كيف؟ لأنه ساعة يُقتل نبيّ ، فالذين التزموا بمنهج النبيّ ، وكانوا معه لابد لهم أن يغضبوا ويحزنوا .
(1/893)

إن أتباع النبيّ ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن لم يستطع أتباع النبي منع قتل النبيّ فلا أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، لكن القتلة يتجاوز طغيانهم فلا يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر لتصرفهم : ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه أيضا ، وبالنسبة لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء أرادوا بها اغتياله ، وذلك يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الاغتيال .
لماذا؟ لأنهم لم ينظروا إلى وضعه صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن نبيا فقط ، ولكنه رسول أيضا . وما دام رسولا فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد ، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا فقط لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل ، لكنه رسول من عند الله ، ولقد رأوه يحمل منهجا جديدا ، وهذا المنهج يسفه أحلامهم ، ويوضح أكاذيبهم ، من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم .
إذن ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا يحمل رسالة ومنهجا ، وحينما أرادوا أن يقتلوه كنبيّ ، غفلوا عن كونه رسولا . ولذلك قال الحق مطمئنا لنا ومحدثا رسوله صلى الله عليه وسلم : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ المائدة : 67 ] .
الرسول الكريم إذن حامل رسالة ومعصوم بالله من أعدائه ، والحق سبحانه وتعالى قد حكى عن الذين يقتلون الأنبياء ، وأراد أن يطمئن المؤمنين ، ويطمئن الرسول على نفسه ، وأن يعرف خصوم رسول الله أنه لا سبيل إلى قتله ، فيقول الحق : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 91 ] .
ولماذا يأتي الله ب " من قبل " هذه؟ إنه يوضح لنا وللرسول ولأعداء محمد صلى الله عليه وسلم أن مسألة قتل الأنبياء كان من الممكن حدوثها قبل رسول الله ، لكن هذه المسألة صارت منتهية ، ولا يجرؤ أحد أن يمارسها مع محمد رسول الله ، وبذلك طمأن الحق المؤمنين ، وطمأن رسول الله بأن أحدا لن يناله بأذى ، ولذلك قال الحق : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] .
وأيأس الحق الذين يريدون قتل رسول الله فقد قال لهم : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ } [ البقرة : 91 ] .
ولو أن المسألة مسألة نبوة ، ورسالة رسول الله غير داخلة في مواجيدهم ، وكان إنكارهم لرسالته عنادا ، لكانوا قد قالوا : " إن مسألة قتل الأنبياء لا تتوقف عند " من قبل " لأننا سنجعلها " من بعد " أيضا ، لكانوا قد كتلوا قواهم وقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن الله سبحانه أيأسهم وقنطهم من ذلك ، وذلك من مناط قدرة الله .
(1/894)

وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يحكي عن أمر في قتل الأنبياء ، وقتل الذين يأمرون بالقسط ، أكان ذلك معاصر لقول الرسول هذا؟ أو كان هذا الكلام لمن؟ إنه موجه لبعض من أهل الكتاب ، إنه موجه لمن آمنوا باتباع الذين قتلوا النبيين من قبل ، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط ، لقد آمنوا كإيمان السابقين لهم من قتلة الأنبياء ، وقتلهم للذين يأمرون بالقسط .
وهذا تقريع لهؤلاء الذين اتبعوا في الإيمان قوما قتلوا الأنبياء من قبل ، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط ، إنه تقريع وتساؤل . كيف تؤمنون كإيمان الذين قتلوا الأنبياء؟ وكيف تتبعون من فعل مثل ذلك؟ وقد قص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن بني إسرائيل قد قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا دفعة واحدة ، فقام مائة وسبعون من أتباع الأنبياء لينكروا عليهم ذلك ، فقتلوهم ، وهذا هو معنى هذه الآية الكريمة :
{ وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ]
لماذا يبشرهم الحق بعذاب أليم؟ أليس معنى التبشير هو إخبار بما يسر في أمد يمكن أن يؤتى فيه الفعل الذي يسر؟ إن التبشير دائما يكون للفعل الذي يسر ، كتبشير الحق للمؤمنين بالجنة ، ومعنى التبشير بالجنة أن الله يخبر المؤمن بأمر يُسر له المؤمن ، ويعطي الحقّ الفرصة للمؤمن لينفذ منهج الله ليأخذ الجائزة والبشارة .
لماذا يكون الحديث بالبشارة موجها لأبناء الذين فعلوا ذلك؟ لأننا نعرف أن الذين قتلوا النبيين وقتلوا الذين أمروا بالقسط من الناس لم يكونوا معاصرين لنزول هذا الآية ، إن المعاصرين من أهل الكتاب لنزول هذه الآية هم أبناء الذين قتلوا الأنبياء وقتلوا الذين أمروا بالقسط ، ويبشرهم الحق بالعذاب الأليم؛ لأنهم ربما رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا . فإن كانوا قد رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا فلهم أيضا البشارة بالعذاب .
وتتسع دائرة العذاب لهم أيضا ولكن لماذا يكون العذاب بشارة لهم ، رغم أن البشارة غالبا ما تكون إخبارا بالخير ، وعملية العذاب الأليم ليست خيرا؟ إن علينا أن نعرف أنه ساعة نسمع كلمة " أبشر " فإن النفس تتفتح لاستقبال خبر يسر وعندما تستعد النفس بالسرور وانبساط الأسارير إلى أن تسمع شيئا حسنا يأتي قول : أبشر بعذاب أليم ، ماذا يحدث؟ الذي يحدث هو انقباض مفاجئ أليم ابتداء مطمع " فبشرهم " وانتهاء مُيْئِس ( بعذاب أليم ) وهنا يكون الإحساس بالمصيبة أشد ، لأن الحق لو أنذرهم وأوعدهم من أول الأمر بدون أن يقول : " فبشرهم " لكان وقوع الخبر المؤلم هينا .
(1/895)

لكن الحق يريد للخبر أن يقع وقوعاً صاعقا ، ومثال لذلك قول الحق : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ] .
إنهم يستغيثون في الآخرة ، ويغاثون بالفعل ، ولكن بماذا يغيثهم الله؟ إنه يغيثهم بماء كالمهل يشوي الوجوه . إننا ساعة أن نسمع " يغاثوا " قد نظن أن هناك فرجا قادما ، ولكن الذي يأتي هو ماء كالمهل يشوي الوجوه . وهكذا تكون البشارة بالنسبة لمن قتلوا الأنبياء أو لأتباع القتلة الذين آمنوا بمثل ما آمن به هؤلاء القتلة . { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وكلمة " عذاب " تعني إيلام حيّ يحس بالألم . والعذاب هو للحيّ الذي يظل متألما ، أما القتل فهو ينهي النفس الواعية وهذا ليس بعذاب ، بل العذاب أن يبقى الشخص حيَّا حتى يتألم ويشعر بالعذاب ، وقول الحق : { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } يلفتنا إلى قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 56 ] .
أي أن الحق يديم عليهم الحياة ليديم عليهم التعذيب . وبعد ذلك يقول الحق : { أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ . . . } .
(1/896)

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
إنهم الذين كفروا بآيات الله ، وقتلوا النبيين بغير حق ، وقتلوا الذين أمروا بالقسط بين الناس ، هؤلاء لهم العذاب ، ولهم أيضا حبط العمل في الدنيا والآخرة ، وكذلك من نهج نهجهم ، ومعنى " حبطت " أي لا ثمرة مرجوة من العمل ، إن كل عمل يعمله العاقل لا بد أن يكون لهدف يقصده ، فأي عمل لا يكون له مقصد يكون كضربة المجنون ليس لها هدف . إن العاقل قبل أن يفعل أي عمل ينبغي أن يعرف الغاية منه ، وما الذي يحققه من النفع؟ وهل هذا النفع الذي سوف يحققه هو خير النفع وأدومه ، أو هو أقل من ذلك؟
وعلى ضوء هذه المقاييس يحدد العاقل عمله ، وحينما يقول الحق : { أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة } فهو سبحانه يريد أن يخبرنا أن إنسانا قد يفعل عملا هو في ظاهره خير ، فإياك أن تغتر أيها المؤمن بأنه عَمِلَ خيرا . لماذا؟ لأن عمل الخير لا يحسب للإنسان إلا بنية إيمانه بمن يجازى فالإنسان إن عمل عملا قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن ، فلماذا يكون عمل هؤلاء حابطا في الدنيا ، وفي الآخرة؟ إنه حابط بموازين الإيمان ويكون العمل حابطا لأنه لم يصدر من مؤمن ، لأن ذلك الإنسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل ، لا ثقة بالأمر الأعلى .
إن الإنسان المؤمن حين يقوم بالعمل يقوم بالعمل ثقة في الأمر الأعلى . وبعض من الناس في عصرنا يأخذون على الإسلام أنه لا يجازي الجزاء الحسن للكفرة الذين قاموا بأعمال مفيدة للبشرية . يقوم الواحد منهم : هل يعقل أحد أن " باستير " الذي اكتشف الميكروبات ، والعالم الآخر الذي اكتشف الأشعة ، وكل هؤلاء العلماء يذهبون إلى النار؟ ولهؤلاء نقول : نعم ، إن الحق بعدالته أراد ذلك ، ولنتقاض نحن وأنتم إلى أعراف الناس . إن الذي يطلب أجرا على عمل يطلبه ممن؟ إنه يطلب الأجر ممن عمل له . فهل كان الله في بال هؤلاء العلماء وهم يفعلون هذه الأعمال؟ إن بالهم كان مشغولا بالإنسانية ، وقد أعطتهم الإنسانية التخليد ، وغير ذلك من مكاسب الدنيا ، وينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها؟ قال؛ فاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جرىء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، حتى ألقي في النار ، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن ، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم ، وقرأت القرآن ، ليقال : هو قارئ فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه ، حتى ألقي في النار ، ورجل وسّع الله عليه ، وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتى به ، فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، ثم ألقي في النار " .
(1/897)

إذن فإذا كان الجزاء من الله ، فلنا أن نسأل : هل كان الله في بال هؤلاء العلماء حينما أنتجوا مخترعاتهم؟ لم يكن في بالهم الله . والذي يطلب أجرا ، فهو يطلبه ممن عمل له . ولم يُضع الله ثمرة عملهم ، بل درت عليهم أعمالهم الذكر والجاه والرفعة . لم يضع الله أجر من أحسن عملا . { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
وقد قلت لكم قديما : تذكروا المفاجأة التي تحدث لمن عمل عملا هو في ظاهره خير ، ولكن لم يكن ربه في باله ، هذا ينطبق عليه قول الحق : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ] .
إنه يفاجأ بوجود الله ، ولم يكن هذا الإله في باله ساعة أن قام بهذا العمل الذي هو في ظاهره خير ، كأن الله يقول لصاحب مثل هذا العمل : أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت بهذا العمل ، فخذ جزاءك ممن كان في بالك . { أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } إن أعمالهم حبطت في الدنيا ، لأنهم قد يعملون عملا يراد به الكيد للإسلام ، لذلك لا يمكنهم الله من ذلك ، بل يخذلهم جميعا . وانتصر دين الله رغم قلة العُدّة . وليس لهؤلاء ناصرون . أي ليس لهم من يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم إنهم لن يجدوا ناصرا إذا هزمهم الله ، فليس مع الله أحد غيره . وبعد ذلك يقول الحق : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب . . . }
(1/898)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
ونعرف أننا ساعة نسمع قول الحق : { أَلَمْ تَرَ } . فهنا همزة استفهام ، وهنا أداة نفي هي " لم " ، وهنا " تر " ومعناها أن يستخدم الإنسان آلة الإبصار وهي العين . فإذا ما قال الله لرسوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } . إن هذه دعوة لأمر واضح . لكن في بعض الأحيان تأتي { أَلَمْ تَرَ } في حادث كان زمانه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فلم يره رسول الله كقول الحق : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] .
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل ، إذن فساعة تسمع { أَلَمْ تَرَ } إن كان حدثها من المعاصر ، فمن الممكن أن تكون رؤية ، والرؤية تؤدي إلى علم يقين ، لأنها رؤية لمشهود وإن جاءت { أَلَمْ تَرَ } في أمر قد حدث من قبل ، أو أمر لما يحدث بعد فهي تعني " ألم تعلم "؛ لأن الرؤية سيدة الأدلة ، فكأن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول لرسوله في حدث لم يشهده الرسول : ألم تر؟ فهذا معناه : ألم تعلم؟
وقد يقول قائل : ولماذا لم يأت ب " تعلم " وجاء ب " تر "؟ لأن سيادة الأدلة هو الدليل المرئي ، فكأن الله يريد أن يخبرنا ب { أَلَمْ تَرَ } أن نأخذ المعلومة من الله على أنها مرئية ، وليكن ربك أوثق عندك من عينك ، إنك قد لا ترى بالفعل هذا الأمر الذي يخبرك به الله ، ولكن لأن القائل هو الله ، ولا توجد قدرة تُخرج ما يقوله الله على غير ما يقوله الله . لذلك فقد قلنا ساعة يعبر الله عن الأمر المستقبل الذي سيأتي بعد ، فإنه قد يعبر عنه بالماضي ، فالحق قد قال : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل : 1 ] .
فهل ينسجم قوله : { أتى أَمْرُ الله } مع { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } ؟ إن الأمر الذي يخبرنا به الله قد أتى ، فكيف يمكن عدم استعجاله؟ إن " أتى " معناها أن الأمر قد حصل قبل أن يتكلم . يجب علينا إذن أن نعرف أن الذي قال : " أتى " قادر على الإتيان به ، فكأنه أمر واقع ، إنها مسألة لا تحتاج إلى جدال؛ لأنه لا توجد قوة تستطيع أن نتازع الله لتبرز أمرا أراده في غير مراده . فكأن قوله الحق : { أَلَمْ تَرَ } إن كانت تحكى عن حدث فات زمنه فالذي يأتي منها هو العلم ، لأنه إخبار الله ، وإن كانت تحكى عن حدث معاصر فالذي يأتي منه أيضا هو العلم؛ لأنه صادر عن رؤية ومشاهدة .
وعندما يقول الحق : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب } .
(1/899)

" وأوتوا " تلفتنا إلى قوم قد نزل إليهم منهج من أعلى . ولذلك يأتي في القرآن ذكر المنهج ب " نزل " و " أنزل " ، وذلك حتى نشعر بعلو المكانة التي نزل منها المنهج . وما هو النصيب؟ إننا نسمي النصيب " الحظ " ، أو خارج القسمة ، كأن يكون عندنا عشرون دينارا ، ونقسمهما على أربعة فيكون لكل واحد خمسة ، هذه الخمسة الدنانير هي التي تسمى " نصيبا " أو " حظا " ، والنصيب : " حظ " أو " قسمة " يضاف لمن أخذه .
إذن ، فلماذا يقول الحق : { الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب } إنها لفتة جميلة ، فالكتاب كله لم يبق لهم ، إنما الذي وصل وانتهى إليهم جزء بسيط من الكتاب ، فكأن هذه الكلمة تنبه الرسول والسامعين له أن يعذروا هؤلاء القوم حيث لم يصلهم من الكتاب إلا جزء يسير منه ، إن نصيبا من الكتاب فقط هو الذي وصلهم .
ويشرح الحق ذلك في آيات أخرى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } [ المائدة : 13 ] .
إن الجزء المنسي من الكتاب لم يأخذه المعاصرون لرسول الله . وقلنا أيضا : إن الحق قد أوضح أن بعضهم كتم بعضا من الكتاب . { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] .
وما دام هناك من كتم بعضا من الكتاب فمعنى ذلك كتمانه عن المعاصرين له ، وهناك أناس منهم مخدوعون ، فشيء من الكتاب قد نسى ، وبالتالي مسح من الذاكرة ، وهناك شيء من الكتاب قد كتم ، فصار معلوما عند البعض ، وغير معلوم عند البعض الآخر ، وحتى الذي لم يكتموه ، جاء فيه القول الحكيم : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 78 ] .
إذن فالكتاب الذي أنزل إليهم من الله قد تعرض لأكثر من عدوان منهم ، ولم يبق إلا حظ من الكتاب ، وهذا الحظ من الكتاب هو الذي يجادل القرآن به هؤلاء الناس ، إن القرآن لا يجادلهم فيما تبدل عندهم بفعل أحبارهم ورهبانهم السابقين ، ولكنه يجادلهم بالنصيب الذي أوتوه .
يقول الحق : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } . وعن أي كتاب لله تتحدث هذه الآية؟ هل تتحدث عن القرآن؟ لو كان الحديث عن القرآن فلا بد أنه حُكِّمَ في أمر بينهم وبين رسول الله ، لكن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب قد اختلفوا فيما بينهم ، ولماذا يختلفون فيما بينهم؟ السبب هو أيضا لون من البغي فيما بينهم .
(1/900)

وإذا كان الكتاب هو القرآن ، أليس القرآن مصدقا لما معهم؟
إذن فعندما يدعون ليتم التصديق على ما جاء في كتبهم ، فالدعوة هنا لأن يسود حكم القرآن . وما معنى { يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله } ، إن الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهم المدعون ، وما دام الحق قد قال : { أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب } فهل كان خلافهم في النصيب الذي بين أيديهم أم النصيب المحذوف؟ إنه خلاف بينهم في النصيب الذي بين أيديهم ، ليكون ذلك حجة على أنهم غير مأمونين حتى على ما وصل إليهم وما هو مكتوب عندهم . وعندما تكلم العلماء عن هذه المسألة أوردوا لذلك الأمر حادثة . لقد اختلفوا في أمر سيدنا إبراهيم وقالوا : إن سيدنا إبراهيم يهودي وقال بعضهم : إنه نصراني . وجاء القرآن حاسما : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ آل عمران : 67 ] .
لماذا . . لأن كلمة يهودي ونصراني قد جاءت بعد إبراهيم ، وكان لا بد لهم أن يخرجوا من قلة الفطنة وأن يرتبوا الأحداث حسب زمنها ، إذن ففي إي أمر اختلفوا؟ هل اختلفوا في أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟ هل اختلفوا في حكم موجود عندهم في التوراة؟ لقد كانت الدعوة موجهة إليهم في ماذا؟ إنهم { يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وذلك يدل على أن كلمة : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } [ آل عمران : 19 ] .
هي حالة شائعة بينهم ، لماذا؟ لأن العلماء حينما ذكروا الحادثة التي دعوا للحكم فيها بكتاب الله ، قال العلماء : إن اثنين من يهود خيبر - امرأة - خيبرية ورجل من خيبر ، قد زنيا ، وكان الاثنان من أشراف القوم ، ويريد الذي يحكمون في هذا الأمر بكتاب التوراة ألا يبرزوا حكم الله الذي جاء بالتوراة ، وهو الرجم ، فاحتالوا حيلة ، وهي أن يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولماذا يذهبوا في هذه الجزئية إلى رسول الله عليه وسلم؟ إننا نأخذ مجرد الذهاب إلى رسول الله ارتضاء لحكمه .
لكن لماذا لم يرتضوا من البداية بكل ما جاء به رسول الله؟ لقد أرادوا أن يذهبوا لعلهم يجدون نفعا في مسألة يبغونها ، أما في غير ذلك فهم لا يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن مجرد ذهابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا فكرة عنهم ، لقد كانوا يريدون حكما مخففا غير الرجم . إن الزاني وهو من خيبر والخيبرية الزانية أرادا أن يستنقذا أنفسهما من حكم التوراة بالرجم ، إنهما من أشراف خيبر ، ولأن اليهود قد صنعوا لأنفسهم في ذلك الوقت سلطة زمنية ، فذهب الزاني والزانية ومعهما الأحبار الذين الذين يريدون أن يلووا حكم الله السابق نزوله في التوارة وهو الرجم .
(1/901)

وعندما دخلوا على رسول الله كان هناك واحد اسمه " النعمان بن أوفى " ، وواحد اسمه " بحرى بن عمرو " فقالوا : يارسول اقض بين هؤلاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه : أوَ ليس عندكم حكم؟ وأضاف رسول الله ما معناه : أنا احتكم إلى التوراة وهي كتابكم ، فماذا قالوا : ؟قالوا : أنصفتنا .
وكان رسول الله قد بين لهم حكم الإسلام في الزنا بأنه الرجم ، وجيء بالجزء الباقي عندهم من التوراة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتضمن الحكم الملزم دليلا على أن الله أطلعه على أشياء لم تكن في بال أحد . فدعا بقسم من التوراة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه : أيكم أعلم بالتوراة؟ فقالوا شخص اسمه عبد الله بن صورية فأحضروه ، وأعطاه التوراة ، وقال : اقرأ مجلس عبد الله بن صورية يقرأ ، فلما مر على آية الرجم وضع كفه عليها ليخفيها ، وقرأ غيرها وكان عبد الله بن سلام حاضرا ، فقال : يا رسول الله أما رأيته قد ستر بكفه آية وقرأ ما بعدها؟ وزحزح ابن سلام كف الرجل ، وقرأ هو فإذا هي آيةُ الرجم .
هذه المسألة تعطينا أن الحكم في القرآن الكريم هو الحكم في التوراة في أمر الزنا ، وتعطينا أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض الله عليه من إلهاماته فجاء بالجزء من التوراة الذي يحمل هذا النص . وجاء بعد ذلك جندي من جنود الله هو عبد الله بن سلام وكان يهوديا قد أسلم ليظهر به رغبة القوم في التزييف والتزوير .
وإسلام عبد الله بن سلام له قصة عجيبة ، فبعد أن اختمر الإيمان في قلبه ، جاء إلى رسول الله قائلا : لقد شرح الله صدري إلى الإسلام ونطق بكلمة " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ولكني أحب قبل أن أعلن إسلامي أن تحضر رؤساء اليهود لتسألهم رأيهم في شخصى ، لأن اليهود " قوم بهت " فيهم افتراء وفيهم الكذب وفيهم التضليل ، فلما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء اليهود عن رأيهم في عبد الله بن سلام قالوا : سيدنا وابن سيدنا وحبرنا . . إلخ . وأفاضوا في صفات المدح والإطراء والتقدير . فقال عبد الله بن سلام أمامهم : الآن أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فانقلب رؤساء اليهود ، وقالوا في عبد الله بن سلام : عكس ما قالوه أولا ، قالوا : إنه خبيثنا وابن خبيثنا . . إلخ .
لقد غيروا المديح إلى ذم . فقال عبد الله بن سلام : يا رسول الله أما قلت لك : إنهم قوم بهت؟ والله لقد أردت أن أعلمك برأيهم في قبل أن أسلم . ذلك هو عبد الله بن سلام الذي زحزح كف عبد الله بن صورية عن النص الذي فيه آية الرجم في التوراة ، وفي ذلك جاء القول الحق : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } إنهم الذين أعرض فريق منهم عن قبول الحق .
(1/902)

ما سبب هذا الإعراض؟ أهو قضية عامة؟ أو أنّ سبب هذا الإعراض هو السلطة الزمنية التي أراد اليهود أن يتخذوها لأنفسهم؟ ومعنى السلطة الزمنية أن يجيء أشخاص فيأخذوا من قداسة الدين ما يفيض عليهم هم قداسة ، ويستمتعوا بهذه القداسة ثم يستخدموها في غير قضية الدين ، هذا هو معنى السلطة الزمنية . وقلنا سابقا : إن كل تحوير في منهج الله سببه البغي ، والمفروض أن أهل الكتاب من أصحاب التوراة كانوا يستفتحون على العرب ويقولون : سيأتي نبي من العرب نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم ، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوه سابقا في كتبهم كفروا به ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه القضية موضحا موقفهم من قضية الإيمان العليا : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] .
فكأن من عنده علم بالكتاب كان مفروضا فيه أن يشهد لصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلا يقول الله : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } لن يقول الحق ذلك إلا إذا كان عند علماء أهل الكتاب ما يتفق مع ما جاء به الله في صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عنه ، وكان السبب في محاولة بعض اليهود لإنكار رسالة رسول الله هو السلطة الزمنية ، وأرادوا أن ييسروا لأتباعهم أمور الدين .
إن كل دعي - أي مزيف - في مبدأ من المبادئ يحاول أن يأخذ لنفسه سلطة زمنية ، فيأتي إلى تكاليف ، الدين التي قد يكون فيها مشقة على النفس ، ويحاول أن يخفف من هذه التكاليف ، أو يأتي بدين فيه تخفيف مخل بالعبادات ، فإذا نظرنا إلى مسيلمة الكذاب نجده قد خفف الصلاة حتى يُرغب في دينه من تشق عليه الصلاة ، وينضم إلى دين مسيلمة ، وحذف مسيلمة جزءا من الزكاة ، وهذا يعطي فرصة التحلل من تكاليف الدين ، ولذلك فالذي أفسد الأديان السابقة على الإسلام أن بعضا من رجال الدين فيها كلما رأوا قوما على دين فيه تيسيرات أخذوا من هذه التيسيرات ووضعوها في الدين؛ لأن تكاليف الدين شاقة ولا يحمل إنسان نفسه عليها إلا من آمن بها إيمان صدق وإيمان حق ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عمدة العبادات وهي الصلاة : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
ويقول في موقع آخر في القرآن الكريم عن الصلاة : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ] .
إن الحق عليم حكيم بمن خلق وهو الإنسان ، ويعلم أن الضعف قد يصيب روح الإنسان فلا يصطبر على الصلاة ، أو يراها تكليفا صعبا ، لكن الذي يقيم الصلاة ويحافظ عليها فهو الخاشع لربه .
(1/903)

ولذلك فإننا نجد أن كل منحرف يأتي ويحاول أن يخفف من تكاليف الدين ، ويحاول أن يحلل أشياء محرمة في الدين ، ولم نر منحرفا يزيد في الأشياء المحرمة . إن المنحرفين يريدون إنقاص الأمور الحرام . إذا سألنا هؤلاء المنحرفين : لماذا تفعلون ذلك؟ فإننا نجد أنهم يفعلون ذلك لجذب الناس إلى أمور محرمة يحللها هؤلاء المنحرفون . ولذلك أراد أراد بعض اليهود أن يسهلوا على أتباعهم الدين ، وقال بعض من أحبارهم : لا تخافوا من أمر يوم القيامة . وجاء القول الحق يحكي عنهم وكأنهم حاولوا أن يفهموا الأمر بأن الله يحلل لهم أمورا لا ، إن الله لم يحلل إلا الحلال ، ولم يحرم إلا الحرام . وإذا كان الحق قد قال : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم } [ التحريم : 2 ] .
فهذا القول الحكيم جاء في مناسبة محددة وينطبق فقط في مجال ما حلل الله فلا تحرمه ، أما ما حرم الله فلا تقربه ، لقد أرادوا أن يبيحوا للأتباع ارتكاب الآثام ، لأن النار لن تصيبهم إلا أيام معدودة ، وإذا دققنا التأمل في القول الحق الذي جاء على لسانهم ، فإننا نجد الآتي : إننا نعرف أن لكل حدث زمان ، ولكل حدث قوة يحدث عليها ، فمن ناحية الزمان . قال هؤلاء المزوّرون لأحكام الله عن يوم القيامة إنها أيام معدودة ، فلا خلود في النار ، وحتى لو كان العذاب شديدا فإنه أيام معدودة ، فالإنسان يستطيع أن يتحمل ، ومن ناحية قوة الحدث أرادوا أن يخففوا منه ، فقالوا : إنه عذاب ليس بشديد إنما هو مجرد مس . إنهم يحاولون إغراء الناس لإفسادهم وقال هؤلاء الأحبار : نحن أبناء الله وأحباءه أرأيتم أحدا يعذب أبناءه وأحباءه؟ لقد أعطى الله يعقوب النبوة ، ولا يمكن أن يعاقب ذريته أبدا ، إلا بمقدار تحلة القسم . { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 44 ] .
إن أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته إذا برئ من مرضه مائة سوط ، وأراد الله أن يحله في هذا القسم فأمره أن يأخذ حزمة من حشيش أو عشب فيها مائة عود ويضربها بها ضربة خفيفة ليبرّ في قسمه ، وكان ذلك رحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وقت المرض ، وكان أيوب عبدا شاكراً لله ، كأن الضربة الواحدة هي مائة ضربة ، وهذا تحليل للقسم ، وقال بعض من بني إسرائيل : إن ذرية بني يعقوب لن تُعذب من الله إلا بمقدار تحلة القسم ، وكل ذلك ليزينوا للناس بقاءهم على هذا الدين الذي سوف تكون الآخرة فيه بعذابها مجرد مس من النار ، وأيام معدودة ، بادعاء أن بني يعقوب هم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله قد أعطى وعداً ليعقوب بأنه لن يعذب أبناءه إلا بمقدار تحلة القسم ، وهذا بطبيعة الحال هو تزييف لدين الله ومنهجه لقد تولوا عن منهج الله ، وأعرضوا عنه بعصيان ، يوضح لنا هذا المعنى القول الكريم : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ . . . }
(1/904)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
لقد تولوا وهم معرضون عن حكم الله لقد ظنوا أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات . ولنا أن نعرف معنى " غرهم " ولنا أن نسأل ما الغرور؟ إن الغرور هو الأطماع فيما لا يصح ولا يحصل ، فعندما تقول لواحد والعياذ بالله : " أنت مغرور " فأنت تقصد أنه يسلك سبيلا لا يوصله إلى الهدف المنشود . إذن فالغرور هو الإطماع فيما لا يصح ولا يحصل ، ولذلك يسمى الله الشيطان " الغرور " . { ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور * إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } [ فاطر : 5-6 ] .
إنه الشيطان الذي يزين للناس بعض الأمور ويحث الخلق ليطمعوا في حدوثها ، وعندما تحدث فإن هذه الأمور لا صواب فيها ، فهي مما زينه الشيطان ، لذلك فحصيلتها لا تتناسب مع الطمع فيها . والحق سبحانه يقول عن الدنيا : { اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } [ الحديد : 20 ] .
ويقال عن الرجل الذي ليس له تجربة : إنه " غِرٌّ " فيأتي بأشياء بدون تجربة؛ فلا ينتفع منها ، ولا تصح . إذن ، فكل مادة " الغرور " مأخوذة من إطماع فيما لا يصح ولا يحصل . لذلك سمى الله الشيطان " الغرور " لأنه يطمعنا نحن البشر بأشياء لا تصح ولا تحدث ، ولهذا سوف يأتي الشيطان يوم القيامة ليتبرأ من الذين اتبعوه ويتهمهم بالبلاهة : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ من قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] .
ما معنى { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } ؟ السلطان أي القوة التي تقنع الإنسان بعمل فعل ما ، وهو إما أن يكون سلطان الحجة فيقنعك بفعل ما ، فتفعله ، وإما أن يكون سلطان القوة ، فيرغمك أن تفعل ، السلطان - إذن - نوعان : سلطان حجة ، وسلطان قوة ، والفرق بين سلطان الحجة و سلطان القوة القاهرة على الفعل ، هو أن سلطان الحجة يقنعك أن تفعل وأنت مقتنع ، أما سلطان القوة القاهرة فهو لا يُقنع الإنسان ، ولكنه يُرغم الإنسان على فعل ما ، ولذلك فالشيطان يعلن لأتباعه يوم القيامة : لم يكن لي سلطان عليكم ، لا حجة عندي لأقنعكم بعمل المعاصي ، ولا عندي قوة ترغمكم على الفعل ، لكنكم أنتم كنتم على حرف إتيان المعاصي ودعوتكم فاستجبتم لي .
(1/905)

ويضيف الشيطان مخاطبا أتباعه : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] .
أي أن الشيطان يؤكد أنه لن يفزع لأحد من الذين اتبعوه لينجده ، إن كلمة " يصرخ " تعني أن هناك مَنْ يفزع لأحد تلبية لنداء أو استغاثة . الشيطان إذن لن ينجد أحدا من عذاب الله ، ولن ينجد أحد الشيطان من عذاب الله ، وهكذا ذهب بعض من أهل الكتاب إلى الغرور في دين الله ، فافتروا أقوالا على الله ، لم تصدر عنه ، وصدقوا افتراءاتهم ، ويا ليت غرورهم لم يكن في الدين لأن الغرور في غير الدين تكون المصيبة فيه سهلة لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى ، لماذا؟ لأن الغرور في أي أمر يخضع لقانون واضح ، وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته ، لكن الغرور في امر الدين مختلف لماذا؟ لأن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان ، إنه مستمر ، لأن منهج قيم صدر من الحق إلى الخلق ، إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا ، فإن فشلت فالفشل يقف عند هذه الجزئية وحدها ، ولا يتعدى الفشل إلى بقية الزمن ، لكن الغرور في الدين يجعل العمر كُله يضيع ، لأن الإنسان لم يتبع المنهج الحق بل يمتد الضياع والعذاب إلى العمر الثاني وهو الحياة في الآخرة يقول الحق : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ آل عمران : 24 ] .
والإفتراء هو تعمد الكذب ، إن الحق سبحانه يوضح لهم المعنى فيقول : إن حصل ذلك منكم وأعرضتم عن حكم الله الذي دعيتم إليه في كتاب الله ، وعللتم ذلك بأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة ، وادعيتم كذبا أن الأيام المعدودات هي أيام عبادتكم للعجل ، وادعيتم أنكم أبناء الله وأحباءه ، إن ذلك كله غرور وافتراءات ، ويا ليتهم كانوا يعلمون صدق هذه الافتراءات ، لكنهم هم الذين قالوها ويعرفون أنها كذب ، فإذا جاز ذلك لهم في هذه الدنيا فكيف يكون موقفهم وحالهم عندما يجمعهم الله في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا يقول الحق : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ . . . . }
(1/906)

فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
إن كذبهم سينكشف في هذا اليوم ، فالفاضحة قد جاءت ، والفاضحة هي القيامة ، إنها تفضح كل كذاب وكل غشاش وكل داعية بغير الحق . إن الحق يتساءل : كيف يصنعون ذلك كله في الحياة التي جعلنا لهم فيها اختيارا ، فيفعلون ما يريدون ، ولا يفعلون ما لا يريدون ، يحدث منهم كل ذلك وهم يعلمون أن الحق قد جعل الثواب لمن اتبع تكاليف الله ، وجعل العقاب لمن يخرج عن مراد الله ، كيف يتصرفون عندما يسلب الحق منهم الاختيار ويجئ يوم القيامة . لقد كانوا في الدنيا يملكون عطاء الله من قدرة الاختيار بين البديلات ، وركز الله لهم في بنائهم أن كل جوارحهم خاضعة لارادتهم كبشر من خلق الله ، فمنهم من يستطيع ان يستخدم جوارحه فيما يرضى الله ، وفيهم من يستخدم جوارحه المسخرة له - بفضل الله - فيما لا يرضى الله ، إن الجوارح كما نعلم جميعا خاضعة لإرادة الإنسان ، وإرادة الإنسان هي التي تختار بين البديلات ، لكن ماذا يفعل هؤلاء يوم القيامة؟ إن الجوارح التي كانت تطيع الخارجين عن منهج الله في الفعل لا تطيعهم في هذا اليوم العظيم؛ لأن الطاعة اختيار أن تفعل وتطيع ، والجوارح يوم القيامة لا تكون مقهورة لإرادة الإنسان ، إن الجوارح يوم القيامة تنحل عنها صفة القهر والتسخير لمراد الإنسان ، وتصير الجوارح على طبيعتها : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 24-25 ] .
إن اللسان كان أداة إعلان الكفر ، وهو يوم القيامة يشهد على الكافر ، واليد كانت أداة معصية الله ، وهي يوم القيامة تشهد على صاحبها ، والجلود تشهد أيضا ، لقد كانت الجوارح خاضعة لإرادة أصحابها ، وتفعل ما يريدونها أن تفعل ، ولكنها كانت تفعل الفعل العاصي لله وهي كارهة لهذا الفعل؛ لذلك يقول الحق :
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ آل عمران : 25 ] .
كيف يكون حالهم يوم يجمعهم الله للجزاء في يوم لا ريب فيه ولا شك في مجيئه . . وهذا اليوم قادم لا محالة لقيام الأدلة على وجوده ، رغم خصومتهم لله فإن الله العادل الحق لا يظلمهم بل سيأخذهم بمقاييس العدل .
(1/907)

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
وساعة تسمع كلمة " ملك " ، فلنا أن نعرف أن هناك كلمة هي " مُلك " بضم الميم ، وكلمة أخرى هي " مِلك " بكسر الميم . إن كلمة " مِلك " تعني أن للإنسان ملكية بعض من الأشياء ، كملكية إنسان لملابسه وكتبه وأشيائه ، لكن الذي يملك مالك هذا الملك فهذا تسميه " مُلك " ، فإذا كانت هذه الملكية في الأمر الظاهر لنا ، فإننا نسميه " عالم الملك " ، وهو العالم المُشاهد ، وإذا كانت هذه الملكية في الأمر الخفي فإننا نسميه " عالم الملكوت " . إذن ، فنحن هنا أمام " مِلك " ، و " مُلك " و " ملكوت " . ولذلك فعندما تجلى الحق سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن وكشف له ما خفي عن العيون وما ظهر ، قال سبحانه : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } [ الأنعام : 75 ] .
أي أن الله سبحانه وتعالى أراد لسيدنا إبراهيم أن يشاهد الملكوت في السماوات والأرض ، أي كل الأشياء الظاهرة والخافية المخفية عن عيون العباد . وهكذا نرى مراحل الحيازة كالآتي : ملك ، أي أن يملك الإنسان شيئا ما ، وهذا نسميه مالكا للأشياء فهو مالك لاشيائه ، ومالك لمتاعه أما الذي يملك الانسان الذي يملك الاشياء فإننا نسميه " مُلك " ، أي أنه يملك من يملك الأشياء ، والظاهرة في الأولى نسميها " مِلْك " فكل إنسان له ملكية بعض من الاشياء ، وبعد ذلك تنحاز الى الأقل ، اي ان تنسب ملكية أصحاب الأملاك إلى ملك واحد . فالملكية بالنسبة للإنسان تتلخص في أن يملك الإنسان شيئا فيصير مالكا ، وإنسان آخر يوليه الله على جماعة من البشر فيصير مَلِكاً ، هذا في المجال البشرى .
أما في المجال الإلهي ، فإننا نُصعد لنرى من يملك كل مالك وملك ، إنه الله سبحانه وتعالى . ولا يظن أحد أن هناك إنسانا قد ملك شيئا؛ أو جاها في هذه الدنيا بغير مراد الله فيه فكل إنسان يملك بما يريده الله له من رسالة فإذا انحرف العباد فلا بد أن يولى الله عليهم ملكا ظالما ، لماذا؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس . { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] .
وكأن الحق سبحانه يقول : يأيها الخيِّر - بتشديد الياء - ضع قدما على قدم ولا تلوث يدك بأن تنتقم من الظالم ، فسوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير ، إنني أربأ بك أن تفعل ذلك ، وسأنتقم لك ، وأنت أيها الخيِّر منزه عندي عن ارتكاب المظالم ولذلك نجد قول الحق : { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] .
ونحن جميعا نعرف القول الشائع : " الله يسلط الظالمين على الظالمين " .
(1/908)

ولو أن الذين ظلموا مُكِّن منهم من ظلموهم ما صنعوا فيهم ما يصنعه الظالمون في بعضهم بعضا . إن الحق يسلط الظالمين على الظالمين ، وينجى أهل الخير من موقف الانتقام ممن ظلموهم .
إذن فنحن في هذه الحياة نجد " مالك " و " ملك " وهناك فوق كل ذلك " مالك الملك " ، ولم يقل الله : إنه " ملك الملك "؛ لأننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إلا الله . { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } إنه المتصرف في ملكه ، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله ، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم ، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يطوى الله - عز وجل - السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " .
إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من الله . إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد . وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه ، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما . إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده .
إن الحق سبحانه يأمر رسوله الكريم : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } إن كلمة " اللهم " وحدها فيها عجب من العجائب اللغوية ، إن القرآن قد نزل باللسان العربي وأمة العرب فصيحة اللسان والبيان والبلاغة ، وشاء الحق أن يكون للفظ الجلالة " الله " خصوصية فريدة في اللغة العربية .
إن اللغة العربية تضع قاعدة واضحة وهي ألا يُنادي ما فيه ، أداة التعريف ، مثل " الرجل " ب " يا " فلا يقال : " يا رجل " بل يقال : " يأيها الرجل " لكن اللغة التي يسرها الله لعباده تخص لفظ الجلالة بالتقديس ، فيكون من حق العباد أن يقولوا : " يا الله " . وهذا اللفظ بجلاله له تميز حتى في نطقه .
ولنا أن نلحظ أن العرب من كفار قريش وهم أهل فصاحة لم يفطنوا إلى ذلك ، فكأن الله يرغم حتى الكافرين بأن يجعل للفظ الجلالة تميزا حتى في أفواه الكافرين فيقولون مع المؤمنين : " يا الله " . أما بقية الأسماء التي تسبقها أداة التعريف فلا يمكن أن تقول : " يا الرجل " أو " يا العباس " لكن لا بد أن تقول " يأيها الرجل " ، أو " يأيها العباس " ، ولا تقول حتى في نداء النبي : " يا النبي " ، وإنما تقول : " يأيها النبي " .
(1/909)

لكن عند التوجه بالنداء إلى الله فإننا نقول : " يا الله " ، إنها خصوصية يلفتنا لها الحق سبحانه بأنه وحده المخصوص بها ، وأيضا ما رأينا في لغة العرب عَلَماً دخلت عليه " التاء " كحرف القسم إلا الله ، فإننا نقول " تالله " ، ولم نجد أبدا من يقول " تزيد " أو " تعمرو " .
إننا لا نجد التاء كحرف قسم إلا في لفظ الجلاله ، ولا نجد أيضا علما من الأعلام في اللغة العربية تحذف منه " يا " في النداء وتستبدل بالميم إلا في لفظ الجلالة فنقول : " اللهم " كل ذلك ليدل على أن اللفظ في ذاته له خصوصية المسمى . " قل اللهم " وكأن حذف حرف النداء هنا يُعلمنا أن الله هو وحده المستدعى بدون حرف نداء . " اللهم " وفي بعض الألسنة يجمعون الياء والميم ، مثل قول الشاعر :
إني إذا ما حادث ألمَّا ... أقول ياللهم يا اللهمَّا
إنها خصوصية لصاحب الخصوصية الأعلى . { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } وقد يسأل إنسان لماذا لم يقل الحق : " ملك الملك "؟ هنا لا بد أن نعرف أنه سيأتي يوم لا تكون فيه أي ملكية لأي أحد إلا الله ، وهو المالك الوحيد ، فهو سبحانه يقول : { رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 15-16 ] .
إن قول الحق هنا : " مالك الملك " توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة والقادرة واضحة ، وجلية ، ومؤكدة ، ولو قال الله في وصف ذاته : " ملك الملك " لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله ، لا ، إنه الحق وحده مالك الملك . وما دام الله هو مالك الملك ، فإنه يهبه لمن يشاء ، وينزعه ممن يشاء . وهنا نلاحظ أن قول الحق : إنه مالك الملك يعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء تأتي بعد عملية المحاجّة ، وبعد أن تهرب بعض من أهل الكتاب من تطبيق حكم الله بعد أن دعوا إليه ، فتولى فريق منهم وأعرض عن حكم الله ، وعللوا ذلك بادعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات .
كل هذه خيارات من لطف الله وضعها أمام هؤلاء العباد ، خيارات بين اتباع حكم الله أو اتباع حكم الهوى ، لكنهم لم يختاروا إلا الاختيار السيء ، حكم الهوى . ولذلك يأتي الله بخبر اليوم الذي سوف يجيء ، ولن يكون لأحد أي قدرة ، أو اختيار .
(1/910)

إن حق الاختيار موجود لنا في هذه الدنيا ، وعلينا أن نحسن الاختيار في ضوء منهج الله .
ولنتأمل هذا المثل الذي حدثتنا عنه السيرة النبوية الطاهرة ، حينما جاءت غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها كل خصوم الدعوة ، واشتغل اليهود بالدس والوقيعة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر بمشورة سلمان الفارسي خندقا حول المدينة المنورة . ومعنى " الخندق " ، أي مساحة من الأرض يتم حفرها بما يعوق التقدم . وكان المقاتلون يعرفون أن الفرس يستطيع أن يقفز مسافة ما من الأمتار .
لقد حاول المؤمنون أثناء حفر الخندق أن يكون اتساع أكبر من قدرة الخيل ، ولننظر إلى دقة الإدارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن سلمان الفارسي قد اقترح أن يتم حفر الخندق ، وفيما يبدو أنه قد أخذ الفكرة من بيئته وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الفكرة وأقرها ، وفعلها المسلمون .
إذن فليس كل ما فعله الكفار كان مرفوضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل تطبيق كل الأعمال النافعة ، سواء أكان قد فعلها الكفار من قبل أم لا ، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن عملية الحفر مرهقة بسبب جمود الأرض وصخريتها في بعض المواقع ، لذلك وضع حصة قدرها أربعون ذراعا لكل عشرة من الصحابة ، وبذلك وزع الرسول الكريم العمل والمسئولية ، ولم يترك الأمر لكل جماعة خشية أن يتواكلوا على غيرهم .
وتوزيع المسئولية يعني أن كل جماعة تعرف القدر الواضح من العمل الذي تشارك به مع بقية الجماعات وقد يسأل سائل : ولماذا لم يوزع الرسول صلى الله عليه وسلم التكليف لكل واحد بمفرده؟ ونقول : إنها حكمة الإدارة والحزم هي التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرف على حقيقة واضحة ، وهي أن الذين يحفرون من الصحابة ليسوا متساوون في القدرة والمجهود ، لذلك أراد لكل ضعيف أن يكون مسنودا بتسعة من الصحابة .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل الأمر مشاعا ، بل كان هناك تحديد للمسئولية ، لكنه لم يجعل المسئولية مشخصة تشخيصا أوليا ومحددا بكل فرد ، وذلك حتى يساعد الأقوياء الضعيف من بينهم . لقد ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعيف بقوة إخوانه ، وساعة أن يوجد ضعيف بين عشرة من الإخوان يحملون عنه ويحفرون ، فإن موقفه من أصحابه يكون المحبة والألفة ، ويكون القوي قد أفاض على الضعيف .
وكان عمرو بن عوف ضمن عشرة منهم سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فلما جاءوا ليحفروا صادفتهم منطقة يقال عنها : " الكئود " ، ومعنى " الكئود " هي المنطقة التي تكون صلبة أثناء الحفر ، فالحافر إذا ما حفر الأرض قد يجد الأرض سهلة ويواصل الحفر ، أما إذا صادفته قطعة صلبة في الأرض فإنه لا يقدر عليها بمعوله لأنها صخرية صماء ، فيقال له : " أكدى الحافر " .
(1/911)

وعندما صادف عمرو بن عوف وسلمان الفارسي والمغيرة وغيرهم هذه الصخرة الكئود ، قالوا لسلمان : " اذهب فارفع أمرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم " . ومن هذا نتعلم درسا وهو أن المُكلّفَ مِنْ قِبَل مَنْ يكلفه بأمر إذا وجد شيئا يعوقه عن أداء المهمة فلا بد أن يعود إلى من كلفه بها .
وذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان إلى الموقع وأخذ المعول وجاء على الصخرة الكئود وضربها ، فحدث شرر أضاء من فرط قوة الاصطدام بين الحديد والصخرة ، فهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر فُتِحَتْ قصور بصرى بالشام ، ثم ضرب ضربة أخرى ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : الله أكبر فُتِحَتْ قصور الحمراء بالروم . وضرب ضربة ثالثة وقال : الله أكبر فُتِحَتْ قصور صنعاء في اليمن ، فكأنه حين ضرب الضربة أوضح الله له معالم الأماكن التي سوف يدخلها الإسلام فاتحا ومنتصرا ، فلما بلغ ذلك القول أعداء رسول الله صلى الله عليه قال الأعداء للصحابة : يمنيكم محمد بفتح قصور صنعاء في اليمين ، والحمراء في الروم ، وفتح قصور بصرى ، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا لنا للقتال فأنزل الله قوله : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ . . . } .
إن المسألة ليست عزما من هؤلاء المؤمنين ، إنما هي نية على قدر الوسع ، فإن فعلت أي فعل على النية بقدر الوسع فانتظر المدد من الممد الأعلى سبحانه وتعالى .
إن الله سبحانه هو الذي يعطي الملك ، وهو الإله الحق الذي ينزع ملك الكفر في كسرى والروم وصنعاء ، ويعطي سبحانه الملك لمحمد رسول الله وأصحابه ، وينزعه من قريش ، وينزع الملك من يهود المدينة حيث كانوا يريدون الملك .
إن قول الحق : { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } تجعلنا نتساءل : ما النزع؟ إنه القلع بشدة ، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك ، متشبثا به ، لماذا؟ لأن بعضا ممن يجلسون على كراسي السلطان ينظرون إليه كمغنم بلا تبعات فلا عرق ولا سهر ولا مشقة أو حرص على حقوق الناس ، إنهم يتناسون سؤال النفس " وماذا فعلت للناس "؟ إن الواحد من هؤلاء لا يلتفت إلى ضرورة رعاية حق الله في الخلق فيسهر على مصالح الناس ويتعب ويكد ويشقى ويحرص على حقوق الناس .
إننا ساعة نرى حاكما متكالبا على الحكم ، فلنعلم أن الحكم عنده مغنم ، لا مغرم . ولنر ماذا قال سيدنا عمر بن الخطاب عندما قالوا له : إن فقدناك - لا نفقدك - نولى عبد الله بن عمر ، وهو رجل قرقره الورع .
(1/912)

. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد رجل واحد ، لماذا؟ لأن الحكم في الإسلام مشقة وتعب .
لقد جاء الحق بالقول الحكيم : { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } وذلك لينبهنا إلى هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم وينزعهم الله منها ، إن المؤمن عندما ينظر إلى الدول في عنفوانها وحضاراتها وقوتها ونجد أن الملك فيها يسلب من الملك فيها على أهون سبب . لماذا؟ إنها إرادة الخالق الأعلى ، فعندما يريد فلا راد لقضائه .
إن الحق إما أن يأخذ الحكم من مثل هذا النوع من الحكام ، وإما أن يأخذه هو من الحكم ، ونحن نرى كل ملك وهو يوطن نفسه توطينا في الحكم ، بحيث يصعب على من يريد أن يخلعه منه أن يخلعه بسهولة ، لكن الله يقتلع هذا الملك حين يريد سبحانه .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } لأن ظواهر الكون لا تقتصر على من يملك فقط ، ولكن كل ملك حوله أناس هم " ملوك ظل " . ومعنى " ملوك الظل " أي هؤلاء الذين يتمتعون بنفوذ الملوك وإن لم يكونوا ظاهرين أمام الناس ، ومن هؤلاء يأتي معظم الشر . إنهم يستظلون ويستترون بسلطان الملك ، ويفعلون ما يشاءون ، أو يفعل الآخرون لهم ما يأمرون به ، وحين يُنزع الملك فلا شك أن المغلوب بالظالمين يعزه الله ، وأما الظالمون لأنفسهم فيذلهم الله؛ لذلك كان لا بد أن يجيء بعد { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } هذا القول الحق : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } . لماذا؟ لأن كل ملك يعيش حوله من يتمتع بجاهه ونفوذه ، فإذا ما انتهى سلطان هذا الملك ، ظهر هؤلاء المستمعون على السطح . وهذا نشاهده كل يوم وكل عصر . { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير } .
ونلاحظ هنا : أن إيتاء الملك في أعراف الناس خير . ونزع الملك في أعراف الناس شر . ولهؤلاء نقول : إن نزع الملك شر على من خُلِعَ منه ، ولكنه خير لمن أوتي الملك . وقد يكون خيرا لمن نزع منه الملك أيضا . لأن الله حين ينزع منه الملك ، أو ينزعه من الملك يخفف عليه مؤونة ظلمه فلو كان ذلك الملك المخلوع عاقلا ، لتقبل ذلك وقال : إن الله يريد أن يخلصني لنفسه لعلى أتوب . .
إذن فلو نظرت إلى الجزئيات في الأشخاص ، ونظرت إلى الكليات في العموم لوجدت أن ما يجري في كون الله من إيتاء الملك وما يتبعه من إعزاز ، ثم نزع الملك وما يتبعه من إذلال ، كل ذلك ظاهرة خير في الوجود ، لذلك قال الحق هنا : { بِيَدِكَ الخير } ولو دقق كل منا النظر إلى مجريات الأمور ، لوجد أن : الله هو الذي يؤتي ، والله هو الذي ينزع ، والله هو الذي يعز ، والله هو الذي يذل ، ولا بد أن يكون في كل ذلك صور للخير في الوجود ، فيقول : { بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
(1/913)

إن إيتاء الملك عملية تحتاج إلى تحضير بشرى وبأسباب بشرية ، وأحيانا يكون الوصول إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية ، أو السياسية ، وكذلك نزع الملك يحتاج إلى نفس الجهد .
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا المعنى فيقول : ليس ذلك بأمر صعب على قدرتي اللانهائية ، لأنني لا أتناول الأفعال بعلاج ، أو بعمل ، إنما أنا أقول : " كن " فتنفعل الأشياء لإرادتي ، ويأتي الحق بعد ذلك ليدلل بنواميس الكون وآيات الله في الوجود على صدق قضية { إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيقول وقوله الحق : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل . . . }
(1/914)

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
إن الحق يقول لنا : عندكم ظاهرة تختلف عليكم ، وهي الليل والنهار ، وظاهرة أخرى ، هي الحياة والموت . إن ظاهرة الليل والنهار كلنا نعرفها لأنها آية من الآيات العجيبة ، والحق يقول عنها : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } إن الحق لم يصنع النهار بكمية محدودة من الوقت متشابهة في كل مرة ، لا ، إنه سبحانه شاء لليل أن ينقص أحيانا عن النهار خمس ساعات ، وأحيانا يزيد النهار على الليل خمس ساعات .
ولنا أن نتساءل . . هل تنقص الخمس الساعات من الليل أو النهار مرة واحدة وفجأة هل يفاجئنا النهار بعد أن يكون اثنتي عشرة ساعة ليصبح سبع عشرة ساعة؟ هل يكون الليل مفاجئاً لنا في الطول أو القصر؟ لا ، إن المسألة تأتي تباعا ، بالدورة ، بحيث لا تحس ذلك ، إن هناك نوعا من الحركة اسمها الحركة الترسية . إننا عندما ننظر إلى الساعة في كل الزمن؟ لا ، إن كل ترس له زمن يتوقف فيه ، وعندما يتوقف فإننا ندفع به ليعيد دورته ، ويعمل ، وإذا دققنا النظر في عقرب الدقائق فإننا نستطيع أن نلحظ ذلك .
إذن هناك فترة توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقة إلى أخرى ، وهذا اللون من الحركة نسميه " حركة ترسية " ، وهناك حركة أخرى ثانية نسميها " حركة انسيابية " ، بحيث يكون كل جزء من الزمن له حركة ، كما يحدث الأمر في ظاهرة النمو بالنسبة للإنسان والنبات والحيوان .
إن الطفل الوليد لا يكبر من الصباح إلى المساء بشكل جزئي ، أو محسوس ، إنه يكبر بالفعل دون أن نلحظ ذلك ، وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول ، وهذا الملليمتر شائع في كل ذرات الثواني من النهار ، إن الطفل لا يظل على وزنه وطوله أربعا وعشرين ساعة من النهار ، ثم يكبر فجأة عند انتهاء اليوم ، لا ، إن نمو الطفل كل يوم يتم بطريقة تشيع فيها قدرة النمو في كل ذرات الثواني من النهار ، وهذه العملية تحتاج إلى الدقة المتناهية في توزيع جزيئات الحدث على جزيئات الزمان ، وهذه هي العظمة للقدرة الخالقة التي يظل الإنسان عاجزا عنها إلى الأبد .
وقد قلت لكم مرة : إن الواحد منكم إن نظر إلى ابنه الوليد ، وظل ناظراً له طوال العمر فلن يلحظ الإنسان منكم كبر ابنه على الإطلاق ، لكن عندما يغيب الإنسان عن ابنه شهرا أو شهورا ، ثم يعود ، هنا يرى في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب فيها عنه وقد أصبح واضحا . ولو زرع الإنسان نباتا ما ، وجلس ينظر إلى هذا النبات ، فهو لن يرى أبدا نمو هذا النبات لماذا؟ لأن الجزئيات تكبر دون قدرة على أن يلمس الإنسان طريقة نموها .
(1/915)

ولنا أن نعرف أن كل ما يكبر إنما يصغر أيضا ، ولا توجد عند الإنسان قدرة للملاحظة المباشرة لذلك ، وفي الحياة أمثلة أخرى ، نأخذ منها هذا المثل ، فعندما قام العلماء بتصوير الأرض من الأقمار الصناعية ، كانت الصور الأولى لمدينة نيويورك هي صورة لنقطة بسيطة ، وعندما قام العلماء بتكبير هذه الصورة ظهرت الجزئيات ، كالشوارع وغيرها ، أين كانت الشوارع في هذه النقطة الصغيرة؟ لقد صغرت الشوارع أثناء التصوير بصورة تستحيل معها على آلات الإدراك عند الإنسان أن تراها ، ولذلك فلا بد من التكبير لهذه الصورة حتى يمكن للإنسان أن يراها ، ونحن نرى الشيء البعيد صغيرا ، ولكما قربناه كبر في نظرنا .
إذن فقول الله : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } هو لفت للانتباه البشرى إلى أن الليل والنهار لا يفصل بينهما حد قاطع بنسبة متساوية لكل منهما ، لا ، إنه الحق بقدرته يدخل الليل في النهار ، ويدخل النهار في الليل . إن معنى " تُولج " هو " تُدخل " ، ومثال ذلك أن يؤذن المؤذن لصلاة المغرب في يوم ما عند الساعة الخامسة ، ويؤذن المؤذن لصلاة المغرب في أيام أخرى في الساعة السابعة . إن ذلك لا يحدث فجأة ، ولا يقفز المغرب من الخامسة إلى السابعة ، إنما يحدث ذلك بانسيابية ، ورتابة . ومن ذلك نتلقى الدرس والمثل .
إنك أيها العبد إن رأيت ملكا قائما على حضارة مؤصلة ، فاعلم أن هناك عوامل دقيقة لا تراها بالعين تنخر في هذا الملك إلى أن يأتي يوم ينتهي فيه هذا الملك . وهكذا تنهار الحضارات بعد أن تبلغ أوج الارتقاءات ، ويصل الناس فيها إلى استعدادات ضخمة وإمكانات هائلة ، وذلك لأن عوامل الانهيار تنخر داخل هذه الحضارات .
إن الحق بلفتنا إلى جلال قدرته وعظمة دقة صنعه ، بمثل الليل والنهار : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } . ثم يأتي لنا الحق الأعلى بمثل آخر ، فيقول : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } ، إنها القدرة المطلقة بدون أسباب .
والوقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض الله على بعض خلقه من اكتشاف لبعض أسراره في كونه ، لقد وصل العلم لمعرفة أن لكل شيء حياة خاصة ، فنرى أن ورقة النبات تحدث فيها تفاعلات ولها حياة خاصة ، ونرى أن الذرة فيها تفاعلات ولها حياة خاصة ، والتفاعل معناه الحركة ، والحياة كما تعرف مظهرها الحركة ، وغاية ما هناك أنه يوجد فرق في رؤية الحياة عند العامة ، ورؤية الحياة عند الخاصة . إن الإنسان العامى لا يعرف أن النطفة فيها حياة ، وأن الحبة فيها حياة ، ولا يعرف ذلك إلا الخاصة من أهل العلم .
إن العامة من الناس لا يعرفون أن الحبة توجد لها حياة مرئية ، ويكمن فيها نمو غير ظاهر ، ولا يعرف العامة أن هناك فرقا بين شيء حي ، وشيء قابل لأن يحيا .
(1/916)

ومثال ذلك نواة البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها النخلة ، إنها كنواة تظل مجرد نواة إلى أن يأخذها الإنسان ، ويضعها في بيئتها؛ لتخرج منها النخلة .
إذن فالنواة قابلة للحياة ، وعندما ننظر إلى ذرات التراب فإننا لا نستطيع أن نضعها في بيئة لنصنع منها شيئا ، ورغم ذلك فإن لذرة التراب حركة . ويقول العلماء : إن الحركة الموجودة في ذرات رأس عيدان علبة كبريت واحدة تكفي لإدارة قطار كهربائي بإمكانه أن يلف حول الكرة الأرضية عددا من السنوات .
إن هذه أمور يعرفها الخاصة ، ولا يعرفها العامة . فإن نظرنا إلى العامة عندما يسمعون القول الحق : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } كانوا يقولون : إن المثل على ذلك نواة البلح ، وكانوا يعرفون أن النخلة تنمو من النواة . ولكن الخاصة بحثوا واكتشفوا أن في داخل النواة حياة وعرفوا كيفية النمو . . وعرف العلماء أن لكل شيء في الوجود حياة مناسبة لمهمته . . فليست الحياة هي الحركة الظاهرة والنمو الواضح أمام العين فقط ، لا ، بل إن هناك حياة في كل شيء .
إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، أما الخاصة فيعرفون قدرة الله عن طريق معرفتهم أن كل شيء فيه حياة ، فالتراب الذي نضع فيه البذر لو أخذنا بعضا منه في مكان معزول ، فلن يخرج منه شيء ، هذا التراب هو ما يصفه العلماء بوصف " الميت في الدرجة الأولى " وأما النواة التي يمكن أن تأخذها وتضعها في هذا التراب ، فيصفها العلماء بأنها " الميت من الدرجة الثانية " .
وعندما ننقل الميت في الدرجة الأولى ليكون وسطا بيئيا للميت في الدرجة الثانية تظهر لنا نتائج تدلل على حياة كل من التراب والنواة معا ، وقد مس القرآن ذلك مسا دقيقا ، لأن القرآن حين يخاطب بأشياء قد تقف فيها العقول فإنه يتناولها التناول الذي تتقبلها به كل العقول ، فعقل الصفوة يتقبلها وعقل العامة يتقبلها أيضا ، لأن القرآن عندما يلمس أي أمر إنما يلمسه بلفظ جامع راق يتقبله الجميع ، ثم يكتشف العقل البشري نفاصيل جديدة في هذا الأمر .
إن القرآن على سبيل المثال لم يقل لنا : إن الذرة فيها حركة وحياة وفيها شحنات من لون معين من الطاقة ، ولكن القرآن تناول الذرة وغيرها من الأشياء بالبيان الإلهي القادر ، وخصوصا أن هذه الأشياء لم يترتب عليها خلاف في الحكم أو المنهج . فلو عرف الإنسان وقت نزول القرآن أن الذرة بها حياة فماذا الذي يزيد من الأحكام؟ ولو أن أحدا أثبت أن الذرة ليس بها حياة فما الذي ينقص من أحكام المنهج الإيماني؟ لم يكن الأمر من ناحية الأحكام ليزيد أو لينقص ، وعندما نأخذ القرآن مأخذ الواعين به ، ونفهم معطيات الألفاظ فإننا نجد أن كلمة " الحياة " لها ضد هو " الموت " ، وقد ترك الحق سبحانه كلمة " الموت " في بعض المواقع من الكتاب الكريم وأورد لنا كلمة أخرى هي " الهلاك " قال الحق سبحانه :
(1/917)

{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 42 ] .
إن " الهلاك " هنا هو مقابل الحياة ، لماذا لم يورد الحق كلمة " الموت " هنا؟ لانه الخالق الأعلم بعباده ، يعلم أن العباد قد يختلفون في مسألة " الموت " فبعض منهم يقول تعريفا للميت : إنه الذي لا توجد به حركة أو حس أو نمو ، ولكن هذا الميت له حياة مناسبة له ، كحياة الذرة أو حياة حبة الرمل ، أو حياة أي شيء ميت ، وهكذا عرفنا من الآية السابقة أن الحياة يقابلها الهلاك . ويقول الحق سبحانه عن الآخرة ليوضح لنا ما الذي سوف يحدث يوم القيامة : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .
لقد استثنى الحق الوجه أو الذات الإلهية ، وكل ما عداها هالك . وما دام كل شيء هالك فمعنى ذلك أن كل شيء كان حيا وإن لم ندرك له حياة . اذن فالحياة الحقيقية توجد في كل شيء بما يناسبه ، مرة تدركها أنت ، ومرة لا تدركها .
إذن فقوله الكريم : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } يجوز أن تأخذه مرة بالعرف العام ، أو تأخذه بالعرف الخاص ، أي عرف العلماء ، وما دام ذلك أمرا ظاهرا في الوجود كولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل ، أي أن الحق يدخل النهار في الليل ، ويدخل الليل في النهار . وفي اللغة يسمون بطانة الرجل - أي خاصة أصدقائه - " الوليجة " لماذا؟ لأنها تتداخل فيه ، لأنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له أو عددٍ من أصدقائه الذين يتداخلون معه .
لذلك جاء أمر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل بالوضوح الكامل ، وجاءت مسألة الحياة والموت بألفاظ يمكن أن يفهمها كل من العامة والخاصة . وإذا كانت تلك الظواهر هي بعض من قدرات الله فمن إذن يستكثر على الله قدرته في أنه يؤتي الملك من يشاء ، ويعز من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويذل من يشاء؟ لقد جاء الدليل من الآيات الكونية ، ونراه كل يوم رأي العين . { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك . . تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . إنك أنت يا الله ، الذي أجريت في كونك كل هذه المسائل وهي كلها أمور من الخير ، وإن بدا للبعض أن الخير فيها غير ظاهر .
(1/918)

إن الإنسان عندما يرى في ابنه شيئا يحتاج إلى علاج فإنه يسرع به إلى الطبيب ويرجوه أن يقوم بكل ما يلزم لشفاء الابن ، حتى ولو كان الأمر يتطلب التدخل الجراحي . إن الأب هنا يفعل الخير للابن ، والابن قد يتألم من العلاج ، فإذا كان هذا أمر المخلوق في علاقته بالمخلوق ، فما بالنا بالخالق الأكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء ، إيتاء ملك أو نزعه ، وإعزازا أو إذلالا ، فكل ذلك لا بد أن يكون من الخير ، وآيات الله تشهد بأن الله على كل شيء قدير لذلك يأتي بعد الآية السابقة قوله :
{ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 27 ]
فإذا كان هناك إنسان لم يفطن أبدا لمسألة إيلاج الليل في النهار أو إخراج الحي من الميت ، فإنه لا بد أن يلتفت إلى رزقه ، فكل واحد منا يتصل برزقه قهرا عنه ، ولذلك جاء الحق سبحانه بهذا الأمر الواضح : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وساعة تسمع كلمة " حساب " فإنك تعرف أن الحساب هو كما قلنا سابقا : يبين لك مالك وما عليك .
وعندما نتأمل قول الحق : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . فإننا نعلم أن " الحساب " يقتضي " محاسبا " - بكسر السين ويقتضي " محاسبا " - بفتح السين ويقتضي " محاسبا عليه " ، إن الحساب يقتضي تلك العناصر السابقة . فعندما يقول الحق : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فلنا أن نقول : ممن؟ ولمن؟ من أين يأتي الرزق؟ وإلى أين؟ إنه يأتي من الله ، ويذهب إلى ما يقدره الله لأن الله هو الرزّاق ، وهو الحق وحده ، وهو الذي لا يستطيع ولا يجرؤ أحد على حسابه ، فهو سبحانه الذي يحاسبنا جميعا ، لا شريك له ، وهو الفعال لما يريد .
إن الحساب يجريه الله على الناس ، وهو سبحانه لا يعطي الناس فقط على قدر حركتهم في الوجود ، بل يرزقهم أحيانا بما هو فوق حركتهم . وقد يرزقك الله من شيء لم يكن محسوبا عندك؛ لأن معنى الحساب هو ذلك الأمر التقديري الذي يخطط له الإنسان ، كالفلاح الذي يحسب عندما يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجا يساوي كذا إردبا أو قنطارا ، أو الصانع الذي يقدر لنفسه دخلا محددا من صنعته . هذا هو الحساب ، لكن الإنسان قد يلتفت فيجد أن عطاء الله له من غير حساب . وقد يحسب الإنسان مرة ولا يأتي له الرزق .
مثال ذلك : قالوا : إن دولة أعلنت أنها زرعت قمحا يكفي الدنيا كلها ، ولكن عندما نضج المحصول هبت عاصفة أهلكت الزرع ، وأكلت هذه الدولة قمحها من الخارج . فمن قالوا عن أنفسهم : إنهم سيطعمون الناس أطعمهم الناس .
(1/919)

أليس ذلك مصداقا لقول الحق : " من غير حساب "؟ إنه الحق سبحانه لا يحسب حركتك إيها الإنسان ليعطيك قدرها ، ولكنه قد يعطيك أحيانا فوق حركتك .
ونحن نرى إخوتنا الذين أفاض الله عليهم بثروة البترول ، لقد تفجر البترول من تحت أرجلهم دون جهد منهم إنه الله يريد أن يلفت الناس إلى قدرته جل وعلا ، وأن الأرزاق في يده هو . وننظر إلى الناس الذين يشيرون إلى منطقة البترول فيتهمون أهلها بالكسل ، ونجد ان الحق سبحانه وتعالى قد سخر لهم غير الكسالى ليخدموهم ، وعندما أفاء على المنطقة العربية بالبترول احتاجت لهم الدول التي تقول عن نفسها : أنها متقدمة ، إنه رزق بغير حساب .
إن هذه اللفتات إنما تؤكد للمؤمن طلاقة القدرة ، إن الحق قد خلق الأسباب ، ولم يترك الأسباب تتحكم وحدها ، وقد يترك الحق الأسباب للإنسان ليعمل بها ، وقد لا يعطيه منها ، ويعطي الحق الإنسان من جهة أخرى لم يحسب لها حسابا . والإنسان الذي يتأمل تقدير أموره أو أمور من يعرف يجد أن تلك القضية منتشرة في كل الخلق ، إنه سبحانه يرزق بغير حساب ، ولا يقول : " لقد فعلت على قدر يساوي كذا " ، والحق سبحانه يعطي بغير حساب من الإنسان ، لأن الموازنة التي قد يقوم بها الإنسان قد يأتي لها من الأسباب ما يخرقها .
إذن { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تعني قدرة الحق المطلقة على الرزق بغير حساب ولا توجد سلطة أعلى منه تقول له : لماذا فعلت؟ أو ماذا أعطيت؟ أو من غير حساب منه سبحانه لخلقه ، فيأتي الرزق على ما هو فوق أسباب الخلق ، أو من غير حساب للناس المرزوقين فيأتي رزقهم من حيث لم يقدروا ، فإذا كانت كل هذه الأمور لله ، وهو مالك الملك ويعطي من يشاء ، ويعز من يشاء ، ويولج الليل في النهار ، ويرزق من يشاء بغير حساب ، أليس من الحمق أن يذهب إنسان ليوالي من لا سلطان له ويترك هذا السلطان ، إن من يوالي غير الله هو الذي استبد به الغباء . ولنفطن لتلك القضية الإيمانية : إي فما دامت كل الأمور عندي فإياكم أن توالوا خصومى ، لأنني أنا الذي بيده كل شيء ، هاهوذا القول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 118 ] .
إنه الحق يأمرنا ألا نوالي إلا الله ، فإن كنت تجري حسابا لكل شيء وبتقدير مؤمن فلا توال إلا صاحب هذه الأشياء ، وإياك أن تعمد إلى عدو لهذه القوة القاهرة القادرة المستبده في كل امور الكون ونواميسه ، إياك أن تعمد الى أعداء الله لتتخذ منهم أولياء؛ لأنك لو فعلت تكون غير صائب التفكير .
(1/920)

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
أنت لا تتخذ الكافر وليا إلا إن بانت لك مظاهر القوة فيه ، ومظاهر الضعف فيك ، إنك عندما تتأمل معنى كلمة " ولي " . تجد أن معناها " معين " وحين تقول : " الله هو الولي " فإننا نستخدم الكلمة هنا على إطلاقها ، إن كلمة الولي تضاف إلى الله على إطلاقها ، وتضاف بالنسبية والمحدودية لخلق الله ، فالحق يقول : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] .
إن الله ولي على إطلاقه ، والحق يقول : { ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] .
إن المفرد لأولياء الله هو " ولي الله " ، فالمؤمن ولي الله ، والحق يقول : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } [ الكهف : 44 ] .
هكذا نلاحظ أن الولاية قد تضاف مرة إلى الله ، ومرة إلى خلق الله . إن الله ولي المؤمن ، وهذا أمر مفهوم ، وقد نتساءل : كيف يكون المؤمن ولي الله؟ إنا نستطيع أن نفهم هذا المعنى كما يلي : إن الله هو المعين للعباد المؤمنين فيكون الله ولي الذين آمنوا ، أي معينهم ومقويهم . وأولياء الله ، هم الذين ينصرون الله ، فينصرهم الله ، وهو - سبحانه - الحق الذي قال : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] .
ألم يكن الله قادرا أن ينتقم من الكفار مرة واحدة وينتهي من أمرهم؟ ولكن الحق سبحانه قال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] .
إن الحق لو قاتلهم فإن قتاله لهم سيكون أمرا خفيا ، وقد يقولون : إن هذه مسائل كونية في الوجود ، لذلك يأتي بالقتال للمؤمنين الذين استضعفهم الكافرون . إذن مرة تُطلق " الولي " ويراد بها " المعين " . ومرة أخرى تُطلق كلمة " الولي " ويراد بها " المعان " . لأنك إن كنت أنت ولي الله ، والله وليك فإنه الحق سبحانه " معين " لك وأنت " معان " .
إن الحق سبحانه يريد لمنهجه ان يسود بإيمان خلقه به ، وإلا لكان الحق سبحانه وتعالى قد استخدم طلاقة قدرته على إرغام الناس على أن يكونوا طائعين ، فلا أحد بقادر على أن يخرج عن قدرة الله ، والإنسان عليه أن يفكر تفكيرا واضحا ، ويعرف أن حياته بين قوسين : بين قوس ميلاده وقوس وفاته ولا يتحكم الإنسان في واحد من القوسين ، فلماذا يحاول التحكم في المسافة بين القوسين؟ إذن القواميس الكونية بيد الله وتسير كالساعة ، إنه سبحانه يقول : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] .
إن شيئا لم يخرج عن مراد الخالق الأعظم . إنما الحق سبحانه وتعالى أخذ هذه المسائل في حركة السماوات والأرض بقوة قهره وقدرة جبروته ، فلا شيء يخرج من يده ، أما بالنسبة للعباد فهو سبحانه يريد ان يأخذ قوما بحب قلوبهم .
(1/921)

إن الإيمان طريق متروك لاختيار الإنسان ، صحيح أن الحق قادر على أن يأتي بالناس مؤمنين ، ولكنه يريد أن يرى من يجيء إليه وهو مختار ألا يجيء .
إن تسخير الأشياء يظهر لنا صفة القدرة الكاملة لله ، واختيارات الإنسان هي التي تظهر صفة المحبوبية لله ، والله يريد لنا أن نرى قدرته ، ويريد منا أن نتجه إليه بالمحبوبية لذلك يقول الحق : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } لماذا؟ لأن الكافرين وإن تظاهروا أنهم أولياء لك أيها المؤمن ، فهم يحاولون أن يجعلوك تستنيم لهم ، وتطمئن إليهم وربما تسللوا بلطف ودقة ، فدخلوا عليك مدخل المودة ، وهم ليسوا صادقين في ذلك ، لأنهم ما داموا كافرين ، فليس هناك التقاء في الأصل بين الإيمان والكفر؛ لذلك يقول الحق : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } .
إن من يتخذ هؤلاء أولياء له ، فليس له نصيب من نصرة الله ، لماذا؟ لأنه اعتقد إن هؤلاء الكافرين قادرون على فعل شيء له . لذلك يحذرنا الله ويزيد المعنى وضوحا أي : إياكم أن تغتروا بقوة الكافرين وتتخذوا منهم أولياء . ولا تقل أيها المؤمن : " ماذا أفعل؟ " لأن الله لا يريد منك إلا أن تبذل ما تستطيع من جهد ، ولذلك قال سبحانه : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ الأنفال : 60 ] .
إن الحق لم يقل : " أعدوا لهم ما تغلبونهم به " ، ولكنه قال : { أَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم } . إن على المؤمن أن يعمل ما في استطاعته ، وأن يدع الباقي لله ، ولذلك فهناك قضية قد يقف فيها العقل ، ولكن الله يطمئننا؛ أي : لا تخافوا ولا تظنوا أن أعدادهم الكبيرة قادرة على أن تهزمكم ، ولا تسأل : " ماذا أفعل يا الله "؟ لقد علمنا الحق ألا نقول ذلك ، وعلمنا ما يحمينا من هذا الموقف لذلك قال : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] .
إذن فساعة يلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب فماذا يصنعون مهما كان عددهم أو عدتهم؟ أليس في ذلك نهاية للمسألة؟ إن الرعب هو جندي ضمن جنود الله ، ولذلك فعلى المؤمن ألا يوالي الكافرين من دون المؤمنين ، لماذا؟ حتى لا ينطبق عليه القول الحق : " وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ " ويضع الحق بعد ذلك الاستثناء : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير } .
(1/922)

إن الحق سبحانه وتعالى يعطي المنهج للإنسان وهو من خلقه سبحان ، ويعرف كل غرائزه ، وانفعالاته ، وفكره ، وفي أنه قد تأتي له ظروف أقوى من طاقته ، لذلك يعامل الحق الإنسان على أنه مخلوق محدود القدرات؛ وفي موضع آخر جاء الحق باستثناء آخر فقال : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] .
إن الحق يقول في هذا الموضع من سورة آل عمران : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ ، إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } .
" وتقاة " مأخوذة من " الوقاية " . إنهم قد يكونون أقوياء للغاية ، وقد لا يملك المؤمن بغلبه الظن في أن ينتصر عليهم؛ وهم الكافرون ، فلا مانع من أن يتقي المؤمن شرهم .
إن التقية رخصة من الله ، روى : أن مسيلمة الكذاب جاء برجلين من المسلمين وقال لواحد منهما : " أتشهد أن محمدا رسول الله "؟ قال المؤمن " نعم " : قال مسيلمة : " وتشهد أني رسول الله؟ " قال المؤمن : " نعم " . وأحضر مسيلمة المسلم الآخر وقال له : " أتشهد أن محمداً رسول الله؟ " قال المؤمن : " نعم " . قال مسيلمة : " أتشهد أني رسول الله؟ " قال المؤمن الثاني : " إني أصم " كيف رد عليه المؤمن بدعوى الصمم؟ لقد علم مسيلمة أنه يدعي الصمم ، لذلك أخذه وقلته ، فرفع الأمر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فماذا قال؟ قال صلى الله عليه وسلم : " أما المقتول . . فقد صدع بالحق فهنيئا له ، وأما الآخر فقد أخذ برخصة الله " . فالتقية رخصة ، والإفصاح بالحق فضيلة . .
وعمار بن ياسر أخذ بالرخصة وبلال بن رباح تمسك بالقرعة .
ولننظر إلى حكمة التشريع في هذا الأمر . إن كل مبدأ من مبادئ الخير جاء ليواجه ظاهرة من ظواهر الشر في الوجود ، وهذا المبدأ يحتاج إلى منهج يأتي من حكيم أعلى منه ، ويريد صلابة يقين ، وقوة عزيمة ، كما يريد تحمل منهج ، فالتحمل إنما يكون من أجل أن يبقى المنهج للناس ، والعزيمة من أجل أن يواجه المؤمن الخصوم ، فلو لم يشرع الله التقية بقوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] .
لكنا حقيقة سنحقق الفدائية التي تفدي مناهج الحق بالتضحية بالحياة رخيصة في سبيل الله ، ولكن هب ان كل مؤمن وقف هذا الموقف فمن يحمل علم الله إلى الآخرين؟ لذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى التقية من أجل أن يبقى من يحمل المنهج ، إنه يقرر لنا الفداء للعقيدة ، ويشرع لنا التقية من أجل بقاء العقيدة . لقد جاء الحق بالأمرين : أمر الوقوف في وجه الباطل بالاستشهاد في سبيل الحق ، وأمر التقية حماية لبعض الخلق حتى لا يضيع المنهج الحق لو جاء جبار ، واستأصل المؤمنين جميعا ، لذلك يشرع الحق ما يبقى للفداء قوما ، ويبقى للبقاء قوما ليحملوا منهج الله ، هل عرفنا الآن لماذا جاءت التقية؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد منهجا يعمر الأرض ، ويورث للأجيال المتتالية ، فلو أن الحق لم يشرع التقية بقوله :
(1/923)

{ مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] .
لثبتت الفدائية في العقيدة ، ولو ثبتت الفدائية وحدها لكان أمر المنهج عرضه لأن يزول ، ولا يرثه قوم آخرون ، لذلك شرع الله التقية ليظل أناس حول شمعة الإيمان ، يحتفظون بضوئها؛ لعل واحدا يأخذ بقبسها ، فيضيء بها نورا وهاجا . ولذلك ، فلا ولاية من مؤمن لقوم كافرين إلا أن يتقى منهم تقاة ، لماذا؟ لأن الله يحذرنا نفسه بقوله : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير } .
فإياك أن تقبل على السلوك الذي يضعه أمامك الكفار بانشراح صدر وتقول : أنا أقوم بالتقية ، بل لا بد أن تكون المسألة واضحة في نفسك ، وأن تعرف لماذا فعلت التقية ، هل فعلتها لتبقى منهج الخير في الوجود ، أو لغير ذلك؟ هل فعلتها حتى لا تجعل جنود الخير كلهم إلى فناء أو غير ذلك؟ إنك إن فعلت التقية بوعي واستبقيت نفسك لمهمة استبقاء المنهج الإيماني ، فأنت أهل الإيمان ، وعليك أن تعرف جيدا أن الحق قد قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير } . إنه الحق يقول للمؤمنين : إياكم أن تخلعوا على التقية أمرا هو مرغوب لنفوسكم ، لماذا؟ لأن الحق قد حددها : { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] .
فلا غاية إلا الله ، فإياكم أن تغشوا أنفسكم؛ لأنه لا غاية عند غيره؛ فالغاية كلها عنده وبعد ذلك يقول الحق : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله . . . }
(1/924)

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
لأن الإنسان قد يقوم بالتقية كظاهرة شكلية ، أما المؤمن فلا يفعل ذلك أبدا . لماذا؟ لأن التحذير واضح في هذه الآية . هنا قد يقول قائل : إن إخفاء ما في الصدر هو الذي يعلمه الله أما إبداء ما في الصدر فإنه قد علمه أحد غير الله ، فلماذا جاء هذا القول؟ لقد جاء هذا القول الحكيم ، لأنه قد يطرأ على بالك أن الله غيب فهو يعلم الغيب فقط ولا يعلم المشهد . لكن الله لا يحجبه مكان عن مكان أو زمان عن زمان . فإياك أن تعتقد ان الله غيب فلا يعرف إلا الغيب . إن الحق يعلم الغيب ويعلم ما برز إلى الوجود . وبعد ذلك يقول الحق : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً . . . }
(1/925)

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
إن العمل في ذاته ظاهرة تحدث وتنتهي ، فكيف يأتي الإنسان يوم القيامة ، ويجد عمله؟ إنه لا شك سوف يجد جزاء عمله ، إننا حتى الآن نقول ذلك ، لكن حين يفتح الله على بعض العقول فتكتشف أسرارا من أسرار الكون فقد يكون تفسير هذه الآية فوق ما نقول ، إنهم الآن يستطيعون تصوير شريط لعمل ما وبعد مدة يقول الإنسان للآخر : انظر ماذا فعلت وماذا قلت إن العمل المسجل بالشريط يكون حاضرا ومصورا ، فإذا كنا نحن البشر نستطيع أن نفعل ذلك بوسائلنا فماذا عن وسائل الحق سبحانه وتعالى؟ لا بد أنها تفوقنا قدرة ، إنه الحق يعلم كل شيء ، في الصدر ، أو في السماوات أو في الأرض : إن الحكم الإلهي يشمل الكون كله مصداقا لقول الحق : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
ويختم الحق هذه الآية بقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إنه القادر الذي يعلم عنا الغفلة ، فينبهنا دائما إلى كمال قدرته ، كما قال في آية قبلها : { إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ونحن مخلوقون لله ، وهو القادر الأعلى ، القادر على كل شيء ويأتي لكل منا بكتاب حسابه يوم الحساب : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] .
إذن فمن تقف في عقله هذه المسألة ، فليقل : { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } يعني أنه يجد جزاء عمله . أما ما عملته النفس من السوء فهي تود أن يكون بينه وبينها أمد بعيد ، أي غاية بعيدة ، ويقول الإنسان لنفسه : " يا ليتها ما جاءت " . والحق سبحانه يقول : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد } إن الحق سبحانه يكرر التحذير لنستحضر قوته المطلقة ، ولكنه أيضا رءوف بنا رحيم ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله . . . }
(1/926)

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
ولنا أن نعرف أن كل " قل " إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي من بعدها هو بلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه ، بلاغ للأمر وللمأمور به ، إن البعض ممن في قلوبهم زيغ يقولون : كان من الممكن أن يقول الرسول : { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } لهؤلاء نقول : لو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لكان قد أدى " المأمور به " ولم يؤد الأمر بتمامه . لماذا؟ لأن الأمر في " قل " . . والمأمور به { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل بلاغ عن الله بدأ ب " قل " إنما يبلغ " الأمر " ويبلغ " المأمور به " مما يدل على أنه مبلغ عن الله في كل ما بلغه من الله .
إن الذين يقولون : يحب أن تحذف " قل " من القرآن ، وبدلا من أن نقول : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } فلننطقها : " الله أحد " . لهؤلاء نقول : إنكم تريدون أن يكون الرسول قد أدى " المأمور به " ولم يؤد " الأمر " .
إن الحق يقول : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } هذه الآية تدل على ماذا؟ إنهم لا بد قد ادعوا أنهم يحبون الله ، ولكنهم لم يتبعوا الله فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنهم جعلوا الحب لله شيئا ، واتباع التكليف شيئا آخر ، والله سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد ، وإمداد ، وتلك نعمة ، ولله على خلقه فضل التكليف؛ لأن التكليف إن عاد على المُكَلّف " بفتح الكاف وتشديد اللام " ولم يعد منه شيء على المُكَلِّف بكسر الكاف فهذه نعمة من المكلِّف .
إن الحق سبحانه لا يحتاج إلى أحد ولا من أحد . إن الحق سبحانه عندما كلفنا إنما يريد لنا أن نتبع قانون صيانة حياة الإنسان . وقد ضربنا المثل - ولله المثل الاعلى ، بالآلة المصنوعة بأيدي البشر ، إن المهندس الذي صممها يضع لها قانون صيانة ما ، ويضع قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛ وهي تتلخص في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ، ويختار لهذه الآلة مكانا محددا ، وأسلوبا منظما للاستخدام .
إذن فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانه واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة ، هي لفائدة المنتفع بالصنعة . هذا في مجال الصنعة البشرية فما بالنا بصنعة الله عز وجل؟ إن لله إيجادا للإنسان ، ولله إمدادا للإنسان ، ولله تكليفا للإنسان ، والحق قد جعل التكليف في خدمة الإيجاد والإمداد . إن الحق لو لم يعطنا نظام حركة الحياة في " افعل " و " لا تفعل " لفسد علينا الإيجاد والإمداد ، إن من تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف ، وإن كان العبد قد عرف قدر الله فأحبه للإيجاد والإمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضا من ناحية قبول التكليف ، وأن يحب العبد ربه لأنه كلفة بالتكاليف الإيمانية .
(1/927)

إنك قد تحب الله ، ولكن عليك أن تلاحظ الفرق بين أن تحب أنت الله ، وأن يحبك الله . إن التكليف قد يبدو شاقا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك : لا يكفي أن تحب الله لنعمة إيجاده وإمداده؛ لأنك بذلك تكون أهملت نعمة تكلفيه التي تعود عليك بالخير ، إن نعمة التكليف تعود عليك بكل الخير عندما تؤديها أيها الإنسان ، فلا تهملها ، ومن الجائز أن تجد عبادا يحبون الله لأنه أوجدهم وأمدهم بكل أسباب الحياة ، ولكن حب الله لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته - سبحانه - في التكليف ، إن الله يحب العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف .
ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانا يحب إنسان آخر ، لا يبادله العاطفة ، والمتنبي قال :
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون حبيبا غير محبوب
إن المتنبي يستعيذ أن يحب واحدا لا يبادله الحب . فكأن الذين يدعون أنهم يحبون الله ، لأنهم عبيد إحسانه إيجادا وإمدادا ، ثم بعد ذلك يستنكفون ، أولا يقدرون على حمل نفوسهم على أداء التكليف لهؤلاء نقول : أنتم قد منعتم شطر الحب لله ، لأن الله لن يكلفكم لصالحه ولكنه كلفكم لصالحكم؛ لأن التكليف لا يقل عن الإيجاد والإمداد .
لماذا؟ لأن التكليف فيه صلاح الإيجاد والإمداد ، والحب - كما نعرف - هو ودادة القلب وعندما تقيس ودادة القلب بالنسبة لله ، فإننا نرى آثارها ، وعملها ، من عفو ، ورحمة ، ورضا .
وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى الله فإنها تكون في الطاعة . إن الحب الذي هو ودادة القلب يقدر عليه كل إنسان ، ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب ، وعلى الإنسان أن يبحث عن تكاليف الله ليقوم بها ، طاعة منه وحبا لله ، ليتلقى محبة الله له بآثارها ، من عفو ، ورحمة ، ورضا .
والحب المطلوب شرعا يختلف عن الحب بمفهومه الضيق ، أقول ذلك لنعلم جميعا ، أنه الحق سبحانه قائم بالقسط ، فلا يكلف شططا ولا يكلف فوق الوسع أو فوق الطاقة . إن الحب المراد لله في التكليف هو الحب العقلي ، ولا بد أن نفرق بين الحب العقلي والحب العاطفي ، العاطفي لا يفنن له . لا أقول لك : " عليك أن تحب فلانا حبا عاطفيا " لأن ذلك الحب العاطفي لا قانون له . إن الإنسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل الذكاء أو صاحب عاهة ، يحبه بعاطفته ، ويكره قليل الذكاء بعقله .
والإنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه ، وهو متفوق ، فإنه يحب ابن الجار أو ابن العدو بعقله ، لكنه لا يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته ، ودليل ذلك أن الإنسان عندما توجد لديه أشياء جميلة فإنه يعطيها لابنه لا لابن الجيران ، هناك - إذن - فرق بن حب العقل ، وحب العاطفة .
(1/928)

والتكليف دائما يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل ، ومع حب العقل قد يسأل الإنسان نفسه : ماذا تكون حياتي وكيف . . لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا وكيف ، لولا رحمة الله بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟ إن هذا حديث العقل وحب العقل .
وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضا ، لكن المكلف به هو حب العقل ، وليس الحب العاطفي ، ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " .
وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال : أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني أحبك أكثر من مالي ، أو من ولدي ، إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء . وهكذا نرى صدق الأداء الإيماني من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا ، وثالثا ، فعرف سيدنا عمر أنه قد أصبحت تكليفا وعرف أنها لا بد أن تكون من الحب المقدور عليه ، وهو حب العقل ، وليس حب العاطفة . وهنا قال عمر : " الآن يارسول الله؟ " فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " الآن يا عمر ، أي كمل إيمانك الآن ، أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو الحب العقلي .
ونريد هنا أن نضرب مثلا حتى لا تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول - نقول - ولله المثل الأعلى : إن الإنسان ينظر إلى الدواء المر طعما ويسأل نفسه هل أحبه أو لا؟ إن الإنسان يحب هذا الدواء بعقله ، لا بعاطفته .
إذن فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه ، وعندما تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك إذاً فالمطلوب للتكليف الإيماني " الحب العقلي " ، وبعد ذلك يتسامى ليكون " حبا عاطفيا " وهكذا يكون قول الحق : { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } وهذا الحب ليس دعوى . إن الإنسان منا عندما يدعى أنه يحب إنسانا آخر ، فكل ما يتصل به يكون محبوبا ، ألم يقل الشاعر : " وكل ما يفعل المحبوب محبوب "؟ فإن كنتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوه بتنفيذ التكاليف الإيمانية ، ولنلتفت إلى الفرق بين " اتبعني " و " استمع لي " .
(1/929)

إن الاتباع لا يكون إلا في السلوك ، فإن كانت تحب رسول الله فعليك أن ترى ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تفعل مثله ، أما إذا كنت تدعى هذا الحب ، ولا تفعل مثلما فعل رسول الله صلى فهذا عدم صدق في الحب ، إن دليل صدقكم في الحب المدعى منكم أن تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن اتبعنا رسول الله نكون قد أخذنا التكليف من الله على أنه نعمة ، ونقلبها من الله مع ما فيها من مشقة علينا ، فيحبنا الله؛ لأننا آثرنا تكليفه على المشقة في التكليف .
إن فهم هذه الآية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا : أنتم أحببتم الله للإيجاد والإمداد ، وبعد ذلك وقفتم في التكليف لأنه ثقيل عليكم ، وهنا نقول : " انظروا إلى التكليف أهو لصالح من كلف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟ " . إنه لصالح المكلَّف أي الذي تلقى التكاليف .
وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم ، فتصبح النعم هي " نعم الإيجاد " ، و " الإمداد " ، و " التكليف " ، فإن أحببت الله للإيجاد والإمداد ، فهذا يقتضي أن تحبه أيضا للتكليف ، ودليل صدق الحب هو قيام العبد بالتكليف ، وما دمت أنت قد عبرت عن صدق عواطفك بحبك لله ، فلا بد أن يحبك الله ، وكل منا يعرف أن حبه لله لا يقدم ولا يؤخر ، لكن حب الله لك يقدم ويؤخر .
إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول الله ليقول لهم : { فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله جاء بكل ما أنزله الله ولم يكتم شيئا مما أُمِرَ بتبليغه ، فلا يستقيم أن يضع أحد تفريقا بين رسول الله وبين الله ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله كل ما أنزل عليه .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } إن مسألة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } هذه تتضمن ما تسميه القوانين البشرية بالأثر الرجعي ، فمن لم يكن في باله هذا الأمر؛ وهو حب الله ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعليه أن يعرف أن عليه مسئولية أن يبدأ في هذه المسألة فورا ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وينفذ التكليف الإيماني ، وسيغفر له الله ما قد سبق ، وأي ذنوب يغفرها الله هنا؟ إنها الذنوب التي فر منها بعض العباد عن اتباع الرسول ، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكم فيها .
وهكذا نعرف ونتيقن أن عدالة الله أنه سبحانه لن يعاقب أحدا على ذنب سابق ما دام قد قبل العبد أن ينفذ التكليف الإيماني ، إن الذين أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجب عليهم أن يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم ، إن هذا الأمر لا يكون حجة إلا بعد أن صار بلاغا ، وقد جاء البلاغ ، ولذلك يغفر الله الذنوب السابقة على البلاغ ، وبعد ذلك يقول الحق : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إننا نعلم أن المغفرة من الله والرحمة منه أيضا ، وبعد ذلك يقول الحق : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول . . . }
(1/930)

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
وقد قلت من قبل في مسألة الأمر بالطاعة ، إنها جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة ألوان : فمرة يقول الحق : { أَطِيعُواْ الله والرسول } . كما جاء بهذه الآية التي نحن بصدد تناولها بخواطرنا الإيمانية . ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه لم يكرر أمر الطاعة ، بل جعل الأمر واحدا ، هو " أطيعوا " ، فإذا سألنا من المطاع؟ تكون الإجابة . الله والرسول معا .
إذن فقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلاغا عن الله { فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } يعني أن طاعة المؤمنين للرسول من طاعة الله . إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا بطاعته ، ولكنه يأمرنا بطاعة الله ، ولذلك لم يكرر الحق أمر الطاعة ، إنّ الحق هنا يوحد أمر الطاعة فيجعلها لله وللرسول معا ، إنه يعطف على المطاع الأول وهو الله بمطاع ثانٍ هو الرسول صلى الله عليه وسلم . ويقول الحق في كتابه العزيز : { قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } [ النور : 54 ] .
إن الحق يورد أمر الطاعة ثلاث مرات ، فمرة يكون أمر الطاعة لله ، ومرة ثانية يكون أمر الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، ومرة ثالثة يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] .
فما مسألة هذه الأوامر بالطاعة؟ إنها طاعة بألوان التكليف وأنواعها ، إن الأحكام المطلوب من المؤمنين أن يطيعوا فيها ، مرة يكون الأمر من الله قد جاء بها وأن يكون الرسول قد أكدها بقوله وسلوكه ، إن المؤمن حين يطيع في هذا الأمر الواحد ، فهو يطيع الله والرسول معاً ، ومرة يأتي حكم من الله إجمالا ، ويأتي الرسول ليفصله . { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ النور : 56 ] .
إن الواحد منا لم يكن يعرف كم صلاة في اليوم ، ولا عدد الركعات في كل صلاة ، ولا نعرف كيفيتها لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فصل لنا الأمر في كل صلاة ، إذن ، فالمؤمن يطيع الله في الإجمال ، ويطيع الرسول في التفصيل . إن علينا أن نلتفت إلى أن هنا طاعتين : الأولى : طاعة الله ، والثانية : طاعة الرسول ، أما في الأمر المتحد ، فتكون الطاعة لله والرسول؛ لأنه أمر واحد . وأما الأمر الذي جاء من الله فيه تكليف إجمالي فقد ترك الله للرسول صلى الله عليه وسلم بيانه ، فالمؤمن يطيع الله في الأمر الإجمالي كأمر الصلاة ، وإقامتها ، ويطيع الرسول في تفصيل أمر الصلاة؛ وكيفيتها ، وأحيانا يجيء الحكم بالتفويض الأعلى من الله للرسول ، فيقول الله لرسوله ما معناه إنك أنت الذي تقرر في هذه الأمور ، كما قال الحق :
(1/931)

{ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
لقد ترك الحق سبحانه للرسول أن يصدر التشريعات اللازمة " لاستقامة حياة المؤمنين " لقد أعطاه الحق سبحانه التفويض العام ، وما دام سبحانه قد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم التفويض العام فإن طاعة المؤمن تكون للرسول فيما يقوله الرسول وإن لم يقل الله به . إننا على سبيل المثال لا نجد في القرآن دليلا على أن صلاة الفجر ركعتان ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فصل لنا الصلاة فعرفنا أن الفجر ركعتان ، والظهر أربع ركعات ، والعصر مثل الظهر ، والمغرب ثلاث ركعات ، والعشاء أربع ركعات . إن الدليل هو تفصيل الرسول ، وقول الحق : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
إنه دليل من القرآن الكريم . هكذا نعرف أن الأمر بالطاعة جاء بالقرآن على ألوان ثلاثة : اللون الأول : إن اتحد المطاع " الله والرسول " إن عطف الرسول هنا يكون على لفظ الجلالة الأعلى . اللون الثاني : هو طاعة الله في الأمر الإجمالي وطاعة الرسول في تفصيل هذا الأمر ، فإن الحق يقول { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } اللون الثالث : وهو الذي لم يكن لله فيه حكم ، ولكنه بالتفويض العام للرسول ، بحكم قوله الحق : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } هذه طاعة للرسول ، ثم يأتي في أمر طاعة أولى الأمر فيقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] .
إن الحق لم يورد طاعة أولي الأمر مندمجة في طاعة الله والرسول ، لتكون طاعة واحدة . لا . إن الحق أورد طاعة أولي الأمر في الآية التي يفرق فيها بين طاعة الله وطاعة الرسول ، ثم من بطن طاعة الرسول تكون طاعة أولي الأمر . لماذا؟ لأنه لا توجد طاعة ذاتية لأولي الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم له الطاعة الذاتية . أما طاعة أولي الأمر فهي مستمدة من طاعة أولي الأمر لله ورسوله ، ولا طاعة لأولي الأمر فيما لم يكن فيه طاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم .
إن الحق يقول : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } . إن الله يبلغ الرسول أن يبلغ هؤلاء الذين قالوا : إنهم يحبون الله ، بالشروط التي يمكن أن يبادل بها الحق عباده الحب ، وذلك حتى تتحقق الفائدة للبشر ، لأن محبة الله تفوق ما يقدمه البشر من حب . إن اتباع الرسول وتنفيذ التكليف بالطاعة لله والرسول .
ذلك هو أسلوب تعبير العباد عن حبهم لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ، أما إن تولوا ، أي لم يستمعوا إليك يا محمد ، ولم يتبعوك ، فإن موقفهم - والعياذ بالله - ينتقل إلى الكفر؛ لأن الحق يقول عن الذين يتولون عن الله والرسول : { فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } .
(1/932)

وليس هناك تفظيع أكثر من هذا .
إن كلمة " تولوا " توحي بأن الذين استمعوا إلى أوامر الحق قد نفروا وأعرضوا ، فهم لم يأخذوا حكم الله ، ثم منعهم الكسل من تنفيذه . لا . إنهم أعرضوا عن حكم الله - والعياذ بالله - ولذلك فقد قلت وما زلت أقول : فليحذر الذين يخالفون عن أوامر الله ألا يفرقوا بين أمر متقبل على أنه الحكم الحق وبين حمل النفس على اتباع الحكم وتنفيذه .
إياك أيها المسلم أن تنكر حكما لا تستطيع أن تحمل نفسك عليه أو لا تقدر عليه . إنك إن أنكرت تنقل نفسك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر والعياذ بالله . ولكن عليك أن تؤمن بالحكم ، وقل : " إنه حكم الله وهو صواب ولكني لا أستطيع أن أقدر على نفسي " إن ذلك يجعل عدم تنفيذ الحكم معصية فقط . ويأتي الحق - سبحانه - بعد أن بيّن لنا أصول العقائد في قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } [ آل عمران : 18 ] .
وبعد أن بشر الحق المؤمنين بأنه سبحانه وتعالى يعطيهم الملك الإيماني وأنه الإله القادر ، وطلاقة قدرته تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ، وبعد أن رسم سبحانه طريق محبته ، فإن كنتم قد أحببتم الله للإيجاد والإمداد ، وتريدون أن يحبكم فعليكم بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم في تنفيذ التكاليف .
وبعد أن وضع الله سبحانه وتعالى المبادئ الإيمانية عقدية وتشريعية ، بعد هذا و ذاك يعطي لنا نماذج تطبيقية من سلوك الخلق ، ذلك أن هناك فرقا بين أن توضع نظريات ويأتي الأمر للتطبيق فلا تجد من يطبق ، إن الحق لم يكلف شططا ولا عبثا ، إن الله يقول لنا : أنا كلفت بالتكاليف الإيمانية ومن الخلق أمثالكم من استطاع أن يسير عليها وأن ينفذها ، لذلك يعرض الحق لنا النماذج التي توضح ذلك .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى أمة أمية ، وكان الإسلام جديدا عليهم ، ولذلك يعرض الحق نماذج قديمة ، وهذه النماذج تؤكد لنا أننا في دين الإسلام لا نجد تعصبا ، لأن الدين الذي جاء من الله على آدم عليه السلام هو الدين الذي جاء به إبراهيم عليه السلام من عند الله وهو الدين الذي نزل إلى آل عمران وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام .
إن الحق يعطي صفات التكريم لأهل أديان منسوبين إلى ما أنزله الله عليهم من منهج . وجاء الإسلام لينسخ بعضا مما جاء في تلك الرسالات السابقة ويضعها في منهج واحد باق إلى يوم القيامة ، هو منهج الإسلام ، إنه مطلق العظمة . ها هو ذا الحق يقول : { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين }
(1/933)

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
إنها عدالة القرآن الكريم ، إنه الحق العادل الذي ينزل على الرسول بلاغا يذكر الأبناء بطهارة أصول الآباء ، ومن الخسارة أن يصير الأبناء إلى ما هم عليه . { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ } وكلمة { اصطفى } تدل على اختيار مُرضٍ . ولنا أن نسأل : هل اصطفى الحق هؤلاء الرسل ، آدم ونوحاً ، وآل إبراهيم ، وآل عمران فكانوا طائعين ، أم علم الحق أزلا أنهم يكونون طائعين فاصطفاهم؟ إن الحق علمه أزلى ، وعلمه ليس مرتبا على كل شيء . وساعة أن تأتي أنت بقانونك البشرى وتتفرس في إنسان ما ، وتوليه أمرا ، وينجح فيه ، هنا تهنئ نفسك بأن فراستك كانت في محلها ، بعلم الله واقتداره؟
إن الذين اصطفاهم الله هم الذين علم الله أزلا أنهم سيكونون طائعين ، وقد يقول قائل : إنهم طائعون لله بالاصطفاء ، لمثل هذا القائل نرد : إنهم طائعون بالنفس العامة ويكونون في مزيد من الطاعة بعد أن يأخذوا التكليف بالنفس الخاصة ، إنهم طائعون من قبل أن يأخذوا أمور التكليف ، ولو تركهم الحق للأمور العقلية لاهتدوا إلى طاعته ، وعندما جاءهم الأمر التكليفي ويصطفيهم الله يكونون رسلا وحملة منهج سماوي .
عندما يسمع الإنسان قول الحق : { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ } فقد يتساءل عن معناها ، ذلك أن من اصطفاء الله لآدم تأتي إلى الذهن بمعنى " خصه " بنفسه أو أخذه صفوة من غيره ، فكيف كان اصطفاء آدم ، ولم يكن هناك أحد من قبله ، أو معه لأنه الخلق الأول؟ إننا يمكن أن نعرف بالعقل العادي أن اصطفاء الله لنوح عليه السلام؛ كان اصطفاء من بشر موجودين ، وكذلك اصطفاء إبراهيم خليل الرحمن وبقية الأنبياء .
إذن ، فكيف كان اصطفاء آدم؟ إن معنى { اصطفى ءَادَمَ } - كما قلنا - تعني أن الله قد اختاره أو أن " المصطفى عليه " يأتي منه ومن ذريته . نعم وقد جاء المصطفى عليه من ذريته ، وهذا المعنى يصلح ، والمعنى السابق عليه يصلح أيضا . إن الحق يقول : { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً } ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً عليه السلام واجه جماعة من الكافرين به ، فأغرقهم الله في الطوفان ، ونجا نوح ومن معه بأمر الله . { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .
إن الذين بقوا من بعد نوح عليه السلام كانوا مؤمنين ، ثم تعرضوا للأغيار . وجاءت هذه الأغيار في أعقابهم ، فنشأ كفر وإيمان ، لماذا؟ لأن آدم عليه السلام حين خلقه الله وضع له التجربة التكليفية في الجنة ، كان من الواجب أن ينقل ما علمه له الله لأبنائه .
لقد نقل آدم لهم مسائل صيانة مادتهم وعلمهم كيف يأكلون ، وكيف يشربون ، وغير ذلك .
(1/934)

وكان يجب أن تكون معهم القيم . إن آدم عليه السلام قد أدى ذلك ، وعلم أبناءه كيفية صيانة مادتهم وعلمهم القيم أيضا ، ولكن بمرور الزمان ، ظل بعض من أبناء آدم يتخففون من التكاليف حتى اندثرت وذهبت . ومن رحمة الله بخلقه يجدد سبحانه وتعالى الرسالة ببعث رسول جديد .
والرسالة الجديدة تعطي ما كان موجودا أولا ، فيما يتعلق بالعقائد والأخبار ، والأشياء التي لا تتغير ، وتأتي الرسالة الجديدة بالأحكام المناسبة لزمن الرسالة . فإذا ما أمكن للبشر أن يعدلوا من سياسة البشر ، يظل الأمر كما هو ، فإن ارتكب واحد منكرا وضرب قومه على يده ، استقام أمر الرسالة وبقيت هذه الأمة على الخير . لماذا؟ لأن مصافى اليقين في النفس الإنسانية موجودة ، ونحن نراها ونلمسها . إن هناك واحدا تجد مصافي اليقين في ذاته ، وقد لا يقدر على نفسه ، فيرتكب المعصية ، وتلومه نفسه ، فيرجع عن المعصية .
ومرة أخرى نجد إنسانا آخر لا يجد في نفسه مصافى اليقين ، ولكنها موجودة في غيره ، فنجد من يأمره بالمعروف ، وينهاه عن المنكر ، فإذا امتنعت المصافي الذاتية للإيمان ، وكذلك امتنعت المصافي الإيمانية في المجتمع ، فلا أمل هنالك ، لذلك يجب أن يأتي رسول جديد ، وينبه الناس بمعجزة ما .
لقد شاءت إرادة الحق سبحانه ألا يأتي رسول آخر بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك شهادة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن الله أمنها على منهج الله ، فإذا مُنِعت من أي نفس مصافيها الذاتية فستبقى مصافيها الاجتماعية ، ولا بد أن يكون في أمة محمد ذلك؛ لأن امتناع ذلك كان يستدعي وجود نبيّ جديد .
إن الله أمن أمة محمد على منهجه ، ولذلك لم يأت نبيّ بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد أمن الحق أمة محمد فلم يمنع فيها أبدا المصافي الذاتية أو الاجتماعية ، ولذلك يأتي القول الحق : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } [ آل عمران : 110 ] .
إن هذا توجيه لنا من الحق لنعرف أن المصافي الاجتماعية ستظل موجودة في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذن فبعد حدوث الغفلة من بعد نوح عليه السلام جاء الله باصطفاءات أخرى رحمة منه بالعالمين ، ويقول الحق : { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين } . ونحن نقول على إبراهيم عليه السلام : " أبو الأنبياء " وأورد الحق نبأ بعض من أبناء آل إبراهيم ، وهم آل عمران وأعطاهم ميزة .
وكلمة " عمران " هذه حين ترد في الإسلام فلنا أن نعرف أن هناك اثنين لهما الاسم نفسه ، هناك " عمران " والد موسى وهارون عليهما السلام . وهناك " عمران " آخر . إن عمران والد موسى وهارون كان اسم أبيه " يصهر " وجده اسمه " فاهاث " ومن بعده " لاوى " ومن بعده " يعقوب " ، ومن بعده " إسحق " ، وبعده " إبراهيم " ، أما عمران الآخر ، فهو والد مريم عليها السلام .
(1/935)

وقد حدث إشكال عند عدد من الدارسين هو " أي العمرانين يقصده الله هنا؟ " والذي زاد من حيرة هؤلاء العلماء هو وجود أخت لموسى وهارون عليهما السلام اسمها مريم ، وكانت ابنة عمران والد موسى وهارون فكلتاهما اسمها مريم بنت عمران . وكانوا في ذلك الزمن يتفاءلون باسم " مريم " لأن معناه " العابدة " ، ولما اختلفوا لم يفطنوا إلى أن القرآن قد أبان وأوضح المعنى ، وكان يجب أن يفهموا أن المقصود هنا ليس عمران والد موسى وهارون عليهما السلام ، بل عمران والد مريم ، ومنها عيسى عليه السلام ، وعمران والد مريم هو ابن ماثان ، وهو من نسل سليمان ، وسليمان من داود ، وداود من أوشى ، وأوشى من يهوذا ، ويهوذا من يعقوب ، ويعقوب من إسحق .
وكنا قديما أيام طلب العلم نضع لها ضبطا بالحرف ، فنقول " عمعم سدئيّا " ومعناها . . عيسى ابن مريم ، ومريم بنت عمران ، وعمران ابن ماثان ، وماثان من سليمان ، من داود من أوشى وأوشى من يهوذا ويهوذا من يعقوب ويعقوب من إسحاق . لقد التبس الأمر على الكثير وقالوا : أي العمرانين الذي يقول الله في حقه هذا القول الكريم؟ ولهؤلاء نقول : إن مجيء اسم مريم عليها السلام من بعد ذلك يعني أنه عمران والد مريم ، وأيضا يجب أن نفطن إلى أن الحق قد قال عن مريم : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] .
وزكريا عليه السلام هو ابن آذن ، وآذن كان معاصرا لماثان . إن المراد هنا هو عمران والد مريم . هكذا حددنا أي العمرانين يقصد الحق بقوله : { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين } . وعندما تقول : اصطفيت كذا على كذا ، فمعنى ذلك أنه كان من الممكن أن تصطفى واحدا من مجموعة على الآخرين ، ولذلك نفهم المقصود ب " على العالمين " أي على عالمي زمانهم ، إنهم قوم موجودون وقد اصطفى منهم واحدا ، أما الذي سيولد من بعد ذلك فلا اصطفاء عليه ، فلا اصطفاء على محمد صلى الله عليه وسلم . ويقول الحق بعد ذلك : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(1/936)

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
وحين يقول : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } فلنا أن نسأل : هل المقصود بذلك الأنساب أم الدين والقيم؟ ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه السلام أن الأنساب بالدم واللحم عند الأنبياء لا اعتبار لها ، وإنما الأنساب المعترف بها بالنسبة للأنبياء هي أنساب القيم والدين . وكنا قد عرضنا من قبل لما قاله الحق : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } [ البقرة : 124 ] .
فردها الله عليه قائلا : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
لماذا؟ لأن الإمام هو المقتدى في الهدايات . إذن فالمسألة ليست وراثة بالدم . وهكذا علم سيدنا إبراهيم ذلك بأن النسب للأنبياء ليس بوراثة الدم ، إذن فنحن نفهم قول الحق : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } على أنها ذرية في توارثها للقيم . ونحن نسمع في القرآن : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ التوبة : 67 ] .
إن هذا النفاق ليس أمرا يتعلق بالنسب وإنما يتعلق بالقيم ، إنها كلها أمور قيمية ، وحين يقال : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي أن الله يعرف الأقوال وكذلك الأفعال والخبايا . وبعد ذلك يقول الحق : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً . . . }
(1/937)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
وعندما تقرأ " إذ " فلتعلم أنها ظرف ويُقدر لها في اللغة " اذكر " ، ويقال " إذ جئتك " أي " اذكر أني جئتك " . وعندما يقول الحق : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ } فبعض الناس من أهل الفتح والفهم يرون أن الحق سبحانه سميع عليم وقت أن قالت امرأة عمران : " رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي " ، وهم يحاولون أن يربطوا هذه الآية بما جاء قبلها ، بأن الله سميع وعليم . ونقف عند قول امرأة عمران : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } .
إننا عندما نسمع كلمة " مُحَرَّراً " فمعناها أنه غير مملوك لأحد فإذا قلنا : " حررت العبد " يعني ينصرف دون قيد عليه . أو " حررت الكتاب " أصلحت ما فيه . إن تحرير أي أمر ، هو إصلاح ما فيه من فساد أو إطلاقه من أي ارتباط أو قيد . أما قولها : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } هو مناجاة لله ، فما الدافع إلى هذه المناجاة لله؟
إن امرأة عمران موجودة في بيئة ترى الناس تعتز بأولادها ، وأولاد الناس - كما نعلم - يحكمون حركة الناس ، والناس تحكم حركة أولادهم ، ويكد الناس من أجل أن يكون الأبناء عزوة ، وقرة عين ، ويتقدم المجتمع بذلك التواصل المادي ، ولم تعجب امرأة عمران بذلك ، لقد أرادت ما في بطنها محررا من كل ذلك ، إنها تريده محررا منها ، وهي محررة منه . وهذا يعني أنها ترغب في أن يكون ما في بطنها غير مرتبط بشيء أو بحب أو برعاية .
لماذا؟ لأن الإنسان مهما وصل إلى مرتبة اليقين ، فإن المسائل التي تتصل بالناس وبه ، تمر عليه ، وتشغله ، لذلك أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها محررا من كل ذلك ، وقد يقال : إن امرأة عمران إنما تتحكم بهذا النذر في ذات إنسانية كذاتها ، ونرد على ذلك بما يلي :
لقد كانوا قديما عندما ينذرون ابنا للبيت المقدس فهذا النذر يستمر ما دامت لهم الولاية عليه ، ويظل كما أرادوا إلى أن يبلغ سن الرشد ، وعند بلوغ سن الرشد فإن للابن أن يختار بين أن يظل كما أراد والداه أو أن يحيا حياته كما يريد .
إن بلوغ سن الرشد هو اعتراف بذاتية الإنسان في اتخاذ القرار المناسب لحياته . كانت امرأة عمران لا تريد مما في بطنها أن يكون قرة عين ، أو أن يكون معها ، إنها تريده محررا لخدمة البيت المقدس ، وكان يستلزم ذلك في التصور البشري أن يكون المولود ذكرا؛ لأن الذي كان يقوم بخدمة البيت هم الذكران .
ونحن نعرف أن كلمة " الولد " يطلق أيضا على البنت ، ولكن الاستعمال الشائع ، هو أن يطلق الناس كلمة " ولد " على الذكر .
(1/938)

لكن معنى الولد لغويا هو المولود سواء أكان ذكرا أم أنثى . وعندما نسمع كلمة " نذر " فلنفهم أنها أمر أريد به الطاعة فوق تكليف المكلف من جنس ما كلّفه به الله .
إن الله قد فرض علينا خمس صلوات ، فإذا نذر إنسان أن يصلي عددا من الركعات فوق ذلك ، فإن الإنسان يكون قد ألزم نفسه بأمر أكثر مما ألزمه به الله ، وهو من جنس ما كلف الله وهو الصلاة . والله قد فرض صيام شهر رمضان ، فإذا ما نذر إنسان أن يصوم يومي الاثنين والخميس أو صيام شهرين فالإنسان حر ، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف ، وهو الصيام . والله فرض زكاة قدرها باثنين ونصف بالمائة ، ولكن الإنسان قد ينذر فوق ذلك ، كمقدار عشرة بالمائة أو حتى خمسين بالمائة .
إن الإنسان حر ، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف ، إن النذر هو زيادة عما كلف المكلف من جنس ما كلف سبحانه . وكلمة " نذرت " من ضمن معانيها هو أن امرأة عمران سيدة تقية وورعة ولم تكن مجبرة على النذر ، ولكنها فعلت ذلك ، وهو أمر زائد من أجل خدمة بيت الله .
والنذر كما نعلم يعبر عن عشق العبد لتكاليف الله ، فيلزم نفسه بالكثير من بعضها . ودعت امرأة عمران الله من بعد ذلك بقبول ذلك النذر فقالت : " فتقبل مني " . " والتقبل " هو أخذ الشيء برضا ، لأنك قد تأخذ بكره ، أو تأخذ على مضض ، أما أن " تتقبل " فذلك يعني الأخذ بقبول وبرضا . واستجابة لهذا الدعاء جاء قول الحق : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } [ آل عمران : 37 ] .
ونلاحظ أن امرأة عمران قالت في أول ما قالت : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } ، ولم تقل : " يا الله " وهذا لنعلم أن الرب هو المتولى التربية ، فساعة ينادي " ربي " فالمفهوم فيها التربية . وساعة يُنادي ب " الله " فالمفهوم فيها التكليف . إن " الله " نداء للمعبود الذي يطاع فيما يكلف به ، أما " رب " فهو المتولي التربية .
قالت امرأة عمران : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } . هذا هو الدعاء ، وهكذا كانت الاستجابة : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } وبعد ذلك تكلم الحق عن الأشياء التي تكون من جهة التربية . { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً . . وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } . كل ذلك متعلق بالتربية وبالربوبية ، فساعة نادت امرأة عمران عرفت كيف تنادي ونذرت ما في بطنها . وبعد ذلك جاء الجواب من جنس ما دعت بقمة القبول وهو الأخذ برضا .
(1/939)

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } .
فالحسن هنا هو زيادة في الرضا ، لأن كلمة " قبول " تعطينا معنى الأخذ بالرضا ، وكلمة " حسن " توضح أن هناك زيادة في الرضا ، وذلك مما يدل على أن الله قد أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا ، وبشيء حسن ، وهذا دليل على أن الناس ستلمح في تربيتها شيئا فوق الرضا ، إنه ليس قبولا عاديا ، إنه قبول حسن . { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } . مما يدل على أن امرأة عمران كانت تقصد حين نذرت ما في بطنها ، ألا تربي ما في بطنها إلى العمر الذي يستطيع فيه المولود أن يخدم في بيت الله . ولكنها نذرت ما في بطنها من اللحظة الأولى للميلاد . إنها لن تتنعم بالمولود ، ولذلك قال الحق : { وكفلها زكريا } ، وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم . وبعد دعاء امرأة عمران ، يجيء القول الحكيم : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى . . . }
(1/940)

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
لقد جاء هذا القول منها ، لأنها كانت قد قالت إنها نذرت ما في بطنها محررا لخدمة البيت ، وقولها : " محررا " تعني أنها أرادت ذكرا لخدمة البيت ، لكن المولود جاء أنثى . فكأنها قد قالت : ان لم أُمَكّنْ من الوفاء بالنذر ، فلأن قدرك سبق ، لقد جاءت المولودة أنثى . لكن الحق يقول بعد ذلك : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } . وهذا يعني أنها لا تريد إخبار الله ، ولكنها تريد أن تظهر التحسر ، لأن الغاية من نذرها لم تتحقق وبعد ذلك يقول الحق : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } . فهل هذا من كلامها ، أم من كلام الله؟
قد قالت : { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } وقال الله : { وليس الذكر كالأنثى } .
إن الحق يقول لها : لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى ، إن هذه الأنثى لها شأن عظيم . أو أن القول من تمام كلامها : { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } ويكون قول الحق : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } هو جملة اعتراضية ويكون تمام كلامها { وليس الذكر كالأنثى } . أي أنها قالت : يارب إن الذكر ليس كالأنثى ، إنها لا تصلح لخدمة البيت .
وليأخذ المؤمن المعنى الذي يحبه ، وسنجد أن المعنى الأول فيه إشراق أكثر ، إنه تصور أن الحق قد قال : أنت تريدين ذكرا بمفهومك في الوفاء بالنذر ، وليكون في خدمة البيت ، ولقد وهبت لك المولود أنثى ، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت ، وأنا أريد بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد ، لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها شعائر .
إنني سأجعل من هذه الآية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة . ولأنني أنا الخالق ، سأوجد في هذه الأنثى آية لا توجد في غيرها ، وهي آية تثبت طلاقة قدرة الحق ، ولقد قلت من قبل : إن طلاقة القدرة تختلف عن القدرة العادية ، إن القدرة تخلق بأسباب ، ولكن من أين الأسباب؟ إن الحق هو خالق الأسباب أيضا .
إذن فما دام الخالق للأسباب أراد خلقا بالأسباب فهذه إرادته . ولذلك أعطانا الحق القدرة على رؤية طلاقة قدرته؛ لأنها عقائد إيمانية ، يجب أن تظل في بؤرة الشعور الإيماني ، وعلى بال المؤمن دائما . لقد خلق الله بعضا من الخلق بالأسباب كما خلقنا نحن ، وجمهرة الخلق عن طريق التناسل بين أب وأم ، أما خلق الحق لآدم عليه السلام فقد خلقه بلا أسباب . ونحن نعلم أن الشيء الدائر بين اثنين له قسمة عقلية ومنطقية ، فما دام هناك أب وأم ، ذكر وأنثى ، فسيجيء منهما تكاثر . . إن الحق يقول : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] .
وعندما يجتمع الزوجان ، فهذه هي الصورة الكاملة ، وهذه الأولى في القسمة المنطقية والتصور العقلي ، وإما أن ينعدم الزوجان فهذه هي الثانية في القسمة المنطقية والتصور العقلي .
(1/941)

أو أن ينعدم الزوج الأول ويبقى الطرف الثاني ، وهذه هي الثالثة في القسمة المنطقية والتصور العقلي ، أو أن ينعدم الزوج الثاني ويبقى الطرف الأول ، وهذه هي الرابعة في القسمة المنطقية والتصور العقلي .
تلك إذن أربعة تصورات للقسمة العقلية . وجميعنا جاء من اجتماع العنصرين ، الرجل والمرأة . أما آدم فقد خلقه الله بطلاقة قدرته ليكون السبب . وكذلك تم خلق حواء من آدم . وأخرج الحق من لقاء آدم وحواء نسلا . وهناك أنثى وهي مريم ويأتي منها المسيح عيسى ابن مريم بلا ذكر . وهذه هي الآية في العالمين ، وتثبت قمة عقدية . فلا يقولن أحد : ذكراً ، أو أنثى ، لأن نية امرأة عمران في الطاعة أن يكون المولود ذكرا ، وشاء قدر ربكم أن يكون أسمى من تقدير امرأة عمران في الطاعة ، لذلك قال : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } . أي أن الذكر لن يصل إلى مرتبة هذه الأنثى .
وقالت امرأة عمران : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } . إن امرأة عمران قالت ما يدل على شعورها ، فحينما فات المولودة بأنوثتها أن تكون في خدمة بيت الله فقد تمنت امرأة عمران أن تكون المولودة طائعة ، عابدة ، فسمتها " مريم " لأن مريم في لغتهم - كما قلنا - معناها " العابدة " .
وأول ما يعترض العبودية هو الشيطان . إنه هو الذي يجعل الإنسان يتمرد على العبودية . إن الإنسان يريد أن يصير عابدا ، فيجيء الشيطان ليزين له المعصية . وأرادت إمرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغ الشيطان لأنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان ، وقد سمتها " مريم " حتى تصبح " عابدة لله " ، ولأن إمرأة عمران كانت تمتلك عقلية إيمانية حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله لذلك قالت : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } . إن المستعاذ به هو الله ، والمستعاذ منه هو الشيطان ، وحينما يدخل الشيطان مع خلق الله في تزيين المعاصي ، فهو يدخل مع المخلوق في عراك ، ولكن الشيطان لا يستطيع أن يدخل مع ربه في عراك ، ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي يتراجع ، ووصفه القرآن الكريم بأنه " الخنَّاس " ، إن الشيطان إنما ينفرد بالإنسان حين يكون الإنسان بعيدا عن الله ، ولذلك فالحق يُعَلِّمُ الإنسان : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 200 ] .
إن الشيطان يرتعد فرقا ورعشة من الإستعاذة بالله . وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان بهذه الكلمة؛ فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي . وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجيء الرجل امرأته ، ومجيء الأهل هو مظنة لمولود قد يجيء ، فيقول العبد : " اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني " ( من دعاء الرسول ) .
(1/942)

إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق " فلن يكون للشيطان ولاية أو قدرة على المولود الذي يأتي بإذن الله . ولذلك قالت إمرأة عمران : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } . والذرية قد يفهمها الناس على أنها النسل المتكاثر ، ولكن كلمة " ذرية " تطلق على الواحد وعلى الاثنين ، وعلى الثلاثة أو أكثر . والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى عليه السلام ، وتنتهي المسألة . وبعد دعاء إمرأة عمران { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } يجيء القول الحق : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا . . . }
(1/943)