[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
نظر وحكم العائن على ما قال القاضي عياض أن يجتنب وينبغي للإمام حبسه ومنعه عن مخالطة الناس كفا لضرره ما أمكن ويرزقه حينئذ من بيت المال هذا وقرأ نافع ليزلقونك بفتح الياء من زلقة بمعنى أزلقه وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى ليزهقونك بالهاء بدل اللام أي ليهلكونك
لما سمعوا الذكر أي وقت سماعهم القرآن وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند سماعه ولما كما أشرنا إليه ظرفية متعلقة بيزلقونك ومن قال أنها حرف وجوب لوجوب ذهب إلى أن جوابها محذوف لدلالة ما قبل عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك
ويقولون لغاية حيرتهم في أمره عليه الصلاة و السلام ونهاية جهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم وبدائع العلوم ولتنفير الناس عنه
إنه لمجنون وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه صلى الله تعالى عليه وسلم رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه
فقيل وما هو إلا ذكر للعالمين على أنه حال من فاعل يقولون والرابط الواو فقط أو مع عموم العالمين كما قيل مفيد لغاية بطلان قولهم وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوه بتلك العظيمة أي يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرا ومحيط بجميع حقائقه خيرا مما قالوه وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى وأنه لذكر لك ولقومك وعموم العالمين لما فيه من الإعتناء بما ينفعهم وقيل الضمير لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه ورجح بأن الجملة عليه تكون صريحة في رد دعواهم الباطلة وأنت تعلم أن الأول أولى والله تعالى أعلم
سورة الحاقة
مكية وآيها إحدى وخمسون آية بلا خلاف فيهما ويدل للأول ما أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر فقال وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون قلت كاهن فقال لا ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل إلى آخر السورة فوقع الإسلام في قلبي كل موقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم وضمنه عز و جل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة و السلام فقال عز من قائل
بسم الله الرحمن الرحيم الحاقة أي الساعة أو الحالة التي يحق ويجب وقوعها أو التي تحقق وتثبت فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من حقه يحقه إذا عرف حقيقته وروي هذا عن ابن عباس وإسناد الفعل لها على الوجهين الأخيرين مجاز وهو حقيقة لما فيها من الأمور أو لمن فيها من أولي العلم وفي الكشف كون الإسناد مجازيا إنما هو على الوجه الأخير وأما على الوجه الثاني فيحتمل الإسناد المجازي أيضا لأن الثبوت والوجوب لما فيها ويحتمل أن يراد ذو الحاقة من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه وهذا أرجح لأن الساعة وما فيها سواء في وجوب الثبوت فيضعف قرينة الإسناد المجازي والتجوز فيه تصوير ومبالغة انتهى وبحث فيه الجلبي بما فيه بحث فارجع إليه وتدبر وقال الأزهري الحاقة القيامة من حاقته فحققته أي غالبته فغلبته فهي حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله تعالى بالباطل أي كل مخاصم فتغلبه وظاهر كلامهم أنها على جميع ذلك وصف حذف موصوفه للإيذان بكمال ظهور اتصافه بهذه الصفة وجريانه مجرى الاسم وقيل أنها على ما روي عن
(29/39)

ابن عباس من كونها من أسماء يوم القيامة اسم جامد لا يعتبر موصوف محذوف وقيل هي مصدر كالعاقبة والعافية وأيا ما كان فهي مبتدأ خبرها جملة
ما الحاقة على أن مبتدأ والحاقة خبر أو بالعكس ورجح معنى والأول هو المشهور والرابط إعادة المبتدأ بلفظه والأصل ما هي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما لشأنها وتهويلا لأمرها
وقوله تعالى وما أدراك ما الحاقة أي أي شيء أعلمك ما هي تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقات على معنى أن أعظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي وراء ذلك وأعظم وأعظم فلا يتسنى الإعلام ومنه يعلم أن الإستفهام كني به عن لازمه من أنها لا تعلم ولا يصل إليها دراية دار ولا تبلغها الأوهام والأفكار وما في موضع الرفع على الإبتداء وإدراك خبره ولا مساغ ههنا للعكس وما الحاقة جملة محلها النصب على إسقاط الخافض لا أن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى ولا أدراكم به فلما وقعت جملة الإستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني وتعليق هذا الفعل على ما قيل لما فيه من معنى العلم والجملة أعني ما أدراك الخ معطوفة على ما قبلها من الجملة الصغرى
كذبت ثمود وعاد بالقارعة بالقيامة التي تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالإنشقاق والإنفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والإنكدار ووضعها موضع ضمير الحاقة للدلالة على معنى القرع وهو ضرب شيء بشيء فيها تشديدا لهولها والجملة استئناف مسوق لبيان بعض أحوال الحاقة له عليه الصلاة و السلام أثر تقرير أنه ما أدراه صلى الله تعالى عليه وسلم بها أحد والمبين كونها بحيث يحق إهلاك من يكذب بها كأنه قيل وما أدراك ما الحاقة كذبت بها ثمود وعاد فأهلكوا
فأما ثمود فأهلكوا أي أهلكهم الله تعالى وقرأ زيد بن علي فهلكوا بالبناء للفاعل
بالطاغية أي الواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة لقوله تعالى في هود وأخذ الذين ظلموا الصيحة وبها فسرت الصاعقة في حم السجدة أو الرجفة لقوله سبحانه في الأعراف فأخذتهم الرجفة وهي الزلزلة المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الآيات لأن الإسناد في بعض إلى السبب القريب وفي بعض آخر إلى البعيد والأول مروي عن قتادة قال أي بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة وقال ابن عباس وأبو عبيدة وابن زيد ما معناه الطاغية مصدر فكأنه قيل بطغيانهم وأيد بقوله تعالى كذبت ثمود بطغواها والمعول عليه الأول لمكان قوله تعالى
وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر وإيضاح ذلك أن الآية فيها جمع وتفريق فلو قيل أهلك هؤلاء بالطغيان على أن ذلك سبب جالب وهؤلاء بالريح على أنه سبب آلى لم يكن طباق إذ جاز أن يكون هؤلاء أيضا هلكوا بسبب الطغيان وهذا معنى قول الزمخشري في تضعيف الثاني لعدم الطباق بينها وبين بريح لا أن ذلك لأن أحدهما عين والآخر حدث وما ذكر من التأييد لا يخفى حاله وكذا يرجح الأول على قول مجاهد وابن زيد أيضا أي بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها وهي عقر الناقة وعلى ما قيل الطاغية عاقر الناقة والهاء فيها للمبالغة كما في رجل راوية وأهلكوا كلهم بسببه لرضاهم بفعله وما قيل أيضا بسبب الفئة الطاغية ووجه الرجحان يعلم مما ذكر ومر الكلام في الصرصر فتذكر وهو صفة ريح
وكذا قوله تعالى عاتية أي شديدة العصف أو عتت على عاد فما قدروا على ردها والخلاص منها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم والعتو عليهما استعارة وأصله تجاوز الحد وهو قد يكون بالنسبة إلى الغير وقد لا يكون ومنه يعلم الفرق
(29/40)

بين الوجهين وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه قال لم تنزل قطرة إلا بمكيال على يدي ملك إلا يوم نوح فإنه أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان فخرج فذلك قوله تعالى أنا لما طغى الماء ولم ينزل شيء من الريح إلا بمكيال على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت فذلك قوله تعالى بريح صرصر عاتية عتت على الخزان وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ما يوافقه فهو تفسير مأثور وقد حكى ذلك في الكشاف ثم قال ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها وخرج ذلك في الكشف على الإستعارة التمثيلية ثم قال إن المثل إذا صار بحيث يفهم منه المقصود من دون نظر إلى أصل القصة جاز أن يقال أنه كناية عنه كما فيما نحن فيه وجوز أن يكون هناك تشبيه بليغ من العتو وهو الخروج عن الطاعة
وقوله تعالى سخرها عليهم الخ استئناف جيء به بيانا لكيفية إهلاكهم بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض المنازل إذ لو وجدت الإقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك بتقديره تعالى وتسببه عز و جل لا من ذاتها استقلالا والسبب الذي يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خاليا أو بتجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها وعلى التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله فيحدث ويستمر حتى يمتليء ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخا وما هي أقوى ويسمى العاصف نحو سبعة عشر فرسخا وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخا وقد تقطع في ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخا وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح وقد علموا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من السبب نحو ما سمعت آنفا ومعنى سخرها عليهم سلطها عز و جل بقدرته عليهم
سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها بوصفها في قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منها كية وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الإنحسام أي استئصال الداء الذي هو المقصود والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤمات كما قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير بنحوستها وشؤمها فمعمول حسوما محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد وقال الراغب الحسم إزالة الشيء أثر الشيء يقال قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساما وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله حسوم وحسوما في الآية قيل حاسما أثرهم وقيل حاسما خبرهم وقيل قاطعا لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل وجوز أن يكون حسوما مصدرا لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالا أي بحسمهم حسوما بمعنى تستأصلهم استئصالا أو على العلة أي سخرها عليهم لأجل الإستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم وأيدت المصدرية بقراءة السدي حسوما بفتح الحاء على أنه حال من الريح
(29/41)

أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفردا على ذلك وهي كانت أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وإنما سميت أيام العجوز لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها أو لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفيء الجمر ومطفيء الظعن ولم يذكر هذا الثامن من قال أنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار
فترى القوم أي إن كنت حاضرا حينئذ فالخطاب فيه فرضي
فيها أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في ديارهم والأول أظهر
صرعى أي هلكى جمع صريع
كأنهم أعجاز نخل أي أصول نخل وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قريء نخيل بالياء
خاوية خلت أجوافها بلى وفساد أو قال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كأعجاز النخل الخاوية وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم من أرواحهم فكانوا كذلك وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر
فذلك قوله تعالى فهل ترى لهم من باقية أي بقية على أن الباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الإسمية أو نفس باقية على أن الموصوف مقدر والتاء للتأنيث وقال ابن الأنباري أي باق والهاء للمبالغة وجوز أن يكون مصدرا كالطاغية والكاذبة أي بقاء والتاء للوحدة
وجاء فرعون ومن قبله ومن تقدمه من الأمم الكافرة كقوم نوح عليه السلام وفيه تعميم بعد التخصيص فإن منهم عادا وثمودا وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه وعاصم في رواية أبان والنحويان وأبان ومن قبله بكسر القاف وفتح الباء أي ومن في جهته وجانبه والمراد ومن عنده من أتباعه وأهل طاعته ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود ومن معه
والمؤتفكات أي قرى قوم لوط عليه السلام والمراد أهلها مجازا بإطلاق المحل على الحال أو بتقدير مضاف وعلى الإسناد المجازي والقرينة العطف على من يتصف بالمجيء وقرأ الحسن هنا والمؤتفكة على الإفراد
بالخاطئة أي بالخطأ على أنه مصدر على زنة فاعلة أو بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم على أن الإسناد مجازي وهو حقيقة لأصحابها واعتبار العظم لأنه لا يجعل الفعل خاطئا إلا إذا كان صاحبه بليغ الخطأ ويجوز أن تكون الصيغة للنسبة
فعصوا رسول ربهم أي فعصى كل أمة رسولها حين نهاها عما كانت تتعاطاه من القبائح فإفراد الرسول على ظاهره وجوز أن يكون جمعا أو مما يستوي فيه الواحد وغيره لأنه مصدر في الأصل وأريد منه التكثير لأقتضاء السياق له فهو من مقابلة الجمع المقتضي لأنقسام الآحاد أو أطلق الفرد عليهم لاتحادهم معنى فيما أرسلوا به والظاهر أن هذا بيان لمجيئهم بالخاطئة
فأخذهم أي الله عز و جل
أخذة رابية أي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذا زاد
إنا لما طغا الماء جاوز حده المعتاد حتى أنه علا على أعلى جبل خمس عشرة ذراعا أو طغى على خزانه على ما سمعت قبيل هذا وذلك بسبب إصرار قوم نوح عليه السلام على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام فيما أوحي إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة
حملناكم أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة آبائهم المحمولين بعلاقة الحلول وهو بعيد
في الجارية في سفينة نوح عليه السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة في فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه
(29/42)

تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عز و جل وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة وعليه
تسعون جارية في بطن جارية
لنجعلها أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين
لكم تذكرة عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته
وتعيها أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء
أذن واعية أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى وفي الخبر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي قال علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن أنسى وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلا السمع والتنكير للدلالة على قلتها وإن من هذا شأنه مع قلته بنسيب لنحاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة أي أدركوا ألواحها على الجودى كما قال ابن جريج بل قيل إن بعض الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه وقرأ ابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه وقيل بخلاف عنه وتعيها بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ بإخفاء الكسرة وروي عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من التضعيف في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وروي عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي وتعيها بإسكان الياء فاحتمل الإستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم الياء وقرأ نافع إذن بإسكان الذال للتخفيف
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها أثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس وقال ابن المسيب ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه المرة ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث أنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه واحدة وعن ابن الحاجب أن نفخة لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع للدلالة على النفخ والدلالة على الوحدة اتفاقية غير مقصودة وتعقب بأن هذا بعد التسليم لا يضر لأن الكلام في مقتضى المقام لا أصل الوضع وقد تقرر أن الذي سيق له الكلام يجعل معتمدا حتى كان غيره مطروح فالمرة هي المعتمدة نظرا للمقام دون النفخ نفسه وإن كان النظر إلى ظاهر اللفظ يقتضي العكس فافهم وأيا ما كان فإسناد الفعل إلى نفخة ليس من إسناد الفعل إلى المصدر المؤكد كضرب ضرب وإن لم يلاحظ ما بعده من قوله سبحانه واحدة وحسن تذكير الفعل للفصل وكون المرفوع غير حقيقي التأنيث وكونه مصدرا فقد ذكر الجاربردي في شرح الشافية أن تأنيثه غير معتبر لتأويله بأن والفعل والمشهور أن واحدة صفة مؤكدة وأطلق عليها بعضهم التوكيد وبعضهم البيان وذكر الطيبي أن التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني وتمام الكلام في ذلك في المطول وقرأ أبو السمال نفخة واحدة بنصبهما على إقامة الجار والمجرور
(29/43)

مقام الفاعل
وحملت الأرض والجبال رفعتا من أحيازهما بمجرد القدرة الإلهية من غير واسطة مخلوق أو بتوسط نحو ريح أو ملك قيل أو بتوسط الزلزلة أي بأن يكون لها مدخل في الرفع لا أنها رافعة لهما حاملة إياها ليقال أنها ليس فيها حمل وإنما هي إضطراب وقيل يجوز أن يخلق الله تعالى من الأجرام العلوية ما فيه قوة جذب الجبال ورفعها عن أماكنها أو أن يكون في الأجرام الموجودة اليوم ما فيه قوة ذلك إلا أن في البين مانعا من الجذب والرفع وأنه يزول بعد فيحصل الرفع وكذا يجوز أن يعتبر مثل ذلك بالنسبة إلى الأرض وأن تكون قوتا الجاذبين مختلفتين فإذا حصل رفع كل إلى غاية يريدها الله تعالى حدث في ذلك الجاذب ما لم يبق معه ذلك الجذب من زوال مسامته ونحوه وحصل بين الجبال والأرض ما يوجب التصادم ويجوز أيضا أن يحدث في الأرض من القوى ما يوجب قذفها للجبال ويحدث للأرض نفسها ما يوجب رفعها عن حيزها وكون القوى منها ما هو متنافر ومنها ما هو متحاب مما لا يكاد ينكر وقيل يمكن أن يكون رفعهما بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب على ما قيل فيها جديدا للأرض فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة ورفع الأرض من حيزها ولا يخفى أن كل هذا على ما فيه لا يحتاج إليه ويكفينا القول بأن الرفع بالقدرة الإلهية التي لا يتعاصاها شيء وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى وحملت بتشديد الميم وحمل على التكثير وجوز أن يكون تضعيفا للنقل فيكون الأرض والجبال المفعول الأول أقيم مقام الفاعل والمفعول الثاني محذوف أي قدرة أو ريحا أو ملائكة أو يكون المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل والأول محذوف وهو أحد المذكورات
فدكتا دكة واحدة فضربت الجملتان أثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تفتت وترجع كما قال سبحانه كثيبا مهيلا وقيل تتفرق أجزاؤها كما قال سبحانه هباء منبثا وفرقوا بين الدك والدق بأن في الأول تفرق الأجزاء وفي الثاني اختلافها وقال بعض الأجلة أصل الدك الضرب على ما ارتفع لينخفض ويلزمه التسوية غالبا فلذا شاع فيها حتى صار حقيقة ومنه أرض دكاء للمتسعة المستوية وبعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا فلم يرتفع سناماهما واستوت خدجتهما مع ظهريهما فالمراد ههنا فبسطتا بسطة واحدة وسويتا فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولعل التفتت مقدمة للتسوية أيضا وقال الراغب الدك الأرض اللينة السهلة وقوله تعالى فدكتا أي جعلتا بمنزلة الأرض اللينة وهذا أيضا يرجع إلى التسوية كما لا يخفى وحكى في مجمع البيان أنهما إذا دكتا تتفتت الجبال وتنسفها الريح وتبقى الأرض مستوية وثني الضمير لإرادة الجملتين كما أشرنا إليه
فيومئذ أي فحينئذ على أن المراد باليوم مطلق الوقت وهو ههنا متسع يقع فيه ما يقع والتنوين عوض عن المضاف إليه أي فيوم إذ نفخ في الصور وكان كيت وكيت
وقعت الواقعة أي قامت القيامة وتفسير الواقعة بصخرة بيت المقدس واقع عن درجة القبول
وانشقت السماء تفطرت وتميز وتميز بعضها عن بعض ولعله إشارة إلى ما تضمنه قوله تعالى يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال ذلك قوله تعالى وفتحت السماء فكانت أبوابا ولا منافاة بينهما وكذا لا منافاة بين كون الإنشقاق لنزول الملائكة وكونه لهول يوم القيامة لأن الأمر قد يكون له علل شتى مثل هذه العلل والمراد بالسماء جنسها وقيل السماوات السبع وأيما كان فلا يشترط لصحة الإنشقاق كونها أجساما صلبة إذ يتصف بنحو ما ليس بصلب أيضا فقد وصف البحر بالإنفلاق
فهي أي السماء
يومئذ واهية ضعيفة من وهي الشيء ضعف وتداعي للسقوط وقال ابن شجرة من قولهم
(29/44)

وهي السقاء إذا انخرق ومن أمثالهم قول الراجز
خل سبيل من وهي سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه
والملك أي الجنس المتعارف بالملك وهو أعم من الملائكة عند الزمخشري وجماعة وقد ذكره الجوهري أيضا وقال أبو حيان الملك اسم جنس يراد به الملائكة ولا يظهر أنه أعم من الملائكة وتحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه فارجع إن أردت إليه
على أرجائها أي جوانبها جمع رجى بالقصر وهو من ذوات الواو ولذا برزت في التثنية قال الشاعر
كأن لم ترى قبلي أسيرا مقيدا ... ولا رجلا يرمي به الرجوان
والضمير للسماء والمراد بجوانبها أطرافها التي لم تنشق أخرج ابن المنذر عن ابن جبير والضحاك قال أنهما قالا والملك على أرجائها أي على ما لم ينشق منها ولعل ذلك التجاء منهم للأطراف مما داخلهم من ملاحظة عظمة الله عز و جل أو اجتماع هناك للنزول وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع ابن أنس قال والملك على أرجائها أي الملائكة على شقها ينظرون إلى شق الأرض وما أتاهم من الفزع والأول أظهر ولعل هذا الإنشقاق بعد موت الملائكة عند النفخة الأولى وإحيائهم وهم يحيون قبل الناس كما تقتضيه الأخبار ويجوز أن يكون ذلك بعد النفخة الثانية والناس في المحشر ففي بعض الآثار ما يشعر بانشقاق كل سماء يومئذ ونزول ملائكتها واليوم متسع كما أشرنا إليه وقال الإمام يحتمل أنهم يقفون على الإرجاء لحظة ثم يموتون ويحتمل أن يكون المراد بهم الذين استثناهم الله تعالى في قوله سبحانه إلا من شاء الله وعلى الوجهين ينحل ما يقال الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى فصعق من في السماوات ومن في الأرض فكيف يقال أنهم يقفون على أرجاء السماء وفي أنوار التنزيل لعل قوله تعالى وانشقت السماء الخ تمثيل لخراب العالم بخراب المبنيات وانضواء أهلها إلى أطرافها وإن كان على ظاهره فلعل موت الملائكة أثر ذلك انتهى وأنا لا أقول باحتمال التمثيل وفي البحر عن ابن جبير والضحاك أن ضمير أرجائها للأرض وأن بعد ذكرها قالا أنهم ينزلون إليها يحفظون أطرافها كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ثم ملائكة كل سماء فكلما ند أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها ولعل ما نقلناه عنهما أولى بالإعتماد
ويحمل عرش ربك فوقهم أي فوق الملائكة الذين على الإرجاء المدلول عليهم بالملك وقيل فوق العالم كلهم وقيل الضمير يعود على الملائكة الحاملين أي يحمل عرش ربك فوق ظهورهم أو رؤسهم
يومئذ ثمانية والمرجع وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة وفائدة فوقهم الدلالة على أنه ليس محمولا بأيديهم كالمعلق مثلا وأيد هذا واعتبار الظهور بما أخرج الترمذي وأبود داود وابن ماجه عن العباس بن عبد المطلب في حديث وفوق ذلك ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن ووركهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والمراد بالأوعال وفيه ملائكة على صورة الأوعال كما قال ابن الأثير وغيره وهي جمع وعل بكسر العين تيس الجبل واستدل به على أن المراد ثمانية أشخاص والأخبار الدالة على ذلك كثيرة إلا أن فيها تدافعا من حيث دلالة بعضها على أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ودلالة بعض آخر على أن لكل واحد منهم أربعة أوجه وجه ثور ووجه نسر ووجه أسد ووجه إنسان وفيه لكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان فعلى وجهه مخافة من أن ينظر إلى العرش فيصعق وأما جناحان فيطير بهما وأبو حيان لم يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صحفا وأخرج عبد بن حميد
(29/45)

عن ابن زيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية وأخرج عنه ابن أبي حاتم أنه لم يسم من حملة العرش إلا إسرافيل عليه السلام قال وميكائيل عليه السلام ليس من حملة العرش وعليه فمن زعم أنهما وجبرائيل وعزرائيل عليهم السلام من جملة حملته يلزمه إثبات ذلك بخبر يعول عليه وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وأربعةيقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وفي خبر عن وهب بن منبه لهم كلام إلا قولهم قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السماوات وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليه وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قال يقال ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله عز و جل وأخرج هذا القول ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس وقال الحسن الله تعالى أعلم كم هم أثمانية أصناف أم ثمانية أشخاص وأنت تعلم أن الظاهر المؤيد ببعض الأخبار المصححة أنهم ثمانية أشخاص وأيا كان فالظاهر أن هناك حملا على الحقيقة وإليه ذهب محي الدين قدس سره قال أن لله تعالى ملائكة يحملون العرش الذي هو السرير على كواهلهم هم اليوم أربعة وغدا يكونون ثمانية لأجل الحمل إلى أرض المحشر وله قدس سره في الباب الثالث عشر من فتوحاته كلام واسع في حملة العرش لا سيما على تفسيره بالملك فليرجع إليه من اتسع كرسي ذهنه لفهم كلامه وجوز أن يكون ذلك تمثيلا لعظمته عز و جل بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام فالمراد تجليه عز و جل بصفة العظمة وجعل العرض في قوله تعالى
يومئذ تعرضون مجازا عن الحساب والمراد يومئذ تحاسبون لكنه شبه ذلك بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم فعبر عنه به وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله والجملة المعوض عنها التنوين على ما يدل عليه كلامهم نفخ في الصور وجعل يومئذ تعرضون بدلا من فيومئذ الخ وقد سمعت أن الزمان متسع لجميع ما ذكره وغيره
وقوله تعالى لا تخفى منكم خافية حال من مرفوع تعرضون أي تعرضون غير خاف عليه عز و جل سر من أسراركم قبل ذلك أيضا وإنما العرض لإفشاء الحال وإقامة الحجة والمبالغة في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى يوم تبلى السرائر وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش وابن مقسم عن عاصم وغيرهم لا يخفى بالياء التحتانية
فأما من أوتي كتابه بيمينه تفصيل لأحكام العرض والمراد بكتابه ما كتب الملائكة فيه ما فعله في الدنيا وقد ذكروا أن أعمال كل يوم وليلة تكتب في صحيفة فتتعدد صحف العبد الواحد فقيل توصل له فيؤتاها موصولة وقيل ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة وهذا ما جزم به الغزالي عليه الرحمة وعلى القولين يصدق على ما يؤتاه العبد كتاب وقيل أن العبد يكتب في قبره أعماله في كتاب وهو الذي يؤتاه يوم القيامة وهذا قول ضعيف لا يعول عليه وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيف يؤتى العبد ذلك
فيقول تبجحا وافتخارا
هاؤم اقرؤا كتابيه قال الرضي ها اسم لخذ وفيه ثمان لغات الأولى بالألف مفردة ساكنة للواحدة والإثنين والجمع مذكرا كان أو مؤنثا الثانية أن تلحق هذه الألف المفردة كاف الخطاب الحرفية كما في ذلك وتصرفها نحو هاك هاكما هاكم هاكن الثالثة أن تلحق الألف همزة مكان الكاف وتصريفها تصريف الكاف نحوها هاؤما هاؤم هاء هاؤها هاؤن الرابعة أن تلحق الألف همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب وتصرف الكاف الخامسة هأ بهمزة
(29/46)

ساكنة بعد الهاء للكل السادسة أن تصرف هذه الجملة تصريف دع السابعة أن تصرفها تصريف خف ومن ذلك ما حكى الكسائي من قول من قيل له هاء بالفتح الأم إهاء وإهاء بفتح همزة المتكلم وكسرها الثامنة أن تلحق الألف همزة وتصرفها تصريف ناد والثلاثة الأخيرة أفعال غير متصرفة لا ماضي لها ولا مضارع وليست بأسماء أفعال قال الجوهري هاء بكسرة الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ وإذا قيل لك هاء بالفتح قلت ما أهاء أي ما آخذ وما أهاء على ما لم يسم فاعله أي ما أعطى وهذا الذي قال مبني على السابعة نحو ما أخاف وما أخاف انتهى وقال أبو القاسم فيها لغات أجودها ما حكاه سيبويه في كتابه فقال العرب تقول هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها وهاؤما يا رجلان أو امرأتان وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة فالميم في هاؤم كالميم في أنتم وضمها كضمها في بعض الأحيان وفسر ههنا بخذوا وهو متعد بنفسه إلى المفعول تعديته والمفعول محذوف دل المذكور أعني كتابيه وهو مفعول اقرؤا واختير هذا دون العكس لأنه لو كان مفعول هاؤم لقيل اقرؤه إذ الأولى إضمار الضمير إذا أمكن كما هنا وإنما لم يظهر في الأول لئلا يعود على متأخر لفظا ورتبة وهو منصوب مع أن العامل على اللغة الجيدة اسم فعل فلا يتصل به الضمير وقيل هاؤم بمعنى تعالوا فيتعدى بإلى وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف قيل وهو ضعيف إلا أن كان قد عني أنها تحل محلها في لغة كما سمعت فيمكن لا أنه بدل صناعي لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها وقيل هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط وفي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه صلى الله تعالى عليه وسلم هاؤم بصولة صوته وجوز إرادة هذا المعنى هنا فإنه يحتمل أن ينادي ذلك المؤتى كتابه بيمينه اقرباؤه وأصحابه مثلا ليقرؤا كتابه فيجيبهم لمزيد فرحه ونشاطه بقوله هاؤم وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ها أموا أي اقصدوا ثم نقله التخفيف والإستعمال إلى ما ذكر وزعم آخرون أن الميم ضمير جماعة الذكور والهاء في كتابيه وكذا في حسابيه وماليه وسلطانيه وكذا ما هيه في القارعة للسكت لا ضمير غيبة فحقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا لتصان حركة الموقوف عليه فإذا وصل استغنى عنها ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف أو لأنه وصل بنية الوقف والقراآت مختلفة فقرأ الجمهور بإثباتها وصلا ووقفا قال الزمخشري اتباعا للمصحف الإمام وتعقبه ابن المنير فقال تقليل القراءة باتباع المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراآت بتفاصيلها منقولة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأطال في التشنيع عليه وهو كما قال وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء فيما ذكر ولم ينقل ذلك في ماهية فيما وقفت عليه وابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهن في الوصل لا في الوقف وطرحها حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس بشيء فإن ذلك متواتر فوجب قبوله
إني ظننت أني ملاق حسابيه أي علمت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على ان الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب فالمنقول عنه ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك وقيل لما كان الإعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به لذلك وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الإيمان وجوز أن يكون الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عز و جل ولعل
(29/47)

ذلك عند الموت فقد دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن الظن وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر به الجملة الأولى من حسن الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور لأني ظننت بربي سبحانه أنه يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به وهذا أولى مما قيل يجوز أن يكون المراد إني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن أزال الله تعالى عني ذلك وفرج همي وقيل يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضى في أفعال القلوب وفيه نظر
فهو في عيشة راضية قال أبو عبيدة والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضى على أنه من باب النسبة بالصيغة كلابن وتأمر ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا يؤنث كما صرح به الرضى وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل إلا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث وقال بعض المحققين الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا والمشهور حمل ما ذكر على أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب المعاني
في جنة عالية مرتفعة المكان لأنها في السماء فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام
قطوفها جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم يجعلوا قطوفها جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه
ولقوله تعالى دانية أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه وقال بعضهم يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة التناول
كلوا واشربوا بإضمار القول أي يقال فيها ذلك وجمع الضمير رعاية للمعنى
هنيئا صفة لمحذوف وقع مفعولا به والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني هنيئا ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا تغفل وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في موضع الحال والكلام في مثلها مشهور
بما أسلفتم بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة
في الأيام الخالية أي الماضية وهي أيام الدنيا وقيل أي الخالية من اللذائذ أي الحقيقية وهي أيام الدنيا أيضا وقيل أي التي أخليتموها من الشهوات النفسانية وحمل عليه ما روي عن مجاهد وابن جبير ووكيع من تفسير هذه الأيام بأيام الصيام وأخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفي قال بلغني أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية والظاهر أن ما على تفسير الأيام الخالية بأيام الصيام غير محمولة على العموم والعموم في الآية هو الظاهر
وأما من أوتي كتابه بشماله
(29/48)

فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه لما يرى من قبح العمل وانجلاء الحساب عما يسوءه
يا ليتها أي الموتة التي متها في الدنيا
كانت القاضية أي القاطعة لأمري ولم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقى فالضمير للموتة الدال عليها المقام وإن لم يسبق لها ذكر ويجوز أن يكون لما شاهده من الحالة أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لما أنه وجدها أمر من الموت فتمناه عندها وقد قيل أشد من الموت ما يتمنى الموت عنده وقد جوز أن يكون للحياة الدنيا المفهومة من السياق أيضا والمراد بالقاضية الموتة فقد اشتهرت في ذلك أي يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق حيا وبتفسير القاضية بما ذكر اندفع ما قيل أنها تقتضي تجدد أمر ولا تجدد في الإستمرار على العدم نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد
ما أغنى عني ماليه أي ما أغنى عني شيئا الذي كان لي في الدنيا من المال ونحوه كالأتباع على أن ما في ما أغنى نافية وما في ماليه موصولة فاعل أغنى ومفعوله محذوف وليه جار ومجرور في موضع الصلة ويجوز أن يجعل ماليه عبارة عن مال مضاف إلى ياء المتكلم والأول أظهر شمولا للأتباع ونحوها إذ لا يتأتى اعتبار ذلك على الثاني إلا باعتبار اللزوم ويجوز أن تكون ما في ما أغنى استفهامية للإنكار وماليه على احتمالية أي أي شيء أغنى عني مالي
هلك عني سلطانيه أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وبه فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي وأكثر السلف أو ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن استعمالها في الطاعات يقول ذلك تحسرا وتأسفا وإلى هذا ذهب قتادة مشيرا إلى وجه اختياره دون الثاني أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال أما والله ما كل من دخل النار كان أمير قرية ولكن الله تعالى خلقهم وسلطهم على أبدانهم وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وبما أشار إليه رجح الأول على الثاني أيضا لكن قيل ما بعد أشد مناسبة له وستطلع إن شاء الله تعالى على ذلك وعن ابن عباس أنها نزلت في الأسود بن عبد الأسد ويحكى عنه فناخسرة المقلب بعضد الدولة ابن بويه أنه لما أنشد قوله
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في سحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
لم يفلح بعده وجن وكان لا ينطلق لسانه إلا بهذه الآية وفي يتيمة الثعالبي أنه لما احتضر لم ينطلق لسانه إلا بتلاوة ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية نسأل الله تعالى العفو والعافية وروي عن أبي عمرو أنه أدغم هاء السكت من ماليه في هاء هلك وهو ضعيف قياسا لأن هاء السكت لا تدغم لكون الوقف عليها محققا أو مقدرا كما في شرح التوضيح وفيه رواية الإدغام فيما ذكر عن ورش وعقب بأن المروي عنه إنما هو النقل في كتابيه إني والله تعالى أعلم
خذوه بتقدير القول أي فيقول الله تعالى للزبانية خذوه
فغلوه أي شدوه بالأغلال
ثم الجحيم صلوه أي لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظيمة الشديدة التأجج لعظم ما أوتي به من المعصية وهي الكفر بالله تعالى العظيم وقيل حيث كان يتعظم على الناس وهو مبني على اختصاص ما قبل بالسلاطين بقرينة تعظيم أمره وتنصيص الله تعالى على تعذيبه وأجيب عما يخدشه مما يفهم من كلام قتادة بأنه لا ضير في كونه بيانا لحال بعض من أوتي
(29/49)

كتابه بشماله ومثله ما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه ولا يحض الخ فكم من أهل الشمال من لا يكون كذلك وأيضا قد ذكروا أن الجحيم اسم لطبقة من النار فتأمل
ثم في سلسلة ذرعها أي قياسها ومقدار طولها
سبعون ذراعا يجوز أن يراد ظاهره من العدد المعروف والله تعالى أعلم بحكمه كونها على هذا العدد ويجوز أن يراد به التكثير فقد كثر السبعة والسبعون في التكثير والمبالغة ورجح بأنه أبلغ من إبقائه على ظاهره والذراع مؤنث قال ابن الشحنة وقد ذكره بعض عكل فيقال الثوب خمس أذرع وخمسة أذرع والمراد بها المعروفة عند العرب وهي ذراع اليد لأن الله سبحانه إنما خاطبهم بما يعرفون وقال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر ذراع الملك وأخرج ابن المبارك وجماعة عن نوف البكالي أنه قال وهو يومئذ بالكوفة الذراع سبعون باعا والباع ما بينك وبين مكة ويحتاج إلى نقل صحيح وقال الحسن الله تعالى أعلم بأي ذراع هي والسلسلة حلق تدخل في حلق على سبيل الطول كأنها من تسلسل الشيء اضطرب وتنوينها للتفخيم وروي عن ابن عباس أنه قال لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص
فاسلكوه أي فأدخلوه كما في قوله تعالى فسلكه ينابيع في الأرض وإدخاله فيها بأن تلف على جسده وتلوى عليه من جميع جهاته فيبقى مرهقا فيما بينها لا يستطيع حراكا ما وعن ابن عباس أن أهل النار يكونون فيها كالثعلب في الجبة والثعلب طرف خشبة الرمح والجبة الزج وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال قال ابن عباس إن السلسلة تدخل في أسته ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى وفي رواية أخرج عنهم أنها تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه ومن هنا قيل أن في الآية قلبا والأصل فاسلكوها فيه والجمهور على الظاهر والفاء جزائية كما في قوله تعالى وربك فكبر والتقدير مهما يكن من شيء فاسلكوه في سلسلة الخ فقدم الظرف وما معه عوضا عن المحذوف ولتتوسط الفاء كما هو حقها وليدل على التخصيص كأنه قيل لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق من الجحيم ويجوز أن يكون التقدير هكذا ثم مهما يكن من شيء ففي سلسلة ذرعها سبعون ذراعا اسلكوه ففيه تقديمان تقديم الظرف على الفعل للدلالة على التخصيص وتقديمه على الفاء بعد حذف حرف الشرط للتعويض وتوسيط الفاء وثم في الموضعين لتفاوت ما بين أنواع ما يعذبون به من الغل والتصلية والسلك علىما اختاره جمع وجوز بعضهم كونها علىظاهرها من الدلالة على المهلة ورجح الأول بأنه أنسب بمقام التهديد وزعم بعض أن ثم الثانية لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل خذوه إشعارا بتفاوت ما بين الأمرين وفاء فاسلكوه لعطف المقول على المقول لئلا يتوارد حرفا عطف على معطوف واحد ويلزمه أن يكون تقديم السلسلة على الفاء بعد حذف القول لئلا يلزم التوارد المذكور ومبنى هذا التكلف البادر الغفلة عما ذكرناه فلا تغفل ويعلم منه وهن ما قيل أنه ليس في الآية ما يفيد التخصيص لأن في سلسلة ليس معمولا لاسلكوه لئلا يلزم الجمع بين حرفي عطف بل هو معمول لمحذوف فيقدر مقدما على الأصل على أن تقديم الجحيم كالقرينة على كون في سلسلة مقدما على عامله
إنه كان لا يؤمن بالله العظيم تعليل على طريقة الإستئناف للمبالغة كأنه قيل لم أستحق هذا فقيل لأنه كان في الدنيا مستمرا على الكفر بالله تعالى العظيم وقيل أي كان في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر أنه لا يتصف بالإيمان به عز و جل والأول هو الظاهر وذكر العظيم للإشارة إلى وجه عظم عذابه وقيل للإشعار بأنه عز و جل المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات
ولا يحض على طعام المسكين أي ولا يحث على بذل طعامه الذي يستحقه في مال الموسر ففيه مضاف مقدر لأن الحث إنما يكون على الفعل والطعام ليس
(29/50)

به ويجوز أن يكون الطعام بمعنى الإطعام بوضع الاسم موضع المصدر كالعطاء بمعنى الإعطاء أي ولا يحث على إطعام المسكين فضلا عن أن يبذل ما له فليس هناك مضاف محذوف وقيل ذكر الحض للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل وما أحسن قول زينب الطثرية ترثي أخاها يزيد
إذا نزل الأضياف كان عذورا ... على الحي حتى تستقل مراجله
تريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم وفيه أوجه من المدح وكان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها اقتبس ذلك من الآية فإنه جعل استحقاق السلسلة معللا بعدم الإيمان وعدم الحض وتخصيص الأمرين بالذكر قيل لما أن أقبح العقائد الكفر وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع كالأصول وإلا لم يعاقبوا على ترك الحض على طعام المسكين
فليس له اليوم ههنا حميم قريب مشفق يحميه ويدفع عنه لأن أولياءه يتحامونه ويفرون منه
ولا طعام إلا من غسلين قال اللغويون هو ما يجري من الجراح إذا غسلت فعلين من الغسل وقال ابن عباس في رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق عكرمة عنه أنه الدم والماء الذي يسيل من لحوم أهل النار وفي معناه قوله في روايتهما من طريق علي بن أبي طلحة عنه هو صديد أهل النار وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه أنه قال ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم والأكثرون على الأول وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا وجعله بعضهم متحدا مع الضريع وقال بعضهم هما متباينان وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وله خبر ليس قال المهدوي ولا يصح أن يكون ههنا ولم يبين ما المانع من ذلك وتبعه القرطبي في ذلك وقال لأن المعنى يصير ليس ههنا طعام إلا من غسلين ولا يصح ذلك لأن ثم طعاما غيره وههنا متعلق بما في له من معنى الفعل انتهى وتعقب ذلك أبو حيان فقال إذا كان ثم غيره من الطعام وكان الأكل أكلا آخر صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين وأما إن كان الضريع هو الغسلين كما قال بعضهم فلا تناقض بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى ليس لهم طعام إلا من ضريع إذ المحصور في الآيتين هو من شيء واحد وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره وهو أنه إذا جعلنا ههنا الخبر كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر وهو العامل في ههنا وهو عامل معنوي فلا يتقدم معموله عليه فلو كان العامل لفظيا جاز كقوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد فله متعلق بكفوا وهو خبر ليكن أه وفي إطلاق العامل المعنوي على متعلق الجار والمجرور والمحذوف بحث
لا يأكله إلا الخاطئون أصحاب الخطايا من خطيء الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المقابل للصواب دون المقابل للعمد والمراد بهم على ما روي عن ابن عباس المشركون وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في رواية الخاطيون بياء مضمومة بدلا من الهمزة وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية أخرى ونافع بخلاف عنه الخاطون بطرح الهمزة بعد إبدالها تخفيفا على أنه من خطيء كقراءة من همز وعن ابن عباس ما يشعر بإنكار ذلك أخرج الحاكم وصححه من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عنه أنه قال ما الخاطون إنما هو الخاطئون ما الصابون إنما هو الصابئون وفي رواية ما الخاطون كلنا نخطو كأنه يريد أن التخفيف هكذا ليس قياس وهو ملبس مع ذلك فلا يرتكب وقيل هو من خطا يخطو فالمراد بهم الذين يتخطون من الطاعة إلى العصيان ومن الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عز و جل فيكون كناية عن المذنبين أيضا هذا وظواهر هذه الآيات أن المؤمن الطائع يؤتى كتابه بيمينه والكافر يؤتى كتابه بشماله ولم يعلم منها حال الفاسق الذي مات على فسقه من غير توبة بل قيل ليس في القرآن بيان حاله
(29/51)

صريحا وقد اختلف في أمره فجزم الماوردي بأن المشهور أنه يؤتى كتابه بيمينه ثم حكى قولا بالوقف وقال لا قائل بأنه يؤتاه بشماله وقال يوسف بن عمر اختلف في عصاة المؤمنين فقيل يأخذون كتبهم بأيمانهم وقيل بشمالهم واختلف الأولون فقيل يأخذونها قبل الدخول في النار ويكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها وقيل يأخذونها بعد الخروج منها ومن أهل العلم من توقف لتعارض النصوص ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي ثم أنه ليس في هذه الآيات تصريح بقراءة العبد كتابه والوارد في ذلك مختلف والذي يجمع الآيات والأحاديث على ما قال اللقاني أن من الآخذين من لم يقرأ كتابه لاشتماله على المخازي والقبائح والجرائم والفضائح فيأخذه بسبب ذلك الدهش والرعب حتى لا يميز شيئا كالكافر ومنهم من يقرؤه بنفسه ومنهم من يدعو أهل حاضره لقراءته إعجابا بما فيه وظواهر النصوص أن القراءة حقيقية وقيل مجازية عبر بها عن العلم وليس بشيء ولفظ الحسن يقرأ كل إنسان كتابه أميا كان أو غير أمي وظواهر الآثار أن الحسنات تكتب متميزة من السيئات فقيل أن سيئات المؤمن أول كتابه وآخره هذه ذنوبك قد سترتها وغفرتها وإن حسنات الكافر أول كتابه وآخره هذه حسناتك قد رددتها عليك وما قبلتها وقيل يقرأ المؤمن سيئات نفسه ويقرأ الناس حسناته حتى يقولوا ما لهذا العبد سيئة ويقول ما لي حسنة وقيل كل يقرأ حسناته وسيئاته وأول سطر من كتاب المؤمن أبيض فإذا قرأه ابيض وجهه والكافر على ضد ذلك وظواهر الآيات والأحاديث عدم اختصاص إيتاء الكتب بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء لما في بعضها مما يشعر بالإختصاص ففي حديث رواه أحمد عن أبي الدرداء أنه عليه الصلاة و السلام قال وقد قال له رجل كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح عليه السلام إلى أمتك يا رسول الله هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم الحديث وقد تقدم فتذكر والحق أن الجن في هذه الأمور حكمهم حكم الأنس على ما بحثه القرطبي وصرح به غيره نعم الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون كتابا بل أن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يأخذون أيضا كتابا وأول من يؤتى بيمينه فله شعاع كشعاع الشمس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما في الحديث وبعده أبو سلمة بن عبد الأشد وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأشد الذي مر ذكره غير بعيد والآثار في كيفية وصول الكتب إلى أيدي أصحابها مختلفة فقد ورد أن الريح تطيرها من خزانة تحت العرش فلا تخطيء صحيفة عنق صاحبها وورد أن كل أحد يدعة فيعطى كتابه وجمع بأخذ الملائكة عليهم السلام إياها من أعناقهم ووضعهم لها في أيديهم والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون قد تقدم الكلام في لا أقسم بمواقع النجوم وما تبصرون وما لا تبصرون المشاهدات والمغيبات وإليه يرجع قول قتادة هو عام في جميع مخلوقاته عز و جل وقال عطاء ما تبصرون من آثار القدرة وما لا تبصرون من أسرار القدرة وقيل الأجسام والأرواح وقيل الدنيا والآخرة وقيل الإنس والجن والملائكة وقيل الخلق والخالق وقيل النعم الظاهرة والباطنة والأول شامل لجميع ما ذكر وسبب النزول على ما قال مقاتل أن الوليد قال أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ساحر وقال أبو جهل شاعر وقال عتبة كاهن فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه فلا أقسم الخ
إنه أي القرآن
لقول رسول يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه
كريم على الله عز و جل وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قول الأكثرين وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة هو جبريل عليه السلام
وقوله تعالى وما هو بقول شاعر الخ قيل دليل لما قاله الأكثرون لأن المعنى على إثبات أنه
(29/52)

عليه الصلاة و السلام رسول لا شاعر ولا كاهن كما يشعر بذلك سبب النزول وتوضيح ذلك أنهم ما كانوا يقولون في جبريل عليه السلام أنه كذا وكذا وإنما كانوا يقولونه في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلو أريد برسول كريم جبريل عليه السلام لفات التقابل ولم يحسن العطف كما تقول أنه لقول عالم وما هو بقول جاهل ولو قلت وما هو بقول شجاع نسبت إلى ما تكره وتعقبه بعض الأئمة بأن هذا صحيح أن سلم أن المعنى على إثبات رسول لا شاعر ويكون قوله تعالى أنه لقول رسول لا قول شاعر إثباتا للرسالة على طريق الكناية أما إذا جعل المقصود من السياق إثبات حقية المنزل وأنه من الله عز و جل فإنه تذكرة لهؤلاء وحسرة لمقابليهم وهو في نفسه صدق ويقين لا يحوم حوله شك كما يدل عليه ما بعد فللقول الثاني أيضا موقع حسن وكأنه قيل إن هذا القرآن لقول جبريل الرسول الكريم وما هو من تلقاء محمد صلى الله عليه و سلم كما تزعمون وتدعون أنه شاعر وكاهن ويكون قد نفي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم الشعر والكهانة على سبيل الإدماج انتهى وهو تحقيق حسن
قليلا ما تؤمنون أي تصدقون تصديقا قليلا على أن قليلا صفة للمفعول المطلق لتؤمنون وما مزيدة للتأكيد والقلة بمعناها الظاهر لأنهم لظهور صدقه صلى الله تعالى عليه وسلم لزم تصديقهم له عليه الصلاة و السلام في الجملة وإن أظهروا خلافه عنادا وأبوه تمردا بألسنتهم وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي أي لا تؤمنون البتة ولا كلام فيه سوى أنه دون الأول في الظهور وقال أبو حيان لا يراد بقليلا هنا النفي المحض كما زعم فذلك لا يكون إلا في أقل نحو أقل رجل يقول كذا إلا زيد وفي قل نحو قل رجل يقول كذا إلا زيد وقد يكون في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين نحو ما جوزوا في قوله
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
أما إذا كان منصوبا نحو قليلا ضربت أو قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فإن ذلك لا يجوز لأنه في قليلا ضربت منصوب بضربت ولم تستعمل العرب قليلا إذا انتصب بالفعل نفيا بل متقابلا للكثير وأما في قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فيحتاج إلى رفع قليل لأن ما المصدرية في موضع رفع على الإبتداء أه
وأنت تعلم أن مثل ذلك لا يسمع على مثل الزمخشري بغير دليل فإن الظاهر أنه ما قال إلا عن وقوف وهو فارس ميدان العربية وجوز كونه صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا تؤمنون وذلك على ما قيل إذا سئلوا من خلقهم أو من خلق السماوات والأرض فإنهم يقولون حينئذ الله تعالى وقال ابن عطية نصب قليلا بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون ويحتمل أن تكون ما نافية فينتفي إيمانهم البتة ويحتمل أن تكون مصدرية وما يتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي وقد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ككون الصلة والعفاف للذين كانا يأمر بهما عليه الصلاة و السلام حقا وصوابا أه
وتعقب بأنه لا يصح نصب قليلا بفعل مضمر دال عليه تؤمنون لأنه إما أن تكون ما المقدرة معه نافية فالفعل المنفي بما لا يجوز حذفه وكذا حذفه ما فلا يجوز زيدا ما أضربه على تقدير ما أضرب زيدا ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويرد عليه لزوم عمله من غير تقدم ما يعتمد عليه ونصبه لا ناصب له وأما في موضع رفع على الإبتداء ويرد عليه لزوم كونه مبتدأ بلا خبر لأن ما قبله منصوب لا مرفوع فتأمل
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما والحسن والجحدري يؤمنون بالياء التحتية على الإلتفات
ولا بقول كاهن كما تدعون مرة أخرى
قليلا ما تذكرون أي تذكرون تذكرا قليلا فلذلك يلتبس الأمر عليكم وتمام الكلام فيه إعرابا كالكلام فيما قبله وكذا القراءة وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية قيل لما أن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند فلا
(29/53)

عذر لمدعيها في ترك الإيمان وهو أكفر من حمار بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم وتعقب بأن ذلك أيضا مما يتوقف على تأمل قطعا وأجيب بأنه يكفي في الغرض الفرق بينهما أن توقف الأول دون توقف الثاني
تنزيل أي هو تنزيل
من رب العالمين نزله سبحانه على لسان جبريل عليه السلام وقرأ أبو السمال تنزيلا بالنصب بتقدير نزله تنزيلا
ولو تقول علينا بعض الأقاويل التقول الإفتراء وسمي تقولا لأنه قول متكلف والأقاويل الأقوال المفتراة وهي جمع قول على غير القياس أو جمع أقوال فهو جمع كأناعيم جمع أنعام وأبابيت جمع أبيات وفي الكشاف سمي الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول وتعقبه ابن المنذر بأن أفعولة من القول غريب عن القياس التصريفي وأجيب بأنه غير وارد لأن مراده أنه جمع لمفرد غير مستعمل لأنه لا وجه لاختصاصه بالإفتراء غير ما ذكر والأحسن أن يقال بمنع اختصاصه وضعا وأنه جمع على ما سمعت والتحقير جاء من السياق والمراد لو ادعى علينا شيئا لم نقله
لأخذنا منه أي لأمسكناه وقوله تعالى
باليمين أي بيان بيمينه بعد الإبهام كما في قوله سبحانه ألم نشرح لك صدرك
ثم لقطعنا منه الوتين أي وتينه وهو كما قال ابن عباس نياط القلب الذي إذا انقطع مات صاحبه وعن مجاهد أنه الحبل الذي في الظهر وهو النخاع وقال الكلبي هو عرق بين العلباء وهي عصب العنق والحلقوم وقيل عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ بن ضرار
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه وعن الحسن أن المعنى لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة وعن ابن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه وقرأ ذكوان وابنه محمد ولو يقول مضارع قال وقريء ولو تقول مبنيا للمفعول فنائب الفاعل بعض إن كان قد قريء مرفوعا وإن كان قد قريء منصوبا فهو علينا
فما منكم أيها الناس
من أحد عنه أي عن هذا الفعل وهو القتل
حاجزين أي مانعين يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير عنه لمن عاد عليه ضمير تقول والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر في حاجزين أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط الفائدة ومن زائدة واحد اسمها ومنكم قيل في موضع الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما وقال الحوفي وغيره أن حاجزين نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه لا نفرق بين أحد من رسله ولستن كأحد من النساء فأحد مبتدأ والخبر منكم وضعف هذا القول بأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه الحقيق بتسليطه عليه
وإنه أي القرآن
لتذكرة للمتقين لأنهم المنتفون به
وإنا لنعلم أن منكم مكذبين فنجازيهم على تكذيبهم وقيل الخطاب للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن
وإنه أي القرآن
لحسرة عظيمة على الكافرين عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم فأعاد الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى مكذبين والأول أظهر
(29/54)

وإنه أي القرآن لحق اليقين أي لليقين حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في الكشف وجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره
وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند معاينة ملائكته عليهم السلام والثالث كعلمه به في سائر أوقاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم
فسبح باسم ربك العظيم أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحي إليك من هذا القرآن الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه أن أردت والله تعالى الموفق
سورة المعارج
وتسمى سورة الموافق وسورة سأل وهي مكية بالإتفاق على ما قال القرطبي وفي مجمع البيان عند الحسن إلا قوله تعالى والذين في أموالهم حق معلوم وآيها ثلاث وأربعون في الشامي واثنتان وأربعون في غيره وهي كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف القيامة والنار وقد قال ابن عباس أنها نزلت عقيب سورة الحاقة
بسم الله الرحمن الرحيم سأل سائل بعذاب واقع أي دعا داع به فالسؤال بمعنى الدعاء ولذا عدي بالباء تعديته بها في قوله تعالى يدعون فيها بكل فاكهة والمراد استدعاء العذاب وطلبه وليس من التضمين في شيء وقيل الفعل مضمن معنى الإهتمام والإعتناء أو هو مجاز عن ذلك فلذا عدي بالباء وقيل إن الباء زائدة وقيل أنها بمعنى عن كما في قوله تعالى فاسأل به خبيرا والسائل هو النضر بن الحرث كما روى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس وروي ذلك عن ابن جريج والسدي والجمهور حيث قال إنكار واستهزاء اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وقيل هو أبو جهل حيث قال أسقط علينا كسفا من السماء وقيل هو الحرث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في علي كرم الله تعالى وجهه من كنت مولاه فعلي مولاه قال اللهم إن كان ما يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من أسفله فهلك من ساعته وأنت تعلم أن ذلك القول منه عليه الصلاة و السلام في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه كان في غدير خم وذلك في أواخر سنة الهجرة فلا يكون ما أنزل مكيا على المشهور في تفسير وقد سمعت ما قيل في مكية هذه السورة وقيل هو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم استعجل عذابهم وقيل هو نوح عليه السلام سأل عذاب قومه وقرأ نافع وابن عامر سأل بألف كقال سايل بياء بعد الألف فقيل يجوز أن يكون قد أبدلت همزة الفعل ألفا وهو بدل على غير قياس وإنما قياس هذا بين بين ويجوز أن يكون على لغة من قال سلت أسأل حكاها سيبويه وفي الكشاف هو من السؤال وهو لغة قريش يقولون سلت تسال وهما يتسايلان وأراد أنه من السؤال المهموز معنى لاشتقاقا بدليل وهما يتسايلان وفيه دلالة على أنه أجوف يأتي وليس من تخفيف الهمزة في شيء وقيل السؤال بالواو الصريحة مع ضم السين وكسرها وقوله يتسايلان صوابه يتساولان فتكون ألفه منقلبة عن واو كما في قال وخاف وهو الذي ذهب إليه أبو علي في الحجة وذكر فيها أن أبا عثمان حكى عن أبي زيد أنه سمع من
(29/55)

العرب من يقول هما يتساولان ثم إن في دعوى كون سلت تسال لغة قريش ترددا والظاهر خلاف ذلك وأنشدوا لورود سال قول حسان يهجو هذيلا لما سألوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبيح لهم الزنا
سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب وقول آخر سألتاني الطلاق أن رأتاني
قل مالي قد جئتماني ينكر
وجوز أن يكون سال من السيلان وأيد بقراءة ابن عباس سال فقد قال ابن أبي جني السيل ههنا الماء السائل وأصله المصدر من قولك سال الماء سيلا إلا أنه أوقع على الفاعل كما في قوله تعالى إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا وقد تسومح في التعبير عن ذلك بالوادي فقيل المعنى اندفع واد بعذاب واقع والتعبير بالماضي قيل للدلالة على تحقق وقوع العذاب إما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر وقد قتل يومئذ النضر وأبو جهل وإما في الآخرة وهو عذاب النار وعن زيد بن ثابت إن سائلا اسم واد في جهنم وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس ما يحتمله
للكافرين صفة أخرى لعذاب أي كائن للكافرين أو صلة لواقع واللام للتعليل أو بمعنى على ويؤيده قراءة أبي على الكافرين وإن صح ما روي عن الحسن وقتادة أن أهل مكة لما خوفهم صلى الله تعالى عليه وسلم بعذاب سألوا عنه على من ينزل وبمن يقع فنزلت كان هذا ابتداء كلام جوابا للسائل أي هو للكافرين
وقوله تعالى ليس له دافع صفة أخرى لعذاب أو حال منه لتخصيصه بالصفة أو بالعمل أو من الضمير في الكافرين على تقدير كونه صفة لعذاب على ما قيل أو استئناف أو جملة مؤكدة لهو للكافرين على ما سمعت آنفا فلا تغفل
وقوله سبحانه من الله متعلق بدافع ومن ابتدائية أي ليس له دافع يرده من جهته عز و جل لتعلق إرادته سبحانه به وقيل متعلق بواقع فقيل إنما يصح على غير قول الحسن وقتادة وعليه يلزم الفصل بالأجنبي لأن للكافرين على ذلك جواب سؤال ثم إن التعلق بواقع على ما عدا قولهما إن جعل للكافرين من صلته أيضا كان أظهر وإلا لزم الفصل بين المعمول وعامله بما ليس من تتمته لكن ليس أجنبيا من كل وجه
ذي العارج هي لغة الدرجات والمراد بها على ما روي عن ابن عباس السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء ولم يعينها بعضهم فقال أي ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي وقيل هي مقامات معنوية تكون فيها الأعمال والأذكار أو مراتب في السلوك يترقى فيها المؤمنون السالكون أو مراتب الملائكة عليهم السلام وأخرج عبد بن حميد عن قتادة تفسيرها بالفضائل والنعم وروى نحوه ابن المنذر وابن أبي عباس وقيل هي الغرف التي جعلها الله تعالى لأوليائه في الجنة والأنسب بما يقتضيه المقام من التهويل ما هو أدل على عزه عز و جل وعظم ملكوته تعالى شأنه
تعرج الملائكة والروح أي جبريل عليه السلام كما ذهب إليه الجمهور أفرد بالذكر لتميزه وفضله بناء على المشهور من أنه عليه السلام أفضل الملائكة وقيل لمجرد التشريف وإن لم يكن عليه السلام أفضلهم بناء على ما قيل من أن إسرافيل عليه السلام أفضل منه وقال مجاهد الروح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الحفظة كما نرى نحن حفظتنا وقيل خلق هم حفظة الملائكة مطلقا كما أن الملائكة حفظة الناس وقيل ملك عظيم الخلقة يقوم وحده يوم القيامة صفا ويقوم الملائكة كلهم صفا وقال أبو صالح خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس وقال قبيصة بن ذؤيب روح الميت حين تقبض ولعله أراد الميت المؤمن وقرأ عبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش يعرج بالياء التحتية إليه قيل أي إلى عرشه تعالى وحيث يهبط منه أو أمره سبحانه وقيل هو من قبيل قول إبراهيم عليه السلام إني ذاهب إلى ربي أي إلى
(29/56)

حيث أمرني عز و جل به وقيل المراد إلى محل بره وكرامته جل وعلا على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إلى أن المكان المنتهي إليه الدال عليه السياق وفسر بمحل الملائكة عليهم السلام من السماء ومعظم السلف يعدون ذلك من المتشابه مع تنزيهه عز و جل عن المكان والجسمية واللوازم التي لا تليق بشأن الألوهية
وقوله تعالى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أي من سنينكم الظاهر تعلقه بتعرج واليوم بمعنى الوقت والمراد به مقدار ما يقوم الناس فيه لرب العالمين إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من اليوم الآخر والذي لا نهاية له ويشير إلى هذا ما أخرج الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا واختلف في المراد بهذا التقدير على هذا الوجه فقيل الإشارة إلى استطالة ذلك اليوم لشدته لا أنه بهذا المقدار من العدد حقيقة وروي هذا عن ابن عباس والعرب تصف أوقات الشدة والحزن بالطول وأوقات الرخاء والفرح بالقصر ومن ذلك قول الشاعر
من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول
وقوله
ليلى وليلى نفي نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلى كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
وقوله
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
إلى ما لا يكاد يحصى وفي قوله عليه الصلاة و السلام في الخبر السابق أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة إشارة إلى هذا وكذا ما روي عن عبد الله بن عمر من قوله يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك اليوم ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه ولينظر على هذا القول ما حكمه التنصيص على العدد المذكور وقيل هو على ظاهره وحقيقته وإن في ذلك اليوم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة من سني الدنيا أي حقيقة وقيل الخمسون على حقيقتها إلا أن المعنى مقدار ما يقتضي فيه الحساب قدر ما يقتضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وهو مروي عن عكرمة وأشار بعضهم إلى أن المقدار المذكور عليه مجاز عما يلزمه من كثرة ما يقع فيه من المحاسبات أو كناية فكأنه قيل في يوم يكثر فيه الحساب ويطول بحيث لو وقع من غير أسرع الحاسبين وفي الدنيا طال إلى خمسين ألف سنة وتخصيص عروج الملائكة والروح بذلك اليوم مع أن عروجهم متحقق في غيره أيضا للإشارة إلى عظم هوله وانقطاع الخلق فيه إلى الله عز و جل وانتظارهم أمره سبحانه فيهم أو للإشارة إلى عظم الهول على وجه آخر وأيا ما كان فالجملة استئناف مؤكد لما سيق له الكلام وقيل هو متعلق بواقع وقيل بدافع وقيل بسال إذا جعل من السيلان لا به من السؤال لأنه لم يقع فيه والمراد باليوم على هذه الأقوال ما أريد به فيما سبق وتعرج الملائكة والروح إليه مستطرد عند وصفه عز و جل بذي المعارج وقيل هو متعلق بتعرج كما هو الظاهر إلا أن العروج في الدنيا والمعنى تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى ويقطعون في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض سيره فيه وروي عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة وهو رواية عن ابن عباس أيضا واختلف في تحديد المسافة فقيل هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش وقيل من قعر الأرض السابعة السفلى إلى العرش وفصل بأن
(29/57)

ثخن كل أرض خمسمائة عام وبين كل أرضين خمسمائة عام وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام وثخن كل سماء كذلك وما بين كل سماءين كذلك وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك ومجموع ذلك أربعة عشر ألف عام ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة ست وثلاثين ألف عام فالمجموع خمسون ألف سنة وفي خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ولعله لا يصح وإن لم تبعد هذه السرعة من الملائكة عليهم السلام عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله عز و جل على كل شيء قدير ومن الناس من اعتبر هذه المدة من الأرض إلى العرش عروجا وهبوطا واعتبرها كذلك من الأرض إلى مقعر السماء الدنيا في قوله سبحانه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ومن يعتبر أحد الأمرين يعتبر هنا محدب السماء الدنيا والأرض وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للمتصوفة في ذلك وقيل الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على سبيل التمثيل والتخييل والمراد أنها في غاية البعد والإرتفاع المعنوي على بعض الأوجه في المعارج أو الحسي كما في بعض آخر وليس المراد التحديد وعن عكرمة أن تلك المدة هي مدة الدنيا منذ خلقت إلى أن تقوم الساعة إلى أنه لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي أي تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية وهذا يحتاج إلى نقل صحيح والظاهر أنه أراد بالدنيا ما يقابل الأخرى ويشمل العرش ونحوه ويرد عليه أن ما ورد عن علي كرم الله تعالى وجهه جوابا لمن سأله متى خلق الله تعالى العرش يكذبه فإنه يدل على أن ما مضى من أول زمن خلقه إلى اليوم يزيد على خمسين ألف سنة بألوف ألوف سنين لا يحصيها إلا الله عز و جل ولعله أولى بالقبول مما قاله عكرمة والحق أينه لا يعلم مبدأ الخلق ولا مدة بقاء هذه البنية إلا الله عز و جل بيد أنا نعلم بتوفيق الله تعالى أن العالم حادث حدوثا زمنيا وأنه ستبدل الأرض غير الأرض والسماوات وتبرز الخلائق لله تعالى الواحد القهار
فاصبر صبرا جميلا متفرع على قوله تعالى سأل سائل ومتعلق به تعلقا معنويا لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بناء على أن السائل النضر وأضرابه وذلك مما يضجره عليه الصلاة و السلام أو كان عن تضجر واستبطاء للنصر بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو السائل فكأنه قيل فاصبر ولا تستعجل فإن الموعود كائن لا محالة والمعنى على هذا أيضا على قراءة من قرأ سال سائل من السيلان كقراءة سال سيل ولا يظهر تفرعه على سأل من السؤال إن كان السائل نوحا عليه السلام والصبر الجميل على ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس ما لا شكوى فيه إلى أحد غير الله تعالى وأخرج عبد الأعلى بن الحجاج أنه ما يكون معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدي من هو
إنهم يرونه أي العذاب الواقع أو اليوم المذكور في قوله تعالى في يوم كان مقداره الخ بناء على أن المراد به يوم الحساب متعلقا بتعرج على ما سمعت أولا أو بدافع أو بواقع أو بسال من السيلان أو يوم القيامة المدلول عليه بواقع على وجه فما يدل عليه كلام الكشاف من تخصيص عود الضمير إلى يوم القيامة بما إذا كان في يوم متعلقا لواقع فيه بحث ومعنى يرونه يعتقدونه
بعيدا أي من الإمكان والمراد أنهم يعتقدون أنه محال أو أن الوقوع والمراد أنهم يعتقدون أنه لا يقع أصلا وإن كان ممكنا ذاتا وكلام كفار أهل مكة بالنسبة إلى يوم القيامة والحساب محتمل للأمرين بل ربما تسمعهم يتكلمون بما يكاد يشعر بوقوعه حيث يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم فهم متلونون في أمره تلون الحرباء والعذاب إن أريد به عذاب يوم القيامة فهو كيوم القيامة عندهم أو أنه لا يقع بالنسبة إليهم مطلقا لزعمهم دفع آلهتهم إياه عنهم وإن أريد به عذاب الدنيا فالظاهر أنهم لا ينفون إمكانه وإنما ينفون وقوعه ولا تكاد تتم دعوى أنهم ينفون إمكانه الذاتي
ونراه قريبا أي من الإمكان والتعبير به للمشاكلة كما قيل
(29/58)

بها في نراه إذ هو ممكن ولا معنى لوصف الممكن بالقرب من الأمكان لدخوله في حيزه والمراد وصفه بالإمكان أي ونراه ممكنا وهذا على التقدير الأول في يرونه بعيدا أو نراه قريبا من الوقوع وهذا على التقدير الثاني فيه وقد يقال كذلك على الأول أيضا على معنى أنهم يرونه بعيدا من الإمكان ونحن نراه قريبا من الوقوع فضلا عن الإمكان ولعله أولى من تقدير الإمكان في الجملتين وجملة أنهم الخ تعليل للأمر بالصبر وقيل إن كان المستعجل هو النضر وأضرابه فهي مستأنفة بيانا لشبهة استهزائهم وجوابا عنه وإن كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهي تعليل لما ضمن الأمر بالصبر من ترك الإستعجال بأن رؤيتنا ذلك قريبا توجب الوثوق وترك الإستعجال
وقوله سبحانه يوم تكون السماء كالمهل قيل متعلق بقريبا أو بمضمر يدل عليه واقع وهو يقع أو بدل عن في يوم إن علل به دون تعرج والنصب باعتبار أن محل الجار والمجرور ذلك ليس بدلا عن المجرور وحده فاشتراط أبي حيان لمراعاة المحل كون الجار زائدا أو شبهه كرب غير صحيح ولا يحتاج تصحيح البدلية إلى التزام كون حركة يوم بنائية بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك وإن أضيف لمعرب وذكر أنه على هذه التقادير الثلاث المراد بالعذاب عذاب القيامة وأما إذا أريد عذاب الدنيا فيتعين أن يكون التقدير يوم تكون السماء يكون كيت وكيت وكأنهم لما استعجلوا العذاب أجيبوا بأزف الوقوع ثم قيل ليهن ذلك في جنب ما أعد لكم يوم تكون السماء كالمهل فحينئذ يكون العذاب الذي هو العذاب ثم لا يخفى أن البدلية ممكنة على تقدير تعلق في يوم بتعرج أيضا بناء على أن المراد به يوم القيامة أيضا كما قدمنا وأن الأولى عند تعلقه بقريبا أن لا يراد من القريب من الإمكان الإمكان الذاتي لما في تقييده باليوم نوع إيهام وأن ضميري يرونه ونراه إذا كانا ليوم القيامة يلزم وقوع الزمان في الزمان في قولنا يقع يوم القيامة يوم تكون كالمهل ويجاب بما لا يخفى وجوز في البحر كونه بدلا من ضمير نراه إذا كان عائدا على يوم القيامة وفي الإرشاد كونه متعلقا بليس له دافع وبعضهم كونه مفعولا به لا ذكر محذوفا وتعلقه بنراه كما قاله مكي لا نراه وكذا تعلقه بيبصرونهم كما حكاه ومثله ما عسى أن يقال متعلقه بيود الآتي بعد فتأمل
والمهل أخرج أحمد والضياء في المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه دردي الزيت وهو ما يكون في قعره وقال غير واحد المهل ما أذيب على مهل من الفلزات والمراد يوم تكون السماء واهية وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة في الآية أن السماء الآن خضراء وإنها تحول يوم القيامة لونا آخر إلى الحمرة
وتكون الجبال كالعهن كالصوف دون تقييد أو الأحمر أو المصبوغ ألوانا أقوال واختار جمع الأخير وذلك لاختلاف ألوان الجبال فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن أي المنفوش كما في القارعة إذا طيرته الريح وعن الحسن تسير الجبال مع الرياح ثم ينهد ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء
ولا يسئل حميم حميما أي لا يسأل قريب مشفق قريبا مشفقا عن حاله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة وفي رواية أخرى عنه لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة وقيل لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك وقيل لا يسأله شفاعة
وفي البحر لا يسأله نصره ولا منفعته لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده ولعل الأول أبلغ في التهويل وأيا ما كان فمفعول يسأل الثاني محذوف وقيل حميما منصوب بنزع الخافض أي لا يسأل حميم عن حميم وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي بخلاف عن ثلاثتهم ولا يسأل مبنيا للمفعول أي لا يطلب من حميم حميم ولا يكلف إحضاره أو لا يسأل منه حاله وقيل لا يسأل ذنوب جميمه ليؤخذ بها
يبصرونهم أي يبصر الإحماء الإحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعهم من التساؤل إلا اشتغالهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه من مشاهدة
(29/59)

الحال كبياض الوجه وسواده ولا يخفى حاله ويبصرونهم قيل من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره ثم ضمن معنى التعريف أو حذف الصلة إيصالا وجمع الضميرين لعموم الحميم والجملة استئناف كأنه لما قيل لا يسأل الخ قيل لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم وجوز أن تكون صفة أي حميما مبصرين معرفين إياهم وأن تكون حالا إما من الفاعل أو من المفعول أو من كليهما ولا يضر التنكير لمكان العموم وهو مسوغ للحالية ورجحت على الوصفية بأن التقييد بالوصف في مقام الإطلاق والتعميم غير مناسب وليس فيها ذلك فلا تغفل
وقرأ قتادة يبصرونهم مخففا مع كسر الصاد أي يشاهدونهم يود المجرم أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب
وقوله تعالى لو يفتدي من عذاب يومئذ أي العذاب الذي ابتلي به يومئذ
ببنيه وصاحبته وأخيه حكاية لودادتهم ولو في معنى التمني وقيل هي بمنزلة إن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا ليود والتقدير يود افتداءه ببنيه الخ والجملة استئناف لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وجوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل على فرض أن يكون هو السائل فإن فرض أن السائل المفعول فهي حال من ضميره وقيل الظاهر جعلها من ضمير الفاعل لأنه المتمني وأيا ما كان فالمراد يود المجرم منهم وقرأ نافع والكسائي كما في أنوار التنزيل والأعرج يومئذ بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وقرأ أبو حيوة كذلك وبتنوين عذاب فيومئذ حينئذ منصوب بعذاب لأنه في معنى تعذيب
وفصيلته أي عشيرته الأقريبن الذين فصل عنهم كما ذكره غير واحد ولعله أولى من قول الراغب عشيرته المنفصلة عنه وقال ثعلب فصيلته آباؤه الأدنون وفسر أبو عبيدة الفصيلة بالفخذ
التي تؤيه أي تضمنه انتماء إليها أولياذا بها في النوائب
ومن في الأرض جميعا من الثقلين الإنس والجن أو الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم ومن للتغليب
ثم ينجيه عطف على يفتدي والضمير المرفوع للمصدر الذي في ضمن الفعل أي يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الإفتداء وجوز أبو حيان عود الضمير إلى المذكور والزمخشري عوده إلى من في الأرض وثم الإستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات وقرأ الزهري تؤويه وينجيه بضم الهائين
كلا ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الإنجاء وضمير
إنها للنار المدلول عليها بذكر العذاب
وقوله تعالى
لظي خبر أن وهي علم لجهنم أو للدركة الثانية من دركاتها منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وجوز أن يراد اللهب على المبالغة كان كلها لهب خالص وحذف التنوين إما لإجراء الوصل مجرى الوقف أو لأنه علم جنس معدول عما فيه اللام كسحر إذا أردت سحرا بعينه
وقوله تعالى نزاعة للشوى أي الأطراف كاليد والرجل كما أخرجه ابن المنذر وابن حميد عن مجاهد وأبي صالح وقاله الراغب وغيره وقيل الأعضاء التي ليست بمقتل ولذا يقال رمى فأشوى إذا لم يقتل أو جمع شواة وهي جلدة الرأس وأنشدوا قول الأعشى
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبا شواته
وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وقرة بن خالد وابن جبير وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد وأخرج هو عن أبي صالح والسدي تفسيرها بلحم الساقين وعن ابن جبير العصب والعقب وعن أبي العالية محاسن الوجه وفسر نزعها لذلك بأكلها له فتأكله ثم يعود وهكذا نصب بتقدير أعني أو أخص وهو مراد من قال نصب على الإختصاص للتهويل وجوز أن يكون حالا والعامل فيها لظى وإن كان علما لما فيه من
(29/60)

معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
أي المشهور بعض الأحيان قاله أبو حيان وإليه يشير كلام الكشف وقال الخفاجي لظى بمعنى متلظية والحال من الضمير المستتر فيها لا منها بالمعنى السابق لأنها نكرة أو خبر وفي مجيء الحال من مثله ما فيه وقيل هو حال مؤكدة كما في قوله
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار
والعامل أحقه أو الخبر لتأويله بمسمى أو المبتدأ لتضمنه معنى التنبيه أو معنى الجملة وارتضاء الرضى وقيل حال من ضمير تدعو قدم عليه وجوز الزمخشري أن يكون ضمير أنها مبهما ترجم عنه الخبر أعني لظى وبحث فيه بما رده المحققون وقرأ الأكثرون نزاعة بالرفع على أنه خبر ثان لأن أو صفة للظى وهو ظاهر على اعتبار كونها نكرة وكذا على كونها على جلس لأنه كالمعرف بلام الجنس في إجرائه مجرى النكرة أو هو الخبر ولظى بدل من الضمير وإن اعتبرت نكرة بناء على أن إبدال النكرة غير منعوتة من المعرفة قد أجازه أبو علي وغيره من النحاة إذا تضمن فائدة كما هنا وجوز على هذه القراءة أن يكون ضمير أنها للقصة ولظى مبتدأ بناء على أنه معرفة ونزاعة خبره 3وقوله تعالى تدعوا خبر مبتدأ مقدر أو حال متداخلة أو مترادفة أو مفردة أو خبر بعد خبر على قراءة الرفع فلا تغفل
والدعاء على حقيقته وذلك كما روي عن ابن عباس وغيره يخلق الله تعالى فيها القدرة على الكلام كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم فتناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وروي أنها تقول لهم إلي إلي يا كافر يا منافق وجوز أن يراد به الجذب والإحضار كما في قول ذي الرمة يصف الثور الوحشي
أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب
ونحوه قوله أيضا
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب
ولا يبعد أن يقال شبه لياقتها لهم أو استحقاقهم لها على ما قيل بدعائها لهم فعبر عن ذلك بالدعاء على سبيل الإستعارة وقال ثعلب تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله تعالى أي أهلكك وحكاه الخليل عنهم وفي الأساس دعاه الله تعالى بما يكره أنزله به وأصابتهم دواعي الدهر صروفه ومن ذلك قوله
دعاك الله من رجل بأفعى ... إذا ناما العيون سرت عليكا
واستظهر أنه معنى حقيقي للدعاء لكنه غير مشهور وفيه تردد وجوز أن يكون الدعاء لزبانيتها وأسند إليها مجازا أو الكلام على تقدير مضاف أي تدعو زبانيتها
من أدبر في الدنيا عن الحق
وتولى أعرض عن الطاعة
وجمع فأوعى أي جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حقوقه وتشاغل به عن الدين زها باقتنائه حرصا وتأميلا وهذا إشارة إلى كفار أغنياء وما أخوف عبد الله بن عكيم فقد أخرج ابن سعيد عن الحكم أنه قال كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول وجمع فأوعى
إن الإنسان خلق هلوعا الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم ناقة هلوع سريعة السير
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن الهلوع فقال هو كما قال الله تعالى إذا مسه الشر الخ وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه سئل عن ذلك أيضا فقرأ الآية وحكى نحوه عن ثعلب قال قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر ما الهلع فقلت قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه يعني قوله تعالى إذا مسه الآية ونظير ذلك قوله
إلا لمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
والجملة المؤكدة في موضع التعليل لما قبلها والإنسان الجنس أو الكافر قولان أيد ثانيهما بما روى
(29/61)

الطستي عن ابن عباس أن الآية في أبي جهل بن هشام ولا يأبى ذاك إرادة الجنس والشر الفقر والمرض ونحوهما وأل للجنس أي إذا مسه جنس الشر
جزوعا أي مبالغا في الجزع مكثرا منه والجزع قال الراغب أبلغ من الحزن فإن الحزن عام والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه وأصله قطع الحبل من نصفه يقال جزعه فانجزع ولتصور الإنقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه والإنقطاع اللون بتغيره قيل للخرز المتلون جزع وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا لونين وقيل للبسرة إذا بلغ الأرطاب نصفها مجزعة
وإذا مسه الخير المال والغنى أو الصحة
منوعا مبالغا في المنع والإمساك وإذا الأولى ظرف لجزوعا والثانية ظرف لمنوعا والوصفان على ما اختاره بعض الأجلة صفتان كاشفتان لهلوعا الواقع حالا كما هو الأنسب بما سمعت عن ابن عباس وغيره وقال غير واحد الأوصاف الثلاثة أحوال فقيل مقدرة أن أريد اتصاف الإنسان بذلك بالفعل فإنه في حال الخلق لم يكن كذلك وإنما حصل له ذلك بعد تمام عقله ودخوله تحت التكليف ومحققه أن أريد اتصافه بمبدأ هذه الأمور من الأمور الجلية والطبائع الكلية المندرجة فيها تلك الصفات بالقوة ولا مانع عند أهل الحق من خلقه تعالى الإنسان وطبعه سبحانه إياه على ذلك وفي زوالها بعد خلاف فقيل أنها تزول بالمعالجة ولولاه لم يكن للمنع منها والنهي عنها فائدة وهي ليست من لوازم الماهية فالله تعالى كما خلقها يزيلها وقيل إنها لا تزول وإنما تستر ويمنع المرء عن آثارها الظاهرة كما قيل
والطبع في الإنسان لا يتغير
وهذا الخلاف جار في جميع الأمور الطبيعية وقال بعضهم الأمور التابعة منها لأصل المزاج لا تتغير والتابعة لعرضه قد تتغير وذهب الزمخشري إلى أن في الكلام استعارة فقال المعنى أن الإنسان لا يثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه كأنه مجبول عليهما مطبوع وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري كقوله تعالى خلق الإنسان من عجل لأنه في البطن والمهد لم يكن به هلع ولأنه ذم والله تعالى لا يذم فعله سبحانه والدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وطلقوها من الشهوات حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين وتعقب بأنه في المهد أهلع وأهلع فيسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع وإن مسه ألم جزع وبكى وإن تمسك بشيء فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء وفي البطن لا يعلم حاله وأيضا الاسم يقع عليه بعد الوضع فما بعده هو المعتبر وإن الذم من حيث القيام بالعبد كما حقق في موضعه وإن الإستثناء إما منقطع لأنه لما وصف سبحانه من أدبر وتولى معللا بهلعه وجزعه قال تعالى لكن المصلين في مقابلتهم أولئك في جنات ثم كر على السابق وقال فمال الذين كفروا بالفاء تخصيصا بعد تعميم ورجعا إلى بدء لأنهم من المستهزئين الذين افتتح السورة بذكر سؤالهم أو متصل على أنهم لم يستمر خلقهم على الهلع فإن الأول لما كان تعليلا كان معناه خلقا مستمرا على الهلع والجزع إلا المصلين فإنهم لم يستمر خلقهم على ذلك فلا يرد أن الهلع الذي في المهد لو كان مرادا لما صح استثناء المصلين لأنهم كغيرهم في حال الطفولية انتهى
وهذا الإستثناء هو ما تضمنه قوله تعالى إلا المصلين الخ وقد وصفهم سبحانه بما ينبيء عن كمال تنزههم عن الهلع من الإستغراق في طاعة الحق عز و جل والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسرالشهوة وإيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل
الذين هم على صلاتهم دائمون أي مواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل وفيه إشارة إلى فضل المداومة على العبادة وقد أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال حدثتني عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله تعالىعليه دام عليه وإن قل وكان ذا صلى صلاة دام عليها
(29/62)

وقرأ أبو سلمة الذين هم على صلاتهم دائمون وأخرج أحمد في مسنده عنها أنها قالت كان عمله صلى الله تعالى عليه وسلم ديمة قال جار الله ما فعل من أفعال الخير إلا وقد اعتاد ذلك ويفعله كلما جاء وقته ووجه بأن الفعلة للحاقة التي يستمر عليها الشخص ثم جعله نفس الحالة ما لا يخفى من المبالغة والدلالة على أنه ملكة له عليه الصلاة و السلام وقيل دائمون أي لا يلتفتون فيها ومنه الماء الدائم وروي ذلك عن عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر أخرج ابن المنذر عن أبي الخير أن عقبة قال لهم من الذين هم على صلاتهم دائمون قال قلنا الذين لا يزالون يصلون فقال لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال وإليه ذهب الزجاج فتشعر الآية بذم الإلتفات في الصلاة وقد نطقت الأخبار بذلك واستدل بعضهم بها على أنه كبيرة وتحقيقه في الزواجر وعن ابن مسعود ومسروق أن دوامها أداؤها في مواقيتها وهو كما ترى ولعل ترك الإلتفات والأداء في الوقت يتضمنه ما يأتي من المحافظ إن شاء الله تعالى والمراد بالصلاة على ما أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي الصلاة المكتوبة وعن الإمام أبي جعفر رضي الله تعالى عنه المراد بها النافلة وقيل ما أمروا به مطلقا منها وقرأ الحسن صلواتهم بالجمع
والذين في أموالهم حق معلوم أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس وهو على ما روي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يوظفه الرجل على نفسه يؤديه في كل جمعة أو كل شهر مثلا وقيل هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت وعين مقدارها في المدينة وقبل ذلك كانت مفروضة من غير تعيين
للسائل الذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم واستعماله في ذلك على سبيل الكناية ولا يصح أن تراد به من يحرمونه بأنفسهم للزوم التناقض كما لا يخفى
والذين يصدقون بيوم الدين المراد التصديق به بالأعمال حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية طمعا في المثوبة الأخروية لأن التصديق القلبي عام لجميع المسلمين لا امتياز فيه لأحد منهم وفي التعبير بالمضارع دلالة على أن التصديق والأعمال تتجدد منهم آنا فآنا
والذين هم من عذاب ربهم مشفقون خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصار لها واستعظاما لجنابه عز و جل كقوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون وقوله سبحانه
إن عذاب ربهم غير مأمون اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه عز و جل وإن بالغ في الطاعة كهؤلاء ولذا كان السلف الصالح وهم هم خائفين وجلين حتى قال بعضهم يا ليتني كنت شجرة تعضد وآخر ليت أمي لم تلدني إلى غير ذلك
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون سبق تفسيره في سورة المؤمنين على وجه مستوفي فتذكره
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون لا يخلون بشيء من حقوقها وكأنه لكثرة الأمانة جمعت ولم يجمع العهد قبل إيذانا بأنه ليس كالأمانة كثرة وقيل لأنه مصدر ويدل على كثرة الأمانة ما روى الكلبي كل أحد مؤتمن على ما اقترض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال ومن الحقوق في الأموال وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين وقال السدي إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قبلها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان وقيل كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله وأذن سبحانه له به فقد خان الأمانة والخيانة فيها وكذا الغدو بالعهد من الكبائر على ما نص غير واحد وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعا أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه
(29/63)

خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال ما خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وقرأ ابن كثير لأمانتهم بالإفراد على إرادة الجنس
والذين هم بشهاداتهم قائمون مقيمون لها بالعدل غير منكرين لها أو بشيء منها لا مخفين أحياء لحقوق الناس فيما يتعلق بها وتعظيما لأمر الله عز و جل فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق العباد وذكر أنها مندرجة في الأمانات إلا أنها خصت بالذكر لأبانة فضلها وجمعها لاختلاف الأنواع ولو لم يعتبر ذلك أفرد على ما قيل لأنها مصدر شامل للقليل والكثر وقرأ الجمهور بالإفراد على ما سمعت آنفا
والذين هم على صلاتهم يحافظون أي يراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها باستعارة الحفظ من الضياع للإتمام والتكميل وهذا غير الدوام فإنه يرجع إلى أنفس الصلوات وهذا يرجع إلى أحوالها فلا يتكرر مع ما سبق من قوله تعالى الذين هم على صلاتهم دائمون وكأنه لما كان ما يراعي في إتمام الصلاة وتكميلها مما يتفاوت بحسب الأوقات جيء بالمضارع الدال على التجدد كذا قيل وقيل أن الإتيان به مع تقديم هم لمزيد الإعتناء بهذا الحكم لما أن أمر التقوى في مثل ذلك أقوى منه في مثل هم محافظون واعتبر هذا دون ما في الصدر لأن المراعاة المذكورة كثيرا ما يغفل عنها وفي افتتاح الأوصاف بما يتعلق بالصلاة واختتامها به دلالة على شرفها وعلو قدرها لأنها معراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وتكرير الموصولات لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات إيذانا بأن كل واحد من الأوصاف المذكورة نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع لأحكام جمه حقيق يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر
أولئك إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد لبعد المشار إليهم أما في الفضل أو في الذكر باعتبار مبدأ الأوصاف المذكورة وهو مبتدأ خبره
في جنات أي مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها
وقوله تعالى مكرمون خبر آخر أو هو الخبر وفي جنات متعلق به قدم عليه للإهتمام مع مراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر أي مكرمون كائنين في جنات
فمال الذين كفروا قبلك أي في الجهة التي تليك
مهطعين مسرعين نحوك مادي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ليظفروا بما يجعلونه هزؤا
عن اليمين وعن الشمال عزين جماعات في تفرقة كما قال أبو عبيدة وأنشدوا قول عبيد بن الأبرص
فجاؤا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
وخص بعضهم كل جماعة بنحو ثلاثة أشخاص أو أربعة جمع عزة وأصلها عزوة من العز ولان كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فلامها واو وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت بالواو والنون كما جمعت سنة وأخواتها وتكسر العين في الجمع وتضم وقالوا عزي على فعل ولم يقولوا عزات ونصب عزين على أنه حال من الذين كفروا أو من الضمير في مهطعين على التداخل وعن اليمين إما متعلق به لأنه بمعنى متفرقين أو بمهطعين أي مسرعين عن الجهتين أو هو حال أي كائنين عن اليمين روي أنه عليه الصلاة و السلام كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزؤن بكلامه عليه الصلاة و السلام ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت وفي بعض الآثار ما يشعر بأن الأولى أن
(29/64)

لا يجلس المؤمنون عزين لأنه من عادة الجاهلية
أيطمع كل امريء منهم أن يدخل جنة نعيم أي بلا إيمان وهوإنكار لقولهم إن دخل هؤلاء الجنة وقرأ ابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن علين وطلحة والمفضل عن عاصم يدخل بالبناء للفاعل
كلا ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ
إنا خلقناهم مما يعملون قيل هو تعليل للردع ومن أجلية والمعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعملون وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل من أن يتبوأ متبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطمعوا في دخول الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وإنكار البعث وكون ذلك معلوما لهم باعتبار سماعهم إياه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل من ابتدائية والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل بالإيمان والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملائكة عليهم السلام لم تستعد لدخولها وكلا القولين كما ترى وقال مفتي الديار الرومية أن الأقرب كونه كلاما مستأنفا قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته عز و جل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبما نزل عليه عليه الصلاة و السلام من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشيء بدلهم قوما آخرين فإن قدرته سبحانه على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته عز و جل على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى
فلا أقسم برب المشارق والمغارب أي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما يعلمون وهو النطفة القذرة فلا أقسم برب المشارق والمغارب
إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم أي نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم
وما نحن بمسبوقين أي بمغلوبين إن أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم وفيه نوع بعد ولعل الأقرب كونه في معنى التعليل لكن على وجه قرر به صاحب الكشف كلام الكشاف فقال أراد أنه ردع عن الطمع معلل بإنكارهم البعث من حيث أن ذكر دليله إنما يكون مع المنكر فأقيم علة مقام العلة مبالغة لما حكي عنهم طمع دخول الجنة ومن البديهي أنه ينافي حال من لا يثبتها فكأنه قيل أنه ينكر البعث فأنى يتجه طمعه واحتج عليهم بخلقهم أولا وبقدرته سبحانه على خلق مثلهم ثانيا وفيه تهكم بهم وتنبيه على مكان مناقضتهم فإن الإستهزاء بالساعة والطمع في دخول الجنة مما يتنافيان ووجه أقربيته قوة الإرتباط بما سبق عليه وهو في الحقيقة أبعد مغزى ومنه يعلم أن ما قيل في قوله سبحانه إنا لقادرون على أن نبدل الخ أن معناه لقادرون على أن نعطي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من هو خيرمنهم وهم الأنصار ليس بذاك وفي التعبير عن مادة خلقهم بما يعملون مما يكسر سورة المتكبرين ما لا يخفى والمراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس المائة والثمانون ومغاربها كذلك أو مشارق ومغارب الشمس والقمر على ما روي عن عكرمة أو مشارق الكواكب ومغاربها مطلقا كما قيل وذهب بعضهم إلى أن المراد رب المخلوقات بأسرها والكلام في فلا أقسم قد تقدم وقرأ قوم فلا أقسم بلاء دون ألف وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري المشرق والمغرب مفردين
فذرهم فخلهم غير مكترث بهم
يخوضوا في باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم
ويلعبوا في دنياهم
حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون هو يوم البعث عند النفخة الثانية لقوله سبحانه
يوم يخرجون من الأجداث أي القبور فإنه يدل على يومهم وهو مفعول به ليلاقوا وتفسيره بيوم موتهم أو يوم بدر أو يوم النفخة الأولى وجعل يوم مفعولا به لمحذوف كذكر أو متعلقا بترهقهم ذلة مما لا ينبغي أن يذهب إليه وما في الآية من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف وقرأ أبو جعفر وابن محيصن يلقوا مضارع
(29/65)

لقي وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ يخرجون على البناء للمفعول من الإخراج
سراعا أي مسرعين وهو حال من مرفوع يخرجون وهو جمع سريع كظريف وظراف
كأنهم إلى نصب وهو ما نصب فعبد من دون الله عز و جل وعده غير واحد مفردا وأنشدوا قول الأعشى
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا
وقال بعضهم هو جمع نصاب ككتاب وكتب وقال الأخفش جمع نصب كرهن ورهن والأنصاب جمع الجمع وقرأ الجمهور نصب بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد فقيل الصنم المنصوب للعبادة أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك وقال أبو عمرو هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد وقيل ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره وقرأ أبو عمران الحوفي ومجاهد نصب بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول وقرأ الحسن وقتادة نصب بضم النون وسكون الصاد على أنه تخفيف نصب بضمتين أو جمع نصب بفتحتين كولد وولد
يوفضون أي يسرعون وأصل الإيفاض كما قال الراغب أن يعدوا من عليه الوفضة وهي الكنانة فتخشخش عليه ثم استعمل في الإسراع وقيل هو مطلق الإنطلاق وروي عن الضحاك والأكثرون على الأول والمراد أنهم يخرجون مسارعين إلى الداعي يسبق بعضهم بعضا والإسراع في السير إلى المعبودات الباطلة كان عادة للمشركين وقد رأينا كثيرا من أخوانهم الذين يعبدون توابيت الأئمة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم كذلك وكذا عادة من ضل الطريق أن يسرع إلى أعلامها وعادة الجند أن يسرعوا نحو منزل الملك
خاشعة أبصارهم لعظم ما تحققوه ووصفت أبصارهم بالخشوع مع أنه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها
ترهقهم تغشاهم
ذلة شديدة ذلك الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة
اليوم الذي كانوا يوعدون أي في الدنيا واسم الإشارة مبتدأ واليوم خبر والموصول صفته والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي يوعدونه وقرأ عبد الرحمن بن خلاذ عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار ذلة بغير تنوين مضافا إلى ذلك اليوم بالجر هذا وأعلم أن بعض المتصوفة في هذا الزمان ذكر في شأن هذا اليوم الذي أخبر الله تعالى مقداره خمسون ألف سنة إن المراتب أربع الملك والملكوت والجبروت واللاهوت وكل مرتبة عليا محيطة بالسفلى وأعلى منها بعشر درجات لأنها تمام المرتبة لأن الله خلق الأشياء من عشر قبضات يعني من سر عشر مراتب الأفلاك التسعة والعناصر في كل عالم بحسبه ولذا ترتبت مراتب الأعداد على الأربع والألف منتهى المراتب وأقصى الغايات ولما كانت النسبة إلى الرب أي إلى وجهة الحق هي الغاية القصوى بالنسبة إلى ما عداها إن إلى ربك المنتهى كان اليوم الواحد المنسوب إليه ألفا ولذا كان اليوم الربوبي ألف سنة كما قال سبحانه وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون فإذا ترقى الكون واقتضت الحكمة ظهور النشأة الأخرى وبروز آثار الإسم الأعظم في مقام الألوهية في رتبةالجامع ظهر الكون والأكوان والمكونات في محشر واحد على مراتبها في الأعيان فظهر سر النون من كلمة كن لظهور فيكون فظهر الخمسون في العود كما نزل في البدء وهو قوله سبحانه كما بدأكم تعودون فكان اليوم الواحد عند ظهور الإسم الأعظم في الجهة الجامعة خمسين ألف سنة فالألف لترقي الواحد ولما كانت المراتب خمسين كان خمسين ألفا والخمسون تفاصيل ظهوراسم الرب عند ظهور اسم الله في عالم الأمرالذي هو أول مراتب التفصيل في قوله تعالى كن وكان أول ظهور التفصيل خمسين لأن التوحيد الظاهر في النقطة والألف والحرف والكلمة التامة والدلالة التي هي تمام الخمسة إنما كانت
(29/66)

في عشرة عوالم المراتب التعينات أو لأن الطبائع الأربع مع حصول المزاج بظهور طبيعة خامسة وبها تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم بحسبها فكان المجموع خمسين والعوالم العشرة هي عالم الإمكان وعالم الفؤاد وعالم القلب وعالم العقل وعالم الروح وعالم النفس وعالم الطبيعة وعالم المادة وعالم المثال وعالم الأجسام والخمسون في وجه الرب ووجهة الحق في العالم الأول الذي هو الآخر تكون خمسين ألف سنة انتهى فإن فهمت منه معنى صحيحا تقبله ذوو العقول ولا يأباها لمنقول فذاك وإلا فاحمد الله تعالى على العافية واسأله عز و جل التوفيق للوصول إلى معالم التحقيق وللشيخ الأكبر قدس سره أيضا كلام في هذا المقام فمن أراده فليتتبع كتبه وليسأل الله تعالى الفتوحات وهو سبحانه ولي الهبات
سورة نوح
مكية بالإتفاق وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي وتسع في البصري والشامي وثلاثون فيما عدا ذلك ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار وبدل خيرا منهم فوقعت موقع الإستدلال والإستظهار لتلك الدعوى كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الإستظهار لما ختم به تبارك هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرون ووجه الإتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه السلام ظاهر وفي بعض الآثار ما يدل على ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه السلام يوم القيامة أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال أن الله تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول ماذا أجبتم نوحا فيقولون ما دعانا وما بلغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا فيقول نوح عليه السلام دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه فيقول الله عز و جل للملائكة عليهم السلام ادعوا أحمد وأمته فيدعونهم فيأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم فيقول نوح عليه السلام لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم بالنصيحة وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته فإنا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين فيقول قوم نوح عليه السلام وأني علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم إناأرسلنا نوحا إلى قومه حتى يختم السورة فإذا ختمها قالت أمته نشهد إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهوالعزيزالحكيم فيقول الله عز و جل عند ذلك امتازوا إلي أيها المجرمون
بسم الله الرحمن الرحيم إنا أرسلنا نوحا هو اسم أعجمي زاد الجواليقي معرب والكرماني معناه بالسريانية الساكن وصرف لعدم زيادته على الثلاثة مع سكون وسطه بعربي أصلا وقول الحاكم في المستدرك إنما سمي نوحا لكثرة نوحه وبكائه على نفسه واسمه عبد الغفار لا أظنه يصح وكذا ما ينقل في سبب بكائه من أنه عليه السلام رأى كلبا أجرب قذرا فبصق عليه فأنطقه الله تعالى فقال أتعيبني أم تعيب خالقي فندم وناح لذلك والمشهور لا أنه عليه السلام ابن لملك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن مثوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة
(29/67)

ابن خنوخ بفتح الخاء المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة وشاع أخنوخ بهمزة أوله وهو إدريس عليه السلام بن يرد بمثناة من تحت مفتوحة ثم راء ساكنة مهملة ابن مهلاييل بن قينان بن أنوش بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه السلام وهذا يدل على أنه عليه السلام بعد إدريس عليه السلام وفي المستدرك أن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه قبل إدريس وفيه عن ابن عباس كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون وفيه أيضا مرفوعا بعث الله تعالى نوحا لأربعين سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وذكر ابن جرير أن مولده كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما وفي التهذيب للنووي رحمه الله تعالى أنه أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا وقيل أنه أطول الناس مطلقا عمرا فقد عاش على ما قال شداد ألفا وأربعمائة وثمانين سنة ولم يسمع عن أحد أنه عاش كذلك يعني بالإتفاق لئلا يرد الخضر عليه السلام وقد يجاب بغير ذلك وهو على ما قيل أول من شرعت له الشرائع وسنت له السنن وأول رسول أنذر لى الشرك وأهلكت أمته والحق أن آدم عليه السلام كان رسولا قبله أرسل إلى زوجته حواء ثم إلى بنيه وكان في شريعته وما نسخ بشريعة نوح في قول وفي آخر لم يكن في شريعته إلا الدعوة إلى الإيمان ويقال لنوح عليه السلام شيخ المرسلين وآدم الثاني وكان دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخدين ضخم السرة طويل اللحية والقامة جسيما واختلف في مكان قبره فقيل بمسجد الكوفة وقيل بالجبل الأحمر وقيل بذيل جبل لبنان بمدينة الكرك وفي إسناد الفعل إلى ضمير العظمة مع تأكيد الجملة ما لا يخفى من الإعتناء بأمر إرساله عليه السلام
إلى قومه قيل هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لا أهل الأرض كافة لاختصاص نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بعموم البعثة من بين المرسلين عليهم السلام وما كان لنوح بعد قصة الغرق على القول بعمومه أمر اتفاقي واشتهر أنه عليه الصلاة و السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل
أن أنذر قومك أي أي أنذر قومك على أن أن تفسيرية لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه فلا محل للجملة من الإعراب أو بأن أنذرهم أي بإنذارهم أو لأنذارهم على أن أن مصدرية وقبلها حرف جر مقدر هو الباء أو اللام وفي المحل بعد الحذف من الجر والنصب قولان مشهوران ونص أبو حيان على جواز هذا الوجه في بحره هنا ومنعه في موضع آخر وحكى المنع عنه ابن هشام في المغنى وقال زعم أبو حيان أنها لا توصل بالأمر وإن كل شيء سمع من ذلك فأن فيه تفسيرية واستدل بدليلين أحدهما أنهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر الثاني أنهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا لا يصح أعجبني أن قم ولا كرهت أن قم كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع والجواب عن الأول أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضي والإستقبال في الموصولة بالمضارع والماضي عند التقدير المذكور ثم أنه يسلم مصدرية المخففة مع لزوم نحو ذلك فيها في نحو قوله تعالى والخامسة أن غضب الله عليها إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلا إذا كان مفعولا مطلقا نحو سقيا ورعيا وعن الثاني أنه منع ما ذكره لأنه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء لا لما ذكره ثم ينبغي له أن لا يسلم مصدرية كي لأنها لا تقع فاعلا ولا مفعولا وإنما تقع مخفوضة بلام التعليل ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه كتبت إليه بأن قم واحتمال زيادة الباء كما يقول وهم فاحش لأن حروف الجر مطلقا لا تدخل إلا على الإسم أو ما في تأويله انتهى وأجاب بعضهم على الأول أيضا بأنه عند التقدير يقدر الأمر فيقال فيما نحن فيه مثل إنا أرسلنا نوحا إلى قومه بالأمر بإنذارهم وتعقب بأنه ليس هناك فعل يكون الأمر مصدره كأمرنا أو نأمر ثم أنه يكون المعنى في
(29/68)

نحو أمرته بأن قم أمرته بالأمر بالقيام وأشار الزمخشري إلى جواب ذلك هو أنه إذا لم يسبق لفظ الأمر أو ما في معناه من نحو رسمت فلا بد من تقدير القول لئلا يبطل الطلب فيقال هنا أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي بالأمر بالإنذار وإذا سبقه ذلك لا يحتاج إلا تقديره لأن مآل العبارات أعني أمرته بالقيام وأمرته بأنه قم وإن قم بدون الباء على أنها مفسرة إلى واحد وفي الكشف لو قيل أن التقدير وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول لأن الأمرية ليست مدلول جوهر الكلمة بل من متعلق الأداة فيقدر بالمصدر تبعا وفي أمر المخاطب اكتفى بالصيغة تحقيقا لكان حسنا وهذا كما أن التقدير في أن لا يزني خير له عدم الزنا فيقدر النفي بالمصدر على سبيل التبعية وأما إذا صرح بالأمر فلا يحتاج إلى تقدير مصدر للطلب أيضا هذا ولو قدر أمرته بالأمر بالقيام أي بأن يأمر نفسه به مبالغة في الطلب لم يبعد عن الصواب ولما فهم منه ما فهم من الأول وأبلغ استعمل استعماله من غير ملاحظة الأصل وأوعى بعضهم أن تقدير القول هنا ليس لئلا يفوت معنى الطلب بل لأن الباء المحذوفة للملابسة وإرسال نوح عليه السلام لم يكن ملتبسا بإنذاره لتأخره عنه وإنما هو ملتبس بقول الله تعالى له عليه السلام أنذر ولما كان هذا القول منه تعالى لطلب الإنذار قيل المعنى أرسلناه بالأمر بالإنذار وكان هذا القائل لا يبالي بفوات معنى الطلب كما يقتضيه كلام ابن هشام المتقدم آنفا وبحث الخفاجي فيما ذكروه من الفوات فقال كيف يفوت معنى الطلب وهو مذكور صريحا في أنذر ونحوه وتأويله بالمصدر المسبوك تأويل لا ينافيه لأنه مفهوم أخذوه من موارد استعماله فكيف يبطل صريح منطوقه فما ذكروه مما لا وجه له وإن اتفقوا عليه فأعرفه انتهى
وأقول لعلهم أرادوا بفوات معنى الطلب فواته عند ذكر المصدر الحاصل من التأويل بالفعل على معنى أنه إذا ذكر بالفعل لا يتحقق معنى الطلب ولا يتحد الكلامان ولم يريدوا أنه يفوت مطلقا كيف وتحققه في المنطوق الصريح كنار على علم ويؤيد هذا منعهم بطلان اللازم المشار إليه بقول ابن هشام أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات المضي والإستقبال الخ فكأنه قيل لا نسلم إن هذا الفوات باطل لم لا يجوز أن يكون كفوات معنى المضي والإستقبال وفوات معنى الدعاء في نحو أن غضب وقد أجمعوا أن ذلك ليس بباطل لأنه فوات عند الذكر بالفعل وليس بلازم وليس بفوات مطلقا لظهور أن المنطوق الصريح متكفل به فتدبر
وقرأ ابن مسعود أنذر بغير أن على إرادة القول أي قائلين أنذر
من قبل أن يأتيهم عذاب أليم عاجل وهو ما حل بهم من الطوفان كما قال الكلبي أو آجل وهو عذاب النار كما قال ابن عباس والمراد أنذرهم من قبل ذلك لئلا يبقى لهم عذرا ما أصلا
قال استئناف بياني كأنه قيل فما فعل عليه الصلاة و السلام بعد هذا الإرسال فقيل قال لهم
يا قوم إني لكم نذير مبين منذر موضح لحقيقة الأمر واللام في لكم للتقوية أو للتعليل أي لأجل نفعكم من غير أن أسألكم أجرا
وقوله تعالى أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون متعلق بنذير على مصدرية أن وتفسيريتها ومر نظيره في الشعراء
وقوله سبحانه يغفر لكم من ذنوبكم مجزوم في جواب الأمر واختلف في من فقيل ابتدائية وإن لم تصلح هنا لمقارنة إلى وابتداء الفعل من جانبه تعالى على معنى أنه سبحانه يبتدئهم بعد إيمانهم بمغفرة ذنوبهم إحسانا منه عز و جل وتفضلا وجوز أن يكون من جانبهم على معنى أول ما يحصل لهم بسبب إيمانهم مغفرة ذنوبهم وليس بذاك وقيل بيانية ورجوعها إلى معنى الإبتدائية استبعده الرضى ويقدر قبلها مبهم يفسر بمدخولها أي يغفر لكم أفعالكم التي هي الذنوب وقيل زائدة على رأي الأخفش المجوز لزيادتها مطلقا وجزم بذلك هنا وقيل تبعيضية أي يغفر لكم بعض ذنوبكم واختاره في البعض المغفور فذهب إلى أنه حقوق الله تعالى فقط السابقة على الإيمان وآخرون إلى أنه ما اقترفوه قبل
(29/69)

الإيمان مطلقا الظاهر ما ورد من أن الإيمان يجب ما قبله واستشكل ذلك العز بن عبد السلام في الفوائد المنتشرة وأجاب عنه فقال كيف يصح هذا على رأي سيبويه الذي لا يرى كالأخفش زيادتها في الموجب بل يقول أنها للتبعيض مع أن الإسلام يجب ما قبله بحيث لا يبقى منه شيء والجواب أن إضافة الذنوب إليهم إنما تصدق حقيقة فيما وقع إذ ما لم يقع لا يكون ذنبا لهم وإضافة ما لم يقع على طريق التجوز كما في واحفظوا أيمانكم إذ المراد بها الأيمان المستقبلة وإذا كانت الإضافة تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا فسيبويه يجمع بين الحقيقة والمجاز فيها وهو جائز يعني عند أصحابه الشافعية ويكون المراد من بعض ذنوبكم البعض الذي وقع انتهى ولا يحتاج إلى حديث الجمع من خص الذنوب المغفورة بحقوق الله عز و جل وههنا بحث وهو أن الحمل على التبعيض يا أباه يغفر لكم ذنوبكم وإن الله يغفر الذنوب جميعا وقد نص البعلي في شرح الجمل على أن ذلك هو الذي دعا الأخفش للجزم بالزيادة هنا وجعله ابن الحاجب حجة له ورده بعض الأجلة بأن الموجبة الجزئية من لوازم الموجبة الكلية ولا تناقض بين اللازم والملزوم ومبناه الغفلة عن كون مدلول من التبعيضية هي البعضية المجردة عن الكلية المنافية لها لا الشاملة لما في ضمنها المجتمعة معها وإلا لما تحقق الفرق بينها وبين من البيانية من جهة الحكم ولما تيسر تمشية الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه فيما إذا قال طلقي نفسك من ثلاث ما شئت بناء على أن من للتبعيض عنده وللبيان عندهما قال في الهداية وإن قال لها طلقى نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت لأن كلمة ما محكمة في التعميم وكلمة من قد تستعمل للتمييز فتحمل على تمييز الجنس ولأبي حنيفة أن كلمة من حقيقية في التبعيض وما للتعميم فيعمل بهما انتهى
ولا خفاء في أن بناء الجواب المذكور على كون من للتبعيض إنما يصح إذا كان مدلولها حينئذ البعضية المجردة المنافية للكلية ومن هنا تعجب من صاحب التوضيح في تقرير الخلاف المذكور حيث استدل على أولوية التبعيض بتيقنه ولم يدر أن البعض المراد قطعا على تقدير البيان البعض العام الشامل لما في ضمن الكل لا البعض المجرد المراد ههنا فبالتعليل على وجه المذكور لا يتم التقريب بل لا انطباق بين التعليل والمعلل على ما قيل وصوب العلامة التفتازاني حيث قال فيما علقه على التلويح مستدلا على أن البعضية التي تدل عليها من التبعيضية هي البعضية المجردة المنافية للكلية لا البعضية التي هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه لاتفاق النحاة على ذلك حيث احتاجوا إلى التوفيق بين قوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم وقوله تعالى إن الله يغفر الذنوب جميعا فقالوا لا يبعد أن يغفر سبحانه الذنوب لقوم وبعضها لآخرين أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة ولم يذهب أحد إلى أن التبعيض لا ينافي الكلية ولم يصوب الشريف في رده عليه قائلا وفيه بحث إذ الرضى صرح بعدم المنافاة بينهما حيث قالو لو كان أيضا خطابا لأمة واحدة فغفران بعض الذنوب لا يناقض غفران كلها بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها لأن قول الرضيغير مرتضي لما عرفتمن أن مدلولا لتبعيضية البعضية المجردة واعترض قول النحاة أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة بأن الإخبار عن مغفرة البعض ورد في مواضع منها قوله تعالى في سورة إبراهيم يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ومنها في سورة الأحقاف يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ومنها ما هنا وهو الذي ورد في قوم نوح عليه السلام وأما ما ذكر في الأحقاف فقد ورد في الجن وما ورد في إبراهيم فقد ورد في قوم نوح وعاد وثمود على ما أفصح به السياق فكيف يصح ما ذكروه وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع
(29/70)

القرآن تفرقة بين الخطابين ووجه بأن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروج عن المظالم واعترض بأن التفرقة المذكورة إنما تتم لو لم يجيء الخطاب للكفرة على العموم وقد جاء كذلك كما في سورة الأنفال قل للذين كفرواأن أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقد أسلفنا ما يتعلق بهذا المقام أيضا فتذكر وتأمل
ويؤخرهم إلى أجل مسمى هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى بشرط الإيمان والطاعة وراء ما قدره عز و جل لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان فإن وصف الأجلب المسمى وتعليق تأخيرهم إليه بالإيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه أن لم يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى
إن أجل الله أيما قدره عز و جل لكم على تقدير بقائكم على ما أنتم عليه
إذا جاء وأنتم على ما أنتم
لا يؤخر فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر والعصيان فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه وجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله سبحانه من قبل أن يأتيهم عذاب أليم فإنه أجل مؤقت له حتما وأيا كان لا تناقض بين يؤخركم وإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر كما يتوهم وقال الزمخشري في ذلك ما حاصله أن الأجل أجلان وأجل الله حكمه حكم المعهود والمراد منه الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال والجملة عنده تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير بالأجل المسمى وهو عدم تجاوز التأخير عنه والأول هو المعول عليه فإن الظاهر أن الجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض مجيئه هو الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال
لو كنتم تعلمون أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما أمركم به لكنكم لستم من أهله في شيء فلذا لم تسارعوا فجواب لو مما يتعلق بأول الكلام ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك أي عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو كنتم تعلمون شيئا ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من لو وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلا على سبيل المبالغة
قال أي نوح عليه السلام مناجيا ربه عز و جل وحاكيا له سبحانه بقصد الشكوى وهو سبحانه أعلم بحاله ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدة الأطول بعدما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاز في الإنذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل
رب إني دعوت قومي إلى الإيمان والطاعة
ليلا ونهارا أي دائما من غير فتور ولا توان
فلم يزدهم دعائي إلا فرارا مما دعوتهم إليه وإسناد الزيادة إلى الدعاء من باب الإسناد إلى السبب على حد الإسناد في سرتني رؤيتك وفرارا قيل تمييز وقيل مفعول ثان بناء على تعدي الزيادة والنقص إلى مفعولين وقد قيل أنه لم يثبت وإن ذكره بعضهم وفي الآية مبالغات بليغة وكان الأصل فلم يجيبوني ونحوه فعبر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات
وإني كلما دعوتهم أي إلى الإيمان فمتعلق الفعل محذوف وجوز جعله منزلا منزلة اللازم والجملة عطف على ما قبلها وليس ذلك من عطف المفصل على المجمل كما توهم حتى يقال أن الواو من الحكاية لا من المحكي
لتغفر لهم أي بسبب الإيمان
جعلوا أصابعهم في آذانهم
(29/71)

أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة الجعل إلى الأصابع وهو منصوب إلى بعضها وإيثار الجعل على الإدخال ما لا يخفى
واستغشوا ثيابهم أي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة النظر إليه من فرط كرهه الدعوة ففي التعبير بصيغة الإستفعال ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة ففي الآية مبالغة بحسب الكيف والكم وقيل بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليه السلام فيدعوهم وفيه ضعف إنه قيل عليه أنه يأباه ترتبه على قوله كلما دعوتهم اللهم إلا أن يجعل مجازا عن إرادة الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم
وأصروا أي أكبوا على الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم وعن جار الله لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مزجرة كيف والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والفساد وما ذكر من الإستعار قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في الملازمة والإنهماك في الأمر وقال الراغب الإصرار التعقد في الذنب والتشديد فيه والإمتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد والأصل الثاني ما سمعت أولا
واستكبروا من اتباعي وطاعتي
استكبارا عظيما وقيل نوعا من الإستكبار غير معهود والإستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له
ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم الأوقات وقوله ثم إني دعوتهم جهارا يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فثم لتفاوت الوجوه وإن الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله ليلا وذكرهم بعنوان قومه وقوله فرارا فإن القرب ملائم له وجوز كون ثم على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه باعتبار مبدأ كل من الإسرار والجهار ومنتهاه وباعتبار منتهى الجمع بينهما لئلا ينافي عموم الأوقات السابق ويحسن اعتبار ذلك وإن اعتبر عمومها عرفيا كما في لا يضع العصا عن عاتقه وجهارا منصوب بدعوتهم على المصدرية لأنه أحد نوعي الدعاء كما نصب القرفصاء في قعدت القرفصاء عليها لأنها أحد أنواع القعود أو أريد بدعوتهم جاهرتهم أو صفة لمصدر محذوف أي دعوتهم دعاء جهارا أي مجاهرا بفتح الهاء به أو مصدر في موقع الحال أي مجاهرا بزنة اسم الفاعل
فقلت استغفروا ربكم بالتوبة عن الكفر والمعاصي فإنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به وقال ربكم تحريكا لداعي الإستغفار
إنه كان غفارا دائم المغفرة كثيرها للتائبين كأنهم تعللوا وقالوا إن كنا على الحق فكيف نتركه وإن كنا على الباطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا جل وعلا بعد ما عكفنا عليه دهرا طويلا فأمرهم بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب إليهم المنافع ولذلك وعدهم على الإستغفار بأمور هي أحب إليهم وأوقع في قلوبهم من الأمور الأخروية أعني ما تضمنه يرسل السماء الخ وأحبيتهم لذلك لما جبلوا عليه من محبة الأمور الدنيوية
والنفس مولعة بحب العاجل
قال قتادة كانوا أهل حب للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها وقيل لما كذبوه عليه الصلاة و السلام بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهم أنهم إن آمنوا يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما هم فيه وهو قوله يرسل السماء عليكم مدرارا
(29/72)

أي كثير الدر ورأي السيلان والسماء السحاب أو المطر ومن إطلاقها على المطر وكذا على النبات أيضا قوله
إذا نزل السماء بأرض قوم ... وعيناه وإن كانوا غضابا
وجوز أن يراد بها المظلة على ما سمعت غير مرة وهي تذكر وتؤنث ولا يأبى تأنيثها وصفها بمدرار إلا أن صيغ المبالغة كلها كما صرح به سيبويه يشترك فيها المذكر والمؤنث وفي البحر أن مفعالا لا تلحقه التاء إلا نادرا
ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات أي بساتين ويجعل لكم فيها أو مطلقا أنهارا جارية وأعاد فعل الجعل دون أن يقول يجعل لكم جنات وأنهارا لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم مدخل فيه بخلاف الثاني ولذا قال يمددكم بأموال وبنين ولم يعد العامل كذا قيل وهو كما ترى ولعل الأولى أن يقال أن الإعادة للإعتناء بأمر الأنهار لما أن لها مدخلا عاديا أكثريا وفي وجود الجنات وفي بقائها مع منافع أخر لا تخفى ورعاية لمدخليتها في بقائها الذي هو أهم من أصل وجودها مع قوة هذه المدخلية أخرت عنها وإن ترك إعادة العامل مع البنين لأنه الأصل أو لأنه لما كان الإمداد أكثر ما جاء في المحبوب ولا تكمل محبوبية كل من الأموال والبنين بدون الآخر ترك إعادة العامل بينهما للإشارة إلى أن التفضل بكل غير منغص بفقد الآخر وتأخير البنين قيل لأن بقاء الأموال غالبا بهم لا سيما عند أهل البادية مع رمز إلى الأموال تصل إليهم آخر الأمر وهو مما يسر المتمول كما لا يخفى فتأمل
وقال البقاعي المراد بالجنات والأنهار ما في الآخرة والجمهور على الأول وروي عن الربيع بن صبيح أن رجل أتى الحسن وشكا إليه الجدب فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فقال ادع الله سبحانه أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له استغفر الله تعالى فقلنا أتاك رجال يشكون ألوانا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالإستغفار فقال ما قلت من نفسي شيئا إنما اعتبرت قول الله عز و جل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة و السلام أنه قال لقومه استغفروا ربكم الآية
ما لكم لا ترجون لله وقارا إنكارا لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارا على أن الرجاء بمعنى الخوف كما أخرجه الطستي عن ابن عباس مجيبا به سؤال نافع بن الأزرق منشدا قول أبي ذؤيب
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
أو على أنه بمعنى الإعتقاد كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وجماعة وعبر به بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة ولا ترجون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيها معنى الإستقرار في لكم على أن الإنكار متوجه إلى السبب فقط مع تحقق مضمون الجملة الحالية لا إليها معا ولله متعلق بمضمر وقع حالا من وقارا ولو تأخر لكان صفة له والوقار كما رواه جماعة عن الحبر بمعنى العظمة لأنه على ما نقل الخفاجي عن الإنتصاف ورد في صفاته تعالى بهذا المعنى ابتداء أو لأنه بمعنى التؤدة لكنها غير مناسبة له سبحانه فأطلقت باعتبار غايتها وما يتسبب عنها من العظمة في نفس الأمر أو في نفوس أي سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه سبحانه بالإيمان به جل شأنه والطاعة له تعالى
وقد خلقكم أطوارا أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهو أنكم تعلمون أنه عز و جل خلقكم مدرجا لكم في حالات عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بذلك مما لا يكاد يصدر عن العاقل فالجملة حال من فاعل لا ترجون مقررة للإنكار والأطوار والأحوال المختلفة وأنشدوا قوله
فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
(29/73)

وحملها على ما سمعت من الأحوال مما ذهب إليه جمع وعن ابن عباس ومجاهد ما يقتضيه وإن اقتصر عن ذكر النطفة والعلقة والمضغة وقيل المراد بها الأحوال المختلفة بعد الولادة إلى الموت من الصبا والشباب والكهولة والشيخوخة والقوة والضعف وقيل من الألوان والهيآت والأخلاق والملل المختلفة وقيل من الصحة والسقم وكمال الأعضاء ونقصانها والغنى والفقر ونحوها هذا وقيل الرجاء بمعنى الأمل كما هو الأصل المعروف فيه والوقار بمعنى التوقير كالسلام بمعنى التسليم وأريد به التعظيم ولله بيان الموقر المعظم فهو خبر مبتدأ محذوف أي إرادتي لله أو متعلق بمحذوف يفسره المذكور أي وقارا الله ولم يعلق بالمذكور بناء على ما صحح على ما فيه من أن معمول المصدر مطلقا لا يتقدم عليه ولو تأخر لكان صلة له على ما في الكشاف وفيه أن المعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله تعالى إياكم في دار الثواب وحاصله ما لكم لا ترجون أن توقروا وفعظموا على البناء للمفعول فكأنه قيل لمن التوقير أي من الذي يعظمنا ويختص به إعظامه إيانا فقيل لله وفسره بقوله على حال الخ إشارة إلى أنه ينعي عليهم اغترارهم كأنه قيل ما لكم مغترين غير راجين وجعل الحث على الرجاء كناية عن الحث على الإيمان والعمل الصالح لاقتضائه انعقاد الأسباب بخلاف الغرور وهي كناية إيمائية إذ لا واسطة ولو جعلت رمزية لخفاء الفرق بين الرجاء والغرور على الأكثر لكان وجها قاله في الكشف وتعقب ذلك مفتي الديار الرومية عليه الرحمة بأن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى إياهم في دار الثواب ليس في حيز الإستبعاد والإنكار مع أن في جعل الوقار بمعنى التوقير من التعسف وفي جعل لله بيانا للموقر ودعوى أنه لو تأخر لكان صلة للوقار من التناقض ما لا يخفى فإن كونه بيانا للموقر يقتضي أن يكون التوقير صادرا عنه تعالى والوقار وصفا للمخاطبين وكونه صلة للوقار ويوجب كون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له عز و جل اه
وأجيب عن أمر التناقض بأنك إذا قلت ضرب لزيد جاز أن يكون زيد فاعلا وأن يكون مفعولا وكفى شاهدا صحة الإضافتين فعند التأخر يحتمل أن يكون الوقار بمعنى التوقير صادرا منه تعالى فيكون الوقار وصفا للمخاطبين ويحتمل أن يكون متعلقا به فيكون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له تعالى غاية ما في الباب أنه لما قدم لله وامتنع تعلقه بالمصدر المتأخر صار بيانا وعينت القرينة إرادة صدور التوقير عنه عز و جل وأين هذا من التناقض نعم يبقى الكلام في القرينة ولعلها السياق بناء على أن القوم استبعدوا أن يقبلوا ويلطف الله تعالى بهم أن هم تركوا باطلهم فيكون هذا من تتمة إزالة الشبهة فيما سمعت من قولهم كيف يقبلنا ويلطف بنا الخ ويعلم من هذا الجواب عن قوله أن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى ليس في حيز الإستبعاد كما لا يخفى وعليه قيل يكون قوله تعالى وقد خلقكم إلى قوله سبحانه فجاجا للدلالة على أنه جل شأنه لا يزال ينعم عليكم مع كفركم فكيف لا يلطف بكم ويوقركم إذا آمنتم وتفسر الأطوار بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة كالصبا والشباب والكهولة وغيرها مما يكون بعضه في حال الكفر ويصلح لأن يمتن به ويلتزم كون الإعادة في الأرض من النعم عندهم بناء على أن فيها ستر فظاعةالأبدان على أسهل وجه بعد حلول الموت الضروري في هذه النشأة والإنصاف بعد هذا كله تم أم لم يتم أن الوجه المذكور متكلف بعيد عن الظاهر بمراحل وقيل المعنى ما لكم لا تخافوا الله تعالى حلما وترك معالجة بالعقاب فتؤمنوا فالرجاء بمعنى الخوف والوقار بمعنىالحلم حقيقة كما هو ظاهر كلام الراغب أو استعارة له لاشتراكهما في الثاني أو مجازا إذ لا يتخلف الحلم عن الوقار عادة وفي رواية عن ابن عباس تفسيره بالعاقبة حيث قال أي لا تخافون لله عاقبة وهو من الكناية حينئذ أخذا من الوقار بمعنى الثبات وعن مجاهد والضحاك أن المعنى ما لكم لا تبالون لله تعالى عظمة قال قطرب
(29/74)

هذه لغة أهل الحجاز وهذيل وخزاعة ومضر ويقولون لم أرج أي لم أبال وأظهر المعاني ما ذكرناه أولا ولما ذكر من آيات الأنفس ما ذكر أتبعه بشيء من آيات الآفاق ولبعد أحد الأمرين عن الآخر رتبة لم يأت بالعطف بل قطع فقال
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا أي متطابقة بعضها فوق بعض وتفسير التطابق بالتوافق في الحسن والإشتمال على الحكم وجودة الصنع ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت عدول عن الظاهر الذي تطابقت عليه الأخبار من غير داع إليه
وجعل القمر فيهن نورا منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا كما يقال زيد في بغداد وهو في بقعة منها والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية وكونها طباقا شفافة
وجعل الشمس سراجا يزيل ظلمةالليل ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوا السراج ما يحتاجون إلى إبصاره وتنويه للتعظيم وفي الكلام تشبيه بليغ ولكون السراج أعرف وأقرب جعل مشبها به ولاعتبار التعدي إلى الغي في مفهومه بخلاف النور كان أبلغ منه ولعل في تشبيهها بالسراج القائم ضياءه لا بطريق الإنعكاس رمزا إلى أن ضياءها ليس منعكسا إليها من كوكب آخر كما أن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها وجزم أهل الهيئة القديمة بذلك وفي رواية لأظنها تصح أن ضياء الشمس مفاض عليها من العرش وأظن أن من يقول أنها تدور على كوكب آخر من أهل الهيئة الجديدة يقول باستفادتها النور من غيرها ثم الظاهر أن المراد وجعل الشمس فيهن فقيل هي في السماء الدنيا في فلك في ثخنها وقيل في السماء الرابعة وهو المشهور عند متقدمي أهل الهيئة واستدلوا عليه بما هو مذكور في كتبهم وفي البحر حكاية قول أنها في الخامسة ولا يكاد يصح ومما يضحك الصبيان فضلا عن فحول ذوي العرفان ما حكى فيه أيضا أنها في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة وذهب متأخروا أهل الهيئة إلى أنها مركز للسيارات وعدوا الأرض منها ولم يعدوا القمر لدورانه على الأرض وهو بينها وبين الشمس عندهم وسنعمل إن شاء الله تعالى رسالة في تحقيق الحق والحق عند ذويه أظهر من الشمس
والله أنبتكم من الأرض نباتا أي أنشأكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض لكونه محسوسا وقد تكرر إحساسه وهم وإن لم ينكروا الحدوث جعلوا بإنكار البعث كمن أنكره ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية ومن ابتدائية داخلة على المبدأ البعيد ونباتا قال أبو حيان وجماعة مصدر مؤكد لأنبتكم بحذف الزوائد والأصل إنباتا أو نصب بإضمار فعل أي فنبتم نباتا وفي الكشف أن الإنبات والنبات من الفعل والإنفعال وهما واحد في الحقيقة والإختلاف بالنسبة إلى القيام بالفاعل والقابل فلا حاجة إلى تضمين فعل آخر ولا تقديره ثم إن الإنبات إن حمل على معناه الوضعي فلا احتياج إلى التقدير إذ هو في نفسه متضمن للنبات كما أشرنا إليه فيكون نباتا نصبا بأنبتكم لهذا التضمن وإن حمل على المتعارف من إطلاقه على مقدمة الإنبات من إخفاء الحب في الأرض مثلا فالوجه الحمل على أن المراد أنبتكم فنبتم نباتا ليكون فيه إشعار بنحو النكتة التي جرت في قوله تعالى فانبجست من الدلالة على القدرة وسرعة نفاذ حكمها وجوز أن يكون الأصل انبتكم من الأرض إنباتا فنبتم نباتا فحذف من الجملة الأولى المصدر ومن الثانية الفعل اكتفاء بما ذكر في الأخرى على أنه من الإحتباك وقال القاضي اختصر اكتفاء بالدلالة الإلتزامية وفيه على ما قال الخفاجي الأشعار المذكورة فتأمل
ثم يعيدكم فيها أي في الأرض بالدفن عند موتكم
(29/75)

ويخرجكم منها عند البعث والحشر
إخراجا محققا لا ريب فيه وعطف يعيدكم بثم لما بين الإنشاء والإعادة من الزمان المتراخي الواقع فيه التكليف الذي به استحقواالجزاء بعد الإعادة وعطف يخرجكم بالواو دون ثم مع أن الإخراج كذلك لأن أحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء واحد فكأنه قضية واحدة ولا يجوز أن يكون بعضها محقق لوقوع دون بعض بل لا بد أن تقع الجملة لا محالة وإن تأخرت عن الإبداء
والله جعل لكم الأرض بساطا تتقلبون عليها كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية كما في البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا ثم أن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه توسيط لكم بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة
لتسلكوا منها سبلا طرقا فجاجا واسعات جمع فج فهو صفة مشبهة نعت لسبلا وقال غير واحد هو اسم للطريق الواسعة وقيل اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان ومن متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الإتخاذ وإلا فهو يتعدى بفي أو بمضمر هو حال من سبلا أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها
قال نوح أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه عز و جل أي قال عليه السلام مناجيا له تعالى شاكيا إليه عز و جل
رب إنهم عصوني أي داموا على عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير
واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للإتباع في الجملة وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه وولده بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى
وقرأ بالكسر والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية
ومكروا عطف على صلة من الجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم وقيل عطف على عصوني والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر
مكرا كبارا أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر وهي لغة يمانية وعليها قول الشاعر
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القراء
وقوله
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء
وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال كبارا بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلا أنها دون
(29/76)

المبالغة في المشدد ومثل كبار ذلك حسان وطول عجاب وجمال إلى ألفاظ كثيرة وقرأ زيد بن علي وابن محيصن فيما روى عنه وهب بن واضح كبارا بكسر الكاف وفتح الباء قال ابن الأنباري وهو جمع كبير كأنه جعل مكرا مكان ذنوب أو أفاعيل يعني فلذلك وصف بالجمع
وقالوا ألا تذرن آلهتكم أي لا تتركوا عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح عليه السلام
ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا أي ولا تتركوا عبادة هؤلاء خصوصا بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها عندهم وإن كانت متفاوتة في العظم فيما بينها بزعمهم كما يؤميء إليه إعادة لا مع بعض وتركها مع آخر وقيل أفرد يعوق ونسر عن النفي لكثرة تكرار لا وعدم اللبس وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فعلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ودرس العلم عبدت وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال كان لآدم عليه السلام خمسة بنين ود وسواع الخ فكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجائهم الشيطان فقال حزنتم على صاحبكم هذا قالوا نعم قال هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه قالوا نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئا نصلي عليه قال فأجعله في مؤخر المسجد قالوا نعم فصوره لهم حتى مات خمستهم فصور صورهم في مؤخر المسجد فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء فبعث الله تعالى نوحا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك عبادتها فقالوا ما قالوا وأخرجا بن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن ودا كان أكبرهم وأبرهم وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام وروي أن ودا أول معبود من دون الله سبحانه وتعالى أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال ذكروا عند أبي جعفر رضي الله تعالى عنه يزيد بن المهلب فقال إما أنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تعالى ثم ذكر ودا وقال كان رجلا مسلما وكان محببا في قومه فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم تشبه في صورة إنسان ثم قال أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به قالوا نعم فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به فلما رأى ما بهم من ذكره قال هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالا مثله فيكون في بيته فيذكر به فقالوا نعم ففعل فأقبلوا يذكرونه به وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله تعالى فكان أول من عبد غير الله تعالى في الأرض ودا وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان النهدي أنه قال رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله ويضربون عليه بناء وقيل يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب فالظاهر أنه لم يبق إلا الأسماء فاتخذت العرب أصناما وسموها بها وقالوا أيضا عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم وما رآه أبو عثمان منها باسم ما سلف ويحكى أن
(29/77)

ودا كان على صورة رجل وسواعا كان على صورة امرأة ويغوث كان على صورة أسد ويعوق كان على صورة فرس ونسرا كان على صورة نسر وهو مناف لما تقدم أنهم كانوا على صور أناس صالحين وهو الأصح وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم ودا بضم الواو وقرأ الأشهب العقيلي ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما قال صاحب اللوامح جعلهما فعولا فلذلك صرفهما وهما في قراءة الجمهور صفتان من الغوث والعوق يفعل منهما وهما معرفتان فلذلك منعا الصرف لاجتماع الثقلين اللذين هما التعريف ومشابهة الفعل المستقبل وتعقبه أبو حيان فقال هذا تخبيط أما أولا فلا يمكن أن يكونا فعولا لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق وإما ثانيا فليسا بصفتين لأن يفعلا لم يجيء اسما ولا صفة وإنما امتنعا من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين وللعلمية والعجمة إن كانا عجميين وقال ابن عطية قرأ الأعمش ولا يغوثا ويعوقا بالصرف وهو وهم لأن التعريف لازم وكذا وزن الفعل وأنت تعلم أن الأعمش لم ينفرد بذلك وليس بوهم فقد خرجوه على أحد وجهين أحدهما أن الصرف للتناسب كما قالوا في سلاسل وأغلالا وهو نوع من المشاكلة ومعدود من المحسنات وثانيهما أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب وذلك لغة حكاها الكسائي وغيره لكن يرد على هذا أنها لغة غير فصيحة لا ينبغي التخريج عليها
وقد أضلوا أي الرؤساء كثيرا خلقا كثيرا أي قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام فهم ليسوا بأول من أضلوهم ويشعر بذلك المضي والإقتران بقد حيث أشعر بأن الإضلال استمر منهم إلى زمن الإخبار بإضلال الطائفة الأخيرة وجوز أن يراد بالكثير هؤلاء الموصين وكان الظاهر وقد أضل الرؤساء إياهم أي الموصين المخاطبين بقوله لا تذرن آلهتكم فوضع كثيرا موضع ذلك على سبيل التجريد وقال الحسن وقد أضلوا أي الأصنام فهو كقوله تعالى رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وضمير العقلاء لتنزيلها منزلتهم عندهم وعلى زعمهم ويحسنه على ما في البحر عود الضمير على أقرب مذكور ولا يخفى أن عوده على الرؤساء أظهر إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن والجملة قيل حالية أو معطوفة على ما قبلها وقوله تعالى
ولا تزد الظالمين إلا ضلالا قيل عطف على رب أنهم عصوني على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قال والواو النائبة عنه ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الخ أي قال هذين القولين على أن الواو من كلام الله تعالى لأنها داخلة في الحكاية وما بعدها هو المحكي وإليه ذهب الزمخشري وإنما ارتكب ذلك فرارا من عطف الإنشاء على الخبر وقيل عطف عليه والواو من المحكي والتناسب إنشائية وخبرية غير لازم في العطف كما قاله أبو حيان وغيره وفيه خلاف وفي الكشف لك أن تجعله من باب واهجرني مليا أي فاخذلهم ولا تزدهم وفي العدول إلى الظالمين إشعار باستحقاقهم الدعاء عليهم وإبداء لعذره عليه السلام وتحذير ولطف لغيرهم وفيه أنه بغض ما يتسبب من مساويهم وهو معنى حسن فعنده العطف على محذوف إنشائي ولعل الأولى أن يقال أن العطف على رب إنهم عصوني والواو من المحكي والتناسب حاصل وقال الخفاجي الظاهر أن الغرض من قوله رب إنهم الخ الشكاية وإبداء العجز واليأس منهم فهو طلب للنصرة عليهم كقوله رب انصرني بما كذبون ولو لم يقصد ذلك تكرر مع ما مر منه عليه السلام فحينئذ يكون كناية عن قوله أخذلهم أو انصرني أو أظهر دينك أو نحوه فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء من غير تقدير ويشهد له أن الله تعالى سمى مثله دعاء حيث قال سبحانه فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فتدبر
وهو حسن خال عن التكلف وارتكاب المختلف فيه إلا أن في الشهادة دغدغة والمراد بالضلال المدعو بزيادته أما الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم فيكون ذلك دعاء عليهم بعدم تيسير أمورهم وأما الضلال بمعنى الهلاك كما في قوله تعالى إن المجرمين في ضلال
(29/78)

وسعر وهو مأخوذ من الضلال في الطريق لأن من ضل فيها هلك فيكون المعنى أهلكهم وفسره ابن بحر بالعذاب وهو قريب مما ذكر وقيل هو على ظاهره أعني الضلال في الدين والدعاء بزيادته إنما كان بعد ما أوحي إليه عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ومآله الدعاء عليهم بزيادة عذابهم ويحتاج إلى دليل وبما سمعت ينحل ما يقال أن طلب الضلال ونحوه إما غير جائز مطلقا أو إذا دعي به على وجه الإستحسان وبدونه وإن كان جائزا لكنه غير ممدوح ولا مرضي فكيف دعا بذلك نوح عليه السلام عليهم
مما خطيآتهم أي من أجل خطيآتهم
أغرقوا بالطوفان لا من أجل أمر آخر فمن تعليلية وما زائدة بين الجار والمجرور لتعظيم الخطايا في كونها من كبائر ما ينهى عنه ومن لم يرد زيادتها جعلها نكرة وجعل خطيآتهم بدلا منها وزعم ابن عطية أن من لابتداء الغاية وهو كما ترى وقرأ أبو رجاء خطياتهم بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء وقرأ الجحدري وعبيد عن أبي عمرو خطيئتهم على الإفراد مهموزا وقرأ الحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم وأبو عمرو خطاياهم جمع تكسير وقرأ عبد الله من خطيآتهم ما أغرقوا بزيادة ما بين خطيآتهم وأغرقوا وخرج على أنها مصدرية أي بسبب خطيآتهم إغراقهم وقرأ زيد بن علي غرقوا بالتشديد بدل الهمزة وكلاهما للنقل
فأدخلوا نارا هي نار البرزخ والمراد عذاب القبر ومن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب وقال الضحاك كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب وأنشد ابن الأنباري
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثان فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
ويجوز أن يراد بها نار الآخرة والتعقيب على الأول ظاهر وهو على هذا لعدم الإعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا وجوز أن تكون فاء التعقيب مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه عز و جل أعد لهم على حسب خطيآتهم نوعا من النار ولا يخفى ما في أغرقوا فأدخلوا نارا من الحسن الذي لا يجارى ولله تعالى در التنزيل
فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا أي فلم يجد أحدهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض لاتخاذهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى وبأنها غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا عطف على نظيره السابق وقوله تعالى مما خطيآتهم الخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصيبهم إلا لأجل خطيآتهم التي عدها نوح عليه السلام وأشار إلى استحقاقهم للهلاك لأجلها لا أنه حكاية لنفس الإغراق والإحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال والأقوال وإلا لأخر عن حكاية دعائه هذا قاله مفتي الديار الرومية عليه الرحمة وما قيل أنه عطف على لم يجدوا أو على جملة مما خطيآتهم الخ وليس المراد حقيقة الدعاء بل التشفي وإظهار الرضا بما كان من هلاكهم بعيد غاية البعد والمعروف أن هذا الدعاء كان قبل هلاكهم والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي العام يقال ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم أي مات بها أحد وهو فيعال من الدار أو من الدور كأنه قيل لا تذر على الأرض من الكافرين من يسكن دارا أو لا تذر عليها منهم من يدور ويتحرك وأصله ديوار اجتمعت الواو والياء وسبقت أحدهما فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وليس بفعال وإلا لكان دوارا إذ لا داعي للقلب حينئذ ومن الكافرين حال منه ولو أخر كان صفة له والمراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إلى الإيمان والطاعة فلم يجيبوا فإن
(29/79)

كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو انتشارهم اليوم بعثته لبعض منهمك كان جزيرة العرب ومن يقرب منهم فذاك وإن كان غير منتشرين كذلك بل كانوا في الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه مخصوص بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس كعموم بعثته صلى الله تعالى عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من كل وجه وهذا نحو ما يقال في بعثة آدم عليه السلام إلى زوجته وأولاده فإنهم حينئذ ليسوا إلا كأهل بيت واحد على أنه قيل لا إشكال ولو قلنا بانتشار الناس إذ ذاك كانتشارهم اليوم وإرساله إليهم جميعا لأن العموم المخصوص بنبينا عليه الصلاة و السلام هو العموم المندرج فيه الأنس والجن إلى يوم القيامة بل الملائكة عليهم السلام بل وبل والمشهور أنه عليه السلام كان مبعوثا لجميع أهل الأرض وأنه ما آمن منهم إلا قليل واستدل عليه بهذا الدعاء وعموم الطوفان وتعقب بأن الأرض كثيرا ما تطلق على قطعة منها فيحتمل أن تكون هنا كذلك سلمنا إرادة الجميع لكن الدعاء على الكافرين وهم من بعث إليهم فدعاهم ولم يجيبوه وكونهم من عدا أهل السفينة أول المسئلة والطوفان لا نسلم عمومه وإن سلم لا يقتضي أن يكون كل من غرق به مكلفا بالإيمان به عليه السلام عاصيا بتركه فالبلاء قد يعم الصالح والطالح لكن يصدون مصادر شتى كما ورد في حديث خسف البيداء ويرشد إلى هذا أن أولادهم قد أغرقوا على ما قيل معهم وقد سئل الحسن عن ذلك فقال علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب نعم الحكمة في إهلاك زيادة عذاب في آبائهم وأمهاتهم إذا أبصروا أطفالهم يغرقون وزعم بعضهم أن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويحتاج إلى نقل صحيح وحكم الله عز و جل لا تحصى فافهم
إنك إن تذرهم أي على الأرض كلا أو بعضا
يضلوا عبادك عن طريق الحق ولعل المراد بهم من آمن به عليه السلام وبإضلالهم إياهم ردهم إلى الكفر بنوع من المكر أو المراد بهم من ولد منهم ولم يبلغ زمن التكليف أو من يولد من أولئك المؤمنين ويدعى إلى الإيمان وبإضلالهم إياهم صدهم عن الإيمان وفي بعض الأخبار أن الرجل منهم كان يأتي بابنه إليه عليه السلام ويقول احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك قيل ومن هنا قال عليه السلام
ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا أي من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه لاستحكام علمه بذلك بما حصل له من التجربة ألف سنة إلا خمسين عاما ومثله قوله عليه السلام إن تذرهم يضلوا عبادك وقيل أراد من جبل على الفجور والكفر وقد علم كل ذلك بوحي كقوله سبحانه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد أنه عليه السلام ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله تعالى كل مؤمن من الأصلاب وأعقم أرحام نسائهم وأيا ما كان فقوله إنك الخ اعتذار مما عسى أن يقال من أن الدعاء بالإستئصال مع احتمال أن يكون من إخلافهم من يؤمن مما لا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام
رب اغفر لي ولوالدي أراد أباه لمك بن متوشلخ وقد تقدم ضبط ذلك وأمه شمخى بالشين والخاء المعجمتين بوزن سكرى بنت أنوش بالإعجام بوزن أصول وكانا مؤمنين ولو لا ذلك لم يجز الدعاء لهما بالمغفرة وقيل أراد بهما آدم وحواء وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال وإسكان الياء فإما أن يكون قد خص أباه الأقرب أو أراد جميع من ولدوه
(29/80)

إلى آدم عليه السلام ولم يكفر كما قال ابن عباس لنوح أب ما بينه وبين آدم عليه السلام وقرأ الحسين بن علي كرم الله تعالى وجههما ورضي عنهما وزيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري ولولدي تثنية ولد يعني ساما وحاما على ما قيل وفي رواية أن ساما كان نبيا
ولمن دخل بيتي قيل أراد منزله وقيل سفينته وقال الجمهور وابن عباس أراد مسجده وفي رواية عن الحبر أنه أراد شريعته استعار لها اسم البيت كما قالوا قبة الإسلام وفسطاط الدين والمتبادر المنزل وتخرج امرأته وابنه كنعان بقوله
مؤمنا وقيل يمكن أنه لم يجزم بخروج كنعان إلا بعد ما قيل له أنه ليس من أهلك
وللمؤمنين والمؤمنات أي من كل أمة إلى يوم القيامة وهو تعميم بعد التخصيص واستغفر ربه عز و جل إظهارا لمزيد الإفتقار إليه سبحانه وحبا للمستغفر لهم من والديه والمؤمنين وقيل أنه استغفر لما دعا على الكافرين لأنه انتقام منهم ولا يخفى أن السياق يأباه وكذا قوله
ولا تزد الظالمين إلا تبارا أي هلاكا وقال مجاهد خسارا والأول أظهر وقد دعا عليه السلام دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين وحيث استجيب له الأولى فلا يبعد أن تستجاب له الثانية والله تعالى أكرم الأكرمين ومعظم آيات هذه السورة الكريمة وغيرها نص في أن القوم كفرة هالكون يوم القيامة فالحكم بنجاتهم كما يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه مما يبرأ إلى الله تعالى منه كزعم أن نوحا عليه السلام لم يدعهم على وجه يقتضي إيمانهم مع قوله سبحانه الله أعلم حيث جعل رسالته وقصارى ما أقول رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات
سورة الجن
وتسمى قل أوحي إلي وهي مكية بالإتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة نوح استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وقال عز و جل في هذه السورة لكفار مكة وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وهذا بين في الإرتباط انتهى
وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصى الله عز و جل في قوله سبحانه ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا فإنه يناسب قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادى قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة و السلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها أثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة و السلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطيء فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده
فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي وقرأ ابن أبي عبلة والعتكي عن أبي عمرو وجؤبة بن عائذ الأسدي وحي بلا همزة وهو بمعنى أوحي بالهمز ومنه قول العجاج
وحي لها القرار
(29/81)

فاستقرت
وقرأ زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه الكسائي وابن أبي عبلة في رواية أحي بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع
وزاد بعض الأجلة قلب الواو والمضموم ما قبلها فقال أنه أيضا مقيس مطرد وأنه قد يرد في ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القرآن الجار والمجرور متعلق بما عنده ونائب الفاعل
أنه الخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن
استمع أي القرآن كما ذكر في الإحقاق وقد حذف لدلالة ما بعده عليه
نفر من الجن النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة وقال الحريري في درته أن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى وأعز نفرا أو قول امريء القيس
فهو لا تنمي رميته ... ماله لا عد من نفره
وقال الإمام الكرماني للنفر معنى آخر في العرف وهو الرجل واردا بالعرف عرف اللغة لأنه فسر به الحديث الصحيح فليحفظ
والجن واحده جني كروم ورومي وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى وخلق الجان من مارج من نار وقيل الهوائية قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة من شأنها الخفاء وقد ترى بصور غير صورها الأصلية بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى من خواص عباده عز و جل ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلا من أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيبة مثلا وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحبط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن في رسالة الحدود لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الإسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفى واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلا الله عز و جل ولا يبعد قوله تنمي الخ يقال أنمي إذا توارى أه منه على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضا على ما قيل أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت النفس به تعلقا ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن هذه الحالة في النفوس الخيرة
(29/82)

سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة والكل مخالف لأقوال السلف وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من آكام المرجان وفي التفسير الكبير طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته
واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن زر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيين قرية باليمن غير القرية التي بالعراق وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثنتي عشر ألفا ولعل النفر عليه القوم وفي الكشاف كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم والآية ظاهر في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة و السلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة به لسوق عكاظ وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة و السلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا الخ فأنزل الله تعالى عليه قل أوحي الخ ثم قال ونفى ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا ويدل عليه قوله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن الخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة و السلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم الخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات وقال ابن تيمية أن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلى الله تعالى عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة و السلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من النبوة وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط علي خطا ثم قال لا تبرحن خطك فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاءه إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة و السلام فقلت أين كنت يا رسول الله فقال أرسلت إلى الجن فقلت ما هذه الأصوات التي سمعت قال هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي وقد يجمع الإختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم
واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة اقرأ باسم ربك وقيل سورة الرحمن
فقالوا أي لقومهم عند رجوعهم إليهم
إنا سمعنا قرآنا أي كتابا مقروءا على ما فسره بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى ما ذكروه في وصفه مما يأتي له كله دون المقروء منه فقط والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآنا جليل الشأن
عجبا بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة
يهدي إلى الرشد إلى الحق والصواب وقيل إلى التوحيد والإيمان وقرأ عيسى الرشد بضمتين وعنه أيضا فتحهما
فآمنا به أي بذلك القرآن من غير ريث
ولن نشرك بربنا أحدا حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد أو حسبما نطق به الدلائل العقلية على التوحيد ولم تعطف هذه الجملة
(29/83)

بالفاء قال الخفاجي لأن نفيهم للإشراك إما لما قام عندهم من الدليل العقلي فحينئذ لا يترتب على الإيمان بالقرآن وإما لما سمعوه من القرآن فحينئذ يكفي في ترتبها عليه عطف الأول بالفاء خصوصا والباء في به تحتمل السببية فيعم الإيمان به الإيمان بما فيه فإنك إذا قلت ضربته فتأدب وانقاد إلى فهم ترتب الإنقياد على الضرب ولو قلت فانقاد لم يترتب على الأول بل على ما قبله وقيل عطفت بالواو ولتفويض الترتب إلى ذهن السامع وقد يقال أن مجموع فآمنا ولن نشرك مسبب عن مجموع إنا سمعنا الخ فكونه قرآنا معجزا يوجب الإيمان به وكونه يهدي إلى الرشد يوجب قلع الشرك من أصله والأول أولى وجوز أن يكون به لله عز و جل لأن قوله سبحانه بربنا يفسره فلا تغفل
وأنه تعالى جد ربنا اختلفوا قراءة في أن هذه وما بعدها إلى وأنا منا الهمزة فيهن ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة ما هنا وأنه كان يقول وأنه رجال وقرأ الباقون بكسرها في الجميع واتفقوا على الفتح في أنه استمع وإن المساجد لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحي بخلاف الباقي فإنه يصح أن يكون من قولهم ومما أوحي واختلفوا في أنه لما قام فقرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها كذا فصله بعض الأجلة وهو المعول عليه ووجه الكسر في إن هذه وما بعدها إلى وأنا منا المسلمون ظاهر كالكسر في أنا سمعنا قرآنا لظهور عطف الجمل على المحكي بعد القول ووضوح اندراجها تحته وأما وجه الفتح ففيه خفاء ولذا اختلف فيه فقال الفراء والزجاج والزمخشري هو العطف على محل الجار والمجرور في آمنا به كأنه قيل صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا وكذلك البواقي ويكفي في إظهاره المحل إظهار مع المرادف وليس من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الممنوع عند البصريين في شيء وإن قيل به هنا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين له ولو قيل أنه بتقدير الجار لإطراد حذفه قبل أن وإن لكان سديدا كما في الكشف وضعف مكي العطف على ما في حيز آمنا فقال فيه بعد في المعنى لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ولا أنهم آمنوا بأنه كان رجال إنما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين عن أنفسهم لأصحابهم وأجيب عن الذاهبين إليه بأن الإيمان والتصديق يحسن في بعض تلك المعطوفات بلا شبهة فيمضي في البواقي ويحمل على المعنى على حد قوله
وزججن الحواجب والعيونا ...
فيخرج على ما خرج عليه أمثاله فيؤول صدقنا بما يشمل الجميع أو يقدر مع كل ما يناسبه وقال أبو حاتم هو العطف على نائب فاعل أوحي أعني أنه استمع كما في أن المساجد على أن الموحي عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قل أوحي إلي كيت وكيت وهذه العبارات وتعقب بأن حكاية عباراتهم تقتضي أن تكون أن في كلامهم مفتوحة الهمزة ولا يظهر ذلك إلا أن يكون في كلامهم ما يقتضي الفتح كاسمعوا أو اعلموا أو نخبركم لكنه أسقط وقت الحكاية ولا يظهر لإسقاطه وجه وعلى تقدير الظهور فالفتح ليس لأجل العطف فإن النائب عن الفاعل عليه مجموع كل جملة على إرادة اللفظ دون المنسبك من أن وما بعدها وإلا لما صح أن يقال الموحي كيت وكيت وهذه العبارات فإن كانت في كلامهم مكسورة الهمزة وصحت دعوى أن الحكاية اقتضت فتحها مع صحة إرادة هذه العبارات معه فذاك وإلا فالأمر كما ترى فافهم وتأمل
والجد العظمة والجلال يقال جد في عيني أي عظم وجل أي وصدقنا أن الشأن ارتفع عظمة وجلال ربنا أي عظمت عظمته عز و جل وفيه من المبالغة ما لا يخفى وقال أبو عبيدة والأخفش الملك والسلطان وقيل الغني وهو مروي عن أنس والحسن في الآية والأول مروي عن الجمهور والجد على جميع هذه الأوجه مستعار من الجد الذي هو البخت
وقوله عز و جل ما اتخذ صاحبة ولا ولدا عليها تفسير للجملة
(29/84)

وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز و جل بالتعالي عن الصحابة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزهوه تعالى عنه وقرأ حميد بن قيس جد بضم الجيم قال في البحر ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى ربنا من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم وقرأ عكرمة جد منونا مرفوعا ربنا بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضا وربنا خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من جد وقرأ أيضا جدا منونا منصوبا على أنه تميز محول عن الفاعل وقرأ هو أيضا وقتادة جدا بكسر الجيم والتنوين والنصب ربنا بالرفع قال ابن عطية نصب جدا على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعاليا جدا وقرأ ابن السميفع جدا ربنا أي جداوه ونفعه سبحانه وكان المراد بذلك الغني فلا تغفل
وأنه كان يقول سفيها هو إبليس عند الجمهور وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا
على الله شططا أي قولا ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز و جل وتعلق الإيمان والتصديق بهذا القول بناء على ما يقتضيه العطف على ما في حيز فآمنا ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفيههم من قبل بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا أن ما كان يقول سفيهنا في حقه سبحانه كان شططا
وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم أي كنا نظن أن لن يكذب على الله تعالى أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ولذلك اعتقدنا صحة قول السفيه ولعل الإيمان متعلق بما يشعر به كلامهم هذا وينساق إليه من خطئهم في ظنهم كأنه قيل وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا وكذبا مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول كما في قعدت القرفصاء أو وصف لمصدر محذوف أي قولا كذبا أي مكذوبا لأنه لا يتصور صدور الكذب منه وإن اشتهر توصيفه به كالقائل وجوز أن يكون من الوصف بالمصدر مبالغة وهي راجعة دون المنفي وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت أحدهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى
فزادهم أي زاد الرجال العائذون الجن
رهقا أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... لا يشتقي وامق ما لم يصب رهقا
فإنه أراد ما لم يغش محرما فالمعنى هنا فزادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى أو فزاد الجن العائذين غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم فالضميران على عكس ما تقدم وهو قول قتادة وأبي العالية والربيع وابن زيد والفاء على الأول للتعقيب وعلى هذا قيل للترتيب الإخباري وذهب الفراء إلا أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى وكم من قرية أهلكنا فجاءها بأسنا وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس وقيل لا يطلق على ذكور الجن
(29/85)

ومن الجن في الآية متعلق بيعوذون ومعناها أنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس وكان الرجل يقول مثلا أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي وهو قول غريب مخالف لما عليه الجمهور المؤيد بالآثار ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجب الزيادة الرهق وقد جاء في بعض الأخبار ما يقال بدل هذه الإستعاذة ففي حديث طويل أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس وقال غريب جدا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن فتن النهار ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير
وأنهم ظنوا أي الإنس
كما ظننتم أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض
أن لن يبعث الله أحدا أي من الرسل إلى أحدا من العباد وقيل أن لن يبعث سبحانه أحدا بعد الموت وأيا ما كان فالمراد وقد أخطؤا وأخطأتم ولعله متعلق الإيمان وقيل المعنى ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن لن الخ فتكون هذه الآية من جملة الكلام الموحى به معطوفة على قوله تعالى إنه استمع وعلى قراءة الكسر تكون استئنافا من كلامه تعالى وكذا ما قبلها على ما قيل وفي الكشاف قيل الآيتان يعني هذه وقوله تعالى وأنه كان رجال الخ من جملة المحي وتعقب ذلك في الكشف بأن فيه ضعفا لأن قوله سبحانه وإنا لمسنا السماء الخ من كلام الجن أو مما صدقوه على القراءتين لأن الموحي إليه فتخلل ما تخلل وليس اعتراضا غير جائز إلا أن يؤول بأنه يجري مجراه لكونه يؤكد ما حدث عنهم في تماديهم في الكفر أولا ولا يخفى ما فيه من التكلف انتهى
وأبو السعود اختار في جميع الجمل المصدرة بأن العطف على أنه استمع على نحو ما سمعت عن أبي حاتم وقد سمعت ما فيه آنفا مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر وجملة أن لن يبعث الخ قيل سادة مسد مفعولي ظنوا وجوز أن تكون سادة مسد مفعولي ظننتم ويكون الساد مسد مفعولي الأول محذوفا كما هو المختار في أمثال ذلك ورجح الأول في الآية بأن ظنوا هو المقصود فيها فجعل المعمول المذكور له أحسن وأما كما ظننتم فمذكور بالتبع ومنه يعلم أن كون المختار أعمال الثاني في باب التنازع ليس على إطلاقه
وأنا لمسنا السماء أي طلبنا بلوغها لاستماع كلام أهلها أو طلبنا خبرها واللمس قيل مستعار من المس للطلب كالجس يقول لمسه والتمسه كطلبه وأطلبه وتطلبه والظاهر أن الإستعارة هنا لغوية لأنهم مجاز مرسل لاستعماله في لازم معناه والسماع على ظاهرها
فوجدناها أي صادفناها وأصبناها فوجد متعد لواحد
وقوله تعالى ملئت في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وإن كانت وجد من أفعال القلوب فهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وقرأ الأعرج مليت بالياء دون همز
حرسا أي حراسا اسم جمع كخدم كما ذهب إليه جمع لأنه على وزن يغلب في المفردات كبصر وقمر ولذا نسب إليه فقيل حرسي وذهب بعض إلى أنه جمع والصحيح الأول ولذا وصف بالمفرد فقيل
شديدا أي قويا ونحوه قوله
بنيته بعصبة من ماليا ... أخشى رجيلا وركيبا عاديا
ولو روعي معناه جمع بأن يقال شدادا إلا أن ينظر لظاهر وزن فعيل فإنه يستوي فيه الواحد والجمع والمراد بالحرس الملائكة عليهم السلام الذين يمنعونهم عن قرب السماء
وشهبا جمع شهاب وقد مر كلام فيه وجوز بعضهم أن يكون المراد بالحرس الشهب والعطف مثله في قوله
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وهو خلاف الظاهر ودخول أنا لمسنا الخ في حيز الإيمان وكذا أكثر الجمل الآتية في غاية الخفاء والظاهر تقدير
(29/86)

نحو نخبركم فيما لا يظهر دخوله في ذلك أو تأويل آمنا من أول الأمر بما ينسحب على الجميع
وأنا كنا نقعد قبل هذا منها أي من السماء
مقاعد للسمع أي مقاعد كائنة للسمع خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للترصد والإستماع وللسمع متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد وكيفية قعودهم على ما قيل ركوب بعضهم فوق بعض وروي في ذلك خبر مرفوع لا مانع من أن يكون بعروج من شاء منهم بنفسه إلى حيث يسمع منه الكلام
فمن يستمع الآن قال في شرح التسهيل الآن معناه هنا القرب مجازا فيصح مع الماضي والمستقبل وفي البحر أنه ظرف زمان للحال ويستمع مستقبل فاستمع في الظرف واستعمل للإستقبال كما قال
سأسعى الآن إذ بلغت أناها
فالمعنى فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي
يجد له شهابا رصدا أي يجد شهابا راصدا له ولأجله يصده عن الإستماع بالرجم فرصد صفة شهابا فإن كان مفردا فالأمر ظاهر وإن كان اسم جمع للراصد كحرس فوصف المفرد به لأن الشهاب لشدة منعه وإحراقه جعل كأنه شهب ونظير ذلك وصف المعا وهو واحد الإمهاء بجياع في قول القتامي
كأن قيود رجلي حين ضمت ... حوالب غرزوا معا جياعا
وجوز كونه مفعولا له أي لأجل الرصد وقيل أن يكون اسم جمع صفة لما قبله بتقدير ذوي شهاب فكأنه قيل يجد له ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة عليهم السلام الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الإستماع وفيه بعد وفي الآية رد على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو إحدى آياته عليه الصلاة و السلام حيث قيل فيها ملئت وهو كما قال الجاحظ ظاهر في أن الحادث هو الملء والكثرة وكذا قوله سبحانه نقعد منها مقاعد على ما في الكشاف فكأنه قيل كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الخ ويدل على وجود الشهب قبل ذكرها في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي خازم
والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفها انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر
وانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الرع يصف فرسا
يرد علينا العير من دون إلفه ... أو الثور كالدري يتبعه الدم
فإن هؤلاء الشعراء كلهم كما قال التبريزي جاهلون ليس فيهم مخضرم وما رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن ابن عباس بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم وروي عن معمر قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم قلت أرأيت قوله تعالى وإنا كنا نقعد فقال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنه أخذ ذلك من الآية أيضا وقال بعضهم إن الرمي لم يكن أولا ثم حدث للمنع عن بعض السماوات ثم كثر ومنع الشياطين عن جميعها يوم تنبأ النبي عليه الصلاة و السلام وجوز أن تكون الشهب من قبل لحوادث كونية لا لمنع الشياطين أصلا والحادث بعد البعثة رمي الشياطين بها على معنى أنهم إذا عرجوا للإستماع رموا بها فلا يلزم أيضا أن يكون كل ما يحدث من الشهب اليوم للرمي بل يجوز أن يكون الأمور أخر بأسباب يعلمها الله تعالى ويجاب بهذا عن حدوث الشهب في شهر رمضان مع ما جاء من أنه تصفد مردة الشياطين فيه ولمن يقول أن الشهب لا تكون إلا للرمي جواب آخر مذكور
(29/87)

في موضعه وذكروا وجدانهم المقاعد مملوءة من الحراس ومنع الإستراق بالكلية قيل بيان لما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستمعوا قراءته عليه الصلاة و السلام
وقولهم وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحراسة السماء
أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا كالتتمة لذلك فالحامل في الحقيقة تغيير الحال عما كانوا ألفوه والإستشعار أنه لأمر خطير والتشوق إلى الإحاطة به خبرا ولا يخفى ما في قولهم أشر أريد الخ من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله عز و جل كما صرحوا به في الخير وإن كان فاعل الكل هو تعالى ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الإعتقاد
وأنا منا الصالحون أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة
ومنا دون ذلك أي قوم دون ذلك المذكور ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بمن مقدم عليه والصفة ظرف كما هنا أو جملة كما في قوله منا أقام ومنا ظعن وأرادوا بهؤلاء القوم المقتصدين في صلاح الحال على الوجه السابق لا في الإيمان والتقوى كما قيل فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب عنه قوله تعالى
كنا طرائق قددا وأما حالهم بعد استماعه فستحكى بقوله تعالى وإنا لما سمعنا الهدى إلى قوله تعالى وإنا منا المسلمون الخ وجوز بعضهم كون دون بمعنى غير فيكون دون ذلك شاملا للشرير المحض وأيا ما كان فجملة كنا الخ تفسير للقسمة المتقدمة لكن قيل الأنسب كون دون بمعنى غير والكلام على حذف مضاف أي كنا ذوي طراق أي مذاهب أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت بطرائقنا طرائق قددا وكون هذا من تلقي الركبان لا يلتفت إليه وعدم اعتبار التشبيه البليغ ليستغني عن تقدير مثل قيل لأن المحل ليس محل المبالغة وجوز الزمخشري كون طرائق منصوبا على الظرفية بتقدير في أي كنا في طرائق وتعقب بأن الطريق اسم خاص لموضع يستطرق فيه فلا يقال للبيت أو المسجد طريق على الإطلاق وإنما يقال جعلت المسجد طريقا فلا ينتصب مثله على الظرفية إلا في الضرورة وقد نص سيبويه على أن قوله
كما عسل الطريق الثعلب
شاذ فلا يخرج القرآن الكريم على ذلك وقال بعض النحاة هو ظرف عام لأن كل موضع يستطر قطري والقدد المتفرقة المختلفة قال الشاعر
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
جمع قدة من قد إذا قطع كأن كل طريق لامتيازها مقطوعة من غيرها
وأنا ظننا أي علمنا الآن
أن لن نعجز الله أي أن الشأن لن نعجز الله تعالى كائبين
في الأرض أي أينما كنا من أقطارها
ولن نعجزه هربا أي هاربين منها إلى السماء فالأرض محمولة على الجملة ولما ولن الخ في مقابلة ما قبل لزم أن يكون الهرب إلى السماء وفيه ترق ومبالغة كأنه قيل لن نعجزه سبحانه في الأرض ولا في السماء وجوز أن لا ينظر إلى عموم ولا خصوص كما في أرسلنا العراك ويجعل الفوت على قسمين أخذا من لفظ الهرب والمعنى لن نعجزه سبحانه في الأرض إن أراد بنا أمرا ولن نعجزه عز و جل هربا بأن طلبنا وحاصله أن طلبنا لم نفته وإن هربنا لم نخلص منه سبحانه وفائدة ذكر الأرض تصوير أنها مع هذه البسطة والعراضة ليس فيها منجا منه تعالى ولا مهرب لشدة قدرته سبحانه وزيادة تمكنه جل وعلا ونحوه قول القائل
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقيل فائدة ذكر الأرض تصوير تمكنهم عليها وغاية بعدها عن محل استوائه سبحانه وتعالى وليس بذاك وكون في الأرض
(29/88)

وهربا حالين كما أشرنا إليه هو الذي عليه الجمهور وجوز في هربا كونه تمييزا محولا عن الفاعل أي لن يعجزه سبحانه هربنا
وأنا لما سمعنا الهدى أي القرآن الذي هو الهدى بعينه
آمنا به من غير تلعثم وتردد
فمن يؤمن بربه وبما أنزله عز و جل فلا يخاف جواب الشرط ومثله من المنفي بلا يصح فيه دخول الفاء وتركها كما صرح به في شرح التسهيل إلا أن الأحسن تركها ولذا قدر ههنا مبتدأ لتكون الجملة إسمية ولزم اقترانها بالفاء إذا وقعت جوابا إلا فيما شذ من نحو
من يفعل الحسنات الله يشكرها
معلوم وبعضهم أوجب التقدير لزعمه عدم صحة دخول الفاء في ذلك أي فهو لا يخاف
بخسا أي نقصا في الجزاء وقال الراغب البخس نقص الشيء على سبيل الظلم
ولا رهقا أي غشيان ذلة من قوله تعالى وترهقهم ذلة وأصله مطلق الغشيان وقال الراغب رهقه الأمر أي غشيه بقهر وفي الأساس رهقه دنا منه وصبي مراهق مدان للحلم وفي النهاية يقال رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه وحاصل المعنى فلا يخاف أن أن يبخس حقه ولا أن ترهقه ذلة فالمصدر أعني بخسا مقدر باعتبار المفعول وليس المعنى على أن غير المؤمن يبخس حقه بل النظر إلى تأكيد ما ثبت له من الجزاء وتوفيره كملا وأما غيره فلا نصيب له فضلا عن الكمال وفيه أن ما يجزى به غير المؤمن مبخوس في نفسه وبالنسبة إلى هذا الحق فيه كل البخس وإن لم يكن هناك بخس حق كذا في الكشف أو فلا يخاف بخسا ولا رهقا لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهقه ظلما فلا يخاف جزاءهما وليس من إضمار مضاف أعني الجزاء بل ذلك بيان لحاصل المعنى وإن ما ذكر في نفسه مخوف فإنه يصح أن يقال خفت الذنب وخفت جزاءه لأن ما يتولد منه المحذور محذور وفيه دلالة على أن المؤمن لاجتنابه البخس والرهق لا يخافهما فإن عدم الخوف من المحذور إنما يكون لانتفاء المحذور وجاز أن يحمل على الإضمار وأصل الكلام فمن لا يبخس أحدا ولا يرهق ظلمه فلا يخاف جزاءهما فوضع ما في النظم الجليل موضعه تنبيها بالسبب على المسبب والأول كما قيل أظهر وأقرب مأخذا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فلا يخاف بخسا ظلما بأن يظلم من حسناته فينتقص منها شيء ولا رهقا ولا أن يحمل عليه ذنب غيره وأخرج نحوه عن الحسن ولعل المعنى الأول أنسب بالترغيب بالإيمان الرهق أيضا نظرا إلى ما سمعت من قوله تعالى وترهقهم ذلة وقرأ ابن وثاب والأعمش فلا يخف بالجزم على أن لا ناهية لا نافية لأن الجواب المقترن بالفاء لا يصح جزمه وقيل الفاء زائدة ولا للنفي وليس بشيء وأيا ما كان فالقراءة الأولى أدل على تحقق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وذلك لتقدير هو عليها وبناء الفعل عليه نحو هو عرف ويجتمع فيه التقوى والإختصاص إذا اقتضاهما المقام وقرأ ابن وثاب بخسا الخاء المعجمة
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون الجائرون على طريق الحق الذي هو الإيمان والطاعة يقال قسط الرجل إذا جار وأنشدوا
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان
فمن أسلم فأولئك الإشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى
تحروا توخوا وقصدوا
رشدا عظيما بلغهم إلى الدار للثواب وقرأ الأعرج رشدا بضم الراء وسكون الشين
وأما القاسطون الجائرون عن سنن الإسلام
فكانوا لجهنم حطبا توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس واستظهر أن فمن أسلم الخ من كلام الجن وقال ابن عطية الوجه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيده ما بعد من الآيات وفي الكشاف زعم من لا يرى
(29/89)

للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا إن قال سبحانه فأولئك تحروا رشدا فذكر سبب الثواب والله عز و جل أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد وهو ظاهر في أنه من كلامه عز و جل
وقوله تعالى وإن لو استقاموا الخ معطوف قطعا على قوله سبحانه أنه استمع ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور لا الحال وعدم الإلتباس وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو والمعنى وأوحى إلي أن الشأن لو استقام الإنس والجن أو كلاهما
على الطريقة التي هي ملة الإسلام
لأسقيناهم ماء غدقا أي كثيرا وقرأ عاصم في روايةالأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب
لنفتنهم فيه أي لنختبرهم كيف يشكرونه أي لنعاملهم معاملة المختبر وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته سبحانه ولم يتكبر على السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم لنختبرهم ويجوز على هذا رجوع الضمير إلى القاسطين وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير واعتبار المثلى قيل لأن التعريف للعهد والمعهود طريقة الجن المفضلة على غيرها وقيل لأن جعلها طريقة وما عداها ليس بطريقة يفهم منه كونها مفضلة وقيل المعنى أنه لو استقام الجن على طريقتهم وهي الكفر ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة وروي نحو هذا عن الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبي مجلز بيد أنهم أعادوا الضمير على من أسلم وقالوا أي لو كفر من أسلم من الناس لأسقيناهم الخ وهو مخالف للظاهر لاستعمال الإستقامة على الطريقة في الإستقامة على الكفر وكون النعمة المذكورة استدراجا من غير قرينة عليه مع أن قوله تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا الخ يؤيد الأول وزعم الطيبي أن التذييل بقوله عز و جل
ومن يعرض عن ذكر ربه الخ ينصر ما قيل قال لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد أي لنستدرجهم فيبتغوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله تعالى وفيه نظر والذكر مصدر مضاف لمفعوله تجوز به عن العبادة أو هو بمعنى التذكير مضاف لفاعله ويفسر بالموعظة وقال بعضهم المراد بالذكرالوحي أي ومن يعرض عن عبادة ربه تعالى أو عن موعظته سبحانه أو عن وحيه عز و جل
يسلكه مضمن معنى ندخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني أعني قوله تعالى
عذابا صعدا بنفسه دون في أو هو من باب الحذف والإيصال والصعد مصدر وصف به مبالغة أو تأويلا أي ندخله عذابا يعلوا المعذب ويغلبه وفسر بشاق يقال فلان في صعد من أمره أي في مشقة ومنه قول عمر رضي الله عنه ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح أيما شق علي وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان في عادتهم أن يذكروا جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة فكان يشق عليه ارتجالا أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته وقيل إنما شق من الوجوه ونظر بعضهم إلى بعض وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس صعد جبل في النار قال الخدري كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت وقال عكرمة هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها جدار إلى جهنم فعلى هذا قال أبو حيان يجوز أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول نسلكه عذابا من أجله وقرأ الكوفيون يسلكه بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين
(29/90)

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقرأ قوم صعدا بضمتين وابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين قال الحسن معناه لا راحة فيه
وأن المساجد لله عطف على أنه استمع فهو من جملة الموحى والظاهر أن المراد بالمساجد المواضع المعدة للصلاة والعبادة أي وأوحى إلى أن المساجد مختصة بالله تعالى شأنه
فلا تدعوا أي فلا تعبدوا فيها مع الله أحدا غيره سبحانه وقال الحسن المراد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعد لذلك أم لا إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة وكأنه أخذ ذلك مما في الحديث الصحيح جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة و السلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لا سيما في الخضر عليه السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصة اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الإختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم السلام والحضر إن كان حيا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة محوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت وأن المساجد لله الخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها قتائدة ثنية معروفة أه منه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمكد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى وأن المساجد بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد والمساجد بمعناها المعروف أي لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط والمعنى أن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عز و جل فالإشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للإشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في تدعوا قيل للجن وأيد بما روي عن ابن جبير قال أن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على ناينا عنك فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها وهو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارة إذا دخلوا كنائسهم ويبعهم أشركوا بالله عز و جل فأمرنا أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد بهذه الآية وعن ابن جريج بدل فأمرنا الخ فأمرهم أن يوحدوه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك أيضا وقرأ
(29/91)

كما في البحر ابن هرمز وطلحة وإن المساجد بكسر همزة إن وحمل ذلك على الإستئناف وأنه بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على أنه استمع كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحى إلى أن الشأن لما قام عبد الله أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله تعالى يدعوه حال من عبد أي لما قام عابدا له عز و جل وذلك قيامه عليه الصلاة و السلام لصلاة الفجر بنخلة كما مر كادوا أي الجن كما قال ابن عباس والضحاك يكونون عليه لبدا متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا نظيره وهذا كالظاهر في أنهم كانوا كثيرين لا تسعة ونحوها وإيراده عليه الصلاة و السلام بلفظ العبد دون لفظ النبي أو الرسول أو الضمير أما لأنه مقول على لسانه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه أمر يقول أوحي كذا فجيء به على ما يقتضيه مقام العبودية والتواضع أو لأنه تعالى عدل عن ذلك تنبيها على أن العبادة من العبد لا تستبعد ونقل عليه الصلاة و السلام كلامه سبحانه كما هو رفعا لنفسه عن البين فلا وجود للأثر بعد العين وحيث كان هذا العدول منه جل وعلا إما لكذا أو لكذا إلا أنه تصرف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يمتنع كما قال بعض الأجلة الجمع بين الحسنيين وقال الحسن وقتادة ضمير كادوا لكفار قريش والعرب فيراد بالقيام القيام بالرسالة وبالتلبد للعداوة والمعنى أنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله تعالى وحده ويذر ما كانوا يدعون من دونه كادوا لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمون وجوز أن يكون الضمير على هذا للجن والإنس وعن قتادة أيضا ما يقتضيه قال تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفؤه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره على من ناوأه وفي البحر أبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام كاد قومه يقتلونه حتى ايتنقذه الله تعالى منهم قاله الحسن وأبعد منه قول من قال أنه عبد الله بن سلام أه ولعمري أنه لا ينبغي القول بذلك ولا أظن له صحة بوجه من الوجوه وقرأ نافع وأبو بكر كما قدمنا وابن هرمز وطلحة كما في البحر وأنه بكسر الهمزة وحمل على أن الجملة استئنافية من كلامه عز و جل وجوز أن تكون من كلام الجن معطوفة على جملة إنا سمعنا حكموا فيها لقومهم لما رجعوا إليهم ما رأوا من صلاته صلى الله تعالى عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به وحكى به ذلك عن ابن جبير وجوز نحو هذا على قراءة الفتح بناء على ما سمعت عن أبي حاتم أو بتقدير ونخبركم بأنه أو نحوه هذا وفي الكشف الوجه على تقدير أن يكون وإن المساجد من جملة الموحى أن يكون فلا تدعوا خطابا للجن محكيا أن جعل قوله تعالى وإنه لما قام على قراءة الكسر من مقول الجن لئلا ينفك النظم لو جعل ابتداء قصة ووحيا آخر منقطعا عن حكاية الجن وكذلك لو جعل ضمير كادوا للجن على قراءة الفتح أيضا والأصل أن المساجد لله فلا تدعوا أيها الجن مع الله أحدا فقيل يا محمد لمشركي مكة أوحي إلي كذا وإذا كان كذلك فيجيء في ضمن الحكاية إثبات هذا الحكم بالنسبة إلى المخاطبين أيضا لاتحاد العلة وأما لو جعل خطابا عاما فالوجه أن يكون ضمير كادوا راجعا إلى المشركين أو إلى الجن والإنس وأن يكون على قراءة الكسر جملة استئنافية ابتداء قصة منه جل شأنه في الأخبار عن حال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو تمهيد لما يأتي من بعد وتوكيد لما ذكر من قبل فكأنه قيل قل لمشركي مكة ما كان من حديث الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الإنتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل وأنه لما قام عبد الله يدعوه ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والإنس يكونون عليه لبدا دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة وما أحسن التقابل بين قوله تعالى وإن المساجد وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله
(29/92)

سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالإباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصة جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكى عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا الخ فالوجه أن يكون استطرادا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل والآيتان 21 و 22 على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبيها على أن الحكمة في خلقها خمدمة المعبود من حيث العدول على لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى إشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم أه فتأمل
واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي صافوا بستة أبيات وأربعة
حتى كأن عليهم جابيا لبدا وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه لبدا بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما لبدا بضم اللام وتشديد الباء جمع لا بد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة قل إنما ادعوا اعبد ربي ولا أشرك به في العبادة أحدا فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الإطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون قال على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية من الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه وأوفق لقوله سبحانه قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشاد أي ولا نفعا تعبير أباسم السبب عن المسبب والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عز و جل أو لا أملك لكم غيا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي غيا بدل ضرا والمعنى لا استطيع ان أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الإحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر وقرأ الأعرج رشدا بضمتين قل إني لن يجيرني من الله أحد إن أرادني سبحانه بسوء ولن أجدا من دونه ملتحدا أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدي حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا يا لهف نفسي ونفسي عبر مجدية
عني وما من قضاء الله ملتحد وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة و السلام عن شؤن نفسه بعد بيان عجزه صلى الله تعالى عليه وسلم عن شؤن غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعون إليه ونحن نجيرك فقيل له قل إني لن يجيرني الخ وقيل هو جواب لقول ورد إن سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال إني لن يجيرني الخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء وقوله تعالى إلا بلاغا من الله استثناء من مفعول لا أملك كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهمااعتراض مؤكد لنفي الإستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذللك فإن كان المعنى لا أملك إن أضركم ولا أنفعكم استثناء متصلا كأنه قيل لا أملك شيئا إلا بلاغا وإن كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد كان منقطعا أو من باب
لا عيب فيهم
(29/93)

غير أن سيوفهم
كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه إما استثناء متصل من رشدا فإن الإبلاغ إرشاد ونفع والإستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز وإما استثناء منقطع من ملتحدا قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه من دونه ملتحدا لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وبإعانته وتوفيقه وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي لن يجيرني أحد لكن أن بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الإستثناء من ملتحدا أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى والأظهر ما تقدم وقيل أن إلا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى إن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلا قياما فقعودا وظاهره أن المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الأداة كلام والظاهر أن إطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله فطلقها فلست لها بكفء
وإلا يعل مفرقك الحام ما لم يسد مسده شيء من معمول أو مفسر كان أحد من المشركين استجارك والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وهذا الوجه المتبادر كما لا يخفى وقوله تعالى ورسالاته عطف على بلاغا ومن الله متعلق بمحذوف وقع صفة له أي بلاغا كائنا من الله وليس بصلة له لأنه يستعمل بعن كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بلغوا عني ولو آية والمعنى على ما علمت أولا في الإستثناء لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عز و جل بها وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالته وأصل الكلام الإبلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وإن كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف رسالاته على الله أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل من بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية وقريء قال لا أملك أي قالعبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة و السلام قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا أي ما أردت إلا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلي الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم ثم فيه مبالغة من حيث أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة و السلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال إلا بلاغا وجعله بدلا من ملتحدا شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه وأما إن كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب فالوجه أنهم لما تلبدوا لذلك قيل له عليه الصلاة و السلام قل لهم ما لكم ازدحمتم على متعجبين مني ومن تطامن أصحابي على العبادة إني ليس إلى النفع والضر إنما أنا مبلغ عن الضار النافع فأقبلوا أنتم مثلنا على العبادة ولا تقبلوا على التعجب فإن العجب ممن يعرض عن المنعم المنتقم الضار النافع ولعل اعتبار قوة الإرتباط يقتضي أولوية كون التلبد كان للعداوة ومعصية الرسول عليه الصلاة و السلام ومن يعص الله ورسوله أي في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه فلا يصح استدلال المعزلة ونحوهم بالآية
(29/94)

على تخليد العصاة في النار وجوز أن يراد بالرسول رسول الملائكة عليهم السلام دون البشر فالمراد رسول البشر بعصيانه أن لا يبلغ المرسل إليه ما وصل إليه كما وصل وهو خلاف الظاهر فإن له نار جهنم خالدين فيها أي في النار أو في جهنم وجمع خالدين باعتبار معنى منكما أن الإفراد قبل باعتبار لفظها ولو روعي هنا لقيل خالدا ابدا بلا نهاية وقرأ طلحة فإن بفتح الهمزة على أن التقدير كما قال ابن الأنباري وغيره فجزاءه أن له الخ وقد نص النحاة على أن أن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر فقول ابن مجاهد ما قرأ به أحد وهو لحن لأنه بعد فاء الشرط ناشيء من قلة تتبعه وضعفه في النحو وقوله تعالى حتى إذا رأوا ما يدعون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا جملة شرطية مقرونة بحتى الإبتدائية وهي وإن لم تكن جارة فيها معنى الغاية فمدخولها غاية لمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه الصلاة و السلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل لا يزالون يستضعفون ويستهزؤن حتى غذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة تبين لهم أن المستضعف منه و ويدل على ذلك أيضا جواب الشرط وكذا ما قيل لأن قوله سبحانه قل إنما أدعو ربي تعريض بالمشركين كيفما قدر بل السورة الكريمة من مفتتحها مسوقة للتعريض بحال مشركي مكة وتسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتسرية عنه عليه الصلاة و السلام وتعبير لهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطانة وقلة انصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والإستهزاء بدل مبادهة الجن بالتصديق والإستهزاء ويجوز جعل ذلك غاية لقوله تعالى يكونون عليه لبدا إن فسر بالتلبد على العداوة ولا مانع من تخلل أمور غير أجنبية بين الغاية والمغيا فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليسب شيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني فإن له نار جهنم من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا الخ والظاهر أن من استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ وأضعف خبر والجملة في موضع نصب بما قبلها وقد علق عن العمل لمكان الإستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصبب يعلمون وأضعف خبر مبتدأ محذوفوالجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز وجوز تفسير ما يدعون بيوم بدر ورجح الأول بأن الظاهر أن قوله سبحانه قل إن أدري أي ما أدري أقريب ما تدعون أم يجعل له ربي أمددا رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك ومقتضى حالهم أنهمقالوا إنكارا واستهزاء متى ذلك الموعود بل رويعن مقاتل أن النضر بن الحرث قال ذلك فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدري متى يكون والأحرى بسؤالهم وهذا الجواب إرادة ما في يوم القيامة المنكرين له أشد الإنكار والخفي وقته عن الخلائق غاية الخفاء والمراد بالأمد الزمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب وإلا فهو وضعا شامل ولذا وصف ببعيدا في قوله تعالى تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا وقيل إن معنى القرب بنبيء عن مشارقة النهاية فكأنه قيل لا أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم هو مؤجل ضرب له غاية والأول أولى وأقرب عالم الغيب بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه عالم الغيب وجوز أبو حيان كونه بدلا من ربي وغيره أيضا كونه بيانا له ويأبى الوجهين الفاء في قوله تعالى فلا يظهر على غيبه أحدا إذ يكون النظم حينئذ أم يجعل له عالم الغيب أمد أفلا يظهر على غيبه أحد أو فيه من الإخلال مالا يخفى وإضافة عالم إلى الغيب محصنة لقصد الثبات فيه فيفد تعريف الطرفين التخصيص وتعريف الغيب للإستغراق وفي الرضي أن اسم الجنس أعني الذي يقع على القليل والكثير بلفظ الواحد إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصصه ببعض ما يصدق عليه فهو في الظاهر لاستغراق الجنس
(29/95)

أخذا من استقراء كلامهم فمعنى التراب يابس والماء بارد كل ما فيه هاتان الماهيتان حاله كذا فلو قلت في قولهم النوم ينقض الطهارة النوم مع الجلوس لا ينقضها لكان مناقضا لذلك اللفظ انتهى وهو يؤيد إرادة ذلك هنا لأن الغيب كالماء يقع على القليل والكثير بلفظ واحد ولا يضر في ذلك جمعه على غيوبكما لا يضر فيه جمع الماء على المياه وكذا المراد بغيبه جميع غيبه وقد نص عليه عزمي زاده معللا له بكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام سيما إذا كان في الأصل مصدرا وعزي إلى شرح المقاصد ما يقتضيه وربما يقال يفهم ذلك أيضا من اعتبار كون الإضافة للعهد وإن المعهود هو الغيب المستغرق أو من اعتبارها للإختصاص وإن الغيب المختص به تعالى بمعنى المختص علمه سبحانه به هو كل غيب واعتناء بشأن الإختصاص جيء بالمظهر موضع المضمر والجملة استئناف لدفع توهم نقص من نفى الدارية والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب والمراد بالإظهار المنفي الإطلاع الكامل الذي تنكشف به جلية الحال على أتم وجهكما يرشد إليه حرف الإستعلاء فكأنه قيل ما على إذا قلت ما أدري قرب ذلك الموعد الغيب ولا بعده فالله سبحانه وتعالى عالم كل غيب وحده فلا يطلع على ذلك المختص علمه به تعالى اطلاعا كاملا أحدا من خلقه ليكون أليق بالتفرد وأبعد عن توهم مساواة علم خلقه لعلمه سبحانه وإنما يطلع جل وعلا إذا اطلع من شاء على بعضه مما تقتضه الحكمة التي هي مدار سائر أفعاله عز و جل ومانفيت عني العلم مما لم يطلعني الله تعالى عليه لما أن الإطلاع عليه مما لا تقتضيه الحكمة التشريعية التي يدور عليها فلك الرسالة بل هو مخل وإن شئت فاعتبر الجملة واقعة موقع التعليل لنفي الدراية السابقة ولما كان الكلام مما قد يتوهمون منه أنه عليه الصلاة و السلام لم يطلع عليه شيء من الغيب عقب عز و جل الكلام بالإستثناءالمنقطع كما روي في البحر عن ابن عباس الذي هو بمعنى الإستدراك لدفع ذلك على أبلغ وجه حيث عمم الأمر في الرسل المرتضين وأقام كيفية الإظهار مقاما لإظهار مع الإشارة إلى بعض الذي اطلعوا عليه المناسب لمقام الدعوة فقال عز من قائل إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا أي لكن الرسول المرتضي يظهره جل وعلاعلى بعض الغيوب المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما إما لكونه من مباديها بأن يكون معجزة وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية وكيفيات الأعمال وأجزيتها ونحو ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة بأن يسلك من جميع جوانبه عند إطلاعه على ذلك حرسا من الملائكة عليهم السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد اطلاعه اختطافا أو تخليطا ليعلم متعلق بيسلك وعلة له والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضي الرسول ويصدق تصديقا جازما ثابتا مطابقا للواقع إن قد أبلغوا أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل بنوا تميم قتلوا زيدا فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهوجبريل عليه السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم السلام إلى الأنبياء رسالات ربهم وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط وعلى هذا فليكن من مبتدأ وجملة أنه يسلك خبره وجيء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى وأحاط بما لديهم أي بما عند الرصد وأحصي كلشيء أي مما كان ومما سيكون عددا أي فردا فردا حالمن فاعل يسلك بتقدير قد أو بدونه جيء به لمزيد الإعتناء بأمر علمه تعالى بجميع الأشياء وتفرده سبحانه بذلك على أتم وجه بحيث لا يشاركه سبحانه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم فكأنه قيل لكن المرتضى الرسول يعلمه الله تعالى بواسطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلقما برسالته والحالأنه تعالى قد أحاط علما بجميع أحوال أولئك
(29/96)

الوسائط وعلم جل وعلا جميع الأشياء بوجه جزئي تفصيلي فأين الوسائط منه تعالى أو حال من فاعل أبلغوا جيء به للإشارة إلى أن الرصد أنفسهم لم يزيدوا ولم ينقصوا فيما بلغوا كأنه قيل ليعلم الرسول أن قد أبلغ الرصد إليه رسالات ربه في حال إن الله تعالى قد علم جميع أحوالهم وعلم كل شيء فلو أنهم زادوا أو نقصوا عند الإبلاغ لعلمه سبحانه فما كان يختارهم للرصدية والحفظ هذا ما سنح لذهني القصر في تفسير هذه الآيات الكريمة وليت على يقين من أمره بيد أن ألإستدلال بقوله سبحانه فلا يظهر الخ على نفي كرامة الأولياء بالإطلاع على بعض الغيوب لا يتم عليه لأن قوله تعالى فلا يظهر على غيبه أحدا في قوة قضية سالبة جزئية لدخول ما يفيد العموم في حيز السلب وأكثر استمالاته لسلب العموم وصرح به فيما هنا في شرح المقاصد لا لعموم السلب وهو سلب جزئي فلا ينافي الإيجاب الجزئي كان يظهر بعض الغيب على ولي على نحو ما قال بعض أهل السنة في قوله تعالى لا تدركه الإبصار ولا يرد إن الإستثناء يقتضي أن يكون المرتضي الرسول مظهرا على جميع غيبه تعالى بناء على أن الإستثناء من النفي يقتضي إيجاب نقيضه للمستثنى ونقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية مع أنه سبحانه لا يظهر أحدا كائنا من كان على جميع ما يعلمه عز و جل من الغيب وذلك لانقطاع الإستثناء المصرح به ابن عباس وكذا لا يرد أن الله تعالى نفى إظهار شيء من غيبه على أحد إلا على الرسول فليلزم أن لا يظهر سبحانه أحدا من الملائكة على شيء منه لأن الرسول هنا ظاهر في الرسول البشري لقوله تعالى فإنه يسلك الخ وذلك ليس إلا في كما لا يخفى على من علم حكمة ذلك ويلزم أن لا يظهر أيضا أحدا من الأنبياء الذين ليسوا برسل بناء على إرادة المعنى الخاص من الرسول هنا وذلك لما ذكرنا أولا وكذا لا يرد أنه يلزم أن لا يظهر المرتضى الرسول على شيء من الغيوب التي لا تتعلق برسالته ولا يخل الإظهار عليها بالحكمة التشريعية إذ لا حصر للبعض المظهر فيما يتعلق بالرسالة وأنما أشير إلى المتعلق بها لاقتضاء المقام لذلك وكون كل غيب يظهر عليه الرسول لا يكون إلا متعلقا برسالته محل توقف وللمفسرين ههنا كلام لا بأس بذكره بما له وما عليه حسب الإمكان ثم الأمر بعد ذلك إليك فنقول لما كان مذهب أكثر أهل السنة القول بكرامة الولي بالإطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى عالم الغيب فلا يظهر الخ دالا على نفيها ولذا قال الزمخشري أن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خصالله تعالى الرسل من بين المرتضين بالإطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الإرتضاء وأدخله في السخط انتهى أتجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام ليس في قوله تعالى على غيبه صيغة عموم فيكفي عموم في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ويؤكد ذلك وقوع الآيةبعد قوله تعالى قل إن أدري أقريب ما توعدون والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال سبحانه إلا من ارتضى من رسول مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال تعالى يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت وأيضا يحتمل أن يكون هذا الإستثناء منقطعا كأنه قيل عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحدا ثم قيل إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن انتهى وتعقب بأن في غيبه
(29/97)

ما يدل على العموم كما سمعت أولا والسياق لا يأباه اللهم إلا أنم يطعن في ذلك وأيضا ظاهر جوابه الأول عن القيل كون المراد بالرسول في الآية الرسول الملكي ويأباه ما بعد من قوله تعالى فإنه يسلك الخ على أن علم الملائكة بوقت الساعة يوم تشقق السماء ليس من الإظهار على الغيب بل هو من إظهار الغيب وإبرازه للشهادة كإظهار المطر عند نزوله وما في الأحام عند وضعه إلى ذلك وأيضا الإنقطاع علىالوجه الذي ذكره بعيد جدا إذ فيه قطع المناسبة بين السابق واللاحق بالكلية اللهم إلا أن يقال مثله لا يضر في المنقطع وقيل أن الإظهار على الغيب بمعنى الإطلاع عليه على أتم وجه بحيث يحصل به أعلى مراتب العلم والمراد عموم السلب ولا يضر في ذلك دخول ما يفيد العموم في حيز النفي لأن القاعدة أكثرية لا مطردة لقوله تعالى والله لا يحب كل مختال فخور وقد نص على ذلك العلامة التفت ازاني فيكون المعنى فلا يظهرعلى شيء من غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك الخ ولا كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم وتعقب بأن من الصوفيةمن قال كالشيخ محيي الدينقدس سره بنزول الملك على الولي وأخباره إياه ببعض المغيبات أحيانا ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث بل قد يحصلله بواسطةالإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول وأيضا يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلا وأيضا يلزم أن ما يحصل للنبي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة وقال صاحب الكشف في الرد على الزمخشري الغيب أن كان مفسرا بما فسره قوله تعالى يؤمنون بالغيب فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بأعلامه تعالى أو بنصبه الدليل وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى تهذيب طرق الأدلة أيضا بواسطة الأنبياء عليهم السلام والعقل غير مستقل وأهل السنة غير آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلا رسول أو آخذ منهم وليسفيه نفي الكلاامة أصلا وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقا فلا بد من التخصيص بالإتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضا وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى عالم الغيب والشهادة فلا بد أيضا من التخصيص وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز و جل بدلالة الإضافة إلا رسولا وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلا بالأعلام من رسول ملكي أو بشري ولا كل غيبه تعالى الخاص مطلع عليه بل بعضه وأقل القليل منه فدل المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع إطلاق الله تعالى غير الرسول عليه فهذا ظاهر الآية دون تعسف ثم لو سلم فالثاني إما مستغرق وإذا قال سبحانه لا يطلع على جميعه أحدا إلا من ارتضى من رسول لم يدل على أنه لا يجوز اطلاع غير الرسول على البعض وإما مطلق ينزل على الكامل منه فيرجعإلى ما اختاره وتعاضد دلالتا تشريف الإضافة والإطلاق فلا وجه لتعليقه بهذه الآية ومنه يظهر أن الإستدلال من الآية على إبطال الكهانة والتنجيم غير ناهض وإنكان إبطالهما حقا لا نكره فضلا عن تكفير من قال بدلالته على حياة أو موت لأنه كفر بهذه الآية كما نقله شيخنا الطيبي عن الواحدي
(29/98)

والزجاج وصاحب المطلع انتهى وبحث فيه بأن حمل غيبه على الغيب الخاص بمعنى ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز و جل مما لا يناسب السياق وبأن ظاهر ما قرره على احتمالالإستغراق يقتضي على تقدير اتصال الإستثناء وإيجاب ضد ما نفي للمستثنى أن يظهر الرسول على جميع غيبه تعالى إلى ما يظهر بالتأمل وذكر العلامة البيضاوي أولا ما يفهم منه على ما قيل حمل غيبه على العموم مع الإختصاص أي عموم الغيب المخصوص به علمه تعالىة وحمل فلا يظهر على سلب العموم وحمل الرسول على الرسول البشري واعتبار الإستثناء منقطعا على أن المعنى فلا يظهر على جميع غيبه المختص به علمه تعالى أحدا إلا من ارتضى من رسول فيظهره على بعض غيبه حتى يكون إخباره به معجزة فلا يتم الإستدلال بالآية على نفي الكرامة وفسر الإختصاص بأنه لا يعلمه بالذات ولكنه علما حقيقيا يقينيا بغير سبب كاطلاع الغير إلا هو سبحانه وأما علم غيره سبحانه لبعضه فليس علما للغيب إلا بحسب الظاهر وبالنسبة لبعض البشر وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لمك ينصب عليه دليل ولا يقدح في الإختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى غذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم وقال ثانيا في الجواب عن الإستدلال ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه وحاصله أن الإستدلال إنما لم يتم لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميع لا أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أو لا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لا يكون إلا بالواسطة وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإماموالتفتازاني في شرح المقاصد وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضا وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه السلام ما يكفي في ذلك على أنهقد قيل عليه بعد ما قيل وأغرب ما قيل في هذا المقام كون إلا في قوله تعالى إلا من ارتضى للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى ثم إن تفسير قوله تعالى فإن يسلك الخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه السلام على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال ما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم آية من القرآن إلا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قرأ عالم الغيب الآية وقد يكون الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء وقال ابن كمال لا حت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد من بين يديه في الآية القوى الظاهرة ومن خلفه القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه يسلك الخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم من تينك الجهتين ولو كان المراد حفظة من الجوانب كي لا يقربه الشياطين عند إنزال الوحي فتلقى غير الوحي أو تسمعه فتلقيه إلى الكهنة فتخبر به من قبل إخبار الرسول كما ذهب إليه صاحب التيسير وغيره لما كان نظم الكلام على الوجه المذكور فإن عبارة يسلك وتخصيص الجهتين المذكورتين إنما يناسب ما ذكرناه لا ما ذكروه انتهى ولا يخفى أنه نحو من الإشارة ولعل التعبير بيسلك على تفسير الجمهور لتصوير الجهات التي تأتي منها الشياطين بالثغور الضيقة والمسالك الدقيقة وفي ذلك من الحسن ما فيه وذهب إلى أن ضمير ليعلم لله تعالى وضمير أبلغوا
(29/99)

إما للرصد أو لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضميرين قبل باعتبار لفظها والمعنى أنه يسلكهم ليعلم أن الشأن قد أبلغوا رسالات ربهم علما مستتبعا للجزاء وهو أن يعلمه تعالى موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى حتى يعلم المجاهدين فالغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرها والإشعار بترتب الجزاء عليها والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وقوله تعالى وأحاط الخ إما عطف على لا يظهر أو حال من فاعل يسلك جيء به لدفع التوهم وتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور أو عطف كما زعم بعض على مضمر لأن ليعلم متضمن معنى علم فصار قد علم ذلك وأحاط الخ وجوز أن يكون ضمير يعلم للرسول الموحى إليه وضمير أبلغوا للرصد النازلين إليه بالوحي وروي عن ابن جبير ما يؤيده أو للرسل وأحاط الخ عطف على أبلغوا أو على لا يظهر وعن مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد أبلغوا وفيه من البعد ما فيه وعليه لا يقع هذا العلم على ما في البحر إلا في الآخرة وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع وكلا القولين كما ترى ونصب عددا عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتا في لسان العرب خلاف وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجوز أن يكون حالا أي معدودا محصورا ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصبا على المصدر بمعنى إصحاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك وقريء عالم بالنصب على المدح وعلم فعلا ماضيا الغيب بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي ليعلم بالبناء للمفعول والزهري وابن أبي عبلة ليعلم بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا وقرأ أبو حيوة رسالة بالإفراد وقرأ ابن أبي عبلة وأحيط وأحصى كل بالبناء للمفعول في الفعلين ورفع كل على النيابة والفاعل هو الله عز و جل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علما والمحصي لكل شيء عددا
سورة المزمل
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها واصبر على ما يقولون والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى أن ربك يعلم إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الإستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عز و جل هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها قم الليل الخ بقوله تعالى في آخر تلك وأنه لما قام عبد الله يدعوه وبقوله سبحانه وأن المساجد لله الآية بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المزمل أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدعم التاء في الزاي وقد قرأ أبي على الأصل وعكرمة المزمل بتخفيف الزاي وكسر الميم جسمه أو نفسه وبعض السلف المزمل بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القرآت فإنه عليه الصلاة و السلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله
(29/100)

غيره ولا حاجة إلى أن يقال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم زمل نفسه أولا ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولا ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه والجمهور على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال زملوني فنزلت يا أيها المدثر وعلى أثرها نزلت يا أيها المزمل وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلاءل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا أيها المزمل يا أيها المدثر ونداؤه عليه الصلاة و السلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب قم أبا تراب قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل
وكل ما يفعل المحبوب محبوب
وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة و السلام نودي بذلك تهيجا للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للإستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادي علي كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة و السلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعدا لما وعده تعالى بقوله سبحانه إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ولا يربأ برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى عبس وتولى ومثل هذا من خطاب الأدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن يا أيها النبي يا أيها الرسول من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فأنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلى الله تعالى عليه وسلم متنزملا بمطرد لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناء عليه وتحسينا لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة و السلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما بني على عائشة رضي الله تعالى عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة و السلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة أنها ما كان تزميله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت كان مرطا طول أربع عشرة ذراعا نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعرا ولحمته وبرا وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة و السلام عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلى الله تعالى عليه وسلم نعم دل على أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه علي الخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلى الله تعالى عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبي عليه الصلاة و السلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة
(29/101)

كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل هذه الإحتمالات لا يكتفي بها بل قال أبو حيان أنه كذب صريح وعن قتادة كان صلى الله تعالى عليه وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي بيا أيها المزمل على معنى يا أيها المستعد للعبادة وقال عكرمة المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظا ومعنى ويقال أزد مله أي أحتمله وفيه تشبيه إجراء مراسم النبوة بتحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل قم الليل أي قم إلى الصلاة وقيل داوم عليها وأيا ما كان فمعمول قم مقدر والليل منصوب على الظرفية وجوز أن يكون منصوبا على التوسع والإسناد المجازي ونسب هذا إلى الكوفيين وما قيل إلى البصريين وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى قم صل فلا تقدير وقرأ أبو السمال بضم الميم اتباعا لحركة القاف وقريء بفتحها طلبا للتخفيف والكسر في قراءة الجمهور على أصل التقاء الساكنين إلا قليلا استثناء من الليل وقوله تعالى نصفه بدل من قليلا بدل الكل والضمير لليل وفي هذا الإبدال رفع الإبهام وفي الإتيان بقليل ما يدل على أن النصف المغمور بذكر الله تعالى بمنزلة الكل والنصف الفارغ وإن ساواه في الكمية لا يساويه في التحقيق أو أنقص منه عطف على الأمر السابق والضمير المجرور لليل أيضا مقيدا بالإستثناء لأنه الذي سيق له الكلام وقيل للنصف لقربه قليلا أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط عن نصف النصف أو زد عليه عطف كما سبق وكذا الكلام في الضمير ولا يختلف على القولين فيه وهو تخيير صلى الله تعالى عليه وسلم بين أن يقوم نصف الليل أو أقل من النصف أو أكثر بيد أنه رجح الأول بأن فيه جعل معيار النقص والزيادة النصف المقارن للقيام وهو أولى من جعله للنصف العاري منه بالكلية وإن تساويا كمية وجعل بعضهم الإبدال من الليل الباقي بعد الثنيا والضميرين له وقال في الإبدال من قليل ليس بسديد لهذا ولأن الحقيقي بالإعتناء الذي ينبيء عنه الإبدال هو الجزء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا للجزء المخرج العاري عنه ولا يخفى أنه على طرف التمام وكذا اعترض أبو حيان ذلك الإبدال بقوله أن ضمير نصفه حينئذ إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو الليل لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يكون استثناء مجهول إذ التقدير إلا قليلا نصف القليل وهذا لا يصح له معنى البتة ولا جائز أن يعود على المستثنى منه لأنه يلغو فيه الإستثناء إذ لو قيل قم الليل نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه أفاد معناه على وجه أخضر وأوضح وأبعد على الإلباس وفيه أنا نختار الثاني وما زعمه من اللغوية قد أشرنا إلى دفعه وأوضحه بعض الأجلة بقوله إن فيه تنبيها على تخفيف القيام وتسهيله لأم قلة أحد النصفين تلازم قلة الآخر وتنبيها على تفاوت ما شغل بالطاعة وما خلا منها الإشعار بأن البعض المشغول بمنزلة الكل مع ما في ذلك من البيان بعد الإبهام الداعي للتمكن في الذهن وزيادة التشويق وتعقب السمين الشق الأول أيضا بأن قوله استثناء مجهول من مجهول غير صحيح لأن الليل معلوم وكذا بعضه من النضف وما دونه وما فوقه ولا ضير في استثناء المجهول من المعلوم نحو فشربوا منه إلا قليلا بل لا ضير في إبدال مجهول من مجهول كجاءني جماعة بعضهم مشاة ومع هذا المعول عليه ما سلف وجوز أن يكون نصفه بدلا من الليل بدل بعض من كل والإستثناء منه والكلام على نية التقديم والتأخير والأصل قم نصف الليل إلا قليلا وضمير منه وعليه للأقل من النصف المفهوم من مجموع المستثنى منه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل بأن تقوم ثلث الليل أو أنقص من ذلك الأقل قليلا بأن تقوم ربع الليل أو زد على ذلك الأقل بأن تقوم النصف فالتخيير على هذا بين الأقل من النصف والأقل من الأقل والأزيد منه وهو النصف
(29/102)

بعينه ومآله إلى التخيير بين النصف والثلث والربع فالفرق بين هذا الوجه وما ذكر قيل مثل الصبح ظاهر وفي الكشاف ما يفهم منه على ما قيل أن التخيير فيما وراء النصف أي فيما يقل عن النصف ويزيد على الثلث فلا يبلغ بالزيادة النصف ولا بالنقصان الثلث قال في الكشف وإنما جعل الزيادة دون النصف والنقصان فوق الثلث لأنهما لو بلغا إلى الكسر الصحيح لكان الأشبه أن يذكر بصريح اسميهما وأيضا إيثار القلة ثانيا دليل على التقريب من ذلك الأقل وما انتهى إلى كسر صحيح فليس بناقص قليل في ذوق هذا المقام وكذا القول في جانب الزيادة كيف وقد بني الأمر على كونه أقل من النصف انتهى وهو وجه متكلف ونحوه فيما أرى ما سمعت قبيله وظاهر كلام بعضهم أن ذكر الثلث والربع والنصف فيه على سبيل التمثيل لا أن الأقل والأنقص والأزيد محصورات فيما ذكر وجوز أيضا كون الكلام على نية التقديم والتأخير كما مر آنفا لكن مع جعل الضميرين للنصف لا للأقل منه كما في ذلك والمعنى التخييرين أمرين بين أن يقوم عليه الصلاة و السلام أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه فكأنه قيل قيل قم أقل من نصف الليل على البت أو انقص من من النصف أو زد عليه تخييرا قيل وللإعتناء بشأن الأقل لأنه الأصل الواجب كرر على نحو أكرم أما زيدا أو عمرا وتعقب بأن فيه تكلفا لأن تقديم الإستثناء على البدل ظاهر في أن البدل من الحاصل بعد الإستثناء لأن في تقدير تأخير الإستثناء عدو لا عن الأصل من غير دليل ولأن الظاهر على هذا رجوع الضميرين إلى النصف بعد الإستثناء لأنه السابق لا النصف المطلق وأيضا الظاهر أن النقصان رخصة لأن الزيادة نقل والإعتناء بشأن العزيمة أولى ثم فيه أنه لا يجوز قيام النصف ويرده القراءة الثابتة في السبعة أن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه بالجر فإن استدل من جواز الأقل على جوازه لمفهوم الموافقة لزم أن يلغوا التعرض للزيادة على النصف لذلك أيضا ولا يخفى أن بعض هذا يرد على الوجه المار آنفا واعترض قوله الظاهر أن النقصان رخصة بأنه محل نظر إذ الظاهر أنه من قبيل أتممت عشرا فمن عندك فالتخيير ليس على حقيقته وفيه بحث وجوز أيضا كون الإبدال من قليلا كما قدمنا أولا لكن مع جعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع وضمير عليه لهذا القليل وجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا نصفه أو زد على هذا القليل قليلا نصفه ومآله قم نصف الليل أو نصف نصفه أو زد على نصف النصف نصف نصف النصف فيكون التخيير فيما إذا كان ست عشرة ساعة مثلا بين قيام ثماني ساعات وأربع وست ولا يخفى أن الإطلاق في أو زد عليه ظاهر الإشعار بأنه غير مقيد بقليلا إذ لو كان للإستغناء لاكتفى في أو انقص الخ بالأول أيضا ومن هنا قيل يجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة للثلث فيكون التخيير بين النصف والثلث والربع وفيه أن جعلها تتمة الثلث لا دليل عليه سوى موافقة القراءة بالجر في نصفه وثلثه بعد وجوز الإمام أن يراد بقليلا في قوله تعالى إلا قليلا الثلث وقال إن نصفه على حذف حرف العطف فكأنه قيل ثلثي الليل أو قم نصفه أو انقص من النصف أو زد عليه وأطال في بيان ذلك والذب عنه ومع ذلك لا يخفى حاله وذكر أيضا وجها ثانيا لا يخفى أمره على من أحاط بما تقدم خبرا نعم تفسيره القليل بالثلث مروي عن الكلبي ومقاتل وعن وهب بن منبه تفسيره بما دون المعشار والسدس وهو على ما قدمنا نصف واستدل به من قال بجواز استثناء النصف وما فوقه على ما فصل في الأصول وقال التبريزي الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والإستثناء وارد على المأمور به فكأنه قيل قم ثلثي الليل إلا قليلا ثم جعل نصفه
(29/103)

بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه فكأن التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى وهو كما ترى وقيل الإستثناء من أعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للإستغراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه قم الليل الخ ورتل القرآن أي في أثناء ما ذكر من القيام أي أقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف ترتيلا بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض وأخرج العسكري في المواعظ عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة إنا سنلقي عليك أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى قولا ثقيلا وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين سيما على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه عليه الصلاة و السلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة و السلام من القيام كأنه قيل إنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها من الإعتراض جملة ورتل الخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثقيلا أنه رصين لأحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل على الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقيل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقيه يثقل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحى إليه عليه الصلاة و السلام على إنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة و السلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ الأعلى بحيث يسمع ما يوحى به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة و السلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلى الله تعالى عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحي إليه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وروي الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وأن جبينه ليتفصد عرقا وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ثقيلا صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي القاء ثقيلا وليس صفة قولا وقيل ذلك عن بقائه على وجه الدهر لآ الثقيل من شأنه أن سيقى في مكانه وقيل ثقلة باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل
(29/104)

قاف وإن الملائكة لو اجتمعت على الحرف أن يقلوه ما أطاعوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه ويقله بإذن الله تعالى لا بقوته ولكن عز و جل طوقه ذلك وهذا مما يحتاج إلى نقل صحيح عن الصادق والسلام ولا أظن أن وجوده والجملة قيل على معظم هذه الأوجه مستأنفة للتعليل فإن التهجد يعد النفس لأن تعالج ثقله فتأمل واستدل بالآية على أنه لا ينبغي أن يقال سورة خفيفة لما أن الله تعالى سمى فيها القرآن كله قولا ثقيلا وهذا من باب الإحتياط كما لا يخفى إن ناشئة الليل أي أن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه ونشر إذا نهض وأنشد قوله نشأنا إلى خوص بري فيها السرى
وأشرف منها مشرفات القماحد وظاهر كلام اللغويين إن نشأ بهذا المعنى لغة عربية وقال الكرماني في شرح البخاري هي لغة حبشية عربوها وأخرج جماعة نحوه عن ابن عباس وابن مسعود وحكاه أبو حيان عن ابن جبير وابن زيد وجعل ناشئة جمع ناشيء فكأنه أراد النفوس الناشئة أي القائمة ووجه الإفراد ظاهر والإضافة إما بمعنى في أو على نحو سيد غضبي وهذا أبلغ أو أن قيام الليل على أن الناشئة مصدر نشأ بمعنى قام كالعاقبة وإسنادها إلى الليل مجاز كما يقال قام ليله وصام نهاره وخص هذا القيام بالقيام من النوم وكذا عائشة ومنعت أن يراد مطلق القيام وكان ذلك بسبب أن الإضافة إلى الليل في قولهم قيام الليل تفهم القيام من النوم فيه أو القيام وقت النوم لمن قال الليل كله أو أن العبادة التي تنشأ أي تحدث بالليل على أن الإضافة اختصاصية أو بمعنى في أو على نحو مكر الليل وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة ناشئة الليل ساعاته لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد واحدة أي متعاقبة والإضافة عليه اختصاصية أو ساعاته الأول من نشأ إذا ابتدأ وقال الكسائي ناشئة أوله وقريب منه ما روي عن ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم هي ما بين المغرب والعشاء هي أشد وطأ أي هي خاصة دونناشئة النهار أشد مواطأة يواطيء قلبها لسانها أن أريد بالناشئة النفس المتهجدة أو يواطيء فيها القائم لسانه إن أريد بها القيام أو العبادةأو الساعات والإسناد على الأول حقيقي وعلى هذا مجازي واعتبار الإستعارة المكنية ليس بذاك أو أشد موافقة لما يراد من الإخلاص فلا مجاز على جميع المعاني وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد والعربيان وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودا على أنه مصدر واطأ وطاء كقاتل قتالا وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة بكسر الواو وسكون الطاء والهمز مقصورا وقرأ ابن محصن بفتح الواو ممدودا وأقوم قيلا أي وأسو مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدو الأصوات وقيلا عليهما مصدر لكنه على الأول عام للإذكار والأدعية وعلى الثاني مخصوص بالقراءة ونصبه ونصب وطأ على التمييز وأخرج ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك أنه قرأ وأصوب قيلا فقال له رجل أنا نقرؤها وأقوم قيلا فقال إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد إن لك في النهار سبحا طويلا أي تقلبا وتصرفا من مهماتك واشتغالا بشواغلك فلا تستطيع أن تتفرع للعبادة فعليك بها في الليل وأصل السبح المر السريع في الماء فاستعير للذهاب مطلقا كما قاله الراغب وأنشدوا قول الشاعر أباحوا لكم شرق البلاد وغربها
ففيها لكم يا صاح سبح من السبح وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي وقيل أي أن لك في النهار فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه فالسبح لفراغ وهو مستعمل في ذلك لغة أيضا لكن الأول أوفق لمعنى قولهم سبح في الماء وأنسب للمقام ثم أن
(29/105)

الكلام على هذا إما تتميم للعلة يهون عليه أن النهار يصلح للإستراحة فليغنم الليل للعبادة وليشكر أن لم يكلف استيعابهما بالعبادة أو تأكيد للإحتفاظ به بأنه إن فات لا بد من تداركه بالنهار ففيه متسع لذبك وفيه تلويح إلى معنى جعل الليل والنهار خلفة وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبيعبلة سبخا بالخاء المعجمة أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نقشه ونشر أجزائه وقال غير واحد خفة من التكاليف قال الأصمعي يقال سبخ الله تعالى عنك الحمى خففها وفي الحديث لا تسبخي بدعائك أي لا تخففي ومنه قوله فسبخ عليك الهم واعلم بأنه
إذا قدر الرحمن شيئا فكائن وقيل السبخ المد يقال سبخي قطنك أي مديه ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبخة ومنه قول الأخطل يصف قناصا وكلابا فأرسلوهن يذرين التراب كما
يذري سبائخ قطن ندف أوتار وقال صاحب اللوامح أن ابن يعمر وعكرمة فسرا سبخا بالمعجمة بعد أن قرآ به فقالا معناه نوما أي ينام بالنهار ليستعين به على قيام الليل وقد يحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى لكنهما فسراها فلا نتجاوز عنه أه ولعل ذلك تفسير باللازم واذكر اسم ربك أي ودم على ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك وفسر الأمر بالدوام لأنه عليه الصلاة و السلام لم ينسبه تعالى حتى يؤمر بذكره سبحانه والمراد الدوام العرفي لا الحقيقي لعدم إمكانه ولأن مقتضى السياق أن هذا تعميم بعد التخصيص كان المعنى على ما سمعت من اعتبار ليلا ونهارا وتبتل إليه أي وانقطع إليه تعالى بالعبادة وجرد نفسك عما سواه عز و جل واستغرق في مراقبته سبحانه وكان هذا أمر بما يتعلق بالباطن بعد الأمر بما يتعلق بالظاهر ولتأكيد ذلك قال سبحانه تبتيلا ونصبه بتبتل لتضمنه معنى بتل على ما قيل وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك عند قوله تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا فتذكر فما في العهد من قدم وكيفما كان الأمر ففيه مراعاة الفواصل رب المشرق والمغرب مرفوع على المدح وقيل على الإبتداء خبره لا إله إلا هو وقرأ زيد بن علي رضي عنهما رب بالنصب على الإختصاص والمدح وهو يؤيد الأول وقرأ الإخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب رب بالجر على أنه بدل من ربك وقيل على إضمار حرف القسم وجوابه لا إله إلا هو وفيه حذف حرف القسم من غير ما يسد مسده وإبقاء عمله وهو ضعيف جدا كما بين في العربية وقد نقل هذا عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله لعله لا يصح عنهإذ فيه إضمار الجار في القسم ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الجلالة الكريمة نحو الله لأفعلن كذا ولا قياس عليه ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت تنفى بما لا غير ولا تنفى بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا وبما ضفي معناه قليلا انتهى وظاهر كلام ابن مالك في التسهيل إطلاق وقوع الجملة المنفية جوابا للقسم وقال في شرح الكافية إن الجملة الإسمية تقع جوابا للقسم مصدرة بلا النافية لكن يجب تكرارها إذا تقدم خبرها أو كان المبتدأ معرفة نحو والله لا في الدار رجل ولا امرأة ووالله لا زيد في الدار ولا عمرو ومنه يعلم أن المسألة خلافية بين هذين الإمامين وقرأ ابن عباس وعبد الله وأصحابه رب المشارق والمغارب وبجمعهما وقد تقدم الكلام في وجهال إراد والجمع والفاء في قوله تعالى فاتخذه وكيلا لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربيوبية به عز و جل ووكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه والمراد من اتخاذه سبحانه وكيلا أن يعتمد عليه سبحانه ويفوض كل أمر
(29/106)

إليه عز و جل وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الإختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا هواي لهفرض تعطف أم جفا
ومنه له عذب تكدر أم صفا وكلت إلى المعشوق أمري كله
فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا ومن كلام بعض السادة من رضي بالله تعالى وكيلا وجد إلى كلخير سبيلا واصبر على ما يقولون مما يؤلمك من الخرافات كقولهم يفرق بين الحبيب وحبيبه على ما سمعت في بعض روايات أسباب النزول واهجرهم هجرا جميلا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى وذرني والمكذبين أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إلي فإن فيما يفرغ بالك ويجلي همك ومر في أن تمام الكلام في ذلك وجوز في المكذبين هنا أن يكونوا هم القائلين ففيه وضع الظاهر موضع المضمر وسما لهم بميسم الذم مع الإشارة إلى علة الوعيد وجوز أن يكونوا بعض القائلين فهو على معنى ذرنيوالمكذبين منهم والآية قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل في المطعمين يوم بدر أولي النعمة أرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة المال والولد فالنعمة بالفتح التنعم وأما بالكسر فهي الأنعام وما ينعم به وأما بالضم فهي المسرة ومهلهم قليلا أيزمانا قليلا وهو مدة الحياة الدنيا وقيل المدة الباقية إلى يوم بدر وأيا ما كان فقليلا نصب على الظرفية وجوز أن يكون نصبا على المصدرية أي أمها لا قليلا والتفعيل لتكثير المفعول إن لدينا أنكالا جمعن كل بكسر النون وفتحها وهو القيد الثقيل وقيل الشديد وقال الكلبي الأنكار الأغلال والأول أعرف في اللغة وعن الشعبي لم تجعل الأنكال في أرجلهم حوفا من هربهم ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم والجملة تعليل لقوله تعالى ذرني وما عطف عليه فكأنه قيل كل أمرهم إلي ومهلهم لأن عندي ما أنتقم به منهم أشد الإنتقام إنكالا وجحيما نارا شديدة الإيقاد وطعاما ذا غصة ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم وعن ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل وعذابا إليما يوم ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يعرف كأنه إلا الله عز و جلكما يشعربذلك المقاب والتنكير وما أعظم هذه الآية فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي داود في الشريعة وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريق حمران بن أعين عن أبيحرب بن الأسود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمع رجلا يقرأ أن لدينا أنكالا الخ فصعقو في رواية أنه عليه الصلاة و السلام نفسه قرأ أن لدينا أنكالا فلما بلغ أليما صعقو قال خالد بن حسان أمسى عندنا الحسن وهو صائم فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآيةأن لدينا الخ فقال ارفعه فلما كانت الليلة الثانية أتيته بطعام فعرضت له أيضا فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فانطلق ابنه إلىثابت البناني ويزيد الضبي ويحيىالبكاء فحدثهم فجاؤا معه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق وفي الحديث السابق إذا صح ما يقيم العذر للصوفية ونحوهم الذين يصعقون عند سماع بعض الآيات ويقعد إنكار عائشة رضي الله تعالى عنها ومن وافقها عليهم اللهم إلا أن يقال أن الإنكار ليس إلا على من يصدر منه ذلك اختيارا وهو أهل لأن ينكر عليه كما لا يخفى أو يقال صعقمن الصعق بسكون العين وقد يحرك غشي عليه لا من الصعق بالفتح شدة الصوت وذلكما لم تنكره عائشة رضي الله تعالى عنها ولا غيرها وللإمام في الآية كلام علىنحو كلام الصوفية قال أعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية إما الإنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب
(29/107)

قد بطلت فصارت تلك كالإنكال والقيود المانعة له من التخلص إلىعالم الروح والصفاء ثم يتولد منتلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها توجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم أنه لا يجده فإنه يحترق عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله سبحانه وطعاما ذا غصة ثم أنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما على تجلي نور الله تعالى والإنخراط في سلك القدسيين وذلك هو المراد بقوله عز و جل وعذابا أليما وتنكير عذابا يدل على أنه أشد مما تقدم وأكمل وأعلم أنيلا أقول المراد بالآية ما ذكرته فقط بل أقول أنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع الحمل عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا لكنه مجاز متعارف مشهور انتهى وتعقب بأنه بالحمل عليهما يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المجاز من غير قرينة وليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه وأن تتعلم أن أكثر باب الإشارة عند الصوفية من هذا القبيل وقوله تعالى ترجف الأرض والجبال قيل متعلق بذرني وقيل صفة عذابا وقيل متعلق بأليما واختار جمع أنه متعلق بالإستقرار الذي تعلق به لدينا أي استقر ذلك العذاب لدينا وظهر يوم تضطرب الأرض والجبال وتتزلزل وقرأ زيد على ترجف مبنيا للمفعول وكانت الجبال معصلابتها وارتفاعها كثيبا رملا مجتمعا من كتب الشيء إذا جمعه فكأنه في الأصل فعيل بمعنى مفعول ثم غلب حتى صار له حكم الجوامد والكلام على التشبيه البليغ وقيل لا مانع من أن تكون رملا حقيقة مهيلا قيل أي رخوا لينا إذا وطئته القدمزل من تحتها وقيل منثورا منهيل هيلاإذا نثر وأسيل وكونه كثيبا باعتبار ما كان عليه قبل النثر فلا تنافي بين كونه مجتمعا ومنثورا وليس المراد أنه في قوة ذلك وصدده كما قيل إنا أرسلنا إليكم خطاب للمكذبين أولي النعمة سواء جعلوا القائلين أو بعضهم ففيه التفات من الغيبة وهو التفات جليل الموقع أي إناأرسلنا إليكم أيها المكذبون من أهل مكة رسولا شاهدا عليكم يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان كماأرسلنا إلى فرعون رسولا هو موسى عليه السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان فعصى فرعون الرسول المذكور الذي أرسلناه إليه فالتعريف للعهد الذكرى والكاف في محل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف على تقدير اسميتها أي أرسالا مثل إرسالنا أو الجار والمجرور في موضع الصفة على تقدير حرفيتها أي إرسالا كائنا كما والمعنى أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وفي إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيع لشأن عصيانه وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفيه أن عصيان المخاطبين أفظع وأدخل في الدم إذ زاد وعلا لهذا الرسول وصفا آخر أعني شاهدا عليكم وأدمج فيه أنهم لو آمنوا كانت السهادة لهم وقوله تعالى فأخذناه أخذا وبيلا أي ثقيلا رديء العقبى من قولهم كلأ وبيل وحم لا يستمرأ لثقله والوبيل أيضا العصا الضخمة ومنه الوابل للمطر العظيم قطره خارج عن التشبيه جيء به لإيذان المخاطبين بأنهم مأخوذون بمثل ذلك وأشد وأشد وقوله تعالى فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا مراتب على الإرسال فالعصيان ويوما مفعول به لتتقون ما بتقدير مضاف أي عذاب أو هول يوم بدونه إلا أن المعنى عليه وضمير يجعل لليوم والجملة صفته والإسناد مجازي وقال بعض الضمير لله تعالى والإسناد حقيقي والجملة صفة محذوفة الرابط أي يجعل فيه كما في قوله
(29/108)

تعالى واتقوا يوما لا يجزي نفس وكان ظاهر الترتيب أن يقدم على قوله تعالى كما أرسلنا إلا أنه أخر إلى هنا زيادة على زيادة في التهويل فكأنه قيل هبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا أخذه فرعون وإضرابه فكيف تقون أنفسكم هول القيامة وما أعد لكم من الإنكال إن دمتم على ما أنتم عليه ومتم في الكفر وفي قوله سبحانه إن كفرتم وتقديره تقدير مشكوك في وجوده ما بينه على أنه لا ينبغي أن يبقى مع إرسال هذا الرسول لأحد شبهة تبقيه في الكفر فهو النور المبين وجوز أن يكون يوما ظرفا لتتقون على معنى فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والكلام حينئذ للحث على الإقلاع من الكفر والتحذير عن مثل عاقبة آل فرعون قبل أن لا ينفع الندم وجوز أيضا أن ينتصب بكفرهم على تأويل جحدتم والمعنى فكيف يرجى إقلاعكم عن الكفر واتقاء الله تعالى وخشيته وأنتم جاحدون يوم الجزاء كأنه لما قيل يوم ترجف عقب بقوله تعالى فكيف تتقون الله إن كفرتم به فأعيد ذكر اليوم بصفة أخرى زيادة في التهويل والوجه الأول أولى قاله في الكشف وقال العلامة الطيبي في الوجه الأخير أعني انتصاب يوما بكفرتم أنه أوفق للتأليف يعني خوفناكم بالإنكال والجحيم وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا يوم القيامة بكفرككم وتكذيبكم وأنذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتقيتم الله تعالى فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء وفيه أن ملاك التقوى والخشية الإيمان بيوم القيامة انتهى ولا يخفى أن جزالة المعنى ترجح الأول وذهب جمع إلى أن الخطاب في أنا أرسلنا إليكم عام للأسود والأحمر فالظاهر أنه ليس من الإلتفات في شيء وأيا ما كان فجعل الولدان شيبا أي شيوخا جمع أشيب قيل حقيقة فتشيب الصبيان وتبيض شعورهم من شدة يوم القيامة وذلك على ما أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود يقول الله تعالى لآدم عليه السلام فأخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب لا علم لي إلا بما علمتني فيقول الله عز و جل أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيخرجون ويساقون إلى النار سوقا مقرنين زرقا كالحين قالابن مسعود فإذا خرج بعث النار شاب كل وليد وفي حديث الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحو ذلك وقيل مثل في شدة الهول من غير أن يكون هناك شيب بالفعل فإنهم يقولون في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل في ذلك أن الهموم إذا تفاقمت على المرأ أضعفت قواه وأسرعت فيه الشيب ومن هنا قيل الشيب نوار الهموم وحديث البعث لا يأبى هذا وجوز الزمخشري أن يكون ذلك وصفا لليوم بالطول وإن الأطفال يبلغون فيه أو أن الشيخوخة والشيب وليس المراد به التقدير الحقيقي بل وصف بالطول فقط على ما تعارفوه وإلا فهو أطول من ذاك وأطول فلا اعتراض لكنه مه هذا ليس بذاك والظاهر عموم الولدان وقال السديهم هنا أولاد الزنا وقيل هم أولاد المشركين وقرأ زيد بن علي يوم بغير تنوين نجعل بالنون فالظرف مضاف إلى جملة نجعل الخ السماء منفطر أي منشق وقريء منفطر أي مشتق به أي بذلك اليوم والبناء والباء للآلة مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر بالقدوم به يعني أن السماء على عظمها وأحكامها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر بما يفطر به فما ظنك بغيرها من الخلائق وجوز أن يراد السماء مثقلة به الآن إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه وخشيتها من وقوعه كقوله تعالى ثقلت في السماوات فالكلام من باب التخيل والإنفطار كناية عن المبالغة في ثقل ذلك اليوم والمراد إفادة أنه الآن على هذا الوصف والأول أظهر وأوفق لأكثر الآيات وكان الظاهر السماء منفطرة بتأنيث الخبر لأن المشهور أن السماء مؤنثة أعتبر إجراء ذلك على موصوف مذكر فذكر أي شيء منفطر به والنكتة فيه التنبيه على أنه تبدلت حقيقتها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلا
(29/109)

ما يعبر عنه بالشيء وقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة والكسائي وتبعهم منذر بن سعيد التذكير لتأويل السماء بالسقف وكان النكتة فيه تذكير معنى السقفية والإضلال ليكون أمر الإنفطار أدهش وأهول وقال أبو الفارسي التقدير ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع فجري على طريق النسب وحكى عنه أيضا أن هذا من باب الجراد المنشر والشجر والأخضر وإعجاز نخل منقعر يعني أن السماء من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وإن مفرده سماءة واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث فجاء منفطر على التذكير وقال الفراء السماء يعني تذكير المظلة وتؤنث فجاء منفطر على التذكير ومنه قول الشاعر فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالسماء وبالسحاب وعليه لا حاجة إلى التأويل وإنما تطلب نكتة اعتبار التذكير مع أن الأكثر في الإستعمال اعتبار التأنيث ولعلها ظاهرة لمن أدنى فهم وحمل الباء في به على الآلة هو الأوفق لتهويل أمر ذلك اليوم وجوز حملها على الظرفية أي السماء منفطر فيه وعود الضمير المجرور على اليوم هو الظاهر الذي عليه الجمهور وقال مجاهد يعود على الله تعالى أي بأمره سبحانه وسلطانه عز و جل فهو عنده كالضمير في قوله تعالى كان وعده مفعولا فإنه له تعالى لعلمه من السباق والمصدر مضاف إلى فاعله ويجوز أن يكون لليوم كضمير به عند الجمهور والمصدر مضاف إلى مفعوله إن هذه إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة تذكيرة إلى موعظة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا بالتقرب إليه تعالى بالإيمان والطاعة فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته عز و جل ومفعول شاء محذوف والمعروف في مثله أن يقدر منجنس أي فمن شاء اتخاذ سبيل إلى ربه تعالى اتخذ الخ وبعض قدره الإتعاظ لمناسبة ما قبل أي فمن شاء الإتعاظ اتخذ إلى ربه سبيلا والمراد من نوى أن يحصل له الإتعاظ تقرب إليه تعالى لكن ذكر السبب وأريد مسببه فهو الجزاء في الحقيقة واختار في البحر ما هو المعروف وقال أن الكلام على معنى الوعد والوعيد إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل أي زمانا أقل منهما استعمل فيه الأدنى وهو اسم تفضيل من دنا إذا قرب لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الإحياز فهو مجاز مرسل لأن القرب يقتضي قلة الإحياز بين الشيئين فاستعمل في لازمه أو في مطلق القلة وجوز اعتبار التشبيه بين القرب والقلة ليكون هناك استعارة والإرسال أقرب وقرأ الحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السمقيع وهشام وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل ثلثي بإسكان اللام وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح ونصفه وثلثه بالنصب عطفا على أدنى كأنه قيل يعلم أنك تقوم من الليل أقل من ثلثيه وتقوم نصفه وتقوم ثلثه وقرأ العربيان ونافع ونصفه وثلثه بالجر عطفا على ثلثي الليل أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف وأقل من الثلث والأول مطابق لكون التخيير فيما مر بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين والثاني مطابق لكون التخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين وبين الثلث وهو أدنى من النصف وبين الربع وهو أدنى من الثلث كذا قال غير واحد فلا تغفل واستشكل الأمر بأن التفاوت بين القراءتين ظاهر فكيف وجه صحة علم الله تعالى لمدلولها وهما لا يجتمعان وأجيب بأن ذلك بحسب الأوقات فوقع كل في وقت فكانا معلومين له تعالى واستشكل أيضا هذا المقام على تقدير كون الأمر واردا بالأكثر بأنه يلزم إما مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أمر به أو اجتهاده والخطأ
(29/110)

في موافقة الأمر وكلاهما غير صحيح أما الأول فظاهر لا سيما على كون الأمر للوجوب وأما الثاني فلأن من جوز اجتهاده عليه الصلاة و السلام والخطأ فيه يقول أنه لا يقر عليه الصلاة و السلام على الخطأ وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل لكنهم زادوزا حذرا من الوقوع في المخالفة وكان يشق عليهم وهلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوا بالأشق وقعوا في المخافة فنسخ سبحانه الأمر كذا قيل فتأمل فالمقام بعد محتاج إليه وقرأ ابن كثير في رواية شبل وثلثه بإسكان اللام وطائفة من الذين معك عطف على الضمير المستتر في تقوم وحسنه الفصل بينهما أي وتقوم معك طائفة من أصحابك والله يقدر الليل والنهار لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى فإن تقديم اسمه تعالى مبتدأ مبينا عليه يقدر دال على الإختصاص على ما ذهب إليه جار الله ويؤيده قوله تعالى علم أن لن تحصو فإن الضمير لمصدر يقدر لا للقيام المفهوم من الكلام والمعنى علم أن الشأن لن تقدروا الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ولا يتأتى لكم حسابها بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع للإحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم فتاب عليكم أي بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم في تركه فالكلام على الإستعارة حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة واستعمل اللفظ الشائع في المشبه به في المشبه كما في قوله تعالى فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وزعم بعضهم أنه على ما يتبادر منه فقال فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به وليس بشيء فاقروا ما تيسر من القرآن أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق ومن ذهب إلى الأول قال إن الله تعالى افترض قيام مقدار معين من الليل في قوله سبحانه قم الليل ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه فتاب عليكم فاقرؤا الآية فالأمر في الموضعين للوجوب إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات وثانيا كان بعضا مطلقا ثم نسخ وجوب ذالقيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس ومن ذهب إلى الثاني قال أن الله تعالى رخص لهم في ترك جميع القيام وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا فكأنه قيل فتاب عليكم ورخص في الترك فاقرؤا ما تيسر من القرآن إن شق عليكم فإن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءة ثواب القيام وصرح جمع أن فاقرؤا على هذا أمر ندب بخلافه على الأول هذا واعلم أنهم اختلفوا في أمر التهجد فعن مقاتل وابن كسيان أنه كان فرضا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بهن إلا ما تطوعوا به ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر وروي الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجه والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلب بلى قالت فإن خلق نبي الله تعالى القرآن فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت ثم بدا لي فقلت أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت ألست تقرأ يا أيها المزمل قلت بلى قالت فإن الله تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله وأصحابه حولا وأمسك الله تعالى خاتمتها اثنتي عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف وصار قيام الليل تطوعا وفي رواية عنها أنه دام ذلك ثمانية أشهر وعن قتادة دام عاما أو عامين وعن بعضهم أنه كان واجبا وإنما وقع التخيير في المقدار ثم نسخ بعد عشر سنين وكان الرجل كما قال الكلبي يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين وقيل كان نفلا بدليل التخيير في المقدار وقوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك حكاه غير واحد وبحثوا فيه لكن قال الإمام صاحب الكشف لم يرد هذا القائل أن التخيير ينافي الوجوب بل استدل بالإستقراء وإن الفرائض لها أوقات محدودة
(29/111)

متسعة كانت أو ضيقة لم يفوض التحديد إلى رأي الفاعل وهو دليل حسن وأما القائل بالفرضية فقد نظر إلى اللفظ دون الدليل الخارجي ولكل وجه وأما قوله ولقوله تعالى ومن الليل الخ فالإستدلال بأنه فسر نافلة لك أن معناه زائدة على الفرائض لك خاصة دون غيرك لأنها تطوع لهم وهذا القائل لا يمنع الوجوب في حقه عليه الصلاة و السلام وإنما يمنعه في حق غيره صلى الله تعالى عليه وسلم والآية تدل عليه فلا نظر فيه ثم أنه لما ذكر سبحانه في تلك السورة ومن الليل أي خص بعض الليل دون توقيت وههنا وقت جل وعلا على مشاركة الأمة له عليه الصلاة و السلام قوله تعالى وطائفة من الذين معك نزل ما ثم على الوجوب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وههنا على التنفل في حقه وحق الأمة وهذا قول سديد إلا أن قوله تعالى على أن لن تحصوه فتاب عليكم يؤيد الأول انتهى وعني بالأول القول بالفرضية عليه عليه والسلام وعلى الأمة وظواهر الآثار الكثيرة تشهد له لكن في البحر أن قوله تعالى وطائفة من الذين معك دليل على أنه لم يكن فرضا على الجميع إذ لو كان فرضا عليهم لكان التركيب والذين معك إلا أن أعتقد أنه كان منهم من يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع انتهى وأنت تعلم أنه لا يتعين كون من تبعيضية بل تحتمل أن تكون بيانية ومن يقول بالفرضية على الكل صدر الإسلام بحملها على ذلك دون البعضية باعتبار المعية فإنها ليست بذاك والله تعالى أعلم وأفادت الآية على القول الأخير في قوله سبحانه فاقرؤا الخ ندب قراءة شيء من القرآن ليلا وفي بعض الآثار من قرأ مائة آية في ليلة لحاجة القرآن وفي بعضها من قرأ آية كتب من القانتين وفي بعض خمسين آية والمعول عليه من القولين فيه القول الأول وقد سمعت أن الأمر عليه للإيجاب وأنه كان يجب قيام شيء من الليل ثم نسخ وجوبه عن الأمة بوجوب الصلوات الخمس فهو اليوم في حق الأمة سنة وفي البحر بعد تفسير فاقرؤا يصلوا وحكاية ما قيل من النسخ وهذا الأمر عند الجمهور أمر إباحة وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو بمقدار خمسين آية انتهى سياقه أن هؤلاء قائلون بوجوبه اليوم وأنه لم ينسخ الوجوب مطلقا وإنما نسخ وجوب معين وهذا خلاف المعروف فعن ابن عباس سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصار تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة و السلام وأظن الأمر غنيا من الإستدلال فلنطو بساط القيل والقال نعم كان السلف الصالح يثابرون على القيام مثابرتهم على فرائض الإسلام لما في ذلك من الخلوة بالحبيب والأنس به وهو القريب من غير رقيب نسأل الله تعالى أن يوفقنا كما وفقهم ويمن علينا كما من عليهم بقي هنا بحث وهو أن الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه استدل بقوله تعالى فاقرؤوا ما تيسر من القرآن على أن الفرض في الصلاة مطلق القراءة لا الفاتحة بخصوصها وهو ظاهر على القول بأنه عبر فيه عن الصلاة بركنها وهو القراءة كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع وقدر ما تيسر بآية على ما حكاه عنه الماوردي وبثلث على ما حكاه عنه ابن العربي والمسألة مقررة في الفروع وخص الشافعي ومالك ما تيسر بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءتها في الصلاة بحجج كثيرة منها ما نقل أبو حامد الإسرافيني عن ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة و السلام لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ومنها ما روي عن أبي هريرة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج أي نقصان للمبالغة أو ذو نقصان واعترض بأن النقصان لا يدل على عدم الجواز وأجيب بأنه يدل لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفناه عند الإتيان بها على صفة الكمال فعند النقصان وجب أن يبقى على الأصل ولا يخرج عن العهدة
(29/112)

وأكد بقول أبي حنيفة بعدم جواز صوم يوم العيد قضاء عن رمضان مع صحة الصوم فيه عنده مستدلا عليه بأن الواجب عليه الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فلا يفيد الخروج عن العهدة ومنها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهو ظاهر في المقصود إذ التقدير لا صلاة إلا بها واعترض بجواز أن يكون التقدير لا صلاة كاملة فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال وأجيب بأنا لا نسلم امتناع دخول النفي عن مسماها لأن الفاتحة إذا كانت جزءا من ماهية الصلاة تنتفي عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءا منها وهو أول المسألة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال بل هو أولى لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل وأجيب بالإجماع ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحا أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي يكون كاملا ولأن الأصل بقاء ما كان وهو التكليف على ما كان ولأن جانب الحرمة أرجح لأنه أحوط ومنها أن الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير ضرورة للإجماع على أن الصلاة معها أفضل فلا يجوز المصير إليه لأنه قبيح عرفا فيكون قبيحا شرعا لقوله عليه الصلاة و السلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ومنها أن قراءتها توجب الخروج عن العهدة بيقين فتكون أحوط فوجب القول بوجوبها لنص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وللمعقول وهو دفع ضرر الخوف عن النفس فإنه واجب وكون اعتقاد الوجوب يورث الخوف لجواز كوننا مخطئين معارض باعتقاد عدمه فيتقابلان وأما في العمل فالقراءة لا توجب الخوف وتركها يوجبه فالأحوط القراءة إلى غير ذلك وأجاب ساداتنا الحنفية بما أجابوا واستدلوا على أن الواجب ماتيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها بأمور منها ما روي أبوعثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب ودفع بأنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وبأنه يجوز أن يكون المراد من قوله ولو بفاتحة الكتاب وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ويجب الحمل عليه جميعا بين الأدلة وفيه تعسف ولعل الأولى في الجواب جواز كون المراد ولو بفاتحة الكتاب ماهوالسابق إلى الفهم من قول القائل لا حياة إلا بقوت ولو الخبز كل يوم أوقية وهو أن هذا القدرلا بد منه وعليه يصير الحديث من أدلة الوجوب ومنها أنه لو وجبت الفاتحة لصدق قولنا كلما وجبت القراءة وجبت الفاتحة ومعناه مقدمة صادقة وهي أنه لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لوجوب مطلق القراءة بالإجماع فتنتج المقدمتان لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة وهو باطل وأجيب بمنع الصغرى أي لا نسلم صدق قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لأن عدم الفاتحة محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وهو رفع وجوب مطلق القراءة الثابت بالإجماع سلمناها لكن لا نسلم استحالة قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة لما ذكر آنفا وجعل بعض القياس حجة على الحنفية لأن كل ما استلزم عدمه وجوده ثبت وجوده ضرورة ورد بأن هذا إنما يلزم لو كانت الملازمة وهي قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت ثابتة في نفس الأمر وليس الأمر كذلك بل هي ثابتة على تقدير وجوب قراءة الفاتحة فلهذا لا يصير حجة عليهم وتمام الكلام على ذلك في موضعه وأنت تعلم أنه على القول الثاني في الآية لا يظهر الإستدلال بها على فرضية مطلق القراءة في الصلاة إذ ليس فيها عليه أكثر من الأمر بقراءة شيء من القرآن قل أو أكثر بدل ما افترض
(29/113)

عليهم من صلاة الليل فلينتبه وقوله تعالى علم أن سيكون منكم مرضى استئناف مبين لحكمة الله أخرى غير ما تقدم من عسرة إحصاء تقدير الأوقات مقتضية للترخيص والتخفيف أي علم أن الشأن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يسافرون فيها للتجارة يبتغون من فضل الله وهو الربح وقد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم والجملة في موضع الحال وآخرون يقاتلون في سبيل الله يعني المجاهدون وفي قرن المسافرين لابتغاء فضل الله تعالى بهم إشارة إلى أنهم نحوهم في الأجر أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عمر رض الله عنه قال ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى وتلا هذه الآية وآخرون يضربون الخ وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من جالب يجلب طعاما إلى بلدان المسلمين فيبيعه لسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله ثم قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله والمراد أنه عز و جل علم أن سيكون من المؤمنين من يشق عليه القيام كما علم سبحانه عسر إحصاء تقدير الأوقات وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضدت مقتضيات الترخيص فاقرؤا ما تيسر منه أي من القرآن من غير تحمل المشاق وأقيموا الصلاة أي المفروضة وآتوا الزكاة كذلك وعلى هذا أكثر المفسرين والظاهر أنهم عنوا بالصلاة المفروضة الصلوات الخمس وبالزكاة المفروضة أختها المعروفة واستشكل بأن السورة من أوائل ما نزل بمكة ولم تفرض الصلوات الخمس إلا بعد الإسراء والزكاة إنمافرضت بالمدينة وأجيب بأن الذاهب إلى ذلك يجعل هذه الآيات مدنية وقيل إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين للأنصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء فيمكن أن يراد بالزكاة المفروضة في الجملة فلا مانع منكون الآيات مكية لكن يلتزم لكونها نزلت بعد الإسراء وحملها على صلاة الليل السابقة حيث كانت مفروضة تنافي الترخيص وقيل يجوز أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله وليس بذاك وأقرضوا الله قرضا حسنا أريد به الإنفاقات في سبيل الخيرات أو اداء الزكاة على أحسن الوجوه وأنفعها للفقراء وما تقدموا لأنفسكم من خير أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت وخيرا ثاني مفعولي تجدوه وهو تأكيد لضمير تجدوه وإن كان بصورة المرفوع والمؤكد منصوب لأن هو يستعار لتأكيد المجرور والمنصوب كما ذكره الرضي أو ضمير فصل وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل في حكم المعرفة ولذا يمتنع منحرف التعريف كالعلم وجوز أبو البقاء البدلية من ضمير تجدوه ووهمه أبو حيان بأن الواجب عليها إياه وقرأ أبو السمال باللام العدوي وأبو السمال بالكاف الغنوي وأبو السميفع هو خير وأعظم برفعهم على الإبتداء والخبر وجعل الجملة في موضع المفعول الثاني قال أبو زيد هي لغة بني تميم يرفعون ما بعد الفاصلة يقولون كان زيد هو الفاعل بالرفع وعليه قول قيس بن ذريح تحن إلي لبنى وأنت تركتها
وكنت عليها بالملأ أنت أقدر فقد قال أبو عمرو والجرمي أنشده سيبويه شاهدا للرفع والقوافي مرفوعة ويروى اقدرا واستغفروا الله في كافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلو مما يعد تفريطا بالنسبة إليه وعد من ذلك الصوفية رؤية العابد عبادته قيل ولهذه الإشارة أمر بالإستغفار بعد الأوامر السابقة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض
(29/114)

الحسن إن الله غفور رحيم فيغفر سبحانه ذنب من استغفره ويرحمه عز و جل وفي حذف المعمول دلالة على العموم وتفصيل الكلام فيه معلوم نسأل الله تعالى عظيم مغفرته ورحمته لنا ولو الدنيا ولكافة مؤمنين بريته بحرمة سيد خليقته وسند أهل صفوته صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه وشيعته
سورة المدثر
مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قالمقاتل إلا آية وهي وما جعلنا عدتهم إلا فتنة الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عليها تسعة عشر مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله وهي متواخية مع السورة قبلها في الإفتتاح بنداء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبارة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه وروي أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل وأخرجه ابن الضريس عن ابن عباس وجعلوا ذلك من أسباب وضعها بعدها والظاهر ضعف هذا القول فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن يحيى بن أبي كثير قالت سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال جاورت بحراء فلما قضيت حواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وفي رواية فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر إلى قوله فاهجر فإن القصة واحدة ولو كانت يا أيها المزمل هي النازلة قبل فيها لذكرت نعم ظاهر هذا الخبر يقتضي أن يا أيها المدثر نزل قبل اقرأ باسم ربك والمروي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن ذاك أول ما نزل من القرآن وهو الذي ذهب إليه أكثر الأئمة حتى قال بعضهم هو الصحيح ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة الأول أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقرأ فإن أول ما نزل منها صدرها الثاني إن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة الثالث أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار وعبر بعضهم عن هذا بقوله أولما نزل للنبوة اقرأ باسم ربك وأول ما نزل للرسالة يا أيها المدثر الرابع أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشيء عن الرعب وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم الخامس أن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها ثم قال وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير انتهى وفيه نظر فتأمل ولا تغفل بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المدثر أصله المتدثر فأدغم وهو على الأصل في حرف أبي من تدثر لبس الدثار بكسر الدال وهو ما فوق القميص الذي يلي البدن ويسمى شعارا لاتصاله بالبشرة والشعرة ومنه قوله عليه الصلاة و السلام والأنصار شعار والناس دثار والتركيب على ما قيل دائر مع معنى الستر على سبيل الشمول كان الدثار ستر بالغ مكشوف نودي صلى الله تعالى
(29/115)

عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها تأنيسا له وملاطفة كما سمعت في يا أيها المزمل وتدثره عليه الصلاة و السلام لما سمعت آنفا وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن الوليد ابن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا قال ماتقولون في هذا الرجل فاختلفوا ثم اجتمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فحزن وقنع رأسه وتدثر أي كما يفعل المغموم فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر إلى قوله تعالى ولربك فاصبر وقيل المراد بالمدثر المتدثرة بالنبوة والكمالات النفسانية على معنى المتحلي بها والمتزين بآثارها وقيل أطلق المدثر وأريد به الغائب عن النظر على الإستعارة والتشبيه فهو نداء له بما كان عليه في غار حراء وقيل الظاهر أن يراد بالمدثر وكذا بالمزمل الكناية عن المستريح الفارغ لأنه في أول البعثة فكأنه قيل له عليه الصلاة و السلام قد مضى زمن الراحة وجاءتك المتاعب من التكاليف وهداية الناس وأنت تعلم أنه لا ينافي إرادة الصورة الحقيقة وأمر التلطف على حاله وقال بعض السادة أي يا أيها الساتر للحقيقة المحمدية بدثار الصورة الآدمية أو يا أيها الغائب عن أنظار الخليقة فلا يعرفك سوى الله تعالى على الحقيقة إلى غير ذلك من العبارات والكل إشارة إلى ما قالوا في الحقيقة المحمدية من أنها حقيقة الحقائق التي لا يقف كنهها أحد من الخلائق وعلى لسانها قال من قال وإني وإن كنت ابن آدم صورة
فلي فيه معنى شاهد بأبوتي وأنها التعيين الأول وخازن السر المقفل وأنها وأنها إلى أمور هيهات أن يكون للعقل إليها منتهى أعيا الورى معناه فليس يرى
في القرب والبعد منه غير منفحم كالشمس تظهر للعينين من بعد
صغيرة وتكل الطرف من أمم وكيف يدرك في الدنيا حقيقته
قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر
وأنه خير خلق الله كلهم وقرأ عكرمة المدثر بتخفيف الدال وتشديد الثاء المكسورة على زنة الفاعل وعنه أيضا المدثر بالتخفيف والتشديد على زنة المفعول من دثره وقال دثرت هذا الأمر وعصب بك أي شد والمعنى أنه المعول عليه فالعظائم به منوطة وأمور حلها وعقدها به مربوطة فكأنه قيل يا من توقف أمور الناس عليه لأنه وسيلتهم عند الله عز و جل قم من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم وجعله أبو حيان على هذا المعنى من أفعال الشروع كقولهم قام زيد يفعل كذا وقوله
عاما قام يشتمني لئيم
وقام بهذا المعنى من أخوات كاد وتعقب بأنه لا يخفى بعده هنا لأنه استعمال غير مألوف وورود الأمر منه غير معروف مع احتياجه إلى تقدير الخبر فيه وكله تعسف فانذر أي فافعل الإنذار أو أحدثه فلا يقصد منذر مخصوص وقيل يقدر المفعول خاصا أي فانذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة في الواقع وقيل يقدر عاما أي فانذر جميع الناس لقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولم يقل هنا وبشر لأنه كان في ابتداء النبوة والإنذار هو الغالب إذا ذاك أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير وفي هذا الأمر بعد ذلك النداء إشارة عند بعض السادة إلى مقام الجلوة بعد الخلوة قالوا وإليهما الإشارة أيضا في حديث كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف الخ وربك فكبر وأخصص ربك بالتكبير وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة اعتقادا وقولا ويروى أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الله أكبر فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والأمر بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم غني عن الإستدلال وجوز أن يحمل على تكبير الصلاة فقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قلنا يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في
(29/116)

الصلاة فأنزل الله تعالى وربك فكبر فأمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نفتح الصلاة بالتكبير وأنت تعلم أن نزول هذه الآية كان حيث لا صلاة أصلا فهذا الخبر إن صح مؤول والفاء هنا وفيما بعد لإفادة معنى الشرط فكأنه قيل وما كان أي شيء حدث فلا تدع تكبيره عز و جل فالفاء جزائية وهي لكونها على ما قيل مزحلقة لا يضر عمل ما بعدها فيما قبلها وقيل إنها دخلت في كلامهم على توهم شرط فلما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك ثم إن في ذكر هذه الجملة بعد الأمر السابق مقدمة على سائر الجمل إشارة إلى مزيد الإهتمام بأمرالتكبير وإيماء على ما قيل إلى أن المقصود الأولى من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عز و جل وينزهه من الشرك فإن أول ما يجب معرفة الله تعالى ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه والكلام عليه من باب إياك أعني واسمعي يا جاره وقد يقال لعل ذكر هذه الجملة كذلك مسارعة لتشجيعه عليه الصلاة و السلام على الإنذار وعدم مبالاته بما سواه عز و جل حيث تضمنت الإشارة إلى أن نواصي الخلائق بيده تعالى وكل ما سواه مقهور تحت كبريائه تعالى وعظمته فلا ينبغي أن يرهب إلا منه ولا يرغب إلا فيه فكأنه قيل قم فأنذر وأخصص ربك بالتكبير فلا يصدنك شيء عن الإنذار فتدبر وثيابك فطهر تطهير الثياب كناية عن تطهيرالنفس عما تذم به من الأفعال وتهذيبها عما يستهجن من الأحوال لأن من لا يرضى بنجاسة ما يماسه كيف يرضى بنجاسة نفسه يقال فلان طاهر الثياب نقي الذيل وألأردان إذا وصف بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق ويقال فلان دنس الثياب وكذا دسم الثياب للغادر ولمن قبح فعله ومن الأول قول الشاعر ويحيى ما لا يلام بسوء خلق
ويحيى طاهر الأثواب حر ومن الثاني قوله لا هم إن عامر بن جهم
أو ذم حجا في ثياب دسم وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في الآية الكريمة أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال فيها يقول طهرها من المعاصي وهي كلمة عربية كانت العرب إذ نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا أن فلانا لدنس الثياب وإذا وفي وأصلح قالوا إن فلانا لطاهر الثياب وأخرج ابن المنذر عن أبي مالك أنه قال فيها عني نفسي وأخرج هو وجماعة عن مجاهد أنه قال أي وعملك فأصلح ونحوه عن أبي رزين والسدي وأخرج هو أيضا وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال وثيابك فطهر أيمن الإثم وفي رواية من الغدر أي لا تكن غدارا وفي رواية جماعة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى وثيابك فطهر لا تلبسها على غدرة ولافجرة ثم قال ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة فإني بحمد الله لا ثوب فاجر
لبست ولا من غدرة اتقنع ونحوه عن الضحاك وابن جبير وعن الحسن والقرطبي أي وخلقك فحسن وأنشدوا للكناية عن النفس بالثياب قول عنترة فشككت بالرمح الطويل ثيابه
ليس الكريم على ألقنا بمحرم وفي رواية عن الحبر وابن جبير أنه كني بالثياب عن القلب كما في قول امريء القيس فإن تك قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقيل كنى بها عن الجسم كما في قول ليلى وقد ذكرت إبلا ركبها قوم ذهبوا بها رموها بأثواب خفاف فلا نرى
لها شبها إلا النعام المنفرا وطهارة الجسم قد يراد بها أيضا نحو ما تقدم ومناسبة هذه المعاني لمقام الدعوة مما لا غبار عليه وقيل على كون تطهير الثياب كناية عما مر يكون ذلك أمرا باستكمال القوة العلمية
(29/117)

بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه وقيل أنه أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بالتخلق بالأخلاق الحسنة الموجبة لقبول الإنذار بعد أمره عليه الصلاة و السلام بتخصيصه ربه عز و جل بالتكبير الذي ربما يوهم إباءه خفض الجناح لما سواه عز و جل واقتضاه عدم المبالاة والأكتراث بمن كان فضلا عن أعداء الله جل وعلا فكان ذكره لدفع ذلك التوهم وقيل على تفسير المدثر بالتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية المعنى طهر دثارات النبوة وآثارها وأنوارها الساطعة من مشكاة ذاتك عما يدنسها من الحقد والضجر وقلة الصبر وقيل الثياب كناية عن السماء كما قال تعالى هن لباس لكم وتطهيرهن من الخطايا والمعايب بالوعظ والتأديب كما قال سبحانه قوا أنفسسكم وأهليكم نارا وقيل تطهيرهن اختيار المؤمنات العفائف منهن وقيل وطؤهن في القبل لا في الدبر وفي الطهرلا في الحيض حكاه ابن بحر وأصلال قول فيما أرى بعيد عن السياق ثم رأيت الفخر صرح بذلك وذهبت جمع إلى أن الثياب على حقيقتها فقال محمد بن سيرين أي أغسلها بالماء إن كانت متنجسة وروي نحوه عن ابن زيد وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن هنا ذهب غير واحد إلى وجوب غسل من ثياب المصلي وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن ابن زيد مخالفة للمشركين لأنهم ما كانوا يصونوا ثيابهم عن النجاسات وقيل ألقى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم سلا شاة فشق عليه فرجع إلى بيته حزينا فتدثر فقيل له يا أيها المدثر قم فأنذر ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار وربك فكبر عن أن لا ينتقم منهم وثيابك فطهر عن تلك النجاسات والقاذورات وإرادة التطهير من النجاسة للصلاة بدون ملاحظة قصة قيل خلاف الظاهر ولا تناسب الجملة عليها ما قبلها إلا على تقدير أن يراد بالتكبير التكبير للصلاة وبعض من فسر الثياب بالجسم جوز إبقاء التطهير على حقيقته وقال أمر عليه الصلاة و السلام بالتنظيف وقت الإسنجاء لأن العرب ما كانوا ينظفون أجسامهم أيضا عن النجاسة وكان كثير منهم يبول على عقبه وقال بعض الأمر لمطلق الطلب فإن تطهير ما ليس بطاهر من الثياب واجب في الصلاة ومحبوب في غيرها وقيل تطهيرها تقصيرها وهو أيضا أمر له عليه الصلاة و السلام برفض عادات العرب المذمومة فقد ماتت عاداتهم تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر قال الشاعر ثم راحوا عبق المسك بهم
يلحفون الأرض هداب الأزر وفي الحديث أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار واستعمال التطهير في التقصير مجاز للزومه له فكثيرا ما يفضي تطويلها إلى جر ذيولها على القاذورات ومن الناس من جعل التقصير بعد إرادته من التطهير كناية عن عدم التكبر والخيلاء ويكون ذلك أمرا له صلى الله تعالى عليه وسلم بالتواضع والمداومة على ترك جر ذيول التكبر والخيلاء بعد أمره بتخصيص الكبرياء والعظمة به تعالى قولا واعتقادا فكأنه قيل وربك فكبر وأنت لا تتكبر ليتسنى لك أمر الإنذار وبعض من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل التطهير على حقيقته ومجازه أعني التقصير والتوصل إلى إرادة مثل ذلك عند من لا يرى جواز الجمع سهل وجوز أن يراد بالتطهير إزالة مايستقذر مطلقا سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر ومنه الأوساخ فيكون ذلك أمرا له صلى الله تعالى عليه وسلم بتنظيف ثيابه وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره منكل ما يستقذر فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك ولذا صلى الله تعالى عليه وسلم أنظف الناس ثوبا وبدنا وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى أيضا الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل والرجز فاهجر قال القتبي الرجز
(29/118)

العذاب وأصله الإضطراب وقد أقيم مقام سببه المؤدي إليه من المآثم فكأنه قيل اهجر المآثم والمعاصي والمؤد إلى العذاب أو الكلام بتقدير مضاف أي أسباب الرجز أو التجوز في النسبة على ما قيل ونحو هذا قول ابن عباس الرجز السخط وفسر الحسن الرجز بالمعصية والنخعي بالأثم وهو بيان للمراد ولما كان المخاطب بهذا الأمر هوالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو البريء عن ذلك من باب إياك أعني وأسمعي أو المراد الدور والثياب على هجر ذلك وقيل الرجز اسم لصنمين أساف ونائلة للأصنام عموما وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة والزهري والكلام على ما سمعت آنفا وقيل الرجز اسم للقبيح المستقذر والرجز فاهجر كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل اهجر الجفاء والسفه وكل شيء يقبح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشكرين وعليه يحتمل أن يكون هذا أمر بالثبات على تطهير الباطن بعد الأمر بالثبات على تطهير الظاهر بقوله سبحانه وثيابك فطهر وقرأ الأكثرون الرجز بكسر الراء وهي لغة قريش ومعنى المكسور والمضموم واحد عند جمع وعن مجاهد أن المضموم بمعنى الصنم والمكسور بمعنى العذاب وقيل المكسور النقائص والفجور والمضموم أساف ونائل وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسرها العذاب ومن كلام السادة أي الدنيا فاترك وهو مبني على أنه أريد بالرجز الصنم والدنيا من أعظم الأصنام التي حبها بين العبد وبين مولاه وعبدتها أكثر من عبدتها فإنها تعبد في البيع والكنائس والصوامع والمساجد وغير ذلك أو أريد بالرجز القبيح المستقذر والدنيا عند العارف في غاية القبح والقذارة فعن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب في يد مجذوم وقال الشافعي وما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها ويقال كل ما ألهى عن الله عز و جل فهو رجز يجب على طالب الله تعالى هجره إذ بهذا الهجر ينال الوصال وبذلك القطع يحصل الإتصال ومن أعظم لاه عن الله تعالى النفس ومن هنا قيل أي نفسك فخالفها والكلام في كل ذلك من باب إياك أعني أو القصد فيه إلى الدوام والثبات كما تقدم ولا تمنن تستكثر أي ولا تعط مستكثرا أي طالبا للكثير ممن تعطيه قاله ابن عباس فهو نهي عن الإستغزار وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز ومنه الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة موقوفا على شريح المستغزر يثاب من هبته والأصح عند الشافعية أن النهي للتحريم وإنه من خواصه عليه الصلاة و السلام لأن الله تعالى اختار له عليه الصلاة و السلام أكمل الصفات وأشرف الأخلاق فامتنع عليه أن يهب لعوض أكثر وقيل هو نهي تنزيه للكل أو ولا تعط مستكثرا أي رائيا لما تعطيه كثيرا فالسين للوجدان لا للطلب كما في الوجه الأول الظاهر والنهي عن ذلك لأنه نوع إعجاب وفيه بخل خفي وعن الحسن والربيع لا تمنن بحسناتك على الله تعالى مستكثرا لها أي رائيا إياها كثيرة فتنقص عند الله عز و جل وعد من استكثار الحسنات بعض السادة رؤية أنها حسنات وعدم خشية الرد والغفلة عن كونها منه تعالى حقيقة وعن ابن زيد لا تمنن بما أعطاك الله تعالى من النبوة والقرآن مستكثرا به أي طالبا كثير الأجر من الناس وعن مجاهد لا تضعف عن عملك مستكثرا لطاعتك فتمنن من قولهم حبل منين أي ضعيف ويتضمن هذاالمعنى ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال أي لا تقل قد دعوتهم فلم يقبل مني عد فادعهم وقرأ الحسن وابن أبي عبلة تستكثر بسكون الراء وخرج على أنه جزم والفعل بدل من تمنن المجزوم بلا الناهية كأنه قيل ولا تمنن لا تستكثر لأن من شأن المان بما يعطي أن يستكثره أي يراه كثيرا ويعتد به وهو بدل اشتمال وقيل بدل كل من كل على دعاء الإتحاد وفي
(29/119)

الكشف الإبدال من تمنن على أن المن هو الإعتداد بما أعطي لا الإعطاء نفسه في لطيفة لأن الإستكثار مقدمة المن فكأنه قيل لا تستكثر فضلا عن المن وجوز أن يكون سكون وقف حقيقة أو بإجراء الوصل مجراه أو سكون تخفيف على أن شبه ثرو بعضد فسكن الراء الواقعة بين الثاء وواو ولربك كما سكنت الضاد وليس بذاك والجملة عليه فيموضع الحال وقرأ الحسن أيضا والأعمش تستكثر بالنصب على إضمار أن كقولهم مره يحفرها أي أن يحفرها وقوله ألا أي هذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي في رواية نصب أحضر وقرأ ابن مسعود أن تستكثر بإظهار أن فالمن بمعنى الإعطاء والكلام على إرادة التعليل أي ولا نعط لأجل أن تستكثر أي تطلب الكثير ممن تعطيه وأيد به أرادها لمعنى الأول في قراءة الرفع وجوز الزمخشري في تلك القراءة أن يكون الرفع لحذف أن وإبطال عملها كما روي أحضر الوغى بالرفع فالجملة حينئذ ليست حالية وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز حمل القرآن على ذلك إذ لا يجوز ما ذكر إلا في الشعر ولنا مندوحة عنه مع صحة معنى الحال ورد بأن المخالف للقياس بقاء عملها بعد حذفها وأماالحذف والرفع فلا محذور فيه وقد أجازه النحاة ومنه تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ولربك فاصبر قيل على أذى المشركين وقيل على أداء الفرائض وقال ابن زيد على حرب الأحمر والأسود وفيه بعد إذ لم يكن جهاد يوم نزولها وعن النخعي على عطيتك كأنه وصله بما قبله وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار والوجه كما قال جار الله أن يكون أمرا بنفس الفعل والمعنى لقصد جهته تعالى وجانبه عز و جل فاستعمل الصبر فيتناول لعدم تقدير المتعلق المفيد للعموم كل مصبور عليه ومصبور عنه ويراد الصبر على أذى المشركين لأنه فرد من أفراد العام لا لأنه وحده هو المراد وعن ابن عباس الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء الفرائض وله ثلثمائة درجة وصبر عن محارم الله تعالى وله ستمائة درجة وصبر على المصائب عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة وذلك لشدته علىالنفس وعدم التمكن منه إلا بمزيد اليقين ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم أسألك من اليقين ما تهون به على مصائب الدنيا وذكروا أن للصبر باعتبار حكمه أربعة أقسام فرض كالصبر عن المحظورات وعلى أداء الواجبات ونقل كالصبر عن المكروهات والصبر على المسنونات ومكروه كالصبر عن أداء المسنونات والصبر على فعل المكروهات وحرام كالصبر على من يقصد حريمه بمحرم وترك التعرض له مع القدرة إلى غير ذلك وتمام الكلام عليه في محله وفضائل الصبر الشرعي المحمود مملا لا تحصى ويكفي في ذلك قوله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم قال الله تعالى إذا وجهت إلى العبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا فإذا نقر أينفخ في الناقور في الصور وهو فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببه ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به ولهذه السببية تجوز به عنه وشاع ذلك وأريد به النفخ لأنه نوع منه والفاء للسببية كأنهقيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقي عاقبة صبرك عليه والعامل في إذا ما دل عليه قوله تعالى فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين فالمعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمرعلى الكافرين والفاء في هذا للجزاء وذلك إشارة إلى وقت النقر المفهوم من فإذا نقر ومافيه من معنى البعد مع قرب العهد لفظا بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الهواء والفظاعة ومحله الرفع على الإبتداء ويومئذ قيل بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن والخبر يوم عسير فكأنه قيل يوم فيوم النقر عسير وجوز أن يكون يومئذ ظرفا مستقرا ليوم عسير أي صفة له فلما تقدم عليه صار
(29/120)

حالا منه والذي أجاز ذلك على ما في الكشاف أن المعنى فلذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور فهو على منوال زمن الربيع العيد فيه أي وقوع العيد فيه وماله فلذلك الوقوع وقوع يوم الخ ومما ذكر يعلم اندفاع ما يتوهم من تقديم معمول المصدر أو معمول ما في صلته على المصدر أن جعل ظرف الوقوع المقدر أو ظرف عسير والتصريح بلفظ وقوع إبراز للمعنى وتفص عن جعل الزمان مظروف الزمان برجوعه إلى الحديث فتدبر وظاهر صنيع الكشاف اختيار هذاالوجه وكذا كلام صاحب الكشف إذ قرره على أتم وجه وادعى فيما سبقت عسفا نعم جوز عليه الرحمة أن يكون يومئذ معمول ما دل عليه الجزاء أيضا كأنه قيل فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين يومئذ وأيا ما كان فعلى الكافرين متعلق بعسير وقيل بمحذوف هو صفة لعسير أو حال من المستكن فيه وأجاز أبو البقاء تعلقه بيسير في قوله تعالى غير يسير وهو الذي يقتضيه كلام قتادة وتعقبه أبو حيان بأنه ينبغي أن لا يجوز لأن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو ممنوع على الصحيح وقد أجازه بعضهم في غير حملا لها على لا فيقول أنا بزيد غير راض وزعم الحوفي إن إذا متعلقة بإنذار والفاء زائدة وأراد أنها مفعول به لأنذرك أنه قيل قم فانذرهم وقت النقر في الناقور وقوله تعالى فذلم الخ جملة ميت أنفة في موضع التعليل وهو كما ترى وجوز أبو البقاء تخريج الآية على قول الأخفش بان تكون مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة وجعل يومئذ ظرفا لذلك ولا أظنك في مرية من أنه كلام أخفش وقال بعضهم أن ذلك مبتدأ وهو إشارة إلى المصدر أي فذل كالنقر وهو العامل في يومئذ ويوم عسير خبر المبتدأ والمضاف مقدر أي فذلك النقر في ذلك اليوم نقر يوم وفيه تكلف وعدول عن الظاهر مع أن عسر اليوم غير مقصود بالإفادة عليه وظاهر السياق قصده بالإفادة وجعل العلامة الطيبي هذه الآية من قبيل ما اتحد فيه الشرط والجزاء نحو من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله إذ جعل الإشارة إلى وقت النقر وقال أن في ذلك مع ضم التكرير دلالة على التنبيه على الخطب الجليل والأمرالعظيم وفيه نظر وفائدة قوله سبحانه غير يسير أي سهل بعد قوله تعالى عسير تأكيد عسره على الكافرين فهو يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه ويشعر بتيسره على المؤمنين كأنه قيل عسير على الكافرين غير يسير عليهم كما هو يسير علي أضدادهم المؤمنين ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزياد غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ولا يتوقف هذا على تعلق على الكافرين بيسير نعم الأمر عليه أظهركما لا يخفى ثم مع هذا لا يخلو قلب المؤمنمن الخوف أخرج ابن سعيد والحاكم عن بهز بن حكيم قال أمنا زرارة بن أوفى فقرأ المدثر فلما بلغ فإذا نقر في الناقور خر ميتا فكنت فيمن حمله وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت فإذا نقر في الناقور قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحني جبهته يستمع متى يؤمر قالوا كيف نقول يا رسول الله قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل وعلى الله توكلنا واختلف في أن المراد بذلك الوقت يوم النفخة الأولى أو يوم النفخة الثانية ورجح أنه يوم الثانية الذي يختص عسره بالكافرين وأما وقت النفخة الأولى فحكمه الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر وهو على المشهور مختص بمنكان حيا عند وقوع النفخة ذرني ومن خلقت وحيدا نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كما روي بمن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم بل قيل كونها فيه متفق عليه وهو يقتضي أن هذه السورة لم تنزل جملة إذ لم يكن أمر الوليد وما اقتضى نزول الآية فيه في بدء البعثة فلا تغفل ووحيدا حال إما من الياء في ذرني وهو المروي عن مجاهد أي ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الإنتقام عن كل منتقم أو من التاء في خلقت أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه
(29/121)

أو من الضمير المحذوف العائد على من على ما استظهره أبو حيان أي ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد وجوز أن يكون منصوبا بأذم ونحوه فقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد فتهكم الله تعالى به وبلقبه أو صرفه من الغرض الذي كانوا يؤمنونه من مدحه والثناء عليه إلى جهة ذمه وعيبه فأراد سبحانه وحيدا في الخبث والشرارة أو وحيدا عن أبيه لأنه كان دعيا لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة كما مر في سورة نون وجعلت له مالا ممدودا مبسوطا كثيرا أو ممدودا بالنساء منمد النهر ومده نهر آخر وقيل كان له الضرع والزرع والتجارة وعن ابن عباس وهو ما كان له بين مكة والطائف من الأبل والنعل والجنان والعبيد وقيل له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا وشتاء وقال النعمان بن بشير المال الممدود هو الأرض لأنها مدت وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه المستغل الذي يجبي شهرا بعد شهر فهو ممدود لا ينقطع وعن ابن عباس ومجاهد وابن جبير كان له ألف دينار وعن قتادة ستة آلاف دينار وقيل تسعة آلاف دينار وعن سفيان الثوري روايتان أربعة آلاف دينار وألف وألف دينار وهذه الأقوال إن صحت ليست المراد بها تعيين المال والممدود وانه متى أطلق يراد به ذلك بل بيان أنه كان بالنسبة إلى المحدث عنه كذا وبنين شهودا حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكففين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورا في الأندية والمحافل لوجاههتهم واعتبارهم أو تسع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه واختلف في عددهم فعن مجاهد أنهم عشرة وقيل ثلاثة عشر وقيل سبعة كلهم رجال الوليد ابن الوليد وخالد وهشام وقد أسلم هؤلاء الثلاثة والعاص وقيس وعبد شمس وعمارة واختلفت الرواية فيه أنه قتل يوم بدر أو قتله النجاشي لجايه نسبت إليه في حرم الملك والروايتان متفقتان على أنه قتل كافرا ورواية الثعلبي عن مقاتل إسلامه لا تصح ونص ابن حجر على أن ذلك غلط وقد وقع في هذا الغلط صاحب الكشاف وتبعه فيه من تبعه والعجب أيضا أنهم لم يذكروا الوليد بن الوليد فيمن أسلم مع أن المحدثين عن آخرهم أطبقوا على إسلامه ومهدت له تمهيدا بسطتله الرياسة والجاه العريض فأتمت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا وأصل التمهيد التسوية والتهيئة وتجوز به عن بسطة المال والجاه وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأعين نظرا ومخبرا يلقب ريحانة قريش وكذا كانوا يلقبونه بالوحيد بمعنى المنفرد باستحقاق الرياسة وعن ابن عباس وسعت له ما بين اليمن إلى الشام وعن مجاهد مهدت له المال بعضه فوق بعضكما يمهد الفراش ثم يطمع أن أزيد على ما أديته وهو استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه إما لأنه في غنى تام لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم وعن الحسن وغيره أنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي واستعمال ثم للإستبعاد كثير قيل التفات الرتبي بل عد الشيء بعيدا غير مناسب لما عطف عليه كما تقول تسيء إلي ثم ترجو إحساني وكان ذلك لتنزيل البعد المعنوي منزلة البعد الزماني كلا ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرجائه الخائب وقوله سبحانه إنه كان لآياتنا عنيدا جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتعليل ما قبل كأنه قيل لم زجر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته فقيل أنه كان معاند الآيات المنعم وهي دلائل توحيده أو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قالوا لمعاندة تناسب الإزالة وتمنع من الزيادة قال مقاتل ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك سأرقه صعودا سأغشيه عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق به ما يسوقه الله تعالى له من المصائب وأنواع المشاق بتكليف الصعود في الجبال الوعرة
(29/122)

الشاقة وأطلق لفظه عليه على سبيل الإستعارة التمثيلية وروي أحمد والترمذي والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا الصعود جبل من نار يصعد فيه خرفا ثم يهوى فيه كذلك أبدأ وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم عليه وسلم يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذات ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت إنه فكر وقدر تعليل للوعيد واستحقاقه له أو بيان لعناده لآياته عز و جل فيكون جملة مفسرة لذلك لا محل لها من الإعراب وما بينهما اعتراض وقيل الجملة عليه بدل من قوله تعالى أنه لآيا عنيدا أي أنه فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقول فقتل كيف قدر تعجيب من تقديره وإصابته في المخزورميه الغرض الذي كان ينتجيه قريش فهو نظير قاتلهم الله أنى يؤفكون أو ثناء عليه تهكما على نحو قاتله الله ما أشجعه أو حكاية لما كرره على سبيل الدعاء عند سماع كلمته الحمقاء فالعرب تقول قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو حاسده بذلك وما له على ما قيل إلى الأول وإن اختلف الوجه روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكان رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فيطوكه فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له وإنك كاره له قال وماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وولله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وأنه ليعلو ولا يعلى وأنه ليحطم ما تحته قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر فعجبوا بذلك وقال محيي السنة لما نزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم إلى قوله تعالى المصير قام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد والوليد قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي عليه الصلاة و السلام لاستماعه أعاد القراءة فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو وما يعلى فقال قريش صبأ والله الوليد لتصب أن قريش كلهم فقال أبو جهل أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال تزعمون أن محدما مجنون فهل رأيتموه يخنق وتقولون أنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا في كل ذلك اللهم لاثم قالوا فما هو ففكر ماهو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا متعجبين منه ثم قتل كيف قدر تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب غاية الإعجاب والعطف بثم للدلالة على تفاوت الرتبة وإن الثانية أبلغ من الأولى فكأنه قيل قتل بنوع ما من القتل لا بل قتل بأشده وأشده ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد ونحوه ما في قوله وما لي من ذنب إليهم علمته
سوى أننيقد قلت يا سرحة أسلمي ألا يا أسلمي ثم أسلمي ثمت أسلمي
ثلاث تحيات وإن لم تكلمني والإطراء في الإعجاب بتقديره يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره وقال الراغب في غرة التنزيل كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبي صلى الله عليه و سلم قدر ما أتى به من القرآن فقال إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا عرضت ما أتي به على الشعر وكان يقصد بهذا التقدير تكذيب الرسول صلى الله تعالى عليه
(29/123)

وسلم بضرب من الإحتيال فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل إهلاكا له فالأول لتقديره على الشعر أي أهلك إهلاكا المقتول كيف قدر وقوله تعالى ثم قتل كيف قدر لتقديره الآخر فإنه قدر أيضا وقال فإن ادعينا أن ما أتيبه من كلام الكهنة كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو كالقتل إهلاكا له فجاء ذلك لهذا فلم يكن في الإعادة تكرارا والأول هو ما ذهب إليه جار الله وجعل الدعاء اعتراضا وقال عليه الطيبي أنه ليس من الإعتراض المتعارف الذي ينحل لتزيين الكلام وتقديره لأن الفاء مانعة من ذلك بل هو من كلام الغير ووقع الفاء تضاعيف كلامه فأدخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية ثم قال وهو متعسف وأنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير وأما إذا جعلا من كلام الله تعالى استهزاء كما ذكر هو أو ادعاء عليه كما ذهب إليه الراغب وعليه تفسير الواحدي على ما قال ونقل عن صاحب النظم فقتل كيف أي عذب ولعن كيف قدر كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كانت منه لتكون الفعال كلها متناسقة مرتبة على التفاوت في التعقيب والتراخي زمانا ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن وجاء النظم عن السنن المألوف من التنزيل إلى آخر ما قال وما تقدم أبعد مغزى والإعتراض من المتعارف وهو يؤكد ما سيق له الكلام أحسن تأكيد والفاء غير ماتعة على ما نص عليه جار الله وغيره وجعل من الإعتراض المقرون بها فاسألوا أهل الذكر ومنه قوله واعلم فعلم المرء ينفعه
أن سوف يأتي كل ما قدرا وقد حقق أنه بالحقيقة نتيجة وقعت بين أجزاء الكلام اهتماما بشأنها فأفادت فائدة الإعتراض وعدت منه والإعتراض بين قوله تعالىأنه فكر وقدر وقوله سبحانه ثم نظر للعطف وثم فيه وفيما بعد على معناه الوضعي وهو التراخي الزماني مع مهلة أي ثم فكر في أمر القرآن مرة بعد أخرى ثم عبس قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا وضاقت عليه الحيل ولم يدر ماذا يقول وقيل ثم نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه وقيل نظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قم قطب في وجهه عليه الصلاة و السلام وبسر أي أظهر العبوس قبل أوانه وفي غير وقته فالبسر الإستعجال بالشيء نحو بسر الرجل لحاجة طلبها في غير أوانها وبسر الفحل الناقة ضربها قبل أن تطلب وما بسر متناول من غديره قبل سكونه وقيل للجبن الذي ينكأ قبل النضج بسر ومنه قيل لما لم يدرك من الثمر بسر وبهذا فسره الراغب هنا وفسره بعضهم بأشد العبوس من بسر إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء وأسود وجهه منه ويستعمل بمعنى العبوس ومنه قول توبة قد رابني منها صدود رأيته
وأعراضها عن حاجتي وبسورها وقول سعد لما أسلمت راغمتني أمي فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر فحينئذ يكون ذكر بسر كالتأكيد لعبس ولعله مراد من قال اتباع له وأهل اليمين يقولون بسر وأبسر إذا وقف ولم أر من جواز إرادة ذاك هنا ولو على بعد وفي النفس من ثبوت ذلك لغة صحيحة توقف ثم أدبر عن الحق أو عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستكبر عن اتباعه فقال إن هذا إلا سحر يؤثر أي يروى ويتعلم من سحر بابل ونحوهم وقيل أي يختار ويرجح على غيره من السحر وليس بمختار والفاء للدلالة على أن هذه الكلمة الحمقاء لما خطرت بباله تفوه بها من غير تلثم وتلبث فهي للتعقيب من غير مهملة ولا مخالفة فيه لما مر من الرواية كما لا يخفى وقوله إن هذا إلا قول البشر كالتأكد للجملة الأولى لأن المقصود منهما نفي كونه
(29/124)

قرآنا ومن كلام الله تعالى وإن اختلفا معنى ولا اعتبار في المقصود لم يعطف عليها وأطلق بعضهم عليه التأكيد من غير تشبيه والأمر في وصف إشكاله التي تشكل بها حتى استنبط هذا القول السخيف استهزاء به وإشارة إلى أنه عن الحق الأبلج بمعزل ثم أن الذي يظهر من تتبع أحوال الوليد أنه إنما ذلك عنادا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال وقوله تعالى سأصليه سقر بدل من سأرهقه الخ بدل اشتمال لاشتمال السقر على الشدائد وعلى الجبل من النار والوصف الآتي لا ينافي الإبدال على إرادة الجبل بناء على أن المراد به نحو ما في الحديث وقال أبو حيان يظهر أنهما جملتان أعتقبت كل واحدة منهما على سبيل توعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما فتوعد على كونه عنيدا لآيات الله تعالى بإرهاق صعود وعلى قوله أن القرآن سحر يؤثر إصلاء سقر وفيه بحث لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم وما أدراك ما سقر أي أي شيء أعلمك ما سقر على أن ما الأولى مبتدأ وإدراك خبره وما الثانية لأنها مفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع وسفر مبتدأ أي شيء هي في وصفها فإن قد يطلب بها الوصف وإن كان الغالب أن يطلب بها الاسم والحقيقة وقوله سبحانه لا تبقى ولا تذر بيان لوصفها وحالها فالجملة مفسرة أو مستأنفة عن غير حاجة إلى جعلها خبر مبتدأ محذوف وقيل حال من سقر والعامل فيها معنى التعظيم أي أعظم سقر وأهول أمرها حال كونها لا تبقى الخ وليس بذاك أي لا تبقى شيئا يلقى فيها إلا أهلكته وإذا هلك لم نذره هالكا حتى يعاد وقال ابن عباس لا تبقي إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا بدلوا خلقا جديدا لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأول وروي نحوه عن الضحاك بزيادة ولكل شيء فترة وملالة إلا جهنم وقيل لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك بل كان ما يطرح فيها هالك لا محالة وقال السدي لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما وهو دون ما تقدم لواحة للبشر قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور أي مغيرة للبشرات مسودة للجلود وفي بعض الروايات عن بعض بزيادة محرقة والمراد في الجملة فلواحة من لوحته الشمس إذا سودت ظاهره وأطرافه قال تقول ما لا حك يا مسافر
يا ابنة عمي لا حني الهواجر والبشر جمع بشرة وهي ظاهرة الجلد وفي بعض الآثار أنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل واعتراض بأنه لا يصح وصفها بتسويدها الظاهر الجلود مع قوله سبحانه لا تبقي ولا تذر الصريح في الإحراق وأجيب أنها في أول الملاقاة تسوده ثم تحرقه وتهلكه أو الأول حالها مع من دخلها وهذا حالها مع من يقرب منها وأن تتعلم أنه إذا قيل لا يحسن وصفها بتسويد ظاهر الجلود بعد وصفها بأنها لا تبقي ولا تذر لم يحسن هذا الجواب وقد يجاب حينئذ بأن المراد ذكر أوصافها المهمولة الفظيعة من غير قصد إلى ترق من فظيع إلى أفظع وكونها لواحة وصف من أوصافها ولعله باعتبار أول الملاقاة وقيل الإهلاك وفي ذكره من التفظيع ما فيه لما أن في تسويد الجلود مع قطع عما فيه من الإيلام تشويها للخلق ومثله للشخص فهو من قبيل التتميم وفي استلزام الإهلاك تسويد الجثود تردد وإن قيل به فتدبر وجوز على تفسير لواحة بما ذكر كون البشر اسم جنس بمعنى الناس ويرجع المعنى إلى ما تقدم وقال الحسن وابن كسيان والأصم لواحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر والبشر بمعنى الناس أي تظهر للناس لعظمها وهولها كما قال تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى وقد جاء أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام ورفع لواحة على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة وقرأ عطية العوفي وزيد بن علي والحسن وابن أبي عبلة لواحة بالنصب على الإختصاص للتهويل أي أخص أو أعني وجوز أن يكون حالا مؤكدة من ضمير تبقي أو تذر بناء على زعم الإستلزام وأن يكون حالا من سقر والعامل ما مر عليها تسعة عشر الظاهر ملكا ألا ترى العرب وهم
(29/125)

الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس أنها لما نزلت عليها تسعة عشر قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فقال له أبو الأرشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش أنا أكفيكم سبعة عشر فأكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون وأنزل سبحانه في أبي جهل أولي لك فأولى ثم أولى لك فأولى والظاهر أن المراد بأصحاب النار هم التسعة عشر ففيه وضع الظاهر موضع الضمير وكأن ذلك لما في هذا الظاهر من الإشارة إلى أنهم المدبرون لأمرها القائمون بتعذيب أهلها ما ليس في الضمير وفي ذلك إيذان بأن المراد بسقر النار مطلقا لا طبقة خاصة منها والجمهور على أن المراد بهم النقباء فمعنى كونهم عليها أنهم يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها وإلا فقد جاء جاء يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وذهب بعضهم إلى التمييز المحذوف صف وقيل صف والأصل عليها تسعة عشر صنفا أو عليها تسعة عشر صفا ويبعده ما تقدم في رواية الحبر وكذا قوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا فإن المتبادر أن افتتانهم باستقلالهم لهم واسبعادهم تولى تسة عشر لتعذيب أكثر الثقلين واستهزائهم بذلك ومع تقدير الصنف أو الصف لا يتسنى ذلك وقال غير واحد في تعليل جعلهم ملائكة ليخافوا جنس المعذبين فلا يرقوا لهم ولا يستروحوا إليهم ولأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله تعالى وبالغضب له سبحانه وأشدهم بأسا وفي الحديث كأن أعينهم البرق وكأن أقوالهم الصياصي يجرون أشعارهم لهم مثل قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرميهم في النار فيرمي بالجبل عليهم ولا يبعد أن يكون في التنوين إشعار إلى عظم أمرهم ومعنى قوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا آخره على ما اختاره بعض الأجلة وما جعلنا عدد أصحاب النار إلا العدد الذي اقتضى فتنة الذين كفروا بالإستقلال والإستهزاء وهو التسعة عشر فكاءن الأصل وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر فعبر بالأثر وهو فتنة الذين كفروا عن المؤخر وهو خصوص التسعة لأنه كما علم السبب في افتتاحهم وقيل إلا فتنة للذين بدل إلا تسعة عشر تنبيها على أن الأثر هنا لعدم انفكاكه عن مؤثره لتلازمهما كانا كشيء واحد يعبر باسم أحدهما عن الآخر ومعنى جعل عدتهم المطلقة العدة المخصوصة أن يخبر عن عددهم بأنه كذا إذ الجعل لا يتعلق بالعدة إنما يتعلق بالمعدود قالمعنى أخبرنا أن عدتهم تسعة عشر دون غيرها ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أي ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وصدق القرآن لأجل موافقة المذكورين ذكرهم في القرآن بهذا العدد وفي الكتابين كذلك وهذا غير جعل الملائكة على العدد المخصوص لأنه إيجاد ولا يصح على ما قال بعض المحققين أن يجعل إيجادهم على الوصف علة للإستيقان المذكور لأنه ليس إلا للموافقة وتكلف بعضهم لتصحيحه بأن الإيجاد سبب للإخبار والإخبار سببل للإستيقان فهو سبب بعيد له والشيء كما يسند لسببه البعيد يسند القريب لكنه كما قال لا يحسن ذلك وإنما احتيج إلى التأويل بالتعبير بالأثر عن المؤثر ولم يبق الكلام على ظاهره لأن الجعل من دواخل المبتدأ والخبر فما يترتب عليه يترتب باعتبار نسبة أحد المفعولين إلى الآخر كقولك جعلت الفضة خاتما لتزين به وكذلك ما جعلت الفضة إلا خاتما لكذا ولا معنى لترتب الإستيقان وما بعده على جعل عدتهم فتنة للكفار ولا مدخل لافتتانهم بالعدد المخصوص في ذلك وإنما الذي له مدخل العدة بنفسها أي العدة باعتبار أنها العدة المخصوصة والأخبار بها كما سمعت وليس ذلك تحريفا لكتاب الله تعالى ولا مبنيا عن رعاية مذهب باطل كما توهم ومنهم من تكلف لأمر السببية على الظاهر بما تجمعه
(29/126)

الأسماع فلا نسود به الرفاع وفي البحر ليستيقن مفعول من أجله وهو متعلق بجملنا لا بفتنة فليست الفتنة معلولة للإستيقان بل المعلول جعل العدة سبب الفتنة وفي الإنتصاف يجوز أن يرجع قوله تعالى ليستسقن إلى ما قبل الإستثناء أي جعلنا عدتهم سببا لفتنة الكفار ويقين المؤمنين وذكر الإمام في ذلك وجهين الثاني ما قدمناهم ما اختاره بعض الأجلة والأول أن التقدير وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للكافرين وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب قال وهذا كما فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك فالواو العاطفة قد تذكر في هذاالموضع تارة وقد تحذف أخرى وقال بعض أنه متعلق بمحذوف أي فعلنا ذلك ليستيقن الخ والكل كما ترى وحمل الذين أوتواالكتاب على أهل الكتابين مما ذهب إليه جمع وقيل المراد بهم اليهود فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال الله تعالى ورسوله اعلم فجاء فأخبرالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر وأخرج الترمذي وابن مردويه عن جابر قال قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم فأخبروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال هكذا وهكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسعة واستشعر من هذا أن الآية مدنية لأن اليهود إنما كانوا فيها وهو استشعار ضعيف لأن السؤال لصحابي فلعله كان مسافر فاحتج بيهودي حيث كان وأيضا لا مانع إذ ذاك من إتيان اليهود نحو مكة المكرمة ثم أن الخبرين لا يعينان حمل الموصوف علىاليهود كما يخفى فالأولى إبقاء التعريف على الجنس وشمول الموصوف للفريقين أي ليستيقن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ويزداد الذين آمنوا إيمانا أي يزداد إيمانهم كيفية بما رأوا من تسليمهم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك أو كمية بانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل وولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون تأكيد لما قبله من الإستيقان وازدياد الإيمان ونفي لما قد يعتل اي المستقن من شبهة ما للغفلة عن بعض المقدمات أوطريان ما توهم كونه معارضا في أول وهلة ولما فيهمن هذه الزيادة جاز عطفه على المؤكد بالواو لتغايرهما في الجملة وإن ما لم ينظم المؤمن ونفي سلك أهل الكتاب في نفي الإرتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فإن انتفاء الإرتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيهمن الإيمان وكم بينهما وقيل إنما لم يقل ولا يرتابوا بل قيل ولا يرتاب الخ للتنصيص على تأكيد الأمرين لاحتمال عود الضمير في ذلك على المؤمنين فقط والتعبير عن المؤمنين باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازديادهم ورسوخهم في ذلك وليقول الذين في قلوبهم مرض أي شك أو نفاق فيكون بناء على أن السورة بتمامها مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة إخبارا عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة والكافرون المصرون على التكذيب ماذا أراد الله بهذا مثلا أي شيء أراد تعالى أو ما الذي أراده الله تعالى بهذاالعدد المستغرب استغراب المثل وعلى الأول ماذا منزلة اسم واحد للإستفهام في موضع نصب بأراد وعلى الثاني هي مؤلفة من كلمة ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره والجملة بعد صلة والعائد فيها محذوف ومثلا نصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى هذه ناقة الله لكم آية والظاهر أن ألفاظ هذه الجملة من المحكي وعنوا بالإشارة التحقير وغرضهم نفى أن يكون ذلك من عند الله عز و جل على أبلغ وجه لا
(29/127)

الإستفهام حقيقة عن الحكمة ولا القدح في اشتماله عليها مع اعترافهم بصدور الأخبار بذلك عنه تعالى وجوز أن يكون أراد الله تعالى من الحكاية وهم قالوا ماذا أريد ونحوه وقيل يجوز أن يكون المثل بمعناه الآخر وهو ما شبه مضربه بأن يكونوا قد عدوه لاستغرابه مثلا مضروبا ونسبوه إليه عز و جل استهزاء وتهكما وإفراد قوله بهذا التعليل مع كونه من باب فتنتهم قيل للإشعار باستقلاله في الشناعة وفي الحواشي الشهابية إنما أعيد اللام فيه للفرق بين العلتين إذ مرجح الأولى الهداية المقصودة بالذات ومرجح هذه الضلال المقصود بالعرض الناشيء من سوء صنيع الضالين وتعليل أفعاله بالحكم والمصالح جائز عند المحققين وجوز في هذه اللام وكذا الأولى كونها للعاقبة كذلك يضل الله من يشاء ذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهداية ومحل الكاف في الأصل على أنها صفة لمصدر محذوف وأصل التقدير يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكرمن الإضلال والهداية فحذف المصدر وأقيم وصفه مقامهثم قدم على الفعل لإفادةالقصر فصار النظم مثل ذلك الإضلال وتلك الهداية يضل الله تعالى من يشاء إضلاله لصرف اختياره حسب استعداده السيء إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله تعالى الناطقة بالهدى ويهدي من يشاء هدايته لصرف اختياره حسب استعداده الحسن عند مشاهدة تلك الآيات إلى جانب الهدى لا إضلالا وهداية أدنى منهما ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما بعد كما في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا على ما حقق في موضعه وما يعلم جنود ربك جمع جند اشتهر في العسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة ويقال لكل جمع أيوما يعلم جموع خلقه تعالى التي من جملتها الملائكة المذكورون على ما هم عليه إلا هو عز و جل إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولوا إجمالا فضلا عن الإطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة وهو رد لاستهزائهم يكون الخرنة تسعة عشر لجهلهم وجه الحكمة في ذلك وقال مقاتل هو جواب لقول أبي جهل أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر وحاصله أنه لما قلل الأعوان أجيب بأنهم لا يحصون كثرة إنما الموكلون على النار هؤلاء المخصوصون لا أن المعنى ما يعلم بقوة بطش الملائكة إلا هو خلافا للطيبي فإن اللفظ غير ظاهر الدلالة على هذا المعنى واختلف في أكثر جنود الله عز و جل فقيل الملائكة لخير أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد وفي بعض الأخبار أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر مخلوقات ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما لا يعلمه إلا الله وقيل المجموع أقل قليل بالنسبة إلى الملائكة المهيمين الذين لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق أحدا سواء والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما يعلمه سبحانه من مخلوقاته وعن الأوزاعي قال قال موسى عليه السلام يا رب من مهك في السماء قال ملائكتي قال كم عدتهم قال اثنا عشر سبطا قال كم عدة السبط قال عدد التراب وفي صحة هذا روي إن صح فصدره من المتشابه وأنا لا أجزم بأكثرية صف فما يعلم جنود ربك إلا هو ولم يصح عندي في ذلك بيد أنه يغلب على الظن أن الأكثر الملائكة عليهم السلام وهذه الآية وأمثالها من الآيات والأخبار تشجع على القول باحتمال أن يكون في الأجرام العلوية جنود من جنود الله تعالى لا يعلم حقائقها وأحوالها إلا هو عز و جل ودائرة ملك الله جل جلاله أعظم من أن يحيط بها نطاق الحصر أو يصل إلى مركزها طائر الفكر فإني وهيهات ولو استغرقت القوى والأوقات هذا واختلف في المخصص لهذا العدد
(29/128)

أعني تسعة عشر فقيل أن اختلاف النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الأثنتي عشرة يعني الحواس الخمسة الباطنة والحواس الخمسة الظاهرة والقوة الباعثة كالغضبية والشهوية والقوة المحركة فهذه اثنتا عشرة والطبيعة السبع التي ثلاث منها مخدومة وهي القوة النامية والغادية والمولدة وأربع منها خادمة وهي الهاضمة والجاذبة والماسكة وهذا مع ابتنائه على الفلسفة لا يكاد يتم كما لا يخفى على من وقف على كتبها وقيل أن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الإعتقاد والأقرار والعمل أنواعا من العذاب تناسبها فيضرب الست في الثلاثة يحصل ثمانية عشر وعلى كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه ملك أو صنف وبذلك تتم التسعة عشر بأصناف الكفار وواحدة بأصناف الأمة ولم يجعل تعذيب الكفار في خمس منها فيبق للمؤمنين اثنتان أحدهما لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر أو أحدهما للعصاة منهم والأخرى للعاصيات لأنه حيث أعدت النار للكافرين أولا وبالذات ناسب أن يستغرقوها كلية ويوزعوا على جميع أماكنها بقدر ما يمكن لكن لما تعلقت إرادته سبحانه بتعذيب الأمة بها أفرزت واحدة منها لهم وقيل أن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة للصلاة فلم يخلق في مقابلتها زبانية لبركة الصلاة الشاملة لمن لم يصل فيبقي تسعة عشر وقيل أن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وللأعتناء بأمر عذابهم واستمراره ناسب أن يقوم عليه ثلاثة واحد في الوسط واثنان في الطرفين فهذه ثمانية عشر وواحدة منها لعصاة المؤمنين ناسب أمر عذابهم أن يقوم عليه واحد وبه تتم التسعة عشر وقيل أن العدد على وجهين قليل وهو من الواحد إلى التسعة وكثير وهو من العشرةإلا ما لا نهاية له فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير وقيل غير ذلك والذي مال إليه أكثر العلماء أن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إلا الله عز و جل وهو كالمتشابه يؤمن به ويفوض علمه إلى الله تعالى وكل ما ذكر مما لا يعول عليه كما لا يخفى على منوجه أدنى نظره إليه والله تعالى الهادي لصواب الصواب والمتفضل على من شاء يعلم لا شك معه ولا ارتياب وقرأ أبو جعفر وطلحة ابن سليمان تسعة عشر بإسكان العين وهو لغة فيه كراهة توالي الحركات فيما هو كاسم واحد وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطب وابراهيم بن قتة تسعة بضم التاء وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ولا يتوهم أنها حركة إعراب ولا أعرب عشرو قرأ أنس أيضا تسعة بالضم أعشر بالفتح قال صاحب اللوامح فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر وعنه أيضا تسعة وعشر بالضم وقلب الهمزة واوا خالصة تخفيفا والتاء فيهما مضمومة ضمة بناء لما سمعت آنفا وعن سليمان بن قتة وهو أخو ابراهيم أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب والأضافة إلى أعشر وجره منونا وهو على ما قال صاحب اللوامح جمع عشرة وقد صرح بأن الملائكة على القراءة بهذا الجمع معربا أو مبنيا تسعون ملكا وقال الزمخشري جمع عشير مثل يمين وأيمن وروي عنه أنه قال تسعة من الملائكة كل واحد منهم عشير فهم مع أشياعهم تسعون والعشير بمعنى العشر فدل على أن النقباء تسعة وتعقب بأن دلالته على هذا المعنى غير واضحة ولهذا قال ابن جني لا وجه لتلك القراءة إلا أن يعني تسعة عشر جمع العشير وهم الأصدقاء فليراجع وما هي أي سقر كما يقتضيه كلام مجاهد إلا ذكرى للبشر إلا تذكرة لهم والعطف قيل على قوله تعالى سأصليه سقر وما جعلنا أصحاب النار إلى هنا اعتراض ووجهه أنه قيل عليها تسعة عشر وزيادة في تهويل أمر جهنم عقب بما يؤكد قوتهم وتسلطهم وتباينهم بالشدة عن سائر المخلوقات ثم بما يؤكد الكمية وما أكد المؤكد فهو مؤكد أيضا وقيل
(29/129)

الضمير للآيات الناطقة بأحوال سقر وقيل لعد خزنتها والتذكير والعظة فيها من جهة أن في خلقه تعالى ما هو في غاية العظمة حتى يكون القليل منهم معذبا ومهلكا لما لا يحصى دلالة على أنه عز و جل لا يقدر حق قدره ولا توصف عظمته ولا تصل الأفكار إلى حرم جلاله وقيل الضمير للجنود وقيل لنار الدنيا وهذا أضعف الأقوال وأقواها على ما قيل ما تقدم وبين البشر ههنا والبشر فيما سبق أعني قوله تعالى لواحة للبشر على تفسير الجمهور تجنيس تام لفظي وخطي وقل من تذكر له كلا ردع لمن أنكرها وقيل زجر عن قول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم وقيل ردع عن الأستهزاء بالعدة المخصوصة وقال الفراء هي صلة للقسم وقدرها بعضهم بحقا وبعضهم بألا الأستفتاحية وقال الزمخشري إنكار بعد أن جعلها سبحانه ذكرى أن يكون لهم ذكرى وتعقبه أبو حيان بأنه لا يسوغ في حقه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ثم ينكر أن يكون لهم ذكرى وأجيب بأنه لا تناقض لأن معنى كونها ذكرى أن شأنها أن تكون مذكرة لكل أحد ومن لم يتذكر لغلبة الشقاء عليه لا يعد من البشر ولا يلتفت لعدم تذكره كما أن حلاوة العسل لا يضرها كونها مرة في فم منحرف المزاج المحتاج إلى العلاج وحال حسن الوقف على كلا وعدم حسنه هنا يعلم من النظر إلى المراد بها وصرح بغضهم بذلك فقال إن كانت متعلقة بالكلام السابق يحسن الوقف عليها وإن كانت متعلقة بالكلام اللاحق لا يحسن ذلك أي كما إذا كانت بمعنى ألا الأستفتاحية فالوقت حينئذ تام على للبشر ويستأنف كلا والقمر والليل إذ أدبر أي ولي وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال وهو بمعنى أدبر المزيد كقيل وأقبل والمعروف المزير وحسن الثلاثي هنا مشاكلة أكثر الفواصل وقيل دبر من دبر الليل النهار إذا خلفه والتعبير بالماضي مع إذا التي للمستقبل للتحقيق ويجوز أن يقال أنها تقلبه مستقبلا وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش ومطر ويونس بن عبيد وهي رواية عن الحسن وابن يعمر والسلمي وطلحة إذا بالألف أدبر بالهمز وكذا هو في مصحف عبد الله وأبي وهو أنسب بقوله تعالى والصبح إذا أسفر أي أضاء وانكشف على قراءة الجمهور وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل سفر ثلاثيا وفسر بطرح الظلمة عن وجهه إنها لأحدى الكبر جواب للقسم وجوز أن يكون كلا ردعا لمن ينكر أن تكون إحدى الكبرى لما علم من أن إن واللام من الكلام الأنكاري في جواب منكر وهذا تعليل لكلا والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا وفي التعليل نوع خفاء فتأمل وضمير أنها لسقر والكبر جمع الكبرى وجعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظيرها السوافي في جمع السافياء والقواصع في جمع القاصعاء فأن فاعلة تجمع على فواعل بإطراد لا فاعلاء لكن حمل فاعلاه على فاعلة لاشتراك الألف والتاء في الدلالة على التأنيث وضعا فجمع فيهما على فواعل وقول ابن عطية الكبر جمع كبيرة وهم كما لا يخفى أي أن سقر لأحدى الدواهي الكبر على معنى أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها قيل فيكون في ذلك إشارة إلى أن بلاءهم غير محصور فيها بل تحل بهم بلايا غير متناهية أو أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر من بينهم واحدة في العظم لا نظير لها وهذا كما يقال أحد الأحدين وهو واحد الفضلاء وهي إحدى النساء وعلى هذا اقتصر الزمخشري ورجح الأول بأنه أنسب بالمقام ولعله لما تضمن من الأشارة وقيل المعنى أنها لأحدى دركات النار الكبر السبع لأنها جهنم ولظى والحطمة وسقر والسعير والجحيم والهاوية ونقل عن صاحب التيسير وليس بذاك أيضا وقيل ضمير أنها يحتمل أن يكون للنذارة وأمر الآخرة قال في البحر فهو للحال
(29/130)

والقصة وقيل هو للساعة فيعود على غير مذكور وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير لحدى الكبر بحذف همزة إحدى وهو حذف لا ينقاس وخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين نذير للبشر قيل تمييز لأحدى الكبر على أن نذيرا مصدر بمعنى إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار أي أنها لأحدى الكبر إنذارا والمعنى على ما سمعت عن الزمخشري أنها لأعظم الدواهي إنذارا وهو كما تقول هي إحدى النساء عفافا وقال الفراء هو مصدر نصب بإضمار فعل أي إنذارا وذهب غير واحد إلى أنه اسم فاعل بمعنى منذرة فقال الزجاج حال من الضمير في أنها وفيه مجيء الحال من اسم أن وقيل حال من الضمير في لأحدى واختار أبو البقاء كونه حالا مما دلت عليه الجملة والتقدير عظمت أو كبرت نذيرا وهو على ما قال أبو حيان قول لا بأس به وجوزت هذه الأوجه على مصدريته أيضا بتأويله بالوصف وقال النحاس حذفت الهاء من نذيرا وإن كان للنار على معنى النسب يعني ذات إنذار وقد يقال في عدم إلحاق الهاء فيه غير ذلك مما قيل في عدم إلحاقها في قوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين وقال أبو رزين المراد بالنذير هنا هو الله تعالى فهو منصوب بأضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه وقال ابن زيد المراد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قيل فهو منصوب بأضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه وقال ابن زيد المراد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قيل فهو منصوب بأضمار فعل أيضا أي ناد أو بلغ أو أعلن وهو كما ترى ولو جعل عليه حالا من الضمير المستتر في الفعل لمكان أولى وكذا لو جعل منادى والكلام نظير قولك إن الأمر كذا يا فلان وقيل أنه على هذا حال من ضمير قم أول السورة وفيه خرم النظم الجليل ولذا قيل هو من بدع التفاسير وقرأ أبي وابن أبي عبلة نذير بالرفع على أنه خبر بعد خبر لأن أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي نذير على ما هو المعول عليه من أنه وصف النار وأما على القول بأنه وصف الله تعالى أو والرسول عليه الصلاة و السلام فهو خبر لمحذوف لا غير أي هو نذير لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق أعني البشر وضمير شاء للموصول أي نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير والتخلف عنه وقال السدي أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر عنها إلى الجنة وقال الزجاج أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات وفسر بعضهم التقدم بالأيمان والتأخر بالكفر وقيل ضمير شاء الله تعالى أي نذيرا لمن شاء الله تعالى منكم تقدمه أو تأخره وجوز أن يكون لمن خبرا مقدما وأن يتقدم أو يتأخر مبتدأ مقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أي السبق إلى الخير أو التأخر إلى التخلف عنه أن يتقدم ويتأخر فيكون كقوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ولا يخفى أن اللفظ يحتمله لكنه بعيد جدا كل نفس بما كسبت رهينة مرهونة عند الله تعالى بكسبها والرهينة مصدر بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم لا صفة وإلا لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء ويستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه قول عبد الرحمن بن زيد وقد قتل أبوه وعرض عليه سبع ديات فأبى أن يأخذها أبعد الذي بالنعف نعف كويكب
رهينة رمس ذي تراب وجندل أذكر بالبقيا على من أصابني
وبقياي أني جاهد غير مؤتل واختير على رهين مع موازنته لليمين وعدم احتياجه للتأويل لأن المصدر هنا أبلغ فهو أنسب بالمقام فلا يلتفت للمناسبة اللفظية فيه وقيل الهاء في رهينة للمبالغة واختار أبو حيان أنها مما غلب عليه الأسمية كالنطيحة وإن كانت في الأصل فعيلا بمعنى مفعول وهو وجه أيضا وادعى أن التأنيث في البيت على معنى النفس إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون المخلصون كما قال الحسن وابن كيسان والضحاك ورواه ابن المنذر عن ابن عباس فإنهم فاكون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن وهنه بأداء الدين
(29/131)

وأخرج ابن المنذر وابن جرير وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنهم أطفال المسلمين وأخرجوه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ونقل بعضهم عن ابن عباس أنهم الملائكة فإنهم غير مرهونين بديون التكاليف كالأطفال وتعقب بأن إطلاق النفس على الملك غير معروف وبأنهم لا يوصفون بالكسب أيضا على أن الظاهر سباقا وسياقا أن يراد طائفة من البشر المكلفين والكثير على تفسيرهم بما سمعت وقيل هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل الذين كانوا عن يمين آدم عليه السلام يوم الميثاق وقيل الذين يعطونكتبهم بأيمانهم ولا تدافع بين هذه الأقوال كما لا يخفى والأستثناء على ما تقدم وكذا هذه الأقوال متصل وأما على قول الأمير كرم الله تعالى وجهه وما نقل عن ابن عمه فقال أبو حيان هو استثناء منقطع وقيل يجوز الأتصال والأنقطاع بناء على أن الكسب مطلق العمل أو ما هو تكليف فلا تغفل في جنات خبر مبتدأ محذوف والتنوين للتعظيم والجملة استئناف وقوع جواب عن سؤال نشأ مما قبله من استثناء أصحاب اليمين كأنه قيل ما بالهم فقيل هم في جنات لا يكتنه كنهما ولا يدرك وصفها وجوز أن يكون الظرف في موضع الحال من أصحاب اليمين أو من ضميرهم في قوله تعالى يتساءلون قدم للأعتناء مع رعاية الفاصلة وقيل للتساؤل وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضهم بعضها على أن يكون كل واحد منهم سائلا ومسؤلا معا بل وقوع السؤال منهم مجردا عن وقوعه فأن صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدي ووقوعه عليه معا بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تشاتم القوم أي شتم كل واحد منهم الآخر لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ويقصد بها الدلالة على الأول فقط ويكون الواقع عليه شيئا آخر كما في قولك تراه والهلال قال جار الله إذا كان المتكلم مفردا يقول دعوته وإذا كان جماعة تداعيناه ونظيره رميته وتراميناه ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا التفاعل من الجانبين وعلى هذا فالمسؤل محذوف أعني المجرمين والتقدير يتساءلون المجرمين عنهم أي يسألون المجرمين عن أحوالهم فغير إلى ما في النظم الجليل وقيل يتساءلون عن المجرمين والمعنى على ذلك وحذف المسؤل لكونه غير المسؤل عنه وقوله تعالى : ما سلككم في سقر بيان للتساؤل من غير حاجة إلى إضمار قول أو هو مقدر بقول وقع حالا من فاعل يتساءلون أي يسألونهم قائلين أي شيء أدخلهم في سقر وقيل المسؤل غير المجرمين كجماعة من الملائكة عليهم السلام وما سلككم الخ حكاية قول المسؤلين عنهم أي سأل أصحاب اليمين الملائكة عن حال المجرمين قالوا نحن سألنا المجرمين عن ذلك وقلنا لهم ما سلككم في سقر إلى الآخرة وكان يكفيهم أن يقولوا حالهم كيت وكيت لكن أتى بالجواب مفصلا حسب ما سألوه ليكون أثبت للصدق وأدل على حقيقة الأمر ففي الكلام حذف واختصار وجوز أن تكون صيغة التفاعل على حقيقتها أي يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين وما سلككم حكاية قول المسؤل عنهم أيضا ولا يخفى ما في اعتبار الحكاية من التكلف فليس ذاك بالوجه وإن كان الأيجاز نهج التنزيل والحذف كثيرا في كلامه تعالى الجليل والظاهر أن السؤال سؤال توبيخ وتحسير وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار ولو كانوا الأطفال فيما أظن لانكشاف الأمر ذلك اليوم وروي عبد الله ابن أحمد وجماعة عن ابن الزبير أنه يقرأ يتساءلون عن المجرمين يا فلان ما سلككم ورويت عن عمر أيضا وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ يا أيها الكفار ما سلككم في سقر قالوا أي المجرمون مجيبين للسائلين لم نك من المصلين للصلاة الواجبة ولم نك نطعم المسكين أي نعطيه ما يجب إعطاؤه والمعنى على استمرار النفي الأستمرار واستدل بالآية
(29/132)

على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات لأنهم جعلوا عذابهم لترك الصلاة فلو لم يخاطبوا بها لم يؤاخذ وتفصيل المسئلة في الأصول وتعقب هذا الأستدلال بأنه لا خلاف في المؤاخذة في الآخرة على ترك الأعتقاد فيجوز أن يكون المعنى من المعتقدين للصلاة ووجوبها فيكون العذاب على ترك الأعتقاد وأيضا المصلين يجوز أن يكون كناية عن المؤمنين وأيضا من كلام الكفرة فيجوز كذبهم أو خطؤهم فيه وأجيب بأن ذلك عدول عن الظاهر يأباه قوله تعالى ولم نك نطعم الخ والمقصود من حكاية السؤال والجواب والتحذير فلو كان الجواب كذبا أو خطأ لم يكن في ذكره فائدة وكنا نخوض مع الخائضين أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه والخوض في الأصل ابتداء الدخول في الماء والمرور فيه واستعماله في الشروع في الباطل من المجاز المرسل أو لستعارة على ما قرروه في المشفر ونحوه وعن بعضهم أنه اسم غالب في الشر وأكثر ما استعمل في القرآن بما يذم الشروع فيه وأريد بالباطل ما لا ينبغي من القول والفعل وعد من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا وحكاية أحوال الفسقة بأقسامهم على وجه الالتذاذ والاستئناس ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم لغير غرض شرعي بل لمجرد أن يتوصل به إلى طعن وتنقيص والتكلم بالكلمة يضحك بها الرجل جلساءه سواء كانت مباحة في نفسها أم لا نعم التكلم بالكلمة المحرمة لذلك باطل على باطل إلى غير ذلك مما لا يحصى وكان ذكر مع الخائضين إشارة إلى عدم اكتراثهم بالباطل ومبالاتهم به فكأنهم قالوا وكنا لا نبالي بباطل وكنا نكذب بيوم الدين أي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له لأنه أدهاها وأهولها وأنهم ملابسوه وقد مضت بقية الدواهي وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرا إلى آخر عمرهم حسبما نطقبه قولهم حتى آتينا اليقين أي الموت ومقدماته كما ذهب إليه جل المفسرين وقال ابن عطية اليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة وقول المفسرين هو الموت متعقب عندي لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي فلم يريدوا باليقين إلا الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت انتهى وفيه نظر ثم الظاهر أن مجموع ما ذكروه سبب لدخول مجموعهم النار فلا يضر في ذلك أن من أهل النار من لم يكن وجب عليه إطعام مسكين كفقراء الكفرة المعدمين وفي الكشاف يحتمل الكلام أن يكون دخول كل منهم النار لمجموع الأربعة ويحتمل أن يكون دخول بعضهم لبعضها كأن يكون ذلك لمجرد ترك الصلاة أو ترك الأطعام وفيه دسيسة اعتزال وهو تخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين كتارك الصلاة في النار وأنت تعلم أن الآية في الكفار لا في أعم منهم فما تنفعهم شفاعة الشافعين لو شفعوا لهم جميعا فالكلام على الفرض واشتهر أنه من باب
ولا ترى الضب بها ينحجر
وحمل التعريف على الأستغراق وأنسب بالمقام والفاء في قوله فما لهم عن التذكرة معرضين لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير بغير سبب على ما قبلها من موجبات الأقبال عليه والأتعاظ به من سوء حال المكذبين ومعرضين حال لازمة من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الأستفهامية أعني لهم وهي المقصودة من الكلام وعن متعلقة بها والتقديم للعناية مع رعاية الفاصلةأي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الأقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الأيمان به وجوز أن يراد بالتذكرة ما يعم القرآن وما بعد يرجح الأول وهو مصدر بمعنى التذكير أطلق على كا ذكر مبالغة
(29/133)

وقوله تعالى كأنهم حمر مستنفرة حال من المستكن في معرضين بطريق التداخل والحمر جمع حمار والمراد به كما قال ابن عباس حمار الوحش لأنه بينهم مثل بالنفار وشدة الفرار ومستنفرة من استنفر بمعنى نفر كعجب واستعجب كما قيل والأحسن أن استفعل للمبالغة كأن الحمر لشدة العدو وتطلب النفار من نفسها والمعنى مشبهين بحمر نافرة جدا فرت من قسورة أي أسد وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وأخرج ذلك ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي هريرة وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس أيضا بيد أنه قال هو بلسان العرب الأسد وبلسان الحبشة قسورة وفي رواية أخرى عنه أنها الرجال الرماة القنص وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وفي رواية عنه أخرجها ابن عيينة في تفسيره أنه ركز الناس أي أصواتهم وعنه أيضا حبال الصيادين وعن قتادة النبل وقال ابن الأعرابي وثعلب القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل وجمهور اللغويين على أنه الأسد وأيا ما كان فقد شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله سبحانه كمثل الحمار يحمل أسفارا أو شهادة عليهم بالبله وقلة العقل وقرأ الأعمش حمر بإسكان الميم وقد قرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم مستنفرة بفتح الفاء أي اسنفرها فزعها من القسورة وفرت يناسب الكسر فعن محمد بن سلام قال سألت أبا سرار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت كأنهم حمر ماذا فقال مسنفرة طردها قسورة ففتح الفاء فقلت إنماهو فرت من قسورة قال أفرت قلت نعم قال فمستنفرة إذن فكسر الفاء وقوله تعالى بل يريد كل امريء منهم أن يأتي صحفا منشرة عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها وجوز أن يراد كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد وفيه بعد وذلك على الوجهين أنهم قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأت كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك فنزلت ونحوه قوله تعالى لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قال ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأسكل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار وقبل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلا أن يراد بالصحف المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة ونحوه ما روي عن أبي صالح فمآلهما إلى واحد لاشتراكهما في أن المنشر لم يبق على أصله وإن لكل صحيفة مخصوصة به إما لخلاصه من الذنب وإما لوجه خلاصة فالمعمول عليه ما تقدم وهو مروي عن الحسن وقتادة وابن زيد وقرأ سعيد بن جبير صحفا بإسكان الحاء منشرة بالتخفيف على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزله ونزله وفي البحر المحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففا ثلاثيا ويقال في الميت أنشره الله تعالى ونشره ويقال أنشره الله تعالى فنشر هو أي أحياه فحيي كلا ردععن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات بلا لا يخافون الآخرة فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون وقرأ أبو حيوة تخافون بتاء الخطاب التفاتا كلا ردع لهم عن إعرضهم إنه أي القرآن أو التذكرة السابقة في قوله تعالى فما لهم عن التذكرة معرضين وكذا الضمير الآتي وذكر لأنه
(29/134)

بمعنى القرآن أو الذكر تذكرة وأي تذكرة فمن شاء أن يذكره ذكره وحاز بسببه سعادةالدارين والوقف على كلا على ما سمعت في الموضعين وعلى منشرة والآخرة أن جعلت كما في الحواشي بمعنى إلا وما يذكرون أي بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فمن شاء ذكره إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله وهو قوله سبحانه إلا أن يشاء الله استثناء مفرغ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلا بأن يشاء الله تعالى أو حال أن يشاء الله ذلك وهذا تصريح بأن أفعال العباد بمشيئة الله عز و جل بالذات أو بالواسطة ففيه رد على المعتزلة وحملهم المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء خروج عن الظاهر من غير قسر وإلجاء وقرأ نافع وسلام ويعقوب تذكرون بتاء الخطاب التفاتا مع إسكان الذال وروي عن أبي حيوة يذكرون بياء الغيبة وشد الذال وعن أبي جعفر تذكرون بالتاء الفوقية وإدغامها في الذال هو أهل التقوى حقيق بأن يتقي عذابه ويؤمن به ويطاع فالتقوى مصدر المبني للمفعول وأهل المغفرة حقيق بأن يغفر جل وعلا لمن آمنبه وأطاعه فالمغفرة مصدر المبني للفاعل وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجه وخلق آخرون عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة فقال قد قال ربكم أنا أهل أن أتقي فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول الله تعالى إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع يديه إلي ثم يردهما من غير مغفرة قالت الملائكة إلهنا ليس لذلك بأهل قال الله تعالى لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له وكأن الجملة لتحقيق الترهيب والترغيب اللذين أشعر بهما الكلام السابق كما لا يخفى على المتذكر وعن بعضهم أنه لما سمع قوله تعالى هو أهل التقوى وأهل المغفرة قال اللهم اجعلني من أهل التقوى وأهل المغفرة على أن أول الثاني كثاني الأول مبنيا للفاعل وثاني الثاني كأول الأول مبنيا للمفعول وإلا فلا يحسن الدعاء وإن تكلف لتصحيحه فافهم والله تعالى أعلم
سورة القيامة
ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لتجعل به ولما قال سبحانه وتعالى في آخر المدثر كلا بل لا يخافون الآخرة بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لأنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي فقال عز من قائل عظيم بسم الله الرحمن الرحيم لآ أقسم بيوم القيامة إدخال لا النافية صورة على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس لا وأبيك ابنة العامري
لايدعى القوم إني أفر ألا ناديت أمامة باحتمال
لتحزنني فلا بك ما أبالي وقول غوية بن سلمة يرثي وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك أن لا هذه إذا وقعت في خلال الكلام كقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون فهي صلة
(29/135)

تزاد لتأكيد القسم مثلها في قوله تعالى لئلا يعلم لتأكيد العلم وأنها إذا وقعت ابتداء كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي لأن الصلة إنما تكون في وسط الكلام ووجه إن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعضيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية والمراد أنه لا يعظم بالقسم لأنه في نفسه عظيم أقسم به أولا ويترقى في هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة فيه فما يختلج في بعض الخواطر من أنه يلزم أن يكون على هذا إخبارا لا إنشاء فلا يستحق جوابا وإن المعنى على تعظيم المقسم عليه لا المقسم به مدفوع وراء ذلك أقوال فقيل إنها لنفي الأقسام لوضوح الأمر وقال الفراء لنفي كلام معهود قبل القسم ورده فكأنهم هنا أنكروا البعث فقيل لا أي الأمر كذلك ثم قيل أقسم بيوم القيامة وقدح الأمام فيه بأعادة حرف النفي بعد وقيل أنها ليست لا وإنما اللام أشبعت فتحتها فظهر من ذلك ألأف والأصل لأقسم كما قرأ به قنبل وروي عن البزي والحسن وهي لام الأبتداء عند بعض والأصل لأنا أقسم وحذف المبتدأ للعلم به ولام التأكيد دخلت على الفعل المضارع كما في أن ربك ليحكم بينهم والأصل أني لأقسم عند بعض ولام القسم ولم يصحبها نون التوكيد لعدم لزوم ذلك وإنما هو أغلبني على ما حكي عن سيبويه مع الأعتماد على المعنى عند آخرين وقال الجمهور إنها صلة واختاره جار الله في المفصل وما ذكر من الأختصاص غير مسلم لأن الزيادة إذا ثبتت في القسم فلا فرق بين الأول الكلام وأوسطه لا أنه مسلم لكن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض لأنه كونه كذلك بالنسبة إلى التناقض ونحوه لا بالنسبة إلى مثل هذا الحكم ثم فهم ما ذكره في توجيه النفي من اللفظ بعيد وحال سائر الأقوال غير خفي وقد مر بعض الكلام في ذلك فتذكرو الكلام في قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة على النمط بيد أنه قيل على قراءة لا أقسم فيما قبل أن المراد هنا النفي على معنى لا أقسم بيوم القيامة لشرفه ولا أقسم بالنفس اللوامة لخستها وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن قتادة ما يقتضيه وحكاه في البحر عن الحسن وقتادة في هذه النفس هي الفاجرة الجشعة اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأغراضها وجاء نحوه في رواية عن ابن عباس والحق أنه تفسير لا يناسب هذا المقام ولذلك قيل هي النفس المتقية التي تلوم النفوس يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى والمبالغة بكثرة المفعول وقال مجاهد هي التي تلوم نفسها على ما فات وتندم على الشر لم فعلته وعلى الخير لم لم تستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعات فالمبالغة في الكيف باعتبار الدوام وقيل المراد بالنفس اللوامة جنس النفس الشاملة للتقية والفاجرة لما روي أنه ص - قال ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزد منه وإن عملت شرا قالت ليتني فصرت وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها وبعثها فيه وضعف بأن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا للأعظام بألقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس وأجيب بأن القسم بها حينئذ بقطع النظر عن الصفة والنفس من حيث هي شريفة لأنها الروح التي هي من عظيم أمر الله عز و جل وفيه أنه لا يظهر لذكرالوصف حينئذ فائدة والأمام أوقف الخبر على ابن عباس واعترضه بثلاثة أوجه وأجاب عنها بحمل اللوم على تمني الزيادة وت4مني أن لم يكن ما وقع من المعصية واقعا وما ذكر من توجيه الضم لا يخص هذا الوجه كما لا يخفى وقيل المراد بها نفس آدم عليه السلام فإنها لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة وأكثر الصوفية على أن النفس اللوامة فوق الإمارة وتحت المطمئنة وعرفوا الأمارة بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية وقالوا هي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة وعرفوا
(29/136)

اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم جبلتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت عنها وعرفوا المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن منازعة الطبيعة ومنهممن قالفي اللوامة هي المطمئنة للنفس الأمارة ومنهم من قال هي المطمئنة وهي التي ترشحت لتأديب غيرها إلى غير ذلك والمشهور عنهم تقسيم مراتب النفس إلى سبع منها هذه الثلاثة وفي سير السلوك إلى ملك الملوك كلام نفيس في ذلك فليراجعه من شاء وجواب القسم ما دل عليه قوله تعالى أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه وهو ليبعثن وقيل هو أيحسب الخ وقيل بلى قادرين وكلاهما ليسا بشيء أصلا كزعم عدم الأحتياج إلى جواب لأن نفي الأقسام والمراد بالأنسان الجنس والهمزة لأنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع بعد التفرق عظامه وحاصله لم يكون هذا الحسبان الفارغ عن الأمارة المنافي لحق اليقين وصريحه والنسبة إلى الجنس لأن فيه من يحس بذلك بل لعله الأكثون وجوز أن يكون التعريف للعهد والمراد بالأنسان عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول فيهما اللهم أكفني جاري السوء فقد روي أنه جاء إليه عليه الصلاة و السلام فقال يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف يكون أمره فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به أو يجمع الله تعالى هذه العظام فنزلت وقيل أبو جهل فقد روي أنه كان يقول أيزعم محمد أن يجمع الله تعالى هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقا جديدا فنزلت كإرادة الجنس وسبب النزول لا يعنيه وذكر العظام وإن المعنى على إعادة الأنسان وجمع أجزائه المتفرقة لما أنها قالب الخلق وقرأ قتادة تجمع بالتاء الفوقية مبينا للمفعول عظامه بالرفع على النيابة بلى أين جمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا في بطون البحار وفسيحات القفار وحيثما كانت حال كوننا قادرين فقادرين حال من فاعل الفعل المقدر بعد بلى وهو قول سيبويه وقيل منصوب على أنه خبر كان أيبلى كنا قادرين في البدء أفلا نقدر في الأعادة وهو كما ترى وقيل انتصب لأنه وقع في موضع نقدر إذا التقدير بلى نقدر فلما وضع موضع الفعل نصب حكاه مكي وقال أنه بعيد من الصواب يلزم عليه نصب قائم في قولك مررت برجل قائم لأنه في موضعي قوم فتأمل وقرأ ابن أبي عبلة وابن السمقيع قادرون أي نحن قادرون على أن نسوي بنانه هي اسم جنس جمع يواحده بنانة وفسرها الراغب بالأصابع ثم قال قيل سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للأنسان أن يبين بها ما يريد أي يقيم غيره بما صغر من عظام الأطراف كاليدين والرجلين وفي القاموس البنان الأصابع أو أطرافها فالمعنى نجمع العظام قادرين على تأليف جمعها وإعادتها إلى التركيب الأول وإلى أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وأخر ما يتم به خلقه أو على أن نسوي ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت بكيف بكبار العظام وما ليس في الأطراف منها وفي الحال المذكورة أعني قادرين على الخ بعد الدلالة على التقييد تأكيد لمعنى الفعل لأن الجمع من الأفعال التي لا بد فيها من القدرة فإذا قيد بالقدرة البالغة فقد أكد والوجه الأول من المعنى يدل على تصوير الجمع وأنه لا تفاوت بين الأعادة والبدء في الاشتمال على جميع الأجزاء التي كان بها قوام البدن أو كماله والثاني يدل على تحقيق الجمع التام فإنه إذا قدر على جمع الألطف إلا بعد عادة عن الإعادة فعلى جمع
(29/137)

غيره أقدر ولعله الأوفق بالمقام ويعلم منهما نكتة تخصيص البنان بالذكر وقيل المعنى بل نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه أن نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ولا نفرق بينهما فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل منفنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وروي هذا من ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك ولعل المراد نجمعها ونحن قادرون على التسوية وقت الجمع فالكلام يفيد المبالغة السابقة لكن من وجه آخر وهو أنه سبحانه إذا قدر على إعادته وجه تبديل بعض الأجزاء فعلى الأحتذاء بالمثال الأول في جميعه أقدر وأبو حيان حكى هذا عن الجمهور لكن قيد التسوية فيه بكونها في الدنيا وقال أن في الكلام عليه نوعدا ثم تعقب ذلك بأنه خلاف الظاهر المقصود من سوق الكلام والأمر كما قال لو كان كما فعل فلا تغفل ولا يخفى أن في الأتيان بلا أو لا وحذف جواب القسم والأتيان بقوله سبحانه أيحسب ورعاية أسلوب
وثناياك أنها أغريض
في القسم بيوم البعث والمبعوثفيه ثم إيثار لفظ الحسبان والأتيان بهمزة الإنكار مسندا إلى الجنس وبحرف الإيجاب والحال بعدها من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه وتهجين المعرض على الأستعداد له مات بهر عجائبه ثم الحسن كلالحسن في ضمن حرف الأضراب في قوله سبحانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه وهو عطف على أيحسب جيء للأضراب عن إنكار الحسبان إلى الأخبار عن حالا لأنسان الحاسب بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من الأول كأنه قيل دع تعنيفه فأنه أشط من ذلك وأنى يرتدع وهو يريد نيدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه أو هو عطف على يحسب منسحبا عليه الأستفهام أو على أيحسب مقدرا فيه ذلك أي بل أريد جيء به زيادة أنكار في إرادته هذه وتنبيها على أنها أفظع من الأول للدلالة على أن ذلك الحسبان بمجرده إراة الفجور كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد أيحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتكلموا فيه لم تقل هذا إلا وأن تمترق في الأنكار منزل عبثهم منزلة إرادة التملك وعدم العبء بمكان الأمير وإلى هذين الوجهين أشار جار الله على ما قرر في الكشف والوجه الول أبلغ لأن هذا على الترقي والأول إضراب عن الأنكار وأيهام أن الأمر أطعم من ذلك وأطعم وفيهما أيماء إلى أن ذلك الأنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغلب واعتبر الدوام في ليفجر لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر في المستقبل على أنه حسبانه وإرادته هما عين الفجور وقيل لأن إمامه ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الأستمرار وفي إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح ما ارتكبه وإن الأنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير أمامه على هذا المظهر هو الأظهر وعن ابن عباس ما يقتضي عوده علىيوم القيامة والأول هو الذي يقتضيه كلام كثير من السلف لكنه ظاهر في عموم الفجور قالمجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي في الآية أن الأنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا لتوبته وهو حسن لا يأبى ذلك الأضراب وفيه إشارة إلى أن مفعول يريد محذوف دل عليه ليفجر وقال بعضهم هو منزل منزلة اللام ومصدره مقدر بلام الأستغراق أي يوقع جميع إرادته ليفجر وعن الخليل وسيبويه ومن تبعهما فيمثله أن الفعل مقدر بمصدر مرفوع بالأبتداء وليفعل خبر فالتقدير هنا بل إرادة الأنسان كائنة ليفجر يسئل سؤ الاستهزاء أيان يوم القيامة أي متى يكونو الجملة قيل حال وقيل تفسير ليفجر وقيل بدل منه واختار المحققون أنه استئناف بياني جيء به تعليلا لأرادة الدوام على الفجور إذ هو في معنى لأنه أنكر البعث واستهزأ به وفيه أن من أنكر البعث لا محالة يرتكب أشد
(29/138)

الفجور وطرف من قوله تعالى هيهات لما توعدون أنهي إلا حياتنا الدنيا فإذا برق البصر تحير فزعا من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ومنه قول ذي الرمة ولو أن لقمان الحكيم تعرضت
لعينيه مي سافراكاد يبرق ونظيره قمر الرجل إذا نظر إلى القمر فدهش بصره وكذلك ذهب وبقر للدهش من النظر إلى الذهب والبقر فهو استعارة أو مجاز مرسل لاستعماله في لازمه أو في المطلق وقرأ نافع وزيد بن ثابت وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب وكلاهما عن أبيعمرو وخلق آخرون برق بفتح الراء فقيل هي لغة في برق بالكسر وقيل هو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه وقرأ أبو السمالبلق باللام عوض الراء أي انفتح وانفرج يقال بلق الباب أبلقته وبلقته فتحته هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول بلقه وأبلقه إذا أغلقه وخطأه ثعلب وزعم بعضهم أنه من الأضداد والظاهر أن اللام فيه أصلية وجوز أن تكون بدلا من الراء فهما يتعاقبان في بعض الكلم نحو نتر ونتل ووجر ووجل وخسف القمر ذهب ضوءه وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي ويزيد بن قطيب خسف القمر على أن البناء للمفعول وجمع الشمس والقمر حيث يطلعهما الله تعالى من المغرب على ما روي عن ابن مسعود ولا ينافيه الخسوف إذ ليس المراد مصطلح أهل الهيئة وهو ذهاب نور القمر لتقابل الثيرين وحيلولة الأرض بينهما بل ذهاب نوره لتجل خاص في ذلك اليوم أو لاجتماعه مع الشمس وهو المحاق وجوز أن يكون الخسوف بالمعنى الأصطلاحي ويعتبر في وسط الشهر مثلا ويعتبر الجمع في آخره إذ لا دلالة على اتحاد وقتيهما في النظم الجليل وأنت تعلم أن هذا خسوف يزري بحال أهل الهيئة ولا يكاد يخطر لهم ببال كالجمع المذكور وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء ابن يسار قال يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى وتوسعة البحر أو تصغيرهما مما لا يعجز الله عز و جل وأحوال يوم القيامة على خلاف النمط الطبيعي وحوادثه أمور وراء الطبيعة فلا يقال أين البحر من جرم القمر فضلا عن جرم الشمس الذي هو بالنسبة إليها كالبعوضة بالنسبة إلى الفيل ولا كيف يجمعان ويقذفان وقيل يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس يجمعان في نور الحجب وقيل يجمعان ويقربان فيلحقهم العرق لشدة الحر وقيل جمعا في ذهاب الضوء وروي عن مجاهد وهو اختيار الفراء والزجاج فالجمع مجاز عن التساوي صفة وفيه بعد إذ كان الظاهر عند إرادة ذلك أن يقال من أول الأمر وخسف الشمس والقمر ولا غبار في نسبة الخسوف إليهما لغة وكذا الكسوف ولم يلحق الفعل علامة التأنيث لتقدمه وكون الشمس مؤنثا مجازيا وفي مثله يجوز الأمران وكان اختيارك ترك الألحاق لرعاية حال القمر المعطوف وقال الكسائي إن التذكير حمل على المعنى والتقدير جمع النوران أو الضياآن وليس بذاك يقول الإنسان يومئذ يوم إذ تقع هذه الأمور أين المفر أي الفرار يأسا منه وجوز أبقاؤه على حقيقة الأستفهام لدهشته وتحيره وقرأ الحسن ريحانة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحسن بن زيد وابن عباس ومجاهد وعكرمة وجماعة كثيرة المفر بفتح الميم وكسر الفاءاسم مكان قياسي من يفر بالكسر أي أينموضع الفرار وجوز أن يكون مصدرا أيضا كالمرجع وقرأ الحسن البصري بكسر الميم وفتح الفاء ونسبتها ابن عطية للزهري أي الجيد الفرار وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ومنه قوله مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل واختلف في هذا اليوم فالأكثرون على أنه يوم القيامة وهو المنصور وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال فإذا برق البصر عند الموت والأحتضار وخسف القمر وجمع الشمس والقمر أي كور يوم القيامة وجوز أن يكون الأخيران
(29/139)

عند الموت أيضا ويفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر منه وجمع الشمس والقمر باستتباع الروح حاسة البصر في ذالهاب والتعبير بالشمس عن الروح وبالقمر عن حاسة البصر على نهج الأستعارة فأن نور البصر بسبب الروح كما أن نور القمر بسبب الشمس أو يفسر الخسوف بما سمعت وجمع الشمس والقمر بوصول الأنسانية إلى من كانت تقتبس منه نور العقل وهم الأرواح القدسية المنزهة عن النقائص فالقمر مستعار للروح والشمس لسكان حظيرة القدس والملأ الاعلى لأن الروح تقتبس منهم الأنوار اقتباس القمر من الشمس ووجه الأتصال بما قبل على جعل الكل عند الموت أنه إذ ذاك ينكشف الأمر للأنسان فيعلم على أتم وجه حقيقة ما أخبر به وأنت تعلم أن هذا على علاته أقرب إلى باب الأشارة على منزع الصوفية وإذا فتح هذا الباب فلا حصر فيما ذكر من الاحتمال عند ذوي الألباب كلا ردع عن طلب المفر وتمنيه لا وزر لا ملجأ وأصله الجبل المنيع وقد كان مفرا في الغالب لفرار العرب واشتقاقه من الوزير وهو الثقل ثم شاع وصار حقيقة لكل ملجأمن جبل أو حصن أو سلاح أورجل أو غير ذلك ومنه قوله لعمرك ما للفتى من وزير
من الموت يدركه والكبر إلى ربك يومئذ المستقر أي إليه جل وعلا وحده استقرار العباد أي لا ملجأ ولا منجي لهم غيره عز و جل أو إلى حكمه تعالى استقرار أمرهم لا يحكم فيه غير سبحانه أو إلى مشيئته تعالى موضع قرارهم من جنة أو نار فمن شاء سبحانه أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار فتقديم الخبر لأفادة الأختصاص واختلف وجهه حسب اختلاف المراد بمستقر وكلا لا وزر يحتمل أن يكون من كلامه تعالى يقال للقائل أين المفر يوم يقوله أو هو مقول اليوم على معنى ليرتدع عن طلب الفرار وتمنيه ذلك اليوم ويحتمل أن يكون من تمام قول الأنسان كأنه بعد أن يقول أين المفر يعود على نفسه فيستدرك ويقول كلا لا وزر وأيا ما كان فالظاهر أن قوله تعالى إلى ربك يومئذ المستقر استئناف كالتعليل للجملة قبله أو تحقيق وكشف لحقيقة الحال والخطاب فيه لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يحسن أن يكون من جملة ما يخاطب به القائل ذلك اليوم ولا مما يقوله لنفسه فيه لمكان يومئذ وفي البحر الظاهر أن قوله تعالى كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر من تمام قول الأنسان وقيل هو من كلام الله تعالى لا حكاية عن الأنسان انتهى وفيه بحث وجوز أن تكون كلا بمعنى ألاالأستفتاحية أو بمعنى حقا فتأمل ولا تغفل ينبؤ الإنسان أي يخبر يومئذ وذلك على ما عليه الأكثر عند وزن الأعمال بما قدم أي بما عمل من عمل خيرا كان أو شرا فيثاب بالأول ويعاقب على الثاني وأخر أي ترك ولم يعمل خيرا كان أو شرا فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر ما سنه من حينة أو سيئة يعمل بها بعده أخرج ذلك ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن ابن مسعود وهو رواية عن ابن عباس وقال زيد بن أسلم بما قدم من ماله لنفسه فتصدق به في حياته وبما أخر منه للوارث وزيد أو وقفه أوأوصى به وقالمجاهد والنخعي بأول عمله وآخره وأخرج ابن جرير عن ابن عباس بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة وأخرج نحوه عن قتادة وعبد بن حميد نحوه أيضا عنعكرمة وعليه فالظاهر أنه عني بالأنسان الفاجر وفصل هذه الجملة عما قبلها لاستقلال كل منها ومنقوله تعالى يقول الخ في الكشف عن شدة الأمر أو عن سوء حالالأنسان بل الإنسان على نفسه بصيرة أي حجة بينة واضحة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأعمال السيئة كما يؤذن به كلمة علي والجملة الحالية بعد فالأنسان مبتدأ وعلى نفسه متعلق ببصيرة بتقدير أعمال أو المعنى عليه من غير تقدير وبصيرة خبر وهي مجاز
(29/140)

عن الحجة البينة الواضحة أو بمعنى بينة وهي صفة لحجة هي الخبر وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها بصير بها فالأسناد مجازي أو هي بمعنى دالة مجاز او جوز أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية والتأنيث للمبالغة أو لتأنيث الموصوف أعني حجة وقيل ذلك لأرادةالجوارح أي جوارحه على نفسه بصيرة أي شاهدة ونسب إلى القتبي وجوز أن يكون التقدير عين بصيرة وإليه ذهب الفراء وأنشد : كأن على ذي العقل عينا بصيرة
بمجلسه أو منظر هو ناظره يحاذر حتى يحسب الناس كلهم
من الخوف لا يخفي عليهم سرائره وعليه قيل الأنسان مبتدأ أول وبصيرة بتقدير عين بصيرة مبتدأ ثان وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول واختار أبو حيان أن تكون بصيرة فاعلا بالجار والمجرور وهو الخبر عن الأنسان وعمل بالفاعل لاعتماده على ذلك وأمرالتأنيث ظاهر وبل للترقي على الوجهين إرادة حجة بصيرة وإرادة عين بصيرة والمعنى عليهما ينبئو الأنسان بأعماله بل فيه ما يجزي عن الأنباء لأنه عالم بتفاصيل أحواله شاهد على نفسه بما عملت لأن جوارحه تنطق بذلك يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وفي كلا الوجهين كما قيل شائبة التجريد وهي في الثاني أظهر وقوله تعالى ولو ألقى معاذيره أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه حال من المستكن في بصيرة أو من مرفوع ينبؤ أي هو على نفسه حجة وهو شاهد عليها ولو أتى بكل عذر في الذب عنها ففيه تنبيه على أن الذب لا رواج له أو ينبؤ بأعماله ويجازي ويعاقب لا محالة ولو أتى بكل عذر فهو تأكيد لما يفهم من مجموع قوله تعالى ينبؤ الأنسان الخ والمعاذير جمع معذرة العذر على خلاف القياس والقي اسمعا ذر بغير ياه وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع كعادته في إطلاق ذلك على المجموع المخالفة للقياس وإلا فهو ليسمن أبنية اسم الجمع وقال صاحب الفرائد يمكن أن يقال الأصل فيه معاذر فحصلت الياء من إشباع الكسرة وهو كما ترى أو جمع معذار على القياس وهو بمعنى العذر وتعقب بأنه بهذا المعنى لم يسمع من الثقات نعم قال السدي والضحاك المعاذير الستور بلغة اليمن واحدها معذار وحكى ذلك عن الزجاج أي ولو أرخى ستوره والمعنى أن احتجابه في الدنيا واستتاره لا يعني عنه شيئا لأن عليه من نفسه بصيرة وفيه تلويح إلى معنى قوله تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم الآية وقيل البصيرة عليه الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر فالمعنى بل الأنسان عليه كاتبان يكتبان أعماله ولو ذتستر بالستور ولا يكون في الكلام على هذا شائبة تجريد كماتقدم والإلقاء على إرادة الستور ظاهر وأما على إرادة الأعذار فقيل شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للأستقاء به فيكون فيه تشبيه ما يراد بذلك بالماء المروي للعطش ويشير إلى هذا قول السدي في ذلك ولو أدلى بحجة وعذر وقيل المعنى ولو رمى بأعذاره وطرحها واستسلم وقيل ولوأحال بعضهم على بعض كما يقول بعضهم لبعض لو لا أنتم لكنا مؤمنين ولو على جميع هذه الأقوال إما أن يكون معنى الشرطية منسلخا عنها كما قيل فلا جواب لها إن يكون باقيا فيها فالجواب محذوف يدل عليه ما قبلواستظهر الخفاجي الأول وفي الآية على بعض وجوهها دليل كما قال ابن العربي على قبول إقرار المرء على نفسه وعدم قبول الرجوع عنه والله تعالى أعلم أخرج الأمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وعبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي معافي الدلائل وجماعة عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وضفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى لا ترك به لسانك الخ فكانر صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق وفي
(29/141)

لفظ استمع فإذا ذهب قرأه كما وعد الله عز و جل فالخطاب في قوله تعالى لا تحرك به لسانك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير للقرآن لدلالة سياق الآية نحو إناأنزلناه في ليلة القدر أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي من قبل أن يقضي إليك وحيه لتعجل به أي لتأخذه على عجلة مخافة أي ينفلت منك على ما يقتضيه كلام الحبر وقيل لمزيد حبك له وحرصك على أداء الرسالة وروي عن الشعبي ولا ينافي ما ذكر والباء عليهما للتعدية إن علينا جمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وقرآنه أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت فالقرآن هنا وكذا فيما بعد مصدرك الرجحان بمعنى القراءة كما في قوله ضحوا باشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا مضاف إلى المفعول وثم مضاف مقدر وقيل قرآنه أي تأليفه والمعنى إن علينا جمعه أي حفظه في حياتك وتأليفه على لسانك وقيل قرآنه تأليفه وجمعه على أنه مصدر قرأت أي جمعت ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد ما قرأت سلي قط وقول عمرو بن كلثوم ذراعي بكرة أدماء بكر
هجان اللون لمتقرأ جنينا ويراد من جمعه الأول جمعه في نفسه ووجوه الخارجي ومن قرآنه بهذا المعنى جمعه في ذهنه صلى الله تعالى عليه وسلم وكلا القولين لا يخفى حالهما وإن نسب الأول إلى مجاهد فإذا قرأناه أن أتم منا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام المبلغ عنافا فالأسناد مجازي وفي ذلك مع اختيار نونالعظمة مبالغة في إيجاب التأتي فاتبع قرآنه فكن مقفيا له لا مباريا وقيل أي فإذا قرأناه فاتبع بذهنك وفكر كقرآنه فاستمع وأنصت وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس وعنه أيضا وعن قتادة والضحاك أي فاتبع في الأمر والنواهي قرآنه وقيل اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك ثم إن علينا بيانه أي بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه على ما قيل واستدل به القاضي أبو الطيب ومن تابعه على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لمكان ثم وتعقب بأنه يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل وقد صح من رواية الشيخين وجماعة عن الخبر أنه قال في ذلك ثم إن علينا أننبينه بلسانك في لفظ علينا أن تقرأه ويؤيد ذلك أن المراد بيان جميع القرآن والمجمل بعضه كلا إرشاد لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخذ به عن عادةالعجلة وترغيب له عليه الصلاة و السلام في الأناة وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه قوله تعالى بلتحبون العاجلة وتذرون الآخرة تعميم الخطاب للكل كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لماخلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذاتحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك لأن عادة بني آدم الأستعجال ومحبة العاجلة وفيه أيضا أن الأنسان وإن كان مجبولا على ذلك إلا أن مثله عليه الصلاة و السلام منه و في أعلى منصب النبوة لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية وأنه إذا انتهى ص - عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ودينهم حب العاجلة وطلب الردى كأنهم نزلوا منلا ينجع فيهم النهي فإنما يعابت الأديم ذو البشرة ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه بل يريد الأنسان ليفجر أمامه فإنه ملوح إلى معنى بل تحبون الخ وقوله عز و جل لا تحرك الخ متوسط بين حبي العاجلة حبها الذي تضمنه بل يريد تلويحا وحبها الذي آذن به بل تحبون تصريحا لحسن التخلص منه إلى المفاجأة والتصريح ففي ذلك تدرج ومبالغة في التقريع والتدرج وإن كان يحصل لو
(29/142)

لم يؤت بقوله سبحانه لا تحرك الخ في البين أيضا إلا أنه يلزم حينئذ فوات المبالغة في التقريع وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن وهو شفاء ورحمة فكيف فيما هو فجور وثبور ويزول ما أشير إليه من الفوائد فهو استطراد يؤدي مؤدى الأعتراض وأبلغ وأطلق بعضهم عليه الأعتراض وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد والحسن وقتادة والجحدري يحبون ويذرون بباءالغيبة فيهما وأمر الربط عليها كما تقدم وهي أبلغ من حيث أن فيها التفاتا وأخراجا له عليه الصلاة و السلام منصريح الخطاب بحب العاجلة مضمنا طرفا من التوبيخ على سبيل الرمز لطفا منه تعالى شأنه في شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وأما القراءة بالتاء ففيها تغليب المخاطب والألتفات وهو عكس الأول هذا خلاصة ما رمز إليه جار الله على ما أفيد وقد اندفع به قول بعض الزنادقة وشرمذة من قدماء الرافضة أنه لا وجه لوقوع لا تحرك به لسانك الخ في أثناء أمور الآخرة ولا ربط في ذلك بوجه من الوجوه وجعلوا ذلك دليلا لما زعموه من أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه وللعلماء حماة المسلمين وشهب سماء الدين في دفع كلام كثير منه ما تقدم وللأمام أوجه فيه منها الحسن ومنها ما ليس كذلك بالمرة وقال الطيب بأن قوله تعالى كلا بل تحبون العاجلة متصل بقوله تعالى ولو ألقى معاذيره أي يقال للأنسان عند إلقاء معاذيره كلا إن أعذارك غير مسموعة فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والأعراض عن الآخرة وكان من عادة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع جبريل عليه السلام القراءة وقد أنفق عند التلقين للآيات السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى ولو ألقى معاذيره أوحي إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه عليه الصلاة و السلام ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على سبيل الأستطراد ثم عاد إلى تمام ما كان فيه بقوله تعالى كلا بل تحبون الخمثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درسا أو يلقن إليه فصلا ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطر بيقول له لا تعجل ولا تضطرب فإني إذ فرغت أن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف فوتا فأنا أحفظه ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتممه انتهى فما في البين مناسب لما وقع في الخارج دون المعنى الموحي به وخصه بعضهم لهذا بالأستطراد وأطلق آخر عليه الأعتراض بالمعنى اللغوي وهذا عندي بعيد لميتفق مثله في النظم الجليل ولا دليل لمن يراه على وقوع العجلة في أثناء هذه الآيات سوى خفاء المناسبة وقال أبو حيان يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته علىالفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على آيات الله تعالى وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها
وبضدها تتبين الأشياء
انتهى وفيه أن هذا إنما يحسن بعد تمام ما يتعلق بذلك المنكر والظاهر أن لا تحرك الخ وقع في البين وقال القفال قوله تعالى لا تحرك الخ خطاب للأنسان المذكور في قوله تعالى ينبؤ الأنسان وذلك حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا فإذا أخذ فيالقراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قراءته بالأقرار بأنك فعلت تلك الأفعال أو التأمل فيه ثم إن علينا بيانه أي بيان أمره وشرح عقوبته والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة انتهى فضمير به وكذاالضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى ينبؤ الأنسان بما قدم وأخر وكذا قوله تعالى بل
(29/143)

الأنسان على نفسه بصيرة على قول من تفسر البصيرة بالكتابين ولعل الجملة على هذا الوجه في موضع الحال من مرفوع ينبؤ بتقدير القول كأنه قيل ينبؤ الأنسان يومئذ عند أخذ كتابه بما قدم وأخر مقولا له لا تحرك به لسانك الخ فالربط عليه ظاهر جدا ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له ص - والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر منه عليه الصلاة و السلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية وقال الإمام لعل ذلك الأستعجال إن كان مأذونا فيه عليه الصلاة و السلام إلى وقت النهي وكأنه أراد بالأذن الأذن الصريح المخصوص وفيه بعدما وعن الضحاك أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل لا تحرك به الخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده ثم أنه ربما يتخيل في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضا وهو أنه يكون الخطاب في لا تحرك الخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل من يصلح له وضمير به ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت السورة بعظامهما يتعلق قوي داعي السؤال عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما استشعر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل لا تحرك به أي بطلب توقيته لسانك وهو نهي عن السؤال على أتموجه كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان لتعجل به لتحصل علمه على عجلة إن علينا جمعه ما يكون فيه من الجمع وقرآنه ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن فإذا قرأناه ما يتعلق به فاتبع قرآنه بالعمل بما يقتضيه من الأستعداد له ثم إن علينا بيانه إظهاره وقوعا بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى وحاصله لا نسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلا معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فأذا سأل تفقد سألت ما ينافيها فلا تجاب انتهى وفيه ما فيه وما كنت أذكره لو لا هذا التنبيه واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولي جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر على فضل الله عز و جل ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يصير إلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل وجوه يومئذ ناضرة أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها نضرة النعيم على أن وجوه مبتدأ وناظرة خبره ويومئذ منصوب بناظرة وناظرة في قوله تعالى إلى ربها ناظرة خبر ثان للمبتدأ أو نعت لناضرة وإلى ربها متعلق بناظرة وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل كما في قوله فيوم لنا ويوم علينا
ويوم نساء ويوم نسر لا على أن النكرة تخصصت بيومئذ كما زعم ابن عطية لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثث ولا على أن ناضرة صفة لها والخبر ناظرة كما قيل لما أن المشهور الغالب كون الصفة معلومة الأتتساب إلى الموصوف عند السامع وثبوت النظرة للوجوه ليس كذلك فحقه أن يخبر به نعم ذكر هذا غير واحد احتمالا في الآية وقال أبو حيان هو قول سائغ ومعنى كونها ناظرة إلى ربها أنها تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهده تعالى على ما يليق بذاته سبحانه ولا حجر على الله عز و جل وله جل وعلا لتنزه الذاتي التام
(29/144)

في جميع تجلياته واعترض بأن تقديم المعمول يعني إلى ربها يفيد الأختصاص كما في نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى وحيث كان الأختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم لا يتمحض للأختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والأهتمام قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لا لتفات ما سواه جل جلاله فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم وفي حديث جار الله وقد رواه ابن ماجه فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ومن هنا قيل فينسون النعيم إذا رأوه
فيا خسران أهل الأعتزال وكثيرا ما يحصل محو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء من جميع المون فلما استبان الصبح أدرج ضوءه
بأسفاره أنوار ضوء الكواكب وقيل الكلام على حذف مضاف أي ملك أو رحمة أو ثواب ربها ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى الأنتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة وتعقب بأن الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي مردود في محله وبأن النظر بمعنى الأنتظار لالا يتعدى بإلى بل بنفسه لا بسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو يأتي إرادة الذات من الوجه وتفصي الشريف المرتضي في الدرر على بعض هذا بأن إلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به لناظره بمعنى منتظرة فيكون الأنتظار قد تعدى بنفسه وفيه من البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر بمعنى الأنتظار ليتعقب عليه بما تعقب بل أراد أن النظر بالمعنى النتعارف كناية عن التوقع والرجاء فالمعنى عنده أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه سبحانه وتعالى ويرد عليه أنه يرجع إلى إرادة الأنتظار لكن كناية والأنتظار لا يساعده المقام إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الأنتظار موت أحمر و الذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدار قطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أدنى أهل الجنة منزلة لم ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فهو تفسير منه عليه الصلاة و السلام ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين ومثل هذا فيما ذكر ما أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي ص - أقرأه وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فقال والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطمعون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه فينظرون إليه وينظر إليهم عز و جل وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز و جل وأنشدوا
(29/145)

وكنا حسبنا أن ليلى تبرقعت
وأن حجابا دونها يمنع اللثما فلاحت فلا والله ما ثم حاجب
سوى أنطرفي كان عن حسنها أعمى ثم إن أجهل الخلق عندهم المعتزلة وأشدهم عمى وأدناهم منزلة حيث أنكروا صحة رؤية من لا ظاهر سواه بل لا موجود على الحقيقة إلا إياه وأدلة إنكارهم صحة رؤيته تعالى مذكورة مع ردودها في كتب الكلام وكذا أدلة القوم على الصحة وكأني بك بعد الأحاطة وتدقيق النظر تميل إلى أنه سبحانه وتعالى يرى لكن لا من حيث ذاته سبحانه البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعشعاني الذي لا يطاق وقرأ زيد بن علي وجوه يومئذ نضرة بغير ألف ووجوه يومئذ باسرة أي شديدة العبوس وباسل أبلغ من باسر فيما ذكر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتدت كلوحته فعدل عنه لإيهامه غيرالمراد وعني بهذه الوجوه وجوه الكفرة تظن أن يفعل بها فاقرة أي داهية عظيمة تقصم فقار الظهر من فقره أصاب فقاره وقال أبو عبيدة فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار وفاعل نظن ضمير الوجوه بتقدير مضاف أي تظن أربابها وجوز أن يكون الضمير راجعها إليها على أن الوجه بمعنى الذات استخداما وفيه بعد والظن قيل أريد به اليقين واختاره الطيبي وإن المصدرية لا نقع بعد فعل التحقيق الصرف دون فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتقع بعده كالمشددة والمخففة على ما نص عليه الرضي وقيل هو على معناه الحقيقي المشهور والمراد تتوقع ذلك واختاره من اختاره ولا دلالة فيه بواسطة التقابل على أن يكون النظر ثم بالمعنى المذكور كما زعمه من زعمه وتحقيق ذلك أن ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب سبحانه لكون ذلك غاية النعمة وهذا غاية النقمة وجيء بفعل الظن ههنا دلالة على أن ما هم فيه وأن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبدا وذلك لأن المراد بالفاقرة ما لا يكننه من العذاب فكل ما يفعل به من أشده استدل منه على آخر وتوقع أشد منه وإذا كان ظانا كان أشد عليه مما إذاكان عالما موطنا نفسه على الأمر على أن العلم بالكائن واقع لا بما يتجدد آنا فآنا فهذا وجه الأتيان يؤت في المقابل بفعل ظن أو علم لأنه موصلوا إلى ما لا مطلوب وراءه وذاقوه ثم بعد ذلك التفاوت في ذلك النظر قوة وضعفا بالنسبة إلى الرائي على ما قرره فلعل هذا حجة على الزاعم لا له أسبغ الله علينا برؤيته فضله كلا ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي تنقطع عنده مابينكم وبين العاجلة من العلامة إذا بلغت أي النفس أو الروح الدالعلى سياق الكلام كما في قول حاتم أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى
إذا حشر جت يوما وضاق بها الصدر ونحو قول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يقولون أرسلت السماء نعم قد يصرح فيما هنا بالفاعل فيقال بلغت النفس التراقي أي أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة وأنشدوا لدريد بن الصمة ورب عظيمة رافعت عنهم
وقد بلغت نفوسهم التراقي وقيل من راق أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية وهي ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ومنه آيات الشفاء ولعلة أريد به مطلق الطبيب أعم من أن يطبب القول أو بالفعل وروي عن ابن عباس والضحاك وأبو قربة وقتادة ما هو ظاهر فيه والأستفهام عند بعض حقيقي وقيل هو استفهام استبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه كما يقال عند اليأس من ذا الذي يقدر أني رقى هذا المشرف على الموت وروى
(29/146)

ذلك عن عكرمة وابن زيد وقيل هو من كلام ملائكة الموت أي أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي وهو العروج وروي هذاعن ابن عباس أيضا وسليمانالتيميوالأستفهام عليه حقيقي وتعقب بأناعتبار ملائكةالرحمة يناسبقولهتعالىفلا صدقالخ ودفع بأن الضمير للأنسان والمراد به الجنس والأقتصار بعد ذلك على أحوال بعض الفريقين لا ينافيالعمومفيما قبل ووقف حفص رواية عن عاصم على من وابتدأ راق وأدغم الجمهور قال أبو عليلا أدري ما وجهقراءته وكذلك قرأبلران وقال بعضهمكأنه قصد أن لا يتوهم أنهاكلمة واحدةفسكت سكتة لطيفة ليشعر أنهماكلمتان وإلا فكان ينبغي أن يدغم في منراقفقد قال سيبويه إن النون تدغمفي الراء وذلكنحومن راشد والإدغامبغتةغنةولم يذكر الإظهار ويمكن أن يقال لعلالإظهاررأيكوفيفعاص شيخ حفص يذكر أنه كانعالما بالنو وأمابل ران فقد ذكر سيبويه في ذلك أيضا أن إظهاراللاموإدغامها مع الراءحسنان فلعل حفصالما أفرط في إظهارالإظهار فيهصار كالوقف القليل واستدلبقولهتعالىإذا بلغت التراقي على أن النفسجسم لا جوهرمجرد إذ لا يتصفبالحركة والتحيز وأجاب بعض بأن هذه النفسالمسند إليها بلوغالتراقي هيالنفسالحيوانية لا الروحالأمريةوهي الجوهر المجرد دون الحيوانية وآخر بأنالمراد ببلوغها التراقي قربانقطاع التعلق وهويتصف بهالمجرد إذ لا يستدعيحركةولا تحيزاولا نحوهما مما يستحيل عليه وزعم أنهلا يمكنإرادة الحقيقة ولو كانت النفس جسماضرورة أنبلوغها التراقي لا يتحقق إلا بعد مفارقتها القلب وحينئذ يحصل الموت ولايقال من راق كما هو ظاهرعلى الوجهالأولفيه ولايتأنىأيضاما يذكر بعد علىما ستعلمه إن شاء الله تعالى فيه والذي عليهجمهورالأمة سلفا وخلفا إن النفسوهي الروح الأمرية جسم لطيف جداألطفمن الضوء عند القائلبجسميته والنفسالحيوانية مركب لهاوهي سارية في البدن نحو سريان ماءالورد في الورد والنار فيالفحم وسريانالسيال الكهربائيعند القائلبه في الأجسام والأدلةعلى جسميتهاكثيرة وقد استوفاهاالشيخ ابن القيمفي كتابالروحوأتى فيهبالعجب ثم الظاهر أن المراد ببلوغالتراقي مشارقةالموتوقربخروجال البدن سلمتالضرورة التي في كلامذلكالزاعمأم لم تسلملقوله تعالى وقيلمن راق وظن أنه الفراق أي وظن الأنسان المحتضر أن ما نزل به الفراق من حبيبته الدنيا ونعيمهاوقيل فراق الروح الجسد والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقينقال الأمام ولعلهإنماسمي اليقين ههنا بالظن لأنالأنسان ما دامتروحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤهعنها فلا يحصل له يقين الموتبل الظن الغالبمع رجاء الحياة أو لعله سماهبالظنعلى سبيل التهكم والتفتالساقبالساق أيالتفت ساقه بساقه والتوتعليها عند هلع الموتوقلبه كماروي عن الشعبيوقتادة وأبي مالكوقال الحسن وابن المسيبهما ساقا الميت عندما لفا في الكفن وقيل المراد بالتفافهما انتهاء أمرهما وما يراد فيهما يعنيموتهماوقيليبسهما بالموت وعدم تحرك أحدهما عن الأخرى حتى كأنهما ملتفان فهماأولما يخرج الروح منه فتبردان قبل سائر الأعضاء وتيبسان فالساق بمعناها الحقيقيوأل فيها عهدية أو عوض عن المضاف إليه وقالابن عباسوالربيع ابن أنس وإسماعيلبن أبيخالد وهو رواية عن الحسن أيضا التفتشدة فراقالدنيابشدةإقبال الآخرةواختلطتا ونحوه قول عطاء اجتمع عليه شدة مفارقة المألوفمنالوطن والأهلوالولد والصديقوشدةالقدومعلىر شأنهلا يدريبماذا يقدم عليه فالساق عبارة عن الشدةوهومثل في ذلك والتعريفللعهد وأخرج عبد بن حميد وابن جريرعن الضحاك التفت أسوق حاضريه مع الإنس والملائكة هؤلاء يجهزون
(29/147)

بدنه إلى القبر وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء فكأنهم للأختلاف في الذهاب والأياب والتردد في الأعمال قد التفت أسوقهم وهذاالألتفافعلى حد اشتباك الأسنة إلى ربكيومئذ المساق أي إلى اللهتعالىوحكمه سوقهلا إلى غيره على أن المساق مصدرميمي كالمقالوتقديمالخبر للحصر والكلام على تقدير مضاف هو حكموقيل هوموعد والمراد به الجنة والناروقيل هناك مضافمقدر على أن الرب جل شأنههو السائقأي سوق هؤلاء مفوضإلى ربكلا إلى غيره والظاهر ما تقدم ثم إن كان هذا في شأنالفاجرأو فيمايعمه والبر يراد بالسوق السوق المناسبللمسوق وهذه الآية لعمري بشارة لمنحسن ظنه بربه وعلم أنهالربالذيسبقت رحمته على غضبه قالواغدا نأتي ديار الحمى
وينزلالركببمغناهم فقلت لي ذنبفماحيلتي
بأي وجهأتلقاهم قالواأليسالعفو من شأنهم
لا سيماعمنترجاهم ثم إن الجواب إذ محذوفدل عليه ما ذكر أي كان ماكان أو انكشف للمرء حقيقة الأمر أو وجد الأنسانما عملهمن خير أو شر فلا صدق أيما يجبتصديقهمن اللهDوالرسولصص والقرآنالذي أنزل عليه ولا صلى ما فرض عليه أي لم يصدق ولم يصل فلا داخلة على الماضي كمافي قوله أنتغفر اللهمتغفر جما
وأيعبد لك لا ألما والضمير في الفعلين للإنسان المذكور في قوله تعالى أيحسب الإنسان والجملة عطف على قوله سبحانه يسأل أيانيوم القيامة على ما ذهب إليه الزمخشري فالمعنى بناء على ما علمت منأن السؤالاستهزاءواستبعاد استبعد البعث وأنكره فلم يأت بأصل الدين وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأهمفروعه وهو الصلاة ثم أكد ذلك بذكر ما يضاده بقوله تعالى ولكن كذبوتولى نفيالتوهمالسكو أو الشك أي ومع ذلك أظهرالجحود والتوليعن الطاعة ثم ذهب إلى أهله يتمطى يتبختر افتخارا بذلك ومن صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله تعالىبهفيمشي خائفا متطامنا لا فرحا متبخترا فثم للأستبعاد ويتمطىمن المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكونأصله يتمطط قلبت الطاءفيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال كما قالوا تظنيمن الظن وأصله تظننأو منالمطا وهوالظهرفإن المتبختريلويمطاه تبخترا فيكونمعتلابحسبالأصلو الحديث إذامشتأمتي المطيطاء وخدمتهمفارسوالروم فقد جعل بأسهمبأنهموسلط شرارهمعلى خيارهم وجعل الطيبيعطفهذه الجملة للتعجب على معنى يسأل أيان يوم القيامةوما استعد له إلا يوجب دماره وهلاكه وقال إن قوله تعالى فإذابرق البصر الخ جواب عن السؤال أقحمبين المعطوف والمعطوف عليه لشدةالأهتمام وإن قوله سبحانه لا تحركالخ استطراد على ما سمعت وجعل صدق من التصديق هو المروي عن قتادة وقالقوم هو من التصديقفلا صدقماله ولا زكاه قال أبو حيان وهذاالذييظهر نفي عنهالزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب كمافي قوله تعالى قالوالم نكمن المصلين ولمنك نطعم المسكين وكنانخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين وحمله على نفي التصديقيقتضيأنيكون ولكن كذب تكرارا ولزمأن يكوناستدراكا بعدولا صلى لا بعد فلا صدق لأنهمامتوافقانوفيه نظر يعلم مماقررناه ثم أنهاستبعد العطفعلى قولهتعالىيسأل الخ وذكر أن الآية نزلت في أبي جهل وكادت تصرحبه في قوله تعالى يتمطىفإنهاكانتم قومه بني مخزوم وكان
(29/148)

يكثر منها ولم يبين حال العطف على هذا وأنت تعلم أن العطف لا يأبى حديثالنزول في أبيجهل وقد قيل أنقولهتعالى أيحسب الإنسان أنلننجمع عظامه مازلفيه أيضاوالحكمعلى الجنس بأحكام لا يضر فيه تعين بعض أفرادهفي حكم منها نعم لا شك في بعد هذاالعطف لفظا لكنفي بعده معنىمقالولعل فيمابعد ما يقويجانبالعطفعلى ذلك أولى لك فأولى من الولي بمعنى القرب فهو للتفضيلفي الأصل غلب فيقربالهلاكودعاءالس كأنه قيل هلاكاأولى لك بمعنىأهلكك الله تعالى هلاكاأقربلك من كلشروهلاكوهذ وسحقافي الهلاك وفي الصحاح عن الأصمعي قاربه ما يهلكه أينزلبه وأنشد فعادىبينهاديتينمنها
وأولىأننزيد على الثلاث أيقاربثمقالقال ثعلبولم يقل أحد في أوليأحسن مما قاله الأصمعيوعلى هذاأولى فعل مستتر فيهضميرالهلاكبقرينةال واللاممزيدةعلى ماقيل وقيلهوفعلماضدعائي منالولي أيضا إلا أن الفاعلضميره تعالىواللام مزيدة أي أولاك الله تعالى ما تكرهه أوغير مزيدةأي أدنىالله تعالى الهلاكلك وهوقريبمما ذكر عن الأصمعي وعن أبيعلي إن أولى لك علم للويل مبني على زنة أفعلمن لفظالويلعلى القلبوأصله أويل وهو غيرمنصرف للعلميةوالوزن فهو مبتدأ ولك خبرهوفيه أنالويل غير منصرف فيه ومثل يوم أيوممع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة وإن القلب على الأختلاف الأصل لا يرتكبإلا بدليلوإن علم الجنس شيء خارج عن القياسمشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه وقيل اسم فعل مبني ومعناه ويلك شر بعد شر واختار جمع أنه أفعل تفضيل بمعنى الأحسن والأحرى خبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فأولى ثم لولى لك فأولى تكرير للتأكيد وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر والظاهر أن الجملة تذييل للدعاء لا محل لها من الأعراب وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير القول كأنه قيل ثم ذهب إلى أهله يتمطى مقولا له أولى لك الخ ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وابن جرير وابم المنذر وغيرهم عن سعيد بن جبير قال سألت ابن عباس عن قول الله تعالى أولى لك فأولى أشيء قاله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به قال بل قال من قبل نفسه ثم أنزله الله تعالى واستدل بقوله سبحانه فلا صدق ولا صلى الخ على أن الكفار مخاطبون بالفروع فلا تغفل أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال إبل سدى أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت حاجتي صيعتها ولم أعتن بها قال الشاعر فأقسم بالله جهد اليمين
ما خلق الله شيئا سدى ونصب سدى على الحال من ضمير يترك وإن يترك في موضع المفعولين ليحسن والأستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه لتكرير إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث أن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل والتكليف لا يتحقق إلا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى ألم يك نطفة من مني يمنى الخ استئناف وارد لإبطال المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق وقرأ الحسن ألم تك بباء الخطاب على سبيل الألتفات وقرأ الأكثر تمنى بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها في الرحم وعلى قراءة الياء هي قراءة حفص وأبي
(29/149)

عمرو بخلاف عنه ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني ثم كان علقة أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلق أي فقدر الله عز و جل بأن جعلها سبحانه مخلقة فسوى فعدل وكمل فجعل منه أي من الإنسان وقيل من المني الزوجين أي الصنفين الذكر والأنثى بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما وقرأ زيد بن علي الزوجان بالألف على لغة بني الحرث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع حالاته أليس ذلك العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع بقادر أي قادرا وقرأ زيد يقدر مضارعا على أن يحيي الموتى وهو أهون من البدء في قياس العقل وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان على أن يحيى بسكون الياء وأنتتعلم أن حركاتها حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه وعن بعضهم يحيى بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء قال ابن خالويه لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحييي قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها لأنها حركة إعراب غير لازمة والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله تمشي بشدة فتعي يريد فتعيا وبالجملة القراءة شاذة وجاء في عدة أخبار أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال سبحانك اللهم وبلى وفي بعضها سبحانك فبلى وأخرج أحمد وأبود داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله
سورة الإنسان
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلا قوله تعالى فاصبر لحكم ربك إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا أصله على ما قيل أهل على أن الإستفهام للتقرير أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهل بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هل مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معا ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل سائل فوارس يربوع بشدتنا
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم وقيل هي للأستفهام ولا تقريب وجمعها من الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله
ولا للملبهم أبداد واء
بل التأكيد هنا أقرب لعدم الأتحاد لفظا على أن السيرافي قال الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في شرح شواهد المغنى الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالقاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من
(29/150)

النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء على معنى التقريب ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للأستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد منفسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر إلا أنها بمعنى قد حقيقة وفي المغنى ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالأنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدهر الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدةالعالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي ونوقف الأمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في الأيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال والله لا أكلمه دهراوالمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إنلم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوي الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة و السلام مستدلا كل بدليل وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الرفع إليه أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئا مذكورا بل كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معلوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لميكن الخ حال من الأنسان أيغير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا وإطلاق الإنسان على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالأنسان آدم عليه السلام وأيد بقوله تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة فإن الإنسان فيه معرفة مادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فأتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا لا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص نعم دل قوله سبحانه من نطفة على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح وحكي الماوردي عنه أن الحين المذكور ههنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر أنه قال إن من الحين حين الا يدرك وتلا الآية فقال والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للأستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالأجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الأعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب 358 من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني فجعل نفسه كنزا لا يكون إلا مكتنزا في شيئ فلم يكن كنز الحق نفسه لا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كأن الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان ثوب الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجود وعلم أنه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وكل شيء أحصيناه في إمام مبين والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنا نقول كون هل هنا للأنكار منكر وإن دعوى صحة ذلك لأحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الأيجابي أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يقرأ هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فقال ليتها تمت وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أمشاج جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج يقال مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى أختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته وفي بعض الآثار إنما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم أعشار أي متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا وحكى عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومضى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان وقيل اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرا كما يخضر الماء بالمكث وروي عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال الأمشاج العروق التي في النطفة وروي ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق وروي عكرمة وكذاابن عباس أنه قال أمشاج أطوار أي ذات أطوار فإنه النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى نبتليه حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الإستعارة لأن المنقول يظهر في كل طور ظهورا آخر كظهور نتيجة الأبتلاء والأمتحان بعده وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل أن الإبتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سميعا لأقبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه فجعلناه سميعا بصيرا وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا
(29/151)

لنبتليه وحكى ذلك عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظا لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول وهذا الجعل كالمسبب عن الأبتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى إنا هديناه السبيل لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى لأنا هديناه أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الآفاقية والأنفسية وهو إنما يكون بعد التكليف والأبتلاء إما شاكرا وإما كفورا حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والقات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر بالأهتداء للحق وطريقة بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عن هو حاصله دللناه على الهداية والأسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل يوصف سالكه مجازا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا تلقحها إما شمال عرية
وإما صبا جنح العشي هبوب وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى أما شاكرا فبتوفيقنا وأما كفورا فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز من هلل ولا عليه أن يجعله من باب يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا كأنه قيل أما شاكرا فبهدايتنا أي دعائنا أو أقدارنا على ما فسر به الهداية وأما كفورا فبها أيضا لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية ههنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذفما لا دليل عليه وجوز الأنتصاف أن يكون أما شاكرا فمثاب وأما كفورا فمعاقب وأيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والأشعار بأن الأنسان قلما يخلو من كفران ما وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط إنا أعتدنا هيأنا للكافرين من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل سلاسل بها يقادون وأغلالا بها يقيدون وسعيرا بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم الآية ولأن الأذار أنسب بالمقام وحقيق بالأهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلا ربما يخل بتجارب والكسائي وأبو بكر والأعمش سلاسلا بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة وقفا وقال الزمخشري وفيه وجهان أحدهما أن تكون هذه النون بدلا عن حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف وفي الأول أن الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء الوصل مجرى الوقف وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الأزدواج والمشاكلة فقد جوز والذلك صرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه بالمفرد في جمعه كصواحب يوسف ونواكسي الأبصار ولهذا جوز بعضهم صرفه مطلقا كما قيل والصرف في الجمع أتى كثيرا
حتى ادعى قوم به التخييرا
(29/153)

وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وصرف سلاسلا ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود وروي هشام عن ابن عامر سلاسل في الوصل وسلاسلا بألف دون تنوين في الوقف إن الأبرار شروع في بيان حسن حال الشاكرين أثر بيان سوء الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للأشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والأبرار جمع بر كرب وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلا يجمع على أفعال والبر المطيع المتوسع في عل الخير وقيل من يؤدي حق الله تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن هو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضى الشر يشربون في الآخرة من كأس هي كما قال الزجاج الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأسا وقال الراغب الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا والمشهور أنها تطلق على حقيقة على الزجاجة إذا كانت فيها خمر ومجازا على المجاورة والمراد بها ههنا قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر فمن ابتدائية وقوله تعالى كان مزاجها كافورا أظهر ملائمة للأول والظاهر أن هذا على منوال كان الله عليما حكيما والمجيء بالفعل للتحقيق والدوام وقيل تامة من قوله تعالى كن فيكون والمزاج ما يمزج به كالحزام ما يحزم به فهو اسم آلة وكافور على ما قال الكلب يعلم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي ماء كافور والجملة صفة كأس وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن لم يصح فيه خبر لا يقبل وقرأ عبد الله قافورا بالقاف بدل الكاف وهما كثيرا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عرب يقح وكح وقوله تعالى عينا بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب رائحته فالكافور بمعناه المعروف وقيل إن خمر الجنة قد أودعها الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجا مجاز في الإنصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل كأس على تقدير مضاف أي يشربون خمرا خمر عين أو نصب على الأختصاص بإضمار أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير مزاجها وقيل من كأس وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعن يقوله تعالى يشرب بها عباد الله على تقدير مضاف أيضا أي يشربون ماء عين يشرب بها الخوت عقب بأن الجملة صفة عينا فلا يعمل فعلها بها ومالا يعمل لا يفسر عاملا وأجيب بمنع كونها صفة على هذا الوجه والتركيب على نحو رجلا ضربته نعم هي صفة عين على غير هذا الوجه والباء للألصاق وليست للتعدية وهي متعلقة معنى بمحذوف أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عباد الله وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا جعل كافور علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه الباء أن يجعل الكلام من باب
يجري في عراقيها نصلي
لأفادة المبالغة وقيل الباء للتعدية وضمن يشرب معنى يروي فعدي بها وقيل هي بمعنى من وقيل هي رائدة والمعنى يشربها كما في قول الهزلي شربن بماء البحر ثم ترفعت
متى لحج خضر لهن نئيج ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة يشربها وقيل ضمير بها للكأس والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون عينا مفعولا ليشرب مهديا عليه وعباد الله المؤمنون أهلا لجنة يفجرونها تفجيرا صفة أخرى لعينا أي يجرونها حيث شاؤا من منازلهم إجراء سهلا لا يمتنع عليهم على
(29/154)

أن التنكير للتنويع أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوزب أنه قال معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم وفي بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يفون بالنذر استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبيء عنه اسم الأبرار إجمالا قيل ماذا يفعلون حتى ينالوا المرتبة العالية فقيل يوفون الخ وأفيد أنه استئناف للبي ومع ذلك عدل على أوفوا إلى المضارع للأستحضار والدلالة على الأستمرار والوفاء بالنذر كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى وإشارة النصف إن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى وجعل ذلك كناية هو الذي يقتضيه ما روي عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر فإلا أي إذا نذروا طاعة فعلوها ويخافون يوما كان شره عذابه مستطيرا فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الأنتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى وللطلب أيضا دلالة على ذلك لأن ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي ويطعمون الطعام على على حبه أي كائنين على حب الطعام أيمع اشتهائه والحاجة إليه فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى لنتنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وروي عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاما كائنا على حبه تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز و جل وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني فعلى حبه من باب التكميل وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في قوله تعالى لوجه الله بعد غنية عن قوله سبحانه لوجه الله وفيه نظر بل لعله الأنسب لذاك وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضا ثم الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته وقيل هو كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمساواة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع مسكينا ويتيما وأسيرا قيل أي أسير كان فعن الحسن أنه كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه وقال قتادة كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال لما صدر النبي صلى الله عليه و سلم بالأسارى من بدر أنفق سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر فقالت الأنصار قتلناهم في الله وفي رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة فأنزل الله تعالى فيهم تسع عشرة آية إن الأبرار يشربون إلى قوله تعالى عينا فيها تسمى سلسبيلا ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث وقال ابن العراقي لم أقف عليه والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدينة هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات وقال ابن جبير وعطاء هو الأسير من أهل القبلة قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار
(29/155)

رهينة وخرج لطلب الفداء وروي محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على إطعام أهل الحبوس المسلمين حسن وقد يقال لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتا ولغرض من الأغراض النفسانية وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرا مجاز لمنعه عن الخروج وأما تسمية المملوك فمجاز أيضا لكن قيل باعتب كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعدم الغريم أسيرا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك وهو على التشبيه البليغ إلا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني هي الزوجة وضعه ههنا ظاهر إنما نطعمكم لوجه الله على إرادة قول هو في موضع الحال من فاعل يطعمون أي قائلين ذلك بلسان الحال لما يظهر عليهم من إمارات الإخلاص وعن مجاهد أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فائني سبحانه به عليهم ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقي لها ثواب الصدقة خالصا عند الله عز و جل وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفا وتفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله تعالى وليس بذاك وقوله سبحانه لا نريد منكم جزاء بالأفعال ولا شكورا ولا شكرا وثناء بالأقوال تقرير وتأك لما قبله إنا نخاف من ربنا يوما أي عذاب يوم فهو على تقدير مضاف أو أن خوفه كناية عن خوف ما فيه عبوسا تعبس الوجوه على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روي عن ابن عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الأستعارة المكنية التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما اشتهر وصفه به ففي التخييلية ما قيل أنه من التشبيه البليغ قمطريرا شديد العبوس ويقال شديدا صعبا التف شره بعضه ببعض وقيل طويلا وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر وأنشدوا لأسد بن ناغصة وأصطليت الحروب في كل يوم
باسل الشر قمطرير الصباح بني عمنا هل تذكرون بلائنا
عليكم إذا ما كان يوم قماطر وقول آخر وإلى الأول ذهب الزجاج فقال القمطرير الذي يعبس حتى يجتمع ما بين عينيه ويقال اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وزمت بأنها وجمعت قطريها أيجانبيها كأنها تفعل ذلك إذ الحقت كبرا وقيل لتضع حملها فاشتقاقه عنده على ما قيل من قطر بالأشتقاق الكبير والميم زائدة وهذا لا يلزم الزجاج فيجوز أن يكون مشتقا كذلك من القمط ويقال إذا شده وجمع أطرافه وفي البحر يقال اقمطر فهو مقمطر وقمطرير وقماطر إذا صعب واشتد واختلف في هذاالوزن وأكثر النحاة لا يثبتون أفمعل في أوزان الأفعال وهذه الجملة جوز أن تكون علة لإحسانهم وفعلهم المذكور كأنه قيل نفعل بكم ما نفعل لأنا نخاف يوما صفته كيت وكيت فنحن نرجو بذلك أن يقينا ربنا جل وعلا شره وأن تكون علة إرادة الجزاء والشكور أي لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالىعلى طلب المكافاة بالصدفة وإلى الوجهين أشار في الكشاف وقال في الكشف الثاني أوجه ليبقى قوله لوجه الله خالصا غير مشرب بحظ النفس من جلب نفع أو دفع ضر ولو جعل علة للإطعام المعلل على المعنى إنما خصصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنا نخاف يوم جزائه ومن خافه لازم الإخلاص لكان وجها فوقاهم الله شر ذلك اليوم بسبب خوفهم وتحفظهم عنه وقرأ أبو
(29/156)

جعفر فوقاهم بشد القاف وهو أوفق بقوله تعالى ولقاهم نضرة وسرورا أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب وجزاهم بما صبروا بصبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال مأكلا وملبسا جنة بستانا عظيما يأكلون منه ما شاؤا وحريرا يلبسونه ويتزينون به ومن رواية عطاءعن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعادهما من عادهما من الصحابة فقالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه يا أبا الحسن لو نذرت علي ولديك فنذر علي وفاطمة جارية لهما إن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا فألبس الله تعالى الغلامين ثوب العافي وليس عند آل محمد قليل ولا كثير فانطلق علي كرم الله تعالى وجهه إلى شمعون اليهودي الخبيري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف بالباب سائل فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئا إلا الماء وأصبحوا صياما ثم قامت رضي الله تعالى عنها إلى صاع آخر فطحنت وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله عليه و سلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف يتيم بالباب وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه و سلم يتيم من أولاد المهاجرين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح وأصبحوا صياما فلما كان يوم الثالث قامت فاطمة رضي الله عنها إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزت وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المغرب فأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف أسير بالباب فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أسير محمد عليه الصلاة و السلام أطعموني أطعمكم الله فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء القراح فلما أصبحوا أخذ علي كرم الله تعالى وجهه الحسن وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورآهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق إلى فاطمة رضي الله عنها فرآها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فرق لذلك صلى الله تعالى عليه وسلم وساءه ذلك فهبط جبريل عليه السلام فقال خذها يا محمد هناك الله تعالى في أهل بيتك قال وما آخذ يا جبريل فأقرأه هل أتى على الإنسان السورة وفي رواية ابن مهران فوثب حتى دخل على فاطمة فأكب عليها يبكي فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية إن الأبرار يشربون إلى آخره وفي رواية عن عطاء إن الشعير كان عن أجرة سقي نخل وإنه جعل في كل يوم ثلث منه عصيدة فآثروا بها وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في قوله سبحانه ويطعمون الخ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة بنت الرسول صلى الله تعالى عليه وعليهما وسلم ولم يذكر القصة والخبر مشهور بين الناس وذكره الواحدي في كتاب البسيط وعليه قول بعض الشيعة إلا آلام وحتى متى
أعاتب في حب هذا الفتى وهل زوجت غيره فاطم
وفي غيره هل أتى هل أتى وتعقب بأنه خبر موضوع متفعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي وآثار الوضع ظاهرة عليه
(29/157)

لفظا ومعنى ثم إنه يقتضي أن تكون السورة مدنية لأن بناء علي كرم الله تعالى وجهه على فاطمة رضي الله عنها كان بالمدينة وهي عند ابن عباس المروي هو عنه على ما أخرج النحاس مكية وكذا عند الجمهور في قول وأقول مكيتها ومدنيتها مختلف فيه جدا كما سمعت فلا جزم فيه بشيء وابن الجوزي نقل الخبر في تبصرته ولم يتعقبه على أنه ممن يتساهل في أمر الوضع حتى قالوا أنه لا يعول عليه في هذا الباب فاحتمال أصل النزول في الأمير كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله عنها قائم ولا جزم ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال نعم لعله يترجح لكيفية التي تضمنتها الرواية الأولى ثم إنه على القول بنزولها فيها لا يتخصص حكمها بهما بل يشمل كل من فعل مثل ذلك كما ذكره الطبرسي من الشيعة في مجمع البيان رواية له عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعلى القول بعدم النزول فيهما لا يتطامن مقامهما ولا ينقص قدرهما إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولي فهماهما وماذا عسى يقول أمرؤ فيهما سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصى النبي وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأما الحسنان فالروح والريحان وسيد شباب الجنان وليس هذا من الرفض ما سواه عندي هو الغي أنا عبد الحق لا عبد الهوى
لعن الله الهوى فيمن لعن ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عز و جل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول لئلا تثور غيرتها الطبيعة إذا أحست بضرة وهيفي أفواه تخيلات الطباع البشرية ولو في الجنة مرة ولا يخفى عليك إن هذا زهرة ربيع ولا تتحمل الفرك ثم التذكير على ذلك أيضا من باب التغليب وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه جازاهم على وزن فاعل متكئين فيها على الأرائك حال من هم في جزاهم والعامل جزى وخص الجزاء بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ولا يضر في ذلك قوله تعالى بما صبروا لأن الصبر في الدنيا وما تسبب في الآخرة وقيل صفة الجنة ولم يبرز الضمير مع أن الصفة جارية على غير من هي عليه فلم يقل متكئينهم فيها لعدم الإلباس كما في قوله قوم يذري المجد بأنوها وقد علمت
بكنه ذلك عدنان وقحطان وأنت تعلم هذا رأي الكوفية ومذهب البصرية وجواب إبراز الضمير في ذلك مطلقا وفي البيت كلام وقيل يجوز كونه حالا مقدرة من ضمير صبروا وليس بذاك والأرائك جمع أريكة وهي السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى مفردا أريكة وقيل هو كل ما اتكيء عليه من سريرا وفراش أو منصة وكان تسميته بذلك لكونه مكانا للأقامة أخذا من قولهم أرك بالمكان أروكا أقام وأص الأروك الإقامة على رعي الأراك الشجر المع ثم استعمل في غيره من الإقامات وقوله تعالى لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا إما حال ثانية من الضمير أو حال من المستكن في متكئين وجوز فيه كونه صفة أيضا والمراد من ذلك أن هواءها معتدل لا حر شمس يحمى ولا شدة برد يؤذى وفي الحدث هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرف قصد بنفي الشمس نفيها ونفي لازمها معا لقوله سبحانه ولا زمهريرا فكأنه قيل لا يرون فيها حرا ولا قرا وقيل الزمهرير القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيء وأنشد وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهرر وليس هذا لأن طبيعته باردة كما قيل لأنه فيحيز المنع بل قيل أنه برهن على أن الأنوار كلها حارة فيحتمل أن ذلك للمعانه أخذا له منا زمهر الكوكب لمع والمعنى على هذاالقول أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر وفي الحديث
(29/158)

أن الجنة لا خطر بها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد الحديث ثم أنها مع هذا قد يظهر فيها نور أقوى من نورها كما تشهد به الأخبار الصحيحة وفيبعض الآثار عن ابن عباس بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوء كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة يا رضوان ما هذا وقد قال ربنا لا يرون فيه شمسا ولا زمهريرا فيقول لهم رضوان ليس هذا بشمس ولا قمر ولكن علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ضحكا فأشرقت الجنان من نور ثغريهما ودانية عليهم ظلالها عطف على الجملة وحالها حالها أو صفة لمحذوف معطوف على جنة فيما سبق أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقرأ أبو حيوة دانية بالرفع وخرج على أن دانية خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضا أو للأصاق على ما يراه الزمخشري وقال الأخفش ظلالها مرفوع بدانية على الفاعلية بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للأستدلال لقيام ذلك الأحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي دانية عليهم ظلالها وقرأ أبي ودانك قاض ولا يتم الأستدلال به للأخفش أيضا وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما قرأالأعمش ودانيا عليهم نحو خاشعا أبصارهم والمراد أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وذللت قطوفها تذليلا أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة قال قتادة ومجاهد وسفيان إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك والجملة حال من ضمير دانية أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على إسمية في قراءة دانية بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة ويطاف عليهم بآنية جمع إناء ككساء وأكسية وهو ما يوضع فيه الشيء والأوان يجمع الجمع من فضة وأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراغب وفي القاموس كوز لا عورة له أو لا خرطوم له وقيل الكوز العظيم الذيلا أدن له ولا عروة كانت أي تلك الأكواب قواريرا جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول قوارير وقوله تعالى قوارير من فضة بدل والكلام على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح البعوض لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين قوارير في الموضعين وصلا وإبداله ألفا وقفا وابن كثير يمن الثاني ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر وقف عليه بألف مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول بدل من ألف الأطلاق كما في قوله
يا صاح ما هاج العيون الذرفن
وفي الثاني للأتباع فتذكر والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ الأعمش أي هي قوارير قدروها تقديرا أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاء تحسب ما قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه وفي معناه قول الطائي ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من كرم الطباع
(29/159)

فإنه ينبيء عن كون نفسه خلقت على أتم ما ينبغي من مكارم الصفات بحيث لا مزيد على ذلك فضمير قدروها للأبرار المطاف عليهم أو قدروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب قال ابن عباس أتوا بها الحاجة لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا وعن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملاي التي تفيض ولا بالناقصة التي تغيض فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين بها المدلول عليه بقوله تعالى يطاف عليهم وقد روي عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال قدرتها السقاة وقيل المعنى قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها والضمير على هذا قيل للملائكة وقيل للسقاة وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والسلمي والشعبي وقتادة وزيد بن علي والجحدري والأصمعي عن أبي عمرو وابن عبد الخالق عن يعقوب وغيرهم قدروها علىالبناء للمفعول واختلف في تخريجها فقال أبو علي كان اللفظ قدروا عليها وفي المعنى قلب لأن حقيقته أن يقال قدرت عليهم فهو نحو قوله تعالى ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة وقول العرب إذا طلعت الجوزاء ارتقى العود على الحرباء وقال الزمخشري وجه ذلك أن يكون من قدرت الشيء بالتخفيف أي بينت مقدراه فنقل إلىالتفعيل فتعدى لأثنين أحدهما الضمير النائب عن الفاعل والثاني ها والمعنى جعلوا قادرين لها كما شاؤا وأطلق لهم أن يقدروا على حسبما اشتهوا وقال أبو حيان قدرت الأواني على قدر ريهم ففسر بعضهم هذا بأن في الكلام حذفا وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها فحذف على فصار قدر نائب الفاعل ثم حذف فصار ريهم نائب الفاعل ثم حذف وصاروا والجمع ناسب الفاعل واتصل المفعول الثاني بقدر فصار قدرها وقا أبو حيان الأقرب أن يمون الأصل قدر ريهم منها تقديرا محذف المضاف وهو الري وأقيم الضمير مقامه فصار قدروا منها ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فضار قدروها فلم يكن فيه الأحذف مضاف واتساع في المجرور ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدا وفي كونه ما اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر تكلفا منه وقوله تعالى ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى يشربون من كأس كان مزاجها كافورا الخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري نبت في أرض عمان وهو عرق تسري في الأرضو ليسب شجرة ومنهما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في وصف رضاب النساء قال الأعشى كان القرنفل والزنجبيل
باتا بفيها واريا مسورا وقال عمرو المسيب بن علس وكان طعم الزنجبيل به
إذ ذقته وسلافةالخمر وعده بعضهم في المعربات وكون الزنجبيل اسما لعين في الجنة مروي عن قتادة وقال يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة والظاهر أنهم تارة يشربون من كأس مزاجها كافور وتارة يسقون من كأس مزاجها زنجبيل ولعل ذكر يسقون هنا دون يشربون لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى ويطاف عليهم الخ ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى شأنا من الكأس الأولى وعن الكلبي يسقى بجامين الأول مزاجه الكافور والثاني مزاجه الزنجبيل والسلسبيل كالسلسل والسلسال قال الزجاج ما كان من الشراب غاية في السلاسة وسهولة الأنحدار في الحلق وقال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن وكأن العين إنما سميت بذلك لسلامتها وسهولة مساغها قال عكرمة عين سلسل ماؤها وقال مجاهد حديدة الجري سلسة سهلة المساغ وقال مقاتل عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاؤا وهي على ما روي عن قتادة عين تنبع
(29/160)

من تحت العرش من جنة عدن تتسلسل إلى الجنان وفي البحر الظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى توصف بأنها سلسلة الأنسياغ سهلة في المذاق ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة لأنه ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف جعله علما لها فإن كان علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل كما قيل في سلاسل وقوارير أو زعم الزمخشري أن الباء زيدت فيه حتى صارت الكلمة خماسية فإن عني أنها زيدت حقيقة فليس بجيد لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة وإن عني أنها حرف في سنح الكلمة في سلسل ولا في سلسال صح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة انتهى وفي الكشف لا يريد الزيادة المصطلحة ألا ترى إلى قوله حتى صارت خماسية وهو أيضا من الأشتقاق الأكبر فلا تغفل وقال بعض المعربين سلسبيلا أمر للنبي ولأمته بسؤال السبيل إليها وعزوه إلى علي كرم الله تعالى وجهه وهو غير مستقيم بظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل سلسبيلا جعلت اسما للعين كما قيل تأبط شرا وذوي حبا وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلىالأمير كرم الله تعالى وجهه أبدع ونص بعضهم على أنه افتراء عليه كرم الله تعالى وجهه وفي شعر ابن مطران الشاشي سلسبيلا فيها إلى راحة النفس
براح كأنها سلسبيل وفي الجناس الملف قول استعمله غير واحد من المحدثين ويطوف عليهم أي للخدمة ولدان مخلدون أي دائمون على ما هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرطة وجاء في حديث أخرجه ابن مردوية عن أنس مرفوعا أنهم آلاف خادم وفي بعض الآثار أضعاف ذلك
والجود أعظم والمواهب أوسع
ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال المخدومين إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا لحسنهم وصفاء ألوانهم وأشراق وجوه وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض وقيل شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه من تشبيه المفرد لأن الأنبثات غير ملحوظ والخطاب في رأيتهم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا في قوله تعالى وإذا رأيت ثم أي هناك يعني في الجنة وهو في موضع النصب على الظرف ورأيت منزل منزلة اللازم فيفيد العموم في المقام الخطابي فالمعنى إن بصرك إينما وقع في الجنة رأيت نعيما وملكا كبيرا عظيم القدر لا تحيط به عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول وقال عبد الله بن عمرو الكلبي عريضا واسعا يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطى من حدة النظر أو هو من خصائص الجنة وقال مجاهد هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون عليهم إلا بإذن وقال الترمذي وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا أرادوا شيئا كان وقيل هو النظر إلى الله عز و جل وقيل غير ذلك وقيل الملك الدائم لا زوال له وزعم الفراء أن المعنى وإذا رأيت ما ثم رات الخ وخرج على أنه أراد أن ثم ظرف وقعصلة لموصوف محذوف هو مفعول رأيت والتقدير وغذا رأيت ما ثم رأيت نعيما الخ فحذف ما كما حذف في قوله تعالى لقد تقطع بينكم أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين يجيزون ذلك ومنه قوله فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء أرادوا من يمدحه فحذف الموصول وأبقي صلته وقد يقال أن ذلك إنما يرد لو أراد أن الموصول مقدر أما لو أراد المعنى وإن الظرف يغني عناء المفعول به فهو كلام صحيح لأن الظرف والمرئي كليهما الجنة وقرأ حميد الأعرج ثم بضم
(29/161)

الثاء حرف عطف وجواب غذا على هذا المحذوف يقدر بنحو تحير فكرك أو بنحو رأيت عاملا في نعيما عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق قيل عاليهم ظرف بمعنى فوقهم على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر والجملة حال من الضمير المجرور في عاليهم فهي شرح لحال الأبرار المطوف عليهم وقال أبو حيان إن عالي نفسه حال من ذلك الضمير وهو اسم فاعل وثياب مرفوع على الفاعلية به ويحتاج في إثبات كونه ظرفا إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك ثوب مثلا ومثله فيما ذكر عالية وقيل حال من ضمير لقاهم أو من ضمير جزاهم وقيل من الضمير المستتر في متكئين والكل بعيد وجوز كون الحال من مضاف مقدر نعيما أو قبل ملكا أي رأيت أهل نعيم أو أهل ملك عاليهم الخ وهو تكلف غير محتاج إليه وقيل صاحب الحال الضمير المنصوب في حسبتهم فهي شرح لحال الطائفتين ولا يخفى بعده لما فيه من لزوم التفكيك ضرورة أن ضمير سقاهم فيما بعد كالمتعين عوده على الأبرار وكونه من التفكيك مع القرينة المعينة وهو مما لا بأس به ممنوع واعترض أيضا بأن مضمون الجملة يصير داخلا تحت الحسبان وكيف يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤا فإنه على طريق التشبيه المقتضي لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤا وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول تحت الحسبان ورفع خضر على أنه صفة ثياب واستبرق على أنه عطف على ثياب والمراد وثياب استبرق والسندس قال ثعلب ما رق من الديباج وقيل ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب من الحرير المنسوج يتلون ألوانا وقال الليث هو ضرب من البزيون يتخذ من المعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على ما في القاموس وغيره وزعم بعض أنه مع كونه معربا أصله سندي بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما قال في سادى سادس وهو كما ترى والأستبرق قيل ما غلظ من ثياب الحرير وقال أبو إسحاق الديباج الصفيق الغليظ الحسن وقال ابن دريد ثياب حرير نحو الديباج وعن ابن عبادة هو بردة حمراء هو المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية اسنبره وفي القاموس معرب استروه وحكى ذلك عن ابن دريد وأنه قال أنه سرياني وقيل معرب استفزه وما في صورة الفاء ليست فاء خالصة وإنما هي بين الفاء والباء وقيل عربي وافقت لغة العرب فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل والصحيح على ما قال الخفاجي أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة المتواترة وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي جامع التعريب أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في التكسير لأنهما زيدتا معا فأجرى مجرى الزيادة الواحدة وفي المسئلة خلاف أيضا مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الأستبرق وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة فخضر وإن توسط بين المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس وربما تشعر الآية بأن تحتها ثيابا أخرى وقيل على وجه الحالية من ضمير متكئين أن المراد فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس الخ وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس والأستبرق وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء وهي رواية عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على أنه مبتدأ وثياب خبره وعند الأخفش فاعل سد مسد الخبر وقيل على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر وأخبر به عن النكرة لأنه نكرة وإضافته لفظية وهو في معنى الجماعة كما في سامرا تهجرون على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش وقيل هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم
(29/162)

أن مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد ابن علي بالياء والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضا وأبان عن عاصم فتح التاء الفوقية وتخريجها كتخريج عاليهم بالسكون والنصب وقرأ ابن سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا عليهم جارا ومجرورا فهو خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر وقرأت عائشة علتهم بتاءالتأنيث فعلا ماضيا فثياب فاعل وقرأابن أبي عبلة وأبو حيوة ثياب سندس بتنوين ثياب ورفع سندس على أنه وصف لها وهذا كما نقول ثوب حرير تريد من هذاالجنس وقرأالعربيان ونافع في رواية واستبرق بالجر عطفا على سندس وقرأابن كثير وأبو بكر بجر خضر صفة لسندس وهو في معنى الجمع وقد صرحوا بأن وصف اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز فصيح وعليه ينشيء السحاب والنخل باسقات وقد جاء سندسة في الواحدة كما قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجواز وفيه توافق القراءتين معنى إلا أنه قليل وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي خضر واستبرق بجرهما وقرأ ابن محيصن واستبرق بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب القراآت ويفهم من الكشاف أنه قرأ بالقطع والفتح وإن غيره قرأ بما تقدم وهو خلاف المعروف وخرج الفتح على المنع من التصرف للعلمية والعجمية وغلط بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال الأستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى باستفعل من البريق يقال برق واستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل فعل ماض ثم جعل علما لهذاالنوع من الثياب فمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقبب أن كونه معربا مما لا ينبغي أن ينكر وقيل هو مبني من قول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى واختار أبو حيان أن استبرق على قراءة ابن محيصن فعل ماض من البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علما للنوع المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو علىالأخضر الدال عليه خضر كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل ولمع لمعانا شديدا ثم قال معرضا بمن غلظه كأبي حاتم والزمخشري وهذاالتخريج أولى من تلحين قاريء جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابرالعلماءانتهى وقيل الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو بدونه وحلوا أساور جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه معرب دستواره من فضة هي فضة لائقة بتلك الدار والظاهر هذا عطف على يطوف عليهم واختلافهما بالمضى والمضارعة لأن الحالية مقدمةعلى الطواف المتجدد ولا ينافي ما هنا قوله تعالى أساور من ذهب لا مكان الجمع بتعدد الأساور لكل والمعاقبة بلبس الذهب تاره والفضة تارة أخرى والتبعيض بأن يكون أساور بعض ذهب او بعض فضة لاختلا الأعمال وقيل هو حال من ضمير عاليهم بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين على أن يكون عاليهم حالا من حسبتهم جاز أن يقال الفضة للخدم والذهب للمخدومين وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوارالفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته أيديهم ولا يخفى أن هذا مما لا يليق بالتفسير وحري أن يكون من باب الأشارة ثم التحلية إن كانت للولد ان فإن كلام ويكونون على القول الثاني في مخلدون مسورين مقرطين وهو من الحسن بمكان وإن كانت لأهل الجنة المخدومين فقد استشكل بأنهالا تليق بالرجال وإنما تليق بالنساء والولدان وأجيب بأن ذلك مما يختلف بأختلاف العادات والطبائع ونشأة الآخرة غير هذه النشأة ومن المشاهد في الدنيا أن بعض ملوكها يتحلون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي مما هو
(29/163)

عند بعض الطباع أولى بالنساء وللصبيان ولا يرون ذلك بدعا ولا نقصا كل ذلك لمكان الألف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة في الجنةالميل إلى الحلي مطلقا لا سيما وهم جرد أبناء ثلاثين وقيل أن الأساور إنما تكون لنساء أهل الجنة والصبيان فقط لكن غلب في اللفظ جانب التذكير وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وسقاهم ربهم شرابا طهورا هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين وهما ما مزج بالكافور وما مزج بالزنجبيل كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورقال أبو قلابة يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيطهر بذلك قلوبهم وبطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك وعن مقاتل هو ماء عين على باب الجنة من ساق شجرة منشرب منه نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسدوما كان في جوفه من قذر واذى أي إن كان فالطهور عليهما بمعنى المطهر وقد تقدم في ذلك كلام فتذكر وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنهلم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤل إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدا نهمله ريح كريح المسك وقيل أريد بذلك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي الرباني الذي يسكره عما سوه صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا
ونور ولا نار وروح ولا جسم ولعل كل ما ذكره ابن القارض في خميرته التي لم يفرغ مثلها في كأس إشارة إلى هذا الشراب وإياه عني بقوله سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا
جبال حنين ماسقوني لغنت ويحكى أنه سئل أبو زيد عن هذه الآية فقال سقاهم شرابا طهرهم به عن محبة غيره ثم قال إن الله تعالى شرابا ادخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر وحمل بعضهم جميع الأشربة على غير المتبادر منها فقال إن الأنوارالفائضة من جواهر أكابر الملائكه وعظمائهم عليهم السلام على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن وكما إن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوارالعلوية مختلفة فيعضها كافورية على طبع البرد والييس ويكون صاحب ذلك في الدنيا في مقام الحزن والبكاء والأنقباض وبعضها يكون زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبه قليل الألتفات إلى السوى قليل المبالات بالأجسام والجسمانيات ثم لا يزال الروح البشري منتقلا من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتفاعها إلى واجب الوجود الذي هو النورالمطلق جل جلاله فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب ذلك الشراب انه ضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيتل أن نور ما سوى الله يضمحل في مقابلة نور جلال الله سبحانه وكبريائه وذلك آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الأرتقاء والكمال ولهذا ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار بقوله جل وعلا وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذه الذي ذكرمن فنون الكرامات الجليلة الشأن كان لكم جزآء بمقابلة أعمالكم الصالحةالتي اقتض والظاهرأن المجيء بالفعل للتحقيق والدوام وجوز أن يكون المراد كان في علم يوحكي وكذا في قوله تعالى وكان سعيكم مشكوراأي مرضيا مقبولا أو مجازي عليه غير مضيع والكلام على ما روي عن ابن عباس على إضمار القول أي ويقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم ما أعد لهم أن هذاالخ والغرض أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وللمثاب هذا بطاعتك وعملك الحسن فيزداد سروره ويكون ذلك تهنئة له
(29/164)

وجوز أن يكون خطابا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه بعد أن شرح ثواب أهل الجنة قال إن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معشر عبادي وكان سعيكم مشكورا قيل وهو لا يغني عن الإضمار ليرتبط بما قبله وقد ذكر سبحانه من الجزاء ما تهشله الألباب وأعقبه جل وعلا بما يدل على الرضاالذي هو أعلى وأغلى لدى الأحباب إذا كنت عنييا مني القلب راضيا
أرى كل من في الكون لي يتبسم وروي من طرق أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه السورة وقد أنزلت عليه وعنده رجل من الحبشة أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة خرجت نفسه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرج صاحبكم الشوق إلى الجنة ولما ذكرسبحانه أولا حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيرا إلى عظم سعةالرحمة ذكر ما شرف به نبيه إزالة لوحشته وتقوية لقلبه فقال عز قائلا إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا أي أنزلناه مفرقا منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة لحكم بالغة مقتضية له لا غير ناكما يعر بتكريرالضم مع إنسواء كان المنفصل تأكيدا أو فصلا أو مبتدا فاصبر لحكم ربك بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة ولا تطع قلة منك على إذا هم وضجرا من تأخر نصرك منهم آثما أو كفورا قيل إن أولا حد الشيئين في جميع مواقعها ويعرض لها معان أخر كالشكوا لإباحة وغيرهما فيكون أصل المعنى هنا ولا تطع منهم أحد النوعين ولما كان أحد الأغلب عليه غير الإثبات العموم واحتمال غيره احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا ولم يؤت بالواو لاحتمال الكل ام عليها لنهي عن المجموع ويحصل امتثاله بالأنتهاءعن واحد دون الآخر فلا يرد أن تطع أحد النوعين يحصل الأمتثال به بترك إطاعة واحد مع إطاعة الآخر إذ يقال لمن فعل ذلك أنه لم يطع أحدهما ومن هنا قيل إن أو في الإثبات تفيد أحد الأمرين وفي النفي في نفي كلاالأمرين جميع اول ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال إن وضع أو لأثبات الحكم لأحد الأمرين إلا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد الأمرين غير حاجز على الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة وإن حجرف هو لأحد الأمرين واستشكل بعضهم وقوعها في النهي كلاتطع منهم آثما أو كفورا إذ لو انتهى عن أحدهم الم يتمثل ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على أنها بمعنى الواو والأولى إن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معنى النفي لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا أيواحدا منهما فإذا جاءالنهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى ولا تطع واحدا منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها فيما ذكر لأنه لا يحصل الأنتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر وعليه ما قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي في معناه لما أنتقيض الإيجاب الجزئي السلبالكليوقريب من ذلك قول الزجاج أن أو ههنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطا أحدهما كان غير عاص فغذاأبدلتهم ابا وفقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصى ويعلم منه النهي عن إطاعتهما معا كما لا يخفى وأفاد جار الله إن أو باقية على حقيقتها وإن النهي عن إطاعتهما جميعاإنما جاء دلالةالنص وهي المسمى مفهوم الموافقة الأولى والمساوي فتأملوالمراد بالآثم والكفور جنسهما وتعليق النهي بذلك مشعر بعلية الوصفين له فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الأثم والكفر لا فيما ليس بأثم ولا كفر والمراد ولا تطع مرتكب الأثم الداعي لك إليه أو مرتكب الكفر الداعي إليه أيلا تتبع أحدا من الآثم إذا دعاك إلى الأثم ومن الكفور إذا دعاك إلى الكفر فإنه إذا قيل لا تطع
(29/165)

الظالم فهم منه لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه ومنع هذا الفهم مكابرة فلا يتم الأستدلال بالآية على عدم جواز الأقتداء بالفاسق إذا صلى إماماثم إن التق ما يدعوان إليه من الكفر والأثم المقابلله لاباعتبارالذوات حتى يكون بعضهم آثما وبعضهم كفورا فيقال كيف ذلك وكلهم كفرة والمبالغة في كفور لموافقة الواقع وهذا كقوله تعالى ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واعتبار رجوعها إلى النهي كاعتبار رجوعها إلى النفي على ما قيل في قوله تعالى وما ربك بطلام للعبيد كما ترى وقيل الآثم المنافق والكفور المشرك المجاهر وقيل الآثم عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو وعن مقاتل أنهما قالا له صلى الله تعالى عليه وسلم ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج فنزلت وقيل المفور أبو جهل والآية نزلت فيه والأولى ما تقدمو في النهي مع العصمة إرشاد لغيرالمعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي واذكراسم ربك بكرة وأصيلا ودوام على ذكره سبحانه في جميع الأوقات أودم على صلاة الفجر والظهر فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما ومن الليل أي بعضه فاسجد فصل له عز و جل على أن السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على صلاة المغرب والعشاء وتقديم للأ والأهتمام لما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص وسبحه ليلا طويلا وتهجد له تعالى قطعا من الليل طويلا فهو أمر بالتهجد على ما اختاره بعضهم وتنوي للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية وعن ابن زيد وغيره أن ذلك كان فرضا ونسخ فلا فرض اليوم إلا الخمس وقال قوم هو محكم في شأنه عليه الصلاة و السلام وقال آخرون هو كذلك مطلقا على وجه الندب وفي تأخير الظرف قبل دلالةعلى أنه ليس بفرض كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال الطيبي الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على اذاهم وإفراطهم في العداوة وأراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلا ونهارا بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بمايطيق على من وال قوله تعالى لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين انتهى وهو حسن إن هؤلاء الكفرة يحبون العاجلة وينهمكون في لذاتها الفانية ويذرون وراءهم أي أمامهم يوما ثقيلا هو يوم القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوما ثقيلا لا يعبثون به فالظرف قيل على الأول حال من يوم او على هذا ظرف يذرون ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضا ووصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله بطريق الأستعارة والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى عنه كأنه قيل لا نطعمهم واشتغل بالأهم من العبادةلأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة وقيل إن هذا يفيد ترهيب محب العاجل وترغيب محب الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة للأمر بالعبادة نحن خلقناهم لا غيرنا وشددنا أسرهم أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق والأسر في الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا وإرادة الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر ومن هنا يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة الخلق وكونه موثقا
(29/166)

حسنا ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا وإذا شئنا بدلنا أمثالهم أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق تبديلا بديعا لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الأنعام إذا شئت أحسن إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كأن له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم لأن النكات لا يلزم إطرادها فافهم والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل إن هذه تذكرة إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل للمقاصد وما تشاؤن أي شيئا أو اتخاذ السبيل إلا أن يشاء الله أي وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم وقال الزمخشري أي وما تشاؤن الطاعة إلا أن يشاء الله تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل ويلزمه على ما في الانتصاف إن مشيئة العبد لا يوجد إلا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولا كما تقول لو شئت لقتلت زيدا أي لو شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الأختيارية وإلا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهارته والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الأستعداد النفس لأمر يسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها إن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وإن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فاذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبرالمحض المسلوب معه الأختيار بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يشاء الآتخاذ والتحصيل رد الكلام على الصدر فقال أن قوله سبحانه وما تشاؤن الخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية أي وما تشاؤن اتخاذ السبي لولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى اتخاذه وتحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز و جل وفيه نوع مخالفة للظاهر كما لا يخفى نعم قيل أن ظاهرالشرطية أن مشيئة العبد مطلقا مستلزمة للفعل فيلزم أنه متى شاء فعلا فعله مع أن الواقع خلافه فلا بد مما قاله هذا البعض وجعل الجملة الثانية تحقيق اللحق وأجيبب أنها على وجه آخر وذلك أن الأولى أفهمت الاستلزام والثانية بينت أن هذه المشيئة المستلزمة لا تتحقق إلا وقت مشيئة الله تعالى إياها
(29/167)

فكأنه قيل وما تشاؤن مشيئة تستلزم الفعل إلا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلكفت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومز الأقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلااختيار وإلا فلا صد أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فأما أن يلزم الفعل الاضطرار أو لا فيلزم جواز تخلف المعمول عن علته التامة بل مع الصدور الترجيح بلا مرجح فقد قيل أنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التقصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدعك لمن جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق وقرأ العربيان وابن كثير وما تشاؤن بباء الغيبة وقرأ ابن مسعود إلا ما يشاء الله وما فيهم صدرية كأن قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبه أبو حيان بأنه منصوب على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيتك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أن يشاء بتقدير حرف الجر والأستثناء من أعم الأسباب وما تشاؤن بسبب من الأسباب إلا أن يشاء الله تعالى إن الله كان عليما مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم حكيما مبالغا في الحكمة فيفيض على كلما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز و جل وقيل عليما أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حكيما لا يشاء إلا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى يدخل من يشاء في رحمته الخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهوالذي علم فيه الخير حيثي وفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الأيمان والطاعة والظالمين أي لأنفسهم وهم الذين علم فيهم الشر عد لهم عذابا أليما متناهيا في الإيلام ونصب الظالمين بإضمار فعل يفسره أعد الخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة والظالمون على الأبتداء وقراءة الجمهور أحسن وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها إسمية والأولى فعلية ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب وقرأ عبد الله وللظالمين بلام الجر فقيل بما بعد على سبيلا لتوكيد وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أعد لهم والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة تضمنت من سعة رحمة الله تعالى عز و جل ما تضمنت إلا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال قرأ هل أتى على الإنسان ختمها ثم قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلىالصعدات تجأرون إلى الله عز و جل وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبي صلى الله تعالى
(29/168)

عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس تطهيرا
سورة المرسلات
وتسمى سورة العرف وهي مكية فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال بينما نحن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة المرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اقتلوها فابتدرناه فدخلت حجرها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيت شركم كما وقيتم شرها وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال كنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فبأي حديث بعده يؤمنون وإذا قيل لهم اركعوالا يركعون وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يدخل من يشاء في رحمته الخ افتتح هذه بالأقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد فقيل المرسلات والعاصفات طوائف والناشرات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلن بأمره تعالى أمرن بأنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف الريح تخففا في امتثال الأمر وأيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام ولعل من يلقي الذكر لهم غير مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا حديث الرصد وفي الآثار نزل ملك بألوكة من ربي فوضع رجلا في السماء وثنى الأخرى بين يدي فالمرسلات صفة لمحذوف والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا الناشرات ونصب عرفا على الحال والمراد متتابعة وكان الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه عليه ثم حذف أداة التشبيه ومن هذا قولهم جاؤا عرفا جاؤا يتبع بعضهم بعضا وهم عليه كعرف الضبع إذا تالبوا عليه ويؤخذمن كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم كثر استعماله في المعنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على أنه مفعول له على أنه
بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر أي والمرسلات للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفا لهم فإنه معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين اذلين انتقم الله تعالى لهم منهم وعطف الناشرات على ما قبل بالواو ظاهر للتغاير بالذات بينهما وعطف العاصفات على المرسلات والفارقات على الناشرات وكذاما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفا منزلة تغاير الذات كما في قوله يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب وهي للدلالة على أن ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب وترتيب مضي الأمر على
(29/169)

الارسال به والأمر بإنقاذه وأما ترتيب القاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الألقاء فقيل لتأويل الفرق بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء وقيل الفرق على الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر ومن هذا يظهر ترتيب الفرق على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر وكذا إرادته إذا أول أيضا بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك الإرادة قبل وقيل إن الفاء في ذلم للترتيب الرتبي ضرورة إن إرادة الفرق أعلى من النشر وقيل إنها فيه وفيما بعده لمجرد الإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق مستل بالدلالة على استحقلق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالأقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الثلاثة هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق واستعمال العاصفات بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل الأستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المهلكات بالعذاب الذي أرسلهن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضا أو المجاز المرسل وعذرا ونذرا في قوله تعالى عذرا أو نذرا جوز أن يكونا مصدرين من عذر إذا أزال الأساءة ومن أنذر إذا خوف جاءا على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلا من مصادر الثلاثي وأما الثاني فعلى خلاف القياس مصدر أفعل الأفعال وقيل هو اسم المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر وتسومح فيما تقدم وإن يكونا جمع عذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإنذار وانتصابهما على العلية والعامل فيهما الملقيات أو ذكرا وهو بمعنى التذكير والعظة بالترغيب والترهيب أي فالملقيات ذكرا لأجل العذر للمحقين أو لأجل النذر للمبطلين أو على الحالية أو الضمير المستتر فيه على التأويل أي عاذرين أو منذرين أو على البدلية من ذكرا على أن المراد به الوحي فيكونان بدل بعض أو التذكير والعظة فيكونان بدل كل وإن يكونا وصفين بمعنى عاذرين ومنذرين فنصبهما على الحالية لا غير وأو في جميع ذلك للتنويع لا للترديد ومن ثم قال الدينوري في مشكل القرآن إنها بمعنى الواو وقيل الثانية طوائف نشرن الشرائع في الأرض إلى آخر ما تقدم ووجه العطف بأن المراد أردن النشر فنزلن فألقين واحتيج للتأويل لمكان الإلقاء إلى الأنبياء عليهم السلام وإلا فهو لا يحتاج إليه في النشر والفرق لظهور ترتيب الفرق على النشر كذا قيل فلا تغفل وقيل طوائف نشرن النفوس الموتى بالكفر فالجهل بما أوحين ففرقن الخ والنشر على هذا بمعنى الإحياء وفيما قبله بمعنى الإشاعة وقيل لا مغايرة بين الكل إلا بالصفات وهم جميعا من الملائكة على الأقوال السابقة بيد أنه لم يعتبر هذا القائل تفسير النشر بنشر الأجنحة فقال أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن عز و جل بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في الامتثال ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى الأنبياء ذكرا وظاهره أيضا أن الإرسال للأنبياء بالشرائع من الأمر والنهي بناء على أن الأوامر جمع مخصوص بالأمر مقابل النهي ففي كلامه الأكتفاء وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من النهي بصيغته كدع مثلاوقيل عطف الناشرات بالواو دون الفاء وعطف الفراقات به أن النشر عليه بمعنى الأشاعة للشرائع وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول ويقتضي زمانا فلذا جيء بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية وإذا حصل النشر ترتب عليه الفرق من غير مهملة ولا يتوهم أنه كان حق الناشرات حينئذ ثم لأنه لا يتعلق القصد
(29/170)

ههنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده في الواقع فقيل الأيذان بكونهما غاية للألقاء حقيقة بالأعتناء أو الأشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكرو قيل أقسم سبحانه بأفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات موصوف آخر ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال شاع فيه وبالناشرات رياح وحاصلة أنه جل وعلا أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على البقاع فألقين ذكرا إما عذرا للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمة الله تعالى في الغيث وإما إنذارا للذين يكفرون ذلك ويتسبونه إلى الأنواء ونحوها وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد والمراد بعرفا متتابعة أو الناشرات رياح نشرن النبات وأبرزنه أي صرن سببا لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذكرا إما عذرا للشاكرين وإما نذرا للكافرين وقيل أقسم سبحانه أولا بالرياح وثانيا بسحائب الموات ففرقن بين من يشكر وبين من يكفر كقوله تعالى لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه فتسببن ذكرا أما وإما وقيل أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فضلا وإحسانا أو شيئا بعد شيء لأنها نزلت منجمة فعصفن وآذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق في أكتاف العالمين وقيل جل جلاله برسله من البشر أرسلوا إحسانا وفضلا كما هو المذهب الحق لا وجوبا كما زعم من زعم فاشتدوا وعظم أمرهم ونشروا دينهم وما جاؤا به ففرقوا بين الحقو الباطل والحلال والحرام فألقوا ذكرا بين المكلفين ويجوز أن يراد على هذا بعرفا متتابعة وقيل أقسم تبارك وتعالى بالنفوس الكاملة أي المخلوقة على صفة الكمال والأستعداد لقبول ما كلفت به وخلقت لأجله المرسلة إحسانا إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن وأذهبن ما سوى الحق بالنظر في الأدلة الحقة ففرقن بين الحق المتحقق بذاته الذي لا مدخل للغير فيه وهو واجب الوجود سبحانه وبين الباطل المعدوم في نفسه فرأين كل شيء هالكها إلا وجهه فألقين في القلوب والألسنة ومكن فيها ذكره تعالى فليس في قلوبها وألسنتها إلا ذكره عز و جل أوطرحن ذكر غبره سبحانه عن القلوب والألسنة فلا ذكر لما عداه وقيل الثلاثة الأول الرياح والأخيرتان الملائكة عليهم السلام وقيل بالعكس والمناسبة باللطافة وسرعة الحركة وقيل الأولتان الملائكة إلا أن المرسلات ملائكة الرحمة والعاصفات ملائكة العذاب والثلاثة الأخيرة آيات القرآن النازلة بها الملائكة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال المرسلات عرفا الرسل ترسل بالمعروف فالعاصفات عصفا الريح والناشرات نشراالمطر فالفارقات فرقاالرسل ومن وجه آخر المرسلات عرفا الملائكة فالعاصفات عصفاالرياح العواصف والناشرات نشراالملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحا به في بعض الروايات فالفارقات فرقا الملائكة يفرقون بين الحق والباطل فالملقيات ذكرا الملائكة أيضا يجيئون بالقرآن والكتاب عذرا أو نذرا منه تعالى إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة الصحابة والتابعين فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل المرسلات الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر العاصفات بالشديدات الهبوب وروي تفسير المرسلات بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وفي أخرى عن ابن عباس
(29/171)

أنها جماعة الأنبياء أرسلت أفضالا من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود الناشرات الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره وروي عن مجاهد وقتادة وقال الربيع الملائكة تنشر الناس من قبورهم قال الضحاك الصحف تنشرعلى الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون الناشرات على معنى النسب وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك الفارقات الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام وقال قتادة والحسن وابن كسيان آيات القرآن فرقت بين ما يحل وما يحرم وعن مجاهد أيضاالرياح تفرق بين السحاب فتبدده وعن ابن عباس وقتادة والجمهور والملقيات الملائكة تلقيما حملت من الوحي إلا الأنبياء وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر العاصفات بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها ومنهم من فسر الفارقات بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقةالفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع ومنهم من فسرها بالعقول تفرق بين الحقوالباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط والذي أخاله أظهركون المقسم بهشيئين المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات الملقيات لشدة ظهورالعطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمرالحشر والنشر لما أن الآثار المشاهدة المترتبة على الرياح ترتبا قريبا وبعيدا تنادي بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع ذا الأقو الكثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو وقرأ عيسى عرفا بضمتين نحو نكر في نكر وقرأ ابن عباس فالملقيات بالتشديد مع التلقية وقيل هي كالإلقاء إيصال الكلام إلى المخاطب يقال لقيته الذكر فتلقاه وذكر المهدوي أنهر ضعنه قرأ فالملقيات بفتح اللام وتشديد القاف اسم مفعول أي ملقية من الله عز و جل وقرأ زيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن بخلاف والأعمش عن أبي بكر عذرا أو نذر بضم الذالين وقرأ الحرميان وأبوعامر وأبو بكر وزيد بن علي وشيبة وأبو جعفر أيضا بسكون الذال في عذرا وضمها في نذرا وقرأ إبراهيم التيمي ونذرا بالواو وقوله تعالى إنما توعدون لواقع جواب للقسم وما موصولة وإنكتبت موصولة والعائد محذوف أي أن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة وجوز أن يراد بالموصول جميع ما تضمنته السورة السابقة وهو خلاف الظاهر جدا فإذا النجوم طمست أزيل أثرها بإزالة نورها أو بإعدام ذاتها وإذهابها بالكلية وكل من الأمرين سيكون وليس من المحال في شيء وما زعمه الفلاسفة المتقدمون في أمر تلك الأجرام واستحالة التحلل والعدم عليها أو هن من بيت العنكبوت وما زعمه المعاصرون من هم فيها وإن كان غير ثابت عندنا إلا أن إمكان الطمس عليه في غاية الظهور وإذا السماء فرجت شقت كما قال سبحانه إذا السماء انشقت ويوم تشقق السماء بالغمام وقيل فتحت كما قال سبحانه وفتحت السماء فكانت أبوابا وأنشد سيبويه
الفارجي باب الأمير المبهم
ولا مانع من ذلك أيضا سواء كانت السماء جسما صلبا أو جسما لطيفا وأدلة استحالة الخرق والألتئام فيها خروق لا تلتئم وإذا الجبال نسفت جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وكانت الجبال كثيبا مهيلا قال في البحر فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل ذلك جعلها هباء وقيل نسفت أخذت من مقارنها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرأ عمرو بن ميمون طمست وفرجت بتشديد الميم والراء وذكر الكشاف أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد وإذا الرسل أقتت أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك
(29/172)

عند مجيئه وحصوله والوجه هو الأول كما قال جارالله وتحقيقه كما في الكشف أن توقيت الشيء تحديد هو تعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن الموقت هو الأحداث لا الجثث ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدود وعلى هذايقع عليها دون إضمار إذا كأن بينها وبين ذلك الوقت ملابسة وإنما الوجه لأن القيامة لوقتا يتبين فيه وقت الرسل الذين يحضرون للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت وإذا الرسل أقتت يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو ما دل عليه إذا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي فلا بد من التأويل وقد أشبر إليه في ضمن التفسير وقرأ النخعيوالحسن وعيسى وخالد أقتتب الهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضا وقتتب الواو على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر مطرد كما بين في محله وقال عيسى وقتت لغة سفلي مضر وقرأ عبد الله بن الحسن وأبو جعفر وقتت بواو واحدة وتخفيف القاف وقرأ الحسن أيضا وقتتب واوين على وزن فوعلت وإذا في جميع ما تقدم شرطية وقوله تعالى لأي يوم أجلت قيل مقول لقول مقدر هو جواب إذا أي يقال لأي يوم الخ وجعل التأجيل بمعنى التأخير منقولهم دين مؤجل في مقابل الحال والضمير لما يشعر به الكلام والأستفهام للتعظيم والتعجيب من هول ذلك اليوم أي إذا كان كذا وكذا يقال لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم وظهور ماكانت الرسل عليهم السلام تذكره من الآخرة وأحواله او فظاعة أمورها وأهوالها وجوز أن يكون الضمير للأمور المشار فيها فيما قبل منطمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتاقيت الرسل وإن يكون للرسل إلا أن المعنى على نحوما تقدم وقيل أن يكون القول المقدر في موضع الحال من مرفوع أقتت أي مقولا فيها لأي يوم أجلت وأن تكون الجملة نفسها من غير تقدير قول في موضع المفعول الثاني لأقتت على أنه بمعنى أعلمت كأنه قيل وإذا الرسل أعلمت وقت تأجيلها أي بمجيئه وحصوله وجواب إذا على الوجهين قيل قوله تعالى الآتي ويل يومئذ للمكذبين وجاء حذف الفاء في مثله وقيل محذوف لدلالة الكلام عليه أيوقع الفصل أو وقع ما توعدون واختار هذا أبو حيان ويجوز علىاحتمال كون الجواب ويل يومئذ للمكذبين أو تقدير المقدر مؤخرا كون جملة لأي يوم أجلت اعتراضا لتهويل شأن ذلك اليوم وقوله تعالى ليوم الفصل بدل من لأي يوم مبين له وقيل متعلق بمقدر تقديره أجلت ليوم الفصل بين الخلائق وما أدراك ما يوم الفصل أي أي شيء جعلك داريا ما هو على أن ما الأولى مبتدأ وإدراك خبره وما الثانية خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمرا بديع الا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية مالا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التفظيع والتهويل المقصودين من الكلام ويل يومئذ للمكذبين أي في ذلك اليوم الهائل وويل في الأصل مصدر بمعنى هلاك حقه النصب بفعل لفظه أو معناه إلا أنه رفع على الأبتداء للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ويومئد ظرفه أو صفته فمسوغ الأبتداءبه ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء كما في سلام عليكم ألم نهلك الأولين كقوم نوح وعاد وثمود وقرأ قتادة نهلك بفتح النون على أنه منهلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما هو الظاهر فيقول العجاج ومهمه هالك من تعرجا
هائلة أهواله من أدرجا
(29/173)

لئلا يلزم حذف الضمير مع حرف الجر أعني به أوفيه وليناسب ما في الشطر الثاني ثم نتبعهم الآخرين بالرفع على الأستئناف وهو وعيد لأهل مكة وإخبار عما يقع بعد الهجرة كبدر كأنه قيل ثمنحن نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ونسلك بهم سببلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم ويقويه قراءة عبد الله ثم سنتبعهم بسينا لأستقبال وجوز العطف قوله تعالى ألم نهلك إلى آخره وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو نتبعهم بإسكان العين فحمل على الجزم والعطف على نهلك فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكا من المذكورين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام دون كفار أهل مكة لأنه مبعدم ا كانوا قد أهلكوا والعطف على نهلك يقتضيه وجوز أن يكون قد سكنت خفيفا كما في وما يشعر كمفهوم رفوع كما في قراءة الجمهور إلا أن الضمة مقدرة كذلك مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بالمجرمين أي بكل من أجرم والمراد أن سنتنا جارية على ذلك ويل يومئذ أي يوم إذا أهلكناهم للمكذبين بآيات الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا ولا تكرير لاختلاف متعلق المكذبين في الموضعين بأن يكون متعلقة هنا ما سمعت وفيما تقدم يوم الفصل ونحوه وكذا يقال فيما بعد وجوز اعتبار الأتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه ألم نخلقكم من ماء مهين من نطفة قذرة مهينة وليس فيه دليل على نجاسة المني فجعلناه في قرار مكين هو الرحم إلى قدر معلوم أي مقدار معلوم عند الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر فقدرنا أي فقدرنا ذلك تقديرافنعم القادرون أي فنعم المقدرون له نحن وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة علي كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي فقدرنا بالتشديد ولقوله تعالى من نطفة خلقه فقدره ولقوله إلى قدر معلوم فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها فقيل فقدرنا ذلك تقديرا أي تقديرا دال على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى ألم نخلقكم وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام معالم نكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولوسلم فقد قرروا بها بقوله تعالى ألم نخلقكم فتأمل ويل يومئذ للمكذبين أي بقدرتنا على ذلك أو الأعادة ألم نجعل الأرض كفاتا الكفات اسم جلس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضم هو جمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح فأنت اليوم فوق الأرض حي
وأنت غدا تضمك في كفات وعن أبي عبيدة تفسيره بالوعاء وقوله تعالى أحياء وأمواتا مفعول محذوف لا لكفاتا لأن اسم الجنس وكذا اسم الآلة كما صرح به النحاةلا يعمل أي ألم نجعلها كفاتا تكفت وتجمع أحياء كثيرة على ظهرها وأمواتا غير محصورة في بطنها وقيل هو مصدرك القتال نعت بهل لمبالغة فلا يحتاج إلى تقدير فعل وقيل جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا أوجمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهوالوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول كفاتاالمحذوف والتقدير مفاتا إياهم أو إياكم أو كفاتاالأنس أحياء وأمواتا أخمن مفعول حذف مع فعله أي كفاتا تكفته أو تكفتكم أو تكفت الأنس أحياء وأمواتا وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذاتأحياء وأمواتأو على أن المراد بأمواتا الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد
(29/174)

وبإحياء مايقابلها وانتصاب كفاتا الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة إحياءالأنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غيرمحصور كثير في نفسه فلا تغفل واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه وقال ابن عبد البراحتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحي فيكون حرزاولا يخفى ضعف الأستدلالين وجعلنا فيها رواسي أي جبالا ثوابت شامخات مرتفعات ومنه شمخ بأنفه ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غيرالعقلاء مطرد كأشهر معلومات وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأنفي الأرض جبالا لم تعرف ولميوقف عليها فارض الله تعالى واسعة وفيهاما لم يعلمه إلا الله عز و جل وقيل للأشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهوالجبال السماوية وهوم يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بمالم يعرف وأسقيناكم ماء فراتاأ عذبا وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء ويل يومئذ للمكذبين بأمثال هذه النعم العظيمة إنطلقوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انطلقوا إلى ما كنتم به تكذب ونفي الدنيا من العذاب إنطلقوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار لهو إن قيد بقوله تعالى إلى ظل هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وظل من يحموم وفيه استعارة تهكمية وقرأ رويس عن يعقوب انطلقوا بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش وخصوصيةالثلاث قيل أما لأن حجاب النفسعن أنوار القدس الحسو الخيال لأن المؤدي إلى هذاالعذاب هو القوة الوهميةالشيطانية الحالة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عنيمين القلب والقوة الشهويةالبهيم عن يسار هو لذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبةعن يمينه وشعبةعن يسار هو قيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه و سلم فهناك ثلاثة تكذيبات واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل وعنابن عباس يقال ذلك لعبدةالصليب فالمؤمنون في ظل الله عز و جل وهم في ظلم عبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظليل أي لا مظلو هو صفة ثانية لظلون في كونه مظللا عنه يكون إلا مظللا للدلالة على أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفي هذا الأحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين ولا يعني من اللهب وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر الله بشيئا وعد يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك إنها أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمير للشعب ترمى بشرر هو تطاير من النار سمي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحدة شررة كالقصر كالدار الكبيرة
(29/175)

المشيدة والمراد كلشررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم بشرار بكسرالشين وألفبين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة ورقا بفيدل على أن المشبه بالقصر الواحدة وكذا قراءة عيسى بشرار بفتح الشين وألفبين الراءين أيضا فقد قيل أنه جمع لشرارة لا مفرد وجوز على قراءة الكسر أن يكون جمع شر غير أفعل التفضيل كخيارجمع خيروهو حينئذ صفة أقيمت مقام موصوفها أي ترمي بقوم شرار وهو خلاف الظاهر وقيلالقصر الغليظ من الشجرواحده قصرة نحو جمرة وجمر وقيل قطعمن الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء واحده كذلك فالتشبيه من تشبيه الجمع بالجمع من غير احتياج للتأويل بما مر إلا أن التهويل على القول الأخير دونه على غيره وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير والحسن وابن مقسم كالقصر بفتح القاف وهي أصول النخل وقيل أعناقها واحدها قصرة كشجرة وشجر وفي كتاب النبات الحبة لها قشرتان التحتية تسمى قشرة والفوقية تسمى قصرة ومنه قوله تعالى كالقصر وهو غريب وقرأ ابن مسعود كالقصر بضمتين جمع قصر كرهن ورهن وفي البحر كأنه مقصور من القصور كالنجم من النجوم وهو مخالف للظاهر لأن مثله ضرورة أو شاذ نادر وقرأابن جبير والحسن أيضا كالقصر بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة بفتحتين كحلقة من الحديد وحلق وحاجة وحوج وبعض القراء كالقصر بفتح القاف وكسر الصاد بمعنى القصرفي قراءة الجمهور كأنه أي الشرر جمالت بكسر الجيم كما قرأبه حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جم لوالتاء لتأنيث الجمع كما في البحر يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر وحجارة والتنوين للتكثير صفر فإن الشرار لما فيه من النارية والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف وقيل سود والتعبير بصفر لأن سواد الأبل إلى الصفرة شبه به الشررحين ينفصل النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ في الأرتفاع والأنبساط لانشقاقه عن أإعداد غير محصورة بالجمال لتصورالأن والكثرة والصفرة والحركةالمخصوصة وقد روعي الترتيب في التشبيه رعايةلترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه بعضها ببعض ومنه قوله فوقفت فيها ناقتي وكأنها
فدن لا قضى حاجة المتلوم فالتشبيه الثاني بيان للتشبيه الأولعلى معنى أن التشبيه بالقصر كان المتبادر منه إلى الفهم العظم فحسب فلم قيل كأنه جمالة صفر وهو قائم مقام التخصيص في القصر تكثر وجه الشبه كأنه قيل كأنه قصر من شأنه كذا وكذا والتشبيه بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة أيضا والأول هو التحقيق على ما في الكشف وعلى الوجهين ليس التشبيه الثاني في البداء في شيء ولا حاجة في شيء من مهما إلى اعتبار كونه ضمير كأنه للقصر وقد ألم بشيء من حسن ما وقع في الآية من التشبيه وأبو العلاء المعري في قوله فيمرثية واحد من الأشراف المرقدي نار القرى الآصال
والإسحار بالأهضام والأشعاف حمراء ساطعة الذوائب في الدجى
ترمي بكلشرارة كطراف وإنكان قد قصد بذلك المعارضة للآية يكون قد أعمى الله تعالى بصيرته عما فيها من المزية كما أعمى سبحانه بصره وقرأ الجمهور ومنهم عمربن الخطاب رضعنه جمالات بكسر الجيم وبالألف والتاء جمع جمال أو حمالة بكسر الجيم فيهما فيكون جمع الجمع أو جمع اسم الجمع والمعنى على ما سمعت وقرأ ابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك إلا أنهم ضموا الجيم على أنه جمع جمالة على ما في الكشاف وقال في البحر هي حبال السفن
(29/176)

الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات ثم جمع على جمل وجمال ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا جمالات وقيل هي قلوس الجسور أي حبالها التي تشد بها وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير قالا إنهاإذااجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء أجرام عظام وعن ابن عباس أيضا هي قطع النحاس الكبار والظاهر أن التشبيه على هذاباعتبار اللون وعلى ما سبق باعتبار الأمتداد والألتفات وقرأابن عباس أيضا وال والأعمش وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وروي سجمالة كجمالة حفص ومن معه إلا أنهم ضموا الجيم وهي عند الزمخشري اسم مفرد بمعنى القلس وجمع صفر لإرادة الجنس وقرأ صفر بضم الفاء ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون الأشارة إلى وقت دخولهم النار أي هذا يوم لا ينطقون فيه شيء لعظم الدهشة وفرط الحيرة ولا ينافي هذا ما ورد في موضع آخر من النطق لأن يوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون وجوز أن يكون المراد هذا يوم لا ينطقون بشيء ينفعهم وجعل نطقهم لعدم النفع كلا نطقوقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية هذايوم بالفتح هو فتح إعراب على أن هذا إشارةإلى ما ذكر ويوم منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف وقع خبرا لهذاالذي ذكرمن الوعيد واقع في يوم لا ينطقون وقيل هو فتح بناء ويوم في محل رفع على الخبرية وبني لأضافته للجملة ولماحقه البناء وعن صاحب اللوامح قال عيسى بناء يوم علىالفتح مع لا لغة سفلى مضر لأنهم جعلوه معها كالاسم الواحد وأنت تعلم أن الجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لايجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه وأن ما ذكر مذهبك وفي ولايؤذن لهم قيل في النطق مطلقا أوفي الأعتذار وقرأ زيد بن علي كما حكى عنه أبو علي الأهوازي بالبناء للفاعل أي ولا يأذن الله تعالى لهم فيعتذرون عطف على يؤذن منتظم معه في سلك النفي والفاء للتعقيب بين النفيين في الأخبار في قول ولترتب النفي الثاني نفسه على الأول في آخر ونظر فيه ولم يقل فيعتذروا بالنصب في جوابا لنفي قيل ليفيد الكلام نفي الأعتذار مطلقا إذ لا عذر لهم ولا يعتذرون بخلاف ما لو نصب وجعل جوابا فإنه يدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الأذن فيوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه وقال ابن عطية إنما لم ينصب في جواب النفي للمحافظة على رؤس الآي والوجهان جائزان وظاهره المعنى عليهما وهومخالف لكلامهم لقولهم بالسببية في النصب دون الرفع نعم ذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أنه قد يرفع الفعل ويكون معناه على قلة معنى المنصوب بعد الفاء وأن النحويين إنما جعلوا معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب وجعل دليله علىذلك هذه الآية وعليه ذلك ابن عصفور وغيره فتدبر والظاهر أن نفي الأعتذار باعتبار بعض المواطن والمواقيت كنفي النطق وجوز أن يكون المنفي حقيقة الأعتذار النافع فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل بين المحق والمبطل جعلناكم والأولين أي من تقدمكم من الأمم والكلام تقرير وبيان للفصل لأنه لا يفصل بين المحق والمبطل إلا إذا جمع بينهم فإن كان لكم كيد فكيدون فإن جميع من كنتم تقلدونهم وتقتدون بهم حاضرون وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم ويل يومئذ للمكذبين حيث أن لا حول لهم ولا حيلة في التخلص مما هم فيه إن المتقين من الكفر والتكذيب لوقوعه في مقابلة المكذبين بيوم الدين فيشمل عصاةالمؤمنين في ظلال جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظلال ليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس ويعبر
(29/177)

به أيضا عن الرفاهة وعن العزة والمناعة وعن هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتب منه ما هوالمعروف ويؤيدهما تقدم في المقابل انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب الخ وقراء الأعمش في ظل جمع ظلة وأيا كان فالمراد من قوله تعالى إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون إنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون مقدر بقوله و حال من ضمير المتقين في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولا لهم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون في الدنيا من العمل الصالح بالأيمان وغير ذلك إنا كذلك أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين لا جزاء أدنى منه والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلا أنه وضعوضعالظاهر موضع الضمير مدحالهمبصفة الأحسان أيضا مع الأشعار بعلة الحكم وجوز أن يراد بالمتقينو المحسنين الصالح المؤمنين ولا دليل في هل لمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر في النار وغاية الأمرعدم التعرض لحالهم ويل يومئذ للمكذبين حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا في العذاب الأليم كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من الأجلة أي الويل ثابت لهم في حالما يقال لهم ذلك تذكيرا لما كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاءب به حيث تركوا الخط الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير وعلى طريقته قوله أخوتي لا تعبدوا أبدا
وبلى والله قد بعدوا فهو دعاء لأخوته بعدم الهل هلاكهم تقريرا بأنهم كانوا أحقاء بذلك الدعاء في حاتهمو إنه لا كهم لحينونة الأجل المسمى لا لأنه مكانوا أحقاء بالدعاء عليه موذهب أبو حيان إلى أنه كلام مستأنف خوطب به المكذبون في الدنيا والأمر فيه أمر تحسير وتهديد وتخسير ولم يعتبر التهديد على الأول لأنه غير مقصود في الآخرة ورجح بأنه أبعد من التعسفو أو فقلت أليف النظم والظاهر أن قوله سبحانه إنكم الخ في موضع التعليل وفيه دلالة على أن كل مجرم نهايته تمتع أيام قليلة ثم يبقى في عذاب وهلاك أبدا ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا أي أطيعوا الله تعالى واخشعوا وتواضعوا له عز و جلب قبول وحيه تعالى واتباع دينه سبحانه وارفضوا هذاالستكبار والنخوة لايركعون لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على ما هم عليه من الأستكبار وقيل أي إذا أمر بالصلاة أو بالركوع فيها لا يفعلون إذ روي عن مقاتل إن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة و السلام حط عنا الصلاة فأنا لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال عليه الصلاة و السلام لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ورواه أيضا أبو داود والطبراني وغيرهما وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجلأنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى للمكذبين كأنه قيل ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهما ركعوا لا يركعون وجوز أن يكون أيضا بقوله سبحانه أنكم مجرمون على طريقة الألتفات كأنه قيل هم أحقاء بأن يقال لهم كلوا وتمتعوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلوا يصلونواستدل به على أن الأمر للوجوب وإن الكفار مخاطبون بالفروع ويلي ومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده أيبعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبارالنشأتين علىنمط بديع مع مؤسس على حج جقاطعة وبراهين ساطعة يؤمنون إذ لم يؤمنوا به والتعبير ببعده دون غيره للتنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه فضلا أن يفوته ويعاليه فلا حديث أحق بالإيمان
(29/178)

منه فالبعدية للتفاوت في الرتبة كما قال في عتل بعد ذلك زنيم وكان الفاء لما أن المعنى إذا كان الأمر كذلك وقد اشتمل القرآن على البيان الشافي والحقالوا ضحفما بالهم لا يبادرون الأيمان به قبل الويل وعدم الأنتفاع بعسى ولعل وليت وقرأ يعقوب وابن عامر في رواية تؤمنون على الخط هذا ولما أو جزفي سورةالأنسان في ذكر أحوال الكفارفي الآخرة وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها عكس الأمر في هذه السورة فوقع الأعتدال بذلك بين هذه السورتين والله تعالى أعلم تم والحمد لله تعالى الجزء التاسع والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثلاثين وأوله سورة النبأ 30
(29/179)

يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية بالأتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في غيرها ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دل ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك ألم نهلك الأولين ألم نخلقكم من ماء مهين ألم نجعل الأرض كفاتا الخ وفي هذه ألم نجعل الأرض مهادا الخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الأشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر وأيضا في سورة المرسلات لاي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل وفي هذه أن يوم الفصل كان ميقاتا الخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها أه وقيل أنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه حديث بعده يؤمنون وكاد المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والأستهزاء به وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن ألمراد بالنبأ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله عالى بسم الله الرحمن الرحيم عم أصله عما على أصله حرف دخل على ما الأستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الأتصال وكثرة الدوران وحال العلل النحوية معلوم وقد قرأ عبد الله وأبي وعكرمة وعيسى بالألف على الأصل وهو قليل الأستعمال وقال ابن جني
(30/2)

إثبات الألف أضعف اللغتين وعليه قوله على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد والأستفهام للإيذان بفخامة شأن المؤل عنه وهوله وخروجه عن دود الأجناس المعهودة أي عن أي شيء عظيم الشأن يتساءلون الضمير لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم للأستغناء عنه بحضورهم حسا مع ما في الترك على ما قيل والإهانة لأشعاره بأن ذكرهم مما يصان عنه ساحة الذكر الحكيم ولا يتوهم العكس لمنع المقام عنه يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه إنكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل على حقيقته ومسماه بل على وقوعه الذي هول حال من أحواله ووصف من أوصافه وما كما مر غير مرة وأن اشتهرت في طلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها لكنها قد يطلب بها الصفة والحال فيقال ما زيد ويجاب بعالم أو طبيب وقيل كانوا يتساءلون الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين استهزاء فالتساؤل متعد ومفعوله مقدر هنا وحذف لظهوره أو لأن المستعظم السؤال بقطع النظر عمن سأل أو لصون المسؤل عن ذكره مع هذا السائل وتحقيق ذلك على ما في الأرشاد أن صيغة التفاعل في الأفعال المتعدية لأفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنه يرفع المتعدد على الفاعلية ترجيحا لجانب فاعليته وتحال مفعوليته على دلالة الفعل كما في قولك تراءى القوم أي رأى كل واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد صدور الفعل عن المتعدد عاريا عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل حينئذ مفعول كما في قولك تراأوا الهلال وقد يحذف كما فيما نحن فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضا فيراد تعدده باعتبار تعدد متعلقه مع وحدة الفاعل كما في قوله تعالى فبأي آلاء ربك تتمارى وذكر بعض المحققين أنه قد يكون لصيغة التفاعل على الوجه الأول مفعول أيضا لكنه غير الذي فعل به مثل فعله كما في تعاطيا الكاس وتفاوضا الحديث وعليه قول امريء القيس فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال فمن قال أن تفاعل لا يكون إلا من اثنين ولا يكون إلا لازما فقد غلظ كما قال الطبليوسي في شرح أدب الكاتب أن أراد ذلك على الإطلاق وليت شعري كيف يصح ذلك مع أن مجيء تفاعل بمعنى فعل غير متعدد الفاعل كتوان وتدان الأمر وتعال الله عما يشركون جدا وكذا مجيئه متعديا إل غير الذي فعل به مثل فعله كما سمعت وجوز أن يكون ضمير يتساءلون للناس عموما سواء كانوا كفار مكة وغيرهم من المسلمين وسؤال المسلمين ليزدادوا خشية وإيمانا وسؤال غيرهم استهزاء ليزدادوا كفرا وطغيانا وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر الآيات بعد وقيل كان التساؤل عن القرآن وتعقب بأن قوله تعالى ألم نجعل الأرض الخ ظاهر في أنه كان عن البعثوهو مروي عن قتادة أيضا لأنه من أدلته وأجيب بأن تساؤلهم عنه واستهزاؤهم به واختلافهم فيه بأنه سحر أو شعر كان لاشتماله على الأخبار بالبعث فبعد أن ذكر ما يفيد استعظام التساؤل عنه تعرض الدليل ما هو منشأ لذلك التساؤل وفيه بعد وقوله تعالى عن النبإ العظيم بيان لشأن المسؤل عنه أثر تفخيمه بإبهام أمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فإن إيراده على طريقة الأستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه لانقطاع قرينه وانعدام نظيره خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب عن النبأ العظيم على
(30/3)

منهاج لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج وهو الذي تقتضيه جزاء التنزيل وقال مكي أن ذلك من ما الأستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في الكشف بأنه لا يصح فإن معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد الأستفهام أولا وقال الخفاجي البدلية جائزة ولا يلزم إعادة الأستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز كونه بدل بعض وقيل هو متعلق بيتساءلون المذكور وعم متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير في رواية عمه بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا يحسن الوقف بين الجار والمجرور ومتعلقه لعدم تمام الكلام ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل وهي والثانية متعلقان بيتساءلون المذكور كأنه قيل لم يتساءلون عن النبأ العظيم ونقله ابن عطية عن أكثر النحاة وقيل عن النبأ متعلق بمحذوف وهناك استفهام مضمر كأنه قيل عم أيتساءلون عن النبأ العظيم ووصف النبأ وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد خطره ووصفه بقوله سبحانه الذي هم فيه مختلفون للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفيه متعلق بمختلفون قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة إسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الأختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا الخ وشاك يقول ما ندري ما الساعة أن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وقيل منهم من ينكر المعادين معا كهؤلاء ومنهم من ينكر المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى وقد حمل الأختلاف على الأختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من ينكره لأنكاره الصانع المختار تعالى شأنه ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الأختلاف بالإقرار والإنكار أو بزيادة الخشية والأستهزاء على أن ضمير يتساءلون وضميرهم للناس عامة وقيل يجوز أن يكون الأختلاف بالأقرار والإنكار على كون ضمير يتساءلون للكفار أيضا بأن يجعل ضميرهم للسائلين والمسؤلين والكل كما ترى وإن تفاوتت مراتب الضعف والمعول عليه الأول وقال مفتي الديار الرومية الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم في البعث على مخالفتهم للنبي صلى الله عليه و سلم بأن يعتبر في الأختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل فإن الأفتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالأستباق والتسابق والأنتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين مخالفا اسم فاعل ومخالفا اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر بعد من الردع والوعيد استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة و السلام فكأنه قيل الذي هم فيه مخالفون للنبي صلى الله عليه و سلم انتهى وفيه أنه خلاف الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء وقرأ عبد الله وابن جبير تساءلون بغير ياء وشد السين على أن أصله تتساءلون بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين كلا ردع عن التساؤل عل الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن الأختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلى الله عليه و سلم في أمر البعث وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد اعتبار الردع إل ما فيها وقوله سبحانه سيعلمون وعيد لأولئك المتسائلين المستهزئين بطريق الأستئناف وتعليل للردع والسين للتقريب والتأكيد ومفعول يعلمون محذوف وهو ما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير
(30/4)

عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول جزاء التساؤل وقيل هو ما ينبيء عنه الظاهر وهو وقوع ما يتساءلون عنه علىى معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم واستهزائهم بين يدي ربهم عز و جل والألم يظهر كون ما ذكر وعيدا ومن جعل ضمير يتساءلون للناس عامة جعل ما هنا من باب التغليب لأنه لغير المؤمنين الجازمين به وجوز بعضهم كون كلا سيعلمون ردعا ووعدا على الرتداع والمراد ليرتدعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الأرتداع وأنت تعلم أن ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات وقوله تعالى ثم كلا سيعلمون قيل تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة وثم للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وبهذا الأعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في مثله أنه من التوكيد اللفظي وإن توسيط حرف العطف فلا تغفل وقيل الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء والثاني إشارة إل ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديد العذاب فثم في محلها لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه والظاهر أن العطف عل هذا وما قبله عل مجموع كلا سيعلمون وتوهم بعضهم من كلام بعض الأجلة أن العطف عل سيعلمون وأورد عليه أن إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه الدفع التخصيص بلا مخصص أنه عل الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين الردعين كتفاوتهما بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون كلا الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي عليه إنما يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلا سيعلمون دون كلا فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الإنكار أي الصريح وتفاوت ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما تر وقيل متعلق العلم في الأول البعث وفي الثاني الجزاء عل إنكاره وثم في محلها أي سيعلمون حقية البعث إذا بعثوا ثم كلا سيعلمون الجزاء عل إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا وجوز أن يكون المتعلق مختلفا وثم للتراخي الرتبي بأن يكون المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحوال المؤمنين والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والقاني إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد وأخزى وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفا بناء على أن ضمير يتساءلون للناس عامة لذلك أيضا بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم ثم سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعدا للمؤمنين والآخر وعيدا للكافرين وهما متفاوتان رتبة ولا يخفى عليك ما في ذلك وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر ستعلمون في الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الألتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كلا ستعلمون الخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع حسن على تقدير كون المراد يسألون النبي صلى الله عليه و سلم وعن الضحاك أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة وقوله تعالى ألم نجعل الأرض مهادا الخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته أثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع وجوز أن يكون بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو تشكون في البعث وقد عانيتم ما يدل عليه من القدرة التامة والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق عبثا وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي والمهاد الفراش الموطأ وفي القاموس المهد الموضع الذي يهيأ للصبي
(30/5)

كالمهاد وعليه فالمهد بمعن ويؤيده قراءة مجاهد وعيس الهمداني مهدا وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمي به ما يمهد وجوز أن يكون باقيا على المصدرية والوصف بالمصدر كثير أو التقدير ذات مهاد أو مهد وقيل كما يمكن أن يكون المهاد مصدرا سمي به المفعول يحتمل أن يكون فعالا أي اسما على زنته يؤخذ للمفعول كالاله والإمام وجعل الأرض مهادا إما في أصل الخلقة أو بعدها وأيا ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب ومذهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة عند القطبين لأنها كانت لينة جدا في مبدأ الأمر لظهور غاية الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم وأهل الشرع لا يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها والجبال أوتادا أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ أيضا والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد قال إلا فوه والبيت لا يبتني إلاله عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وفي الحديث خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الحبال فاستقرت فقالت الملائكة ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال قال نعم الحديد فقالت ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من النار قال نعم الماء فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء قال نعم الهواء فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الهواء قال نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفي ذلك عن شماله وظاهره كغيره أن خلق الجبال بعد خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدما وتأخرا وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس أن أول جبل أبو قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حديث منها بطول الزمان إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أسلماه للبلي وربما يشاهد حدوث بعض تلاع حجرية من انجماد بعض المياه واستشكل احتياجها للأرساء بالجبال مع طلبها للمركز بثقلها المطلق وأجيب بأنه قد علم الله تعالى أنها ستكن ويكون عليها من الأثقال ما يكون ومن المعلوم أنها حينئذ يكون لها مركزان مركز حجم ثقل والذي ينطبق منهما على مركز العالم إنما هو مركز الثقل فيلزم من تحرك ثقيل إلى جهة المشرق مثلا عليها تحركها لاختلاف مركز ثقلها ولزوم انطباقه على مركز العالم فيحصل الميد ولم تكن إذ ذاك بحيث لا يكون لما يكون عليها من أثقال سكنتها قدر يحس به فوضعت عليها الجبال وانطبق مركز ثقلها على مركز العالم وصار مجموع الأرض والجبال بحيث لا يظهر للمتحرك بعد قدر يحس به وقيل أنها كانت لخفتها بحيث يحركها أمواج البحر المحيط بها فيحصل الميد فثقلت بالجبال مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأرض لأجلها بحيث لا تحركها الأمواج وتمام الكلام في ذلك حسبما كنا واقفين عليه قد مر فتذكر وحكى عن بعض أن جعلها كذلك بمعنى جعلها سببا لانتظام أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت بهم أي لما تهيأت للأنتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي كل محالية إرادة الظاهر نعم قيل أن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعلها كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الأشتراك والأرتباط فافهم وخلقناكم عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه في قوة إما جعلنا الخ أو على ما يقتضيه الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا الخ والألتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في سيعلمون
(30/6)

للمبالغة في الإلزام والتبكيت أزواجا قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش وقيل أصنافا في اللون والصورة واللسان وقيل يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا الخلق من منيين منى الرجل ومنى المرأة والمعنى خلقنا كل واحد منكم أزواجا باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون خلقناكم أزواجا من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه وجعلنا نومكم سباتا أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم به ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة ويقال سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه وزعم ابن الأنباري كما في الدرر أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه أصم وقيل السبت التمدد كالسبط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتد والأمتنان به لما فيه من عدم الأنزعاج وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في القاموس من إطلاقه عليه على أن المعنى جعلنا نومكم نوما خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي البحر سباتا أي سكونا وراحة سبت إذا استراح وزعم ابن الأنباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد ليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الأحساس فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلام ومنه سمي اليوم المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم وقيل سمي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عز و جل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمى بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى وجعلنا الليل الذي يقع فيه النوم غالبا لباسا يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل واختار غير واحد إرادة الأعم وإن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيوم إذا أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاء ما لا تحبون الأطلاع عليه من كثير من الأمور وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيادة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من هذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب وقاك ردي الأعداء تسري إليهم
وزارك فيه ذو الدلال المحجب وقال بعضهم يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس لليوم في سهولة إخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلى عريانا في ليل أو ظلمة فصلاته صحيحة ولعمري لقد أتى عن لباس التحقيق كما لا تخفى على من أشرق عليه ضياء الحق الحقيق وجعلنا النهار معاشا مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياء المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع هنا ظرفا كما قيل في نحو أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط وقيل المعنى وجعلنا النهار وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم
(30/7)

ليلا أيضا لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الأستتار وفي الكشف أن المطابقة بين قوله تعالى وجعلنا الليل لباسا وقوله سبحانه وجعلنا النهار معاشا مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله تعالى وجعلنا النوم من حيث أن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحي ومنه علم أن قوله تعالى وجعلنا الليل لباسا غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين أه فيه تعريض بالطيبي حيث زعم الأستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت وبنينا فوقكم سبعا شدادا أي سبع سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للأشارة إلى تشبيها بالقباب المبنية على سكنتها وقيل للأشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلها سقفا في آية أخرى وقد صح في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الأستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متي قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرلاات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا فكذا السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة وفي وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لأستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الأستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكوكب متحركا إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا وأما الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الأعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم وأما غير ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الأدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته بقي ههنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة المنكرون للبعث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة فيقال أن كون السماوات سبعا مما لا يدرك بالمشاهدة هم المذكبون بالنبي صلى الله عليه و سلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها فقالوا في باديء الأمر بسبع سماوات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا الثوابت وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما نحن فيه واعترض بأن هذا لا يتم إلا إذا كانوا قائلين بأن السماء
(30/8)

عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الأستدارة ويكون أوجها حضيضا وحضيضها أوجا ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كما لا يخفى وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لا سيما في المتحيرة ولو كان العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره وقيل أنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقرر بها في سلك واحد من العلم والأمر فيه سهل وقيل نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو إخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقية العلم وهو كما ترى واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة جعلنا الأرض إلى آخره وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهو حينئذ ابتداء إخبار منه عز و جل بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي بلم أوفق بالأستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل وتقديم الظرف على المفعول للتشويق اله مع الفواصل وجعلنا أي أنشأنا وأبدعنا سراجا وهاجا مشرقا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء ونصب سراجا على المفعولية ووهاجا على الوصفية له وجوز بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه ههنا مما يتعدى إليهما وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وأن قيل السراج الشمس وهي لانحصارها في فرد كالمعرفة واختلف في موضع الجعل والمشهور أنه في اتلسماء الرابعة ولم نر فيه أثرا سوى ما في البحر من عبد الله بن عمرو بن العاص قال الشمس في السماء إلينا ظهرها ولهبها يضطرم علوا والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع على ترتيب خسف بعضها بعضا أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا القمر يكسف الست من السيارات وكثيرا من الثوابت المحاذية لطريقته في ممر البروج وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف وأيهما خفى لونه فهو منكسف وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولاانكسافها بشيء من الكواكب غير القمر فذهب بعض القدماء إلى أن فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفاتها كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن يكونا معا والبصير على خط واحد مستقيم والألم يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والأبصار ولأن جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للأبصار على ما نص عليه بطليموس في الأقتصاص وذهب بعض من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت فلك الشمس وأن لم تكسف بهما استحسانا لما في ذلك من حسن الترتيب وجودة
(30/9)

النظام على ما بين في موضعه ومال إليه بطليموس قال في المجسطي ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد عنها كل البعد وبين ما لا يبعد عنها إلا يسيرا ثم قوى عزمه لما رأى بعد الشمس من الأرض مناسبا لهذا الموضع لأنه لما وجد بين أبعد بهد القمر وأقرب قرب الشمس بعدا يمكن أن يوجد فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة قال في الأقتصاص مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلا ولا يحسن أن يكون فيه المريخ فضلا عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير وفي الثاني في أسفله ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء وأهل الأرصاد اليوم على ما سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سوادا وعلامات مختلفة ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض كتبهم أنه ينشق من حوالي جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها عن الأرض عند كل المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الختلاف المفضي بيانه بما له وعليه إلى مزيد تطويل وأنزلنا من المعصرات هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل أنها جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيرا كما جزر إذا حان وقت جزاره وأحصد إذا شارف وقت حصاده ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض قال أبو النجم العجلي تمشي الهوينا مائلا خمارها
قد عصرت أو قد دنا أعصارها وجوز على تقدير كون الهمزة للحينونة أن يكون المعنى حان لأها أن تعصر أي تغيث ومنه العاصر المغيث ولذا قال ابن كسيان سميت السحائب بذلك لأنها تغيث فهي من العصرة كأنه في الأصل بمعنى حان أن تعصر بتخييل أن الدم يحصل منها بالعصر وقيل أنها جمع لذلك أيضا إلا أن الهمزة لصيرورة الفاعل ذا المأخذ كأيسر وأعسر وألحم أي صار ذا يسر وصار ذا عسر وصار ذا لحم وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة أنها الرياح لأنها تعصر السحاب فيمطر وفسرها بعضهم بالرياح ذوات الأعاصير على أن صيغة اسم الفاعل للنسبة إلا الأعصار بالكسر وهي ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ويعتبر التجريد عليه على ما قيل والمازني اعتبر النسبة أيضا إلا أنه قال المعصرات السحائب ذرات الأعاصير فإنها لا بد أن تمطر معها وأيد تفسيرها بالرياح بقراءة ابن الزبير وابن عباس وأخيه الفضل وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة بالمعصرات بياء السببية والآلية فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل الماء من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير المعصرات بالرياح للتعليل وذهب غير واحد إلى أنها للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للأنزال وتعقب بأن ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد ابن أسلم ومقاتل وقتادة أيضا أنها السماوات وتعقب بأن السماء لا ينزل منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكان السماوات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى العاصر أي الحامل على العصر ولو قيل المراد بالعصر الذي حان له أن يعصر كان تكلفا
(30/10)

على تكلف والذي في الكشف أن الهمزة على التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل ماء ثجاجا أي منصبا بكثرة يقال ثج الماء إذا سال بكثرة وثجه أي أساله فثج ورد لازما ومتعديا واختير جعل ما في النظم الكريم من اللازم لأنه الكثر في الأستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كان الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في قوله صلى الله عليه و سلم أفضل الحج العج والثج أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدى والمراد أفضل أعمال الحج التلبية والنحر ولا يأتي الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو سلم فالقلة نسبية وقرأ الأعرج ثجا جاء بجيم ثم حاء مهملة ومثاجح الماء مصابه لنخرج به أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده حبا ونباتا ما يقتاب به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الأخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الأنسان وجنات جمع جنه وهي كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض من الجن وهو الستر وقال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل قول زهير
من النواضح تسقى جنة سحقا
وهو المراد هنا وقوله تعالى ألفافا أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة واختاره الزمخشري وقال ابن قتيبة جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع الجمع واستبعد بأنه لم يجيء في نظائره وذلك فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجيء أخضار جمع خضر ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في المفردات لا يكفي كذا قيل وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه جمعا لفاعل وفي الكشاف لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها انتهى وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه النحاة في مثل ذلك ترخيما لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف واعترضه في الكشف فقال فيه أنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم ثابت أما جمعه فلا لكن قيل أن هذا غير مسلم فإنه وقع في كلامهم ولم يعترضوا له لقتله والحق أنه وجه متكلف وجمهور اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف وفعل يجمع على أفعال بأطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الأقليد أنه قال أنشدني الحسن بن علي الطوسي جنة لف وعيش مغدق
وندامى كلهم بيض زهر وجوز في القاموس أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيقته من أوجه ثلاثة على ما قيل الأول باعتبار قدرته عز و جل فإن من قدر على إنشاء تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا اخرج الحب والنبات من الأرض يعاين كل حين فكأنه قيل فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للإيمان به فما لكم تخوضون فيه إنكارا وتسألون عنه استهزاء وقوله تعالى إن يوم الفصل كان ميقاتا شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين متى هذا
(30/11)

الوعد إن كنتم صادقين ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جري به الوعيد إجمالا وقال بعض الأجلة أنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل إن الخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي يوم فصل الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز و جل ميقاتا وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي إليه أو حدا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند النفخة الأولى وأيا ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه يوم ينفخ في الصور أي النفخة الثانية ويوم بدل من يوم الفصل أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخ وفي بقيت الفصل ومباديه وآثاره وتقدم الكلام في الصور وقرأ أبو عياض في الصور بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام في ذلك أيضا والفاء في قوله تعالى فالأتون فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية سرعة الأتيان كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلا أفواجا أي أمما كل أمة بأمامها كما قال سبحانه يوم ندعو كل أناس بأمامهم أو زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف الأعمال وتباينها واستدل لهذا بما خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال يا رسول الله ما قول الله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا فقال يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه ثم قال عليه الصلاة و السلام عشرة أصناف قد ميزهم الله عز و جل من جماعة المسلمين فبدل صورهم فبعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها وبعضهم عمي يترددون وبعضهم صم بكم لا يعقلون وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبهضهم مصلبون على جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمى فالذين يجورون في الحكم وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون بالناس إلى السلطان وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه وعليه قيل لا بد من تغليب في قوله تعالى تأتون إذ لا يمكن الأتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه ورجلاه وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل وأن تمشى بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية وفتحت السماء عطف على ينفخ على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وعن الزمخشري أنه معطوف على فتأتون وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في الكشف وقال الشرط في حسنه أن يكون مقربا من الحال أو يكون المضارع حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جيء به بلفظ الماضي تفخيما وتحقيقا لوقوعه فهو أقرب
(30/12)

قريب منه ولو جعل حالا على معنى فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجها وقرأ الجمهور أي من عدا الكوفيين فتحت بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى فكانت أبوابا وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى إذا السماء انشقت وقوله سبحانه إذا السماء انفطرت إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه بعضا وجاء الفتح بهذا المعنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل نكتة التعبير به عنه الأشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان بمعنى صار ولدلالتها على الأنتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا تصير أبوابا حقيقة قالوا أن الكلام على التشبيه البليغ أي فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب وقيل الفتح على ظاهره والكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء فصارت كان كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى ويوم تشق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب وأيضا فتح أبوابها ليس من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم أن الوجه الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها طرقا لا يسدها شيء وفيه بعد وعلى ما تقدم في الآية رد على زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وأن حقق الملا صدرا في الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤل له الآيات والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف وسيرت الجبال أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش فكانت سرابا أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليست بجبال بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلا وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلا من الجبال والسراب يرى على شكل شيء وليس هو بذلك الشيء وجوز أن يكون وجه الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غبارا منتشرا كما قال تعالى وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا من الأزهار البديعة في علم الطبيعة لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فكانت أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن موقعه الطبيعي من الأرض والأنعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة وقد ترى فيه صور سابحة كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلا صور حاصلة من أنعكاس صور مرئية بعيدة جدا أو متراكبة في طبقات الهواء المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن نظر وأيا ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله عز و جل يسير الجبال ويجعلها هباء منبثا ويسوي الأرض يومئذ كما نطق به قوله تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي وقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلا بعد النفخة الثانية وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة الأولى وقيل إن تسييرها وصيرورتها
(30/13)

سرابا عند النفخة الأولى أيضا ويأباه ظاهر الآية نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون أفواجا وقد سيرت الجبال فكانت سرابا لكان ذلك محتملا والظاهر أنها تصير سرابا لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى وقول بعضهم أنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف الظاهر إن جهنم كانت مرصادا شروع في تفصيل أحكام الفصل أضيف إليه اليوم أثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما صرح به الراغب والجوهري وغيرهما كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجمع أي موضع رصد وترقب ترصد فيه خزنة النار ليعذبوهم وقيل ترصد فيه خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها وقيل ترصد الملائكة عليهم السلام الطائفتين لتعذب أحدهما وهي المؤمنة وتعذب الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمتحار أي مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على نحو ما سمعت آنفا وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه وفي البحر أن مرصادا معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد في الآية لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار وقال قتادة كما أخرج هؤلاء عنه أيضا اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار وقوله تعالى للطاغين أي المتجاوزين الحد في الطغيان متعلق بمضمر أما نعت لمرصادا أي كائنا للطاغين وأما حال من قوله تعالى مآبا قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر لكان صفة له أي كانت مرجعا ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون لا محالة وجوز أن يكون خبرا آخر لكانت أو متعلقا بمآبا أو بمرصاد وعليه قيل معنى مرصادرا لهم معدة لهم من قولهم أرصدت له أي أعددت وكافأته بالخير أو الشر ومآبا قيل بدل من مرصادا على جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل هو ثان لكانت أو صفة لمرصادا وللطاغين متعلق به أو حال منه على بعض التفاسير السابقة في كانت مرصادا فتأمل وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر أن جهنم بفتح الهمزة بتقدير لام جر لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لأقامة الجزاء وتعقب بأنه ينبغي حينئذ أن يكون أن للمتقين أيضا بالفتح ومعطوفا على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بأقامة الجزاء إلا أن يقال ترك العطف للأشارة إلى استقلال كل من الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو كان المراد فيما سبق كانت مرصادا للفريقين على ما سمعت لا يتسنى هذا الكلام أصلا وقوله تعالى لابثين فيها أي مقيمين في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في للطاغين وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وروح لبثين بغير ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابثين وقال أبو حيان أن فاعلا يدل على من وجد منه الفعل وفعلا يدل على شأنه ذلك كحاذر وحذر وقوله تعالى أحقابا ظرف للبثهم وهو وكذا أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن عباس
(30/14)

وابن المنذر عن ابن عمر وروي عن جمع من السلف بيد أنهم قالوا أن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعا أنه بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما تعدون وقيل أربعون سنة وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه حديثا مرفوعا وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة واختار غير واحد تفسيره بالدهر وأيا ما كان فالمعنى لا بثين فيها أحقابا متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع في الأستعمال بشهادة الشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف الراكب والمتتابعات يكون أحدهما خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان التتابع في الأستعمال وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى وتتابع الأحقاب القليلة كذلك وقيل أن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أب بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل أنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن أصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه أن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود وقوله تعالى وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم إلى غير ذلك وأن جعل قوله تعالى لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا حالا من المستكن في لابثين فيكون قيدا للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا ثم يكون لهم بعد الأحقاب لبث على حال آخر من العذاب وكذا أن جعل أحقابا منصوبا بلا يذوقون قيدا له إلا أن فيه بعدا ومثله لو جعل لا يذوقون فيها الخ صفة لأحقابا وضمير فيها لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى وقول مقاتل ان ذلك منسوخ بقوله تعالى فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا فاسد كما لا يخفى وجوز أن يكون أحقابا جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطاه الرزق وحقب العام إذا قل مطره وخيره والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من ضمير لابثين وقوله تعالى لا يذوقون صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة خبر عنهم والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير والشراب معروف والحميم الماء الشديد الحرارة والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيها شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا وفي الحديث أن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ ومنه قول حسان بن ثابت يسقون من ورد البريص عليهم
برد يصفق بالرحيق السلسل
(30/15)

وقول الآخر أماني من سعدي حسان كأنما
سقتك بها سعدي على ظما بردا فيكون ولا شرابا من نفي العام بعد الخاص وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي البرم النوم والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد البرد وقال الشاعر فلو شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا أي وهو مجاز في ذلك عند بعض ونقل في البحر عن كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل وعن ابن عباس وأبي العالية الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من بردا إلا أنه أخر لتوافق رؤس الآي فلا تغفل وقرأ غير واحد من السبعة غساقا بالتخفيف جزاء أي جوزوا بذلك جزاء فجزاء مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبرا آخر لكانت ليس بشيء وقوله تعالى وفاقا مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله وأيا ما كان فالمراد جزاء موافقا لأعمالهم على معنى أنه بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته تعالى والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية حالية أو مستأنفة وجوز أن يكون وفاقا مصدرا منصوبا بفعل مقدر أيضا أي وافقها وفاقا وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء وقال الفراء هو جمع وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذ صفة لجزاء من الخفاء وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وفاقا بكسر الواو وتشديد الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقا لحاله وفي الكشف وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفا بحال صاحبه كما لا يخفى وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه إنهم كانوا لا يرجون حسابا تعليل لاستحقاق العذاب المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم وكذبوا بآياتنا الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به كذابا أي تكذيبا مفرطا وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مطرد شائع في كلام فصحاء العرب وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي
وعن حاجة قضاؤها من شفائيا وقال ابن مالك في التسهيل أنه قليل وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف قال صاحب اللوامح وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففا بالتخفيف مثل كتب كتابا فكذابا بمعنى كذبا وعليه قول الأعشى فصدقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كذابه والكلام هنا عليه من باب أنبتكم من الأرض نباتا ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بآياتنا وكذبوا كذابا أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون وأيا ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلا منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الأعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلا كذب الآخر حقيقة ويجوز أن تكون المفاعلة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم عن الجد والأجتهاد في الفعل ويحتمل الأستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنيين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذيبن على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون كذابا بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالا أيضا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قول طرفة
(30/16)

إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا
به حين يأتي لا كذاب ولا علل وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفردا صيفة مبالغة ككبار وحسان فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبا كذابا فيفيد المبالغة والدلالة على الأفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم والأسناد فيه مجازي وكل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم وقال أبو حيان أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه بمضمر يفسره أحصيناه أي حفظناه وضبطناه وقرأ أبو السمال بالرفع على الأبتداء كتابا مصدر مؤكد لأحصيناه فإن الأحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط فإما أن يؤول أحصيناه بكتبناه أو كتابا بإحصاء وجوز الأحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح أو صحف الحفظة والظاهر أن الكلام على حقيقته وقال بعضهم الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الشياء في علمه تعالى بضبط المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلا فهو عز و جل مستغن عن الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلا فالأنضباط في علمه تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما قدمنا وليس ذلك للأحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لاحق بهم لأن معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء وليس بذاك وقال البعض الأوجه عندي إن كل شيء منصوب بالعطف على إسم أن في أنهم لا يرجون حسابا وأحصيناه كتابا عطف على خبره والرفع العطف على محل اسم إن والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقا لأعمالهم لأن الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الوليان لأفادة صدور الموجب وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لأفادة الضبط وعدم الفوت أي مع دماج الأشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضا انتهى ولا يخفى ما فيه من التكلف فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق والأمر به في غاية الظهور وقيل الأظهر أنه مرتبط بقوله تعالى لا يذوقون فيها بردا الخ إذا ذاقوا الحميم والغساق فيقال لهم ذوقوا فلن نزيدكم الخ وحينئذ الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من كثرة الأعتراض ومجيئه على طريق اللتفات للمبالغة لتقدير إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن الحسن قال سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار فقال قول الله تعالى فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ووجه الأشدية على ما قيل أنه تقريع في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي على القول بإفادتها التأييد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة وقيل يحتمل أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار وفيه من البعد ما فيه واستشكل أمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزاء موافقا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لو لاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى وقيل أن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلا في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يوما فيوما وقيل
(30/17)

لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى أشد عذاب والعذاب المزاد يوما فيوم من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل إن للمتقين مفازا شروع في بيان أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومفازا مصدر ميمي أو اسم مكان أي أن للذين يتقون عمل الكفر فوزا وظفرا بمساعيهم أو موضع فوز نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة حدائق بدل اشتمال من مفازا على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك وجوز أن يكون بدل كل على الأدعاء أو منصوبا بأعني مقدرا وهو جمع حديقة وهي بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر وقال الراغب قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر وأعنابا جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الروم وبها الأشجار وموضعها وخص بالذكر اعتناء به وأما إن أريد به الكروم وبها الموضع فقط فلا ويتعين الأشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكروم وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطفا على مفازا وكواعب جمع كاعب وهي المرأة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية أترابا أي لدات ينشأن معا تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لوقوعهن معا على التراب أي الأرض وفي بعض التفاسير نساء الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين وكأسا دهاقا أي مترعة يقال دهق فلان الحوض وأدهقه أي ملأه عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قول الشاعر أتانا عامر يبغي قرانا
فاترعنا له كأسا دهاقا وفي البحر الدهاق الملأي مأخوذ من الدهق وهو ضبط الشيء وشده باليد كأنه لأمتلائه انضغط وعن مجاهد وجماعة تفسيره بالمتتابعة وصحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أنه قالهي الممتلئة المترعة المتتابعة وربما سمعت العباس يقول يا غلام اسقنا وادهق لنا وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال أي صافية ولا يخلو عن كدر والجمهور على الأول لا يسمعون فيها أي في الجنة وقيل في الكأس وجعلت الفاء للسببية لغوا هو لا يعتد به من الكلام وهو على ما قال الراغب الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وكذا ما لا يعتد به مطلقا ولا كذابا أي تكذيبا وقريء بالتخفيف أي كذابا أو مكاذبة وقد تضمنت هذه المذكورات أنواعا من الذات الحسية كما لا يخفى جزآء من ربك مصدر مؤكد منصوب بمعنى أن للمتقين مفازا فإنه في قوة أن يقال جازى المتقين بمفازا جزاء كائنا من ربك والتعرض لعنوان الربوبية للأشارة إلى أن ذلك حصل بترتيبه وإرشاده تعالى وإضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة و السلام دونهم لتشريفه صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل لم يقل من ربهم لئلا يحمله المشركون على أصنامهم وهو بعيد جدا ويعلم مما ذكرنا وجه ترك من ربك فيما تقدم من قوله تعالى جزاء وفاقا وعدم التعرض هناك لنسبة الجزاء إليه تعالى بعنوان آخر قيل من باب اللهم أن الخير بيديك والشر ليس إليك وقوله تعالى عطاء أي تفضلا وإحسانا منه عز و جل إذ لا يجب عليه سبحانه شيء بدل من جزاء فمعنى كونه جزاء أنه كذلك بمقتضى وعده وجوز أن يكون نصبا بجزاء نصب المفعول به وتعقب أبو حيان بأن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا خلاف لعلمه عند النحاة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن ذلك إذا كان الناصب للمفعول المطلق مذكورا أما
(30/18)

إذا حذف مطلقا ففيه خلاف هل هو العامل أو الفعل وقال الشهاب الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلا من اللفظ بفعله
كندلا زريق المال ندل الثعالب
وقوله يا قابل التوب غفرانا مآثم قد
أسلفتها أنا منها خائف وجل فليعرف وقوله تعالى حسابا صفة عطاء بمعنى كافيا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه أو هو على تقدير مضاف وهو مأخوذ من قولهم أحسبه الشيء غذا كفاه حتى قال حسبي وقيل على حسب أعمالهم أي مقسطا على قدرها وروي ذلك عن مجاهد وكان المراد مقسطا بعد التضعيف على ذلك فيندفع ما قيل أنه غير مناسب لتضعيف الحسنات ولذا لم يقل وفاقا كما في السابق ودفع أيضا بأن هذا بيان لما هو الأصل لا للجزاء مطلقا وقيل المعنى عطاه مفروغا عن حسابه لا كنعم الدنيا وتعقب بأنه بعيد عن اللفظ مع ما فيه من الإيهام وقرأ ابن قطيب حسابا بفتح الحاء وشد السين قال ابن جني بني فعالا من أفعل كدراك من أدرك فمعناه محسبا أي كافيا ومنع بعضهم مجيء فعالا من الأفعال ودراك من درك فليحرر وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهسم بكسر الحاء وشد السين على أن مصدر ككذاب وقرأ ابن عباس حسنا بالنون من الحسن وحكى المهدوي حسبا بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة نحو قولك حسبك كذا أي كافيك رب السماوات والأرض وما بينهما بدل من لفظ ربك وفي إبداله تعظيم لا يخفى وإيماء على ما قيل إلى ما روي في كتب الصوفية من الحديث القدسي لو لاك لما خلقت الأفلاك وقوله تعالى الرحمن صفة لربك أو لرب السماوات على الأصح عند المحققين من جواز وصف المضاف إلى ذي اللام بالمعروف بها وجوز أن يكون عطف بيان وهل يكون بدلا من لفظ ربك قال في البحر فيه نظر لأن الظاهر أن البدل لا يتكرر وقوله تعالى لا يملكون منه خطابا استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة من غاية العظمة استقلالا له تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه والقراءة كذلك مروية عن عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم وقرأ العرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفع الأسمين فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر أي هو رب السماوات الخ وقيل الأول هو الخبر والثاني صفة له أو عطف بيمن وقيل الأول مبتدأ والثاني خبره ولا يملكون منه خبر آخر أو هو الخبر والثاني نعت للأول أو عطف بيان وقيل لا يملكون حال لازمة وقيل الأول مبتدأ أول والثاني مبتدأ ثان ولا يملكون خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه على رأي من يقول به واختير أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو يكون الثاني صفة للأول ولا يملكون استئنافا على حاله لما في ذلك من توافق القراءتين معنى وقرأ الأخوان والحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما بجر الأول على ما سمعت ورفع الثاني على البتداء والخبر ما بعده أو على أنه خبر لمبتدأ مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان وضمير لا يملكون لأهل السماوات والأرض ومنه بيان لخطاب مقدم عليه أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبيء عنه لفظ الكلك خطابا ما في شيء ما والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه عز و جل بشيء من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير إذنه تعالى على أبلغ وجه وآكده وجوز أن يكون منه صلة يملكون ومن ابتدائية والمعنى لا يملكون من الله تعالى خطابا واحدا أي لا يملكهم الله تعالى ذلك فلا يكون في أيديهم خطاب يتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون في الثواب أو ينقصون من العقاب وهذا كما تقول ملكت منه درهما وهو أقل تكلفا وأظهر منه حالا من خطابا مقدما وإضمار مضاف أي خطابا
(30/19)

من خطاب الله تعالى فيكون المعنى لا يملكون خطابا واحدا من جملة ما يخاطب به الله تعالى ويأمر به في أمر الثواب والعقاب وظاهر كلام البيضاوي حمل الخطاب على خطاب الأعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب ومنه على ما سمعت منا أولا أي لا يملكون خطابه تعالى والأعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له عز و جل على الإطلاق فلا يستحقون عليه سبحانه اعتراضا أصلا وأيا ما كان فالآية لا تصلح دليلا على نفي الشفاعة بإذنه عز و جل وعن عطاء عن ابن عباس أن ضمير لا يملكون للمشركين وعدم الصلاحية عليه أظهر يوم يقوم الروح والملائكة صفا قيل الروح خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين وقيل هو ملك ما خلق الله عز و جل بعد العرش خلقا أعظم منه عن ابن عباس أنه إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيد وأرجل وفي رواية يأكلون الطعام ثم قرأ يوم يقوم الروح والملائكة صفا وقال هؤلاء جند وهؤلاء جند وروي القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح وقيل هم أشراف الملائكة وقيل هم حفظة الملائكة وقيل ملك موكل على الأرواح قال في الأحياء الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس فقد أخرج هو عنه أيضا أنه قال إن جبريل عليه السلام يقوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله تعالى يقول سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك وإن ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح الناس وإن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدا ولعله لا يصح عن الحبر وقيل القرآن وقيامه مجاز عن ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء ويوم للا يملكون وصفا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروخ صف واحد أو متعدد والملائكة صف آخر وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى والملك صفا صفا وقيل يوم يقوم الروح والملائكة الكل صفا واحدا وجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى لا يتكلمون وقوله سبحانه إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا بدل من ضمير لا يتكلمون وهو عائد إلى أهل السماوات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياء ربوبيته عز و جل وتهويل البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إلى مطلقها والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى لا يملكون الخ ومؤكد له على معنى أن أهل السماوات والأرض إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقا وقال ذلك المأذون له بعد الأذن في مطلق التكلم قولا صوابا أي حقا من الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما وجوز أن يكون ضمير لا يتكلمون إلى الروح والملائكة والكلام مقرر لمضمون قوله تعالى لا يملكون الخ أيضا لكن على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكره بعض أهل السنة فتعقب بأنه مبني على مذهب الأعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من البشر مطلقا
(30/20)

وأنت تعلم أن من أهل السنة من ذهب إلى هذا كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام الرازي ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا يخلو عن إغلاق وتصدي من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالأطلاع على ما غاب عنا والمنسبة في النزاهة وقلة الواسائط ونحو ذلك فإنهم بهذا الأعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون مبنيا عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده بمرتبة واحدة وإن زادا في التبسط والدلال عليه وعن ابن عباس أن ضمير لا يتكلمون للناس وجوز أن يكون إلا من أذن الخ منصوبا على أصل الأستثناء والمعنى لا يتكلمون إلا من حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي حقا هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روي عن ابن عباس وعكرمة وعليه قيل يجوز أن يكون قال صوابا في موضع الحال ممن بتقدير قد أو بدونه لا عطفا على أذن ومن الناس من جوز الحالية على الوجه الأول أيضا لكن من ضمير يتكلمون باعتبار كل واحد أو باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب إلا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه ما فيه جملة لا يتكلمون حال من الروح والملائكة أو من ضميرهم في صفا والجمهور على ما تقدم وإظهار الرحمن في موقع الإضمار للإيذان بأن مناط الأذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم للأشارة إلى أن الرحمة مناط تربيته عز و جل وذلك إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الأبتداء خبره قوله تعالى اليوم الموصوف بقوله سبحانه الحق أو هو الخير واليوم بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم تعطف والفاء في قوله عز و جل فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا فصيحة تفصح عن شرط محذوف ومفعول المشيئة محذوف دل عليه الجزاء وإلى ربه متعلق بما قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر مآبا أي سبيلا وتعلق الجار به لما فيه من معنى الأفضاء والإيصال والأول أظهر وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز و جل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لا بد منه شاء أم لا والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن العبد مختار في الإيمان والطاعة ولا ثواب بدونهما وقيل لتقدم قوله تعالى للطاغين مآبا فإن لهم مرجعا لله تعالى أيضا لكن للعقاب لا للثواب ولكل وجهة إنا أنذرناكم أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم عذابا قريبا هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز و جل أو يقال البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد وعن قتادة هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فإن الظاهر أنه
(30/21)

ظرف لمضمر هو صفة عذابا أي عذابا كائنا يوم الخ وليس ذلك اليوم إلا يوم القيامة وكذا على ما قيل من أنه بدل من عذابا أو ظرف لقريبا وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل والظاهر أن المرء عام للمؤمن والكافر وما موصولة منصوبة بينظر والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بقدمت أي ينظر أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن النظر طريق العلم والكلام في قوة ينظر جواب ما قدمت يداه وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا وقرأ ابن أبي إسحاق المرء بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومر أو مرء على حسب الأعراب ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرورو وقال عطاء المرء هنا الكافر لقوله تعالى إنا أنذرناكم وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلا أنه وضع الظاهر موضعه لزيادة الذم وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهو الوجه لقوله تعالى فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا وأنا أنذرناكم لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا فلا دلالة على الأختصاص وقال ابن عباس وقتادة والحسن والمراد به المؤمن قال الإمام دل عليه قول الكافر فما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلا على المؤمن وأراد الكافر بقوله هذا ليتني كنت ترابا في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد أن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله وإلى حشر البهائم والأقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوين إن شاء الله تعالى وقيل الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة و السلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا لأنه احتقره لما قال خلقتني من نار وخلقته من طين وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره وحقيقته وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالأتفاق وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو ما تضمنته كلها وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الأنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز و جل في هذه على البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه
(30/22)

بسم الله الرحمن الرحيم
والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا أقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الأطلاق كما في رواية عن ابن عباس ومجاهد أو أرواح الكفرة على ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه وجويبر في تفسيره عن الحبر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد بن حميد عن قتادة وروي عن سعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيؤها لأدراك ما أعد لها من الآلام واللذات ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار والنشط والسبح بأرواح المؤمنين لأن النزع جذب بشدة وقد أردف بقوله تعالى غرقا وهو مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد وقيل هو نوع والنزع جنس أي في هذا المحل وذلك أنسب بالكفار وقال ابن مسعود تنزع الملائكة روح الكافر من جسده من تحت شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده مرارا فهذا عملها في الكفار والنشط الأخراج برفق وسهولة وهو أنسب بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة قال بعض السلف أن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك الأستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة وفي التاج أن النشط حل برفق ويقال كما في البحر انشطت العقال ونشطته إذا مددت أنشوطته فانحلت والأنشوطة عقدت يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة فإذا جعلت الناشطات من النشط بهذا المعنى كان أوفق للأشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغايل العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للأشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للأجلال والأعظام بالأقسام به من غير الضمام الأخر إليه ولو جعلت النازعات ملائكة العذاب والناشطات ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي على ما هو الأصل والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة وانتصاب نشطا وسبحا وسبقا على المصدرية كانتصاب غرقا وأما انتصاب أمرا فعلى المفعولية للمدبرات لا على نزع الخافض أي بأمر منه تعالى كما قيل وزعم أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم وجوز أن يكون غرقا مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات أو صفة للمفعول به لها أي نفوسا غرقة في الأجساد وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها وكان ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض أجلة المسلمين هذا ولم نقف على نص في أن الملائكة حال قبض الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا وظاهر تفسير الناشطات أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف والسابحات دخولهم فيه لأخراجها علىما قيل وأنت تعلم أن السبح ليس على حقيئته ولا مانع من أن يراد به مجرد الأتصال ونحوه مما لا توقف له على الدخول وجوز أن يكون المراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه ويعم ذلك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والعطف عليه لتغاير الموصوفات وأيا ما كان
(30/23)

فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة والتقدير والنازعات الخ لتبعثن وإليه ذهب الفراء وجماعة وقيل أقسام بالنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع وجدا في السير بأن تقطع الفلك على ما يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر ومنه قول هميان بن قحافة أرى همومي تنشط المناشطا
الشأم بي طورا وطورا واسطا وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات والمعاملات المؤجلة ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم ضرورة وحركاتها من برج بإراداتها من غير قسر لها وهي غير سريعة أطلق على الأولى النزع لأنه جذب بشدة وعلى الثانية النشط لأنه برفق وروي حمل النازعات على النجوم عن الحسن وقتادة والأخفش وابن كسيان وأبي عبيدة وحمل الناشطات عليها عن ابن عباس والثلاثة الأول وحمل السابحات عليها عن الأولين وحملها أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها والمدبرات عليها من معاذ وإضافة التدبير إليها مجاز وقيل إقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لا بد أنها بالموت فإنها تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من أغرق النازع في النفوس إذا بلغ غاية المد ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها أياها حيث الفنه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق به حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام أنها بعد المفارقة قد تظهر لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المرء شيخه بعد موته فيرشده لما يهمه وقد نقل على جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد ذكره الغزالي ولذا قيل وليس بحديث كما توهم تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور أي أصحاب النفوس الفاضلة المتوفين ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى بحرمتهم وحمله بعضهم على الأحياء المتمثلين أمر موتوا وقيل أن تموتوا وتفسير النازعان بالنفوس مروي عن السدي إلا أنه قال هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها والناشطات بها عن ابن عباس أيضا ألا أنه قال هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن ابن مسعود إلا أنه قال هي أنفس المؤمنين إلى الملائكة عليهم السلام والذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى وقيل إقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها بالأجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهيو فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الأرتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة وقيل إقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسى بإغراق السهام وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو فتدبر أمرها وإسناد السبح ومابعده إلى الأيدي عليه مجاز للملابسة وحمل النازعات على الغزاة مروي عنعطاء إلا أنه قال هي النازعات بالقسى وغيرها وقيل بصفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها غرقا أي أعنتها مدا قويا حتى تلصقها بالأعناق من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب وحمل السابحات على الخيل مروي عن عطاء أيضا وجماعة ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون
(30/24)

من الحركة الإرادية للكوكب وهي حرحته الخاصة ونحوها مما ليس في كلام السلف ولم يتم عليه برهان ولذا قال بخلافه المحدثون من الفلاسفة وفي حمل المدبرات على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاصلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء والكل جهل وإن كان الثاني جهلا نعم لا ينبغي التوقف في أن الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه قبله بما شاء فيبريء سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز و جل من يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه استجابة للسائل وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له ونقل الإمام في هذا المقام عن الغزالي أنه قال أن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعدان يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاما ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة انتهى ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وقد ذكر الإمام نفسه في المباحث المشرقية استحالة تعلق أكثر من نفس ببدن واحد وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر من بدن ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير التعلق المستحيل فلا تغفل وقال في وجه حمل المذكورات على الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال فالنازعات غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه على أن الصيغة للنسبة والناشطات نشطا إشارة إلى أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل بمقتضى الماهية فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان الأول قوتهم العاقلة وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والأطلاع على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين أحدهما السابحات سبحا فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم لأنه لا منتهى لعظمة الله تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك السباحة وثانيهما فالسابقات سبقا وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي والثاني شرح قوتهم العامة وبيان حالهم فيها فوصفهم سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى والمدبرات أمرا ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة على شرح القوة العاملة انتهى وهو على ما في بعضه من المنع ليس بشديد المناسبة للمقام ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في تفسير المذكورات فعن مجاهد النازعات المنايا تنزع النفوس وحكي يحيى بن سلام أنها الوحش تنزع إلى الكلا وعن الأول تفسير الناشطات بالمنايا أيضا وعن عطاء تفسيرها بالبقر الوحشية وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر وعنه أيضا تفسير السابحات بالسفن وعن مجاهد تفسيرها بالمنايا تسبح في نفوس الحيوان وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر تفسيرها بدواب البحر وعن بعض تفسير السابقات بالمنايا على معنى أنها تسبق الآمال وعن غير واحد تفسير المدبرات بجبريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال
(30/25)

يدبر القطر والنبات وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر المنزل عليهم لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها بالملائكة مطلقا بل قال ابن عطية لا أحفظ خلافا في أنها الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجع عندي نظرا للمقام والله تعالى أعلم وقوله سبحانه يوم ترجف الراجفة منصوب بالجواب المضمر والمراد بالراجفة الواقعة أو النفخة التي ترجف الأجرام عندها على السناد إليها لأنها سبب الرجف أو التجوز في الطرف بجعل سبب الرجف راجفا وجوز أن تفسر الراجفة بالمحركة ويكون ذلك حقيقة لأن رجف يكون بمعنى حرك وتحرك كما في القاموس وهي النفخة الأولى وقيل المراد بها الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى يوم ترجف الأرض والجبال وتسميتها راجفة باعتبار الأول ففيه مجاز مرسل وبه يتضح فائدة الإسناد وقوله تعالى تتبعها الرادفة أي الواقفة أو النفخة التي تردف وتتبع الأولى وهي النفخة الثانية وقيل الأجرام التابعة وهي السماء والكواكب فإنها تنشق وتنتثر بعد والجملة حال من الراجفة مصححة لوقوع اليوم ظرفا للبعث لإفادتها امتداد الوقت وسعته حيث أفادت أن اليوم زمان الرجفة المقيدة بتبعية الرادفة لها وتبعية الشيء الآخر فرع وجود ذلك الشيء فلا بد من امتداد اليوم إلى الرادفة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون عند الرادفة أعني النفخة الثانية وبينها وبين الأولى أربعون لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا لداهيتين عظيمتين وقيل يوم ترجف منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقرر المضمون الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اذكر لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهموقيل هو منصوب بما دل عليه قوله تعالى قلوب يومئذ واجفة أي يوم ترجف وجفت القلوب أي اضطربت يقال وجف القلب وجيفا اضطرب من شدة الفزع وكذلك وجب وجيبا وجيبا وروي عن ابن عباس أن واجفة بمعنى خائفة بلغة همدان وعن السدي وعن مكانها ولم يجعل منصوبا بواجفة لأنه نصب ظرفه أعني يومئذ والتأسيس أولى من التأكيد فلا يحمل عليه كيف وحذف المضاف وإبدال التنوين مما يأباه أيضا ورفع قلوب على الأبتداء ويومئذ متعلق بواجفة وهي الخبر على ما قيل وهو الأظهر كما في قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة وجاز الأبتداء بالنكرة لأن تنكيرها للتنويع وهو يقوم مقام الوصف المخصص نعم التنويع في النظير أظهر لذكر المقابل بخلاف ما نحن فيه ولكن لا فرق بعد ما ساق المعنى إليه وإن شئت فاعتبر ذلك للتكثير كما اعتبر في شرأ هر ذا ناب وقيل واجفة صفة قلوب مصححة للأبتداء بها وقوله تعالى أبصارها خاشعة أي أبصار أهلها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إليها فالإضافة لأدنى ملابسة وجوز أن يراد بالأبصار البصائر أي صارت البصائر ذليلة لا تدرك شيئا فكني بذلها عن عدم إدراكها لأن عز البصيرة إنما هي بالإدراك وبحث في كون القلوب غير مدركة يوم القيامة وأجيب بأن المراد شدة الذهول والحيرة جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع على الخبرية لقلوب وتعقب بأنه قد اشتهر أن حق الصفة أن تكون معلومة الأنتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قال غير واحد أن الصفات قبل العلم بها أخبار والإخبار بعد العلم بها صفات فحيث كان ثبوت الوجيف وثبوت الخشوع لأبصار أصحاب القلوب سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوان الموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف الذي هو عبارة عن اضطراب القلب وقلقه من شدة الخوف والوجل أشد من خشوع البصر وأهول الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول
(30/26)

تهوين للخطب في موقع التهويل انتهى وأنت تعلم أن المشتهر وما قاله غير واحد غير مجمع على أطراده وأن بعض ما اعترض به يندفع على ما يفهمه كلام بعض الأجلة من جواز جعل المفرد خبرا والجملة بعد صفة لكنه بعيد وما قيل على الأول من أن جعل التنوين للتنويع مع الباسه مخالف للظاهر وكونه كالوصف معنى تعسف خروج عن الأنصاف وزعم ابن عطية أن النكرة تخصصت بقوله تعالى يومئذ وتعقب بأنه لا تتخصص بالأجرام بظروف الزمان وقدر عصام الدين جواب القسم ليأتين وقال نحن نقدره كذلك ونجعل يوم ترجف فاعلا له مرفوع المحل ونجعل تتبعها الرادفة صفة للراجفة بجعلها في حكم النكرة لكون التعريف للعهد الذهني نحو أمر على اللئيم يسبني وفيه ما فيه وفيه ما فيه وقيل أن الجواب تتبعها الرادفة ويوم منصوب به ولام القسم محذوفة أي ليوم كذا تتبعها الرادفة ولم تدخل نون التأكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل وليس بذاك وقال محمد بن علي الترمذي أن جواب القسم أن في ذلك لعبرة لمن يخشى وهو كما ترى ومثله ما قيل هو هل أتاك حديث موسى لأنه في تقدير قد أتاك وقال أبو حاتم على التقديم والتأخير كأنه قيل فإذا هم بالساهرة والنازعات وخطأه ابن الأنباري بأن الفاء لا يفتتح بها الكلام وبالجملة الوجه الوجيه هو ما قدمنا وقوله تعالى يقولون أءنا لمردودون في الحافرة حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به أثر بيان وقوعه بطريق التوكيد وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والبصار أي يقولون إذا قيل لهم إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه ائنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة أي في الحالة الأولى يعنون الحياة كما قال ابن عباس وغيره وقيل أنه تعالى شأنه لما أقسم على البعث وبين ذلهم وخوفهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث وردهم إلى الحياة بعد الموت فالأستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد الإنكار والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما يقولون إذ ذاك والظاهر ما تقدم وإن القول في الدنيا وأيا ما كان فهو من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه والقياس المحفورة فهي إما بمعنى ذات حفر أو السناد مجازي أو الكلام على الأستعارة المكنية بتشبيه القابل بالفاعل وجعل الحافرية تخييلا وذلك نظير ما ذكروا في عيشة راضية ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله أحافرة على صلع وشيب
معاذ الله من سفه وعار يريد أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي بعد أن شبت معاذ الله من ذاك سفها وعارا ومنه المثل النقد عند الحافرة فقد قيل الحافرة فيه بمعنى الحالة الأولى وهي الصفقة أي النقد حال العقد لكن نقل الميداني عن ثعلب أن معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن والحافرة الأرض التي حفرها السابق بقوائمه على أحد التأويلات وقيل الحافرة جمع الحافر بمعنى القدم أي يقولون أئنا لمردودون أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض ولا يخفى أن إداء اللفظ هذا المعنى غير ظاهر وعن مجاهد الحافرة القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في قبورنا وعن زيد بن أسلم هي النار وهو كما ترى وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة في الحفرة بفتح الحاء وكسر الفاء على أنه صفة مشبهة من حفر اللازم كعلم مطاوع حفر بالبناء للمجهول يقال حفرت أسنانه فحفرت حفرا بفتحتين إذا أثر الأكال في أسنانها وتغيرت ويرجع ذلك إلى معنى المحفورة وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها وقوله تعالى أءذا كنا عظاما نخرة تأكيد لأنكار البعث بذكر حالة منافية له والعامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون أي أئذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة وقرأ
(30/27)

نافع وابن عامر إذا كنا بإسقاط همزة الأستفهام فقيل يكون خبر استهزاء بعد الأستفهام النكاري واستظهر أنه متعلق بمردودون وقرأ عمر وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر ناخرة بالألف وهو كنخرة من نخر العظم أي بلى وصار أجوف تمر به الريح فيسمع له نخير أي صوت وقراءة الأكثرين أبلغ فقد صرحوا بأن فعلا أبلغ من فاعل وإن كانت حروفه أكثر وقولهم زيادة المبني تدل على زيادة المعنى أغلبي أو اتحد النوع لا إذا اختلف كأن كان فاعل اسم وفعل صفة مشبهة نعم تلك القراءة أوفق بروس الآي واختيارها لذلك لا يفيد اتحادها مع الأخرى في المبالغة كما وهم وإلى الأبلغية ذهب المعظم وفسرت النخرة عليه بالأشد بلى وقال عمرو بن العلاء النخرة التي قد بليت والناخرة التي لم تنخر بعد ونقل اتحاد المعنى على الفراء وأبي عبيدة وأبي حاتم وآخرين وقوله تعالى قالوا حكاية لكفر آخر متفرع على كفرهم السابق ولعل توسيط قالوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الأطراد والأستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبيء عنه حكايته بصيغة المضارع أي قالوا بطريق الأستهزاء مشيرين إلى ما انكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع تلك إذا كرة خاسرة أي ذات خسر أو خاسر أصحابها أي إذا صحت تلك الرجعة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الأستهزاء وقال الحسن خاسرة كاذبة أي بكائنة فكان المعنى تلك إذا كنا عظاما نخرة كرة ليست بكائنة وقوله تعالى فإنما هي زجرة واحدة تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم ذلك فإنه لما كان مداره استصعابهم الكرة رد عليهم ذلك فقيل لا تحسبوا تلك الكرة صعبة فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية عبر بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها وقيل هي راجع إلى الرادفة وقوله تعالى فإذا هم بالساهرة حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعدما كانوا أمواتا في بطنها وعلى الأول بيان لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة قيل وجه الأرض والفلاة وأنشد وأقول أمية ابن أبي الصلت وفيها لحم ساهرة وبحر
وما فاهوا به أبدا مقيم وفي الكشاف الأرض البيضاء أي التي لا نبات فيها المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة قال الأشعث بن قيس وساهرة يضحى السراب مجللا
لأقطارها قد جبتها ملتثما أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وفي الأول مجاز على المجاز وعلى الثاني السهر على حقيقته والتجوز في الإسناد وحكى الراغب فيها قولين الأول أنها وجه الأرض والثاني أنها أرض القيامة ثم قال وحقيقتها التي يكثر الوطء بها فكأنها سهرت من ذلك إشارة إلى نحو ما قال الشاعر
تحرك يقظان التراب ونائمه
وروي الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط يخلقها عز و جل حينئذ وعنه أيضا أنها أرض مكة وقيل هي الأرض السابعة يأتي الله تعالى بها فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس وقال أبو العالية وسفيان أرض قريبة من بيت المقدس وقيل الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم وقال قتادة هي جهنم لأنه لا نوم لمن فيها وقوله تعالى هل أتيك حديث موسى كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم ومعنى هل أتاك أن اعتر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة و السلام من حديثه عليه السلام
(30/28)

ترغيب له صلى الله تعالى عليه وسلم في استماع حديثه كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الأقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل بمعنى قد على شيء من الوجهين وقوله تعالى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدرا وتقدم الكلام في الواد المقدس واختلاف القراء في طوي إذهب إلى فرعون على إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلا له اذهب الخ وقيل هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل هو على حذف أن المفسرة يدل عليه قراءة عبد الله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وجوز أن يكون بتقدير المصدرية قبلها حرف جر إنه طغى تعليل للأمر أو لوجوب الأمتثال به فقل بعد ما أتيته هل لك إلى أن تزكى أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف وإلى أن تزكى متعلق بذلك المبتدأ المحذوف ونحوه قول الشاعر فهل لكم فيها إلى فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بقي ويقدر المبتدأ وغبة ونحوه مما يتعدى بها ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدي بها أيضا وقال أبو البقاء لما كان المعنى أدعوك جيء بإلى ولعله جعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وتزكى بحذف إحدى التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو عمر بخلاف تزكى بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي وأهديك إلى ربك أي أرشدك إلى معرفته عز و جل فتعرفه فتخشى إذا الخشية لا تكون إلا بعد معرفته قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير ومن أمن اجترأ على كل شر ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل وفي الأستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والأستنزال عن العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وتقديم التزكية على الهداية لأنها تخلية والفاء في قوله تعالى فأريه الآية الكبرى فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فذهب وكان كيت وكيت فأراه واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى اذهب يدل عليه فهو على نحو اضرب بعصاك الحجر فانبجست والإراءة إما بمعنى التبصير أو بمعنى التعريف فإن اللعين حين أبصرها عرفها وادعاء سحريتها إنما كان إظهارا للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة و السلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى ولقد أريناه آياتنا بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصاحية فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها وعلى ما روي عن مجاهد وذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى اذهب أنت وأخوك بآياتي باعتبار ما في تضاعيفهما منبدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة المطلقة ولا يخفى بعده ويزيده بعدا ترتيب حشر السحرة بعد فإنه لم يكن إلا على إراءة تينك الآيتين وإدباره عن العمل بمقتضاهما وأما ما عداهما من التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة وزعم غلاة
(30/29)

الشيعة أن الآية الكبرى علي كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم طور وهو هذيان وراء العقل وطور النقل فكذب بموسى عليه السلام وسمى معجزته سحرا وعصى الله تعالى بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز و جل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقلبها منه فئته الباغية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط وفي جعل متعلق التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز و جل ما ليس في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى وعصاه من الذم كما لا يخفى ثم أدبر تولى عن الطاعة يسعى أي ساعيا مجتهدا في إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك ونقضه يقتضي زمانا طويلا وجوز أن يكون الدبار على حقيقته أي ثم انصرف عن المجلس ساعيا في إبطال ذلك وقيل أدبر يسعى هاربا من الثعبان فإنه روي أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون زراعا فوضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه وفي بعض الآثار أنها انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت يقول فرعون أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصى وأنت تعلم أن هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر صحة إرادته ههنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم قيل إن ثم عليه للدلالة على استبعاد إدباره مرعوبا مسرعا مع زعمه الإلهية وقيل أريد بقوله سبحانه ثم أدبر ثم أقبل من قولهم أقبل يفعل أي أنشأ لكن جعل الأدبار موضع الأقبال تمليحا وتنبيها على أنه كان عليه دمارا وإدبارا فحشر أي فجمع السحرة لقوله تعالى فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وقوله سبحانه فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى أي بما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد أهل مملكته فنادى في المجمع نفسه أو بواسطة المنادى وأيد الول بقوله تعالى فقال أنا ربكم الأعلى وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال يقول فرعون أنا ربكم الخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض الآثار أنه قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم فأخذه الله نكال الآخرة والأولى النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد كوعد الله وصبغة الله كأنه قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الأحراق في الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا وجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة الخ وأن يكون نفعولا له أي أخذه لأجل نكال الخ وأن يكون نصبا بنزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالا وإضافته على معنى في أي منكلا لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى وجوز أن تكون الإضافة عليه لامية وحمل الآخرة والأولى على الدارين هو الظاهر وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته أنا ربكم الأعلى والأولى قولته ما علمت لكم من إله غيري وقيل بالعكس فهما كلمتان
(30/30)

وكان بينهما على ما قالوا أربعون سنة وقال أبو رزين الأولى حالة كفره وعصيانه والآخرة قولته أنا ربكم الأعلى وعن مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى المسبب ومآل من يقول بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال وجعل ذلك النكال الأغراق في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام إن في ذلك أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به لعبرة عظيمة لمن يخشى أي لمن شأنه أن يخشى وهو من من شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للأعتبار أو ليشمل من يخشى بالفعل ومن كان من شأنه ذلك على ما قيل وقوله تعالى ءأنتم أشد خلقا خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعد ما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه فإنما هي زجرة واحدة ونصب خلقا على التمييز وهو محول عن المبتدأ أي أخلقكم بعد موتكم أشد أي أشق وأصعب في تقديركم أم السماء أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى بناها الخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله تعالى أم السماء وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز و جل ما لا يخفى وقوله سبحانه رفع سمكها بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديدا رفيعا وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعا في جهة العلو ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الأمتداد من العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلا أن يمنع عنه مانع فسواها أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز و جل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع وقيل جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحا بعضها زاوية وبعضها خطا وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير وقالوا وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها تتميمها بما به كما لها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بين في علم الهيئة من قولهم سوى أمره أي أصلحه أو من قولهم استوت الفاكهة إذا نضجت وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السماوات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها أهل الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وأغطش ليلها أي جعله مظلما يقال غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال ظلم وأظلمه ويقال أيضا أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش قال الأعشى عقرت لهم ناقتي موهنا
فليلهم مدلهم غطش وفي البحر عن كتاب اللغات في القرآن أغطش أظلم بلغة أنمار وأشعر وأخرج ضحاها أي أبرز نهارها والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمي به الوقت
(30/31)

المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة وقيل الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكني بذلك عن النهار والأول أقرب وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها وقيل إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام المتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهما إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو هما إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفلك كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كل في فلك يسبحون وإن الفلك ليس إلا مجرى الكوكب في السماء وقيل أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه وفي الكشاف أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضا اعتبار بمرأى الناظر وقيل إضافتهما إليها باعتبار أنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الأعتبار ما لم يكد يخطر في اذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوى وتعقب بأنهم قالوا إن ظل الأرض المخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل وبالجملة الأضافة لأدنى ملابسة والأرض بعد ذلك الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وإغطاش الليل وأخراج النهار دون خلق السماء فقط وانتصاب الأرض بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى ومعنى قوله تعالى دحاها بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من ادحو أو الدحي بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت وبث الخلق فيها إذ دحاها
فهم قطانها حتى التنادي وقيل دحاها سواها وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها
بأيد وأرسى عليها الجبالا والأكثرون على الأول وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروي الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلا قال له آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى فقال إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ قال قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين حتى بلغ ثم استوى إلى السماء وقوله تعالى والأرض بعد ذلك دحاها قال خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق ألسماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء وإنما قوله سبحانه دحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقا ولا يكون ظاهره مدحوا مبسوطا وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولا ثم دحوها ثانيا مادتها أولا ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات إن السماء خلقت مادتها أولا ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض
(30/32)

جميعا ثم استوى إلى السماء الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السماوات ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السماوات وأجيب بأن خلق في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة إن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولا فلو لا سلمنا أن المراد الإيجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل ومن الناس من حمل ثم على التراخي الرتبي لأن السماء أعجب ومن خلق الأرض وقال عصام الدين أن بعد ذلك هنا كما في قوله تعالى عتل وبعد ذلك زنيم يعني فعل بالأرض ما فعل بعد ما سمعت في السماء والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كما يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن إغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلا ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة وأيضا قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكر وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسم مادة الأشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر فقال ابن الطاشكبري نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة وإن البعدية ههنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى خلق الأرض في يومين وكذا في قوله سبحانه وجعل فيها رواسي وقالوا يؤيد ما ذكر قوله تعالى فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أئتينا طائعين فإن الظاهر أن المراد أئتيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها منالرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين واوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي اليقة والدخان على خلق السماوات والعكس ههنا أن المقام في الأولين مقام الأمتنان وتعداد النعم على أهل الطفر والإيمان فمقتضاه تقديم ما هو نفمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدلانتهى وفي الكشف أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلا ما نقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل أن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من أطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الأرض منصوبا بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا
(30/33)

المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل ثم بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة ويقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الأثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت وأما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيرا لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المرام وقوله تعالى أخرج منها مآءها بأن فجر منها عيونا وأجرى أنهارا ومرعاها يقع على الرعي بالكسر وهو الكلأ والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل أنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للأنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن وقال الطيبي يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة أأنتم أشد خلقا كأنه قيل أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه وكلا الوجهين مقتض لتجريد الجملة عن العاطف وقوله تعالى والجبال منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه أرساها أي أثبتها وفيه تنبيه على الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول وقرأ عيسى برفع الأرض والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع الأرض والجبال وهو على ما قيل على البتداء وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى بناها بيان لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه رفع سمكها بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الأختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك وقيل أن جملة قوله تعالى والأرض الخ على القراءتين ليست معطوفة على قوله سبحانه رفع سمكها لأنها لا تصلح بيانا لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء وجملة إسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى وجوز عطف الأرض بالرفع على السماء من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقا والأرض بعد ذلك أي والأرض
(30/34)

بعد ما ذكر من السماء أشد خلقا فيكون وزان قوله تعالى دحاها الخ وزان قوله تعالى بناها الخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعرا بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء وقوله تعالى متاعا لكم ولأنعامكم قيل مفعول له أي فعل ذلك تدمتيعا لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره وقيل مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك متاعا أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى أخرج منها ماءها ومرعاها في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصا بالحاضرين إلا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضا النصب على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافا لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث وقوله سبحانه فإذا جاءت الطامة الكبرى الخ شروع في بيان معادهم أثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز و جل متاعا الخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبيء عنه لفظ المتاع والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل جرى الوادي فطم على القرى وجاء السيل فطم الركي وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل فوصفها بالكبرى للتأكيد ولو فسر كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصا وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقا وقيل غير ذلك وأنت تعلم أن الطامة الكبرى صارت كالعلم للقيامة وروي كونها اسما من أسمائها هنا عن ابن عباس وعنه أيضا وعن الحسن أنها النفخة الثانية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم يوم يتذكر الإنسان ما سعى بدل كل أو بعض من غذا جاءت على ما قيل وقيل بدل من الطامة الكبرى فيكون مرفوع المحل وفتح لأضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين وتكون الطامة حقيقة التذكر البروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الأبتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة ألا يخفى تعسفه وقيل ظرف لجاءت وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب بأعني تفسيرا للطامة الكبرى وما موصولة وسعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفته وقد كان نسيه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى أحصاه الله ونسوه ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر وجوز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه وبرزت الجحيم عطف على جاءت وقيل على يتذكر وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه والموصول بعد مغن عن العائد وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل ومعنى برزت أظهرت إظهارا بينا لا يخفى على أحد لمن يرى كائنا من كان يروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء وقرأت عائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار وبرزت مبنيا للفاعل مخففا لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما في قوله تعالى إذا رأتهم من مكان بعيد وإسناد الرؤية لها مجازا وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها ويجوز أن
(30/35)

تكون خطابا لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون أي لمن تراه من الكفار وقرأ أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو وبرزت مبنيا للمفعول مخففا وقوله تعالى فأما من طغى الخ جواب إذا على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى فأما يأتينكم مني هدى الآية وقولك إذا جاءك بنو تميم فأما العاصي فأهنه وأما الطائع فأكرمه واختاره أبو حيان وقيل جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف وقوله سبحانه فأما الخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جوابا غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلا زيادة المبالغة وتحقيق الترتب والثبوت على كل تقدير وقيل هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤن قسمين وليس بذاك أي فأما من عنا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر وآثر أي اختار الحياة الدنيا الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة فإن الجحيم التي ذكر شأنها هي المأوى أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن ألأفي مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عد كونها عوضا ورابطا وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري وهي أما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها وأما من خاف مقام ربه أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مقام مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز و جل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله تعالى أكرمي مثواه وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن ونهى النفس عن الهوى أي زجرها وكفها عن الهوى المردي وهو الميل إلى الشهوات وضبطها بالصبر والتوطيب على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها وعن ابن عباس ومقاتل أنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يدي ربه سبحانه فيخاف فيتركها وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمى بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه قال بعض الحكماء إذا أردت الصواب فانظر هواك غخالفه وقال الفضيل أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي فخالف هواها واعصها أن من يطع
هوى نفسه تنزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده
وترم به في مصرع أي مصرع إلى غير ذلك وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلا أن السالم من من الموافقة قليل سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه فإن الجنة هي المأوى له لا غيرها والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزيز بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى
(30/36)

رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة و السلام متشحطا في دمه قال عند الله تعالى أحتسبك وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الولى في النضر وابنه الحرث المشهورين باللغو في الكفر والطغيان يسئلونك عن الساعة أيان مرساها أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها فالمرسي مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الأستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا قيل وتقدير الأستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله كما أن الخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الأستعارة بجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل وقوله تعالى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبيء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلا قليلا وأما رد لما أدمجوه في سؤالهم فلإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الأستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الأستهزاء بها ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية الخ وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عشيته أو ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في الكشف من حيث أنك إذا قلت لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الأستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر أما إذا قلت عشيته أو ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه وقال الطيبي إنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الأحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الأضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون الليث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الأعتقاد بمن لم يلبث الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على فيم ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل أن قوله تعالى فيم الخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة يسألونك الخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أنت من ذكراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت الخ والجواب عليه قوله تعالى إلى ربك منتهاها ولا يخفى ضعف ذلك وأخراج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت ما زال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فانتهى عليه الصلاة و السلام فلم يسأل بعدها وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فيهم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألون عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز و جل يسألونك كأنك وقت إدراكه مستقرا له فتدبر وقوله تعالى فيم أنت من ذكراها إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى يسألونك كأنك حفي عنها فالأستفهام للإنكار وفيم خبر مقدم وأنت مبتدأ مؤخر ومن ذكراها على تقدير مضاف أي ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فيم إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتديء فقيل أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم فمعنى قوله تعالى إلى ربك منتهاها على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز و جل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها وقوله تعالى إنما أنت منذر من يخشاها عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه فيم أنت من ذكراها وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة و السلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن ليس له عليه الصلاة و السلام أن يذكرها بوجه من الوجوزه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكراها بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عنها فالمعنى إنما انت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الأمتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما لم تبعث ولم يفوض إليك أمره وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أنت من ذكراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة و السلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الصفة والمعنى ما أنت إلا منذر لا معلم بالوقت مبين له وإنما ذكر صلة المنذر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في الصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى أي ما أنت منذر إلا من يخشى دون غيره مناسب للمقام على أنه
(30/37)

قيل عليه أن من يخشى من صلة منذر ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء الأخير المقصور عليه الأنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضا أن لا يصح إنما هو غلام زيد لا عمرو وإنما هو ضارب عمرا لا زيدا مع شهرة استعمال ذلك من غير نكير فتأمل والظاهر على الثاني أن إنما لمجرد التأكيد زيادة في الأعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض عليه بحسب حفى عنها يرده إذ المراد إنك لا تحتفي بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلى الله عليه و سلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الأحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية منذر بالتنوين والأعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار
(30/38)

المشابهة والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الأعمال والأعمال عارض للشبه والوصف عند أعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والأستقبال وإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة كقولك هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة يخشى ولا ينافي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الأستمرار ومثله يجوز فيه الأعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك كلام في كتب الصول فلا تغفل والله تعالى أعلم
سورة عبس
وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية بلا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي وإحدى وأربعون فيالبصري وأربعون في الشامي والمدني الأول ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إنما أنت منذر من يخشاها ذكر عز و جل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
عبس وتولى أن جاءه الأعمى الخ روي أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن عمرو وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأول أكثر وأشهر كما في جامع الأصول وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية وغلط الزمخشري في جعلها في الكشاف جدته وكان أعمى وعمى بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعه لكلامه عبس واعترض عنه فنزلت فكان رسول الله عليه الصلاة و السلام يكرمه ويقول إذا رآه مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول هل لك من حاجة واستخلفه صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الأستيعاب عن أهل العلم بالسير ثم استخلف بعده أبا لبابة وهو من المهاجرين الأولين هاجر على الصحيح قبل النبي صلى الله عليه و سلم ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني وأنه لم يجتمع بالصناديد المذكورين من أهل مكة وموته قبل بالقادسية شهيدا يوم فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه ورآه أنس يومئذ وعليه درع وله راية سوداء وقيل منها إلى المدينة فمات بها رضي الله تعالى عنه وضمير عبس وما بعده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي التعبير عنه عليه الصلاة و السلام بضمير الغيبة إجلال له صلى الله تعالى عليه وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مثله كما أن في التعبير عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه وما يدريك لعله يزكى ذلك لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض والتعبير عن ابن أم مكتوم بالأعمى للأشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتشاغله بالقوم وقيل إن الغيبة أولا والخطاب ثانيا لزيادة الإنكار وذلك كمن يشكو إلى الناس جانبا جني عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى على الشكاية مواجها بالتوبيخ وإلزام الحجة وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك لأنه وصف يناسب الإقبال عليه والتعطف وفيه أيضا دفع إيهام الإختصاص بالأعمى المعين وإيماء إلى أن كل
(30/39)

ضعيف يستحق الإقبال من مثله على أسلوب لا يقضي القاضي وهو غضبان وإن بتقدير حرف الجر أعني لام التعليل وهو معمول لأول الفعلين على مختار الكوفيين وثانيهما على مختار البصريين وكليهما معا على مذاهب الفراء نعم هو بحسب المعنى علة لهما بلا خلاف أي عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك وقرأ زيد بن علي على عبس بتشديد الباء للمبالغة لا للتعدية وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى آن بهمزة بعدها وبعض القراء بهمزتين محققتين والهمزة في القراءتين للأستفهام الأنكاري ويوقف على تولي والمعنى إلا أن جاء الأعمى فعلى ذلك وضمير لعله للأعمى والظاهر أن الجملة متعلقة بفعل الدراية على وجه سد مسد مفعوله أي أي شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الأثم أو يذكر أي يتعظ فتنفعه الذكرى أي ذكراك وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك أو تذكر ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكي أو يذكر والترجي راجع إلى الأعمى أو إلىالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكية أو كونه ممن يرجى منه ذلك كاف في الأمتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استركاؤه ومحققا ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحا لذلك وفيه إظهار ما يقتضي مقام العظمة ههنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه الأسم لا الكامل وقال بعضهم متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك وقوله سبحانه لعله الخ استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإنه مع إشعاره بأن له شأنا منافيا للأعراض عنه خارجا عن دراية الغير ودرائه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك واعتبر في التزكي الكمال فقال أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الأثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه موعظتك أن لم تبلغ درجة التزكي التام ولعل الأول أبعد مغزى وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم بما إذا كان ما يتعلمه من النوافل والأول بما إذا كان سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلى الله تعالى عليه وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي أصلا فهي كقولك لمن يقرر مسئلة لمن لا يفهمها وعنده آخر قابل لفهمها لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده وقيل جاء التعريض من جهة أن المحدث عنه كان متزكيا من الآثام متعظا وقيل ضمير لعله للكافر والترجي راجع إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي إنك طعمت في تزكيه بالإسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن وضعف بعدم تقدم ذكر الكافر وبإفراد الضمير والظاهر جمعه أي بناء على المشهور في أن من تشاغل عليه الصلاة و السلام به كان جمعا وجاء في بعض الروايات أنه كان واحدا وقرأ الأعرج وعاصم في رواية أو يذكر بسكون الذال وضم الكاف وقرأ الأكثر فتنفعه بالرفع عطفا على يذكر وبالنصب قرأ عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وهو عند البصريين بإضمار أن بعد الفاء وعند الكوفيين في جواب الترجي وهو كالتمني عندهم ينصب في جوابه وفي الكشف أن النصب يؤيد رجوع ضمير لعله علىالكافر لا شمام الترجي معنى التمني لبعد المرجو من الحصول أي بالنظر إلى المجموع إذ قد حصل من العباس وعلى السابق وجهه ترشيح معنى الهضم فتذكر أما من استغنى أي عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن وفي معناه ما قيل استغنى لكفره عما يهديه وقيل أي وأما من كان ذا ثروة وغنى وتعقب بأنه لو كان كذلك لذكر الفقر في مقابله وأجيب بما ستعمله إن شاء الله تعالى فأنت له تصدى أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والأهتمام بإرشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له صلى الله تعالى عليه وسلم عن مصاحبتهم
(30/40)

فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة ومن هنا قيل لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني والله لو كرهت كفى مصاحبتي
يوما لقلت لها عن صحبتي بيني وقرأ الحرميان تصدى بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت التاء صادا وأدغمت وقرأ أبو جعفر تصدى بضم التاء وتخفيف الصاد مبنيا للمفعول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدي والتعرض له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه وأصل تصدى على ما في البحر تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها وقيل من الصدي وهو العطش وقيل من الصدى وهو الصوت المعروف وما عليك ألا يزكى وليس عليك بأس في أن لا يزكى بالأسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير تصدى والممنوع عنه في الحقيقة الأعراض عمن أسلم لا الأقبال على غيره والأهتمام بأمره حرصا على إسلامه ويجوز أن تكون ما استفهامية للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا وأما من جاءك يسعى أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير وهو يخشى أي يخاف الله تعالى وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل يسعى كما أن جملة يسعى حال من فاعل جاءك واستظهر بعض الأفاضل أن النظم الجليل من الأحتباك ذكر الغنى أو لا للدلالة على الفقر ثانيا والمجيء والخشية ثانيا للدلالة على ضدهما أو لا وكأنه حمل استغنى على ما نقل أخيرا واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف وعدم الأحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور فأنت عنه تلهى تتشاغل يقال لهي عنه كرضي ورمى والتهي وتلهى وفي تقديم ضميره عليه الصلاة و السلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة و السلام وتقديم له وعنه قيل للتعريض بالأهتمام بمضمونها وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الأشتغال به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للأشعار بأن العتاب للأهتمام بالأول لا للإشتغال به إذ الأشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الأشتغال عن الثاني لا لأنه لا اهتمام له صلى الله تعالى عليه وسلم في أمره إذ الأهتمام غير واجب لأنه عليه الصلاة و السلام ليس إلا منذرا وقرأ البزي عن ابن كثير عنه تلهى بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو جعفر تلهى بضم التاء مبنيا للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء الكافر للأسلام وطلحة تتلهى بتائين وعنه بتاء واحدة وسكون اللام كلا مبالغة في إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوقب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد نزل ذلك كما رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه الصلاة و السلام نجواه وذهب إلى أهله وجوز كونه إرشادا بليغا إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة و السلام بناء على أن النزول في أثناء ذلك وقبل انقضائه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك أدبا حسنا فقد روي عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء والضمير في قوله تعالى إنها للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه تذكرة أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز و جل فمن شاء ذكره والجملة والمؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة و السلام له
(30/41)

والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن والحث على حفظه أو الأتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها بالفاء قد صرح به ابن مالك في التسهيل من غير نقل اختلاف فيه وكلام الزمخشري في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر نص في ذلك نعم قيل إنه قيل له فمن شاء ذكره اعتراض فقال لا لأن الأعتراض شرطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت ويمكن أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى وما ألطف قول السعد في التلويح الأعراض يكون بالواو والفاء
فاعلم فعلم المرء ينفعه
هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآنا ورجح بعدم ارتكاب التأويل قبل الأحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء عليه والتعجب منكفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتابا وفيه أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاء ما سمعت آنفا وقيل لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونها دعاء وهذا على ما فيه مما يأباه المقام وقوله تعالى في صحف متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة في صحف والمراد بها الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ وعن ابن عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى وأنه لفي زبر الأولين وقيل صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في الصحف وإنما كان متفرقا في الدفاف والجريد ونحوهما وأول ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو كما ترى مكرمة عند الله عز و جل مرفوعة أي في السماء السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما قيل مطهرة منزهة عن مساس أيدي الشياطين أو عن كل دنس على ما روي عن الحسن وقيل عن الشبه والتناقص والأول قيل مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى بأيدي سفرة أي كتبة من الملائكة عليهم السلام كما قال مجاهد وجماعة فإنهم ينسخون الكتب من اللوح وهو جمع سافر أي كاتب والمصدر السفر كالضرب وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام على أنه جمع سافر أيضا بمعنى سفير أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وواسطة والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء فيه السفر أيضا كما في القاموس وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم السلام وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب لما يوحي على أن خاتمهم صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يكتب القرآن بل لم يكتب أصلا على ما هو الشائع وقد مر تحقيقه وكذا وظيفتهم إرشاد الأمة بالأمر والنهي وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة و السلام وبين سائر الأمة وقيل لأن بعضهم يسفر إلىبعض في الخير والتعليم والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الأطلاق بحسب اللغة ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة إذا كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة بمطهرة
(30/42)

وقيل بمضمر هو صفة أخرى لصحف كرام أي أعزاء على الله تعالى معظمين عنده عز و جل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير بالأهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو منالكرم ضد اللؤم بررة أي أتقياء وقيل مطيعين الله تعالى من قولهم فلان يبر خالفه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع بر لا غير وأما أبرار فيكون جمع بر كرب وأرباب وجمع بار كصاحب وأصحاب وأن منعه بعض النحاة لعدم إطراده واختص على ما قيل الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك لأن الأبرار من صيغ القلة دون البررة ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم وقال الراغب خص البررة بهم من حيث أنه أبلغ من أبرار فإنه جمع بر وأبرار جمع بار وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل وكأنه عني أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من الوصف ببار لكن قد سمعت أن أبرارا يكون جمع بر كما يكون جمع بار وأيضا في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى الآدميين مطلقا بحث وقيل أن البرار أبلغ من البررة إذ هو جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار إشارة إلى مدحهم بأكملالأوصاف وأما الملائكة فصفات الكمال فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفضيلة البشر لما في كونهم أبرارا من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران قتل الإنسان دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها ما أكفره تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكزت نعوته الجليلة الموجبة للأقبال عليه والإيمان به وإما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده ورجح هذا بأن الآية نزلت على ما أخرج ابن المنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام فبعث إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار أن أصبح حيا فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله فأقبل أسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ويقول ما قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا قط إلا كان وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أطول من هذا الخبر فلا تغفل ثم إن هذا كلام في غاية الإيجاز وقد قال جار الله لا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأمة على قصر متنه حيث اشتمل على ما سمعت من الدعاء مرادا به إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع وقال الإمام أن الجملة الولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفا والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب إلى امريء القيس من قوله يتمنى المرء في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا أنكره فهو لا يرضى بحال واحد
قتل الإنسان ما أكفره
(30/43)

لا أصل له ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد اراد الأقتباس لا جاهلي وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى قتل الإنسان خبرا عن أنه سيقتل الكفار بإنزال آية القتال وعبر بالماضي مبالغة في أنه سيتحقق ذلك وليس بشيء ونحوه ما قيل أن ما استفهامية أي أي شيء أكفره أي جعله كافرا بمعنى لا شيء يسوع له أن يكفر وقوله تعالى من أي شيء خلقه شروع فيبيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عز و جل عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة من إخلاله بذلك والستفهام قيل للتحقير وذكر الجواب أعني قوله تعالى مننطفة خلقه لا يقتضي أنه حقيقي لأنه ليس بجواب في الحقيقة بل على صورته وهو بدل من قوله سبحانه من أي شيء خلقه وجوز أن يكون للتقرير والتحقير مستفاد من شيء المنكر وقيل التحقير يفهم أيضا من قوله سبحانه مننطفة الخ أي من أي شيء حقير مهين خلقه من نطفة مذرة خلقه فقدره فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال فالتقدير بمعنى التهيئة لما يصلح ولذا ساغ عطفه بالفاء دون التسوية لأن الخلق بمعنى التقدير بهذا المعنى أو يتضمنه فلا تصلح الفاء وجوز أن يكون هذا تفصيلا لما أجمل أولا في قوله تعالى من أي شيء خلقه أي فقدره أطوار إلى أن أتم خلقه ثم السبيل يسره أي ثم سهل مخرجه من البطن كما في رواية عن ابن عباس بأن فتح فم الرحم ومدد الأعصاب في طريقه ونكس رأسه لأسفل بعد أن كان في جهة العلو وعن ابن عباس أيضا وقتادة وأبي صالح والسدي المراد بالسبيل سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان وتيسيره له هو هبة العقل وتمكينه من النظر وقال مجاهد والحسن وعطاء وهو رواية عن الحبر أيضا هو سبيل الهدى والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدى وطريق الشر والضلال بأن أقدره عز و جل على كل ومكنه منه والأقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خيريته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشر والضلال من النعم وقيل أنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلا كسبيل الخير لم يستحق المدح والثواب بالأعراض عنه وتركه وهو مبني على القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه لغة مثلا لا يثاب عليه وقيل يثاب ويمدح عليه إذا قدر التارك في نفسه أنه لو تمكن لم يفعل وقال بعضهم العجز عن الشر نعمة وأنشد جكونه شكر ابن نعمت كزارم
كه زور مر دم أزاري ندارم ونصب السبيل بمضمر يفسره الظاهر وفيه مبالغة في التيسير وتمكين في النفس بسبب التكرير قيل وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فإنه لو قيل سبيله أوهم أنه على التوزيع وأن لكل إنسان سبيلا يخصه وخص بعضهم هذه النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر وعلى هذا المعنى قيل إن فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق والمقصد غيرها لما أشعرت به الآية من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وفيه خفاء وأيا ما كان فالضمير المنصوب في يسره للسبيل وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصا في البيان ثم أماته فأقبره أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له يجعله مطروحا على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير إذا ظفرت به كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عز و جل بدفنه يقال قبر الميت إذا دفنه بيده ومنه قول الأعشى لو أسندت ميتا إلى نحرها
عاش ولم ينقل إلى قابر وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكن منه ففي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان وهي مما لا خلاف فيه وأما دفن غيره من الحيوانات فقيل هو لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى جيفته مثلا وعد الإماتة
(30/44)

من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم وخصت هذه النعم بالذكر لما فيها من ذكر أحوال الإنسان من ابتدائه إلى انتهائه وما تتضمن من النعم التي هي محض فضل من الله تعالى فإذا تأمل ذلك العاقل علم قبح الكفر وكفران نعم الرب سبحانه وتعالى فشكره جل وعلا بالإيمان والطاعة ثم إذا شاء أنشره أي إذا شاء أنشره على القاعدة المعروفة في حذف مفعول المشيئة وفي تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأن وقته غير معين أصلا بل هو تابع لها وهذا بخلاف الأمانة فإن وقتها معين إجمالا على ما هو المعهود في الإعمار الطبيعية وكذا الحال في وقت الإقبال بل هو أظهر في ذلك وقرأ شعيب بن الحجاج كما في كتاب اللوامح وابن أبي حمزة كما في تفسير بن عطية نشره بدون همزة وهما لغتان في الأحياء وقوله تعالى كلا ردع للإنسان عما هو عليه من كفران النعم البالغ نهايته وقوله سبحانه لما يقض ما أمره بيان لسبب الردع ولما نافية جازمة ونفيها غير منقطع وما موصولة وضمير أمره إما للإنسان كالمستتر في يقض والعائد إلى الموصول محذوف أي به أو للموصول على الحذف والإيصال والعائد إلى الإنسان محذوف أي إياه قيل والثاني أحسن لأن حذف المفعول أهون من حذف العائد إلى الموصول والمراد بما أمره جميع ما أمره والمعنى على ما قال غير واحد لم يقض من أول زمان تكليفه إلى زمان أمانته وإقباره أو من لدن آدم عليه السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم يخرج من جميع أوامره تعالى إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما ونقل هذا عن مجاهد وقتادة وفيه حمل عدم القضاء على نفي العموم وتعقب بأنه لا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم جناية الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من أفراده واختير أن يحمل عدم القضاء على عموم النفي أما على أن المحكوم عليه هو الإنسان المستغني أو هو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل كما في قوله تعالى إن الأنسان لظلوم كفار وأما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فعل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يختلف عنه أحد وعن الحسن أن كلا بمعنى حقا فيتعلق بما بعده أي حقا لم يعمل بما أمره به وقال ابن فورك الضمير في يقض الله تعالى أي لم يقض الله تعالى لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان بل أمره إقامة للحجة عليه بما لم يقض له ولا يخفى بعده والظاهر عليه أن كلا بمعنى حقا أيضا وقوله سبحانه فلينظر الإنسان إلى طعامه على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه الخ لعله يقضي وفي الحواشي العصامية لا يخفى ما في قوله تعالى لما يقض ما أمره من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الأئتمار كما ينبغي أن بتيسر بعد الأرتداع عما هو عليه والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى قتل الإنسان ولما جوز صاحب الحواشي المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال فالمراد بضمير يقض غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة وقيل تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه وقوله تعالى أنا صببنا الماء بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب
(30/45)

تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي صببنا له وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى أنعامنا في طعامه أنا صببنا الخ وهو كما ترى وأيا ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روي عن أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها ولعمري أن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلة الأتفاق وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم وقال أن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صبا وتأكيد الجملة للأعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لأنكار القاصر لعدم الأحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الستناد إليه عز و جل بالنظر الصحيح وقرأ الأكثر إنا بالكسر على الأستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنظر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل أنا صببنا الخ وقرأ الإمام الحسين بن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه عنهما أنى صببنا بفتح الهمزة والامالة على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء صبا عجيبا ثم شققنا الأرض أي بالنبات كما قال ابن عباس شقا بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة وقيل شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز و جل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى فأنبتنا فيها حبا فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الأمطار أصلا ولا بينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبيء منه أرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال وقيل عليه أيضا أن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء أمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار وتعقب بأنه يأباه ترتب الشق على صب الماء بكلمة التراخي وأيضا ترتب الإنبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا الآية لأشعاره باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك ودفعا بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتسبة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها وعنبا معروف وقضبا أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال إذا يبست فهي ألقت وسميت بمصدر قضبه أي قطعة مبالغة كأنها لتكرلار قطعها وتكثره نفس القطع وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا منالنبات كالبقول والهليون وفي البحر عن الحبر أنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه وزيتونا ونخلا هما معروفان وحدائق رياضا غلبا أي عظاما وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى
(30/46)

يمشي بها غلب الرقاب كأنهم
بزل كسين من الكحيل جلالا ووصف الحدائق بذلك على سبيل الإستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة إلا يرد أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظرا إلى الإندماج وتقوي البعض بالبعض حتى صارت شيئا واحدا وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقا وتجور في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها وقال بعض المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز أنبتنا فلا تغفل وفاكهة قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأيا ما كان فذكر ما يدخل فيها أولا للأعتناء بشأنه وأبا عن ابن عباس وجماعة أنه الكلأ والمرعى من أبه إذا أمه وقصده لأنه يؤم ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيء المرعى ويطلق على نفس مكان الكلا ومنه قوله جذمنا قيس ونجد دارنا
ولنا الأب بها والمكرع وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة والحصيد وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قوله بعض الصحابة يمدح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له دعوة ميمونة ريحها الصبا
بها ينبت الله الحصيدة والأبا وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله وأبا فقال كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفض عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي صحيح البخاري من رواية أنس أيضا أنه قرأ ذلك وقال فما الأب ثم قال ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته وفي الكشاف لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الأمتنان على الإنسان بمطمعه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب بعض ما أنبت سبحانه للأنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر له عز و جل على ما تبين لك ولم يشكل مما عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفةالنبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجميلة إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى وهو قصارى ما يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في الدر المنثور ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه بقي شيء وهو أنه ينبغي أن خفاء تعيين المراد من الأب علىالشيخين رضي الله تعالى عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الأختلاف فيه لا يستدعي كونه غريبا مخلا بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد فسره ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به بقول الشاعر
ترى به الأب واليقطين مختلطا
ووقع في شعر
(30/47)

بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك متاعا لكم ولأنعامكم قيل أما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والألتفات لتكميل الأمتنان وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مرتب عليه فتمتعتم بذلك متاعا أي تمتعا أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر من الأفعال الثلاثة في معنى التمتع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر فإذا جاءت الصاخة شروع في بيان أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال هاتيك النعم وقرب اضمحلالها والصاخة هي الداهية العظيمة من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية ووصفت بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازا في الظرف أو الإسناد وقال الراغب الصاخة شدة صوت ذي النطق يقال صخ يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازا أيضا وقيل مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه وقال الخليل هي صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها لشدة وقعتها ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله الصاخة هي التي تورث الصمم وأنها لمسمعة وهو من بديع الفصاحة كقوله
أصم بك الداعي وأن كان اسمعا
ثم قال ولعمر الله تعالى أن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة والكلام في جواب إذا وفي يوم من قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته أي زوجته وبنيه على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم ولا يسألأ عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب إذا والأعتذار عن عدم التصوير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الأنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الأهتمام به وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قد لجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض قال شغل الناس عن ذلك وتلا يوم يفر الآية وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة و السلام ما شغلهم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك والأبوان قصرت في برنا والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة ثم قرأ يفر الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الأنسان ليعلم منه حال المرأة من بابأولى وقيل هو من باب التغليب وفيه نظر القاضي وذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار عطف الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا عليه وكذا في صاحبته وبنيه فقال تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الأختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل ويفر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أمه ويفر
(30/48)

إبراهيم عليه السلام من أبيه ويفر نوح عليه السلام من ابنه ويفر لوط عليه السلام من امرأته وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر الخ نزلت فيهم وكلا الخبرين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما كما لا يخفى والذي أدين الله تعالى به نجاة أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ألفت رسائل في ذلك رغما لأنف على القاريء ومن وافقه وأعتقد أن جميع آبائه عليه الصلاة و السلام لا سيما من ولداه بلا واسطة أوفر الناس حظا مما أوتي هناك من السعادة والشرف وسمو القدر كم من أب قد سما بابن ذرى شرف
كما يما برسول الله عدنان وقا ابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السمقيع يعنيه بفتح الياء وبالعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي أوقعه في الهم ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان وقوله تعالى وجوه يومئذ مسفرة بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء فوجوه مبتدأ وسوغ الأبتداء به كونه في حيز التنويع كما مر ومسفرة خبره ويومئذ متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس أن ذلك من قيام الليل وعن الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم عليهم السلام وقيل من طول ما أغبرت في سبيل الله تعالى ضاحكة مستبشرة أي مسرورة بما تشاهد منالنعيم المقيم والبهجة الدائمة ووجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار وكدرة ترهقها أي تعلوها وتغشاها قترة أي سواد وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوى الفير وزابادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة الغبار حقيقة وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم وقيل هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غبارا وكدرة فوق غبار وكدورة وقال زيد بن أسلم الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت والمعول عليه ما تقدم وقرأ ابن أبي عبلة قترة بسكون التاء أولئك إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر هم الكفرة الفجرة أي الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عز و جل من ذلك
سورة التكوير
ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية وفي التيسير ثمان وعشرون وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه ىخر السورة قبل ما فيها وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة بسم الله الرحمن الرحيم
إذا الشمس كورت أي لفت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوي ثم يرفع ونحوه قوله تعالى يوم نطوي السماء ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق
(30/49)

المنتشر في الأقطار اما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف أو على تقدير المضاف أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازا بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفا أو رفعه وستره استعارة كما قيل وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفيسة التي إذا رفعت لفت في ثوب ثم تعتبر الأستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية وكون المراد إذهاب ضوئها مروي عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره كورت بأظلمت والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك وقيل إن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم ويجوز أن يكون المراد بكورت ألقيت عن فلكها وطرحت من طعنه فحوره وكوره أي ألقاه مجتمعا على الأرضوإلقاؤها في جهنم مع عبدتها كما يدل عليه بعض الأخبار المرفوعة ويذهب إذ ذاك نورها كما صرح به القرطبي أو في البحر كما يدل عليه خبر ابن أبي الدنيا وأبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عتيك وفيه أنالله تعالى يبعث ريحا دبورا فتنفخه أي البحر حتى يرجع نارا وعظم جرم الشمس اليوم لا يقتضي استحالة إلقائها في البحر ذلك اليوم لجواز اختلاف الحال في الوقتين والله عز و جل على كل شيء قدير لكن جاء في الأخبار الصحيحة أن الشمس تدنو يوم القيامة من الرؤس في المحشر حتى تكون قدر ميل ويلجم الناس العرق يومئذ وإلا بحر حينئذ لتلقى فيه بعد فلا تغفل وعن أبي صالح كورت نكست وفي رواية عن ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش وعن مجاهد أيضا أضمحلت ومدار التركيب على الإدارة والجمع هذا ولم نقف لأحد من السلف على إرادة لفها حقيقة وللمتأخيرين في جواز إرادته خلاف فقيل لا تجوز إرادته لأن الشمس كرية مصمتة وغاية اللف هي الإدارة وهي حاصلة فيها وقيل تجوز لأن كون الشمس كذلك مما لا يثبته أهل الشرع وعلى تسليمه يجوز أن يحدث فيها قابلية اللف بأن يصيرها سبحانه منبسطة ثم يلفها وله عز و جل في ذلك ما له من الحكم ويبعد إرادة الحقيقة فيما أرى كونها كيفما كانت من الأجرام التي لا تلف كالثياب نعم القدرة في كل وقت لا يتعاصاها شيء وارتفاع الشمس بفعل مضمر يفسره المذكور عند جمهور البصريين لاختصاص إذا الشرطية عندهم بالفعل وعلى الأبتداء عند الأخفش والكوفيين لعدم الختصاص عندهم وكون التقدير خلاف الأصل وكذا يقال في قوله تعالى وإذا النجوم انكدرت أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة ومنه انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه قال العجاج يمدح عمر بن معمر التميمي إذا الكرام ابتدروا الباع بدر
تقتضي البازي إذا البازي كسر داني جناحيه من الطود فمر
أبصر البازي خربان فضاء فانكدر وهذا إحدى روايتين عن ابن عباس وروي عنه أنه قال لا يبقى يومئذ نجم إلا سقط في الأرض وعنه أيضا أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي كلائكة من نور فإذا مات من في السماوات والأرض تساقطت من أيديهم وظاهر هذا أن النجوم ليست في جرم أفلاك لها كما يقول الفلاسفة المتقدمون بل معلقة في فضاء ويقرب منه من وجه قول الفلاسفة المحدثين فإنهم يقولون بكونها في فضاء أيضا لكن يقوي متجاذبة لا معلقة بسلاسل بأيدي ملائكة وليس وراء ما يشاهد منها الأسماء بمعنى جهة علو لا سماء بالمعنى المعروف وإن صح خبر الخبر وهو في حكم المرفوع لم نعدل عن ظاهرة إلا أن ظهر استحالته وهيهات ذلك وحينئذ فالأمر سهل وقد ذكر بعض المتأهلين قد تطلق على الأرباب النورية كما في خبران لكل شيء ملكان وإن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك وخبر
(30/50)

أتاني ملك الجبال وملك البحار وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولدة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل أنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك وقيل انكدرت تغيرت وانطمس نورها كما هو الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره وتكون هي على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل وإذا الجبال سيرت أي أزيلت عن أماكنها من الأرض بالرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك وقيل سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى وترى الجبال تحسها جامدة وهي تمر مر السحاب وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية وإذا العشار جمع عشراء كنفاس جمع نفساء وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وقد يقال لها ذلك بعدما تضع أيضا وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعز شيء عليهم عطلت تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب وقيل عطلها أهلها عن الحلب والصر وقيل عن أن يرسل فيها الفحول وذلك إذا كان قبيل قيام القيامة لاشتغال أهلها بما عراهم مما يكون إذ ذاك وقيل إن هذا التعطيل يوم القيامة فقال القرطبي الكلام على التمثيل إذ لا عشار حينئذ والمعنى أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم وقيل على الحقيقة أي إذا قاموا من القبور وشاهدوا الوحوش والأنعام والدواب محشورة واوا عشارهم التي كانت كرائم أموالهم فيها لم يعبئوا بها لشغلهم بأنفسهم وهو كما ترى وقيل المراد بالعشار السحاب على تشبيه السحابة المتوقع مطرها بالناقة العشراء القريب وضع حملها وفيه استعارة لطيفة مع المناسبة التامة بينه وبين ما قبله فإن السحب تنعقد على رؤوس الجبال وترى عندها وإلا ينافيه كونه مناسبا لما بعده على الأول فإنه معنى حقيقي مرجع بنفسه وتعطيلها مجاز عن عدم ارتقاب مطرها لأنهم في شغل عنه وقيل عن عدم إمطارها وقيل هي الديار تعطل فلا تسكن وقيل الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع وقرأ مضر عن اليزيدي عطلت بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال هو وهم إنما عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية يقال عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلي فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وأفعلت أي في التعدي وقيل الأظهر أنه عدي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه وإذا الوحوش جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقا حشرت أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع وقيل أميتت من قولهم إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال حشرها موتها وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين وقيل بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وعن قتادة وجماعة وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت وقيل إذا قضى بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس والظبي وقيل يبقى كل ما لم ينتفع به إلا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها وذهب كثير إلى بعث الحيوانات ميلا إلى هذه الأخبار ونحوها فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لتؤذن الحقوق إلى
(30/51)

أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء وزاد أحمد بن حنبل وحتى الذرة من الذرة ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا إلا أهلا للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معمول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا فيالجملة والله تعالى أعلم وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون حشرت بالتشديد للتكثير وإذا البحار سجرت أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل أن البحر غطاء جهنم أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحرا واحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه وقيل ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار وقيل ملئت ترابا تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف ونقل في البحر عن كتاب لغات القرآن إن سجرت بمعنى جمعت بلغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفخير وقال ابن عطية يحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول ذلك مأخوذا من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه ويقال سجره إذا شده به وقرأ ابن كثير وأبو عمر وسجرت بالتخفيف وإذا النفوس زوجت أي قرنت كل نفس بشكلها أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمررض عنه أنه سئل عن ذلك فقال يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضا ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم المثل فالأمثل وقال مقاتل بن سليمان تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهم ونفوس الكافرين بالشياطين وقيل تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الأنتفاء وأيا ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجا أي مقارنا وقال عكرمة والضحاك والشعبي تقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح وقرأ عاصم زوجت على فوعلت وإذا الموؤدة وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت وقيل هو مقلوب الأود وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضي عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن وقيل مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فألحقوا البنات به تعالى فهو عز و جل أحق بهن وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها فيها وإن ولدت ابنا حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثره على أبيها فغضب وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك وقرأ البزي في رواية المؤدة كمعونة فاحتمل أن يكون
(30/52)

الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبلها وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذف أحد الواوين فصارت المؤدة كما حذف من مقوول فصار مقولا وقريء الموودة بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها وفي مجمع البيان والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤا المودة بفتح الميم والواو والمراد بها الرحم والقرابة وعن أبي جعفر قرابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ويراد بقتلها قطعها أو هو على حقيقته والأسناد مجازي والمراد قتل المتصف بها وتوجيه السؤال إلى المؤودة في قوله تعالى سئلت بأي ذنب قتلت دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعتاب والعقاب وهذا نوع من الأستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين وقرأ أبي وابن مسعود والربيع بن خثيم وابن يعمر سألت أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قتلت لما أن الكلام إخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضا وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد وقرأ الحسن والأعرج سيلت بكسر السين وذلك على لغة من قال سال بغير همز وقرأ أبو جعفر بشدة الياء لأن الموؤدة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعتق عن كل واحدة رقبة قال إني صاحب إبل قال فاهد عن كل واحدة بدنة وكان الأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة ابن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموؤدات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله وجدي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم تؤد وأخرج الطبراني عنه قال قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل فيها من أجر أحييت ثلثمائة وستين من المؤدة اشترى كل واحد منهن عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لك أجره إذ من الله تعالى عليك بالإسلام وعد من الوأد العزل لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي ومن هنا قيل قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسئلة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عند نافي كل حال وكل امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل وأما التحريم فقد قال أصحابنا يعني الشافعية لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه وما ورد في الأذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس
(30/53)

معناه نفي الكراهة انتهى وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه ولا يبعد أن يكون الأستمناء باليد كالعزل وأدا خفيا وذكر بعضهم أنه إذا لم يخش الزنا حرام وإن خشى لم يحرم وكذا لا يبعد أن يكون التفخيذ مع من يحل له وطؤها كذلك ولم أر قائلا بحرمته وتمام الكلام في هذا المقام في كتب الفقه فلتراجع واستدل الزمخشري بالآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن العذاب لا يستحق إلا بالذنب أما الأول فلأن تبكيت قاتلها يباين تعذيبها لأن استحقاق التبكيت لبراءتها من الذنب فمتى بكت سبحانه الكافر ببراءتها من الذنب كيف يكر سبحانه عليها فيفعل بها ما ينسي عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي وأما الثاني فلأشارة قوله تعالى بأي ذنب قتلت إللا أن القتل إنما يصار إليه بذنب وإنه لا يستحسن ارتكابه دونه ومعلوم أن في معناه كل تعذيب ثم الآية لما دلت على أن الموؤدة لا ذنب لها ليتم التبكيت تضمنت عدم استحقاقها العقاب وزعم أن بن عباس سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية وتعقب بأن مبنى ما ذكره التحسين والتقبيح وقد بين ما فيهما في موضعه وعلى التسليم نمنع انحصار سبب التبكيت في البراءة على أن القتل للباعث المذكور في القرآن بمعنى خشية الإملاق رذيلة يستحق بها التبكيت استحق بها المقتول التعذيب الأخروي أولا وإشارة الآية على أن باعثهم على القتل لم يكن الذنب لا إلى أن الذنب أعني ما يستحق به الموؤدة التعذيب معدوم من كل وجه وما روي عن ابن عباس لا نسلم صحته وفي الأخبار ما ينافيه أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين وتفسيره على ما قيل ما روي أبو داود عن عائشة قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم قلت بلا عمل قال الله تعالى اعلم بما كانوا عاملين قلت يا رسول الله فذراري المشركين فقال من آبائهم قلت بلا عمل قال الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هما في النار وأنت تعلم أن مسئلة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة كما قال اللقاني خلافا فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقالت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلى الله تعالى عليه وسلم أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة و السلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة و السلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذلك في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحثث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم وغير ذلك من الأحاديث وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون هم في النار تبعا لآبائهم لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيرا فقال عليه الصلاة و السلام الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين أي وغير ذلك وتوقفت طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له
(30/54)

بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة حوله أولاد الناس قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن حديث الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار وحقيقة لفظة الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ انتهى وتعقب ما ذكره من الأحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه السلام فأن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة و السلام عليها إنما كان فيها وحديث إبراهيم عليه السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها ومنه يعلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة وأيضا إذا كان حديث إبراهيم عليه السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ أبن تيمية أن هذا أحسن الأجوبة فيهم وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس سره أنهم يحشرون ثم يصيرون ترابا كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم خدما لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام السابق في ولدي خديجة هما في النار وهو يعكر على من يقول أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراما لهم واختاره القول بأن الأطفال مطلقا وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو إلا خلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عز و جل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيدا بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة و السلام قبل علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي نعم جوز أن يكون قد أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بأنهم من أهل النار بناء على أخبار الوحي به كإخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث أنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة و السلام بأنهم من أهل الجنة بناء على أخبار الوحي به أيضا ويكون متضمنا للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلا من الله تعالى وكرما ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك أخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل وإذا الصحف نشرت أي صحف الأعمال أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها وقيل نشرت أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة
(30/55)

الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي نشرت بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير وإذا السماء كشطت قلعت وأزيلت كما يكشف الأهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلح واستعير هنا للأزالة وقرأ عبد الله قشطت بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور والقافور وعربي قح وكح وإذا الجحيم سعرت أي أوقدت إيقادا شديدا قال قتادة سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم وقرأ جمع منهم علي كرم الله تعالى وجهه سعرت بالتخفيف وإذا الجنة أزلفت أي قربت من المتقين كقوله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون وست في الآخرة إذا الشمس كورت وإذا البحار سجرت هذه الدنيا وإذا النفوس زوجت إلى وإذا الجنة أزلفت هذه في الآخرة وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذا تكدرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك غذ جاءتهم ريح فأماتتهم وقال بعضهم أن الست الأولى فيما بين النفختين وأنه مراد من قال أنها في الدنيا وقيل هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل علمت نفس ما أحضرت جواب إذا على أنالمراد بها زمان واحد ممتد يسع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى أن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي منمباديه وبعضها منروادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والشر وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن العمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه قيل ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد حكى عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما يؤذن به قوله تعالى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول إطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها شيء كما ينبيء عنه قولهم مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة
(30/56)

لهواها وتنكير النفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعا يعرفه كل أحد ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شؤنه المنبئة عن عظم سلطانه عز و جل وفي الكشاف أن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيمايعكس عنه ومنه وقوله تعالى ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ومعناه كم وأبلغ وقول القائل قد أترك القوم مصفرا أنامله
كأن أثوابه مجت بفرصاد وتقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندي أولا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وأنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقع من فائدة خاصة وذكر أن من الفوائد ههنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العاملة وأن كن جميعها وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الأنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال وتعقب ذلك أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلا عن ذي نظر دقيق وجوز أن يكون ذلك للأشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك ومنه قول ابن عمر لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة قيل ولهذا العموم ساغ الأبتداء بالنكرة فيه وقول بعض أنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس قيل مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي وقال بعض لا يبعد أن يقال استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى لأن عملت نفس في معنى لم تجهل نفس لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء وإلا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل وعن عبد الله بن مسعود أن قارئا قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ علمت نفس ما أحضرت قال وانقطاع ظهرياه فلا أقسم بالخنس جمع خانس من الخنوس وهو الأنقباض والأستخفاء الجواري جمع جارية من الجري وهو المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه الكنس جمع كانس وكانسة من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخده من أغصان الشجر والمراد بها على ما أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه الكواكب أي جميعها فقيل لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها وفي تفسير تكنس بتطلع خفاء وقيل لأنها تخنس نهارا وتخفى عن العيون مع طلوعها وكونها فوق الأفق وتكنس بعد طلوعها في المغيب وتدخل فيه كما تكنس الظباء في الكنس فتكون تحت الأفق بعد أن كانت فوقه وروي تفسيرها
(30/57)

بالكواكب عن الحسن وقتادة أيضا وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال هي خمسة أنجم زحل وعطارد والمشتري وبهرام يعني المريخ والزهرة والخنس الرواجع من خنس إذا تأخر ووصف بما ذكر في الآية لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها فيما يشاهد فلها استقامة ورجعة وإقامة فبينما تراها تجري إلى جهة إذا بها راجعة تجري إلى خلاف تلك الجهة وبينما تراها تجري إذا بها مقيمة لا تجري وسبب ذلك على ما قال المتقدمون من أهل الهيئة كونها في تداوير في حوامل مختلفة الحركات على ما بين في موضعه وللمحدثين النافين لما ذكر غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وهي مع الشمس والقمر يقال لها السيارات السبع لأن سيرها بالحركة الخاصة مما لا يكاد يخفى على أحد بخلاف غيرها من الثوابت وأخرج في كتاب النجوم وابن مردويه عن ابن عباس أنها المرادة هنا ووصفها بالخنس بمعنى الرواجع قيل من باب التغليب إذ لا رجعة للشمس ولا للقمر وبالخنس لاختفائها في مغيبها وقيل الوصفان باعتبار أنها تغيب عن العيون وتطلع في أماكنها على نحو ما تقدم على تقدير أن يكون المراد بها الكواكب جميعها وكون السيارات هي هذه السبع المعروف عند المتقدمين من المنجمين وأما اليوم فقد ضموا إليها كواكب أخرى يقال لها وستا وزونو وبأس وسرس واورنوس ويسمى هرشل وهو اسم المنجم الذي ظفر به بالرصد وبينوا مقدار أقطارها وأبعادها وحركاتها ولو لا مخافة التطويل لذكرت ذلك وعدلوا من جملة السيارات الأرض بناء على زعمهم أن لها حركة حول الشمس واشتهر أنهم لم يعدوا القمر منها لكونه من توابع الأرض بزعمهم وأخرج الحاكم وصححه وجماعة من طرق عن ابن مسعود أنها بقر الوحش وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن مجاهد وأبي ميسرة والحسن وحكاه في البحر عن النخعي وجابر ابن زيد وجماعة وأخرج ابن جرير عن الحبر أنها الظباء وروي ذلك أيضا عن ابن جبير والضحاك قالوا والخنس تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف به بقر الوحش والظباء ومنه قول بعض المولدين ما سلم الظبي على حسنه
كلا ولا البدر الذي يوصف فالظبي فيه خنس بين
والبدر فيه كلف يعرف والليل إذا عسعس أي أدبر ظلامه أو أقبل وكلاهما مأثوران عن ابن عباس وغيره وهو من الأضداد عند المبرد وقال الراغب العسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في ظرفي الليل فهو من المشترك المعنوي عنده وليس من الأضداد وفسر عسعس هنا بأقبل وأدبر معا وقالذلك غي مبدأ الليل ومنتهاه وقال الفراء أجمع المفسرون على أنمعنى عسعس أدبر وعليه العجاج يصف الخمر أو المفازة حتى إذا الصبح لها تنفسا
واجاب عنها ليلها وعسعسا وقيل هي لغة قريش خاصة وقيل كونه بمعنى أقبل ظلامه أوفق بقوله تعالى والصبح إذا تنفس فإنه أول النهار فيناسب أول الليل وقيل كونه بمعنى أدبر أنسب بهذا لما بين أدبار الليل وتنفس الصبح من الملاصقة فيكون بينهما مناسبة الجوار والمراد من تنفس الصبح على ما ذكر غير واحد إضاءته وتبلجه وفي الكشاف أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا على المجاز وقيل تنفس الصبح وعنى بالمجاز الأستعارة لأنه لما كان النفس ريحا خاصا يفرج عن القلب انبساطا وانقباضا شبه ذلك النسيم بالنفس وأطلق عليه الأسم استعارة وجعل الصبح متنفسا لمقارنته له ففي الكلام استعارة مصرحة وتجوز في الإسناد وظاهر
(30/58)

كلام بعضهم أنه بعد الإستعارة يكون ذلك كناية عن الإضاءة وجوز أن يكون هناك مكنية وتخييلية بأن يشبه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة ويثبت له التنفس المراد به هبوب نسيمه مجازا على طريق التخييل كما في ينقضون عهد الله وقال الإمام النهار بغشيان الليل المظلم كالمكروب وكما أنه يجد راحة بالتنفس كذلك تخلص من الظلام وطلوعه كأنه تخلص من كرب إلى راحة وهذا أدق مما بني الكشاف كما لا يخفى وجوز أن يقال أن الليل لما غشى النهار ودفع به إلى تحت الأرض فكأنه أماته ودفنه فجعل ظهور ضوئه كالتنفس الدال على الحياة وهو نحو مما نقل عن الإمام وقيل تنفس أي توسع وامتد حتى صار نهارا والظاهر أن التنفس في الآية إشارة إلى الفجر الثاني الصادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق بخلاف الأول الكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه ثم يعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني على زعم بعض أهل الهيئة أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل وسمى هذا الكاذب عارضا ففي خبر مسلم لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير أي ينتشر ذلك العموم في نواحي الأفق وكلام بعض الأجلة يشعر بأنه فيها إشارة إلى الكاذب حيث قال يؤخذ من تسمية الفجر الأول عارضا للثاني أنه يعرض للشعاع الناشيء عنه الفجر الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله تعالى والصبح إذا تنفس فعند ذلك الأنحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره ويعلم من ذلك سبب طول العمود وإضاءة أعلاه إلى آخر ماقال وفيه بحث ثم الظاهر أن تنفس الصبح وضياءه بواسطة قرب الشمس إلى الأفق الشرقي بمقدار معين وهو في المشهور ثمانية عشر جزءا وقول الإمام أنه يلزم على ذلك بناء على كروية الأرض واستضاءة أكثر من نصفها من الشمس دائما ظهور الضياء وتنفس الصبح إذا فارقت الشمس سمت القدم من دائرة نصف النهار وذلك بعيد نصف الليل والواقع خلافه تشكيك فيما يقرب أن يكون بديهيا وفيه غفلة عن أحوال ظل الأرض وانعكاس الأشعة من أبصار سكنة أقطارها فتأمل ولا تغفل والواو في قوله تعالى والصبح والليل على ما نقل عن ابن جني للعطف وإذا ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذ التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو على ما اختاره غير واحد معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الأقسام بالشيء إعظام له كأنه قيل ولا أقسم بعظمة الليل زمان عسعس وبعظمة النهار زمان تنفس على نحو قولهم عجبا منالليث إذا سطا فإنه ليس المعنى على تقييد التعجب من هوله وعظمته في ذلك الزمان وقال عصام الدين ينبغي أن يجعل تقييدا للمقسم به أي أقيم بالليل كائنا إذا عسعس والحال مقدرة أي مقدرا كونه في ذلك الوقت وصرح العلامة التفتازاني في التلويح في مثله أن إذا بدل من الليل إذ ليس المراد تعليق القسم وتقييده بذلك الوقت ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت وسيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشمس ما يتعلق بهذا المقام أيضا إنه أي القرآن الجليل الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وجعل الضمير للأخبار عن الحشر والنشر تعسف لقول رسول هو كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور جبريل عليه السلام ونسبته إليه عليه السلام لأنه واسطة فيه وناقل له عن مرسله وهو الله عز و جل كريم أي عزيز على الله سبحانه وتعالى وقيل متعطف على المؤمنين ذي قوة أي شديد كما قال سبحانه شديد القوى وجاء في قوته أنه عليه السلام بعث إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملها بمن فيها من الأرض السفلي حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هوى بها فأهلكها وقيل المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال
(30/59)

بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف وقيل لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ والبعد عن النسيان والخلط عند ذي العرش مكين أي ذي مكانة رفيعة وشرف عند الله العظيم جل جلاله عندية إكرام وتشريف لا عندية مكان فالظرف متعلق بمكين وهو فعيل من المكانة وقد كثر استعمالها كما في الصحاح حتى ظن أنالميم من أصل الكلمة واشتق منه تمكن كما اشتق من المسكنة تمسكن وجوز أن يكون مصدرا ميميا منالكون وأصله مكون بكسر الواو فصار بالنقل والقلب مكينا وأريد بالكون الوجود كأنه من كمال الوجود صار عين الوجود والأول هو الظاهر وقيل أن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة أخرى لرسول أي كائن عند ذي العرش الكينونة اللائقة وهو كما ترى مطاع فيما بين الملائكة المقربين عليهم السلام يصدون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ثم ظرف مكان للبعيد وهو يحتمل أن يكون ظرفا لما قبله وجعل إشارة إلى عند ذي العرش والمراد بكونه مطاعا هناك كونه مطاعا في ملائكته تعالى المقربين كما سمعت ويحتمل أن يكون ظرفا لما بعده أعني قوله سبحانه أمين والإشارة بحالها وأمانته على الوحي وفي رواية عنه عليه السلام أنه قال أمانتي أني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره ولامانته أنه عليه السلام يدخل الحجب كما في بعض الآثار بغير إذن وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم ثم بضم الثاء حرف عطف تعظيما للأمانة وبيانالأنها أفضل صفاته المعدودة وقال صاحب اللوامح هي بمعنى الواو لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ولو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى على أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام لجاز أن ورد به أثر انتهى والمعول عليه ما سمعت والمقام يقتضي تعظيم الأمانة لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول وما صاحبكم هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمجنون كما تبهته الكفرة قتلهم الله تعالى وفي التعرض لعنوان الصحبة مضافة إلى ضميرهم على ما هو الحق تكذيب لهم بألطف وجه إذ هو إيمان إلى أنه عليه الصلاة و السلام نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن فأنتم أعرف به وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتم الخلق عقلا وأرجحهم قيلا وأكملهم وصفا وأصفاهم ذهنا فلا يسند إليه الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون واستدل الزمخشري بالمبالغة في ذكر جبريل عليه السلام وتركها في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أفضليته عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأجابوا بما بحث فيه والوجه في الجواب على ما في الكشف أن الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة وقد علمت أن من شأن البليغ أن يجرد الكلام لماسبق له لئلا يعد الزيادة لكنة وفضولا ولاخفاء أن وصف الآتي بالقول يشد من عضد ذلك أبلغ شد وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في البين إلا إذا كان الغرض الحث على اتباعه فلهذا لم تدل المبالغة في شأن جبريل عليه السلام وعد صفاته الكوامل وترك ذلك في شأن نبينا عليه أفضل الصلوات والتسليمات على تفضيله بوجه وقال بعضهم أن المبالغة في وصف جبريل عليه السلام مدح بليغ في حق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الملك إذا أرسل لأحد من هو معزز معظم مقرب لديه دل على أن المرسل إليه بمكانه عنده ليس فوقها مكانة وقد علمت أن المقام ليس للمبالغة في مدح المنزل عليه وقيل المراد بالرسول هو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كالمراد بالصاحب وهو خلاف الظاهر الذي عليه الجمهور ولقد رآه أي وبالله تعالى لقد رأى صاحبكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرسول الكريم جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه
(30/60)

الله تعالى عليها له ستمائة جناح بالأفق المبين وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان وفي رواية عن مجاهد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه عليه السلام نحو جياد وهو مشرق مكة وقيل أن المراد به مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة وهذه الرؤية كانت فيها بعد أمر غار حراء وحكى ابن شجرة أنه أفق السماء الغربي وليس بشيء وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية رآه في صورته عند سدرة المنتهى والأفق على هذا قيل بمعنى الناحية وقيل سمى ذلك أفقا مجازا وماهو أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الغيب على ما يخبر به من الوحي إليه وغيره من الغيوب بضنين من الضن بكسر الضاد وفتحها بمعنى البخل أي ببخيل لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون على ما يزعمون معرفته إلا بإعطاء حلوان وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بنعبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ومن السبعة النحويان وابن كثير بظنين بالظاء أي بمتهم من الظنة بالكسر بمعنى التهمة وهو نظير الوصف السابق بأمين وقيل معناه بضعيف القوة على تبليغ الوحي منقولهم بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء والأول أشهر ورجحت هذه القراءة عليه بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلى الله تعالى عليه وسلم ونفي التهمة أولى من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه لكن قال الطبري بالضاد خطوط المصاحف كلها ولعلهأراد بالمصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود ثم أن هذا لا ينافي قول أبي عبيدة أن الظاء والضاد في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس أحدهما على الأخرى زيادة يسيرة قد تشتبه كما لا يخفى والفرق بين الضاد والظاء مخرجا أن الضاد مخرجها من أصل حافة اللسان وما يليها منالأضراس من يمين اللسان أويساره ومنهم منيتمكن من إخراجها منهما والظاء مخرجها منطرف اللسان وأصول الثنايا العليا واختلفوا في إبدال أحدهما بالأخرى هل يمتنع وتفسد به الصلاة أم لا فقيل تفسد قياسا ونقله في المحيط البرهاني عن عامة المشايخ ونقله في الخلاصة عن أبي حنيفة ومحمد وقيل لا استحسانا ونقله فيها عن عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة وقال جمع أنه إذا أمكن الفرق بينهما فتعمد ذلك وكان مما لم يقرأ به كما هنا وغير المعنى فسدت صلاته وإلا فلا لعسر التمييز بينهما خصوصا على العجم وقد أسلم كثير منهم في الصدر الأول ولم ينقل حثهم على الفرق وتعليمه منالصحابة ولو كان لازما لفعلوه ونقل وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه ويفتي به وقد جمع بعضهم الألفاظ التي لا يختلف معناها ضادا وظاء في رسالة صغيرة ولقد أحسن بذلك فليراجع فإنه مهم وما هو أي القرأن بقول شيطان رجيم أي بقول بعض المسترقة للسمع لأنها هي التي ترجم وهو نفي لقولهم أنه كهانة فأين تذهبون استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم كقولك لتارك الجادة الذاهب في بينات الطريق أين تذهب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها منظهور أنه وحي إن هو أي ما هو إلا ذكر للعالمين موعظة وتذكير لمن يعلم وضمير هو للقرآن أيضا وجوز كون الضميرين للرسول عليه الصلاة و السلام أي وما هو ملتبس بقول شيطان رجيم كما هو شأن الكهنة إن هو إلا مذكر للعالمين وقوله تعالى فأين الخ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى وقوله سبحانه لمن شآء منكم بدل منالعالمين بدل بعض من كل والبدل هو المجرور وأعيد معه العامل على
(30/61)

المشهور وقيل هو الجار والمجرور وجوز أن يكون بدل كل من كل لالحاق منلم يشأ بالبهائم ادعاء وهو تكلف وقوله تعالى أن يستقيم مفعول شاء أي لمن شاء منكم الإستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله منالعالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير وما تشاؤن أي الأستقامة بسبب من الأسباب إلا أنيشاء الله أي إلا بأن يشاء الله تعالى مشيئتكم فمشيئتكم بسبب مشيئة الله تعالى رب العالمين أي ملك الخلق ومربيهم أجمعين أو ما تشاءون الإستقامة مشيئة نافعة مستتبعة لها بأن يشاءها الله تعالى فله سبحانه الفضل والحق عليكم باستقامتكم إن استقمتم روي عن سليمان بن موسى والقاسم بن مخيمرة أنه لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قال أبو جهل جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله تعالى وما تشاءون الآية وأن وما معها هنا على ما ذكرنا فيموضع خفض بإضمار باء السببية وجوز أن تكون للمصاحبة وذهب غير واحد إلى أن الأستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تشاءون الأستقامة في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله تعالى شأنه استقامتكم وهو مبني على مانقل عن الكوفيين من جواز نيابة المصدر المؤول من أن والفعل عن الظرف وفي الباب الثامن من المغنى أن أن وصلتها لا يعطيان حكم المصدر في النيابة عن ظرف الزمان تقول جئتك صلاة العصر ولا يجوز جئتك أن تصلي العصر فالأولى ما ذكرنا أولا وإليه ذهب مكي وذهب القاضي إلى الثاني وقد اعترض عليه أيضا بأن ما لنفي الحال وأن خاصة للأستقبال فيلزم أن يكون وقت مشيئته تعالى المستقبل ظرفا لمشيئة العبد الحالية وأجيب بأنا لانسلم أن ما مختصة بنفي الحال ومن ادعى اختصاصها بذلك اشتراط انتفاء القرينة على خلافه ولم تنتف ههنا لمكان أن في حيزها أو بأن كون أن للأستقبال مشروط بانتفاء قرينة خلافه وههنا قد وجدت لمكان ما قبلها فهي لمجرد المصدرية وقيل يندفع الأعتراض بجعل الأستثناء منقطعا فليجعل كذلك وإن الأصل فيه الأتصال وليس بشيء وقد أورد على وجه السببية الذي ذكرناه نحو ذلك وهو أنه يلزم منكون ما لنفي الحال وأن للأستقبال سببية المتأخر للمتقدم ومما ذكر يعلم الجواب كما لا يخفى فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لا وضح المسالك
وقال بعض أهل التأويل الشمس شمس الروح والنجوم نجوم الحواس والجبال جبال القوالب وهي تسير كل وقت إلا أنه يظهر ذلك للمحجوب إذا كشف له الغطاء والعشار عشار القوى القالبية والوحوش وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية والبحار بحار العناصر الطبيعية والنفوس القوى النفسانية وتزويجها قرن كل قوة بعملها والموؤدة الخواطر الإلهية التي ترد على السالك فيئدها في قبر القالب ويظلمها والصحف على ظاهرها والسماء سماء الصدر والجحيم جحيم النفس وتسعيرها بنيران الهوى والجنة جنة القلب والخنس الأنوار المودعة في القوى القلبية والليل الأنوار الجلالية والصبح الأنوار الجمالية إلى آخر ما قال ويستدل بحال البعض على البعض وقد حكى أبو حيان شيئامن نحو ذلك وعقبه بتشنيع فظيع وهو لا يتم إذلا إذا أنكر إرادة الظاهر وأما غذا لم تنكر وجعل ما ذكر ونحوه من باب الإشارة فلا يتم أمر التشنيع كما حقق ذلك فيموضعه
سورة الإنفطار
وتسملا سورة انفطرت وسورة المنفطرة ولا خلاف في أنها مكية ولا في أنها تسع عشرة آية ومناسبتها لما قبلها معلومة بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انفطرت أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى يوم
(30/62)

تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا والكلام في ارتفاع السماء كما مر في ارتفاع الشمس وإذا الكواكب انتثرت أي تساقطت متفرقة وهو لإزالتها حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية وإذا البحار فجرت فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من البرزخ واختلط العذب بالأجاج وصارت بحرا واحدا وروي أن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية أي في أن لا ماء وأريد أن البحار تصير واحدة أولا ثم تنشف الأرض جميعا فتصير بلا ماء ويحتمل أن يراد بالأستواء بعد النضوب عدم بقاء مغايض الماء لقوله تعالى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقرأ مجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري فجرت بالتخفيف مبنيا للمفعول وعن مجاهد أيضا فجرت به مبنيا للفاعل بمعنى نبعت لزوال البرزخ من الفجور نظر إلى قوله تعالى لا يبغيان لأن البغي والفجور إخوان وإذا القبور بعثرت قلب ترابها الذي حتى على موتاها وأزيل وأخرج من دفن فيها على ما فسر به غير واحد وأصل البعثرة على ما قيل تبديد التراب ونحوه وهو إنما لأخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا وعليه ما سمعت وقد يتجوز به عن البعث والأخراج كما في العادات حيث أسند فيها لما في القبور دونها كما هنا وزعم بعض أنه مشترك بين النبش والإخراج وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا ويسمى ذلك نحتا وأصل بعثر وأثير ونظيره بسمل وحمدل وحوقل ودمعز أي قال بسم الله والحمد لله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وأدام لله تعالى عزه إلى غير ذلك من النظائر وهي كثيرة في لغة العرب وعليه يكون معناه النبش والأخراج معا واعترضه أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة وهو توهم منه فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة كما فصل في الزهر نقلا عن أئمة اللغة نعم الأصل عدم التركيب علمت نفس ما قدمت وأخرت جواب إذا لكن لا على أنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت أن المراد بها زمان واحد مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة بحسب كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حيزها من الدواهي والكلام فيه كالذي مر في نظيره ومعنى ما قدم وأخر ما أسلف من عمل خير أو شر وآخر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وأبي مسعود وعن ابن عباس أيضا ما قدم معصية وأخر من طاعة وهو قول قتادة وقيل ما عمل ما كلف به وما لم يعمل منه وقيل ما قدم من أمواله لنفسه وما أخر لورثته وقيل أول عمله وآخره ومعنى علمها بهما علمها التفصيلي حسبما ذكر فيما قدم يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم أي أي شيء خدعك وجراك على عصيانه تعالى وارتكاب ما لا يليق بشأنه عز شأنه وقد علمت ما بين يديك وما سيظهر من أعمالك عليك والتعرض لعنوان كرمه تعالى دون قهره سبحانه من صفات الجلال المانعة ملاحظتها عن الأغترار للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه الشيطان ويقول لأه افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة أو يقول له نحو ذلك مما مبناه الكرم كقول بعض شياطين الإنس تكثر ما استطعت من الخطايا
ستلقى في غد ربا غفورا تعض ندامة كفيك مما
تركت مخافة الذنب السرورا فإنه قياس عقيم وتمنيه باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة والأجتناب عن الكفر والعصيان دون العكس ولذا قال بعض العارفين لو لم أخف الله تعالى لم أعصه فكأنه قيل ما حملك على عصيان ربك
(30/63)

الموصوف بما يزجر عنه وتدعو إلى خلافه وقيل أن هذا تلقين للحجة وهو من الكرم أيضا فإنه إذا قيل له ما غرك الخ يتفطن للجواب الذي لقنه ويقول كرمه كما قيل يعرف حسن الخلق والإحسان بقلة الآداب في الغلمان ولم يرتض ذلك الزمخشري وكان الأغترار بذلك في النظر الجليل وإلا فهو في النظر الدقيق كما سمعت وعن الفضيل أنه قال غره ستره تعالى المرخي وقال محمد بن السماك يا كاتم الذنب أما تستحي
والله في الخلوة رائيكا غرك من ربك إمهاله
وستره طول مساويك وقال بعضهم يقول مولاي ألا تستحي
مما أرى من سوء أفعالك فقلت يا مولاي رفقا فقد
جزأني كثرة أفضالك وقال قتادة غره عدوه المسلط عليه وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ الآية فقال الجهل وقال عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ أنه كان ظلوما جهولا والفرق بين هذا وبين ما ذكروا لا يخفى على ذي علم واختلف في الإنسان المندي فقيل الكافر بل عن عكرمة أنه أبي بن خلف وقيل الأعم الشامل للعصاة وهو الوجه لعموم اللفظ ولو ووعه بين المحمل ومفصله أعني علمت نفس وإن الأبرار وإن الفجار وأما قوله تعالى بل يكذبون بالدين ففي الكشف أما أن يكون ترشيحا لقوة اغترارهم بإيهام أنهم أسوأ حالا من المكذبين تغليظا وأما لصحة خطاب الكل بما وجد فيما بينهم وقرأ ابن جبير والأعمش ما أغرك بهمزة فاحتمل أن يكون تعجبا وأن تكون ما استفهامية كما في قراءة الجمهور وأغرك بمعنى أدخلك في الغرة وقوله سبحانه الذي خلقك فسواك فعدلك صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم مومية إلى صحة ما كذب من البعث والجزاء موطئة لما بعد حيث نبهت على أن من قدر على ذلك بدا أقدر عليه إعادة والتسوية جعل الأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها ما تتم به وعدلها بعضها ببعض بحيث اعتدلت من عدل فلانا بفلان إذا ساوى بينهما أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف وذهب إلى الأول الفارسي وإلى الثاني الفراء وقا غير واحد من السبعة عدلك بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ونقل القفال عن بعضهم أن عدل وعدل بمعنى واحد في أي صورة ما شاء ركبك أي ركبك ووضعك في أي صورة اقتضتها مشيئته تعالى وحكمته جل وعلا من الصور المختلفة في الطول والقصر ومراتب الحسن ونحوها فالجار والمجرور متعلق بركبك وأي للصفة مثلها في قوله أرأيت أي سوالف وخدود
برزت لنا بين اللاي وزرود ولما أريد التعميم لم يذكر موصوفها وجملة شاء صفة لها والعائد محذوف وما مزيدة وإنما لم تعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي ركبك كائنا في أي صورة شاءها وقيل أي موصولة صلتها جملة شاءها كأنه قيل ركبك في الصورة التي شاءها وفيه أنه صرح أبو علي في التذكرة بأن أيا الموصولة لا تضاف إلى نكرة وقال ابن مالك في الألفية واخصصن بالمعرفة موصولة أيا
وفي شرحها للسيوطي مع اشتراط ما سبق يعني كون المعرفة غير مفردة فلا تضفها إلى نكرة خلافأئ لابن عصفور ويجوز أن تجعل أي شرطية والماضي في جوابها في معنى المستقبل إذا نظر إلى تعلق المشيئة وترتب التركيب عليه فجيء بصورة إلى الماضي نظر إلى المشيئة وأداة الشرط نظرا إلى المتعلق والترتب ويجوز أن يكون الجار متعلقا بعدلك وحينئذ يتعين في أي الصفة كأنه قيل فعدلك في صورة أي في صورة عجيبة ثم حذف الموصوف زيادة للتفخيم والتعجيب وأي هذه منقولة من الأستفهام لكنها
(30/64)

لانسلاخ معناها عنها بالكلية عمل فيها ما قبلها ويكون ما شاء ركبك كلاما مستأنفا وما أما موصولة أو موصولة مبتدأ أو مفعولا مطلقا لركبك أي ما شاء من التركيب ركبك فيه أو تركيبا شاء ركبك وجوز أن تكون شرطية وشاء فعل الشرط وركبك جزاؤه أي إن شاء تركيبك في أي صورة غير هذه الصورة ركبك فيها والجملة الشرطية في موضع الصفة لصورة والعائد محذوف ولم يجوزوا على هذا الوجه تعلق الظرف بركبك لأن معمول ما في حيز الشرط لا يجوز تقديمه عليه كلا ردع عن الأغترار بكرم الله تعالى وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبا للشكر والطاعة وقوله تعالى بل تكذبون بالدين إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطرق الأعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترؤن على أعظم منه حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا أو بدين الإسلام اللذين هما منجملة أحكامه فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ولا ثوابا ولا عقابا وفيه ترق من الأهون إلى الأغلظ وعن الراغب بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل ليس هنا مقتض لغرورهم ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه وقيل تقدير الكلام أنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون الخ وقيل إن كلا ردع عما دل عليه هذه الجملة من نفيهم البعث وبل إضراب عن مقدر كأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون مننفي البعث والنشور ثم قيل لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون الخ وأدغم خارجة عن نافع ركبك كلا كأبي عمرو في إدغامه الكبير وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر يكذبون بياء الغيبة وقوله تعالى وإن عليكم لحافظين حال من فاعل تكذبون مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقيق ما يكذبون به من الجزاء على الوجهين في الدين أي تكذبون بالجزاء والحال أنعليكم منقبلنا لحافظين لأعمالكم كراما لدينا كاتبين لها يعملون ما تفعلون من الأفعال قليلا كان أوكثيرا ويضبطونه نقيرا أو قطميرا وليس ذلك للجزاء وإقامة الحجة وإلا لكان عبثا ينزه عنه الحكيم العليم وقيل جيء بهذه الحال استبعادا للتكذيب معها وليس بذاك وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عز و جل منجلائل الأمور حيث استعمل سبحانه فيه هؤلاء الكرام لديه تعالى ثم أن هؤلاء الحافظين غير المعقبات في قوله تعالى له معقبات بين من يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله فمع الإنسان عدة ملائكة روي عن عثمان أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم من ملك على الإنسان فذكر عليه الصلاة و السلام عشرين ملكا قالالمهدوي في الفيصل وقيل إن كل أدمي يوكل به منحين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ومن يكتب الأعمال ملكان كاتب الحسنات وهو في المشهور علىالعاتق الأيمن وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأيسر والأول أمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة إلا بعد مضي ست ساعات من غير مكفر لها ويكتبان كل شيء حتى الأعتقاد والعزم والتقرير وحتى الأنين في المرض وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح ويفارقان المكلف عند الجماع ولا يدخلان مع العبد الخلاء وأخرج البزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذي معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه ويجعل الله تعالى لهما أمارة على الأعتقاد القلبي ونحوه ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلىيوم القيامة إن كان مؤمنا ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا واستظهر بعضهم أنهما اثنان بالشخص وقيل بالنوع وقيل كاتب الحسنات يتغير دون كاتب السيئات ونصوا على أن المجنون
(30/65)

لا حفظة عليه وورد في بعض الآثار ما يدل على أن بعض الحسنات ما يكتبها غير هذين الملكين والظواهر تدل على أن الكتب حقيقي وعلم الآلة وما يكتب فيه مفوض إلى الله عز و جل وقوله سبحانه إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتب منالثواب والعقاب وفي تنكير النعيم والجحيم ما لا يخفى من التفخيم والتهويل وقوله تعالى يصلونها إما صفة للجحيم أوحالمن ضمير الفجار في الخبر أو استئناف مبني على سؤال نشأ من تهويلها كأنه قيل ما حالهم فيها فقيل يقاسون حرها وقرأ ابن مقسم يصلونها متشددا مبنيا للمفعول يوم الدين يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به استقلالا أو في ضمن تكذيبهم بالأسلام وما هم عنها بغائبين طرفة عين فإن المراد استمرار النفي لا نفي الأستمرار وهو كقوله تعالى وما هم بخارجين منها في الدلالة على سرمدية العذاب وأنهم لا يزالون محسين بالنار وقيل معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة منحفر النار على أن غائبين من حكاية الحال الماضية والجملة قيل على الوجهين في موضع الحال لكنها على الأول حال مقدرة وعلى الثاني من باب جاؤكم حصرت صدورهم وقيل أنها على الأول حالية دون الثاني لانفصال ما بين صلى النار وعذاب القبر بالبعث ومافي موقف الحساب بل هي عليه معطوفة على ما قبلها ويحتمل اسم الفاعل فيها أعني غائبين على الحال أي وما هم عنها بغائبين الآن لتغاير المعطوف عليه الذي أريد به الأستقبال والكلام على ما عرف في أخباره تعالى من التعبير عن المستقبل بغيره لتحققه فلا يرد أن بعض الفجار في زمرة الأحياء بعد وبعضهم لم يخلق كذلك وعذاب القبر بعد الموت فكيف يحمل غائبين على الحال وقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين تفخيم لشأن اليوم الذي يكذبون به أثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب والخطاب فيه عام والمراد أن كنه أمره بحيث يدركه دراية داري وقيل الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل للكافر والإظهار في موضع الإضمار تأكيد لهول يوم الدين وفخامته وقد تقدم الكلام في تحقيق كون الأستفهام في مثل ذلك مبتدأ أو خبرا مقدما فلا تغفل وقوله سبحانه يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله بيان إجمالي لشأن يوم الدين أثر إبهامه وإفادة خروجه عن الدائرة الدراية قيل بطريق إنجاز الوعد فإن نفي الإدراء مشعر بالوعد الكريم بالإدراء على ما روي عن ابن عباس من أنه قال كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أدراك فقد أدراه وكل ما فيه من قوله عز و جل ما يدريك فقد طوى عنه ويوم منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس مطلقا لا للكافرة فقط كما روي عن مقاتل شيئا من الأشياء الخ فإنه يدريك ما هو أو مبني على الفتح محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف على رأي من يرى جواز بناء الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن وهم الكوفيون أي هو يوم لا تملك الخ وقيل هو نصب على الظرفية بإضمار يدانون أو يشتد الهول أو نحوه مما يدل عليه السياق أو هو مبني على الفتح محله الرفع على أنه بدل من يوم الدين وكلاهما ليسا بذاك لخلوهما عن إفادة ما أفاده ما قبل وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو يوم بالرفع بلا تنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا بدل لما سمعت آنفا وقرأ محبوب عن أبي عمرو ويوم بالرفع والتنوين فجملة لا تملك الخ في موضع الصفة له والعائد محذوف أي فيه والأمر كما قال في الكشف واحد الأوامر لقوله تعالى لمن الملك اليوم فإن الأمر
(30/66)

من شأن الملك المطاع واللام للأختصاص أي الأمر له تعالى لا لغيره سبحانه لا شركة ولا استقلالا أي التصرف جميعه في قبضة قدرته عز و جل لا غير وفي تحقيق قوله تعالى لا تملك نفس لنفس شيئا لدلالته على أن الكل مسوسون مطيعون مشتغلون بحال أنفسهم مقهورون بعبوديتهم لسطوات الربوبية وقيل واحد الأمور أعني الشأن وليس بذاك وقول قتادة فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن المنذر أي ليس ثم أحد يقضي شيئا ولا يصنع شيئا غير رب العالمين تفسير الحاصل المعنى لا إيثار لذلك هذا وقوله وحده ليس بحجة يترك له الظاهر والمنازعة في الظهور مكابرة وأيا ما كان فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة يوم القيامة كما لا يخفى والله تعالى أعلم
سورة المطففين
ويقال لها سورة المطففين واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدي قال بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال آخر ما نزل بمكة سورة المطففين وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال أول ما نزل بالمدينة ويل للمطففين ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال لما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية الأثمان آيات من آخرها إن الذين أجرموا الخ وقيل إنها مدنية إلا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عز و جل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكره سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى وقال الجلال السيوطي الفصل بهذه السورة بين الأنفطار والأنشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والأنشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الأنفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكره في هذه السورة بقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ من وراء ظهوره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الأنشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب على السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادي أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الأنفطار وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه حال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر
(30/67)

بسم الله الرحمن الرحيم
ويل للمطففين قيل الويل شدة الشر وقيل الحزن والهلاك وقيل العذاب الأليم وقيل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعا ابن جرير بسند فيه نظر وذهب كثير إلا أنه في جهنم فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعيم خريفا قبل أن يبلغ قعره وفي صحيحي ابن حبان والحاكم بلفظ واد بين جبلين يهوي فيه الكافر وروي ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر ومن قال ويل واد في جهنم لم يرد أن ويلا في اللغة موضوع لهذا وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت ذلك له انتهى والظاهر أن إطلاقه على ذلك كإطلاق جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء وللمطففين خبره والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقة وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه وقوله تعالى الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون الخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيا وافرا وتبديل كلمة على هنا قيل لتضمين الأكتيال معنى الأستيلاء أو للأشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذ لا خلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أنالمراد بالأستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك وقيل إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراء أن من وعلى يعتقبان في هذا الموضع فيقال اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب مع اقتضائه لعدم شمول لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الأستيفاء أخذ مالهم على الناس وافيا من غير نقص إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم وحمل مالهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا يستدعي كون الأستيفاء بالمعنى المذكور حتما انتهى وأقول إن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرا حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الإستيفاء أخذ مالهم وافيا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدار لذمهم والدعاء عليهم قلنا مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك فلان يأخذ حقه من الناس تاما ويعطيهم حقهم ناقصا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد منالذم بنحو يأخذ ناقصا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدا ويعطي ناقصا لا يضر كما لا يخفى ثم يقال إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقا له بوجه من الوجوه ولعل مبني كلام الفراء على ذلك فتأمل وجوز على أن تكون على متعلقة بيستوفون ويكون تقديمها على الفعل لأفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد
(30/68)

بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الأفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام ولا ريب في أن الأستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصوران أن يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى وأجيب بأن المراد بالإستيفاء المعدي بعلى على ذلك الإضرار فكأنه قيل إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها والقصر بطريق القلب والإضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الأضرار مختلفا حيث أن إضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم أن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر والضمير المنفصل في قوله تعالى وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله ولقد جنتك أكمؤا وعساقلا
ولقد نهيتك عن بنات الأوبر وقولهم في المثل الحريص يصيدك لا الجواد أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم وعن عيسى بن عمر وحمزة أن المكيل له والموزون له محذوف وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بهاما أرادوا وقال الزمخشري لا يصح كون الضمير مرفوعا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في الكشف لأن التأكيد اللفظي يدفعه المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهم مثلا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذا المعنى لا يخسر الأهم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولا في كالوهم مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من احدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له وقيل أنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الواو وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى ولعل الأقتصار على الأكتيال في صورة الأستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الأخسار إن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالأكتيال من الأستيفاء والسرقة وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهوامن البخس في النوعين جميعا والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدوي في ذلك أنالتطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضا الغالب فيما يوزن ماهو أكثر قيمة مما يكال فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم على أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروآت أيضا إلا نادرا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا
(30/69)

ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشقياء الجزئية كما يفهم من ذكر الإخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤن على إخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الإخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجوازان يقال لم لم يقل إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا وزنوهم يخسرون ليعلم من القرينتين أنهميستوفون الكثير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الأحتباك وقال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده علىما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القريتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى وقيل إن المطففين باعة وهم في الغلالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزارعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل وذكر الأكتيال فقط في صورة الأستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة وذكر الكيل والوزن في صورة الإعطاء أو اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلكالصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والأتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطي ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون استئناف وارد لتهويل ماما ارتكبوه من التطفيف والهمزة لإنكار والتعجيب ولا نافية فليست ألا هذه الأستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الأستفهام ولا النافية والظن على معناه المعروف وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للأشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه منمعنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي لا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون ليوم عظيم لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأتلغ وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم أسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيت حكى سبحانه عنهم إن نظن إلا ظنا ولم يثبته عز و جل لهم والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الإنكار وقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين أي لحكمه تعالى وقضائه عز و جل منصوب بإضمار أعني وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم مجرور كما قال الفراء بدلا منيوم عظيم وهو على الوجهين مبني على الفتح لأضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي يوم بالرفع قراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ يوم بالجر وفي هذا الإنكار والتعجب وإيراد الظن والإتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يوم يقوم الخ منه على القول به ووصفه
(30/70)

تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الأثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث أن الميزان قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا خمس قيل يا رسول الله وما خمس قال ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى أن العرق ليلجمهم وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له إن ابنك كيال فقال أشهد أنه في النار وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف ومنهذا القبيل ما روي عن أبي رضي الله تعالى عنه لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم واستدل بقوله تعالى يوم يقوم الخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا وأنتتعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الأستدلال بها على ذلك من العجب العجاب وقوله تعالى كلا ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب إن كتاب الفجار لفي سجين الخ تعليل للردع أو وجوب الأرتداع بطريق التحقيق وكتاب قيل بمعنى مكتوب أي ما يكتب من أعمال الفجار لفي الخ وقيل مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار لفي الخ والمراد بالفجار هنا على ما قال أبو حيان الكفار وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم الفسقة فيدخل فيهم المطففون وسجين قيل كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم فإنالظاهر أنكتاب بدل من سجين أو خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير راجع إليه أي هو كتاب وأصله وصف من السجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو بمعنى مفعول ولا يلزم على جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفا للكتاب لما سمعت من تفسير كتاب الفجار وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفا للعمل المكتوب فيه أو ظرفا للكتابة وقيل الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول أن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء وعن الإمام لا استبعاد في أنيوضع أحدهما حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر وعن أبي علي أن قوله تعالى كتاب مرقوم أي موضع كتاب فكتاب على ظاهره وسجين موضع عنده ويؤيده ما أخرجهابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا أنالفلق جب في جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح وعليه يكون سجين لشر موضع في جهنم وجاء في عدة آثار أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض وفي الكشف لا يبعد أن يكون سجين علم الكتاب وعلم الموضع أيضا جمعا بين ظاهر الآية وظواهر الأخبارلا وبعض منذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قالوما أدرك سجين على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين وقال ابن عطية من قال بذلك فكتاب عنده مرفوع على أنه خبر أن والظرف الذي هو لفي سجين ملغي وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلا إذا كان معمولا للخبر أعني كتاب أو لصفته أعني مرقوم وذلك لا يجوز لأن كتاب موصوف فلا يعمل ولأن مرقوم الذي هو
(30/71)

صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر وقيل كتاب خبر ثان لأن وقيل خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى كتاب الفجار ومناط الفائدة الوصف والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر وعن عكرمة أن سجين عبارة عن الخسار والهوان كما تقول بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول والكلام في وما أدراك الخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليس مشتقا من السجن أصلا ومرقوم منرقم الكتاب إذا أعجمه وبينه لئلا يلغو أي كتاب بين الكتابة أو منرقم الكتاب إذا جعل له رقما أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه وقال ابن عباس والضحاك مرقوم مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة وفي البحر مرقوم أيمثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى وشاع الرقم في الكتابة قال أبو حيان وهو أصل معناه ومنه قول الشاعر سأرقم في الماء القراح إليكم
على بعدكم إن كان للماء راقم وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين متصل بقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين وما بينهما اعتراض والمراد للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى الذين يكذبون بيوم الدين إما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة وقيل هو صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى وما يكذب به إلا كل معتد الخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي ومايكذب بيوم الدين إلا كل متجاوز حدود النظر والأعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد في الإعادة منها فعد الإعادة محالة عليه عز زجل أثيم أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها إذا تتلى عليه آياتنا الناطقة بذلك قال من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه أساطير الأولين أيهي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الأخبار بها ولم يظهر صدقها أو أباطيل ألقيت على آبائنا الولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجا عن طريق الحزم والأحتياط والأول أظهر والآية قيل نزلت في النظر بن الحرث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأيا ما كان فالكلام على العموم وقرأ أبو حيوة وابن مقسم إذا يتلى بتذكير الفعل وقريء إذا تتلى على الأستفهام الإنكاري كلا ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عز و جل بل ران على قلبهم ما كانوا يكسبون بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدافي المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغنيا ويقال ران فيه النوم أيرسخ فيه البحر أصل الرين الغلبة يقال رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت وران الغشي على عقل المريض أي غلب وقال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به رينا إذاوقع فيما لا يستطيع منه الخروج وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدا المسود للمرآة والفضة مثلا المغير عن الحالة الأصلية وأخرج
(30/72)

الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فلذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسبابا وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة و السلام قال أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون والخلوة بالنساء والأستمتاع بهن والعمل برأيهن ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم قال كل غني قد أبطره غناه وقريء بإدغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمعوا يعني القراء على إدغام اللام في الراء إلا مام كان منوقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا لتبيين الإظهار وليس كما قال من الإجماع ففي اللوامح عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى بل رفعه الله إليه بل ربكم وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع بل ران غير مدغم وفيه أيضا وقرأ أيضا بالإدغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان والإدغام حسنان وقال أيضا فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي عربية جائزة وفي الكشاف قريء بإدغام اللام في الراء وبالإظهار والأدغام أجود وأميلت الألف وفخمت فليحفظ كلا ردع وزجر عن الكطسب الرائن أو بمعنى حقا إنهم أي هؤلاء المكذبين عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا يرونه سبحانه وهو عز و جل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن روية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص وقال الشافعي لماحجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا وقال أنس بن مالك لما حجب عز و جل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز و جل ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للأستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلاللوجهاء المكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا الادنياء المهانون عندهم كما قال إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا
والناس من بين مرجوب ومحجوب أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلا لمحجوبون وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كسيان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر للرؤية وغيرها من ألطافه تعالى والجار والمجرور متعلق بمحجوبون وهو العامل في يومئذ والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا يقوم الناس السابق كأنه قيل أنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ثم إنهم لصالوا الجحيم مقاسو حرها على ما قالالخليل وقيل داخلون فيها وثم قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلى الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عز و جل وأما عند المؤمنين لا سيما الواهلين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب ثم يقال لهم تقريعا وتوبيخا من جهة الخزنة أو أهل الجنة هذا الذي كنتم به تكذبون
(30/73)

فذوقوا عذابه كلا تكرير للردع السابق في قوله تعالى كلا إن كتاب الفجار الخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف والإيقاء بر وقيل ردع عن التكليف فلا تكرار إن كتاب الأبرار لفي عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في عليين على وجه آخر غير اختلافهم في سجين فقال غير واحد هو علم لديوان الخبر الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء النقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن سمي بذلك أما لأنه سبب الأرتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنهمرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين عليهم السلام تعظيما له وقيل هو المواضع العلية واحده علي وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكى ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف للملائكة ولذلك جمع بالواو والنون وقال الفراء هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظة كعشرين وثلاثين والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون يشهده المقربون صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أنه من الشهادة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نظرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن مالهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب تعرف مبنيا للمفعول نضرة رفعا على النيابة عن الفاعل وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل تعرف ضمير الأبرار وفي وجوههم نضرة مبتدأ وخبر كأنه قيل الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا تخفى وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ يعرف بالياء إذ تأنيث نضرة مجازي يسقون من رحيق قال الخليل هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه قال حسان يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل وفسر ههنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مختوم ختامه مسك أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وإن الختم على حقيقته وكذا إسناده وقولنا مختوم أوانيه الخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الأستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان على ذلك بالختم وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالأنتهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى وقيل إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن عبلة والكسائي خاتمه بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقلب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعني على الأرائك ينظرون وتعرف في وجوههم الخ ويسقون الخ قيل أحوالمترادفة وقيل مستأنفات كجملة الأبرار الخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم وفي ذلك إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه منمعنى البعد للأشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى فليتنافس وقدم للأهتمام أو للحصر أي فليتنافس على الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز و جل فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه منكل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعوا له فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى كتاب مرقوم يشهده المقربون وسأله عن قوله تعالى إن كتاب الفجار الآية فقال إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجين ويكون في عليين فقد أخرج ابن المبارك عن صخرت بن حبيب قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم انكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل وقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم شروع في بيان محاسن أحوالهم أثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل هذا حال كتابهم فأجيب بما ذكر أي أنهم لفي نعيم عظيم على الأرائك أي على الأسرة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها ينظرون أي إلى ما شاؤا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد إلى
(30/74)

ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات وقال مقاتل إلى أهلالنار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيسا وقيل ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل النظر كناية عن سلب النوم فكأنه قيل لا ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالبا وفيه إشارة إلى أنه لا نوم فيالجنة كما وردت به الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام وعليه يكون قوله سبحانه تعرف في وجوههم نضرة النعيم أي بهجة النعيم ورونقه لنفي مايوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن ما لهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء وقرأ أبو جعفر وابن أبي اسحق وطلحة وشيبة ويعقوب تعرف مبنيا للمفعول نضرة رفعا على النيابة عن الفاعل وجوز بعضهن أن يكون نائب فاعل تعرف ضمير الأبرار وفي وجوههم نضرة مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفي وقرأ زيد بن على كذلك إلا أنه قرأ يعرف بالياء إذ تأنيث نضرة مجازي يسقون من رحيق قال الخليل هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيها قال حسان ... يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ...
وفسر ههنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مختوم ختامه مسك أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روى عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وإن الختم على حقيقته وكذا اسناده وقولنا مختوم أوانيه الخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعنى الأشتيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به واظاهرا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان عن ذلك بالختم وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال لذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالانتهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى وقيل أن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي خاتمه بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعنى على الأرائك ينظرون وتعرف في وجوههم الخ ويسقون الخ قيل أحوال مترادفة وقيل مستأنفات كجملة أن الأبرار الخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على اسقلال كل في بيان كرامتهم وفي ذلك إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى فليتنافس وقدم للاهتمام أو الحصر أي فليتنافس
(30/75)

وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أولا في غيره منملاذها ونعيمها المتنافسون أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى وقيل أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى لمثل هذا فليعمل العاملون أي فليستبق في تحصيل ذلك المتسابقون وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفيس لعزتها قال الواحدي نفست الشيء أنفسه نفاسة والتنافس تفاعل منه كان كل واحد منالشخصين يريد أن يستأثر به وقال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل واحد لنفسه ويقال نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه وفي مفردات الراغب المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم منغير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخفى واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير وفليتنافس في ذلك وأجيب بأنه بتقدير القول أي يقولون لشدة التلذذ من غير اختيار في ذلك فليتنافس المتنافسون أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك وقيل الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون وتقديم الظرف ليكون عوضا عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم وقوله تعالى ومزاجه منتسنيم عطف على ختامه مسك صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته وتسنيم علم لعين بعينها في الجنة كما روي عن ابن مسعود وعن حذيفة اليمان أنه قالعين منعدن سميت بالتسليم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روي عن ابن عباس أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روي عن الكلبي وروي أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم وقيل سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم منكونه علما لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه ومن بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسليم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية عينا نصب على المدح وقالالزجاج على الحال من تسليم قيل وصح كونه حالا مع جموده لوصفه بقوله تعالى يشرب بها المقربون أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الأشتقاق غير لازم والباء إما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها أو على تضمين يشرب معنى يروي أي يشرب راوين بها أو يروي بها شاربين المقربون أو صلة الألتذاذ أي يشرب ملتذا بها أو الأمتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجا بها أو الأكتفاء أي يشرب مكتفين بها أوجه ذكروها وفي كونها صلة الأمتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن الأبرار هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسليم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق والمدامة التي تواصي على شربها ذووا الأذواق والتحقيق على نفسه فلبيك من ضاع عمره
وليس له منها نصيب ولا سهم وقال قوم الأبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد يشتمل كل من نعم في الجنة وقوله تعالى إن الذين أجرموا الخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل وأشياعهم جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة كانوا أي في الدنيا كما قال قتادة من الذين آمنوا يضحكون كانوا يستهزؤن بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء وفي البحر روي أن عليا كرم الله
(30/76)

تعالى وجهه وجمعا من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت إن الذين أجرموا الخ قبل أن يصل علي كرم الله تعالى وجهه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكشاف حكاية ذلك عن المنافقين وأنهم قالوا ربنا اليوم الأصلع أي سيدنا يعنون عليا كرم الله تعالى وجهه وإنما قالوه استهزاء ولعل الأول أصح وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوايضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى أفي الله شك لمراعاة الفواصل وإذا مروا أي المؤمنون بهم أيبالذين أجرموا وهم في أنديتهم يتغامزون أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بالمؤمنين وأرجاع ضمير مروا للمؤمنين وضمير بهم للمجرمين هو الأظهر الأوفق بحكاية سبب النزول واستظهر أبو حيان العكس معللا له بتناسق الضمائر وإذا انقلبوا أي المجرمون ورجعوا منمجالسهم إلى أهلهم انقلبوافكهين ملتذين باستخفافهم بالمؤمنين وكان المراد بذلك الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوه في غيبتهم عن أهلهم أو إلى أن له وقعا في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأحد وإنما فعلوه لحظ أنفسهم وقيل فيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بما رأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز وقرأ الجمهور فاكهين بالألف قيل هما بمعنى فكهين أشربن وقيل فرحين وفاكهين قيل متفكهين ناعمين وقيل مادحين وإذا رأوهم وإذا رأوا المؤمنين أينما كانوا قالوا إن هؤلاء لضالون يعنون المؤمنين مطلقا لا خصوص المرئيين منهم والتأكيد لمزيد الأعتناء بسبهم وما أرسلوا عليهم حافظين جملة حالية من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى على المؤمنين موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم واستهزاء بهم وإشعارا بأن ما جرؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى وجوز أن يكون منجملة قول المجرمين والأصل وما أرسلوا علينا حافظين إلا أنه قيل عليهم نقلا بالمعنى على نحو قال زيد ليفعلن كذا وغرضهم بذلك إنكار صد المؤمنين إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإيمان فاليوم الذين آمنوا أي المعهودون من الفقراء من الكفار أي من المعهودين وجوز التعميم من الجانبين يضحكون حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيتهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه والظرف والجار والمجرور متعلقان بيضحكون وتقديم الجار والمجرور قيل للقصر تحقيقا للمقابلة أي واليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا وقوله تعالى على الأرائك ينظرون حال منفاعل يضحكون أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال وقيل يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم هلم هلم فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك مرارا حتى أن أحدهم يقال له هلم هلم فما يأتي من أياسه ويضحك المؤمنون منهم وتعقب بأن قوله تعالى هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون يأباه فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والحق أنه لا أباء كما لا يخفى والتثويب والاثابة المجازاة ويقال ثوبه وأثابه إذا جازاه ومنه قول الشاعر سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثني عليك وتحمدي وظاهر كلامهم إطلاق ذلك على المجازاة بالخير والشر واشتهر بالمجازاة بالخير وجوز حمله عليه هنا على أن المراد التهكم كما قيل به في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وذوق أنك أنت العزيز الكريم كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل أثبنا هؤلاء على ما كانوا يفعلون كما أثبناكم على ما كنتم تعملون فيكون هذا القول زائدا
(30/77)

في سرورهم لما فيه من تعظيمهم والأستخفاف بأعدائهم والجملة الأستفهامية حينئذ معمولة لقول محذوف وقع حالا منضمير يضحكون أو من ضمير ينظرون أي يضحكون أو ينظرون مقولا لهم هل ثوب الخ ولم يتعرض لذلك الجمهور وفي البحر الأستفهام لتقرير المؤمنين والمعنى قد جوزي الكفار ما كانوا الخ وقيل هل ثوب متعلق بينظرون والجملة في موضع نصب به بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى انتهى وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي يفعلونه والكلام بتقدير مضاف أيثواب أو جزاء ماكانوا الخ وقيل هو بتقدير باء السببية أي هل ثوب الكفار بماكانوا وقرأ النحويان وحمزة وابن محيصن بإدغام اللام في التاء والله تعالى أعلم
سورة الإنشقاق
ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة بسم الله الرحمن الرحيم إذا السماء انشقت أي الغمام كما روي عن ابن عباس وذهب إليه الفراء والزجاج كما في البحر ويشهد له قوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام فالقرآن يفسر بعضه بعضا وقيل تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى وانشقت السماء فهي يومئذ واهية وبحث فيه بأنه لا ينافي أن يكون الأنشقاق بالغمام وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها تنشق من المجرة وفي الآثار أنها باب السماء وأهل الهيئة يقولون أنها نجوم صغار متقاربة جدا غير متميزة في الحس ويظهر ذلك ظهورا بينا لمن نظر إليها بالأرصاد ولا منافاة على ما قيل من أن المراد بكونها باب السماء أن مهبط الملائكة عليهم السلام ومصعدهم من جهتها وذلك بجامع كونها نجوما صغارا متقاربة غير متميزة في الحس وخبر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل معاذا إلى أهل اليمن فقال له يا معاذ إنهم سائلوك عن المجرة فقل هي لعاب حية تحت العرش ومنه قيل أنها في البحر المكفوف تحت لا يكاد يصح والقول المذكور لا ينبغي أن يحكى إلا لينبه على حاله وقرأ عبيد بن عقيل عن أبي عمرو انشقت وكذا ما بعد من نظائره بإشمام التاء كسرا في الوقف وحكى عنه أيضا الكسر أبو عبيد الله بن خالويه وذلك لغة طيء على ما قيل وعن أبي حاتم سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس بكسر هذه التاء أي تاء التأنيث اللاحقة للفعل وهي لغة ولعل ذلك لأن الفواصل قد تجري مجرى القوافي فكما إن هذه التاء تكسر في القوافي كما في قول كثير عزة من قصيدة وما أنا بالداعي لعزة بالردى
ولا شامت أن قيل عزة ذلت إلى غير ذلك من أبيات تلك القصيدة تكسر في الفواصل وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى الظنونا والرسولا في سورة الأحزاب وحمل الوصل على حالة الوقف موجود أيضا في الفواصل وأذنت لربها أي استمعت له تعالى يقال أذن إذا سمع قال الشاعر صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا وقال قعنب إن يأذنوا ربية طاروا بها فرحا
وما هم أذنوا من صالح دفنوا والأستماع هنا مجاز عن الأنقياد والطاعة أي انقادت لتأثير قدرته عز و جل حين تعلقت إرادته سبحانه
(30/78)

بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم وهذه الجملة ونظيرتها بعد قيل بمنزلة قوله تعالى أتينا طائعين في الأنباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الأنشقاق والمد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة على ما قرروه وحقت أي جعلت حقيقة بالأستماع والأنقياد لكن لا بعد أن لمتكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به وحاصل المعنى انقادت لربها وهي حقيقة وجديرة بالأنقياد لما أن القدرة الربانية لا يتعاصاها أمر من الأمور لا لأمر اختصت به من بين الممكنات وذكر بعضهم أن أصل الكلام حق الله تعالى عليها بذلك أي حكم عليها بتحتم الأنقياد على معنى أراده سبحانه منها إرادة لا نقض لها وقيل المعنى وحق لها أن تنشق لشدة الهول والجملة على ما اختاره بعض الأجلة اعتراض مقرر لما قبلها وقيل معطوفة عليه وليس بذاك وإذا الأرض مدت قال الضحاك بسطت باندكاك جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقال بعضهم زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمده أي زاده ونحوه ما قيل جرت فزاد انبساطها وعظمت سعتها وأخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه وألقت ما فيها أيرمت ما في جوفها من الموتى والكنوز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإليه ذهب الزجاج واقتصر بعضهم كابن جبير وجماعة على الموتى بناء على أن إلقاء الكنوز إذا خرج الدجال وكأن من ذهب إلى الأول لا يسلم القاء الكنوز يومئذ ولو سلم يقول يجوز أن لا يكون عاما لجميع الكنوز وإنما يكون كذلك يوم القيامة والقول بأن يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال ينبغي أن يلقى ولا يلتفت إليه وتخلت أي وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء من ذلك كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها فصيغة التفعل للتكلف والمقصود منه المبالغة كما في قولك تحلم الحليم وتكرم الكريم وقيل تخلت ممن على ظهرها من الأحياء وقيل مما على ظهرها من جبالها وبحارها وكلا القولين كما ترى وقد أخرج أبو القاسم الحبيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري وإن الأرض تحرك بي فقلت لها ما لك فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء في ذلك قوله تعالى وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها في الألقاء وما بعده وحقت الكلام فيه نظير ما تقدم وفيه إشارة إلى أنما ذكر وإن أسند إلى الأرض فهو بفعل الله تعالى وقدرته عز و جل وتكرير كلمة إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة يا أيها الإنسان إنك كادح أي جاهد ومجد جدا فيعملك من خير وشر إلى ربك كدحا أي طول حياتك إلى لقاء ربك أي إلى الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء والكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها من مدح جلده إذا خدشه قال ابن مقبل وما الدهر إلا تارتان فمنهما وقال آخر ومضت بشاشة كل عيش صالح
وبقيت أكدح للحياة وأنصب فملاقيه أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه والضمير له عز و جل أي فملاقي جزائه تعالى وقيل هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح وبولغ فيه على نحو إنما هي أعمالكم ترد إليكم
(30/79)

والظاهر أن ملاقيه معطوف على كادح على القولين وقال ابن عطية بعد ذكره الثاني فألفاه على هذا عاطفة جملة الكلام على الجملة التي قبلها والتقدير فأنت ملاقيه ولا يظهر وجه التخصيص والمراد بالإنسان الجنس كما يؤذن به التقسيم بعد وقال مقاتل المراد به الأسود بن هلال المخزومي جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث فقال أبو سلمة أي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة فقال الأسود فأين الأرض والسماء وما حال الناس وكأنه أراد أنها نزلت فيه وهي تعم الجنس ويل المراد أبي بن خلف كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والإصرار على الكفر ولعل القائل أراد ذلك أيضا وأبعد غاية الإبعاد من ذهب إلى أنه الرسول عليه الصلاة و السلام على أن المعنى إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله عز و جل وإرشاد عباده سبحانه واحتمال الضرر من الكفار فأبشر إنك تلقى الله تعالى بهذا العمل وهو غير ضائع عنده جل شأنه وجواب إذا قيل قوله تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا الخ كما في قوله تعالى فأما يأتيكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله تعالى يا أيها الإنسان الخ اعتراض وقيل هو محذوف للتهويل أي كان ما كان مما يضيق عنه نطاق البيان وقدره بعضهم نحو ما صرح به في سورتي التكوير والإنفطار وقيل هو ما دل عليه يا أيها الإنسان الخ وتقديره لاقى الإنسان كدحه وقيل هو نفسه على حذف الفاء والأصل فيا أيها الإنسان أو بتقدير يقال وقال الأخفش والمبرد وهو قوله تعالى فملاقيه بتقدير فأنت ملاقيه ليكون مع المقدر جملة وعلى هذا جملة يا أيها الإنسان الخ معترضة وقال ابن الأنباري والبلخي هو وأذنت على زيادة الواو كما قيل في قوله تعالى حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وعن الأخفش أن إذا هنا لا جواب لها لأنها ليست بشرطية بل هي في إذا السماء متجردة عنها مبتدأ وفي وإذا الأرض خبر والواو زائدة أي وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض وقبل لا جواب لها لأنها ليست بذلك بل متجردة عن الشرطية واقعة مفعولا لا ذكر محذوفا ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الضعف ولعل الأولى منها الأولان والحساب اليسير السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل وفسره عليه الصلاة و السلام بالعرض وبالنظر في الكتاب مع التجاوز فقد أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال ليس أحد يحاسب إلا هلك قلت يا رسول الله جعلني الله تعالى فداك أليس الله تعالى يقول فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا قال ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في بعض صلاته اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف عليه الصلاة و السلام قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه وينقلب إلى أهله مسرورا أي عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيل أي فريق مطلقا وإن لم يكونوا عشيرته إذ كل المؤمنين أهل للمؤمن من جهة الأشتراك في الإيمان وقيل أي إلى خاصته ومن أعده الله تعالى له في الجنة من الحور والغلمان وأخرج هذا ابن المنذر عن مجاهد وقرأ زيد بن علي ويقلب مضارع قلب مبنيا للمفعول وأما من أوتي كتابه وراء ظهره أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره قيل تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله وروي أن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها فلا تدافع بين ما هنا وما في السورة الحاقة حيث لم يذكر فيه الظهر ثم هذا إن كان في الكفرة وما قبله في المؤمنين المتقين فلا تعرض هنا للعصاة كما استظهره في البحر وقيل لا بعد في إدخال العصاة في أهل اليمين أما لأنهم يعطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن
(30/80)

عطية أو لأنهم يعطونها بها قبل لكن مع حساب فوق حساب المتقين ودون حساب الكافرين ويكون قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا من وصف الكل بوصف البعض وقيل أنهم يعطونها بالشمال وتمييز الكفرة بكون الإعطاء من وراء ظهورهم ولعل ذلك لأن مؤتي الكتب لا يتحملون مشاهدة وجوههم لكمال بشاعتها أو لغاية بغضهم إياهم أو لأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فسوف يدعوا ثبورا يطلبه ويناديه ويقول يا ثبوراه تعالى فهذا أوانك والثبور الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره ويصلي سعيرا يقاسى حرها أو يدخلها وقرأ أكثر السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج يصلي بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة من التصلية لقوله تعالى وتصلية جحيم وقرأ أبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان عن عاصم والعتكي وجماعة عن أبي عمرو يصلي بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيا للمفعول من الأصلاء لقوله تعالى ونصله جهنم إنه كان في أهله في الدنيا مسرورا فرحا بطرا مترفا لا يخطر بباله أمور الآخرة ولا يتفكر في العواقب ولم يكن حزبنا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها وقوله تعالى إنه ظن أن لن يحور تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد وقيل ظن أن لن يرجع إلى العدم أي ظن أنه لا يموت وكان غافلا عن الموت غير مستعد له وليس بشيء والحور الرجوع مطلقا ومنه قول الشاعر وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع والتقييد هنا بقرينة المقام وإن مخففة من الثقيلة سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي الظن على المشهور بلى إيجاب لما بعد لن وقوله تعالى إن ربه كان به بصيرا تحقيق وتعليل له أي بلى يحور البتة أن ربه عز و جل الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا تخفى عليه سبحانه منها خافية فلا بد من رجعه وحسابه ومجازاته فلا أقسم بالشفق هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب وأصله من رقة الشيء يقال شيء شفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رق قلبه والشفقه من الإشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
والموت أكرم نزال على الحرم وقيل البياض الذي يلي تلك الحمرة ويروى بعد سقوطها وفي تسمية ذلك شفقا خلافا للجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى وروي أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في شروح الهداية وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله وروي ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك الليل عليه وعن عكرمة أيضا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو تحققت الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق واليل وما وسق وما ضم وجمع يقال وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع ويقال طعام موسوق أي مجموع وابل مستوسقة أي مجتمعة قال الشاعر إن لنا قلائصا حقائقا
مستوسقات لم يجدن سائقا ومنه الوسق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعا أو حمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل وبأي إلى مكانه من الدواب وغيرها
(30/81)

وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل ما جمعه من الظلمة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال وما وسق وما عمل فيه ومنه قوله فيوما ترانا صالحين وتارة
تقوم بنا كالواسق المتلبب وقيل وسق بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا والقمر إذا اتسق أي اجتمع نوره وصار بدرا لتركبن طبقا عن طبق خطاب لجنس الإنسان المنادي أولا باعتبار شموله لأفراده والمراد بالركوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره
وساقني طبق منه إلى طبق وعن للمجاوزة وقال واحد هي بمعنى بعد كما في قولهما سادوك كابرا عن كابر وقوله ما زلت أقطع منهلا عن منهل
حتى أنخت بباب عبد الواحد والمجاورة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لطبقا أو حالا من فاعل تركبن والظاهر أن نصب طبقا على أنه مفعول به أي لتلاقن حالا مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازا وقيل نصب طبقا على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحده ذلك والمعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ورجحه الطيبي فقال هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في فلا أقسم على قوله تعالى بلى إن ربه كان به بصيرا وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين وقيل يمكن أن يراد بطبقا عن طبق الموت المطابق للعدم والإحياء المطابق للأحياء السابق فيكون الكلام قسما على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه فالطبق بمعنى عشرين عاما وقد عد ذلك في القاموس من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد وقيل الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنت لما ولدت أشرفت الأرض
وضاءت بنورك الأفق تنقل من صالب إلى رحم
إذا مضى عالم بدا طبق وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرنا بعد قرن وكلا القولين خلاف الظاهر وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والإخوان وابن كثير لتركبن بتاء الخطاب وفتح الباء وروي عن ابن عباس واين مسعود أنهما أيضا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وروي ذلك عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة و السلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد لتركبن أحوالا شريفة بعد
(30/82)

أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلى الله تعالى عليه وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحا بعد فتح ونصرا بعد نصر وتبشيرا بالمعراج أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر وفي رواية السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء وقرأ عمر وابن عباس أيضا ليركبن بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الألتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة و السلام فجعل الضمير له صلى الله تعالى عليه وسلم والمعنى على نحو ما تقدم وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار وقرأ عمر أيضا ليركبن بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول وقريء بلا لتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر التقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القرآت لا يخفى والفاء في قوله تعالى فما لهم لا يؤمنون جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى لتركبن الخ على بعض الأوجه الموجبة للإيمان والسجود إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمكنين أي أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر ما يجب الإيمان مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة و السلام المشار إليه بقوله سبحانه لتركبنالخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما أإليه فأي شيء يمنعهم به عليه الصلاة و السلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه فلا أقسم الخ يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الإيمان الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عز و جل ويحبط بها علمه جل جلاله وإذا قريء عليهم القرآن لا يسجدون عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روي عن قتادة أو المراد به الصلاة وفي قرن ذلك بالإيمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره فالمراد بما قبله قريء القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة وقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت فسجد فقلت له فقال سجدت خلف أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة و السلام وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال ليس في المفصل وهو من سورة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة قال الإمام روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ ذات يوم واسجد واقترب فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت هذه الآية واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين
(30/83)

الأول أن فعله عليه الصلاة و السلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى فاتبعوه الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت بل الذين كفروا يكذبون أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة يكذبون مخففا وبفتح الياء والله أعلم بما يوعدون أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاد جعل الشيء في وعاء وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وأريد بههنا الإضمار مجازا وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا يخفى وفسره بعضهم بالجمع وحكى عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأيا ما كان فعلم الله تعالىبذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه وقيل المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كثيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة وقال بعضهم يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرون في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير يكذبون وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر وقرأ أبو رجاء بما يعون من وعى يعي فبشرهم بعذاب أليم مرتب على الأخبار بعلمه تعالى بما يوعون مرادا به مجازاتهم به على تكذيبهم وقيل الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر فبشرهم الخ والتبشير في المشهورالإخبار بسار والتعبير به ههنا من باب
تحية بينهم ضرب وجيع
وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لأنهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كان الإخبار به تبشيرا وإخبارا بسار والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلى الله تعالى عليه وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة و السلام بالإنذار لفظ البشارة تطييبا لقلبه صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناء منقطع من الضمير لمنصوب في فبشرهم وجوز أن يكون متصلا على أن يراد بالمستثنى من آمنوعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أو هما بمعنى المضارع ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى لهم أجر غير ممنون لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة وكون الأختصاص إضافيا بالنسبة إلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أن إيهام الأختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى والتنوين في أجر للتعظيم ومعنى غير ممنون غير مقطوع من من إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم منمن عليه إذا اعتد بالصليعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من من بمعنى قطع أيضا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الأستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير
سورة البروج
لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين
(30/84)

ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وإن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وإن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه بسم الله الرحمن الرحيم والسماء ذات البروج أي القصور كما قال ابن عباس وغيره والمراد بها عند جمع البروج الأثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار للقصر العالي لأنه ظاهر للناظر ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج والسماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها استعارة مصرحة تتبعها مكنية وقيل شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة هي النجوم وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم والله تعالى أعلم بصحته وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال هي النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلف الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم وقيل هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف وقيل في النسبة والبروج الأثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس وزعموا أنهالعرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى منالصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثواب وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم وبرج الثور ليس إلا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الأثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه ولذا يسمى فلك البروج وقيل السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس أعني الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أوالكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين
(30/85)

من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع والأثنين الباقين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل واليوم الموعود أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين وقيل لعله الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون أو يوم طي السماء كطي السجل للكتب وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ولا يخفى أن جميع ذلك داخل فييوم القيامة وشاهد ومشهود أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال والعجائب فيكون الله عز و جل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كماقيل في علمت نفس ما أحضرت وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وروي ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرجه جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأله عن ذلك فقال هل سألت أحدا قبلي قال نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة قال لا ولكن الشاهد محمد وفي رواية جدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قرأ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا والمشهود يوم القيامة ثم قرأ ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وروي النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه والشاهد الله عز و جل والمشهود يوم القيامة وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته عليه الصلاة و السلام وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم السلام وأممهم وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الأثنين ويوم الجمعة وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم السلام وقرآن الفجر وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم المشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلا ينادي أني يوم جديد وإني على ما يعمل في شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة وقيل أمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر
(30/86)

الأمم وجوز أن يراد بهما المقربون والعليون لقوله تعالى كتاب مرقوم يشهده المقربون وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك وقيل وقيل وجميع الأقوال في ذلك على ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولا والوصف عن بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصم أوله شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا بعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج وأما شهادة اليوم فيمكن أن تون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الشاحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك وقال الشهاب الله تعالى قادر على أن يحضر اليوم ليشهد ولم يبين كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئا آخر بأن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو وإن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كما هو الأرجح عندي واختار أبو حيان من الأقوالعلى تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وإن المشهود من يشهد عليه فيه وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بأن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وإن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل وجواب القسم قيل هو قوله تعالى إنالذين فتنوا وقال المبرد هو قوله تعالى إن بطش ربك لشديد وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله حلفت لها بالله حلفة فاجر
لناموا فما إن من حديث ولا صالي وقيل على حذف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما شتهر من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام وقد لا يجوز الأقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام كما في قوله سبحانه قد أفلح من زكاها بعد قوله تعالى والشمس وضحاها الخ والبيت المذكور ولا يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد منها وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأيا ما كان فالجملة خبرية وقال بعض المحققين أن الأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء إن كفار قريش لملعونون أحقاء بأن يقال فيها قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من التعذيب لأهل الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله عز و جل في كونهم ملعونين مطرودين فالقتل هنا عبارة عن أشد اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فأريد لازمه من السخط والطرد عن رحمته جل وعلا وقال بعضهم الأظهر أن يقدر أنهم لمتفولون كما قتل أصحاب الأخدود فيكون وعدا له صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكفرة المتمردين لأعلاء دينه ويكون معجزة بقتل رؤسهم في غزوة بدر انتهى وظاهرة إبقاء القتل على حقيقته واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكى في البحر أنالجواب محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين
(30/87)

تبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في أخاقيق جرذان
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقالله ذلك الكاهن انظروا إلي غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله تعالى فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطيء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنهلا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قاللك الكاهن أين كنت فقل عند أهلي وإذا قال أهلك أين كنت فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا فأخذ الغلام حجرا فقال اللهم إن كان ما يقول الراهب حقفا فاسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فاسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس من قتلها فقالوا الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد فسمع أعمى فجاءه فقال له إنأنت رددت بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك قال نعم فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسهفانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى فقال الغلام للملك إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول بسم الله رب الغلام فأمر به فصلب ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمى ثم مات فقال الناس لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فأنانؤمنبرب هذا الغلام فقيل أجزعت أنخالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخذ أخدودا ثم ألقي فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار فجعل يلقيهم في تلك الأخدود فقال يقول الله تعالى قتل أصحاب الأخدود حتى بلغ العزيز الحميد وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأصبغه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكانت تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي يا أمه اصبري فإنك على الحق وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجي قال شهدت عليا كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة فقال علي كرم الله تعالى وجهه أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فانس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمى به فيها ومن تابعهم ترك وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي فجزعت فقال الصبي يا أمه اصبري ولا تماري فوقعت وأخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين
(30/88)

بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت المخرج منه أن تخطب الناس فتقول أيها الناس إن الله تعالى أحل نكاح الأخوات أو البنات فقال الناس جماعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاء به نبي أو نزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته وقال ويحك إن الناس قد آبوا على ذلك قالت إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا قالت فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا قالت فخذ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فأخذ لهم أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه وقيل وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد وقيل سبعين ألفا وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني عشر ذراعا ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجي السابق وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكى فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة ومنها أنهم من النبط وروي عن عكرمة ومنها أنهم من بني إسرائيل وروي عن أبي عباس وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن فقد قال عصام الدين لعل جميع ما روي واقع والقرآن شامل له تغفل وقرأ الحسن وابن مقسم قتل بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء النار بدل اشتمالمن الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك وقرأ قوم النار بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال على قراءة يسبح بالبناء للمفعول وقوله
لبيك يزيد ضارع لخصومة
ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحاق من أن الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود وأن تتعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه وإن حمل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة إن النار مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار ذات الوقود وصف لها بعناية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل بل موقدة جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليسذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم وذو النون وكذا ذو العرش وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى الوقود بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه وقوله تعالى إذ هم عليها قعود
(30/89)

ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى تشب لمقرورين يصطليانها
وباب على النار الندى والمحلق وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه والجمهور على أن المراد ذلك منغير تقدير وهمعلى ما يفعلون بالمؤمنين شهود أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم وقيل على بمعنى مع المعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لغاية قسوة قلوبهم ومن زعم أن الله تعالى نجى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود وأيا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بالمؤمنين والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل أن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهود بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضميرهم على ما يفعلون لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وما نقموا منهم أي ما أنكروا منهم وما عابوا وفي مفردات الراغب يقال نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وما نقموا بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الإسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الإسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهمإلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب وكون الكفرة يرون الإيمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز و جل جاريا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا عما سمعت فتأمل ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه وفي المنتخب إنما قال سبحانه إلا أن يؤمنوا لأن التعذيب إنما كان واقعا على اتل إيمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على مامضى فكأنه قال عز و جل إلا أن يدوموا على إيمانهم انتهى وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة ووصفه عز و جل بكونه عزيزا غالبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه وتأكيد ذلك بقوله سبحانه الذي له ملك السماوات والأرض للإشعار بمناط إيمانهم وقوله تعالى والله على كل شيء شهيد وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الأستقلال جيء فيه بالاسمال جليل دون الضمير إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا بالمؤمنين والمؤمنات المفتونين إما أصحاب الأخدود والمطرحون فيه خاصة وأما الأعم ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو ألظهر وقيل المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبواالمؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى ثم لم يتوبوا قال ابن عطية يقوى أن الآية
(30/90)

في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم فلهم عذاب جهنم أي بسبب فتنهم ذلك ولهم عذاب الحريق وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبيء عنه صيغة لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم وقال بعض الأجلة أي فلهم عذاب جهنم بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر ولهم عذاب الحريق بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما سببين في جانب الخبر على الترتيب وقيل أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاله وتعقبه أبو حيان بأن ثم لم يتوبوا يأبى عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر وعليه إنما أخر ولهم عذاب الحريق ورعاية للفواصل أو للتتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضا لا يتجاوز وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد وصف بما يدل على أنه للمبعودين جدا عن رحمته عز و جل أنه عذاب هو محض الحريق وهو الحرق البالغ وكفى به عذابا والظاهرأنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا بأس إلا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف وقال بعضهم لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل وجملة فلهم عذاب الخ وقعت خبرا لأن الجار والمجرور وعذاب مرتفع على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش واستدل بالآية على بعض أوجهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات على الإطلاق من المفتونين وغيرهم لهم بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح جنات تجري من تحتها الأنهار إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة الجملة قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ذلك إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيه من معنى للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الأبتداء خبره الفوز الكبير الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله إن بطش ربك لشديد استئناف خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إيذانا بأن الكفار قومه نصيبا موفورا منمضمونه كما ينبيء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام والبطش الأخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز و جل بالجبابرة والظلمة وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والأنتقام إنه هو يبديء ويعيد أي إنه عز و جل هو يبديء الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك أو يبديء كل ما يبدا ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة
(30/91)

أو يبديء البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة فيموضع التعليل لما سبق ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه وقيل وجهه عليه أن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك وعن ابن عباس يبديء العذاب بالكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز و جل خلقا جديدا وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور والأستعمال يبديء مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدا كما بين في محله وحكى أبو زيد أنه قريء يبدأ من بدأ ثلاثيا وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة وهو الغفور لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فاصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بها لا يعلمه إلا الله تعالى للتائبين الودود المحب كثيرا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بأنعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة وقيل هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له وأنشد قوله وأركب في الروع عريانة
ذلول الجماح لقاحا ودودا أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى ذو العرش أيصاحبه والمراد مالكه أو خالقه وهو أعظم المخلوقات وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلا قليل وجاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول وقال القفال ذو العرش ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق الكناية والتجوز وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكا وقرأ ابن عامر في رواية ذي العرش بالياء على أنه صفة لربك وحينئذ يكون قوله تعالى إنه هو الخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين الصفة والموصوف وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه لأنه ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأوقد قال ابن مالك في التسهيل يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمخص مباينته نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوف بخبر المبتدأ شاذ كما في قوله وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان المجيد العظيم في ذاته عز و جل وصفاته سبحانه فإنه تعالى شأنه واجب الوجوب تام القدرة كامل الحكمة وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان المجيد بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه فإنه العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا وليس من مجده كون الحوادث الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطلشرعا وعقلا على ما تقتضيه أصولهم وجاز على قراءة ذي العرش بالياء أن يكون صفة لذي وجوز كونه صفة لربك وليس بذاك لأن الأصل عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين فعال لما يريد بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله سبحانه وأفعاله غيره عز و جل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى وفيه رد ظاهر على المعتزلة في قولهم أنه سبحانه وتعالى يريد إيمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله تعالى هو الغفور وجوز أن يكون الودود وذو العرش والمجيد صفات للغفور ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدأ واحد يقول بذلك أو بتقدير مبتدآت
(30/92)

للمذكورات وأطلق الزمخشري القول بأن فعال خبر لمبتدأ محذوف أي هو فعال فقال صاحب الكشف إنما لم يحمله على أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى هو الغفور لأن قوله سبحانه فعال لما يزيد تحقيق للصفتين البطش بالأعداء والغفر والود للأولياء ولو حمل عليه لفاتت هذه النكتة أه وهو تدقيق لطيف وقوله تعالى هل أتاك حديث الجنود استئناف فيه تقرير لكونه تعالى فعالا لما يريد وكذا اشدة بطشه سبحانه بالظلمة العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم بالأشعار بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للعوان ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد بالجنود ههنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى عليهم السلام واجتمعوا على أذيتهم فرعون وثمود بدل من الجنود بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن يراد بفرعون هو وقومه واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه وقيل البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر وقال السمين يجوز كونه منصوبا بأعني لما لم يطابق ما قبله وجب وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذ فيعود الأشكال وأجيب بأن المفسر حينئذ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشؤنه سبحانه وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى بل الذين كفروا أي من قومك في تكذيب إضراب انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبيء عنه العدول عن يكذبون إلى في تكذيب المفيد لأحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله قيل ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب أو كأنه قيل ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والأتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآنا من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة وقوله تعالى والله من ورائهم محيط جوز أن يكون اعتراضا تذليليا وأن يكون حالا من الضمير في الجار والمجرور السابق والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط كما قال غير واحد وكان المعنى أنه عز و جل عالم بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى وذكر عصام الدين إن في ذلك تعويضا وتوبيخا للكفار بأنهم نبذوا الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم ولعل ذلك من العدول عن بهم إلى منورائهم وقوله تعالى بل هو قرآن مجيد رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به وقيل إضراب وانتقال عن الأخبار بشدة تكذيبهم وعدم إرعوائهم عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء والأول أولى وزعم بعضهم أن الإضرابالأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب ولم يكن نبي فارغا عن تكذيب والله تعالى لا يمهل أمرهم وفيه من تسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا الإضراب وقرأابن السمقيع قرآن مجيد بالإضافة قال ابن خالويه سمعت ابن الأنباري يقول معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال الشاعر
ولكن الغنى رب غفور
أي غني رب غفور وقال ابن عطية قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد
(30/93)

هو الله تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه وجوز أن يكون من أضافة الموصوف لصفته قال أبو حيان وهذا أولى لتوافق القراءتين في لوح أي كائن في لوحمحفوظ أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه وهذا اللوح المحفوظ المشهور وهو ما روي عن ابن عباس والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وهو معقود بالعرش وأصله في حجر مالك يقال له ساطريون لله عز و جل فيه في كل يوم ثلثمائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وأنه كتب في صدره لا إله إلا الله وحده لا شريك لهدينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن بالله عز و جل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة وقال مقاتل إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء فيه أخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وكيفية كتابته ونحو ذلك نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من أنه جوهر مجرد ليس في حيز وإنه كالمرآة للصور العلمنة مخالف لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلا وقرأ ابن يعمر واين السمقيع لوح بعضم اللام وأصله في اللغة الهواء والمراد به هنا ما فوق السماء السابعة وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه محفوظ بالرفع على أنه صفة لقرآن وفي لوح قيل متعلق به وقيل صفة أخرى لقرآن وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل والزيادة والنقص كما قال سبحانه إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقيل محفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم
سورة الطارق
مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرأن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الأنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بإمهال أولئك المكذبين فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
والسماء هي المعروفة على ما عليه الجمهور وقيل المطر هنا وهو أحد استعمالاتها ومنه قوله إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا ولا يخفى حاله والطارق وهو في الأصل اسم فاعل من الطرق بمعنى الضرب بوقع أشدة يسمع لها صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق لتصور أنه يطرقها بقدمه واشتهر فيه حتى صار حقيقة ثم اختص بالآتي ليلا لأنه في الأكثر يجد البواب مغلقة فيطرقها ثم اتسع في كل ما يظهر بالليل كائنا ما كان حتى الصور الخيالية البادية فيه والعرب تصفها بالطروق كما في قوله طرق الخيال ولا كليلة مدلج
سدكا بأرحلنا ولم يتعرج والمراد به ههنا عند الجمهور الكوكب البادي بالليل إما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود كما إن شاء الله تعالى وقوله تعالى وما أدراك ما الطارق تنويه بشأنه أثر تفخيمه بالأقسام وتنبيه على رفعة قدره بحيث لا ينالها إداك الخلق فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم فما الأولى مبتدأ وأدراك خبره وما الثانية
(30/94)

خبر والطارق مبتدأ على ما اختاره بعض المحققين أي أي شيء أعلمك ما الطارق وقوله سبحانه النجم الثاقب خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ عما قبل كأنه قيل ما هو فقيل هو النجم الخ والثاقب في الأصل الخارق ثم صار بمعنى المضيء لتصور أنه يثقب الظلام وقد يخص بالنجوم والشهب لذلك وتصور أنها ينفذ ضوءها في الأفلاك ونحوها وقال الفراء الثاقب المرتفع يقال ثقب الطائر أي ارتفع وعلا والمراد بالنجم الثاقب الجنس عند الحسن فإن لكل كوكب ضوأ ثاقبا لا محالة وكذا كل كوكب مرتفع ولا يضر التفاوت في ذلك وذهب غير واحد إلى أن المراد به معهود فعن ابن عباس أنه الجدي وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه الثريا وهو الذي تطلق العرب عليه اسم النجم وروي عنه أيضا أنه زحل وهو أبعد السيارات وأرفعها وما يثقبه ضوؤه من الأفلاك أكثر فيما يزعم أكثر فيما يزعم المنجمون المتقدمون وإنما قلنا أبعد السيارات لأن الجدي والثريا عندهم أبعد منه بكثير وكذا عند المحدثين وعن الفراء أنه القمر لأنه آية الليل وأشد الكواكب ضوءا فيه وهو زمان سلطانه وأنت تعلم أن إطلاق النجم عليه ولو موصوفا غير شائع وقيل هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه نجم السماء السابعة لا يسكنها فميره فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد ولا يخفى أن المعروف أن الذي يسكن السماء السابعة أعني الفلك السابع وحده هو زحل فيكون ذلك قولا بأن النجم الثاقب هو لا يعرف له نزول ولا صعود بالمعنى المتبادر وأيضا لا يعقل له نزول إلى حيث تكون النجوم أعني الثوابت لأن المعروف عندهم أنها في الفلك الثامن ويجوز عقلا أن يكون بعضها في أفلاك فوق ذلك بل نص المحدثون لما قام عندهم على تفاوتها في الأرتفاع ولم يشكوا في أن كثيرا منها من زحل بعدا عظيما وإذا اعتبرت الظواهر وقلنا بأنها في السماء الدنيا وإن تفاوتت في الأرتفاع فذلك أيضا مما يأباه أن النجوم قد تأخذ أمكنتها من السماء وليس معها زحل وبالجملة ما يعكر على هذا الخبر كثير وكونه كرم الله تعالى وجهه أراد كوكبا آخر هذا شأنه لا يخفى حاله والذي يقتضيه الأنصاف وترك التعصب أن الخبر مكذوب على المير رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وجوز على إرادة الجنس أن يراد به جنس الشهب التي يرجم بها وليس بذاك وما روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانحط نجم فامتلأ ماء ثم نور ففزع أبو طالب فقال أي شيء هذا فقال عليه الصلاة و السلام هذا نجم رمى به وهو آية من آيات الله تعالى فعجب أبو طالب فنزلت لا يقتضي ذلك على ما لا يخفى وزعم ابن عطية أن المراد بالطارق جميع ما يطرق من الأمور والمخلوقات فيعم النجم الثاقب وغيره ويكون معنى وما أدراك ما الطارق حق الطارق بأن تكون أل في ما الطارق مثلها في أنت الرجل وما أدري ما الطارق على هذا الرجل حتى ركب هذا الطريق الوعر في التفسير وفي إيراد ذلك عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كاشف عن كنه أمره وإن ذلك مما لا يبلغه أفكار الخلائق ثم تفسيره بالنجم الثاقب من تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفى على ذي نظر ثاقب ولارادة ذلك لم يقل ابتداء والنجم الثاقب مع أنه أخصر وأظهر ولله عز و جل أن يفخم شأ ما شاء من خلقه لما شاء ولا دلالة فيه ههنا على شيء مما يزعمه المنجمون في أمر النجوم زحل وغيره من التأثير في سعادة أو شقاوة أو نحوهما وجواب القسم قوله تعالى إن كل نفس لما عليها حافظ وما بينهما اعتراض جيء به لما ذكر من تأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها وقيل جوابه قوله سبحانه إنه رجعه لقادر وما في البين اعتراض وهو كما ترى وإن نافية ولما بمعنى إلا ومجيئها كذلك
(30/95)

لغة مشهورة كما نقل أبو حيان عن الأخفش في هذيل وغيرهم يقولون أقسمت عليك أو سألتك لما فعلت كذا يريدون إلا وفعلت وبهذا رد على الجوهري المنكر لذلك وقال الرضي لا تجيء إلا بعد نفي ظاهر أو مقدر ولا تكون إلا في المفرغ أي بخلاف الأوكل لتأكيد العموم لتحقيق أصله من وقوع النكرة في سياق النفي وهو مبتدأ والخبر على المشهور حافظ وعليها متعلق به وعلى ما سمعت عن الرضي محذوف أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكون عليها حافظ أي مهيمن ورقيب وهو الله عز و جل كما في قوله تعالى وكان الله على كل شيء رقيبا إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب وقيل هو من يحفظ عملها من الملائكة عليهم السلام ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين الآية وروي ذلك عن ابن سيرين وقتادة وغيرهما وخصصوا النفس بالمكلفة وقيل هو ومن وكل حفظها والذنب عنها من الملائكة كما في قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين وقيل هو العقل يرشد المرء إلى مصالحه ويكفه عن مضاره وقرا الأكثر لما بالتخفيف فعند الكوفيين إن نافية كما سبق بمعنى إلا وما زائدة وصرحوا هنا بأن كل وحافظ مبتدأ وخبر فلا تغفل وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة وكل مبتدأ وما زائدة واللام هي الداخلة للفرق بين أن النافية وإن المخففة وحافظ خبر المبتدأ وعليها متعلق به وقدر لأن ضمير الشأن وتعقب بأنه لا حاجة إليه لأنه في غير المفتوحة ضعيف لعدم العمل مع أنه مخل بإدخال اللام الفارقة لأنه إذا كان الخبر جملة فالأولى إدخال اللام على الجزء الأول كما صرح به في التسهيل وإدخالها على الجزء الثاني كما صرح به بعض الأفاضل في حواشيه عليه ولعل من قال أي أن الشأن كل نفس لعليها حافظ لم يرد تقدير الضمير وإنما أراد بيان حاصل المعنى وحكى هارون أنه قريء إن بالتشديد وكل بالنصب ولما بالتخفيف فاللام هي الداخلة في خبر إن وما زائدة وعلى جميع القراآت أمر الجوابية ظاهر لوجود ما يتلقى به القسم وتلقيه بالمشددة مشهور وبالمخففة تالله إن كدت لتردين وبالنافية ولئن زالتا أن أمسكهما وقوله تعالى فلينظر الإنسان مم خلق متفرع على ما قبله وليست الفاء لفصيحة خلافا للطيبي إذ لا يحتاج إلى حذف في استقامة الكلام أما على تقدير أن يكون الحافظ هو الله عز و جل أو الملك الذي وكله تعالى شأنه للحفظ على الوجه الذي سمعت فلأنه لما أثبت سبحانه أن عليه رقيبا منه تعالى حثه على النظر المعرف لذلك مع أوصافه كأنه قيل فليعرف المهيمن عليه ينصبه الرقيب أو بنفسه وليعلم رجوعه إليهتعالى وليفعل ما يسر به حال الرجوع وعبر عن الأول بقوله تعالى فلينظر ليبين طريقه المعرفة فهو بسط فيه إيجاز وأدمج فيه الأخيران وأما على تقدير أن يكون المراد به العقل فلأنه لما أثبت سبحانه أن له عقلا يرشد إلى المصالح ويكف عن المضار حثه على استعماله فيما ينفعه وعدم تعكطيله وإلغائه كأنه قيل فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى على استعماله فيما ينفعه وعدم تعطيله وإلغائه كأنه قيل فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى يتضح له قدرة واهبه وأنه لإإذا قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو سبحانه على إعادته أقدر وأقدر فيعمل بما يسر به حين الإعادة وقد يقرر التفريع على جميع الأوجه بنحو واحد فتأمل ومم خلق استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب بينظر وهي معلقة بالأستفهام وقوله تعالى خلق من ماء دافق استئناف وقع جوابا عن استفهام مقدر كأنه قيل مم خلق فقيل خلق من ماء الخ وظاهر كلام بعض الأجلة أنه جواب الاستفهام
(30/96)

المذكور مع تعلق الجار بينظر وفيه مسامحة وكأن المراد أنه على صورة الجواب وجعله جوابا له حقيقة على أنه مقطوع عن ينظر بشيء عند من له نظر والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة وأريد بالماء الدافق المني ودافق قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل بالمفعول وقد قرأ بذلك زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقال الخليل وسيبويه هو على النسب كلا بن وتامر أي ذي دفق وهو صادق على الفاعل والمفعول وقيل هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي و مصرحة بجعله دافقا لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا وقد فسر ابن عطية الدفق بالدفع فقال الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه دافق ومنه مدفوق وتعقبه أبو حيان بأن الدفق بمعنى الدفع غير محفوظ في اللغة بل المحفوظ أنه الصب ونقل عن الليث أن دفق بمعنى انصب بمرة فدافق بمعنى منصب فلا حاجة إلى التأويل وتعقب بأنه مما تفرد به الليث كما في القاموس وغيره وقيل من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلا من ماءين ماء الرجل وماء المرأة ولذا كان خلق عيسى عليه السلام خارقا للعادة لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم وبالأمتزاج صارا ماء واحدا ووصفه بالدفق قيل باعتبار أحد جزئيه وهو مني الرجل وقيل باعتبار كليهما ومني المرأة دافق أيضا إلى الرحم ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل قوله تعالى يخرج من بين الصلب أي منبين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره والترائب أيومنبين ترائب كل امرأة أيعظام صدرها جمع تريبة وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدر وروي عن ابن عباس وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قول امريء القيس مهفهفة بيضا غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل باعتبار ماحوله على ما في البحر وجاء في المفرد تريب كما في قول المثقب البعدي ومن ذهب يبين على تريب
كلون العاج ليس بذي غضون وحمل الآية على ما ذكر مروي عن سفيان وقتادة إلا أنهما قالا أي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة وظاهره كالآية أن أحد الطرفين للبينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه وعليه قيل هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه وقيل إن ذلك باعتبار أنالرجل والماة يصيران كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل ثم إن ما تقدم مبني إما على أنالترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر كلام غير واحد وأما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن وروي عن قتادة أيضا أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما ولم يفسر الترائب فقيل عظام الصدر وقيل ما بين الثديين وقيل ما بين المنكبين والصدر وقيل التراقي وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى ملكي عن ابن عباس أنها أطراف المرء ويداه وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه وطعن في ذلك على ما قال الإمام بعض الملاحدة خذلهم الله تعالى بأن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل من جميع أجزاء البدن فيأخذ منكل عضو طبيعة وخاصية متعديا لأن يتولد منه تلك الأعضاء وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني تتولد في ذينك الموضعين فهو ضعيف لأن معظمه إنما يتولد في الدماغ ألا ترى أنه في صورته يشبه الدماغ والمكثر منه يظهر الضعف أولا في دماغه وعينيه وإن كان المراد أن مستقره هناك
(30/97)

فهو ضعيف أيضا لأن مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني وإن كان المراد أن مخرجه هناك فهو أيضا كذلك لأن الحس يدل على خلافه وأجاب رحمه الله تعالى بأنه لا شك أن معظم الأعضاء معونة في توليد المني الدماغ وخليفته النخاع في الصلب وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التربية فلذا خصا بالذكر على أن كلامهم في أمر المني وتولده محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو المقبول والمعول عليه أه وفي الكشف أقول النخاع بين الصلب والترائب ولا يحتاج إلى تخصيص التربية بالنساء فقد يمنع الشعب النازلة على أن تلك الشعب إن كانت فهي أعصاب لا ذات تجاويف والوجه والله تعالى أعلم أن النخاع والقوي الدماغية والقلبية والكبدية كلها تتعاون في إبراز ذلك الفضل على ما هو عليه قابلا لأن يصير مبدأالشخص على مابين في موضعه وقوله سبحانه من بين الصلب والتراءب عبارة مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة فالترائب يشمل القلب والكبد وشمولها للقلب أظهر والصلب النخاع وبتوسطه الدماغ ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهوره ذلك لأنه دم نضيج وإنما احتيج إلى ما خفي وهو أمر الدماغ والقلب في تكون ذلك الماء فنبه على مكانهما وقيل ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالأحليل انتهى وقيل لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه وأمر هذه الكناية على ما حكى مكي عن ابن عباس في الترائب أظهر وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط وجعل الكلام إما على التغليب أو على أنه ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق كما قيل به ولا يخفى ما فيه والقول بأن الماة لا ماء لها تكذبه الشريعة وغيرها وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم يخرج مبنيا للمفعول وهما وأهل مكة وعيسى الصلب بضم الصاد واللام واليماني بفتحهما وروي عن اللغتين قول العجاج ريا العظام فخمة المخدم
في صلب مثل العنان المؤدم وفيه لغة رابعة وهي صالب كما في قول العباس
تنقل من صالب إلى رحم
وهي قليلة الأستعمال واستشهد بعض الأجلة بقوله تعالى خلق من ماء دافق على أن الإنسان هو الهيكل المخصوص كما ذهب إليه جمهور المتكلمين النافين للنغس الناطقة الإنيانية المجردة التي ليست داخل البدن ولا خارجه وقال أنه شاهد قوي على ذلك وتأويله بأنه على حذف المضاف أي خلق بدن الإنسان لا يسمع ما لم يقم برهان على امتناع ظاهره انتهى وأنت تعلم أن القائلين بالنفس الناطقة المجردة قد أقاموا فيما عندهم براهين على إثباتها نعم إن فيها أبحاثا للنافين وتحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة إنه على رجعه لقادر الضمير الأول للخالق تعالى شأنهوكما فخم أولا بترك الفاعل في قوله تعالى مم خلق خلق إذ لا يذهب إلى خالق شواه عز و جل فخم بالإضمار ثانيا والضمير الثاني للإنسان أي إن ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر على إعادته بعد موته لبين القدرة وهذا كما في قوله لئن كان تهدي برد أنيابها العلى
لأفقر مني أنني لفقير فإنه أراد لبين الفقر والألم يصح إيراده في مقابلة لا فقر مني والتأكيد لفزظا لما قام عليه البرهان الواضح معنى ولذا فسر قادر هنا يبين القدرة كما في الكشاف واعتبر فيه الأختصاص فقال أي على
(30/98)

إعادته خصوصا وكأن ذلك لأن الغرض المسوق له الكلام ذلك فكأن ما سواه مطرح بالنسبة إليه وحينئذ يراد ما ذكر جعل الجار من صلة لقادر أو مدلولا على موصوله به على المذهبين وفصل الجملة عما سبق لكونه جواب الأستفهام دونها وقال مجاهد وعكرمة الضمير الثاني للماء أي أنه تعالى على رد الماء في الأحليل أو في الصلب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه للإنسان أنه وجل على رده من الكبر إلى الشباب لقادر كما روي عن الضحاك وما ذكرناه أولا مروي عن ابن عباس يوم تبلى السرائر أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ومما أخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث وأصل الأبتلاء الأختيار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر وأخرج ابن المنذر عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من الجنابة وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ضمن الله تعالى خلقه أربعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله تعالى يوم تبلى السرائر ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن بنشد قول الأخوص سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
سريرة وديوم تبلى السرائر فقال ما أغفله عما في السماء والطارق وكأنه حمل البقاء فيه على التعرف أصلا فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق ظرف لمحذوف يدل عليه أي يرجعه يوم الخ وقال الزمخشري وجماعة ظرف لرجعه واعترض بأن فيه فصلا ومعموله بأجنبي وأجيب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام الدين إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية التقديم عليه وإنما أخر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى وقيل ظرف لناصر بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور المنصور وقيل معمول لا ذكر محذوفا وهو كما ترى ويتعين هو أو ما قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأي الضحاك السابقين آنفا وجوز الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم اختصاص قدرته عز و جل بيوم دون يوم كما قال غير واحد وقال ابن عطية فروا من أن يكون العامل لقادر للزوم تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال على رجعه لقادر على الإطلاق أو وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا يدفع الإيهام فما له أي الإنسان منقوة في نفسه يمتنع بها ولا ناصر ينتصر به والسماء وهي المظلة في قول الجمهور ذات الرجع أيالمطر في قولهم أيضا كما في قول الخنساء يوم الوداع ترى دموعا جارية
كالرجع في المدجنة السارية وأصله مصدر رجع المعتدي واللازم أيضا في قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به المطر كما سموه بالأوب مصدر آب ومنه قوله رياء شماء لا يأوى لقلتها
إلا السحاب ولا الأوب والسبل
(30/99)

ليرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه النحل لأن الله تعالى يرجعه حينا فحينا وقال الحسن لأنه يرجع بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل ابن عباس ومجاهد تفسير بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد السماء هي المعروفة والرجع رجحوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقيل رجوعها نفسها فإنها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجها حضيضا وحضيضها أوجا وقد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وإنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم وقيل الرجع الملائكة عليهم السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد والأرض ذات الصدع هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سمى به النبات مجازا أو هو مصدر من المبني للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد وقيل تشققها بالعيون وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند الأقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في في أنفسهما من شواهده وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قول مجاهد الصدع ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرت وغيره وما روي عنه أيضا الصدع الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم للنشور إنه أي القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده وهو أولى من جعل الضمير راجعا لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على حيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولا أوليا وقوله تعالى لقول فصل أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي مقطوع به والأول أحسن وما هو بالهزل أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن النباري عن الحرث الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إنها فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو السراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تلته الجن لما سمعته عن أن قالوا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن هدى به هدى إلى صراط مستقيم وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه إنهم أي كفار مكة يكيدون يعلمون المكايد في إبطال أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاما وهذا قيل أملأ فائدة كيدا أي عظيما حسبما تفي قدرتهم والجملة تحتمل أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل غذا كان حال القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو أقابلهم بكيدي في أعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون والفصل لهذا وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها غير مقسم عليها فمهل الكافرين فاتشتغل بالأنتقام منهم ولا تدع عليهم
(30/100)

بالهلاك أو تأن وانتظر الأنتقام منهم ولا تستعجل والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن الأخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم إهمالهم مما يوجب إهمالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعا ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها وقيل للأشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى أمهلهم بدل من مهل على ما صرح به في الإرشاد وقوله سبحانه رويدا إما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالا رويدا أي قريبا كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلا كما روي عن قتادة وأخرج ابن المنذر عن السدي أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من مات فقد قامت قيامته والظاهر ما قال السدي وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لآ يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد
كأنها ثمل تمشي على ورد
أي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغيرا أرواد مصدر رواد يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الأستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو ريدا زيد أي أمهله وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين غير مستعجلين ولم يذكر أحد احتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر كلها بمعنى فكأنه قيل أمهل الكافرين أمهلهم أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظا ومعنى نحو ذلك ففي الحديث إيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكحها باطل باطل باطل ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدا وجوز رحمه الله كونه حالا أي أمهلهم غير مستعجل والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى لا تعثوا في الأرض مفسدين فلا تغفل وهو أيضا بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلى الله تعالى عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة و السلام وإنما دلت الزيادة من حيث الأشعار بالتغاير كأن كلا كلام مستقل بالأمر بالتألي فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس مهلهم بفتح الميم وشد الهاء وموافقة اللفظ الأمر الأول
سورة الأعلى
وتسمى سورة سبح والجمهور على أنها مكية وحكى ابن الفرس عن بعضهم أنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها ورده الجلال السيوطي بما أخرج البخاري وابن سعد وابي أبي شيبة عن البراء ابن عازب قال أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مصعب بن عمير وابن مكتوم فجعلا يقرئانا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عشرين ثم جاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به عليه الصلاة و السلام حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد جاء فما جاء عليه الصلاة و السلام حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها ثم إن ذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها غير مسلم ولو سلم فلا دلالة فيه على ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وهي تسع عشرة آية بلا خلاف ووجه مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان وأشير إلى خلق النبات بقوله تعالى والأرض ذات الصدع وذكرا ههنا في قوله تعالى خلق فسيرى وقوله سبحانه أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وقصة النبات هنا أوضح وأبسط كما أن قصة خلق الإنسان
(30/101)

هناك كذلك نعم إن ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحبها أخرج الإمام أحمد والبزار وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحب هذه السورة سبح اسم ربك الأعلى وجاء في حديث أخرجه أبو عبيدة عن أبي تميم أنه عليه الصلاة و السلام سماها أفضل المسبحات وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين وفي حديث أخرجه المذكورون وغيرهم إلا الترمذي عن أبي بن كعب نحو ذلك بيد أنه ليس فيه المعوذتان وأخرج ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الحرث قال آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المغرب فقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون بسم الله الرحمن الرحيم
سبح اسم ربك الأعلى أي نزه أسماءه عز و جل عما لا يليق فلا تؤول مما ورد منها من غير قتض ولا تبقه على ظاهره إذا كان ما وضع له مما لا يصح له تعالى ولا تطلقه على غيره سبحانه أصلا إذا كان مختصا كالاسم الجليل أو على وجه يشعر بأنه تعالى والغير فيه سواء إذ لم يكن مختصا فلا تقل لمن أعطاك شيئا مثلا هذا رازقي على وجه يشعر بذلك وصنه على الأبتذال والتلفظ به في محل لا يليق به كالخلاء وحالة التغوط وذكره لأعلى وجه الخشوع والتعظيم وربما يعد مما لا يليق ذكره عند من يكره سماعه من غير ضرورة إليه وعن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا لم يجد ما يعطي السائل يفول ما عندي ما أعطيك أو ائتني في وقت آخر أو نحو ذلك ولا يقول نحو ما يقول الناس يرزقك الله تعالى أو يبعث الله تعالى لك أو يعطيك الله تعالى أو نحوه فسئل عن ذلك فقال أن السائل أثقل شيء على سمعه وأبغضه إليه قول المسئول له ما يفيده رده وحرمانه فأنا أجل اسم الله سبحانه من أن أذكره لمن يكره سماعه ولو في ضمن جملة وهذا منه رضي الله تعالى عنه غاية في الورع وما ذكر من التفسير مبني على الظاهر من أن لفظ اسم غير مقحم وذهب كثير إلى أنه مقحم وهو قد يقحم لضرب من التعظيم على سبيل الكناية ومنه قول لبيد
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
فالمعنى نزه ربك عما لا يليق به من الأوصاف واستدل لهذا بما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم ومن المعلوم أن المجهول فيهما سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى وبما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والطبراني في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال سبحان ربي الأعلى وروي عبد بن حميد وجماعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قرأ ذلك فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن قال لا إنما أمرنا بشيء ففعلته وفي الكشاف تسبيح اسمه تعالى تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه سبحانه كالجبر والتشبيه مثلا وأن يصان عن الأبتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم
(30/102)

فجعل المعنيين على ما قيل راجعين إلى الاسم وإن كان الأول بالحقيقة راجعا إليه عز و جل لكن كما يصح أن يقال نزه الذات عما لا يصح له من الأوصاف أن يقال أيضا نزه أسماءه تعالى الدالة على الكمال عما لا يصح فيه من خلافه وليس المعنى الأول مبنيا على أن لفظ اسم مقحم ولا على أن المراد به المسمى إطلاقا لاسم الدال على المدلول نعم قال به بعضهم هنا وهو أن كان الأخبار السابقة كما في دعوى الإقحام فلا بأس وإن كان لظن أن التسبيح لا يكون للألفاظ الموضوعة له تعالى فليس بشيء لفساد هذا الظن بظهور أن التسبيح يكون لها كما سمعت وقد قال الإمام أنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته جلى وعلا عن النقائض يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لذلك عن الرفث وسوء الأدب ومن هذا يعلم ما في التعبير عنه تعالى شأنه بنحو ليلى ونعم كما يدعى ذلك في قول ابن الفارض قدس سره أبرق بدا من جانب الغور لامع
أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع وقوله إذا أنعمت نعم على بنظرة
فلا أسعدت سعدي ولا أجملت جمل إلى غير ذلك من أبياته وقد عاب ذلك بعض الأجلة وعده من سوء الأدب ومخالفا لقوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الآية وأجاب بأن بعضهم ليس من الوضع في شيء وفهم الحضرة الإلهية من تلك الألفاظ إنما هو بطريق الإشارة كما قالوا في فهم النفس الأمارة من البقرة مثلا في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة والمنكر لا يقنع بهذا والأظهر أن يقال إن الكلام المورد فيه ذلك من قبيل الأستعارة التمثيلية ولا نظر فيها إلى تشبيه المفردات بالمفردات فليس فيه التعبير عنه عز و جل بليلى ونحوها واستعمال الأستعارة التمثيلية نى شأنه تعالى مما لا بأس به حتى أنهم قالوه في البسملة كما لا يخفى على من تتبع رسائلهم فيها هذا ولعل عندهم خيرا منه وقال الاسم بمعنى التسمية والمعنى نزه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له سبحانه معظم ولذكره جل شأنه محترم وأنت تعلم أن هذا يندرج في تسبيح الاسم كما تقدم وعن ابن عباس أن المعنى صل باسم ربك الأعلى كما تقول ابدأ باسم الله تعالى وحذف حرف الجر حكاه في البحر ولا أظن صحته وقال عصام الدين لا يبعد أن يراد الاسم الأثر أي أثر سبح آثار ربك الأعلى عن النقصان فإن أثره تعالى دال عليه سبحانه كالاسم فيكون منعا عن عيب المخلوقات أي من حيث أنها مخلوقة له تعالى على وجه ينافي قوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يخفى بعده وإن كان فيما بعد من الصفات ما يستأنس به له وأنا أقول إن كان سبح بمعنى نزه فكلا الأمرين من كون اسم مقحما وكونه غير مقحم وتعلق التسبيح به على الوجه الذي سمعت محتمل غير بعيد وإذا كان معناه قل سبحان كما هو المعروف فيما بينهم فكونه مقحما متعين إذ لم يسمع سلفا وخلفا من يقول سبحان اسم ربي الأعلى أو سبحان اسم الله والأخبار ظاهرة في ذلك وحمل ما فيها على اختيار المستلزم لغيره كما ترى ويؤيد هذا قراءة أبي بن كعب كما في خبر سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن جبير سبحان ربي الأعلى وأما ما قيل من أن الاسم عين المسمى واستدل عليه بهذه الآية ونحوها فهو مما لا يعول عليه أصلا وقد تقدم الكلام أول الكتاب فارجع إليه إن أردته والأعلى صفة للرب وأريد بالعلو بالقهر والأقتدار لا بالمكان لاستحالته عليه سبحانه والسلف وإن لم يؤولوه بذلك لكنهم أيضا يقولون باستحالة العلو المكاني عليه عز و جل جعله صفة لاسم وعلوه ترفعه عن أن يشاركه اسم في حقيقة معناه واستشكل بأن قوله تعالى الذي خلق الخ إن كان صفة للرب كما هو الظاهر لزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره وهو لا يجوز فلا يقال رأيت غلام هند العاقل الحسنة وإن كان صفة لاسم أيضا اختل المعنى إذ الاسم لا يتصف بالخلق وما بعده
(30/103)

وأجيب باختيار الثاني ولا اختلال إما لأن الأسم بمعنى المسمى أو لأنه لما كان مقحما كان اسم ربك بمنزلة ربك فصح وصفه بما يوصف به الرب عز و جل وفيه نظر والجواب المقبول إن ألذ على ذلك التقدير إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح ومفعول خلق محذوف ولذا قيل بالعموم أي الذي خلق كل شيء فسوى أي فجعله متساويا وهو أصل معناه والمراد فجعل خلقه كما تقتضيه حكمته سبحانه في ذاته وصفاته وفي معناه ما قيل أي فجعل الأشياء سواء في باب الأحكام والإتقان لا أنه سبحانه أتقن بعضا دون بعض ورد بما دلت عليه الآية من العموم على المعتزلة في زعمهم أن العبد خالق لأفعاله والزمخشري مع أن مذهبه قال هنا بالعموم ولعله لم يرد العموم الحقيقي أو أراده لكن على المعنى خلق كل شيء إما بالذات أو بالواسطة وجعل ذلك في أفعال العباد بأقداره سبحانه وتمكينهم على خلقها باختيارهم وقدرهم الموهبة لهم وعن الكلبي خلق كل ذي روح فسوى بين يديه وعينيه ورجليه وعن الزجاج خلق الإنسان فعدل قامته ولم يجعله منكوسا كالبهائم وفي كل تخصيص لا يقتضيه ظاهر الحذف والذي قدر أي جعل الأشياء على مقادير مخصوصة في أجناسها وأنواعها وأفرادها وصفاتها وأفعالها وآجالها فهدى فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما تحار فيه العقول وتضيق عنه دفاتر النقول وأما فنون هداياته سبحانه وتعالى للأنسان على الخصوص ففوق ذلك بمراحل وأبعد منه ثم أبعد وأبعد بألوف من المنازل وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ولا يكاد يعلمها إلا اللطيف الخبير أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر وقيل أي والذي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات وأجرى لهم أسباب معاشهم من الأرزاق والأقوات ثم هداهم إلى دينه ومعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات وقيل قدر أقواتهم وهداهم لطلبها وعن مقاتل والكلبي قدرهم ذكرانا وإناثا وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى وعن مجاهد قدر الإنسان والبهائم وهدى الإنسان للخير والشر والبهائم للمراتع وعن السدي قدر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهداه للخروج منه للتمام وقيل قدر المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لاستخراجها والأولى ما ذكر أولا ولعل ما في سائر الأقوال من باب التمثيل لا التخصيص وزعم الفراء في الآية اكتفاء والأصل فهدى وأضل وليس بشيء وقرأالكسائي قدر بالتخفيف من القدرة أو التقدير والذي أخرج المرعى أي أنبت ما ترعاه الدواب غضا رطبا يرف فجعله غثاء هو ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات وأصله على ما في المجمع الأخلاط من أجناس شتى والعرب تسمي القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا وغثاء ويقال غثاء بالتشديد وجاء جمعه على أغثاء وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال والمراد به هنا اليابس من النبات أي فجعله بعد ذلك يابسا أحوى من الحوة وهي كما قيل السواد وقال الأعلم لون يضرب إلى السواد وفي الصحاح الحوة السمرة فالمراد بأحوى أسود أو أسمر والنبات إذا يبس أسود أو أسمر فهو صفة مؤكدة للغثاء وتفسر الحوة بشدة الخضرة وعليه قول ذي الرمة لمياه في شفتيها حوة لعس
وفي اللثات وفي أنيابها شنب ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد لأن شدة الخضرة ترى في باديء النظر كالسواد وجوز كونه حالا من المرعى أي أخرج المرعى حال كونه طريا غضا شديد الخضرة فجعله غثاء والفصل بالمعطوف بين الحال وصاحبها ليس فصلا بأجنبي لا سيما وهو حال يعاقب الأول من غير تراخ وسر التقديم المبالغة في استعقاب حالة الجفاف حالة الرفيف
(30/104)

والغضارة كأنه قيل إن يتم رفيقه وغضارته يصير غثاء ومع هذا هو خلاف الظاهر وهذه الأوصاف على ما قيل يتضمن كل منها التندريج ففي الوصف بها تحقيق لمعنى التربية وهي تبليغ الشيء كماله شيئا فشيئا وقوله تعالى سنقرئك فلا تنسى بيان لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أثر بيان هدايته عز و جل العامة لكافة مخلوقاته سبحانه وهي هدايته عليه الصلاة و السلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه صلى الله تعالى عليه وسلم لهداية الناس أجمعين والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد اقراء ما أوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ وما سيوحي إليه عليه الصلاة و السلام بعد فهو وعد كريم باتمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء وإسناد الإقراء إليه تعالى مجازي أي سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام فإنه عليه السلام الواسطة في الوحي على سائر كيفياته فلا تنسى أصلا من قوة الحفظ والأتقان مع أنك أمي لم تكن تدري ما الكتاب وما القراءة ليكون ذلك لك آية مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البينات من حيث الإعجاز ومن حيث الإخبار بالمغيبات وجوز أن يكون المعنى سنجعلك قارئا بإلهام القراءة أي في الكتاب من دون تعليم أحدكما هو العادة فقد روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام كان يقرأ الكتابة ولا يكتب ويكون المراد بقوله تعالى فلا تنسى نفي النسيان مطلقا عنه عليه الصلاة و السلام ومتنانا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه أوتي قوة الحفظ وفيه أنه مع كونه خلاف المأثور عن السلف في الآية تأباه فاء التفريع وجوز أيضا أن يكون المراد نفي نسيان المضمون أي سنقرئك القرآن فلا تغفل عنه فتخالفه في أعمالك ففيه وعد بتوفيقه عليه الصلاة و السلام لالتزام ما فيه من الأحكام وهو كما ترى وقيل فلا تنسى نهي والألف لمراعاة الفاصلة كما في قوله تعالى وأضلونا السبيلا وفيه أن النسيان ليس بالأختيار فلا ينهى عنه إلا أن يرلااد مجازا ترك أسبابه الأختيارية أو ترك العمل بما تضمنه المقرأ وفيه ارتكاب تكلف من غير داع وأيضا رسمه بالياء يقتضي أنها من البنية لا للإطلاق وكون رسم المصحف مخالفا تكلف أيضا نعم قيل رسمت ألف الإطلاق ياء لموافقة غيرها من الفواصل وموافقة أصلها مع أن الإمام المرزوقي صرح بأنه عند الإطلاق ترد المحذوفة وقيل هو نهي لكن لم تحذف الألف فيه إذ قد لا يحذف الجازم حرف العلة وحسن ذلك هنا مراعاة الفاصلة وفيه أيضا ما فيه والهون للطالب معنى النهي أن يقول هو خبر أريد به النهي على أحد التأويلين السابقين آنفا إلا ما شاء الله استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى أصلا مما سنقرئكه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه قيل أي أبدا قال الحسن وقتادة وغيرهما وهذا مما قضى الله تعالى نسخه وأن يرتفع حكمه وتلاوته والظاهر أن النسيان على حقيقته وفي الكشاف أي إلا ما شاء الله فذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته وجعل النسيان عليه بمعنى رفع الحكم والتلاوة وكناية عنه لأن ما رفع حكمه وتلاوته يترك فينسى فكأنه قيل بناء على إرادة المعنيين في الكنايات سنقرئك القرآن فلا تنسى شيئا منه ولا يرفع حكمه وتلاوته إلا ما شاءالله فتنساه ويرفع حكمه وتلاوته أو نحو هذا وأنا لا أرى ضرورة إلى اعتبار ذلك والباء في برفع الخ للسببية والمراد إما بيان السبب العادي البعيد للذهاب الله تعالى به عن الحفظ فإن رفع الحكم والتلاوة يؤدي عادة في الغالب إلى ترك التلاوة لعدم التعبد بها وإلى عدم إخطاره في الباء لعدم بقاء حكمه وهو يؤدي عادة في الغالب أيضا إلى النسيان أو بيان السبب الدافع لستبعاد الذهاب به عن حفظه عليه الصلاة والصلام وهو كالسبب المجوز لذلك وأيا ما كان فلا حاجة إلى جعل معنى فلا تنسى فلا تتركط تلاوة شيء منه والعمل به فتأمل ثم إنه لا يلزم من كون ما شاء الله تعالى نسيانه مما قضى سبحانه أن يرتفع
(30/105)

حكمه وتلاوته أن يكون كل ما ارتفع وتلاوته قد شاء الله تعالى نسيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له من ذلك ما يحفظه العلماء إلى اليوم فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات الحديث وكونه صلى الله تعالى عليه وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عند بعض من سمعه منه عليه الصلاة و السلام فنقل حتى وصل إلينا بعيد وإن أمكن عقلا وقيل كان صلى الله تعالى عليه وسلم يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل عليه السلام فقيل لا تعجل فإن جبريل عليه السلام مأمور أن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه ثم لا تنساه إلا ما شاء الله تعالى ثم تذكره بعد النسيان وأنت تعلم أن الذكر بعد النسيان وإن كان واجبا إلا أنالعلم به لا يستفاد من هذا المقام وقيل أن الأستثناء بمعنى القلة وهذا جار في العرف كأنه قيل إلا ما لا يعلم لأن المشيئة مجهولة وهو لا محالة أقل من الباقي بعد الأستثناء فكأنه قيل فلا تنسى شيئا إى شيئا قليلا وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة وكانت صلاة الفجر فحسب أبى أنها نسخت فسأله عليه الصلاة و السلام فقال نسيتها ثم أنه عليه الصلاة و السلام لا يقر على نسيانه القليل أيضابل يذكره الله تعالى أو ييسر من يذكره ففي البحر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين سمع قراءة عباد بن بشير لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا وقيل الأستثناء بمعنى القلة وأريد بها النفي مجازا كما في قولهم قل من يقول كذا قيل والكلام عليه من باب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفيهم
البيت والمعنى فلا تنسى إلا نسيانا معدوما وفي الحواشي العصامية على أنوار التنزيل أن الأستثناء على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه وقد يقال الأستثناء من أعم الأوقات فلا تنسى في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى نسيانك لكنه سبحانه لا يشاء وهذا كما قيل في قوله تعالى في أهل الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك وقد قدمنا ذلك وإلى هذا ذهب الفراء فقال أنه تعالى ماشاء أن ينسى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا إلا أن المقصود من الأستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره عليه الصلاة و السلام ناسيا لذلك لقدر عليه كما قال سبحانه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال له صلى الله تعالى عليه وسلم لئن أشركت ليحبطن عملك مع أنه عليه الصلاة و السلام لم يشرك البتة وبالجملة ففائدة هذا الأستثناء أن يعرفه الله تعالى قدرته حتى يعلم ص - أن عدم النسيان من فضله تعالى وإحسانه لا من قوته أي حتى يتقوى ذلك جدا أو ليعرف غيره ذلك وكأن نفي أن يشاء الله تعالى نسيانه عليه الصلاة و السلام معلوم من خارج ومنه آية لا تحرك به لسانك لتعجل به الآية وقد أشار أبو حيان إلى ما قاله الفراء وإلى الوجه الذي قبله وأباهما غاية الإباء لعدم الوقوف على حقيقتهما وقال لا يبتغي أن يكون ذلك في كلام الله تعالى بل ولا في كلام فصيح وهو مجازفة منه عفا الله تعالى عنه ثم أن المراد من نفي نسيان شيء من القرآن نفي النسيان التام المستمر مما لا يقر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كالذي تضمنه الخبر السابق ليس كذلك وقد ذكروا أنه عليه الصلاة و السلام لا يقر على النسيان فيما كان من أصول الشرائع والواجبات وقد يقر على ما ليس منها أو منها وهو من الآدابل والسنن ونقل هذا عن الإمام الرازي عليه الرحمة فليحفظ والألتفات إلى الأسم الجليل على سائر الأوجه لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات وربط الآية بما قبلها على الوجه الذي ذكرناه هو الذي اختاره في الإرشاد وقال أبو حيان أنه سبحانه لما أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالتسبيح وكان لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يتفكر في نفسه مخافة أن ينسى أزال سبحانه عنه ذلك بأنه عز و جل يقرئه وأنه لا ينسى إلا
(30/106)

ما شاء أن ينسيه لمصلحة وفيه نظر لا يخفى ولو قيل أن سنقرئك استئناف واقع موقع التعليل للتسبيح أو للأمر به فيفيد جلالة الإقراء وأنه مما ينبغي أن يقابل بتنزيه الله تعالى وإجلاله كان أهون مما ذكر ونحوه كونه في موقع التعليل على معنى هيء نفسك للأفاضة عليك بتسبيح الله تعالى لأنا سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ويتضمن ذلك الإشارة إلى فضل التسبيح وقد وردت أخبار كثيرة في ذلك وذكر الثعلبي بعضا منها ونقله ابن الشيخ في حواشيه على تفسير البيضاوي والله تعالى أعلم بصحة إنه يعلم الجهر وما يخفى تعليل لما قبله والجهر هنا ما ظهر قولا أو فعلا أو غيرهما وليس خاصا بالأقوال بقرينة المقابلة أي أنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحي إليك بأسره فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية وقيل توكيد لجميع ما تقدمه وتوكيد لما بعده وقيل توكيد لقوله تعالى سنقرئك الخ على أن الجهر ما ظهر من الأقوال أي يعلم سبحانه جهرك بالقراءة مع جبريل عليه السلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه الصلاح من إبقاء وإنساء أو فلا تخف فإن يكفيك ما تخاف وقيل إنه متعلق بقوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى وهذا ليس بشيء كما ترى ونيسرك لليسرى عطف على سنقرئك كما ينبيء عنه الألتفات إلى الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما سمعت وتعليق التيسير به صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى ويسر لي أمري للإيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة و السلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة و السلام جبل عليها أي نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين علما وتعليقا واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير تلقي طريقي الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الآلهية مما يتعلق بتكميل نفسه الكريمة صلى الله تعالى عليه وسلم وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء فيما بعد كذا في الإرشاد وقيل المراد باليسرى الطريقة التي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي وقيل هي الشريعة الحنيفية السهلة وقيل الأمور الحسنة في أمر الدنيا والآخرة من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة وضم إليها بعض أمر الدين وهو مع هذا الضم تعميم حسن وظاهر عليه أيضا أمر الفاء في قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى أي فذكر الناس حسبما يسرناك بما يوحى إليك واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله وقيل أي فذكر بعد ما استتب أي استقام وتهيأ لك الأمر فإن أراد فدم على التذكير بعدما استقام لك الأمر من إقرائك الوحي وتعليمك القرآن بحيث لا تنسى منه إلا ما اقتضت المصلحة نسيانه وتيسيرك للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين فذاك وإلا فليس بشيء وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان قد ذكر وبالغ فيه فلم يدع في القوس منزعا وسلك فيه كل طريق فلم يترك مضيفا ولا مهيعا حرصا على افيمان وتوحيده الملك الديان وما كان يزيد ذلك بعض الناس إلا كفرا وعنادا وفسادا فأمر صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا عليه كاد الحرص على إيمانهم يوجه سهام التلف إليه كما قال تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا بأن يخص التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلا أو بعضا ممن يرجى منه التذكير ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إلا عتوا ونفورا وفسادا وغرورامن المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وقوله سبحانه فأعرض عمن تولى عن ذكرنا وعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بمن طبع على قلبه بإعلام الله تعالى إياه عليه الصلاة و السلام به فهو صلى الله تعالى عليه وسلم بعد التبليغ وإلزام الحجة
(30/107)

لا يجب عليه تكرير التذكير على من علم أنه مطبوع على قلبه فالشرط على هذا على حقيقته وقيل أنه ليس كذلك وإنما هو استبعاد النفع بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين نعيا عليهم بالتصميم كأنه قيل افعل ما أمرت به لتؤجر وإن لم ينتفعوا به وفيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم ورجح الأول بأن فيه إبقاء الشرط على حقيقته مع كونه أنسب بقوله تعالى سيذكر من يخشى أي سيذكر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في الجملة فيزداد ذلك بالتذكير فيتفكر في أمر ما تذكره به فيقف على حقيقته فيؤمن به وقيل إن إن بمعنى إذ كما في قوله تعالى وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين أي إذ كنتم لأنه سبحانه لم يخبرهم بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في زيادة أهل القبور وأنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون وأثبت هذا المعنى لها الكوفيون احتجاجا بما ذكر ونظائره وأجاب النافون عن ذلك بما في المغنى وغيره وقيل هي بمعنى قد وقد قال بهذا المعنى قطرب وقال عصام الدين المردا أن التذكير ينبغي أن يكون بما يكون مهما لمن له التذكير فينبغي تذكير الكافرين بالإيمان إلا بالفروع كالصلاة والصوم والحج إذ لا تنفعه بدون الإيمان وتذكير المؤمن التارك للصلاة بها دون الإيمان مثلا وهكذا فكأنه قيل ذكر كل واحد بما ينفعه ويليق به وقال الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي الكلام على الأكتفاء والأصل فذكر أن نفعت الذكر وإن لم تنفع كقوله تعالى سرابيل تقيكم الحر والظاهر أن الذين لا يقولون بمفهوم المخافة سواء كان مفهوم الشرط أو غيره لا يشكل عليهم أمر هذه الآية كما لا يخفى ويتجنبها أي ويتجنب الذكرى ويتحاماها الأشقى وهو الكافر المصر على إنكار المعاد ونحوه الجازم بنفي ذلك مما يقتضي الخشية بوجه وهو أشقى أنواع الكفرة وقيل المراد الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وقد روي أن الآية نزلت فيهما فإنه أشقى من غير المتوغل وقيل المراد به الكافر مطلقا فإنه أشقى من الفاسق وقيل المفضل عليه كفرة سائر الأمم فإنه حيث كان المؤمن من هذه الأمة أسعد من مؤمنيهم كان الكافر منها أشقى من كافريهم والأوجه عندي في المراد بالأشقى ما تقدم الذي يصلى النار الكبرى أي الطبقة السفلى من أطباق النار كما قال الفراء ولا بعد في تفاضل نار الآخرة وكون بعض منها أكبر من بعض وأشد حرارة وقال الحسن الكبرى نار الآخرة والصغرى نار الدنيا ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا ناركم هذه جزء منسبعين جزءا من نار جهنم وفي رواية للإمام أحمد عنه مرفوعا أيضا إن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم فلعل السبعين وارد مورد التكثير وهو كثير ثم لا يموت فيها فيستريح ولا يحيى أي حياة تنفعه وقيل إن روح أحجدهم تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسد فيحيا وهو غير غني عن التقييد بنحو حياة كاملة على أنه بعد لا يخلو عن بحث وثم للتراخي في الرتبة فإنهذه الحالة أفظع وأعظم من نفس المصلي وقال عصام الدين يحتمل أن يكون هذا الكلام كناية عن عدم النجاة لأن النجاة عن العذاب إنما يكون بالعمل في دار يموت فيها العامل ويحيا والنظم أقرب إلى هذا المعنى كيف واللائق بالمعنى السابق ثم لا يكون ميتا فيها ولا حيافتأمل انتهى وفي كون اللائق بالمعنى السابق ما ذكره دون ما في النظم الجليل منع ظاهر والظاهر أنه لائق به مع تضمنه رعاية الفواصل وكذا في توجيه كون ما ذكر كناية عن عدم النجاة خفاء وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال إن مثل ذلك الكلام يقال لمن وقع في شدة واستمرفيها فلا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خلودهم في العذاب وأمر التراخي الرتبي عليه ظاهر أيضا لظهور أن الخلود في النار الكبرى أفظع من دخولها وصليها واعلم أن عدم الموت في النار على ما صرح به غير واحد مخصوص بالكفرة وأما عصاة المؤمنين الذين يدخلونها
(30/108)

فيموتون فيها واستدل لذلك بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحما اذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في حميل السيل قال الحافظ ابن رجب أنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في قوله عليه الصلاة و السلام فأماتهم الله تعالى إماتة وأظهر منه ما أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا أن أدنى أهل الجنة حظا أو نصيبا قوم يخرجهم الله تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا كما أخرجتنا من النار وأرجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار فينصرف وجوههم عن النار وهذه الإماتة على ما اختاره غير واحد بعد أن يذوقوا ما يستحقونه من عذابها بحسب ذنوبهم كما يشعر به حديث مسلم وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لا يجابه تأخير دخولهم الجنة تلك المدة كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر فتكون ذنوبهم قد اقتضت أن يعذبوا بالنار مده ثم يحبسوا فيها من غير عذاب مدة فهم كمن أذنب في الدنيا فضرب وحبس بعد الضرب جزاء لذنبه ولم يبقوا أحياء فيها من غير عذاب كخزنتها إما ليكون أبعد عن أن يهولهم رؤيتها أو لتكون الإماتة وإخراج الروح من تتمة العقوبة أيضا وقال القرطبي يجوز أن تكون إماتتهم عند إدخالهم فيها ويكون إدخالهم وصرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالحبس في السجن بلا غل ولا قيد مثلا ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم نحو تألم الكافر بعد موته وقيل قيام الساعة ويكون ذلك أخف من تألمهم لو بقوا أحياء كما أن تألم الكافر بعد موته في قبره أخف من تألمهإذا أدخل النار بعد البعث وهو كما ترى وفي مطامح الأفهام يجوز أن يراد بالإماتة المذكورة وفي الحديث الإنامة وقد سمى الله تعالى النوم وفاة لأن فيه نوعا من عدم الحس وفي الحديث المرفوع إذا أدخل الله تعالى الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد سبحانه أن يخرجوا أمسهم العذاب تلك الساعة انتهى والمعول عليه ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم قد أفلح أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه من تزكى أي تطهر من الشرك بتذكره واتعاظه بالذكرى وحمله على ذلك مزوي عن ابن عباس وغيره وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله واعتبر بعضهم أمرين فقال أي تطهر من الكفر والمعصية وعليه يجوز أن يكون ما تقدم منباب الأقتصار على الأهم وقيل تزكى أي تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النماء وقيل تظهر للصلاة وقيل آتى الزكاة وروي هذا عن أبي الأحوص وقتادة وجماعة وذكر اسم ربه بلسانه وقلبه لا باسانه مع غفلة القلب إذ مثل ذلك لا ثواب فيه فلا ينبغي أن يدخل فيما يترتب عليه الفلاح والذكر القلبي باستحضار اسمه تعالى في القلب وإن كان ممدوحابلا شبهة إلا أن إرادته بخصوصه مما ذكر خلاف الظاهر وحكاه في مجمع البيان عن بعض وما روي عن ابن عباس من قوله أي ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه عز و جل ظاهر فيه وفي إقحام لفظ اسم وذهب بعض الحنفية إلى أن المراد بهذا الذكر تكبيرة الأفتتاح كأنه قيل وكبر للأفتتاح فصلى أي الصلوات الخمس كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروي ذلك في حديث مرفوع وقيل الصلاة المفروضة وما أمكن من النوافل واحتج بذلك على وجوب التكبيرة حيث نيط به الفلاح ووقع بن واجبين بل فرضين التزكي من الشرك والصلاة مع أن الأحتياط في العبادات واجب
(30/109)

فلا يضر الأحتمال وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز و جل وهو ظاهر وعلى أن التكبيرة شرط لا ركن للعطف بالفاء وعطف الكل على الجزء كعطف العام على الخاص وإن جاز لا يكون بها مع أنه لو سلم صحته بتكلف فلا بد له من نكتة ليدعي وقوعه في الكلام المعجز فحيث لم تظهر لم يصح ادعاؤه وبناء الركنية عليه والأنصاف أنه مع ما سمعت احتجاج ليس بالقوي وقيل هو خصوص بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة وليس بشيء وعن علي كرم الله تعالى وجهه تزكى أي تصدق صدقة الفطر وذكر اسم ربه كبر يوم العيد فصلى صلاة العيد وعن جماعة من السلف ما يقتضي ظاهره ذلك وتعقب بأن الصلاة مقدمة على الزكاة في القرآن وإن السورة مكية ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر ورد بأن ذلك إذا ذكرت بإسمها أما إذا ذكرت بفعل فتقديمها غير مطرد ومنه فلا صدق ولا صلى على أنه يجوز أن تكون مخالفة العادة ههنا للإرشاد إلى أن هذه الزكاة المقدمة قولا ينبغي تقديمها فعلا على الصلاة ولهذا كانوا يخرجونها قبل أن يصلوا العيد كما جاء في الآثار وكون السورة مكية غير مجمع عليه وعلى القول بمكيتها الذي هو الأصح يكون ذلك مما تأخر حكمه عن نزوله وأقول أن يقال تزكى أي تطهر من الشرك بأن آمن بقلبه اذكر اسم ربه أي قال لا إله إلا الله فصلى أي الصلاة المفروضة وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ما يؤيده فيكون تزكى إشارة إلى التصديق بالجنان وذكر اسم ربه إلى النطق باللسان وصلى إلى العمل بالأركان لما أن الصلاة عماد الدين وأفضل الأعمال البدنية وناهية عن الفحشاء والمنكر فلا بدع أن تذكر فيراد جمع الأعمال والعبادات القالبية وقد يقال اقتصر على ذكر الصلاة لأن الفرائض والواجبات البدنية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أهم ما نزل إن كان نزل غيرها وقد روي عطاء عن ابن عباس ويزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن أن أول ما نزل من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك ثم ن ثم المزمل ثم المدثر ثم تبت ثم إذا الشمس كورت ثم سبح اسم ربك ثم إن من رداف لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان ذكر الله تعالى المطلوب هو مجموع الجملتين فلا بعد في أن يراد من ذكره تعالى في الآية وإذا اعتبر الأتيان باسمه عز و جل في الجملة الثانيةا على الوجه الذي أتى به ذكرا له تعالى كان أمر الإرادة أقرب وهذا الوجه لا يخلو عن حسن وكلمه قد لما أنه عند الإخبار بسوء حال المنجنب عن الذكر في الآخرة يتوقع السامع الأخبار بحسن حال المتذكر فيها ولا يبعد أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا جوابا لسؤال نشأ عن بيان حال المتجنب والسكوت عن حال المتذكر الذي يخشى فكأنه قيل ما حال من تذكر فقيل قد أفلح إلى آخره وكان الظاهر قد أفلح من تذكر إلا أنه وضع من تزكى إلا آخره موضع من تذكر إشارة إلى بيان المتذكر بسماته وقوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل أثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح لا نفعلون ذلك بل تؤثرون الخ ولعله مراد من قال أنه إضراب عن قد أفلح الخ وقيل إضراب عن بيان حال المتذكر والمتجنب إلى بيان أنه لا ينفع هذا البيان وأضعافه المتمردين على وجه يتضمن بيان سبب عدم النفع وهو إيثار الحياة الدنيا والخطاب على هذا للكفرة الأشقين من أهل مكة وعلى الأول يحتمل أن يكون لهم فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضاء والأطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها الآية ويحتمل أن يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد بإيثارها ما هو أعم مما ذكر وما لايخلو عنه الناس غالبا من ترجيع جانب الدنيا على الآخرة فيالسعي وترتيب المباديء وعن ابن مسعود ما يقتضيه والألتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في
(30/110)

حق المسلمين وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل وقرأعبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم يؤثرون بياء الغيبة وقوله تعالى والآخرة خير وأبقى حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة الغائلة أبدي لا انصرام له وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور إن هذا إشارة على ما أخرج أبن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله تعالى والآخرة خير وأبقى وروي ذلك عن قتادة وقال غير واحد إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه قد أفلح من تزكى الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له وقال الضحاك إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى وأنه لفي زبر الأولين وعن ابن عباس وعكرمة والسدي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعا وفيه بعد لفي الصحف الأولى أي ثابت فيها معناه وقرأ الأعمش وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد وهي لغة تميم على ما في اللوامح صحف إبراهيم وموسى بدل من الصحف الأولى وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وكانت صحف إبراهيم عشرة وكذا موسى صحف عليه السلام والمراد بها ما عدا التوراة أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب قال مائة كتاب وأربعة كتب أنزل على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم قال أمثال كلها أيها الملك المتسلط على المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت منكافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيها صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واجتماعا للقلوب وتفريغا لها وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى قال كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح ولمن أيقن بالنار ثم يضحك ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ولمن أبقى بالقدر ثم يغضب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى قال يا أبا ذر نعم قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى والله تعالى أعلم بصحة الحديث وقرأ أبو رجاء إبرهم بحذف الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومسورة وعبد الرحمن بن أبي بكرة بكسرها لا غير وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير إبراهام بالغين في كل القرآن وقرأ مالك بن دينار إبراهم بألف وفتح الهاء وبغير ياء وجاء كما قال ابن خالويه إبرهم بضم الهاء بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن إبراهيم على الصحيح منها وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب موسى صلى الله تعالى عليه وسلم
سورة الغاشية
مكية بلا خلاف وعدة آياتها ست وعشرون كذلك وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج مسلم داود والنسائي
(30/111)

وابن ماجه عن النعمان بن بشير يقرؤها في الجمعة مع سورتها ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا بسط الكلام ههنا فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتاك حديث الغاشية قيل هل بمعنى قد وهو ظاهر كلام قطرب حيث قال أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية والمختار أنه للأستفهام وهو استفهام أريد به التعجيب مما في حيزه والتشويق إلى استماعه والإشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن تتناقلها الرواة ويتنافس في تلقنها الوعاة وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على امرأة تقرأ هل أتاك حديث الغاشية فقام عليه الصلاة و السلام يستمع ويقول نعم قد جاءني والغاشية القيامة كما قال سفيان والجمهور وأطلق عليها ذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وتكتفهم بأهوالها وقال محمد بن كعب وابن جبير هي النار من قوله تعالى وتغشى وجوههم النار وقوله سبحانه ومن فوقهم غواش وليس بذاك فإن ما سيرى من حديثها ليس مختصا بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة أيضا وجو يومئذ الموفوع مبتدأ وجاز الأبتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع وقيل لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه والخبر ما بعد والظرف متعلق به والتنوين عوض عن جملة أشعرت بها الغاشية أي يوم إذ غشيت والجملة إلى قوله تعالى مبثوثة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأستفهام التشويقي كأنه قيل من جهته عليه الصلاة و السلام ما أتاني حديثها ما هو فقيل وجوه الخ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن أتاه صلى الله تعالى عليه وسلم حديثها فأخبره سبحانه عنها فقال جل وعلا وجوه يومئذ خاشعة والمراد بخاشعة ذليلة ولم توصف بالذل ابتداء لما في وصفها بالخشوع من الإشارة إلى التهكم وأنها لم تخشع في وقت ينفع فيه الخشوع وكذا حال وصفها بالعمل في قوله سبحانه عاملة على ما قيل وهو وقوله تعالى ناصبة خبران آخران لوجوه إذا المراد بها أصحابها وفي ذلك الأحتمالات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى أي عاملة في ذلك اليوم تعبة فيه وذلك في النار على ما روي عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وعملها فيها على ما قيل جر السلاسل والأغلال والخوض فيها خوض الإبل في الوحل والصعود والهبوط في تلالها ووهادها وذلك جزاء التكبر عن العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا وعن زيد بن أسلم أنه قال أي عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار وجاء ذلك في رواية أخرى عن ابن عباس وابن جبير أيضاأن الخشوع عند هؤلاء باق على كونه في الآخرة وعليه فيومئذ لا تعلق بالوصفين معنى بل متعلقهما في الدنيا ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد وظهور أن العمل لا يكون في الآخرة بعد تسليمه لا يجدي نفعا في دفع بعده وقال عكرمة عاملة في الدنيا ناصبة يوم القيامة والظاهر أن الخشوع على ما مر ولا يخفى ما في جعل المحاط باستقباليين ما ضويا من البعد وقيل الأوصاف الثلاثة في الدنيا والكلام على منوال
إذا انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي ظهر لهم يومئذ أنها كانت خاشعة عاملة ناصبة في الدنيا من غير نفع وأما قبل ذلك اليوم فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهؤلاء النساك من اليهود والنصارى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ويشمل غيرهم مما شاكلهم من نساك أهل الضلال وهذا الوجه أبعد من أخويه وقوله تعالى تصلى نارا حامية متناهية في الحر من حميت النار إذا اشتد حرها خبر آخر لوجوه وقيل خاشعة صفة لها وما بعد أخبار وقيل الأولان صفتان والأخيران خبران وقيل الثلاثة الأول صفتان وهذه الجملة هي الخبر
(30/112)

والكل كما ترى وجوز أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافا مبينا لتفاصيل أحوالها وقرأ ابن كثير في رواية شبل وحميد وابن محيصن عاملة ناصبة بالنصب على الذم وقرأ أبو رجار وابن محيصن ويعقوب وأبو عمرو وأبو بكر تصلى بضم التاء وقرأ خارجة تصلى بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام للمبالغة تسقى من عين آنية بلغت إناها أي غايتها في الحر فهي متناهية فيه كما في قوله تعالى وبين حميم آن وهو التفسير المشهور وقد روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد حاضرة لهم من قولهم أنى الشيء حضر وليس بذاك ليس لهم طعام إلا من ضريع بيان لطعامهم أثر بيان شرابهم والضريع كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس الشبرق اليابس وهي على ما قاله عكرمة شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض وقال غير واحد وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل رطبا فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل قال أبو ذؤيب رعي الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وصار ضريعا بان عنه النحائص وقال ابن غرارة الهذلي يذكر ابلا وسوء مرعى وحبسن في هزم الضريع فكلها
حدباء دامية اليدين حرود وقال بعض اللغويين الضريع يبيس العرفج إذا انحطم وقال الزجاج نبت كالعوسج وقال الخليل نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر والظاهر أن المراد ما هو ضريع حقيقة وقيل هو شجرة نارية تشبه الضريع وأنت تعلم أنه لا يعجز الله تعالى الذي أخرج من الشجر الأخضر نارا أن ينبت في النار شجر الضريع نعم يؤيد ما قيل ما حكاه في البحور الزاخرة عن البغوي عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار شبه الشوك أمر من الصبر وانتن من الجيفة وأشد حرا من النار فإن صح فذاك وقال ابن كسيان هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله تعالى طلبا للخلاص فسمي بذلك وعليه يحتمل أن يكون شجرا وغيره وعن الحسن وجماعة أنه الزقوم وعن ابن جبير أنه حجارة في النار وقيل هو واد في جهنم أي ليس لهم طعام إلا من ذلك الموضع ولعله هو الموضع الذي يسيل إليه صديد أهل النار وهو الغسلين وعليه يكون التوفيق بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى ولا طعام إلا من غسلين ظاهرا بأن يكون طعامهم من ذلك الوادي هو الغسلين الذي يسيل إليه وكذا إذا أريد به ما قاله ابن كسيان واتحد بهما عليه أيضا الزقوم واتحاده بالضريع على القول بأنه شجرة قريب وقيل في التوفيق أن الضريع مجازا أو كناية أريد به طعام مكروه حتى للإبل وغيرها من الحيوانات التي رعى الشوك فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا وقيل أنه أريد أن لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الناس كما يقال ليس لفلان ظل إلا الشمس أي لا ظل له وعليه يحمل قوله تعالى ولا طعام إلا من غسلين وقوله تعالى إن شجرة الزقوم طعام الأثيم فلا مخالفة أصلا وقيل إن الغسلين وهو الصديد في القدرة الإلهية أن تجعله على هيئة الضريع والزقوم فطعامهم الغسلين واللذان هما الضريع ولا يخفى تعسفه على الرضيع وقد يقال في التوفيق على القول بأن الثلاثة متغايرة بالذات إن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم ومنهم أكلة الغسلين ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم لا يسمن ولايغني من جوع أما في محل جر صفة لضريع والمعنى أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ومنفعتا الغذاء منفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن وإن شئت فقل أنه من شيء مكروه يضرع عنده ويتضرع إلى الله تعالى ويطلب منه سبحانه الخلاص عنه وليس فيه منفعتا الغذاء أصلا وأما في محل فة
(30/113)

لطعام المقدر إذ التقدير ليس لهم ذعام إلا طعام من ضريع والمعنى قريب مما ذكر ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم منحصر فيه ويفسد المعنى وأما لا محل له من الإعراب على أنه مستأنف والأول أظهر ويروي أن كفار قريش قالوا صدر الآية أن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لا يسمن الخ قيل فلا يخلوا إما أن يتكذبوا أو يتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وأما أن يصدقوا فيكون المعنى إن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من جوع وعلى الأول هو صفة مؤكدة ردا لما زعموه لا كاشفة إذ لا خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأيا ما كان فتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما وتأخير نفي الإغناء عنه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الإسمان ضرورة استلزام نفي الإغناء من الجوع إياه ولذلك كرر لا لتأكيد النفي وفي الإرشاد أن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم استعدادا للشبع والسمن إلا أنه لا يفيد شيئا منهما بل على أنه لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهته ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيلما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغني بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة قوة فهيهات وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونه مخ إلى شيء مائع بارد ليطفؤه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرون إلى أكل الضريع فإذا أكلوه سلط عليهم العطش فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى وهو خلاف الظاهر ومثله لا يقال عن الرأي له فيما وقفنا عليه مستند يؤول لأجله الظواهر فالحق أن لهم جوعا وعطشا وشهوة إلى الطعام والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عز و جل بدون سبب عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم كما يضطر من إفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل يزدادون به عذابا فوق العذاب نسأل الله تعالى العفو والعافية بمنه وكرمه وقوله تعالى وجوه يومئذ ناعمة شروع في رواية حديث أهل الجنة وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تهويل الغاشية وتفخيم حديثها ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة بعد حكاية سوء حال أهل النارؤ مما يزيد المحكي حسنا وبهجة والكلام في إعرابه نظير ما تقدم وإنمالم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة إيذانا بكمال تباين مضمونيها والناعمة إما من النعومة وكنيبها عن البهجة وحسن المنظر أي وجوه يومئذ ذات بهجة وحسن كقوله تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم أو من النعيم أي وجوه يومئذ متنعمة لسعيها أي لعملها الذي عملته في دار الدنيا وهو متعلق بقوله تعالى راضية والتقديم للإعتناء مع رعاية الفاصلة واللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا قيل راضية بسعيها وذكر بعض المحققين أنها مقوية لتعدي الوصف بنفسه ولذا قال سفيان في ذلك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم رضيت عملها ورضاها به كناية أو مجاز عن أنه محمود العاقبة مجازي عليه أعظم الجزاء وأحسنه
(30/114)

وقيل في الكلام مضاف مقدر أي لثواب سعيها راضية وجوز كون اللام للتعليل أي لأجل سعيها في طاعة الله تعالى راضية حيث أوتيت وما أتيت من الخير وليس بذاك في جنة عالية مرتفعة المحل أو عليه القدر فالعلو إما حسي أو معنوي وجمع أبو حيان بينهما لا تسمع خطاب لكل منيصلح للخطاب أو هو مسند إلى ضمير الغائبة المؤنثة وهو راجع للوجوه على أن المراد بها أصحابها أو الإسناد مجازي وكذا يقال فيما قبل وأشار بعض إلى أن في الآية صنعة الأستخدام اختيارالأن المراد بالوجوه أو لا حقيقتها وعدن إرجاع الضمير إليها ثانيا أصحابها فهم الذينلا يسمعون فيها لاغية أي لغوا فهي مصدر ويجوز كونها صفة كلمة محذوفة على أنها للنسب أي كلمة ذات لغو وجوز على تقدير كونها صفة كون الإسناد مجازيا لأن الكلمة ملغو بها لا لاغية ويجوز أن تكون صفة نفس محذوفة أي لا تسمع فيها نفسا لاغية وجعلها مسموعة لوصفها بما يسمع كما تقول سمعت زيدا يقول كذا وجوز أن يكون ذلك على المجاز في الإسناد أيضا وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم لا تسمع بتاء التأنيث مبنيا للمفعول لاغية بالرفع وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك إلا أنهم قرؤا بالياء التحتية لأن التأنيث مجازي مع وجود الفاصل والجحدري كذلك إلا أنه نصب لاغية على معنى لا يسمع فيها أحد لاغية من قولك أسمعت زيدا فيها عين جارية قيل يجري ماؤها ولا ينقطع وعدم الأنقطاع إما من وصف العين لأنها الماء الجاري فوصفها بالجريان يدل على المبالغة كما في نار حامية وأما من اسم الفاعل فإنه للأستمرار بقرينة المقام والتنكير للتعظيم واختار الزمخشري كونه للتكثير كما في علمت نفس أي عيون كثيرة تجري مياهها فيها سرر مرفوعة رفيعة السمك أو المقدار وقيل مخبوءة من رفعت لك كذا أي خبأته وأكواب وقداح لا عرالها موضوعة أي بين أيديهم وقيل على حافات العيون وجوز أن يراد موضوعة عن حد الكبار أوساط بين الصغر والكبر كقوله تعالى قدروها تقديرا ولا يخفى بعده ونمارق ووسائد قال زهير كهولا وشبانا حسانا وجوههم
على سرر مصفوفة ونمارق جمع نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما وفتحهما وبغير هاء مصفوفة صف بعضها إلى جنب بعض للإسناد أليها والإتكاء عليها وقال الكلبي وسائد موضوعة بعضها إلى جنب بعض كالشيء الذي جعل صفا أينما أراد أن يجلس المؤمن جلس على واحدة واستند إلى أخرى وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان وزرابي وبسط فاخرة كما قال غير واحد وقال الفراء هي الطنافس التي لها خمل وقيق وقال الراغب أنها في الأصل ثياب محبرة منسوبة إلى موضع ثم أستعيرت للبسط واحدها زربية مثلثة الزاي ولم يفرق في الصحاح بين الزرابي والنمارق والظاهر الفرق نعم قيل قد جاء نمارق بمعنى الزرابي ومنه نحن بنات طارق
نمشي على النمارق لظهور أن الوسائد لا يمشي عليها عادة مبثوثة مبسوطة أو مفرقة في المجالس أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالأستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى أفلا ينظرون الخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر
(30/115)

يقتضيه المقام وكلمة كيف منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع خلقت كما في قوله تعالى كيف تكفرون بالله معلقة لفعل النظر والجهلة بدل اشتمال من الإبل وقد تبدل الجملة وفيها الأستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم عرفت زيدا أبو من هو علي أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكى عنهم أنهم قالوا انظر إلى كيف يصنع كما حكى عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين وذكر أبو حيان في البحر والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الأستفهام لم يبق الأستفهام على حقيقته وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في المغنى بما في بعضه نظر وجوز في مجمع البيان كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له منلفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه فقالوا أبل وتابل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا ما آبل زيدا ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسما جاء على فعل يكسر الفاء والعين وغير إبل أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز و جل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات فيعظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيآتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى أن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوردين وربما يجوز ذلك وتمسمى حينئذ الحوازي بالحاء المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ولهم على أحوالها أتم وقوف وعن الحسن أنها خصت بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في ترييضه ولا يحلب دره وقال أبو العباس المبرد الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي إرسالا كالأبل وتزجي كما تزجي الإبل وهي في هيآتها أحيانا تشبه الإبل يعني إن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها قال الإمام التناسب فيها أن الكلام مع العرب رهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل وإذا نظر فوقه رأى السماء وإذا نظر يمينا وشمالا رأى الجبال وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الأعتبار وقال عصام الدين إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن مالهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول الآية كان ذكرها ألطف وألطف وقرأ الأصمعي عن أبي إلى الإبل بسكون الباء وقرأعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إبل بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة
(30/116)

وإلى السماء التي يشاهدونها ليلا ونهارا كيف رفعت رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والإدراك وإلى الجبال التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمائها وأشجارها كيف نصبت وضعت وضعا ثابتا يتأتى معه ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى دارها وإلى الأرض التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كيف سطحت سفحا بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور أهلها ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة وابن أبي عبلة خلقت رفعت نصبت سطحت بتاء المتكلم مبنيا للفاعل والمفعول ضمير محذوف وهو العائد إلى المبدل منه اشتمال أي خلقتها رفعتها نصبتها سطحتها وقرأ الحسن وهارون الرشيد سطحت بتشديد الطاء والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والأعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه بالإيمان والطاعة وجوز أن يحمل النظر على الإبصار ويكون فيه دعوى ظهور المطلوب بحيث يظهر أبصار هذه المخلوقات وهو خلاف الظاهر والفاء في قوله تعالى فذكر لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبيء عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهملا ينظرون ولا يتذكرون وقوله تعالى إنما أنت مذكر تعليل للأمر وقوله سبحانه لست عليهم بمصيطر تقرير له وتحقيق لمعنى الإنذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى وما أنت عليهم بجبار وقرأ الجمهور بمصيطر بالصاد وكسر الطاء والأصل السين والصاد بدل منه فإنه من السطر بمعنى التسلط يقال سطر عليه إذا تسلط وقرأ حمزةفي رواية بإشمام الصاد زيا وهارون بفتح الطاء وهي لغة تميم وسيطر متعد عندهم ويدل عليه قولهم تسيطر لمكان المطاوعة وقوله تعالى إلا من تولى وكفر قيل استثناء منقطع وإلا فيه بمعنى لكن ومن موصولة مبتدأ وما بعدها صلة والعائد الضمير المستتر فيه وقوله سبحانه فيعذبه الله العذاب الأكبر خبر المبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم وجعل من شرطية يبعده وجود الفاء فيما يصلح لجوابيتها بدونها وتقدير فهو يعذبه تكلف مستغني عنه وأيا ما كان فمن المنقطع ما يقع بعد إلا فيه جملة أي لكن من أعرض وأقام على الكفر منهم يعذبه الله تعالى العذاب الأكبر وهذا عذاب الآخرة في النار فإنه الأكبر وعذاب الدنيا بالنسبة إليه أصغر وجعل الزمخشري الإنقطاع على معنى لست بمستول عليهم لكن من تولى وكفر منهم فإن الله تعالى الولاية عليه والقهر فيعذبه في نار جهنم ولم يجعل على ما قيل متصلا لأنه يلزم عليه كونه صلى الله تعالى عليه وسلم مستوليا على من تولى وقد حصرت الولاية به تعالى وجوز اتصاله بأن يكون من ضمير عليهم فيكون من في محل جر تابعا له وتسلط صلى الله تعالى عليه وسلم على المتولي باعتبار جهاده وقتله الذي وعد به عليه الصلاة و السلام ولا ينافيه حصر الولاية به تعالى لأنه بأمره عز و جل فكأنه قيل لست عليهم بمسيطر إلا على من تولى وأقام على الكفر فإنك متسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسببه وأسره وبعد ذلك يعذبه الله تعالى في جهنم فيكون في الآية إيعاد لهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وجوز أن يكون أبعادا بالجهاد فقط على أن المراد بالعذاب الأكبر القتل وسبي النساء والأولاد وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا فيكون فيه إشارة إلى أن هذه الأمة أكبر عذابهم في الدنيا ذلك لا ما كان في المم السابقة من الخسف ونحوهما وأقيم فيعذبه الخ مقام فتكون عليه
(30/117)

متسلطا إيذانا بأن ذلك من قبله عز و جل حتى كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا دخل له فيه وقال عصام الدين في كون الأستثناء سنقطعا أشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعدا لا غير مخرج عن متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف له في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله تعالى عليهم وليس حكمهم مخالفا له ثم أجاب بأن الأستثناء المنقطع قد يكون لدفع توهم ناشيء مما سبق من غير أن يخالف المستثني منه في الحكم فالجواب ذكر حكم له ليعلم أنه ليس حكمه مخالفا لحكم المستثنى منه فكأنه ههنا لدفع توهم التعذيب فتأمل وجوز كون الأستثناء متصلا من قوله تعالى فذكر ومن موصولة لا غير والمراد بالعذاب استحقاق العذاب أي فذكر إلا من انقطع طعمك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وقوله إنما أنت على هذا اعتراض ورجح الأنقطاع بأن ابن عباس وزيد بن علي وقتادة وزيد بن أسلم قرؤا ألا حرف تنبيه واستفتاح وقوله تعالى إن إلينا إيابهم تعليل لتعذيبه تعالى إياهم بالعذاب الأكبر وإياب مصدر آب أي رجع أي إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالا ولا اشتراكا وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها وقرأ أبو جعفر وشيبة إياهم بتشديد الياء قال البطليموسي في كتاب المثلثات هذه القراءة تحتمل تأويلين أحدهما أن يكون إياب بالتشديد فعالا من أوب على زنة فعل ككذب كذابا وأصله أواب فلم يعتد بالواو الأولى حاجزا لضعفها بالسكون فأبدل من الواو الثانية ياء لانكسار الهمزة فصار في التقدير أو يابا ثم قبلت الأولى ياء أيضا لاجتماع ياء وواو وسكون أحدهما ولأن الواو الأولى إذا لم تمنع من انقلاب الثانية فهي أجدر بالأنقلاب والثاني أن يكون فيعالا وأصله أيوابا فاعل إعلال سيد وفعله على أيب على وزن فيعل كحوقل حيقالا من الأياب وأصله أيوب فاعل كما ذكرنا والوجه الأول أقيس لأنهم قالوا في مصدره التأوب والتفعيل مصدر فعل لا فيعل ومع ذلك فقد قالوا هو سريع الأوبة والأيبة فكأنهم آثروا الياء لخفتها انتهى وقد ذكر هذين الوجهين الزمخشري إلا أنه في الأول منهما يجوز أن يكون أصله أوابا فعالا من أوب ثم قيل أيوابا كديوان في دوان ثم فعل به ما فعل بأصل سيد وظاهره أن الواو الأولى هي التي قلبت أولا ياء واعترض بأن المقرر أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسورا لا تقلب ياء لأجل الكسر كما في أخرواط مصدر أخروط وإن ديوانا إذا كان مذكورا للقياس عليه لا للتنظير لا يصلح لذلك لنصهم على شذوذه وكأن البطليموسي عدل إلى ما عدل لذلك وفي الكشف لو جعل مصدر فاعل من الأوب فقد جاء فيه فيعال حتى قال بعضهم إن فعالا مخفف عنه لكان أظهر لأن فيعل لا يثبت إلا بثبت والأول كالمنقاس ومعنى الفاعلة حينئذ إما المبالغة وإما مسابقة بعضهم بعضا في الأوب وأما جعله فعالا على ما قرر الزمخشري فأبعد إلى آخر كلامه وكونه من فاعل جوزه ابن عطية أيضا لكنه قال ويصح أن يكون من آوب فيجيء أيوابا سهلت همزته وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس فاعترضه أبو حيان بأن قوله وكان اللازم الخ ليس بصحيح بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إيابا لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل وواو وهي عين الكلمة واحداهما ساكنة فتقلب الواو ياء وتدغنم فيها الياء فيصير إيابا فلا تغفل ثم إن علينا حسابهم في المحشر لا على غيرنا وثم للتراخي الرتبي لا الزماني فإن الترتيب الزماني بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم عليه سبحانه فإنهما أمران مستمران وفي تصدير الجملتين بأن وتقديم خبرها والإتيان بضمير العظمة وعطف الثانية على الأولى بثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الأنباء عن غاية السخط الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى وفي الآية رد على كثير من الشيعة حيث زعموا أن حساب الخلائق على الأمير
(30/118)

كرم الله تعالى وجهه واستدلوا على ذلك بما افتروه عليه وعلى أهل بيته رضي الله تعالى عنهم أجمعين من الأخبار ومعنى قوله كرم الله تعالى وجهه أنا قسيم الجنة والنار إن صح أن الناس من هذه الأمة فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق على فهم على ضلال فقسم معي في الجنة وقسم في النار ولعلهم عنوا أن عليا كرم الله تعالى وجهه يحاسب الخلائق بأمره عز و جل كما يقول غيرهم بأن الملائكة عليهم السلام يحاسبونهم بأمره جل وعلا وهو معنى لا ينافي الحصر الذي تقتضيه الآية لكنه لم يثبت وأي خصوصية في الأمير كرم الله تعالى وجهه من بين جميع الأنبياء والمرسلين المقربين عليهم الصلاة والسلام أجمعين نقتضيه ولا نقص له كرم الله تعالى وجهه في نفي ذلك عنه ويكفيه رضي الله تعالى عنه من ظهور شرفه يوم القيامة أنه يزف إلى الجنة بين النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام كما جاء في الحديث إلى غير ذلك مما يظهر في ذلك اليوم والله تعالى أعلم
سورة الفجر
مكية في قول الجمهور وقال علي بن أبي طلحة مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي وثلاثون في الكوفي والشامي وتسع وعشرون في البصري ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وجوه يومئذ خاشعة ووجوه يومئذ ناعمة أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها يا أيتها النفس المطمئنة وأيضا فيها ما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها وقال الجلال السيوطي لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالأقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما بضمنته من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة ألم تر كيف فعل ربك مشابهة لجملة أفلا ينظرون وها كما ترى بسم الله الرحمن الرحيم والفجر أقسم سبحانه بالفجر كما أقسم عز و جل بالصبح في قوله تعالى والصبح إذا تنفس فالمراد به القجر المعروف كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم وقيل المراد عموده وضوءه الممتد وأصله شق الشيء شقا واسعاوسمى الصبح فجرا لكونه فاجرا لليل وهو كاذب لا يتعلق به حكم الصوم والصلاة وصادق به يتعلق حكمهما وقد تكلموا في سبب كل بما يطول وتقدم بعض منه ولعل المراد به هنا الصادق فهو أحرى بالقسم به والمراد عند كثير جنس الفجر لا فجر يوم مخصوص وعن ابن عباس ومجاهد فجر يوم النحر وعن عكرمة فجر يوم الجمعة وعن الضحاك فجر ذي الحجة وعن مقاتل فجر ليلة جمع وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قال هو فجر المحرم فجر السنة وروي نحوه عن قتادة وعن الحبر أيضا أنه النهار كله وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال يعني صلاة الفجر وروي نحوه عن زيد بن أسلم فهو إما على تقدير مضاف أو على إطلاقه على الصلاة مجازا وهو شائع وقيل المراد فجر العيون من الصخور وغيرها وليال عشر هن العشر الأولى من الأضحى كما أخرجه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس وروي عن ابن الزبير ومسروق ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وأخرج ذلك أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبزاز وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر يرفعه ولها من الفضل ما لها وقد أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس مرفوعا ما من أيام فيهن العمل أحب إلى الله عز و جل وأفضل من أيام العشر قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء وأخرج ابن المنذر وابن أبي
(30/119)

حاتم عن ابن عباس أنهن العشر الأواخر من رمضان وروي أيضا عن الضحاك بل زعم التبريزي الأتفاق على أنهن هذه العشر وأنه لم يخالف فيه أحد واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل العشر تعني العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله وتعقبه بعضهم بأن ذلك محتمل لأن يحظى عليه الصلاة و السلام بلية القدر لأنها فيها لا لكونها العشر المرادة هنا وعن ابن جريج أنهن العشر الأول من رمضان وعن يمان وجماعة أنهن العشر الأول من المحرم وفيها يوم عاشوراء وقد ورد في فضله ما ورد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال عليه الصلاة و السلام ما هذا اليوم الذي تصومونه قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون فيه فصامه موسى عليه السلام شكرا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنحن أحق بموسى منكم فصامه صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بصيامه وصح في الصحيحين أنه عليه الصلاة و السلام أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم يومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه فكان الصحابة بعد ذلك يصومونه ويصومونه صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد ويجعلون لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه إياها حتى يكون الإفطار وأخرج أحمد وغيره عن الحبر قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما وجاء في الأمر بالتوسعة فيه على العيال عدة أحاديث ضعيفة لكن قال البيهقي هي وإن كانت ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أحدث قوة وأيا ما كان فتنكيرها للتفخيم وقيل للتيعيض لأنها بعض ليالي السنة أو الشهر والتفخيم أولى قيل ولو لا قصد ما ذكر كان الظاهر تعريفها كأخواتها لأنها ليال معهودة معينة وقدر بعضهم على إرادة صلاة الفجر فيما مر مضافا هنا أي وعبادة ليال ويقال نحوه فيما بعد على بعض الأقوال فيه وليس بلازم ولا أثر فيه وقرأ ابن عباس بالإضافة فضبطه بعضهم وليال عشر بلام دون ياء وبعضهم وليالي عشر بالياء وهو القياس والمراد وليالي أيام عشر فحذف الموصوف وهو المعدود وفي مثل ذلك يجوز التاء وتركها في العدد ومنه واتبعه بست من شوال وما حكاه الكسائي ضمنا من الشهر خمسا والمرجح للترك ههنا وقوعه فاصلة وجوز أن تكون بالإضافة بيانية وهو خلاف الظاهر والشفع والوتر هما على ما في حديث جابر المرفوع الذي أشرنا إليه فيما تقدم يوم النحر ويوم عرفة وقال الطيبي روينا عن الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر ثم قال هذا وهو التفسير الذي لا محيد عنه النتهى وقد رواه عن عمران أيضا عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وصححه لكن في البحر أن حديث جابر أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين ووراء ذلك أقوال كثيرة فأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال أقسم ربنا بالعدد كله منه الشفع ومنه الوتر وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه قال الخلق كله شفع ووتر فأقسم سبحانه بخلقه وأخرج ابن المنذر وجماعة عنه أنه قال الله تعالى الوتر وخلقه سبحانه الشفع الذكر والأنثى وروي نحوه عن أبي صالح ومسروق وقرآ من كل شيء خلقنا زوجين وقيل المراد شفع تلك الليالي ووترها وقيل الشفع أيام عاد والوتر لياليها وقيل الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار وقيل غير ذلك وقد ذكر في كتاب التحرير والتحبير مما قيل فيهما ستا وثلاثين قولا وفي الكشاف قد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير
(30/120)

بالتلهي عنه وقال بعض الأفاضل لا إشعار للفظ الشفع والوتر بتخصيص شيء مما ذكروه وتعيينه بل هو إنما يدل على معنى كلي متناول لذلك ولعل من فسر همما بما فسرهما لم يدع الأنحصار فيما فسر به بل أفرد بالذكر من أنواع مدلولهما ما رآه أظهر دلالة على التوحيد أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبل أو لما بعد أو أكثر منفعة موجبة للشكر أو نحو ذلك من النكات وإذا ثبتمن الشارع عليه الصلاة و السلام تفسيرهما ببعض الوجوه فالظاهر أنه ليس مبنياعلى تخصيص المدلول بل وارد على طريق التمثيل بما رأى في تخصيصة بالذكر فائدة معتدا بها فحينئذ يجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على بعض آخر من محتملاته لفائدة أخرى انتهى وهو ميل إلى أن أل فيهما للجنس لا للعهد والظاهر أن ما تقدم من الحديثين من باب القطع بالتعيين دون التمثيل لكن يشكل أمر التوفيق بينهما حينئذ وإذا صح ما قال في البحر كان المعول عليه حديث جابر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقرأ حمزة والكسائي والأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والحسن بخلاف عنه والوتر بكسر الواو وهي لغة تميم والجمهور على فتحها وهي لغة قريش وهما لغتان كالحبر والحبر بمعنى العالم على ما قال صاحب المطلع في الوتر المقابل للشفع وأما في الوتر الترة أي الحقد فالكسر هو المسموع وحده والأصمعي فيه أيضا اللغتين وقال يونس عن أبي عمرو بفتح الواو وكسر التاء وهو إما لغة أو نقل حركة الواو في الوقف لما قبلها والليل إذا يسر أي يمضي كقوله تعالى والليل إذا أدبر واليل إذا عسعس والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ووجه الشبه كالنهار وإذا على ما صرح به العلامة التفتزاني في التلويح بدل من الليل وخروجها عن الظرفية مما لا بأس به أو ظرف متعلق بمضاف مقدر وهو العظمة على ما اختاره بعضهم والأقسام بذلك الوقت أو تقييد العظمة به لما فيه وضوح الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة أو يسري فيه على ما نقل أبو حيان عن الأخفش وابن قتيبة كقولهم صلى المقام أي صلى فيه على أنه تجوز في الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان وأيا ما كان فالمراد بالليل جنسه وقال مجاهد وعكرمة والكلبي المراد به ليلة النحر وهي يسري الحاج فيها إلى المزدلفة بعد الإفاضة من عرفات وليس بذاك والإقسام والتقييد على الوجه الأخير لما في السير في الليل من نعمة الحفظ من حر الشمس وشر قطاع الطريق غالبا وحذفت الياء عند الجمهور وصلا ووقفا من آخر يسر مع أنها لام مضارع غير مجزوم اكتفاء عنها بالكسرة للتخفيف ولتتوافق رؤس الآي ولذا وسمت كذلك في المصاحف ولا ينبغي أن يقال أنها حذفت لسقوطها في خطها فإنه يقتضي أن القراءة باتباع الرسم دون رواية سابقة عليه وهو غير صحيح وخص نافع وأبو عمرو في رواية هذا الحذف بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذف مطلقا ابن كثير ويعقوب وفي تفسير البغوي سئل الأخفش عن علة سقوط ياء يسر فقال الليل لا يسري ولكن يسري فيه وهو تعليل كثيرا ما يسئل عنه لخفائه والجواب أنه أراد أنه لما عدل عنالظاهر في المعنى وغيرهما كان حقه معنى غير لفظه لأن الشيء يجر جنسه لألفه به
إن الطيور على أمثالها تقع
وهذا كما قيل في قوله تعالى ما كانت أمك بغيا أنه لما عدل عن باغية أسقطت منه التاء ولم يقل بغية ومثله من بدائع اللغة العربية ويمكن التعليل بنحوه على تفسير يسر بيمضي لما فيه من العدول عن الظاهر في المعنى أيضا علمت من أنه مجاز في ذلك وقرأ أبو الدينار الأعرابي والفجر والوتر ويسر بالتنوين في الثلاثة قال ابن خالويه هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على أواخر القوافي بالتنوين وإن كانت أفعالا أو فيها أل نحو قوله أقلي اللوم عاذل والعتبن
وقولي إن أصبت لقد أصابن
(30/121)

انتهى وهذا كما قال أبو حيان ذكره النحويون في القوافي المطلقة يعني المحركة إذا لم يترنم الشاعر وهو أحد وجهين للعرب إذا لم يترنموا والوجه الآخر الوقوف فيقولون العتاب وأصاب كحالهم إذا وقفوا على الكلمة في النثر وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى الوقف وعاملها معاملة القوافيالمطلقة ويسمى هذا التنوين تنوين الترنم ولا اختصاص له بالأسم ويغلب على ظني أنه قيل يكتب نونا بخلاف أقسام التنوين المختصة بالأسم وقوله تعالى هل في ذلك الح تحقيق وتقرير لفخامة الأشياء المذكورة المقسم بها وكونها مستحقة لأن تعظم بالأقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه وتأكيده من طريق الكنلة فذلك إشارة إلى المقسم به وما فيه من معنى البعد لزيادة تعظيمه أي هل فيما ذكر من الأشياء قسم أي مقسم به لذي حجر أي هل يحق عنده أن يقسم به إجلالا وتعظيما والمراد تحقيق أن الكل كذلك وإنما أوثرت هذه الطريقة هضما للحق وإيذانا بظهور الأمر وهذا كما يقول المتكلم بعد ذكر دليل واضح الدلالة على مدعاه هل دل هذا على ما قلناه وجوز أن يكون التحقيق أن ذوي الحجر يؤكدون بمثل ذلك المقسم عليه فيدل أيضا على تعظيمه وتأكيده فذلك إشارة إلى المصدر أعني الأقسام هل في أقسامي بتلك الأشياء أقسام لذي حجر مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه وحاصل الوجهين فيما يرجع إلى تأكيد المقسم عليه واحد إلا أن الوجه مختلف كما لا يخفى ولعل الأول أظهر والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاة من الإحصاء وهو الضبط وقال الفراء يقال أنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن كما ينبيء عنه قوله تعالى شأنه ألم تر كيف فعل ربك بعاد الخ فإنه استشهاد بعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يدل عليه من تعذيب عاد وأضرابهم المشاركين لقومه عليه الصلاة و السلام في الطغيان والفساد على طرقة ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه الآية وقوله سبحانه ألم تر أنهم في كل واد يهيمنون وقال أبو حيان الذي يظهر أنه محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية وهو قوله تعالى إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم وتقديره لأيابهم إلينا وحسابهم علينا وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ والفجر إلى قوله سبحانه إذا يسر فقال هذا قسم على أن ربك لبالمرصاد وإلى أنه هو المقسم عليه ذهب ابن الأنباري وعن مقاتل أنه هل في ذلك الخ وهل بمعنى أن وهو باطل رواية ودراية إذ يبقى عليه قسم بلا مقسم عليه والمراد بعاد أولاد عاد بن عاص بن أرم ابن سام بن نوح عليه الصلاة و السلام قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم كما سمي بنوا هاشم هاشما وإطلاق الأب على نسله مجاز شائع حتى ألحق بعضه بالحقيقة وقد قيل لأوائلهم عاد الأولى ولأواخرهم عاد الآخرة عماد الدين بن كثير كلما ورد في القرآن خبر عاد فالمراد بعاد فيه عاد الأولى إلا ما في سورة الأحقاف ويقال لهم أيضا إرم تسمية لهم باسم جدهم والتسمية بالجد شائعة أيضا وهو اسم خاص بالأولى وعليه قول ابن الرقيات مجدا تليدا بناه أوله
أدرك عادا وقبلها أرما ونحوه قول زهير وآخرين ترى الماذي عدتهم
من نسج داود أو ما أورثت إرما فقوله تعالى إرم عطف بيان لعلاد للأيذان بأنهم عاد الأولى تجوز أن يكون بدلا ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة وصرف عاد باعتبار الحي وقد يمنع من الصرف باعتبار القبيلة أيضا وقرأ الضحاك بذلك في إحدى الروايتين عنه ورجح اعتبار الصرف فيه بخفته لسكون وسطه وقدر بعضهم مضافا
(30/122)

في الكلام أي سبط إرم وجعل إرم عليه اسم أمهم وهو قول فيه حكاه في القاموس ووجه منع الصرف فيه ظاهر وأبى بعضهم إلا جعله اسم جدهم ومعنى كونهم سبطه أنهم ولد ولده ولا يظهر على هذا علة منع صرفه ولعل ذلك هو الذي دعا إلى جعله اسم أمهم لكن رأيت في تعليقات بعض الأفاضل على الحواشي العصامية على تفسير البيضاوي إن إرم إنما منع من الصرف سواء كان إسما للقبيلة أم لجدها للعلمية والعجمة وقال أنهما موجودتان في عاد أيضا إلا أنه لكونه ثلاثيا ساكن الوسط يجوز فيه الأمر إن الصرف وعدمه وزعم أن هذا هو الحق وبكونه اسم القبيلة قال مجاهد وقتادة وابن إسحق ولا حاجة معه إلى تقدير مضاف فقوله تعالى ذات العماد صفة لأرم نفسها والمراد ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة ومنه قولهم معمد وعمدان إذا كان طويلا وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد واشتهر أنه كان قد أحدهم اثني عشر ذراعا وأكثر وفي تفسير الكواشي قالوا كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع وكان أحدهم يأخذ الصخرة العظيمة فيقلبها على الحي فيهلكهم وعن قتادة وابن عباس في رواية عطاء المراد ذات الخيام والأعمدة وكانوا سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم وقال غير واحد كانوا بدويين أهل عمد وخيام يسكنونها حلا وارتحالا وقيل المراد ذات الرفعة أو ذات الوقار أو ذات الثبات وطول العمر والكل على الأستعارة وقوله تعالى التي لم يخلق مثلها في البلاد صفة أخرى لها أي لم يخلق مثلهم في عظم الأجرام والقوة في بلاد الدنيا وقد سمعت ما نقل عن الكواشي آنفا وما ذكر فيه من أنه كان أحدهم الخ جاء في حديث مرفوع أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معد يكرب وقيل إرم اسم مدينة لهم قال محمد بن كعب هي الأسكندرية وقال ابن المسيب والمقبري هي دمشق وقيل اسم أرضهم وهي عمان وحضرموت وهي أرض رمال وأحقاف فقد قال سبحانه وتعالى واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وبهذا اعترض القول بأن مدينتهم السكندرية والقول بأنها دمشق حيث أنهما ليستا من بلاد الأحقاف والرمال إلا أن يقال ما هنا عاد الأولى وما في آية الأحقاف عاد الآخرة ويلتزم عدم اتحاد منازلهما وعلى القول بكونه اسم مدينتهم أو اسم أرضهم فهو بتقدير مضاف لتصحيح التبعية أي أهل أرم وقيل يقدر مضاف في جانب المتبوع أي بمدينة أو بأرض عاد إرم وهو كما ترى ومنع الصرف على الوجهين لما سمعت والأكثرون على أنها اسم مدينة عظيمة في أرض اليمن والوصفان لها والمراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا ويروى أنه كان لعان ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصوتها من الذهب والفضة وأساطلينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقا هذا والله ذلك الرجل وخبر شداد المذكور أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو موضوع كخبر ابن قلابة وروي عن مجاهد أن إرم مصدر أرم يأرم إذا هلك فارم بمعنى هلاك منصوب على نحو نصب المصدر التشبيهي مضاف إلى ذات والتي صفة لذات العماد مرادا بها المدينة وكيف فعل في
(30/123)

قوة كيف أهلك فكأنه قيل ألم تر كيف أهلك ربك عادا كهلاك ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهو قول غريب غير قريب وقرأ الحسن يعاد رام بإضافة ماد إلى أرم فجاز أن يكون إرم جدا والوصفان لعاد وأن يكون مدينة والوصفان لازم وجوز أن يكون لعاد وقرأ ابن الزبير بعاد أرم بالإضافة أيضا إلا أن أرم بفتح الهمزة وكسر الراء قيل وهي لغة في المدينةلا غير وعن الضحاك أنه قرأ بعاد مصروفا وغير مصروف أرم بفتح الهمزة وسكون الراء للتخفيف وأصله أرم كفخذ وقريء إرم بإضافة إرم إلى ذات فقيل الأرم عليه العلم والمعنى بعاد أعلام ذات العماد وهي مدينتهم والتي صفة لذات العماد على الأظهر وعن ابن عباس أنه قرأ أرم بالتشديد فعلا ماضيا ذات بالنصب على المفعول به أي جعل الله تعالى ذات العماد رميما ويكون أرم على ما في البحر بدلا من فعل أو تبيينا له والمراد بذات العماد عليه إما غاد نفسها ويكون فيه وضع المظهر موضع المضمر والنكتة فيه ظاهرة وإما مدينتهم ويكون جعلها رميما أي إهلاكها كناية عن جعلهم كذلك وقرأ ابن الزبير لم يخلق مبينا للفاعل وهو ضميره عز و جل مثلها بالنصب على المفعولية وعنه أيضا لم نخلق بنون العظمة وثمود عطف على عاد وهي قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما عابر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام كانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك وكانوا يعبدون الأصنام ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وقرأ ابن وثاب بالتنوين صرفه باعتبار الحي كذا قالوا وظاهره أنه عربي وقد صرح بذلك فقيل هو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله وحكى الراغب أنه عجمي فمنع الصرف للعلمية والعجمة الذين جابوا الصخر أي قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا نحتوها من الصخر كقوله تعالى وتنحتون من الجبال بيوتا قيل أول من نحت الحجارة والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة ولا أظن صحة هذا البناء بالواد هو وادي القرى وقريء بالياء آخر الحروف والباء للظرفية والجار والمجرور متعلق بجابوا أو بمحذوف هو حال من الفاعل أو المفعول وقيل الباء للألة أو السببة متعلقة بجابوا أي جابوا الصخر بواديهم أو بسببه أي قطعوا الصخر وشقوه وجعلوه واديا ومحلا لمائهم فعل ذوي القوة والآمال وهو خلاف الظاهر وأيا ما كان فالجواب القطع والظاهر أنه حقيقة فيه تقول جبت البلاد أجوبها إذا قطعتها قال الشاعر ولا رأيت قلوصاقبلها حملت
ستين وسقا ولا جابت بها بلدا ومن الجواب لأنه يقطع السؤال وقال الراغب الجواب قطع الجوبة وهي الغائط من الأرض ثم يستعمل في قطع كل أرض وجواب الكلام هو ما يقطع الجوب فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع لكنه خص بما يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب انتهى فاختر لنفسك ما يحلو وفرعون ذي الأوتاد وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربون أوتادها في منازلهم أو لأنه كان يدق للمعذب أربعة أوتاد ويشده بها مبطوحا على الأرض فيعذبه بما يريد من ضرب أو أحراق أو غيره وقد تقدم الكلام في ذلك الذين طغوا في البلاد إما مجرور على أنه صفة للمذكورين عاد ومن بعده أو منصوب أو مرفوع على الذم أي طغى كل طاغية منهم في البلاد وكذا الكلام في قوله تعالى فأكثروا فيها الفساد أي بالكفر وسائر المعاصي فصب عليهم ربك أي أنزل سبحانه إنزالا شديدا على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد سوط عذاب أي سوطا من عذاب على أن الإضافة بمعنى
(30/124)

من والعذاب بمعنى المعذب به والمراد بذلك ما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السورة الكريمة والسوط في الأصل مصدر من ساط يسوط إذا حلط قال الشاعر أحارث أنا لو تياط دماؤنا
تزايلن حتى لا يمس دم دما وشاع في الجلد المضفور والذي يضرب به وسمى به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض أو لأنه يخلط اللحم بالدم والتعبير عن إنزاله بالصب للإيذان بكثرته وتتابعه واستمراره فإنه عبارة عن إراقة شيء مائه أو جار مجراه في السيلان كالحبوب والرمل وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار ونسبته إلى السوط مع أنه على ما سمعت ليس من هذا القبيل باعتبار تشبيه في سرعة نزوله بالشيء المصبوب وتسمية ما أنزل سوطا قيل للإيذان بأنه على عظمة بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط بالنسبة إلى سائر ما يعذب به أفي الكشف أن إضافة السوط إلى العذاب تقليل لما أصابهم منه ولا يأبى ذلك التعبير بالصب المؤذن بالكثرة لأن القلة والكثرة من الأمور النسبية وجوز أن يراد بالعذاب التعذيب والإضافة حينئذ على معنى اللام وأمر التعبير بالصب والتسمية بالسوط على ما تقدم والآية من قبيل قوله تعالى فأذاقهم الله لباس الجوع وجوز أن تكون الأضافة كالأضافة في لجين الماء أي فصب عليهم ربك عذابا كالسوط على معنى أنواعا من العذاب مخلوطا بعضها ببعض اختلاط طاقات السوط بعضها ببعض وأن يكون السوط مصدرا بمعنى المفعول والإضافة كالأضافة في جرد قطيفة أي فصب عليهم ربك عذابا مسوطا أي مخلوطا ومآله فصب أنواعا من العذاب خلط بعضها ببعض وفي الصحاح سوط عذاب أي نصيب عذاب ويقال شدته لأن العذاب قد يكون بالسوط وأراد أن الغرض التصوير والأليق بجزالة التنزيل ما تقدم إن ربك لبالمرصاد تعليل لما قبله وإيذان بأن كفار قومه صلى الله تعالى عليه وسلم سيصيبهم مثل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب كما ينبيء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام والمرصاد المكان الذي يقوم به الرصد ويترقبون فيه مفعال من رصده كالميقات من وقته وفي الكلام استعارة تمثيلية شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العصاة على ما روي عن الضحاك مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه سبحانه أحد منهم بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقع به ما يريد ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر والآية على هذا وعيد للعصاة مطلقا وقيل هي وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن أي يرصد سبحانه أعمال بني آدم وجوز ابن عطية كون المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام والمطعان وتعقبه أبو حيان بأنه لو كان كما زعم لم تدخل الباء لأنها ليست في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة وأجيب بأنها على ذلك تجريدية نعم يلزمه إطلاق المرصاد على الله عز و جل وفيه شيء وقوله تعالى فأما الإنسان الخ متصل بما عنده كأنه قيل أنه سبحانه لبالمرصاد من أجل الآخرة فلا يطلب عز و جل إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها فإن نال منها شيئارضي وإلا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا ما يطلبه الله عز و جل ولا يكون حاله ذلك وقيل هو متصل به متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غني مهلك موجب للتكبر والأفتخار بالدنيا وبين فقر لا يصبر عليه ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى إذا ما بتلاه ربه أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار ليرى هل يشكر أم لا والفاء في قوله سبحانه فأكرمه ونعمه تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد بالأبتلاء ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر على قوله كرمن في قوله سبحانه فيقول ربي أكرمن ولم يضم إليه ونعمتي وهذه الجملة خبر للمبتدأ الذي هو الإنسان والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا متعلق بيقول وهو
(30/125)

على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين وهو كما قال الشهاب الحق الذي لا محيد عنه وخالفهم في ذلك الرضي ومن تبعه كالبدر الدماميني في شرح المغنى فقالوا إنما يجوز تقديم ما بعد الفاء عليها إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما يتعلق بتقديمه من الأغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنعتقديم غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وإن جاز أما طعامك فزيد آكل وقالوا في ذلك أنهم لما التزموا حذف لزم دخول أداته على فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد الفاء والفاصل الواحد فيه فيجب الأقتصار عليه وزعم الجلبي محشي المطول إن هذا متفق عليه فرد به على المفسرين أعرابهم السابق أنه خطأ والصواب أن يجعل الظرف متعلقا بمقدر وهو المبتدأ في الحقيقة والتقدير فأماشأن الإنسان إذا الخ فالظرف من تتمة الجزء المفصول وبه ليس فاصلا ثانيا كقولك أما إحسان زيد إلى الفقير فحسن ويرد على تقديره أنه لآ يصح وقوع جملة يقول خبرا عن الشأن إلا بتعسف كان يكون الفعل بتأويل المصدر وإن لم تكن معه في اللفظ أن المصدرية كما قيل في
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
وهو فرار من السحاب إلى الميزاب وذهب أبو البقاء إلى أن إذا شرطية وقوله تعالى فيقول جوابها والجملة الشرطية خبر الإنسان ويلزمه حذف بدون القول وقد قيل أنه ضرورة وقوله عز و جل وأما إذا ما ابتلآه عامله معاملة من يبتليه ويختبره بالحاجة والفقير ليرى هل يصبر أم لا فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن بتقدير وأما هو أي الإنسان إذا ما ابتلاه الخ ليصح التفصيل ويتم التوازن وبقية الكلام فيه كما في سابقه والظاهر أن كلتا الجملتين متضمنة لأنكار قفول الإنسان الذي تضمنته وإنكار قوله إذا ضيق عليه رزقه ربي أهانن لدلالته على قصور نظره وسوء فكره حيث حسب أن تضييق الرزق إهانة مع أنه قد يؤدي إلى كرامة الدارين ولعدم كونه إهانة أصلا لم يقل سبحانه في تفسير الأبتلاء فأهانه وقدر عليه رزقه نظير ما قال سبحانه أولا فأكرمه ونعمه وإنكار قوله إذا أكرم ربي أكرمني مع قوله تعالى فأكرمه أولا من حيث أنه إكرام الله تعالى له على خلاف ما أثبت الله تعالى وهو قصد أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا ومستوجبا قصدا جاريا على ما كانوا عليه من افتخارهم وزعمهم جلالة أقدارهم والحاصل أن المنكر كونه عن استحقاق لحسب أو نسب في المفصل ما يدل على أن أصل الإكرام منكر لا كونه عن استحقاق وإمكار أصل الإهانة يعضده ووجهه ما أثبته تعالى من الإكرام أن الله عز و جل أثبت الإكرام بإيتاء المال والتوسعة وهو جعله إكراما كليا مثبتا للزلفى عنده تعالى فأنكر أنه ليس من ذلك الإكرام في شيء وجوز أن يكون الإنكار للإهانة فقط يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وإكرم به اعترف بتفضل الله تعالى وإكرامه وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس به قيل ويعضده ذكر الإكرام في قوله تعالى فأكرمه وفي الآية مع ما بعد شمة من أسلوب قوله تعالى أن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ولا يخفى أن الوجه هو الأول وقرأ ابن كثير أكرمني وأهانني بإثبات الياء فيهما ونافع بإثباتها وصلا وحذفها وفقا وخير في الوجهين أبو عمرو وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا من حذفها وقفا سكن النون فيه وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه وابن عامر فقدر بتشديد الدال للمبالغة كلا ردع للإنسان عن قوليه المحكيين وتكذيب له فيهما لا عن الأخير فصط كما في الوجه الأخير وقد نص الحسن على ماقلنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المعنى لم أبتله بالغنى لكرامته علي
(30/126)

ولم أبتله بالفقر لهوانه على بل ذلك لمحض القضاء والقدر وقوله سبحانه بل لا تكرمون اليتيم الخ انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل والألتفات إلى الخطاب لتشديد التقريع وتأكيد التشنيع وهو بتقدير قل فلا التفات نعم فيه من الإشارة إلى تنقيصهم ما فيه والجمع باعتبار معنى الإنسان إذ المراد هو الجنس أي بل لكم أفعال وأحوال أشد شرا مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به والإحسان إليه وفي الحديث أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه ينيم مكرم وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمرو لا يكرمون بياء الغيبة ولا تحاضون بحذف إحدى التاءين من تتحاضون أي ولا يحض ويحث بعضكم بعضا على طعام المسكين أي على إطعامه فالطعام مصدر بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء وزعم أبو حيان أن الأولى أن يراد به الشيء المطعوم ويكون الكلام على حذف مضاف أي على بذل طعام المسكين والمراد بالمسكين ما يعم الفقير وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي كقراءة الجماعة إلا أنهم ضموا تاء تحاضون من المحاضة وقرأ أبو عمرو ومن سمعت الحسن ومن معه ولا يحضون بياء الغيبة ولا ألأف بعد الحاء وباقي السبعة بتاء الخطاب كذلك وكذا الفعلان بعد والفعل على القراءتين جوز أن يكون متعديا ومفعوله محذوف فقيل أنفسهم أو أنفسكم وقيل أهليهم أو أهليكم وقيل أحدا وجوز وهو الأولى أن يكون منزلا منزلة اللازم للتعميم وتأكلون التراث أي الميراث وأصله وارث فأبدلت الواو تاء كما في تخمة وتكأة ونحوهما أكلا لما أي ذا لم أو هو نفس اللم على المبالغة واللم الجمع ومنه قول النابغة ولست بمستبق أخالا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب والمراد به هنا الجمع بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد ومنه قول الحطيئة إذا كان لما يتبع الذم ربه
فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا يعني أنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصب غيركم ويروى أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون نصيبهم ويقولون لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة هذا وهم يعلمون من شريعة إسماعيل عليه السلام أنهم يرثون فاندفع ما قيل أن السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحلو الحرمة إلا من الشرع فإن الحسن والقبح العقلين ليبسا مذهبا لنا وقيل يعني تأكلون ما جمعه الميت المورث من حلال وحرام عالمين بذلك فتلمون في الأكل بين حلاله وحرامه وفي الكشاف يجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلامن غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ونحوها كما يفعله الوارث البطالون وتعقب بأنه غير مناسب للسياق وتحبون المال حبا جما أي كثيرا كما قال ابن عباس وأنشد قول أمية إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما والمراد أنكم تحبونه مع حرص وضره كلا ردع لهم عن ذلك وقوله تعالى إذا دكت الأرض دكا دكا إلى آخره استئناف جيء به بطريق الوعيد تعليلا للردع والدك قال الخليل كسر الحائط والجبل ونحوهما وتكريره للدلالة على الإستيعاب فليس الثاني تأكيد للأول بل ذلك نظير الحال في نحو قولك جاؤا رجلا رجلا وعلمته الحساب بابابابا أي
(30/127)

إذا دكت الأرض دكا متتابعا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور وغيرها حين زلزلت المرة بعد المرة وصارت هباء منثورا وقال المبرد الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية وندك سنام البعير إذا انقرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك والمعنى عليه إذا سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى صارت كالصخرة الملساء وأيا ما كان فهو على ما قيل عبارة عما عرض للأرض عند النفخة الثانية وجاء ربك قال منذر بن سعيد معناه ظهر سبحانه للخلق هنالك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة والصاخة وقيل الكلام على حذف المضاف للتهويل أي وجاء ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وتبين آثار قدرته عز و جل وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر لمحضوره من آثار الهيبة والسيامة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم وأن تتعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام والملك أي جنس الملك فيشتمل جمع ملائكة السماوات عليهم السلام صفاصفا أي مصطفين أو ذوي صفوف فإنه قيل ينزل يوم القيامة ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم محدقين بالجن والإنس وقيل يصطفون بحسب أمكنة أمور تتعلق بهم وهو قريب مما ذكر وروي أن ملائكة كل سماء تكون صفا حول الأرض فالصفوف سبعة على ما هو الظاهر وقال بعض الأفاضل الظاهر أنالملك أعلم من ملائكة السماوات وغيرها وتعريفه للأستغراق وادعى أن اصطفافهم بحسب مراتبهم اصطفاف أهل الدنيا في الصلاة وظاهره أنه اصطفاف من غير تحديق ورأيت غير أثر في أنهم يصطفون محدقين وجيء يومئذ بجهنم قيل هو كقوله تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى على أن يكون مجيؤها متجوزا به عن إظهارها واختير أنه على حقيقته فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وفي رواية بزيادة حتى تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير وجاء في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فناجاه ثم قال النبي عليه الصلاة و السلام منكسر الطرف فسأله علي كرم الله وجهه تعالى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام بهذه الآية كلا إذا دكت الأرض الآية فقال له علي كرم الله تعالى وجهه كيف يجاء فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك فبينما هم كذلك غذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلو لا أنهم أدركوا فأخذوها لأحرقت من في الجمع وفي رواية لو لا أن الله تعالى حبسها لأحرقت السماوات والأرض وتأويل كل ما ذكر ونحوه مما ورد وحمله على المجاز لا يدعو إليه إلا استحالة الأنتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري غير مستحيل فيجوز أن تخرج وتنتقل من محلها في المحشر ثم تعود إليه والحال في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان يومئذ بدل من إذا دكت وظاهر كلام الزمخشري أن العامل فيه هو العاملنفسه في المبدل منه أعني قوله تعالى يتذكر الإنسان وهو قول قد نسب إلى سيبويه وفي البحر المشهور خلافه وهو أن البدل على نية تكرار العامل والظاهر عندي الول ويتذكر من الذكر ضد النسيان أي يتذكر الإنسان ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه أو بإحضار الله تعالى إياه في ذهنه وإخطاره له وإن لم يشاهد بعد أثرأ أو بمعاينة عينه بناء على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فتبرز بما يناسبها من الصور حسنا وقبحا أو من
(30/128)

التذكر بمعنى الاتعاظ أي يتعظ بما يرى من آثار قدرة الله عز و جل وعظيم عظمته تعالى وشأنه وقوله تعالى وأنى له الذكرى اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس بتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى لعدم وقوعه في أوانه وأني خبر مقدم والذكرى مبتدأ وله متعلق بما تعلق به الخبر أي ومن أين تكون له الذكرى وقد فات أوانها وقيل هناك مضاف محذوفأي وأنى له منفعة الذكرى ولا بد من تقديره لئلا يكون تناقض وقد علمت أن هذا يتحقق بما قرر أولا على أنه إذا جعل اختصاص اللام مقصارا على النافع استقام من غير تقدير ويكون إنكار أن تكون الذكرى له لا عليه وأما كونه حكاية لما عليه في الدنيا من عدم الأعتبار والأتعاظ فليس بشيء واستدل بالآية على أن التوبة من حيث هي توبة غير واجبة القبول عقلا كما زعم المعتزلة بناء على وجوب الأصلح عندهم وقيل في توجيهه أنه لو وجب قبولها لوجب قبول هذا التذكر فإنه توبة إذ هي كما بين محله في الندم على المعصية من حيث هي معصية والعزم على أن لا يعود لها إذا قدر عليها ولم يعتبر أحد في تعريفها كونها في الدنيا وإن كانت النافعة منها لا تكون إلا فيها وهذا التذكر هو الندم المذكور وقد صرح الضحاك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم بأنه توبة ولم تقبل لعدم ترتب المنفعة عليه التي هي من لوازم القبول واعترض بأن المعتزلة إنما يقولون بوجوب قبولها بشرط عدم رفع التكاليف وقيل إن تذكره ليس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما يعرب عنه تعالى يقول يا ليتني قدمت لحياتي ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الأستدلال فلا تغفل وهذه الجملة بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكرهفقيل يقول يا ليتني الخ واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة ومفعول قدمت محذوف فكأنه قال يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه أعمالا صالحة أنتفع بها وقيل للتعليل إلا أن المعنى يا ليتني قدمت أعمالا صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى ويجوز أن تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من المحرم وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالا صالحة وقت حياتي في الدنيا لأتنفع بها اليوم وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكنا من تقديم الأعمال الصالحة وأما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله عز و جل عند صرف قدرته الكاسبة وزعمه الزمخشري دليلا على الأستقلال ورد على المجبرة وهم عنده غير المعتزلة زعما منه المنافاة بين التمني والحجر وقد علمت أنه لا دلالة على ذلك وفي الكشف أن التمني قد يقع على المستحيل على أنه حالتئذ كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الأختيار بالكلية فيومئذ أي يوم غذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد الهاء إما لله عز و جل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عز و جل وكأنه قيل لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالا شائعا في مثل
وقد حيل بين العير والنزوان
وإن نظن إلا ظنا فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق للمفعول عن نكتة الكناية وأما للإنسان الموصوف والأضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذابا ووثاقا لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه
(30/129)

حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وخارجة عن أبي عمرو لا يعذب ولا يوثق بالبناء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للأنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب أما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى التسليم ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعكطاء وكذلك الوثاق وجوز أن يكون المعنى لا يحمل أعذاب الأنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد كقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى والعذاب عليه جار على المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أو أن التمكن والوجه الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى والمراد من أنه لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك فلا يلزم كونه أشد عذابا من إبليس ومن في طبقته ثم الظاهر أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل المراد به أمية ابن خلف وقيل أبي بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل أن الآية نزلت فيمن ذكر وأما القول بأن هذا المعذب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس بشيء إذ لا يقال له إنسان وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر لا للإنسان المذكور في قوله تعالى يومئذ يتذكر الإنسان الخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقرأ أبو جعفر وشيبة بخلاف عنه وثاقه بكسر الواو وقوله تعالى يا أيها النفس المطمئنة الخ حكاية لا حوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز و جل أثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها وذكر أنه على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أيتها النفس الخ إما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذلك القول عند تمام الحساب ولينظر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا ليتني قدمت لحياتي وهذه يقول الله تعالى لها يا أيتها النفس المطمئنة الخ وكأنه للإيذانبغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالأطمئنان بذلك لأنها لترقي بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى فإذا وصلت إليه عز و جل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤنها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا يمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلا وهو وجه حسن والأرتباط عليه أن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين ألا ترى إلى قوله تعالى إنما يتذكر أولوا الألباب وقيل هي الأمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان وأيد بقراءة أبي يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الأكثر وهي على هذا أيضا تقابل السابق المتحسر المتحزن وقرأ زيد على يا أيها بغير تاء وذكر صاحب البديع أن أيا قد تذكر مع المنادى المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك أنها كما لم تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث واعتبار النفس ههنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمئنة إرجعي أي من حيث حوسبت إلى ربك أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز و جل لك أولا وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفا في المحشر مخصوصا يكرمهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب
(30/130)

اقتضى أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي بتخلية القلب عن الأعمال والألتفات إليها والأهتمام بأمرها أتقبل أم لا أي ملاحظة ربك والأنقطاع إليه وترك الألتفات إلى ما سواه عز و جل كما كنت أو لا كان النفس المطمئنة لما دعيت للحساب شغل فكرها وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم بأمر الحساب وما ينتهي إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل أم لا فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييبو لقلبها بأن الأمر قد انتهى وفرغ منه وليس بعد الأكل خبر ونداؤها بعنوان الأطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع ولا تحجم والظاهر أنه على الأول لا يناسبها ولا يخفى ما في قوله سبحانه إلى ربك على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إلى راضية أي بما يؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال راضية بما نلتيه من خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك مرضية أي عند الله عز و جل وفل قيل المراد راضية عن ربك مرضية عنده وزعم أنه الأظهر واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر والوصفان منصوبان على الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة وذكر الحال الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى رضوان من الله أكبر فادخلي في عبادي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم وادخلي جنتي عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكان الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم ونكتة الألتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات وتعدي الدخول أولا بفي وثانيا بدونها قال أبو حيان لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الأستعمال بفي تقول دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعدم تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عبادة تعالى الصالحين والفاء تفسيرية واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودها بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى إن الذي فرض عليك القرآن لزادك إلى معاد على ما روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب مفتاح السعادة للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين وقيل المراد ارجعي إلى أمر ربك واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الرجوع وقيل المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقيل الحساب في نوع منه والفاء عليه قبل تفسيريه أيضا وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث فقيل النفس بمعنى الذات أيضا والمراد بالرب هو الله عز و جل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مرادا به الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون لها بعد وقيل للنفس بمعنى الروح والمراد بالرب الصاحب
(30/131)

وفسر بالجسد وباقي الآية على حالة أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار ثوابي وقيل المراد بالنفس والرب ما ذكر وقوله تعالى في عبادي على حذف مضاف أي فادخلي في أجساد عبادي وجاء هذا في رواية عن ابن عباس وابن جبير ولا يضر الإفراد أولا والجمع ثانيا لأنالمعنى على الجنس وقال ابن زيد وجماعة أن ذلك القول عند الموت وأيد بما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن جبير قال قرئت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا أيتها النفس المطمئنة الآية فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه إن هذا لحسن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أما أن الملك سيقولها لك عند الموت وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل ارجعي بالموت إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك مرضية عنده تعالى فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة وهذان الدخولان يعقبان الرجوع إلا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن أريد الدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عبادة تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي وجوز تعقيب الأمرين بلا تراخ أن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة وفي بعض الآثار إذا مات المؤمن أعطى نصف الجنة أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه إدخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منها ما يكملها فيكون سببا أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الوجه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال في الآية ارجعي إلى ربك هذا عنوا الموتورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي وقيل أن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية أن المؤمن إذا مات أرى منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى يا أيها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضيا عنك حتى يسألك منكر ونكير وقيل أنه في مواطن ثلاثة أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع وتفسر عليه بما ينطبق على الجميع وقيل يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذين ليس للشيطان عليهم سلطان بالإكثار من العمل الصالح وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الإمارة ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك وأرشدها سبحانه إلى ما فيه صلاحها ونجاتها ولا يخفى ما فيه فلا ينبغي أن يعد وجها وأيا ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها وإن أخرج ابن أبي حاتم من
(30/132)

طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس وقيل أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله بعد فتفسير النفس المذكورة بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يتحمل قول ابن عباس في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن مردويه هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على نحو ذلك وأشعرت الآية على بعض أوجهها بأن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت والخلاف في المسألة شهير وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند استعداد الأبدان لها وكذا أفلاطون وأصحابه وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ اليماني في عبدي على الأفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس وقالوا أن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية والمرضية وفسروا كلا بما فسروه فمن أراده فليرجع إليه في كتبهم وأنا أقول كما علم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الصحابة على ما أخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه اللهم أني أسأنك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك
سورة البلد
مكية في قول الجمهور بتمامها وقيل مدنية بتمامها وقيل مدنية إلا أربع آيات من أولها واعترض كلا القولين بأنه يأباهما قوله تعالى بهذا البلد قيل ولقوة الأعتراض ادعى الزمخشري الأجماع على مكيتها وسيأتي إن شاء الله تعالى أن في بعض الخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح وهي عشرون آية بلا خلاف ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال وأكل التراث أكلا لما ولم يحض على طعام المسكين ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة وإطعام في يوم ذي مسغبة وكذا لما ذكر عز و جل النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه ههنا لعض ما يحصل به الأطمئنان فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بهذا البلد أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغمورا غب مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد وقوله تعالى وأنت حل بهذا البلد على ما اختاره في الكشاف اعترض بين القسم وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الأستهلاك وإدماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم فكأنه قيل ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيدا ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك وفي تأكيد كون الإنسان في كيد بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبعث على أن يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم وجوز أن يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به وأما غيرك فلا وقال مجاهد أجله الله تعالى له عليه الصلاة و السلام ساعة من نهار وقال سبحانه له ما صنعتفيه من شيء فأنت في حل
(30/133)

لا تؤاخذ به وروي نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد والحسن والضحاك ولفظه يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل أن شئت أو دع وذلك يوم الفتح وقد قتل صلى الله تعالى عليه وسلم يومئذ عبد الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو برزة سعيد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلى الله تعالى عليه وسلم عنقه وهو متعلق بأستار الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من الوحي فارتد وشنع على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة و السلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضا كما هو مذكور في كتب السير ثم قال عليه الصلاة و السلام إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا ينفر صيدهاولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباس يا رسول الله إلا إلا ذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة و السلام إلا الأذخر وتقديم المسند إليه على هذا للأختصاص كما أشير إليه في خبر ابن عباس وحل على معنى الستقبال بناء على أن نزول السورة قبل الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الأستقبال لكن الجمهور على الأول وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه بالقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة الأحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم البلد يدل على تعظيم من أحل له وفي الأقسام به توطئة للتسلية لأن تعظيم البلد تعظيم للساكن فيه وجوز أن يكون الحل على نحو ما ذكر في هذا الوجه لكن المعنى وأنت حل بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها والمعنى في الأقسام بالبلد تعظيمه وفي الأعتراض ترشيح التعظيم والتشريف بكون مثله صلى الله تعالى عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب النبوة ساكنا فيه مباينا عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان والمتمكن فيه كأنه قيل أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن فيه أن أهله لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره وقيل الحل صفة أو مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلا وحلولا ويقال أيضا هو حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول والحل بفتح الحاء والحلل فقط ناشيء من قلة التتبع والأعتراض لتشريفه صلى الله تعالى عليه وسلم بجعل حلوله عليه الصلاة و السلام مناطا لا عظام البلد بالقسام به وجعل بعض الأجلة الجملة على هذا الوجه حالا من هذا البلد وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلا أن الحال على ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة أو مقارنة إن قيل أن النزول ساعة أحلت مكة وجعلها ابن عطية حالا على الوجه الأول أيضا أعني كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده يكون لا نافية غير زائدة فتأمل وأيا ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من تعظيم البلد ما فيهما ووالد عطف على هذا البلد المقسم به وكذا قوله تعالى وما ولد والمراد بالأول آدم عليه السلام وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس ورواه أيضا عن مجاهد وقتادة وابن جبير وقيل المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته وقيل نوح عليه السلام وذريته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ادعى أنه ينبيء عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم إبراهيم ومنشأ إسماعيل ومسقط رأس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليهن أجمعين وقال الطبري
(30/134)

والماوردي يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره وما ولد أمته لقوله عليه الصلاة و السلام إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ولقراءة عبد الله وأزواجه أمهاتهم وهو أب ولهم وفي القسم بذلك مبالغة في شرفه عليه الصلاة و السلام وهو كما ترى وقيل المراد كل والد وولده من العقلاء وغيرهم ونسب ذلك لابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال الوالد الذي يلد وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء ونسب إلى ابن جبير أيضا فما عليه نافية فيحتاج إلى تقدير موصول يصح به المعنى الذي أريد كأنه قيل ووالد والذي ما ولد وإضمار الموصول في مثله ولا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذاالبلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه أو المشهور في ذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتنكير والد على ما اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد بما ولد العاقل لأرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدحوإنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى والله أعلم بما وضعت أي أي مولود عظيم الشأن وضعته والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم عليه السلام مثلا قيل باعتبارالتغليب وقيل باعتبار الكثرة وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل في شؤن الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية معظم يتعجب منه لقد خلقنا الإنسان في كبد أي في تعب ومشقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال كبد الرجل كبدا فهو أكبد إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشدائد كما قيل كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه يا عين هل بكيت أربد إذ
قمنا وقام الخضوم في كبد أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب وعن ابن عمر يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنها قالوا أي خلقناه منتصب القامة واقفا ولم نجعله منكبلا على وجهه وقال ابن كسيان أي منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول وقد رواه الحاكموصححه وجماعة عن ابن عباس عن غير واحد من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلقناه في مرض شاق وهو مرض القلب وفساد الباطن وهذا على الوجه الثالث من الأوجه الأربعةالسابقة في قوله تعالى لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد والمراد بالأنسان عليه الذين علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات والظاهر أنالمراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقا وقال ابن زيد بالإنسان آدم عليه السلام وبالكبد السماء وشاع في وسط السماء كالبيداء والكبيداة والكبداء والكبد بفتح فسكون وليس بشيء أصلا والضمير في قوله تعالى أيحسب على ما عدا ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق ممكن يكابد منه صلى الله تعالى عليه وسلم مايكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه الصلاة و السلام وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجحمي وكان شديد القوة مغترا بقوته يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبن عشرة فينقطع قطعا ويبقى موضع قدميه وقيل عمرو بن عبدود وقيل الوليد بن المغيرة وقيل أبو جهل بن هشام وقيل الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل وجعل عصام الدين الاستفهام
(30/135)

للتعجيب على معنى أيظن أن لن يقدر عليه أي على الأنتقام منه ومكافأته بما هو عليه أحد مع أنه ذلا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وإن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم إيمان بالقيامة يقول أهلكت مالا لبدا أي كثيرا من تلبد الشيء إذا اجتمع أي يقول ذلك وقت الأغترار فخرا ومباهاة وتعظما على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الأنفاق بالإهلاك إظهارا لعدم الأكتراث وأنه لم يفعلذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعا وقيل ذلك إظهارا لشدة عداوته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مربدا بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة و السلام وقيل يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة و السلام فعن مقاتل أن الحرث بن نوفل كان إذا أذنب استقتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة و السلام بالكفارة فقال لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل المراد ما تقدم أولا إلا أن هذا القول وقت الأنتقام منه وذلك يوم القيامة والتعبير عن الأنفاق بالأهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ وقرأ أبو جعفر لبدا بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي لبدا بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزناد لبدا بضم اللام والباء أيحسب أن لم يره أحد أي حين كان ينفق ما ينفق رئاه الناس أو حرصا على معاداته صلى الله تعالى عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيبا فهو عز و جل يسأله عنه ويجازيه عليه وفي الحديث لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به وجوز أن يكون المعنى إن لم يجده أحد على أن المراد بالرؤية الوجدان اللازم له ولم بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئا فقال تعالى أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل انفق أو لم ينفق بل رآه عز و جل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته والأطلاع على حاله بقوله جل وعلا ألم نجعل له عينين يبصر بهما ولسانا يفصح به عما في ضميره وشفتين يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء وبدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في البحر وهديناه النجدين أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروي عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس فريقان منهم جازع بطن نخلة
وآخر منهم قاطع نجد كبكب وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والأمتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبين له تعالى شأنه ما أن سلكه نجا وما أن سلكه هلك ولا يتوقف الأمتنان على سلوك طريق الخير وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدة ظاهر بخلاف سبيل الشرفان فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان روي ذلك عن ابن المسيب أي ثدي الأمام كالطريقين لحياة الولد ورزقه والأرتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهما كالغور والعرب تقسم بثديي الأم فتقول أما ونجديها ما فعلت ونسب هذا التفسير لعلي كرم الله
(30/136)

تعالى وجهه أيضا والمذكور في الدر المنثور من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا في مجمع البيان أنه كرم الله تعالى وجهه أم أناسا يقولون إن النجدين الثديان فقال لا هما الخير والشر ولعل القائل بذلك رأى أن للفظ يحتمله مع ظهور الأمتنان عليه جدا فلا اقتحم العقبة الأقتحام الدخول بسرعة وضغط وشده ويقال قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير روية والعقبة الطريق الوهر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعودا والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات المراد به الفعل والكسب ترشيح ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاما وصعودا شاقا وذكره بعد النجدين جعل الأستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه وقوله تعالى وما أدراك ما العقبة أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم لشأن العقبة المفسرة بقوله سبحانه فك رقبة الخ وتفسيرها بذلك بناء على الأدعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح التفسير أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك الخ وقال بعضهم يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه وما أدراك الخ لأنه بمنزلة ما أدراك ما الشكر فك رقبة وهو كما ترى وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي رواية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال بلغني أن العقبة التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالأقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك الخ وجعل الفك وما عطف عليه نفس الأقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكؤد يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله وفي التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الأنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه وما أدراك ما العقبة فسرها جل شأنه الرقبة والإطعام انتهى نعم أنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيرا للآية رواية مرفوعة والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر فيا رب مكروب كررت وراءه
وعان فككت الغل منه ففداني وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفراء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف الرقبة بالإعتاق وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن أعرابيا قال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال أعتق النسمة وفك الرقبة قال أو ليسا بواحد قال لا أن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها الحديث وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققا من باب أولى ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه وجاء في فضل الإعتاق أخبار كثيرة منها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم
(30/137)

عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها منه من النار حتى الفرج بالفرج وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام وعن الشعبي تفضيل العتق أيضا على الصدقة على ذي القرابة فضلا عن غيره وقال الإمام في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى أو إطعام في يوم ذي مسغبة مصدر ميمي السغب قال أبو حيان وهو الجوع العام وقد يقال سغب الرجل إذا جاع وقال الراغب هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب وليل نائم ذو نوم ونهار صائم ذو صوم يتيما ذا مقربة أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضا من قرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى قال الزجاج وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر قال يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
وذو قرابته في الحي مسرور وفيه بحث وفي إطعام هذا جمع بين الصدقة والصلة وفيهما من الأجر ما فيهما وقيل أنه لا يخص القريب نسبا بل يشمل من له قرب بالجوار أو مسكينا ذا متربة أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فاستغنى وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراث في الكثرة كما قيل أثرى وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لايقيه من التراب شيء وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعدا على التراب لا يبيت له وهو قريب مما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا هو الذي ماواه المزابل فإن صح لا يعدل عنه وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيدا من وطنه وهو بعيد والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على ما في البحر للتنويع وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تنعالى فلا صدق ولا صلى وقول الحطيئة وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا وشذ قوله لا هم إن الحرث بن جبله
جنى على أبيه ثم قتله وكان في جاراته لا عهد له
فأي أمر سيء لا فعله وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظأ أو معنى وهي هنا مكررة معنى لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه تفسير الأقتحام فيكون فلا اقتحم العقبة في معنى فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما الخ وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال أن العموم فيه قائم مقام التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمرو لأنه في معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو وتبعه بعضهم وقال الزجاج والفراء يجوز أن يكون منه قوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا فإنه عطف على المنفي أعني اقتحم فكأنه قيل فلا اقتحم ولا آمن ولا يلزم منه كون الإيمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءا أشرف خص بالذكر عطفا فجاءت صورة التكرار ضرورة إذا الحمل هلى غير ذلك
(30/138)

مفسد للمعنى ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه وقيل أن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير وقيل لا مخفف ألا للتحضيض كهلا فكأنه قيل فهلا اقتحم أو الأستفهام محذوف والتقدير أفلا اقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم وفيه أنه يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الأستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد الرمل والحصى والتراب وقولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام بشيء لظهور كان تحت النفي واتصال الكلام عليه قيل الكلام أخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الأخبار عن حاله في الأستقبال لكي لتحقق الوقوع عبر بالماضي ونقل الطيبي عن أبي علي الفارسي عدم وجوب تكريرها رادا على الزجاج في زعمه ذلك وقال هي كلم والتكرار في نحو فلا صدق ولا صلى لا يدل على الوجوب كما في لم يسرفوا ولم يقتروا وعلى عدم التكرار جاء قول أمية السابق إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم وقرأ ابن كثير والنحويان فك فعلا ماضيا رقبة بالنصب أو أطعم فعلا ماضيا وعلى هذه القراءة ففك مبدلة من اقتحم وما بينهما اعتراض ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز و جل وقرأ أبو رجاء كذلك إلا أنه قرأ ذا مسبغة بالألف على أن ذا منصوب على المفعولية بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنسانا ذا مسبغة يتيما بدلا منه أو صفة له وقرأ هو أيضا والحسن أو إطعام في يوم ذا بالألف أيضا على أنه مفعول به للمصدر وقرأ بعض التابعين فك رقبة بالإضافة أو أطعم فعلا ماضيا وهو معطوف على المصدر لتأويله به والتراخي المفهوم من ثم في قوله تعالى ثم كان الخ رتبي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقبل بكونه للنجاة وشكرا بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه وقوله سبحانه وتواصوا بالصبر عطف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به والصبر على المعاصي وعلى المحن التي يبتلى بها الإنسان وتواصوا بالمرحمة أي بالرحمة على عباده عز و جل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف وذكر أن تواصوا بالصبر إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى وتواصوا بالمرحمة إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمر إن أصدق مع الحق وخلق مع الخلق أولئك إشارة إلى أن الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد معقرب المشار إليه لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة أصحاب الميمنة أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم والذين كفروا بآياتنا بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن هم أصحاب المشئمة أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم عليهم نار عظيمة مؤصدة مطبقة من أصدت
(30/139)

الباب إذا غلقته وأطبقته وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد وظاهر كلام ابن عباس عدم الأختصاص بهم ومن ذلك قول الشاعر تحن إلي أجبال مكة نافتي
ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضا وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزا وقرأ غير واحد من السبعة مؤصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت وقيل يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال الشاعر قوما يعالج قملا أبناؤهم
وسلاسلا ملسا وبابا مؤصدا والمراد مغلقة أبوابها وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه الأنسب بما سيق له الكلام والأوفق بالغرض والمرام ولذا جيء بضمير الفصل معهم لأفادة الحصر واعتبروا غيبا كأنهم بحيث لا يصلحون بوجه منالوجوه لأن يكونوا مشارا إليهم ولم يسلك نحو هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين ونقل عن الشمني أنه قال الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والأتيان بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به أكمل تمييز كقوله هذا أبو الصقر فردا في محاسنه
من نسل شيبان بين الضال والمسلم ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل رفعة محل المشار به إليه منزلة بدع درجته فاسم الإشارة للتعظيم والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى وفيه أن اسم الإشارة كما يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى فذلك الذي يدع اليتيم وكمال الشهرة كما يكون في الخير يكون في الشر فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة في الشر وبالجملة ما ذكروه ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى فتدبر
سورة الشمس
مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي والمدني الأل وخمس عشرة في الباقية ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وفي هذه فألهمها فجورها وتقواها وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى وهديناه النجدين على أول التفسيرين وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في الآخرة وختم جل وعلا هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
والشمس وضحاها أي ضوئها كما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس والمراد إذا أشرقت وقام سلطانها وقال بعض المحققين حقيقة الضحى تباعد الشمس عن الأفق الشرقي المرئي وبروزها للناظرين ثم صار حقيقة وقته ثم أنه قيل لأول الوقت ضحوة ولما يليه ضحى ولما بعده إلى قريب الزوال ضحاء بالفتح والمد فإذا أضيف إلى الشمس فهو مجاز عن إشراقها كما هنا ونقل عن المبرد أن الضحى مشتق من الضح وهو نور الشمس والألف مقلوبة من الحاء الثانية وكذلك الواو من ضحوة مقلوبة منها وتعقبه أبو حيان بقوله لعله مختلق عليه لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق أحدهما من الأخرى وأجيب بأنه لم يرد الأشتقاق الصغير ولا يخفى حاله على الصغير والكبير وعن مقاتل أن ضحاها حرها وهو تفسير باللازم وعن مقاتل به النهار كله وفيه أنه تعالى أقسم به بعيد ذلك والقمر إذا تلاها أي تبعها فقيل باعتبار طلوعه وطلوعها أي إذا تلا طلوعه طلوعها بأن طلع من الأفق الشرقي بعد
(30/140)

طلوعها وذلك أول الشهر فإن الشمس إذا طلعت من الأفق الشرقي أول النهار يطلع بعدها القمر لكن لا سلطان له فيرى بعد غروبها هلالا ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وصف له بابتداء أمره فكما أن الضحى كشباب النهار فكذا غرة الشهر كولادته وقيل باعتبار طلوعه وغروبها أي إذا تلا طلوعه غروبها وذلك في ليلة البدر رابع عشر الشهر فإنه حينئذ في مقابلة الشمس والبعد بينهما نصف دور الفلك فإذا كانت في النصف الفوقاني منه أعني ما يلي رؤسنا كان القمر فيالتحتاني منه أعني ما يلي أقدامنا فإذا غربت طلع من الأفق الشرقي وهو المروي عن قتادة وقولهم سمى بدرا لأنه يسبق طلوعه غروب الشمس فكأنه بدرها بالطلوع لا ينافيه لأنه مبني على التقريب ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وقت ظهور سلطانه فيناسب تعظيم شأنه وقال ابن زيد تبعها في الشهر كله ففي النصف الأول تبعها بالطلوع وفي الآخر بالغروب ما ذكر في القولين وقيل المراد تبعها في الإضافة بأن طلع وظهر مضيئاعند غروبها آخذا من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر فإنه فيه يأخذ كل ليلة منه قدرا من النور بخلافه في النصف الثاني وهو مروي عن ابن سلام واختاره الزمخشري وقال الحسن والفراء كما في البحر أي تبعها في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك وأنكر بعض الناس ذهاب أحد من السلف إلى أن نور القمر مستفاد منضوء الشمس وزعم أنه رأى المنجمينلا غير وما ذكر حجة عليه والحجة عن أصل المسألة أظهر من الشمس وهي اختلاف تشكلاته النورية قربا وبعدا منها مع ذهاب نوره عند حيلولة الأرض بينه وبينها وكون الأختلاف لاحتمال أن يكون أحد نصفيه مضيئا والنصف الآخر غير مضيء وأنه يتحرك على محوره حركة وضعية حتى يرى كل نصف منهما تدريجا وكون ذهاب النور عند الحيلولة لاحتمال حيلولة جسم كثيف بيننا وبينه لا نراه أضعف من حبال القمر كما لا يخفى وقال الزجاج وغيره تلاها معناه امتلأ واستدار فكان تابعا لها في الأستدارة وكمال النور والنهار إذا جليها أي جلى النهار الشمس أي أظهرها فإنها تنجلي وتظهرإذا انبسط النهار ومضى منه مدة فالأسناد مجازي كالأسناد في نحو صارم نهاره وقيل الضمير المنصوبيعود على الأرض وقيل على الدنيا والمراد بها وجه الأرض وما عليه وقيل يعود على الظلمة وجلاها حينئذ بمعنى أزالها وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به والأول أولى الذكر المرجع واتساق الضمائر وجوز بعضهم أن يكون الضمير المرفوع المستتر في جلاها عليه عائدا على الله عز و جل كأنه قيل والنهار إذا جلى الله تعالى الشمس فيكون قد أقسم سبحانه بالنهار في أكمل حالاته وهو كما ترى والليل إذا يغشاها أي الشمس فيغطي ضوءها والإسناد كما مر وقيل أي الأرض وقيل أي الدنيا وجيء بالمضارع هنا دون الماضي كما في السابق بأن يقال إذا غشيها قال أبو حيان رعاية للفاصلة ولم يقل غشاها لأنه يحتاج إلى حذف أحد المفعولين لتعديه إليهمافإنه يقال غشيته كذا كما قال الراغب كذا قيل وقال بعض الأجلة جيء بالمضارع للتنبيه على استواء الأزمنة عنده تعالى شأنه وقال الخفاجي الأولى أن يقال المراد بالليل الظلمة الحادثة بعدمالضوء لا العدم الأصلي والظلمة الأصلية فإن هذه أظهر في الدلالة على القدرة وهي مستقبلة بالنسبة لما قبلها فلا بد من تغيير التعبير ليدلعلى المراد واستصعب الزمخشري الأمر في نصب لإإذا بأن ما سوى الواو الأولى إن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين كعطف النهار مثلا على الشمس المعمول لحرف القسم وعطف الظرف أعني إذا في إذا جلاها على نظيرتها في إذا أتلاها المعمولة لفعل القسم وإن كانت قسمية لزم اجتماع المقسمات المتعددة على جواب واحد وقد استكرهه الخليل وسيبويه وأجاب باختيار الشق الأول ونفي ما لزمه فقال إن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحا كليا فكان لها شأن
(30/141)

خلاف شأن الباء حيث أبرز معها الفعل تارة وأضمر أخرى فكانت الواو قائمة مقام فعل القسم وباؤه سادة مسدهما والواوات والعواطف نوائب عن هذه الواو فهي عاملة الجر وعاملة النصب فالعطف من قبيل العطف على معمولي عامل واحد وهذا كما تقول ضرب زيدا عمرا وبكر خالدا فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها انتهى وأنت تعلم أن أول الواوات العواطف ههنا ليس معها ما تعمل فيه النصب فلعله أراد أنها تعمل ذلك إن كان هناك منصوب أو هي عاملة باعتبار أن معنى والشمس وضحاها والشمس وضوئها إذا أشرقت وفيه أيضاأنه لم يقل أحد بأن الحروف العواطف عوامل وأيضا الأشكال مبني على امتناع العطف على معمولي عاملين مطلقا حتى لو جوز مطلقا أو بشرط كون المعطوف مجرورا على ما ذهب إليه جمع كما في قولك في الدار زيد والحجرة عمرو لم يكن إشكال وأيضا هو مبني على قبول هذا الأستكراه وعدم إمكان التخلصمن الأجتماع بتقدير جواب لكل من المقسمات حتى إذا لم يقبل أوقبل وقدر لكل جواب لم يبق إشكال وأيضا هو مبني على أن إذا ظرفية وهو ممنوع لجواز أن تكون قد تجردت عن الظرفية وحينئذ تكون بدلا مما بعد الواو كما قيل في قوله وبعد غد يا لهف نفسي من غد
إذا راح أصحابي ولست برائح إن إذا بدل من غد وعلى تسليم أنها ظرفية يجوز أن يقدر مع كل مضاف تتعلق به كان يقدر وتلو القمر إذا تلاها وتجلية النهار إذا جلاها وغشيان الليل إذا يغشاها أو تجعل متعلقة بمحذوف وقع حالا مقدرة مما تليه أي أقسم بالقمر كائنا إذا تلاها وبالليل كائنا إذا جلاها كما زعمه بعضهم وفيه بحث أيضا يرد على الزمخشري مثل قوله تعالى والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس لأن الواو هنالك عاطفة وقد تقدم صريح فعل القسم كما ذكره الشيخ ابن الحاجب على أن التحقيق كما قال بعض المحققين أن الظرف ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذا التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الأقسام بالشيء إعظام له فكأنه أقسم بعظمة زمان كذا وما قيل عليه من أن إقسامه تعالى بشيء مستعار لأظهار عظمته وإبانة شرفه فيجوز تقييده باعتبار جزء المعنى المراد يعني الإظهار وأيضا إذا كان الإقسام إعظاما لغا تقديره فلو سلم فالإستعارة إما تبعية أو تمثيلية وعلى كل حال فليس ثمت ما يكون متعلقا بحسب الصناعة والتقدير ليتعلق به ما أريد منه مؤكدافلا لغوية والسماء وما بنيها أي ومن بناها وإيثار ما على من لأرادة الوصفية تفخيما على ما تقدم في وما ولد كأنه قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤهما والمراد به إيجادها بحيث تدل على ذلكط ويستدل بها عليه وهو أولى من تفسيره ببانيها لأشعاره بالمراد من البناء وكذا الكلام في قوله تعالى والأرضوما طحيها أي بسطها من كل جانب ووطأها كدحاها ويكون طحا بمعنى ذهب كقول علقمة طحا بك قلب في الحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب وبمعنى أشرف وارتفع ومن إيمانهم لا والقمر الطاحي ويقال طحا يطحو وطحوا وطحى يطحي طحيا وقوله سبحانه ونفس وما سويها أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالها وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة والباطنة والتنكير للتكثير وقيل للتفخيم على أن المراد بالنفس آدم عليه السلام والأول أنسب بجواب القسم الآتي ومن ذهب إلى ذلك جعله من الأستخدام وذهب الفراء والزجاج والمبرد وقتادة وغيرهم إلى أن ما في المواضع الثلاث مصدرية أي
(30/142)

وبنائها وطحوها وتسويتها وتعقبه الومخشري بأنه ليس بالوجه لقوله تعالى فألهمها فجورها وتقواها وما يؤدي إليه من فساد النظم وذلك على ما في الحواشي لما يلزم من عطف الفعل على الأسم وأنه لا يكون له فاعل لا ظاهر وهو ظاهر ولا مضمر لعدم مرجعه واعترض بأن الأخير منتقض بالأفعال السابقة أعني بناها طحاها سواها على أن دلالة السياق في صحة الإضمار وأما الأول ففيه أن عطف الفعل على الأسم ليس بفاسد وإن كان خلاف الظاهر على أنه عطف على ما بعد ما كانه قيل ونفس وتسويتها فألهامها فجورها وتقواها واعترض هذا بأن الفاء يدل على الترتيب من غير مهملة والتيوية قبل نفخ الروح والإلهام بعد البلوغ وأجيب بأن التسوية تعديل الأعضاء والقوى ومنها المفكرة والإلهام عبارة عن بيان كيفية إستعمالها في النجدين في هذا المحل وهو غير مفارق عنه منذ سوى نعم يزداد بحسب ازدياد القوى كيفية لا وجود على أن المهملة في نحوها عرفي وقد يعد متعقبا دون تراخ ثم أنه مشترك الألزام ولا معنى لقول الطيبي النظم السري يوجب موافقة القرائن فلا يجوز وتنفس وتسويتها فألهمها الله فهي حاصلة وإنما ذلك بناء على توهم أن قوله تعالى فألهمها جملة وبالجملة لا يلوح فساد هذا الوجه وأبي القاضي عبد الجبار إلا المصدرية دون المصدرية قال لما يلزم منها الأقسام بغير الله تعالى على إقسامه سبحانه بنفسه عز و جل وأجاب عنه الإمام بأن أعظم المحسوسات الشسمس فذكرها الله تعالى مع أوصافها الدالة على عظمتها ثم ذكر ذاته المقدسة ووصفها جل وعلا بصفات ثلاث ليحظى العقل بإدراك جلال الله تعالى وعظمته سبحانه كما يليق به جل جلاله ولا ينازعه الحس فكان ذلك طريقا إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بيداء أو بكبريائه جل شأنه وجوز أن تكون ما عبارة عن الأمر الذي ينيب السماء وطحيت وسويت النفس من الحكم والمصالح التي لا تحصى ويكون إسناد الأفعال إليها مجازا وفاعل ألهمها يجوز أن يكون ذلك أمر ويكون الإسناد مجازا أيضا وهو كما ترى والفجور والتقوى على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن الضحاك المعصية والطاعة مطلقا قلبيين كانا أو قالبيين وألهمهما النفس على ما أخرج هو وابن جرير وجماعة عن مجاهد تعريفهما إياها بحيث تميز رشدها ضلالها وروي ذلك عن ابن عباس كما في البحر وقريب منه قول ابن زيد ألهمها فجورها وتقواها بينهما لها وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهما نحوه عن قتادة والآية على ذلك نظير قوله تعالى وهديناه النجدين وقدم الفجور على التقوى لأن إلهامه بهذا المعنى من مباديء تجنبه وهو تخلية والتخلية مقدمة على التحلية وقيل قدم مراعاة للفواصل إلى ضمير النفس قيل إشارة إلى أن الملهم للنفس فجوز وتقوى قد استعدت لهما فهما لها بحكم الأستعداد وقيل رعاية للفواصل أيضا وقوله تعالى قد أفلح من زكيها جواب القسم على ما أخرجه الجماعة عن قتادة وإليه ذهب الزجاج وغيره وحذف اللام كثير لا سيما عند الكلام المقتضي للتخفيف أو لسده مسدها وفاعل زكاها ضمير من والضمير المنصوب للنفس وكذا في قوله تعالى وقد خاب من دسيها وتكرير قد لأبراز الأعتناء بتحقيق مضمونه والإيذان بتعلق القسم به أصالة والتزكية التنمية والتدسية والأخفاء وأصل دسى دسس فأبدل من ثالث التماثلات ياء ثم أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأطلق بعضهم فقال أبدل من ذلك حرف علة كما قالوا في تقضض تقضي ودسس مبالغة في دس بمعنى أخفى قال الشاعر ودسست عمرا في التراب فأصبحت
حلائله منه أرامل ضيعا وفي الكشاف التزكية الإنماء والإعلاء والتدسية النقص والإخفاء أي لقد فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنمى نفسه وأعلاها بالتقوى علما وعملا ولقد خسر من نقصها وأخفاها بالفجور
(30/143)

جهلا وفسوقا وجوز أن تفسر التزكية بالتطهير من دنس الهيولي والتدسية بالإخفاء فيه والتلوث به وأيا ما كان ففي الوعد والوعيد المذكورين مع إقسامه تعالى عليهما بما أقسم به مما يدل على العلم بوجوده تعالى ووجوب ذاته سبحانه وكمال صفاته عز و جل ويذكر عظائم آلائه وجلائل نعمائه جل وعلا من اللطف بعباده ما لا يخفى وقوله تعالى كذبت ثمود بطغويها استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى وقد خاب من دساها وجعل الزمخشري قوله تعالى قد أفلح الخ تابعا لقوله تعالى فألهمها الخ على سبيل الأستطراد وأبى أن يكون جواب القسم وجعل الجواب محذوفا مدلولا عليه بهذا كأنه قيل ليدمدمن الله تعالى على كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام فقيل إن ذلك لما يلزم من حذف اللام وأنه لا يليق بالنظم المعجز أن يجعل أدنى الكمالين أعني التزكية لاختصاصها بالقوة العملية المقصود بالأقسام ويعرض عن أعلاهما أعني التحلية بالصقائد اليقينية التي هي لب الألباب وزبدة ما مخضته الأحقاب ولو سلم عدم الأختصاص فهي مقدمة التحلية في البابين وأما حذف المقسم عليه فكثير شائع لا سيما في الكتاب العزيز وتعقب بأن حذف اللام كثير لاسيما مع الطول وهو أسهل من حذف الجملة بتمامها وقد ذكره في قد أفلح المؤمنون فما حدا مما بدا وأن التزكية مرادا بها الإنماء لا اختصاص لها وليست مقدمة بل مقصودة بالذات ولو سلم فلا مانع من الأعتناء ببعض المقدمات أحيانا لتوقف المقاصد عليها فتدبر وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال في فألهمها ألزمها وأخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا وعلى ذلك قال الواحدي وصاحب المطلع الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان فإذا أوقع سبحانه في قلب عبد شيئا منهما فقد ألزمه سبحانه ذلك الشيء ويزيد ذلك قوة ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت الحجة عليهم فقال عليه الصلاة و السلام لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لقدرة العبد واختياره مدخل في الفجور والتقوى بالكلية وإن قيل ما له إلى خلق الله تعالى إياهما ليقال يأباه حينئذ قوله تعالى قد أفلح من زكاها الخ حيث جعل فيه العبد فاعل التزكية بالتقوى والتدسية بالفجور لأن الإسناد يقتضي قيام المسند ويكفي فيه المدخلية المذكورة ولا يتوقف صحة الإسناد حقيقة إلى العبد على كون فعله الإيجاد فالأستدلال بهذا الإسناد على كونه متمكنا من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى وإيجاده إياه بقدرة مستقلة فيه على خلاف ما يقوله الجماعة ليس بشيء على أن الضمير المستتر في زكاها وكذا في دساها الله عز و جل والبارز لمن بتأويل النفس فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك يقول الله تعالى قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه فهداه وقد خاب من دسى الله تعالى نفسه فأضله بل أخرج عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي أنه قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في قوله تعالى قد أفلح من زكاها الآية أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس خيبها الله تعالى من كل خير وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وفي رواية الطبراني وغيره عن ابن عباس أنه عليه الصلاة و السلام إذا تلا الآية وقف وقال ذلك ولهذه الأخبار ونحوها قال بعضهم أن ذلك هو
(30/144)

المرجح ورجحه صاحب الانتصاف بأن الضمائر في السماء وما بناها الخ تكون عليه متسقة عائدة كلها إلى الله تعالى وبأن قوله تعالى قد أفلح من تزكى أوفق به لأن تزكي مطاوع زكي فيكون المعنى قد أفلح من زكاه الله تعالى فتزكى ومع هذا كله لا ينبغي أن ينكر أن المعنى هو السابق إلى الذهن وما ذكر من الأخبار ليس نصا في تعيين المعنى الآخر نعم هو نص في تكذيب الومخشري في زعمه أنه من تعكيس القدرية يعني بهم أهل السنة والجماعة فتأمل والطغوى مصدر من الطغيان بمعنى تجاوز الحد في العصيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الأسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا في الصفة امرأة صديا وخزياوفي الاسم تقوى وطغوى كذا في الكشاف وغيره وكلام الراغب يدل على أن طغى واوي ويأبى حيث قال يقال طغوت وطغيت طغوانا وطغيانا فلا تغفل والباء عند الجمهور للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول ظلمني الخبيث بجرائته على الله تعالى وجعلها الزمخشري للأستعانة والأمر سهل وجوز أن تكون صلة للتكذيب على معنى كذبت بما أوعدت به في لسان نبيها من العذاب ذي الطغوى أي التجاوز عن الحد والزيادة ويوصف العذاب بالطغيان بهذا المعنى كما في قوله تعالى فأهلكوا بالطاغية وقد يوصف بالطغوى مبالغة كما يوصف بسائر المصادر لذلك فلا يكون هناك مضاف محذوف وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة طغواها بضم الطاء وهو مصدر أيضا كالرجعي والحسني في المصادر إلا أنه قيل كان القياس الطغيا كالسقيا لأن فعلى بالضم لا يقرق فيه بين الأسم والصفة كأنهم شذوا فيه فقلبوا الياء واوا وأنت تعلم أن الواو عند من يقول طغوت أصلية إذ انبعث متعلق بكذبت أو بطغوى وانبعث مطاوع بعثه بمعنى أرسله والمراد إذ ذهب لعقر الناقه أشقيها أي أشقي تمود وهو قدار بن سالف أو هو ومن تصدى معه لعقرها من الأشقياء اثنان على ما قال الفراء أو أكثر فإن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به ولخبائث غير ذلك يعلمها الله تعالى فيهم هي فوق خبائث من عداهم فقال لهم أي لثمود أو لأشقانا على ما قيل بناء على أن المراد به جمع ولا يأباه وسقياها كما لا يخفى رسول الله هو صالح عليه السلام وعبر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعته وبيانا لغايه عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في قوله سبحانه ناقة الله وهو نصب على التحذير وشرطه ليس المحذر منه أو كونه محذرا بما يعده فقط ليقال هو منصوب بتقدير ذروا أو احذروا لا على التحذير بلى شرطه ذاك أو العطف عليه كما هنا على ما نص عليه مكي والكلام على حذف مضاف أي احذروا عقر ناقة الله أو بالمعنى على ذلك وإن لم يقدر في نظم الكلام وجوز أن يكون التقدير عظموا أو ألزموا ناقة الله وليس بشيء وسقيها أي واحذروا سقياها فلا تتعرضوا بمنعها عنها في نوبتها ولا تستأثروا بها عليها وقيل الواو للمعية والمراد ذروا ناقة الله مع سقياها ولا تحولوا بينهما وهو كما ترى وقرأ زيد بن علي ناقة الله بالرفع فقيل أي همكم ناقة الله وسقياها فلا تعقروها ولا تستأثروا بالسقيا عليها فكذبوه أي في وعيده إياهم كما حكى عنه بقوله تعالى ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فالتكذيب لخبر مقدر ويجوز أن يكون لخبر تضمنه الأمر التحذيري السابق وهو الخبر بحلول العذاب إن فعلوا ما حذرهم منه وقيل إن ما قاله لهم من الأمر قاله ناقلا له عن الله تعالى كما يؤذن بذلك التعبير عنه عليه السلام بعنوان الرسالة ومآل ذلك أنه قال لهم أنه قال الله تعالى
(30/145)

ناقة الله وسقياها فالتكذيب لذلك وهو وجه لا بأس به فعقروها أي فنحروها أو أو فقتلوها وضمير الجمع للأشقى وجمعه على تقدير وحدته لرضا الكل بفعله قال قتادة بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم فدمدم عليهم ربهم فأطبق عليهم العذاب وقالوا دمدم عليه القبر أي أطبقه وهو مما تكرر فيه الفاء فوزنه فعفل لا فعلل من قولهم ناقة مدمومة إذا لبسها الشحم وغطاها وقال في القاموس معناه أتم العذاب عليهم وقال مؤرخ الدمدمة إهلاك باستئصالوفي الصحاح دمدمت الشيء ألزقته بالأرض وطحطحته وقرأ أبن الزبير فدهدم بهاه بين الدالين والمعنى كما تقدم بذنبهم بسبب ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للأنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب فسويها الضمير للدمدمة المفهومة من دمدم أي فجعل الدمدمة سواء بينهم أو جعلها عليهم سواء فلم يفلت سبحانه منهم أحدا لا صغيرا ولاكبيرا أو هو لثمود والتأنيث باعتبار القبيلة في طغواها وأشقاها والمعنى ما ذكر أيضا أو فسواها بالأرض ولا يخاف أي الرب عز و جلعقبيها أي عاقبتها وتبعتها كما يخاف المعاقبون من الملوك عاقبة ما يفعلونه وتبعته وهو استعارة تمثيلية لأهانتهم وأنهم أذلاء عند الله جل جلاله والواو للحال أو للأستئناف وجوز أن يكون ضمير لا يخاف للرسول والواو للأستئناف لا غير على ما هو الظاهر ولا يخاف الرسول عقبى هذه الفعلة بهم إذ كانقد أنذرهم وحذرهم وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي الواو للحال والضمير عائد على أشقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه وهو أبعد مما قبله بكثير وقرأ أبي والأعرج ونافع وابن عامر فلا يخاف بالفاء وقريء ولم يخف بواو وفعل مجزوم بلم هذا واختلف في هؤلاء القوم هل آمنوا ثم كفروا أو لم يؤمنوا أصلا فالجمهور على الثاني وذهب بعض إلى أنهم آمنوا وبايعوا صالحا مدة ثم كذبوه وكفروا فأهلكوا بما فصل في موضع آخر وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في صفوفه أنهم وقوم لوط عليه السلام لا نجاة لهم يوم القيامة بوجه من الوجوه ولم يساو غيرهم من الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا كقوم نوح عليه السلام بهم ولكلامه قدس سره أهل يفهمونه فارجع إليهم في فهمه إن وجدتهم
وذكر بعض أهل التأويل أن الشمس إشارة إلى ذات واجب الوجود سبحانه وتعالى وضحاها إشارة إلى الحقيقة المحمدية والقمر إشارة إلى ماهية الممكن المستفيد للوجود من شمس الذات والنهار إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت به صفات جمال الذات وجلاله وكماله والليل إشارة إلى وجود ما يشاهد من أنواع الممكنات والساتر في أعين المحجوبين للوجود الحق والسماء إشارة إلى عالم العقل والأرض إشارة إلى عالم الجسم والنفس معملوة وناقة الله إشارة إلى راحلة الشوق الموصلة إليه سبحانه وسقياها إشارة إلى مشربها من عين الذكر والفكر وقال بعض آخر الشمس إشارة إلى الوجود الحق الذي هو عين الواجب تعالى فهو أظهر من الشمس الله نور السماوات والأرض وقال شيخ مشايخنا البندنيجي قدس سره ظاهر أنت ولكن لا ترى
لعيون حجبتها النقط وضحاها إشارة إلى أول التعينات بأي اسم سميته والقمر إشارة إلى الأعيان الثابتة المفاضة بالفيض الأقدس أو الشمس إشارة إلى الذات وضحاها إشارة إلى وجودها والإضافة للتغاير الأعتباري والقمر إشارة إلى أول التعينات والنهار إشارة إلى الممكنات المفاضة بالفيض المقدس والليل إشارة إليها أيضا باعتبار نظر المحجوبين أو النهار إشارة إلى صفة الجمال والليل إشارة إلى صفة القهر والجلال والسماء إشارة إلى عالم اللطافة وذكر النفس بعد دخولها في هذا العالم للأعتناء بشأنها والأرض إشارة إلى عالم الكثافة وناقة الله إشارة إلى الطريقة وسقياها
(30/146)

مشربها من عين الشريعة وقيل غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
سورة الليل
لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية واختلف في مكيتها ومدنيتها فالجمهور على أنها مكية وقال علي بن أبي طلحة مدنية وقيل بعضها مكي وبعضها مدني وكذا اختلف في سبب نزولها فالجمهور على أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وروي ذلك بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما وقال السدي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وذلك أنه كان في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض بلح فيأخذه منهم فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم دعها لهم ولك بدلها محل في الجنة فأبى فاشتراها أبو الدحداح بحائطها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أهبها لهم بالنخلة التي في الجنة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم افعل فوهبها فنزلت نحوه مطولا مبهما فيه أبو الدحداح ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند ضعيف كما نص عليه الحافظ السيوطي وذكر بعضهم أن قوله تعالى فيها وسيجنبها الأتقى الخ نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وسكت عما عداه ونقل عن بعض المفسرين أن هذا مجمع عليه وأن زعم بعض الشيعة أنه نزل في الأمير كرم الله تعالى وجهه وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ما له نزل ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قد أفلح الخ ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحضل به لخيبة ففيها نوع تفصيل لذلك لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
والليل إذا يغشى أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى والليل إذا يغشاها أو النهار كقوله تعالى يغشى الليل النهار أو كل ما يواريه في الجملة بظلامه والمقسم به في الأوجه الثلاث الليل كله والنهار إذا تجلى ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وانكشف بطلوع الشمس والأول على تقدير كون المغشي النهار أو كل ما يواري إذ مآلهما اعتبار وجود الظلام والثاني على تقدير كونه الشمس إذ مآله اعتبار غروبها فيحسن التقابل بين القرينتين على ذلك واختلاف الفعلين مضيا واستقبالا قد تقدم الكلام فيه وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير تتجلى بتائين على أن الضمير للشمس وقريء تجلى بضم التاء وسكون الجيم على أن الضمير لها أيضا وما خلق الذكر والأنثى أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من الحيوان المتصف بذلك وقيل من بني آدم وقال ابن عباس والحسن والكلبي المراد بالذكر آدم عليه السلام وبالأنثى حواء رضي الله تعالى عنها وأيا ما كان فما موصولة بمعنى من واوثرت عليها لأرادة الوصفية على ما سمعت وتحتمل المصدرية وليس بذاك وقريء والذي خلق وقرأ ابن مسعود والذكر والأنثى وتبعه ابن عباس كما أخرج ذلك ابن النجار في تاريخ بغداد من طريق الضحاك عنه ونسبت لعلي كرم الله تعالى وجهه وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من علقمة أنه قدم الشام فجلس إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال له أبو الدرداء فمن أنت فقال من أهل الكوفة قال كيف سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ والليل إذا يغشى قال علقمة والذكر والأنثى فقال أبو الدرداء أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ هكذا وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى والله لا أتابعهم وأنت تعلم أن هذه قراءة شاذة منقولة آحادا لا تجوز القراءة بها لكنها بالنسبة إلى من سمعها من النبي عليه الصلاة و السلام في حكم المتواترة نجوز قراءته بها وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ وما خلق الذكر بجر الراء وحكاها الزمخشري عن الكسائي وخرجوا ذلك على البدل من
(30/147)

ما بمعنى وما خلقه الله أي ومخلوق الله الذكر والأنثى قيل وقد يخرج على توهم المصدر بناء على مصدرية ما أي وخلق الذكر والأنثى كما في قوله تطوف العفاة بأبوابه
كما طاف بالبيعة الراهب بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر أي كطواف الراهب بالبيعة إن سعيكم أي مساعيكم فإن المصدر المضاف يفيد العموم فيكون جمعا معنى ولذا أخبر عنه بجمع أعني قوله تعالى لشتى فإنه جمع شتيت بمعنى متفرق ويجوز أن لا يعتبر سعيكم في معنى الجمع ويكون شتى مصدرا مؤنثا كذكرى وبشرى خبرا له بتقدير مضاف أي ذو شتى أو بتأويله بالوصف أي شتيت أو بجعله عين الأفتراق مبالغة وأيا ما كان فالجملة جواب القسم كما أخرجه ابن جرير عن قتادة وجوز أن يكون الجواب مقدرا كما مر مرة والمراد بتفرق المساعي اختلافها في الجزاء وقوله تعالى فأما من أعطى الخ تفصيل مبين لتفرقها واختلافها في ذلك وجوز أن يراد باختلافها كون البعض طالبا لليوم المتجلي والبعض طالبا لليل الغاشي وبعضها مستعانا بالذكر وبعضها مستعانا بالأنثى فيكون الجواب شديد المناسبة بالقسم ولا يخفى بعده وركاكته والظاهر أن المراد بالإعطاء بذل المال ومن هنا قال ابن زيد المراد إنفاق ماله في سبيل الله تعالى وقال قتادة المعنى أعطى حق الله تعالى وظاهره الحقوق المالية واتقى أي واتقى الله عز و جل كما قال ابن عباس وفي معناه قول قتادة واتقى ما نهى عنه وفي رواية محارم الله تعالى وقال مجاهد واتقى البخل وهو كما ترى وصدق بالحسنى أي بالكلمة الحسنى وهي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره وروي ذلك عن ابن عباس لا إله إلا الله أو هي ما دلت على حق كما قال بعضهم وتدخل كلمة التوحيد دخولا أوليا أو بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام وقال عكرمة وجماعة وروي عن ابن عباس أيضا هي المثوبة بالخلف في الدنيا مع المضاعفة وقال مجاهد الجنة وقيل المثوبة مطلقا ويترجح عندي أن الإعطاء إشارة إلى العبادة والأتقاء إشارة إلى ما يشمل سائر العبادات من فعل الحسنات وترك السيآت مطلقا والتصديق بالحسنى إشارة إلى الإيمان بالتوحيد أو بما يعمه وغيره مما يجب الإيمان به وهو تفصيل شامل للمساعي كلها وتقديم الإعطاء لما أنه سبب النزول ظاهرا فقد أخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه قال قال أبو قحافة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقيمون دونك فقال يا أبه إنما أريد ما أريد فنزلت فأما من أعطى واتقى إلى وما لا حد عنده من نعمة تجزى وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال أن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه فأنزل الله تعالى والليل إذا يغشى إلى قوله سبحانه إن سعيكم لشتى وكذا على القول بأنها نزلت في أبي الدحداح ولما كان الإيمان أمرا معتنى به في نفسه أخر عن الأتقاء ليكون ذكره بعده من باب ذكر الخاص بعد العام مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة وقيل المراد أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الدالة على الحق ككلمة التوحيد وفيه أن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وأمر تأخير الإيمان عليه بحاله وقيل أخر لأن من جملة إعطاء الطاعة الإصغاء لتعلم كلمة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلا بها ومن جملة الأتقاء الأتقاء عن الإشراك وهما متقدمان على ذلك وليس بشيء فسنيسره لليسرى فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها ووصفها
(30/148)

باليسرى إما على الإستعارة المصرحة أو المجاز المرسل أو التجوز في الإسناد وأما من بخل بما له فلم يبذله في سبيل الخير وقيل أي بخل بفعل ما أمر به وفيه ما فيه واستغنى أي وزهد فيما عنده عز و جل كأنه مستغن عنه سبحانه فلم يتقه جل وعلا أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى لأنه في مقابلة واتقى كما أن قوله تعالى وكذب بالحسنى في مقابلة وصدق بالحسنى والمراد بالحسنى فيه ما مر في الأقوال قبل فسنيسره للعسرى أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومباديه ووصفها بالعسرى على نحو ما ذكر وأصل التيسير من اليسر بمعنى السهولة لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر أعني ما يفضي إلى راحة وما يفضي إلى شدة في سنيسره قيل للتأكيد وقيل للدلالة على أن الجزاء الموعود معظمه يكون في الآخرة التي هي أمر منتظر متراخ وتقديم البخل فالأستغناء فالتكذيب يعلم وجهه مما تقدم وفي الإرشاد لعل تصدير القسمين بالإعطاء والبخل مع أن كلا منهما أدنى رتبة بعد في استتباع التيسير لليسرى والتعسير للعسرى للإيذان بأن كلا منهما أصيلفيما ذكر لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والأستغناء وقيل التيسير أولا بمعنى اللطف وثانيا بمعنى الخذلان واليسرى والعسرى الطاعة لكونها أيسر شيء على المتقي وأعسره على غيره والمعنى أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها من قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وأما من بخل فسندخله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد من قوله تعالى يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وأصل هذا فسنيسره للطاعة العسرى ثم أريد ما ذكر على أن الوصف هو المقصود بتعلق التيسير أعني لا الموصوف أعني الطاعة ومع هذا إطلاق التيسير للعسرى مشاكلة وجوز أن يراد باليسرى طريق الجنة وبالعسرى طريق النار وبالتيسير في الموضعين معنى الهداية وهو في الآخرة وعدا ووعيدا وأمر المشاكلة على حاله وجوز أن يراد بالتيسير التهيئة والأعداد واليسرى والعسرى الطاعة والمعصية ومباديهما منالصفات المحمودة والمذمومة وهو وجه حسن غير بعيد عن الأول وكلاهما حسن الطباق لما صح في الأخبار أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جنازة فقال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ عليه الصلاة و السلام فأما من أعطى واتقى الآيتين وكان حاصل ما أراده صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله اعملوا الخ عليكم شأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به وكلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها وأيا ما كان فالمراد بمن أعطى الخ وبمن بخل الخ المتصف بعنوان الصلة مطلقا وإن كان السبب إذا لعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب نعم هو قطعي الدخول وقيل من أعطى أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومن بخل أمية بن خلف وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أن الأول أبو بكر رضي الله تعالى عنه والثاني أبو سفيان بن حرب ونحوه عن عبد الله بن أبي أوفى وفي هذا نظر لأن أبا سفيان أسلم وقوي إسلامه في آخر أمره عند أهل السنة وفي رواية الطستي عنه أن وأما من بخل الخ نزل في أبي جهل ولعل كل ما قيل من التخصيص فهو من باب التنصيص على بعض أفراد العام لتحقق دخوله فيه عند من خصص وما يغني عنه ماله أي ولا يغني عنه على أن ما نافية أو أي شيء يغني عنه
(30/149)

ماله الذي يبخل به على أنها استفهامية إذا تردى أي هلك تفعل من الردى وهو الهلاك قاله مجاهد وقيل تردى في حفرة القبر وقال قتادة وأبو صالح تردى في جهنم أي سقط وقال قوم ترى بأكفانه من الرداء وهو كناية عن موته وهلاكه إن علينا للهدى استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أي ندلهم ونرشدهم إلى الحق أو أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه من طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مريد عليه فلا يتم الأستدلال بالآية على الوجوب عليه عز و جل بالمعنى الذي يزعمه المعتزلة وقيل المراد أن الهدى موكول علينا لا على غيرنا كما قال سبحانه إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وليس المعنى أن الهدى يجب علينا حتى يكون بظاهره دليلا على وجوب الأصلح عليه تعالى عن ذلك علوا كثيرا وفيه أن تعلق الجار بالكون الخاص أعني موكولا خلاف الظاهر ومثله ما قيل أن المراد أن علينا طريقة الهدى على معنى أن من سلك الطريقة المبينة بالهدى والإرشاد إليها يصل إلينا كما قيل في قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل أي من سلك السبيل القصد أي المستقيم وصل إليه سبحانه وإن لنا للآخرة والأولى أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل ما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما ذكرنا فيمن أعطى وفيمن بخل أو أن لنا ذلك فنثيب من اهتدى وأنجع فيه هدانا أو أن لنأكل ما في الدارين فلا يضرنا ترككم الأهتداء وعدم انتفاعكم بهدانا أو فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها فأنذرتكم نارا تلظى قيل متفرع على كون الهدى عليه سبحانه أي فهديتكم بالإنذار وبالغت في هدايتكم وتلظي بمعنى تلتهب وأصله تتلظى بتاءين فحذفت منه أحدهما وقد قرأ بذلك ابن الزبير وزيد بن علي وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير لا يصليها إلا الأشقى المراد به الكافر فإنه أشقى من الفاسق ويفصح بذلك وصفه بقوله تعالى الذي كذب أي بالحق وتولى وأعرض عن الطاعة وسيجنبها أي سيبعد عنها الأتقى المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها واستشكل بأن صلى النار دخولها أو مقاساة حرها وهو لازم دخولها على المشهور فالحصر السابق يقتضي أن لا يصلى المؤمن العاصي النار لأنه ليس داخلا في عموم الأشقى الموصوف بما ذكر وأن سيجنبها الأتقى بمفهومه أن غير الأتقى أعني التقى في الجملة وهو المؤمن العاصي لا يجنبها بل يصلاها فبين الحصرين مخالفة وأجيب بأن الصلي ليس مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها بل هو مقاساته على وجه الأشدية فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلي أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرا كثيرا ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه فالمعنى لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا الأشقى وسيبعد عنها الأتقى فلا يدخلها فضلا عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن غير الأشقى وهو المؤمن العاصي لا يعذب من أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية ولا يلزم منه أن لا يدخلها ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا دون ذلك العذاب ويلزم من الثاني أن غير الأتقى لا يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب بل غايته أنه لا يجنبها فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في الصلي الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى وسيجنبها كذا قيل واستحسن جعل السين للتأكيد ليكون المعنى يجنبها الأتقى ولا بد فيفيد على القول بالمفهوم أن غيره وهو المؤمن العاصي
(30/150)

لا يجنبها ولا بد على معنى أنه يجوز أن يجنبها ويجوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير صال بها وقرر الزمخشري الأستشكال بأنه قد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص الصلي بأشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين ذلك وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا الأتقى غير مجنب بالكلية واستحسنه في الكشف فقال هو حسن وأنت تعلم أن مبني ما قاله على الأعتزال وتخليد العصاة في النار وقال القاضي أن قوله تعالى لا يصلاها لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكفار كما يقول المرجئة وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها إن نارا من النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى وسيجنبها الأتقى فقد علم أن فسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منمهم خاصة وأجيب بأنه لعل هذا القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا الأتقى عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحصر في لا يصلاها الخ فإنه كالنص في باديء النظر فيما يدعيه المرجئة لحملهم الصليفيه على مطلق الدخول وأيدوه بما أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يدخل النار إلا من شقى قيل ومن الشقي قال الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ولا يترك لله تعالى معصية وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعوام وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بين في موضعه وقيل في الجواب أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة تمنى رجال أن أموت فإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره مع أنه خلاف المذهب الحق وأيضا إن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغيره المكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجتبونها وقيل غير ذلك ولعلك بعد الإطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ماعليه الجماعة في أهل الجمع تستحسن أن قلت بالمفهوم صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وأن لم تكن منيقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضمير ههنا المفعول الثاني والأتقى المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل ويقال جنب فلان خيرا وجنب شرا وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصل جنبته كما قيل جعلته على جانب منه وكثيرا ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الأتقى الذي يؤتي ماله أي يعطيه ويصرفه يتزكى طالبا أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريد به رياء ولاسمعة أومتطهرا من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير يؤتي وجوز أن تكون بدلا من الصلة فلا محل لها من الإعراب وجوز أيضا أن يكون الفعل وحده بدلا من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان اعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها تابع فيه وسبب الإعراب وهو الرفع فيالفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معربا بإعراب سابقه لظهور
(30/151)

ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو هنا ليس لها بل للتجرد وأجيب مع الإغماض عما في ذلك التعريف مما نبه على بعضه الرضي أما عن الأول فبان المراد أعرب بأعراب سابقه إن كان له إراب أو بأن المراد إراب بإعراب سابقه وجودا وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث أنه مشابه للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبان الشيء قد يقصد لشيء وإن كان متحققا قبل ذلك الشيء لأمر آخر كالف التثنية وواو الجمع فإنه يؤتى بهما للدلالة على التثنية والجمع فيتحققان ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى المراد بقولهم كان ثان أعرب الخ كل ثان أعرب لو لم يكن معربا فتدبر ولا تغفل وجوز أن يكون يتزكى بتقدير لأن يتزكى متعلقا بيؤتي علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع ثم حذفت إن فارتفع الفعل أو بقي منصوبا كما في قول طرفة
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
فقد روي برفع أحضر وبنصبه وقيل أنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت وأيا ما كان يدل الكلام على أن المراد بأيتائه صرفه في وجوه البر والخير وقرأ الحسن ابن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهميزكي بإدغام التاء في الزاي وما لأحد عنده من نعمة تجزى استئناف مقرر لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للتزكي خالصا لله تعالى أي ليس عنده من شأنها أن تجزي وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتي مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تجزي للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجز به إياها أو يجزيها إياه إلا ابتغاء وجهربه الأعلى منصوب على الأستثناء المنقطع من نعمة لأن الأبتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنهفعل ذلك لابتغاء وجه ربه سبحانه ورضاه عز و جل لا لمكافأة نعمة وقرأ يحيى بن وثاب ابتغاء بالرفع على البدل من محل من نعمة فإنه الرفع إما على الفاعلية أو على الأبتداء ومن مزيدة والرفع في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم أضحت ذخلاء قفارا لا أنيس بها
إلا الجآذر والظلمان تختلف وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى الكلام لا يؤتى ماله لأجل شيءمن الأشياء إلا لأجل طلب رضا ربه عز و جل لا لمكافأة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب وإنما أول لأن الكلام أعني يؤتى ماله موجب والأستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما عقب بقوله تعالى وما لأحد وقد قال سبحانه أو لا يتزكى متضما نفي الرياء والسمعة دل على المعنى المذكور وقرأ ابن أبي عبلة إلا ابتغاء مقصور وفيه احتمال النصب والرفع وهذه الآيات على ما سمعتنزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقابا ضعافا فقال له أبو ما قال وأجابه هو بما أجاب وقد أوضحت ما أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما ماأريد وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال أي أبه إنما أريد ما عند الله تعالى وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباسأنه رضي الله تعالى عنه اشترى بلالا وكان رقيقا لأمية ابن خلف يعذبه لأسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر الأليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى عنه أحد الذين عذبوا لأسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز و جل بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عبيس وأمة بني المؤمل وفيه نزلت وسيجنبها الأتقى
(30/152)

إلى آخر السورة واستدل بذلك الإمام على أنه رضي الله تعالى عنه أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في علي كرم الله تعالى وجهه وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال قوله تعالى ولسوف يرضى جواب قسم مضمر أي وبالله لسوف يرضى والضمير فيه للأتقى المحدث عنه وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وجوز الإمام كون الضمير للرب تعالى حيث قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله تعالى ولسوف يرضى الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز و جل وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين كما قال سبحانه راضية مرضية انتهى والظاهر هو الأول وقد قريء ولسوف يرضى بالبناء للمفعول من الإرضاء وما أشار إليه فيمعنى راضية مرضية غير متعين كما سمعت وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى
سورة الضحى
مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وسيجنبها الأتقى وكان سيد الأتقين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عز و جل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الإمام لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهذه سورة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقب جل وعلا بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لاواسطة بين رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة و السلام لا يدل على أفضليته منه صلى الله تعالى عليه وسلم ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز و جل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت والخدم قد تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرانه ثم أن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى بسم الله الرحمن الرحيم
والضحى تقدم الكلام فيه والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت بروزها للناظرين دون ضوئها وارتفاعها لأنه أنسب بما بعد وتخصيصه بالأقسام به لأنه شباب النهار وقوله فيه قوة غير قريبة من ضدها ولذا عد شرفا يوميا للشمس وسعدا ولأنه على ما قالوا الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وألقى فيه السحرة سجدا لقوله تعالى وأن يحشر الناس ضحى ففيه مناسبة للمقسم عليه وهو أنه تعالى لم يترك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يفارقه ألطافه تعالى وتكليمه سبحانه وقيل المراد به النهار كما في قوله تعالى أن يأتيهم بأسنا ضحى واعترض بالعرق فإنه وقع هناك في مقابلة البيات وهو مطلق الليل وهنا في مقابلة الليل مقيدا معنى باشتداد ظلمته فالمناسب أن يراد به وقت ارتفاعه وقوة إضاءته وأجيبب بمنع دلالة القيد علىالأشتداد وستسمع إن شاء الله تعالى ما في ذلك وأيا ما كان فالظاهر أن المراد الجنس أي وجنسالضحى والليل أي وجنس الليل إذا سجى أي سكن أهله على أنه من السجو وهو السكون مطلقا كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل ونحوه ما روي عن قتادة أي سكن الناس والأصوات فيه وهذا يكون في الغالب فيما بين طرفيه أو بعد مضي برهة من أوله أو ركد ظلامه منسجا البحر سكنت أمواجه قال الأعشى
(30/153)

وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم
وبحرك ساج لا يواري الدعامصا فالسجو قيل على هذا في الأصل سكون الأمواج ثم عم والمراد بسكون ظلامه عدم تغيره بالأشتداد والتنزل أي فيما يحس ويظهر وذلك إذا كمل حساب وصول الشمس إلى سمت القدم وقبيله وبعيده وصرح باعتبار الأشتداد ابن الأعرابي حيث قال سجا الليل اشتد ظلامه وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه قال أي إذا أقبل فغطى كل شيء وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس تفسير سجا بدون ذكر التغطية وأخرجاهما وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال سجا إذا ذهب وكلا التفسيرين خلاف المشهور وشاع ليل ساكن أو ساج لما لا ريح فيه ووصفه بذلك أعني السكون قيل على الحقيقة كما إذا قيل ليل لاريح فيه ولا يقالأن الساكن هو الريح بالحقيقة لأن السكون عليها حقيقة محال لأنه هواء متحرك ثم أنهم يقولونه لما لا ريح فيه لا لما سكن ريحه والتحقيق أن يقال أن السكون على تفسيريه أعني عدم الحركة عما من شأنه الحركة أو كونين في حيز واحد لا يصح على الليل لأنه زمان خاص لكن لما كان سكون الهواء بمنزلة عدم له في العرف العامي لعدم الإحساس أو لتضمنه عدم الريح لا الهواء قيل ليل ساج وساكن وصف الليل على الحقيقة أي لا إسناد فيه إلى غير ملائم على أنه يحتمل أن يجعل السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية وجوز حمل ما في الآية على هذا الشائع ولعل التقييد بذلك لأن الليل الذي لا ريح فيه أبعد عن الغوائل وقد ذكر بعض الفقهاء أن الريح الشديدة ليلا عذر من أعذار الجماعة ونقل عن قتادة ومقاتل أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبالليل ليلة المعراج ومن الناس من فسر الضحى بوجهه ص - والليل بشعره عليه الصلاة و السلام كما ذكر الإمام وقال لا استبعاد فيه وهو كما ترى ومثله ما قيل الضحى ذكور أهل بيته عليه الصلاة و السلام إناثهم وقال الإمام يحتملأن يقال الضحى رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم والليل زمان احتباس الوحي فيه لأن في حال النزول حصل الأستئناس وفي زمان الأحتباس حصل الأستيحاش أو الضحى نور علمه تعالى الذي يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه تعالى الذي به يستر جميع العيوب أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا أو الضحى كمال العقل والليل حال الموت أو الضحى علانيته عليه الصلاة و السلام التي لا يرى الخلق عليها عيبا والليل سره صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعلم عالم الغيب عليها عيبا انتهى ولا يخفى أنه ليس من التفسير في شيء وباب التأويل والإشارة يدخل فيه أكثر من ذلك وتقديم الضحى على الليل بناء على ما قلنا أول الرعاية شرفه لما فيه من ظهور زيادة النور وللنور شرف ذاتي على الظلمة لكونه وجوديا أو لكثرة منافعه أو لمناسبته لعالم الملائكة فإنها نورانية وتقديم الليل في السورة السابقة لما فيه من الظلمة التي هي لعدميتها أصل للنور الحادث بإزالتها لأسباب حادثة وقيل تقديمه هناك لأن السورة في أبي بكر وهو قد سبقه كفر وتقديم الضحى هنا لأن السورة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسبقه ذلك وتخصيصه تعالى الوقتين بالأقسام قيل ليشير سبحانه بحالهما إلى حال ما وقع له عليه الصلاة و السلام ويؤيد عز و جل نفي ما توهم فيه فكأنه تعالى يقول الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار وأخرى بالعكس فلا الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل كل لحكمة وكذا أمر الوحي مرة إنزال وأخرى حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة وقيل ليسلي عز و جل بحالهما حبيبه عليه الصلاة و السلام كأنه سبحانه يقول انظر إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق والقولان مبنيان على أن المراد بالضحى
(30/154)

النهار كله وبالليل إذا سجى جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت أولا لما سمعت وتخصيص الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه في ذلك أنه تعالى أقسم له صلى الله تعالى عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة و السلام التي جعلت قرة عينه وسبب مزيد قربه وأنسه أماالضحى فلما رواه الدارقطني في المجتبي عن ابن عباس مرفوعا كتب على النحر ولميكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها وأما الليل فلقوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك إرغاما لأعدائه وتكذيبا لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك عندنا إنا اصطفيناك وما هجزناك وقليناك فهو كقوله
وثنا ياك أنها أغريض
وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن يكون الأقسام بالليل على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك أيضا وكذا الأقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا يخفى وعلى كون المراد بالضحى الوقت المعروف من النهار وبالليل جميعه قيل أن التفرقة للأشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن النبي عليه الصلاة و السلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللأشارة لكون النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم الدنيا وغمومها أدوم من سرورها وقد روي أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت عن يسارة غمامة فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فأمطرت مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر السرور ساعة فلذا ترى الغموم والأحزان أدوم من المسار في الدنيا والله تعالى أعلم بصحبة الخبر وقيل غير ذلك وقوله تعالى ما ودعك ربك الخ جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء بالسلامة ثم صار متعارفا في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر به هنا أي ما تركك ربك وفي البحر والكشاف التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك قيل وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفي ذلك فلا بد من أن يقال أنه إنما نفي ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد فتدبر وقيل أن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعارة تبعية للترك وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا
فلم أدر أي الظاعنين أشيع وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة ههنا وتعقب بأنه على هذا لا يكون ردا لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة و السلام بالمحل الذي هو صلى الله تعالى عليه وسلم فيه من ربه سبحانه وقيل في الجواب أنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلا أنهم قاتلهم الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق وقيل أن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حالهم أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من ذحيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة و السلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك ولما كان المقصود إيناسه صلى الله تعالى عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة و السلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل أن هذا
(30/155)

النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلا عما زعموه من الترك المخل بغزير مقامك وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز و جل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ما ودعك بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه قال في القاموس ودعه كوضعه وودع بمعنى وقيل ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ما ضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك وفي المغرب أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفصحهم وقد قال عليه الصلاة و السلام لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات وقرأ ما ودعك وقال أبو الأسود ليت شعري عن خليلي ما الذي
غاله في الحب حتى ودعه ومثله قول آخر وثم ودعنا آل عمرو وعامر
فرائس أطراف المثقفة السمر وهو دليل أيضا على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق بمفعولين فلا تغفل وفي الحديث اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما ودعوكم وفي المستوفي أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة بكلام النحاة وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل نعم وروده نادر وقال الطيبي بعد أن ذكر وروده نظما ونثرا إنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة الترصيع قد جبرا منه وقيل أن القائلين إنما قالوا ودعه ربه بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف من اللفظ مما يتشائم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية كذلك والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكليف محسن له والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز و جل وفي التعبير عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كما لك اللائق بك وما قلى أي وما أبغضك وحذف المفعول لئلا يواجه عليه الصلاة و السلام بنسبة القلي وإن كانت في كلام منفي لطفا به صلى الله تعالى عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة و السلام أو لنفي صدوره عنه عز و جل بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى يوم القيامة أو للأستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة للفواصل واللغة المشهورة في مضارع قلي كيرمي وطيء تقول يقل بفتح العين كيرضى وتفسير القلي بالبغض شائع وفي القاموس من الواوي قلا زيدا قلا وقلاه أبغضه ومناليائي قلاه كرماه ورضيه قلي وقلاه ومقلية أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقلبه في البغض وفي مفردات الراغب القلي شدة البغض يقال قلاه يقلوه ويقليه فمن جعله من الواوي فهو من القلو أي الرمي من قولهم قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله ومن جعله من اليائي فمن قليت البسر والسويق على الملاقاة انتهى وبينهما مخالفة لا تخفى وعلى اعتبار شذة البغض فالظاهر أن ذلك في الآية ليس إلا لأنه الواقع في كلامهم قال المفسرون أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال المشركون قد قلاه ربه وودعه فأنزل الله تعالى ذلك وأخرج الحاكم عن زيد ابن أرقم قال لما نزلت تبت يدا أبي لهب الخ قيل لامرأة أبي لهب أم جميل أن محمدا صلى الله تعالى عليه
(30/156)

وسلم قد هجاك فأتته عليه الصلاة و السلام وهو صلى الله تعالى عليه وسلم جالس في الملا فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ما هجاك إلا الله تعالى فقالت هل رأيتني أحمل حطبا أو في جيدي حبلا من مسد ثم انطلقت فمكث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينزل عليه فاتنة فقالت ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك فأنزل الله تعالى ذلك وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب البجلي قال رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحجر في إصبعهفقال
ما أنت إلا اصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم فقالت له امرأة ما أرى شيطانك إلا قد تركك وفي رواية للترمذي أيضا والإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وجماعة بلفظ اشتكى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله تعالى والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وليس فيه حديث المرأة ولا الحجر والزجر وذلك لا يطعن في صحته وقال جمع من المفسرسن أن اليهود سألوه عليه الصلاة و السلام عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة و السلام سأخبركم غدا ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي فقال المشركون ما قالوا فنزلت وقيل إن عثمان أهدى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم عنقود عنب وقيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدمه إليه عليه الصلاة و السلام ثانيا ثم عاد السائل فأعطيه وهكذا ثلاث مرات فقال عليه الصلاة و السلام ملاطفا لا غضبان أسائل أنت يا فلان أم تاجر فتأخر الوحي أياما فاستوحش فنزلت ولعلهمأيضا قالوا ما قالوا وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة وكانت تخدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن جروا تحت سرير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمات ولم نشعر فمكث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة أيام ينزل عليه الوحي فقال يا خولة ما حدث في بيت رسول الله عليه الصلاة و السلام جبريل لا يأتيني فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير منا اليوم فأخذ برده فلبسه وخرج فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهوي بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بد إلي الجرو ميتا فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فقال يا خولة دثريني فأنزل الله تعالى والضحى والليل إلى قوله سبحانه فترضى وهذه الرواية تدل على أن الأنقطاع كان أربعة أيام وعن ابن جريج أنه كان اثني عشر يوما وعن الكلبي خمسة عشر يوما وقيل بضعة عشر يوما وعن ابن عباس خمسة وعشرين يوما وعن السدي ومقاتل أربعين يوما وأنت تعلم أن مثل ذلك مما يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلا منه عليه الصلاة و السلام والله تعالى أعلم وفي بعض الروايات ما يدل على أن قائل ذلك هو النبي عليه الصلاة و السلام فعن الحسن أنه قال ابطأ الوحي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لخديجة إن ربي ودعني وقلاني يشكو إليها فقالت كلا والذي بعثك بالحق ما أبتدأك الله تعالى بهذه الكرامة إلا وهو سبحانه يريد أن يتمها لك فنزلت واستشكل هذا بأنه لا يليق بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى شأنه ودعه وقلاه وهل إلا نحو من العزل وعزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمته عز و جل والنبي عليه الصلاة و السلام أعلم بذلك ويعلم صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا أن أبطأ الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة وأجيب بأن مراده عليه الصلاة و السلام إن صح أن يجربها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلى الله تعالى عليه وسلم بضرب من التأويل قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم المشركين أو أن معاملته سبحانه إياي بأبطاء الوحي تشبه صورة معاملة المودع والقالي وأنت تعلم أن هذه الرواية شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي اتعاب الذهن بتأويلها
(30/157)

ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال ابطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت والضحى والليل إلى آخرها والوق بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا ينبغي أن يكون إلا من قلى ربك وحاشى أي يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة و السلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام ما جئتني حتى اشتقت إليك فقال جبريل عليه السلام كنت أنا إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وما نتنزل إلا بأمر ربك وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة و السلام والروايات في ذلك مختلفة وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم أنه قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وعدك ربك دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام وهو كما ترى وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلي أنه عز و جل لا يزال يواصله عليه الصلاة و السلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلى الله تعالى عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك وللآخرة خير لك من الأولى لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة و السلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعاد شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عندما أعد له عليه الصلاة و السلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين وكون أمته صلى الله تعالى عليه وسلم شهداء على سائر الأمم ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المباديء بالنسبة إلى المطالب كذا في الإرشاد والأختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة و السلام بخيرية الآخرة دون من أذاه وشمت بتأخير الوحي عنه عليه الصلاة و السلام ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعد له عليه الصلاة و السلام خير من المعد لغيره على الإطلاق ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلى الله تعالى عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريا كما قرر في موضعه وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروي عن أبي إسحاق وقال ابن عطية وجماعة يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرض على ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى وللآخرة خير لك من الأولى ثم ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما اختاره غير واحد من الأجلة وجوز أن يقال فيه أنه لما نزل ما ودعك ربك وما قلى حصل له عليه الصلاة و السلام به تشريف عظيم فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم استعظم ذلك فقيل له وللآخرة خير لك من الأولى على معنى أن هذا التشريف وأن كان عظيما إلا أن مالك عند الله تعالى في الآخرة خير وأعظم
(30/158)

وجوز أيضا أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لما يتوهمون لأنه عز عن النبوة وهو مستحيل في الحكمة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الأستغناء عن الرسالة وذلك إمارة الموت فكأنه تعالى قال انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن مالك عند الله تعالى في الآخرة أفضل مما لك في الدنيا وهذا كما ترى دون ما قبله بكثير والمتبادر مما قرروه أن الجملة مستأنفة واللام فيها ابتدائية وقد صرح جمع بأنها كذلك في قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقالوا فائدتها تأكيد مضمون لجملة وبعدها مبتدأ محذوف أي ولأنت سوف يعطيك الخ وأورد عليه أن التأكيد يقتضي الأعتناء والحذف ينافيه ولذا قال ابن الحاجب أن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف وأن اللام مع المبتدأ كقد مع الفعل وأن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى اللام وأنه يلزم التقدير والأصل عدمه وإن اللام لتخلص المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة وهو هنا مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي ورد المؤكد الجملة لا المبتدأ وحده حتى ينافي تأكيده حذفه وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله وأن يحذف معها الأسم كثيرا كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها الفعل كقوله أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكان قد مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه اللام بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه اللام فإن مقتضاها إن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باق وإن حذف المبتدأ فالقياس قياس مع الفارق والنحويون يقدرون كثيرا في الكلام قدروا المبتدأ في نحو قمت وأصك عينه وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام المؤكدة لا نسلم أنها لتخليص المضارع للحال أيضا بل هي لمطلق التأكيد فقط ويفهم معها الحال بالقرينة لأنه أنسب بالتأكيد وعلى تسليم أنها لتخليصه للحال أيضا يجوز أن يقال أنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوف بعدها والمراد تأكيد المؤخر أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير فالمعنى إن الأعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال نزل المستقبل أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى أن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة وقيل يحسن هذا جدا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن شاء الله تعالى وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد فالواو عليه للعطف فكلا الوعدين داخل في المقسم عليه ويكون الله تعالى قد أقسم على أربعة أشياء اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في نظري واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة فلو كانت للقسم لقيل لسوف يعطيك ربك ولا يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أنه يستثنى ما قرن بحرف تنفيس كما هنا ففي المغنى أنه تجب اللام وتمتنع النون فيه كقوله فوربي لسوف يجزي الذي
أسلف المرء سيئا أو جميلا وكذا مع فصل معمول بين اللام والفعل نحو ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ومع كون الفعل للحال نحو لا قسم وقد يمتنعان وذلك مع الفعل المنفي نحو تالله تفتؤ وقد يجبان وذلك فيما بقي نحو تالله لأكيدن أصنامكم وعليه لا يتجه الأعتراض مع أن الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإنما ذكرت اللام تأكيدا للقسم وتذكيرا به وبالجملة هذا الوجه أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جمع اللام مع سوف إذا لم يقل أحد من
(30/159)

علماء العربية بأن اللام القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلا من اللامين موضوع للدلالة على الحال ووجه الجمع على تقدير كونها في الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي وسوف محمولة على تأكيد الحكم ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي علي الفارسي وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مثله عصام الدين الأظهر أن جملة ما ودعك حالية أي ما ودعك ربك وما قلاك والحال أن الآخرة خير لك من الأولى وأنت تختارها عليها ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز و جل وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض عن الآخرة وحينئذ معنى قوله سبحانه ولسوف يعطيك أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل انتهى وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدا وأيضا المعنى ذكره على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان عليه عندك بدل لك كما لا يخفى عليك واختلف في قوله تعالى ولسوف الخ فقيل هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز و جل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم وفي أيام خلفائه عليه الصلاة و السلام وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولما ادخر جل وعلا له عليه الصلاة و السلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره والجمهور على أنه عدة أخروية فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال هي الشفاعة وروي نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي قال أي والله حدثني محمد بن الحنفية عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال اشفع لأمتي حتى ينادي ربي أرضيت يا محمد فأقول نعم يا رب رضيت ثم أقبل علي فقال إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله تعالى يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا قلت أنا لنقول ذلك قال فكلنا أهل البيت نقول إن أرجى آية في كتاب الله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال هي الشفاعة وقيل هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحا وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر إليها قال يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غدا فأنزل الله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال أبو حيان الولى العموم لما في الدنيا والآخرة على اختلاف أنواعه والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى ذلك نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير فقد روي الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم وأخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية من رضا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عنه أنه قال رضاه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه لا يرضى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأحد من أمته في النار وهذا ما يقتضيه
(30/160)

شفقته العظيمة عليه الصلاة و السلام على أمته فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا عليهم رؤفا بهم مهتما بأمرهم وقد أخرج مسلم كما في الدر المنثور عن ابن عمر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه مني وقوله تعالى في عيسى أن تعذبهم فإنهم عبادك الآية فرفع عليه الصلاة و السلام يديه وقال اللهم أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له إنا سنرضيك في أمتك يخفى ولا نسوءك وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى تعديل لما أفاض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من أول أمره إلى وقت النزول من فنون النعماء العظام لستشهد بالخاص الموجود على المترقب الموعود فيزداد قلبه الشريف وصدره الرحيب طمأنينة وسرورا وانشراحا وحبورا ولذا فصلت الجملة والهمزة لأنكار النفي وتقرير على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك الخ وودته على ما قال الرضي بمعنى أصبته على صفة ويراد بالوجود فيه العلم مجازا بعلاقة اللزوم وفي مفردات الراغب لوجود إضرب وجود بالحواس الظاهرة ووجود بالقوى الباطنة ووجود بالعقل وما نسب إلى الله تعالى من لوجود فبمعنى العلم المجرد إذ كان الله تعالى منزها عن الوصف بالجوارح والآلات وقد فسره بعضهم هنا بالعلم وجعل مفعوله الأول الضمير ومفعوله الثاني يتيما وبعضهم بالمصادقة وجعله متعديا لواحد ويتيما حالا وأنت تعلم أن المصادقة لا تصح في حقه تعالى لأنها ملاقاة ما لم يكن في علمه سبحانه وتقديره جل شأنه فلا بد من التجوز بها عن تعلق علمه عز و جل بذلك واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه والإيواء ضم الشيء إلى آخر يقال آوى إليه فلانا أي ضمه إلى نفسه أي ألم يعلمك طفلا لا أبالك فضمك إلى من قام بأمرك روي أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله أبا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمتار تمرا من يثرب فتوفي ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر فلما وضعته كان في حجر جده مع أمه فماتت وهو عليه الصلاة و السلام ابن ست سنين ولما بلغ عليه الصلاة و السلام ثماني سنين مات جده فكلفه عمه الشفيق أبو طالب بوصية من أبيه عبد المطلب وأحسن تربيته صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكشاف ماتت أمه عليه الصلاة و السلام وهو ابن ثماني سنين فكلفه عمه وكان شديد الأعتناء بأمره إلى أن بعثه الله تعالى وكان يرى منه صلى الله تعالى عليه وسلم في صغره ما لم ير من صغير أنه قال يوما لأخيه العباس ألا أخبرك عن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بما رأيت منه فقال بلى قال إني ضممته لي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولم ائتمن عليه أحدا حتى أني كنت أنومه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهية في وجهه وكره أن يخالفني فقال يا عماه اصرف وجهك عني حتى أخلع ثيابي إني لا أحب أن تنظر إلى جسدي فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته في فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما كنت أفقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فراجع وكنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عندما مضى بعض الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمد وكان يقول في أول الطعام بسم الله الأحد فإذا فرغ من طعامه قال الحمد لله فكنت أعجب منه ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف من الصبيان وهم يلعبون وهذا لعمري غيض من فيض في المهد يعرب عن سعادة جده
أثر النجابة ساطع البرهان
(30/161)

وقيل المعنى ألم يجدك يتيما أبتك المراضع فآواك من مرضعة تحنو عليك بأن رزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أحبتك وتكفلتك والأول هو الظاهر وقيل غير ذلك مما ستعلمه بعد إن شاء الله تعالى ومن بدع التفاسير على ما قال الزمخشري أن يتيما من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك والأولى عليه أن يقال ألم يجدك واحدا عديم النظير في الخليقة لم يحو مثلك صدف إلا مكان فآواك إليه وجعلك في حق اصطفائه وقرأ أبو الأشعث فأوى ثلاثيا فجوز أن يكون من أواه بمعنى آواه وأن يكون من أوى له أي رحمه ومصدره أياواية وماوية وماوية وتحقيقه على ما قال الراغب أي رجع بقلبه ومنه قوله
أو أني ولا كفران لله أية
وقوله تعالى ووجدك ضآلا فهدى عطف على ما يقتضيه الإنكار السابق كما أشير إليه أو على المضارع المنفي بل داخل في حكمه كأنه قيل أما وجدك يتيما فآوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول كما في قوله تعالى ما كنت تدري ما الكتاب وقوله سبحانه وإن كنت من قبله لمن الغافلين فهداك إلى مناهجها في تضاعيف ما أوحي إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم وعلى هذا كما قال الواحدي أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج وروي سعيد بن المسيب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فبينما هو راكب ناقة ذات ليلة ظلماء وهو نائم جاءه إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق فجاءه جبريل عليه الصلاة و السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها بالحبشة ورده إلى القافلة فما في الآية إشارة إلى ذلك على ما قيل وقيل إشارة إلى ما روي عن ابن عباس من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ضل وهو صغير عن جده في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه فرده لجده وهو متعلق بإستار الكعبة يتضرع إلى الله تعالى في أن يرد إليه محمدا وذكر له أنه لما رآه أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه فقامت فكانت الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى وفي إرجاعه عليه الصلاة و السلام إلى أهله على يد أبي جهل وقد علم سبحانه منه أنه فرعونه يشبه أرجاع موسى عليه السلام إلى أمه على يد فرعون وقيل ضل عليه الصلاة و السلام مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من السماء يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وأن محمدا بوادي تهامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق وقيل أضلته مرضعته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب فضالا على هذه الروايات من ضل في طريقه إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده وضعف حمل الآية على ذلك بأن مثله بالنسبة إلى ما تقدم لا يعد من نعم الله تعالى على مثل نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم التي يمتن سبحانه بها عليه وقيل الضال الشجرة المنفردة في البيداء ليس حولها شجر والمراد أما وجدك وحدك ليس معك أحد فهدى الناس إليك ولم يتركك منفردا وقال الجنيد قدس سره أي وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه وفيه قرب ما من الأول وقال بعضهم وجدك غافلا عن قدر نفسك فأطلعك على عظيم محلك وقيل وجدك ضالا عن معنى محض المودة فسقاك كأسا من شراب القربة والمودة فهداك به إلى معرفته عز و جل وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه كنت ضالا عن محبتي لك في الأزل فمننت عليك بمعرفتي وهو قريب من سابقه وقال الحريري أي وجدك مترددا في غوامض معاني المحبة فهداك لها وهو أيضا كذلك وكل ذلك منزع صوفي ورأى أبو حيان في منامه أن الكلام على حذف مضاف والمعنى ووجد رهطك ضالا فهدى بك وهو كما ترى في يقظتك وقوله تعالى
(30/162)

ووجدك عائلا فأغنى على نمط سابقه والعائل المفتقر من عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر أي وجدك عديم المقتنيات فأغناك بما حصل لك من ربح التجارة وذلك في سفره صلى الله تعالى عليه وسلم مع ميسرة إلى الشام وبما وهبته لك خديجة رضي الله تعالى عنها من المال وكانت ذا مال كثير فلما تزوجها عليه الصلاة و السلام وهبته جميعه له صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يقول قائل ما يثقل على سمعه الشريف عليه الصلاة و السلام وبمال أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وكان أيضا ذا مال فإني به كله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة و السلام ما تركت لعيالك فقال تركت الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل بما أفاء عليك من الغنائم وفيه أن السورة مكية والغنائم إنما كانت بعد الهجرة وقيل المراد قنعك وأغنى قلبك فإن غنى القلب هو الغنى وقد قيل من عدم القناعة لم يفده المال غني وقيل أغناك به عز و جل عما سواه وهذا الغنى بالأفتقار إليه تعالى وفي الحديث اللهم أغنني بالأفتقار إليك ولا تفقرني بالأستغناء عنك وبهذا ألم بعض الشعراء فقال ويعجبني فقري إليك ولم يكن
ليعجبني لو لا محبتك الفقر وشاع حديث الفقر فخري وحمل الفقر فيه على هذا المعنى وهو على ما قال ابن حجر باطل موضوع وأشد منه وضعا وبطلانا ما يذكره بعض المتصوفة إذا تم الفقر فهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا خاضوا في بيان المراد به بما لا يدفع بشاعته بل لا يقتضي استقامته وقيل عائلا أي ذا عيال من عال يعول عولا وعيالة كثر عياله ويحتمل المعنيين قول جرير الله نزل في الكتاب فريضة
لابن السبيل وللفقير العائل ولعل الثاني فيه أظهر ورجح الأول في الآية بقراءة ابن مسعود عديما وأنه عليه الصلاة و السلام لم يكن ذا عيال في أول أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ اليماني عيلا كسا بشد الياء المكسورة هذا وذكر عصام الدين في هذه الآيات أنه يحتمل أن يراد باليتيم فاقد المعلم فإن الآباء ثلاثة من علمك ومن زوجك ومن ولدك ويناسبه حمل الضلال على الضلال عن العلم وحمل العيال أي على تفسير عائلا بذا عيال على عيال الأمة الطالبة منه معرفة مصالح الدين مع احتياجه إلى المعرفة فأغناه الله تعالى بالوحي إليه عليه الصلاة و السلام ولا يخفى ما فيه وحدث المفعول في الأفعال الثلاثة لظهور المراد مع رعاية الفواصل وقيل على سعة الكرم والمراد آواك وآوى لك وبك وهداك ولك وبك وأغناك ولك وبك وظاهر مع تلك الأفعال تأبى ذلك وأطال الإمام الكلام في الآيات وأتى فيها بغث وسمين ولولا خشية الملل لذكرنا ما فيه فأما اليتيم فلا تقهر فلا تستذله كما قال ابن سلام وقريب منه قول مجاهد لا تحتقر وقال سفيان لا تظلمه بتضييع ماله وفي معناه ما قيل لا تغلبه على ماله ولعل التقييد لمراعاة الغالب والأولى حمل القهر على الغلبة والتذليل معابان يراد التسلط بما يؤذي أو باستعمال المشترك في معنييه على القول بجوازه وفي مفردات الراغب القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما وقرأ ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي فلا تكهر بالحاف بدل القاف ومعناه على ما في البحر فلا تقهر وفي تهذيب الأزهري الكهر القهر والكهر عبوس الوجه والكهر الشتم واختار بعضهم هنا أوسطها فالمعنى فلا تعبس في وجهه وهو نهي عن الشتم والقهر على ما سمعت من معناه من باب الأولى وأيا ما كان ففي الآية دلالة على الأعتناء بشأن اليتيم وعن ابن مسعود مرفوعا من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر عليها يده نور يوم القيامة وعن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا أيضا أن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم
(30/163)

الذي غيب أبوه في التراب فيقول الملائكة أنت أعلم فيقول الله تعالى يا ملائكتي إني أشهدكم أن على لمن أسكنه وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة فكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا ولم يصح في كيفية مسحه شيء والرواية عن ابن مسعود في ذلك قد قيل فيها ما قيل وروي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال أنا وكافل اليتيم كهاتين إذا اتقى الله عز و جل وأشار بالسبابة والوسطى إلى غير ذلك من الأخبار وأما السائل فلا تنهر أي فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء أورده بقول جميل وأريد به عند جمع السائل المستجدي الطالب لشيء من الدنيا وتدل الآية على الأعتناء بشأنه أيضا وعن إبراهيم ابن أدهم نعم القول السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وعن إبراهيم النخعي السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول أتبعثون إلى أهليكم بشيء وشاع حديث للسائل حق وأن جاء على فرس وقد قال فيه الإمام أحمد كما في تمييز الطيب من الخبيث لا أصل له وأخرجه أبو داود عن الحسين ابن علي رضي الله تعالى عنهما موقوفا وسكت عنه وقال العراقي سنده جيد وتبعه غيره وقال ابن عبد البر أنه ليس بالقوي وعول كثير على ما قال الإمام أحمد وفي معناه احتمالان كل منهما يؤذن بالأهتمام بأمر السائل وروي من طرق عن عائشة وغيرها لو صدق السائل ما أفلح من رده وهو أيضا على ما قال ابن المديني لا أصل له وقال ابن عبد البر جميع أسانيده ليست بالقوية نعم أخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة مرفوعا ما يقرب منه وهو لو لا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم ولم أقف على من تعقبه ثم النهي على النهر على ما قالوا إذا لم يلح في السؤال فإن ألح ولم ينفع الرد اللين فلا بأس بالزجر قال أبو الدرداء والحسن وسفيان وغيرهم المراد بالسائل هنا السائل عن العلم والدين لا سائل المال ولعل النهي عن زجره على القول الأول يعلم بالأولى ويشهد للأولوية أنه أنه لا وعيد على ترك أعطاء المستجدي لمن يجد ما يستجديه بخلاف ترك جواب سائل العلم لمن يعلم ففي الحديث من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل من أن الظاهر الثاني من القولين وأما بنعمة ربك فحدث فإن التحدث بها شكر لها كما قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والفضيل بن عياض وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن حيان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله مرفوعا من أعطى فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ولذا استحب بعض السلف التحدث بما عمله من الخير إذا لم يرد به الرياء والأفتخار وعلم الأقتداء به بل بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم حمل الآية على ذلك أخرج ابن أبي حاتم عن مقسم قال لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما فقلت أخبرني عن قول الله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث فقال الرجل المؤمن يعمل عملا صالحا فيخبر به أهل بيته وأخرج ابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال فيها إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك والظاهر أن المراد بالنعمة ما أفاضه الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من فنون النعم التي من جملتها ما تقدم وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد تفسيرها بالنبوة ورووا عنه أيضا تفسيرها بالقرآن ووافقه في الأول محمد بن إسحاق وفي الثاني الكلبي وعليهما المراد بالتحديث التبليغ ولا يخفى أن كلا التفسيرين غير مناسب لما قبل وهذه الجمل الثلاث مرتبة على ما قبلها على اللف والنشر المشوش وحاصل المعنى أنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك وهداك وإناك فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله تعالى عليك في هذه الثلاث واقتد بالله تعالى فتعطف على اليتيم وترحم على السائل فقد ذقت اليتم والفقر وقوله تعالى وأما بنعمة الخ في مقابلة قوله سبحانه وجدك ضالا فهدى لعمومه وشموله لهدايته عليه الصلاة و السلام من
(30/164)

الضلال بتعليم الشرائع وغير ذلك من النعم ولم يراع الترتيب لتقديم حقوق العباد على حقه عز و جل فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين وقيل لتقديم التخلية على التحلية أو للترقي أو لمراعاة الفواصل ونظر في كل ذلك وقال الطيبي الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم لا المستجد وعليه لا مانع من كون التفصيل على الترتيب فيقال أنه تعالى ذكر أحواله صلى الله تعالى عليه وسلم على وفق الترتيب الخارجي بأن يراد بهدايته عليه الصلاة و السلام ما يعم توفيقه للنظر الصحيح في صباه فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم موفقا لذلك ولذا لم يعبد عليه الصلاة و السلام صنما أو يراد بإغنائه ما كان بعد البعثة ثم فصل سبحانه على ذلك الترتيب فجعل عدم قهر اليتيم في مقابلة إيوائه تعالى له عليه ألصلاة والسلام في يتمه وعدم زجر السائل طالب العلم والمتعلم منه في مقابلة هدايته له والتحدث بالنعمة في مقابلة الغنى وإن كانت النعمة شاملة له ولغيره وآثر سبحانه فحدث على فخبر قيل ليكون ذكر النعمة منه عليه الصلاة و السلام حديثا لا ينساه ويوجده ساعة غب ساعة والله تعالى أعلم وندب التكبير عند خاتمة هذه السورة الكريمة وكذا ما بعدها إلى آخر القرآن العظيم فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن البزي المقري قال سمعت عكرمة بن سليمان يقول قرأت على إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت والضحى قال كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت والضحى قال كبر حتى تختم وأخبره عبد الله ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره أن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أمره بذلك وأخبره أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمره بذلك وكان ذلك منه عليه الصلاة و السلام فرحا بنزول الوحي بعد تأخره وبطئه حتى قيل ما قيل هذا وعلى ذلك عمل الناس اليوم والحمد لله رب العالمين
سورة الشرح
وتسمى سورة الشرح وهي كما روي عن ابن الزبير وعائشة مكية وأخرج ذلك ابن الضريس والنحاس والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس في رواية عنه زيادة نزلت بعد الضحى وزعم البقاعي أنها عنده مدنية حديث طويل أخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما هو ظاهر في أن قوله تعالى فيها فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسر نزل بالمدينة لكن في صحة الحديث توقف وآيها ثمان بالإتفاق وهي شديدة الإتصال بسورة الضحى حتى أنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هما سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وعلى ذلك الشيعة كما حكاه الطبرسي منهم قال الإمام والذي دعا إلى ذلك هو أن قوله تعالى ألم نشرح كالعطف على قوله تعالى ألم يجدك يتيما وليس كذلك لأن الأول كان عند اغتنام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من إيذاءه الكفرة وكانت الحالة حال محنة وضيق صدر والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأني يجتمعان وفيه نظر والحق أن مدار مثل ذلك الرواية لا الدارية والمتواتر كونهما سورتين والفصل بينهما بالبسملة نعم هما متصلتان معنى جدا ويدل عليه ما في الإسراء الذي أخرجه ابن أبي حاتم أن الله تعالى قال له عليه الصلاة و السلام يا محمد ألم أجدك يتيما فآويت وضالا فهديت وعائلا فأغنيت وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي الحديث بسم الله الرحمن الرحيم
ألم نشرح لك صدرك الشرح في الأصل الفسح والتوسعة وشاع استعماله
(30/165)

في الإيضاح ومنه شرح الكتاب إذا أوضحه لما أن فسح الشيء وبسطه مستلزم لأظهار باطنه وما خفى منه وكذا شاع في سرور النفس حتى لو قيل أنه حقيقة عرفية لم يبعد وذلك إذا تعلق بالقلب كان قيل شرح قلبه بكذا أي سره به لما أن القلب كالمنزل للنفس ويلزم عادة من فسح المنزل وتوسعته سرور النازل فيه وكذا إذا تعلق بالصدر الذي هو محل القلب وربما يؤذن ذلك بسعة القلب لما أن العادة كالمطردة في أن توسعة ما حوالي المنزل إنما تكون إذا كان المنزل واسعا فيوسع ما حواليه لتحصيل زيادة بهجة ونحوها فيه فينتقل منه إلى سرور النفس بالواسطة وقد يراد به إذا تعلق بالقلب أو الصدر أيضا تكثير ما فيه من المعلومات فقيل يتخيل أنها تحتاج إلى فضاء تكون فيه وإن ذلك محل لها فمتى كانت كثيرة اقتضت أن يكون محلها واسعا ليسعها وقد يراد بها تكثير ما في النفس من ذلك فقيل أيضا بتخيل أن تكثير معلوماتها يستدعي توسيعها وتوسيعها يستدعي توسيع ذلك لتنزيله منزلة محلها وقد يراد به تأييد النفس بقوة قدسية وأنوار إلهية بحيث تكون ميدانا لمواكب المعلومات وسماء لكواكب الملكات وعرشا لأنواع التجليات وفرشا لسوائم الواردات فلا يشغله شأن عن شأن ويستوي لديه يكون وكائن وكان ووجه نسبته إلى الصدر على نحو ما مر وإرادة القلب من الصدر والنفس من القلب بعلاقة المحلية ونحوها مما لا تميل إليه النفس وإرادة كل مما ذكر بقرينة المقام والأنسب بمقام الأمتنان هنا إرادة هذا المعنى الأخير وجوز غيره فالمعنى ألم نفسح صدرك حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الأستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلاقة الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الأستغراق في شؤن الحق وقيل المعنى ألم نزل همك وغمك بإطلاعك على حقائق الأمور وحقارة الدنيا فهمان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله تعالى ونقل عن الجمهور أن المعنى ألم نفسحه بالحكمة وتوسعه بتيسيرنا لك تلقي ما يوحى إليك بعد ما كان يشق عليك وعن ابن عباس وجماعة أنه إشارة إلى شق صدره الشريف في صباه عليه الصلاة و السلام وقد وقع هذا الشق على ما في بعض الأخبار وهو عند مرضعته حليمة فقد روي عنها أنها قالت في شأنه عليه الصلاة و السلام لم نزل نتعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على بقائه عندنا لما نرى من بركته فقلنا لأمه لو تركتيه عندنا حتى يغلظ فإنا نخشى عليها وباء مكة فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به فو الله إنه ليعد مقدمنا به بشهر أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لفي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد عليهما ثياب بيض فاضجعاه وشقا بطنه فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فوجدناه قائما منتقعا لونه فاعتنقه أبوه وقال أي بني ما شأنك قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي فرديه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوفه قالت فاحتملناه إلى أمه فقالت ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه قلنا نخشى الأختلاف والإحداث فقالت ماذاك بكما فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره فقالت أخشتما عليه الشيطان لا والله ما للشيطان عليه سبيل وإنه لكائن لابني هذا شأن فدعاه عندكما وفي حديث لأبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرر وقوع ذلك له عليه الصلاة و السلام وهو عند حليمة وقد وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا بعد بلوغه صلى الله تعالى عليه وسلم ففي الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبي بن كعب أن أبا هريرة قال يا رسول الله ما رأيت من أمر النبوة فاستوى رسول
(30/166)

الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا وقال لقد سألت أبا هريرة أني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو فاستقبلاني بوجوه لم أرها بخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط وثياب لم أجدها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى إذا دنيا أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه أفلق صدره فهوي أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له اخرج الغل والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فقال لأه ادخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم حز إبهام رجلي اليمنى وقال اغدوا سلم فرجعت أغدوا بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير والذي رأيته في شرح الهمزية لابن حجر المكي رواية هذا بلفظ آخر وفيه أني لفي صحراء واسعة ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه أهو هوالي آخر ما فيه فيكون الشق عليه قبل البلوغ أيضا والله تعالى أعلم ثم أنه على الروايتين ليس نصا على نفي وقوع شق قبله لجواز أن يكون الذي استشعر منه النبوة هو هذا لا ما قبله ووقع له عليه الصلاة و السلام أيضا عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء وممن ذلك الطيالسي والحرث في مسنديهما وكذا أبو نعيم ولفظه أن جبريل وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه ثم قال اقرأ باسم ربك الآيات ووقع أيضا مرة أخرى تواترت بها الروايات خلافا لمن أنكرها ليلة الإسراء به صلى الله تعالى عليه وسلم روي البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا قال قتادة قلت يعني لأنس ما تعني قال إلى أسفل بطني قال فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشى إيمانا وحكمة ثم أتى بداية دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل عليه السلام حتى أتينا السماء الدنيا الحديث وطعن القاضي عيد الجبار في ذلك بما حاصله أنه يلزم على وقوعه في الصغر وقبل النبوة تقدم المعجزة على النبوة وهو لا يجوز ووقوعه بعد النبوة وإن لم يلزم عليه ما ذكر إلا أن ما ذكر معه من حديث الغسل وإدخال الرأفة والرحمة وحشو الإيمان والحكمة يرد عليه أن الغسل مما لا أثر له في التكميل الروحاني وإنما هو لإزالة أمر جسماني وأنه لا يصح إدخال ما ذكر وحشوه فإنما هو شيء يخلقه الله تعالى في القلب وليس بشيء فإن تقدم الخارق على النبوة جائز عندنا ونسميه إرهاصا والأخبار كثيرة في وقوعه له عليه الصلاة و السلام قبل النبوة والغسل بالماء كان لإزالة أمر جسماني ولا يبعد أن يكون إزالته وغسل المحل بماء مخصوص كماء زمزم على ما صح في بعض الروايات ولذا قال البلقيني أنه أفضل من ماء الكوثر موجبا لتبديل المزاج وهو مما له دخل في التكميل الروحاني ولذا يأمر المشايخ السالكين لديهم بالرياضة التي يحصل بها تبديل المزاج ويرشد إلى ذلك تغير أحوال النفس وأخلاقها صبا وكهولة وشيخوخة والمراد من إدخال الرأفة وحشو الإيمان مثلا إدخال مابه يحصل كمال ذلك وكثيرا ما يسمى المسبب باسم السبب مجازا ويحتمل أن يكون على حقيقته وتجسم المعاني جائز وقال العارف بن أبي جمرة كما في المواهب اللدنية للعسقلاني ما حاصله إن ما دل كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على جوهريته وجسميته من أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إلى إدراكها سبيل هو كما دل عليه كلامه عليه الصلاة و السلام في نفس الأمر وإن الحكم من التكلم أو نحوه عليها بالعرضية إنما هو باعتبار ما ظهر له بعقله وللعقل حد يقف عنده والحقيقة في الحقيقة ما دل عليه خبر الشارع المؤيد بالوحي الإلهي والنور القدرسي المحلق بجناحيهما في جو الحقائق إلى حيث لا يسمع لنحلة العقل دندنة ولا المرواة عنه عنعنة فالإيمان والحكمة ونحوهما مما دل عليه كلام النبي
(30/167)

صلى الله تعالى عليه وسلم على جوهريتها جواهر محسوسة لا معان وإن حسبها من حسبها كذلك انتهى والأمر فيه اعتقادا وإنكارا إليك ولا ألزمك الأعتقاد فما أريد أن أشق عليك وقال بعض الأجلة لعل ذلك من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا كما مثل له عليه الصلاة و السلام الجنة والنار في عرض حائط مسجده الشريف وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس وهو ميل إلى عدم الوقوع حقيقة قد قال غير واحد جميع ما ورد من الشق وإخراج القلب وغيرهما يجب الإيمان به وإن كان خارقا للعادة ولا يجوز تأويله لصلاحية القدرة له ومن زعم ذلك وقع في هوة المعتزلة في تأويلهم نصوص سؤال الملكين وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط وغير ذلك بالتشهي وأما حكمة ذلك مع إمكان إيجاد ما ترتب عليه بدونه فقد أطالوا الكلام في بيانها في موضعه نعم حمل الشرح في الآية على ذلك الشق ضعيف عند المحققين والتعبير عن ثبوت الشرح بالأستفهام الإنكاري عن انتفائه للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يجيب عنه بغير بلى وإسناد الفعل على ضمير العظمة للإيذان بعظمته وجلالة قدره وزيادة الجار والمجرور مع توسيطه بين الفعل ومفعوله للإيذان من أول الأمربأن الشرح من منافعه عليه الصلاة و السلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وتشويقا له عليه الصلاة و السلام إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن وقرأ أبو جعفر المنصور ألم نشرح بفتح الحاء وخرجه ابن عطية وجماعة على أن الأصل ألم نشرحن بنون التأكيد الخفيفة فأبدل من النون ألفا ثم حذفها تخفيفا كما في قوله اضرب عنك الهموم طارقها
ضربك بالسيف قونس الفرس ولا يخفى أن الحذف هنا أضعف مما في البيت لأن ذلك في الأمر وهذا في النفي ولهذا روي ابن جني في المنتفي عن أبي مجاهد أنه غير جائز أصلا فنون التوكيد أشبه شيء به الإسهاب والأطناب لا الإيجاز والأختصار والبيت يقال أنه مصنوع والأولى في التمثيل ما أنشده أبو زيد في نوادره من أي يومي من الموت أفر
أيوم لم يقدر أم يوم قدر وقال غير واحد لعل أبا جعفر بين الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها وفي البحر أن لهذه القراءة تخريجا أحسن مما ذكر وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بلم فقد حكى الليحاني في نوادره أن منهم من ينصب بها ويجزم بلن عكس المعروف عند الناس وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد في كل ما هم أمضي رأيه قدما
ولم يشاور في الأمر الذي فعلا وخرجها بعضهم على أن الفتح لمحاورة ما بعدها كالكسر في قراءة الحمد لله بالجر وهو لا يتأتى في بيت عائشة ويتأتى فيما عداه مما مر وقوله تعالى ووضعنا عنك وزرك عطف على ما أشير إليه من مدلول الجملة السابقة كأنه قيل قد شرحنا لك صدرك ووضعنا الخ وعنك متعلق بوضعنا وتقديمه على المفعول الصريح لما مر من القصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم والوزر الحمل الثقيل أي وحططنا عنك حملك الثقيل الذي انقض ظهرك أي حمله على النقيض وهو صوت الأنتقاض والأنفكاك أعني الصرير ولا يختص بصوت المحامل والرجال بل يضاف إلى المفاصل فيقال نقيض المفاصل ويراد صوتها فنقيض الظهر ما يسمع من مفاصله من الصوت لثقل الحمل وعليه قول عباس بن مرداس وأنقض ظهري ما تطويت منهم
وكنت عليهم مشفقا متحننا
(30/168)

وإسناد الإنقاض للحمل إسناد للسبب الحامل مجازا والمراد بالحمل المنقض هنا ما صدر منه صلى الله تعالى عليه وسلم قبل البعثة مما يشق عليه صلى الله تعالى عليه وسلم تذكره لكونه في نظره العالي دون ما هو عليه عليه الصلاة و السلام بعد أو غفلته عن الشرائع ونحوها مما لا يدرك إلا بالوحي مع تطلبه صلى الله تعالى عليه وسلم لأه أو حيرته عليه الصلاة و السلام في بعض الأمور كإداء حق الرسالة أو الوحي وتلقيه فقد كان يثقل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم في ابتداء أمره جدا أو ما كان يرى صلى الله تعالى عليه وسلم من ضلال قومه مع العجز عن إرشادهم لعدم طاعتهم له وإذعانهم للحق أو ما كان يرى من تعديهم في إيذائه عليه الصلاة و السلام أو همه عليه الصلاة و السلام من وفاة أبي طالب وخديجة بناء على نزول السورة بعد وفاتهما ويراد بوضعه على الأول مغفرته وعلى الثاني إزالة غفلته عليه الصلاة و السلام عنه بتعليمه إياه بالوحي ونحوه وعلى الثالث إزالة ما يؤدي للحيرة وعلى الرابع تيسيره له صلى الله تعالى عليه وسلم بتدربه واعتباره له وعلى الخامس توفيق بعضهم للإسلام كحمزة وعمر وغيرهما وعلى السادس تقويته صلى الله تعالى عليه وسلم على التحمل وعلى السابع إزالة ذلك برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياة وفوزه بمشاهدة محبوبة الأعظم ومولاه عز و جل وأيا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية والوضع ترشيح لها وليس فيه دليل لنا في العصمة كما لا يخفى واختار أبو حيان كون وضع الوزر كناية عن عصمته صلى الله تعالى عليه وسلم عن الذنوب وتطهيره من الأدناس عبر ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتقاء ذلك كما يقول القائل رفعت عنك مشقة الزيارة لمن لم يصدر منه زيارة على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه له والتمثيل عليه بحاله على ما قيل المراد وزر أمتك وإنما أضيف إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لاهتمامه بشأنه وتفكره في أمره والمراد بوضعه رفع غائلته في الدنيا من العذاب العاجل ما دام صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم وما داموا يستغفرون فقد قال سبحانه وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ولا يخفى بعد هذا الوجه وقرأ أنس وحططنا وحللنا مكان وضعنا وقرأ ابن مسعود عنك وقرك ورفعنا لك ذكرك بالنبوة وغيرها وأي رفع مثل أن قرن اسمه عليه الصلاة و السلام باسمه عز و جل في كلمتي الشهادة وجعل طاعته وصلى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب كيا أيها المدثر يا أيها المزمل يا أيها النبي الرسول وذكره سبحانه في كتب الأولين وأخذ على الأنبياء عليهم السلام وأممهم أن يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك لا أذكر إلا ذكرت معي وفيه حديث مرفوع أخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتاني جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقول أتدري كيف رفعت ذكرك قلت الله تعالى أعلم قال إذا ذكرت ذكرت معي وكان ذلك من الأقتصار على ما هو أعظم قدرا من أفراد رفع الذكر ويشير إلى عظم قدره قول حسان أغر عليه للنبوة خاتم
من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد ولا يخفى لطف ذكر الرفع بعد الوضع والكلام في العطف وزيادة لك كالذي سلف والفاء في قوله عز و جل فإن مع العسر يسرا على ما في الكشاف فصيحة والكلام وعد له صلى الله تعالى عليه وسلم مسوق للتسلية والتنفيس قال كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(30/169)

والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف عليه الصلاة و السلام أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال تعالى شأنه أن مع العسر يسرا كأنه قال سبحانه خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله تعالى فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا وهو ظاهر في أن أل في العسر للعهد وأما التنوين في يسرا فللتفخيم كأنه قيل أن مع العسر يسرا عظيما وأي يسر والمراد به ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو يسر الدنيا مطلقا وقوله تعالى إن مع العسر يسرا يحتمل أن يكون تكريرا للجملة السابقة لتقرير معناها وفي النفوس وتمكينها في القلوب كما هو شأن التكرير ويحتمل أن يكون وعدا مستأنفا وأل التنوين على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام الخلفاء أو يسر الآخرة واحتمال الأستئناف هو الراجح لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الأحتمالين وأوفاهما والمقام كما تقدم مقام التسلية والتنفيس والأستئناف نحوي وتجرده على الواو أكثر من أن يحصى ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل وقال عصام الدين لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير فاحفظه فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم وقد يقال أن فائدته الظهر في التأسيس لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والإشعار بالفرق بين العسر واليسر ويظهر مما ذكر وجه ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال خرج رسول الله عليه الصلاة و السلام فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين مع أن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا وأفاد بعض الأجلة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلى الله تعالى عليه وسلم بتيسير كل عسير فالفاء قيل سببية ودخلت على المسبب وإن تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر وأل في العسر للأستغراق فيدخل فيه سبب النزول والتنوين في يسرا على ما سبق كأنه قيل فعلنا لك كذا وكذا لأن مع كل عسر كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر والخمول يسرا عظيما كالشرح والوضع ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك وقال بعضهم الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على الدليل في صورة الأستدلال بالجزئي على الكلي وذلك كما تقول أما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك الأسفل عند المضغ فاعلم بذلك أن كل حيوان يفعل كذلك فتدبر وفي الجملة الثانية الأحتمالان السابقان والأستئناف أيضا هو الراجح لما تقدم وعلى اتحاد العسر وتعدد اليسر يكون الحاصل من الجملتين أن مع كل عسر يسرين عظيمين والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي وقيل الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها فاليسر فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك والكلام نظير قولك أن مع الفارس رمحا أن مع الفارس رمحا وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح ولن يغلب عسر يسرين ليس نصا في الحمل على الأستئناف إذ يصح على التأكيد أيضا بأن يكون مبنيا على كون التنوين في يسرا للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة ويشهد لذلك أنه ليس في مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضا لن يغلب عسر يسرين وقيل يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد وهو كما ترى والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ مع لمعنى بعد وذلك للمبالغة في معاقبة اليسر العسر وإنصاله به واستشكل أمر الأستغراق بأن من العسر ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وأن من العسر
(30/170)

ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا كعسر الكافر والجواب بأن الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس ويشعر به ما رواه في الموطأ عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجعل الله تعالى بعده فرجا ولن يغلب عسر يسرين ولا يحسم الأشكال إذ يبقى معه أن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو ظاهر بل منه ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا وذلك كعسر المؤمن الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة والظاهر من اليسر هو الثواب فيها على ذلك العسر وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها إن من عسره أيضا ما لا يعقبه اليسر الدنيوي وأجاب بعض على وجه التأكيد بأن الأستغراق عرفي ويكفي فيه أن العسر في الغالب يعقبه يسر وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمن الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وإن لم تذكر قيل ويشعر بذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشر بهذه الآية أصحابه فقال عليه الصلاة و السلام لن يغلب عسر إن شاء الله تعالى يسرين ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن يكون مع ظاهرها والتنوين في يسر اللنوعية ولا إشكال في الإستغراق إذ لا يخلو المرء في حال العسر عن نوع من اليسر وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه ويجوز أن يكون التنوين للتفخيم أيضا ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو دفع الأعظم وما من عسر إلا وعند الله تعالى أعظم منه وأعظم وأنه لا يأبى ذلك لن يغلب عسر يسرين إما لأن المعنى لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين في مقام التسلية أو لأن الآية أفادت أن مع العسر يسرا وقد علم أن بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله تعالى سيجعل الله بعد عسر يسرا إن كان نزوله متقدما وذكر بعضهم أن المعية على حقيقتها عند الخاصة على معنى أن كل ما فعل المحبوب محبوب كما يشير إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره وتعذيبكم عذب لدي وجوركم
على بما يقتضي الهوى لكم عدل وقول الآخر برجا تم أزتوهر جه
رسدجاي منت أست كدناوك جفا ست
وكر خنجر ستم وتسمية ذلك عسرا لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصحابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا وحياله حجر فقال عليه الصلاة و السلام لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله تعالى إن مع العسر يسرا الخ ولفظ الطبراني وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن مع العسر يسرا وإرادة العهد أسلم من القيل والقال وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الأستئناس له بسبب النزول لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية الأستغراق فإذا قيل به فلا بد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقا بالله تعالى حسن الرجاء به عز و جل منقطعا إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى العسر يسرا في الموضعين بضم السين فإذا فرغت أي من عبادة كتبليغ الوحي فانصب فاتعب في عبادة أخرى شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة كأنه عز و جل لما عدد عليه ما عدد ووعده صلى الله تعالى عليه وسلم بما وعد بعثه على الشكر والأجتهاد في العبادة وإن لا يخلي وقتا من أوقاته منها فإذا فرغ من
(30/171)

عبادة أتبعها بأخرى وإلى ربك وحده فارغب فاحرص بالسؤال ولا تسألأ غيره تعالى فإنه القادر على الإسعاف لا غيره عز و جل وأخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس أنه قال أي إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء وروي نحوه عن الضحاك وقتادة وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أي إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل وعن الحسن أي إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم نحوه وأخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد أي إذا فرغت من أسباب نفسك وفي لفظ من دنياك فصل وفي رواية أخرى عنه نحو ما روي عن ابن عباس والأنسب حمل الآية على ما تقدم وأما قول ابن عباس ومن معه فهو تخصيص لبعض العبادات فراغا وشغلا إما مثالا لا أن اللفظ خاص وهو الأظهر وكذا يقال فيما روي عن ابن مسعود وإما لأن الصلاة أم العبادات البدنية والدعاء مخ العبادة فهما هما وقول الحسن فيه ما شاع من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو قريب إلا أنه قيل عليه أن السورة مكية والأمر بالجهاد بعد الهجرة ولعله يقول بمدنيتها أو مدنية هذه الآية أو أنها مما تأخر حكمه عن نزوله كآيات أخر وقول مجاهد نظر فيه إلى أن الفراغ أكثر ما يستعمل في الخلو عن الأشغال الدنيوية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم اغتتم فراغك قبل شغلك وهو أضعف الأقوال لبعده عما يقتضيه السياق وتؤذن به الفاء وقال عصام الدين لا نسب أن يراد فإذا فرغت من يسر فانصب بعسر آخر طلبا لليسرين فإذا كنت كذلك فكن راغبا إلى ربك يعني لا تتحمل عسر الدنيا طمعا في يسرين فيها بل تحمل عسر طلب الرب وقربه جل شأنه لليسرين انتهى ولعمري أنه خلاف ما يفهمه من لا سقم في ذهنه من اللفظ وأشعرت الآية بأن اللائق يحال العبد أن يستغرق أوقاته بالعبادة أو بأن يفرغ إلى العبادة بعد أن يفرغ من أمور دنياه على ما سمعت من قول مجاهد فيها وذكروا أن قعود الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة وعن عمر رضي الله تعالى عنه أني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته وروي أن شريكا مر برجلين يصطرعان فقال ما بهذا أمر الفارغ وقرأ أبو السمال فرغت بكسر الراء وهي لغة قال الزمخشري ليست بفصيحة وقرأ قوم فأنصب بشد الياء مفتوحة من الإنصاب والمراد فتوجه إلى عبادة أخرى كل التوجه ونسب إلى بعض الإمامية أنه قرأ فأنصب بكسر الصاد فقيل أي فإذا فرغت من النبوة فانصب عليا للأمامة وليس في الآية دليل على خصوصية المفعول فللسني أن يقدره أبا بكر رضي الله تعالى عنه فإن احتج الإمامي ما وقع لإي غدير خم منع السني دلالته على ما ثبت عنده على النصب وصحته على ما يرويه واحتج لما قدره بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مروا أبا بكر فليصل بالناس وقال أنه أوفق بإذا فرغت لما أنه صدر منه عليه الصلاة و السلام في مرض وفاته قبل وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم بخلاف ما كان في الغدير فإنه لآ يظهر أن زمانه زمان فراغ من النبوة ظهور كون زمان الأمر كذلك وإن رجع وقال المراد فإذا فرغت من الحج فانصب عليا ورد أمر مكية السورة مع ما لا يخفى وقال في الكشاف لو صح ذلك للرافضي لصح للناصي أن يقرأ هكذا ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض علي كرم الله تعالى وجهه وعداوته وفيه نظر ومن الناس من قدر المفعول خليفة والأمر فيه هين وقال ابن عطية إن هذه القراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة فرغب أمر من رغب بشد الغين أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عز و جل
(30/172)

سورة التين
ويقال لها سورة التين بلا واو مكية في قول الجمهور وعن قتادة أنها مدنية وكذا عن ابن عباس على ما في البحر ومجمع البيان برواية المعدل وأخرج عنه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي ما يوافق قول الجمهور ويؤيده إشارة الحضور في قوله تعالى وهذا البلد الأمين فإن المراد به مكة بإجماع المفسرين فيما نعلم وآيها ثمان آيات في قولهم جميعا لما ذكر سبحانه في السورة السابقة حال أكمل النوع الإنساني بالإتفاق بل أكمل خلق الله عز و جل على الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر عز و جل في هذه السورة حال النوع وما ينتهي إليه أمره وما أعد سبحانه لمن آمن منه بذلك الفرد الأكمل وفخر هذا النوع المفضل صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
والتين والزيتون
وطور سنين
وهذا البلد الأمين إقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه كثير فأما البلد الأمين فمكة حماها الله تعالى بلا خلاف وجاء في حديث مرفوع وهو مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومبعثه والأمين فعيل بمعنى إما بمعنى فاعل أي الآمن من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين وجاء أمان أيضا كما جاء كريم وكرام ولم يسمع آمن فاعل وسمع على معنى النسب كما في قوله تعالى حرما آمنا بمعنى ذي أمن وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ففيه تشبيه بالرجل الأمين وأما بمعنى مفعول أي المأمون من أمنه أي لم يخفه ونسبته إلى البلد مجازية والمأمون حقيقة الناس أي لا تخاف غوائلهم فيه أو الكلام على الحذف والإيصال أي المأمون فيه من الغوائل وإقحام اسم الإشارة للتعظيم وأما طور سينين فالجبل الذي كلم الله تعالى شأنه موسى عليه السلام عليه ويقال له طور سيناء بكسر السين والمد وبفتحها والمد وقد قرأ بالأول هنا بدل سينين عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن وبالثاني عمر أيضا وزيد بن علي وطور سينين بفتح السين وهي لغة بكر وتميم وقد قرأ بها ابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وفي البحر أنه لم يختلف في أنه جبل بالشام وتعقبه الشهاب بأنه خلاف المشهور فإن المعروف اليوم بطور سينا ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة وسينين قيل اسم للبقعة التي فيها الجبل أضيف إليه الطور ويعامل في الإعراب معاملة بيرون ونحوه فيعرب بالواو والياء ويقر على الياء وتحرك النون بحركات الإعراب وقال الأخفش سينين جمع بمعنى شجر واحدته سينة فكأنه قيل طور الأشجار وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال سينين هو الحسن وأخرج عبد بن حميد نحوه عن الضحاك وكذلك أخرج هو وجماعة عن عكرمة بزيادة بلسان الحبشة وأخرج هو أيضا وابن جرير وابن عساكر وغيرهما عن قتادة أنه قال سينين مبارك حسن ذو شجر والإضافة على ما ذكر من إضافة الصفة إلى الموصوف وأما التين والزيتون فروي جماعة عن قتادة أن الأول منهما الجبل الذي عليه دمشق والثاني الجبل الذي عليه بيت المقدس ويقال على ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن أبي حبيب الحرث بن محمد للأول تينا وللثاني زيتا وذلك لأنهما منبتا التين والزيتون وكان الكلام على هذا إما على حذف مضاف أو على التجوز بأن يكون قد تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما وشاع ذلك وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبد الله الفارسي أن التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس ولعل إطلاقهما عليهما لأن فيهما شجرا من جنسهما وعن كعب الأحبار أنهما دمشق وإيلياء بلد بيت المقدس وكأن تسميتها بذلك من تسمية المحل باسم الحال فيه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد ن كعب أنهما
(30/173)

مسجد أصحاب الكهف ومسجد إيلياء وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنهما مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي وبيت المقدس وعن شهر بن حوشب أنهما الكوفة والشام وتعقب بأن الكوفة بلدة إسلامية مصرها سعد بن أبي وقاص في أيام أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه ولعله أراد الأرض التي تسمى اليوم بالكوفة فقد كانت كما في القاموس وغيره منزل نوح عليه السلام وقال بعضهم أن الكوفة بلد كانت قبل لكنها خربت فجددت في أيام عمر رضي الله تعالى عنه وقيل هما جبال ما بين حلوان وهمذان وجبال الشام لأنهما منابتهما وأياما كان فالمتعاطفات متناسبة في أن المراد بها أماكن مخصوصة وقيل المراد بهما الشجران المعروفان وأخر ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبن عباس أنه قال التين والزيتون الفاكهة التي يأكلها الناس وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد نحوه وحكاه في البحر أيضا عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وعكرمة والحسن وخصهما الله تعالى على هذا القول بالإقسام بهما من بين الثمار لاختصاصهما بخواص جليلة فإن التين فاكهة طيبة لا فضل لها وغذاء سريع الأنهضام بل قيل أنه أصح الفواكه غذاء إذا أكل على الخلاء ولم يتبع بشيء وهو دواء كثير النفع يفتح السدد ويقوي الكبد ويذهب الطحال وعسر البول وهزال الكلي والخفقان والربو وعسر النفس والسعال وأوجاع الصدر وخشونة القصبة إلى غير ذلك وعن علي الرضا بن موسى الكاظم على جدهما وعليهما السلام أنه يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج وروي أبو ذر أنه أهدى إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ولم أقف للمحدثين على شيء في هذا الحديث لكن قال داود الطبيب بعد سرد نبذة من خواص التين وفي نفعه من البواسير حديث حسن وذكر أن نفعه من النقرس إذا دق دقيق الشعير أو القمح أو الحلبة وذكر أنه حينئذ من الأورام الغليظة وأوجاع المفاصل وله مفردا ومركبا خواص أخرى كثيرة وكذا لشجرته كما لا يخفى على من راجع كتب الطب وما أشبه شجرته بمؤثر على نفسه وبكريم يفعل ولا يقول وأما الزيتون فهو دام ودواء وفاكهة فيما قيل وقالوا إن المكلس منه لا شيء مثله في الهضم والتسمين وتقوية الأعضاء ويكفيه فضلا دهنه الذي عم الأصطباح به في المساجد ونحوها مع ما فيه من المنافع كتحسين الألوان وتصفية الأخلاط وشد الأعصاب وكفتح السدد وإخراج الدود والأدرار وتفتيت الحصى وإصلاح الكلى شربا بالماء وكقلع البياض وتقوية البصر اكتحالا إلى غير ذلك وشجرته من الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل وإذا تتبعت خواص أجزائها ظهر لك أنها أجدى من تفاريق العصا وعن معاذ بن جبل أنه مر بشجرة زيتون فأخذ منها سواكا فاستاك به وقال سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة وسمعته عليه الصلاة و السلام يقول هو سواكي وسواك الأنبياء عليهم السلام وقال بعضهم إن تفسيرهما بما ذكر هو الصحيح وكأن المراد عليه تين تلك الأماكن المقدسة وزيتونها والغرض من القسم بتلك الأبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة ويرجع إلى القسم بالأرض المباركة وبالبلد الأمين وفيه رمز إلى فضل البلد كما يشعر به كلام صاحب الكشاف وبين ذلك في الكشف بقوله وذلك أنه فصل بركتي الأرض المقدسة الدنيوية والدينية بذكر الشجرتين أو تمرتيهما والطور الذي نودي منه موسى عليه السلام وناب المجموع مناب والأرض المباركة على سبيل الكناية فظهر التناسب في العطف على وجه بين إذ عطف البلد على مجموع الثلاثة لأنها
(30/174)

كالفرد بهذا الاعتبار كأنه قيل والأرض التي باركنا فيها دينا ودنيا إلا آمن من دخله في الدارين وذلك بركة يتضاءل دونها كل بركة ويتضمن ذلك أن شرف تلك البقاع بمناجاة موسى عليه السلام ربه عز و جل أياما معدودة وكم نوجيت في البلد الأمين ثم قال والحمل على الظاهر أريد المنابت أو الشجر إن يفوته المناسبة بين الأولين والبلد الأمين لأن مناسبة طور سينين للبلد غير مناسبته لهما والكلام مسوق للأول فتأمل فإنه دقيق وأياما كان فجواب القسم قوله تعالى لقد خلقنا الإنسان الخ وأريد بالإنسان الجنس فهو شامل للمؤمن والكافر لا مخصوص بالثاني واستدل عليه بصحة الأستتناء وإن الأصل فيه الأتصال وقوله تعالى في أحسن تقويم في موضع الحال من الإنسان أي كائنا في تقويم أحسن تقويم والتقويم التثقيف والتعديل وهو فعل الله عز و جل فمعنى كون الإنسان كائنا في ذلك على ما قيل أنه ملتبس به نظير قولك فلأن في رضا زيد بمعنى أنه مرضي عنه وقال الخفاجي هو مؤول بمعنى القوام أو المقوم وفيه مضاف مقدر أي قوام أحسن تقويم أو في زائدة وما بعدها في موضع المفعول المطلق وقد ناب فيه عن المصدر صفته والتقدير قومناه تقويما أحسن تقويم والمراد بذلك جعله على أحسن ما يكون صورة ومعنى فيشمل ماله من انتصاب القامة وحسن الصورة والإحساس وجودة العقل وغير ذلك ومن أمعن نظره في أمره وأجال فكره في دقائق ظاهره وسره رآه كما قال بعض الأجلة مجمع مجري الغيب والشهادة ومطلع نيري فلكي الأففادة والأستفادة والنسخة الجامعة لما في رسائل إخوان الصفا وسائر المتون والشارح بطور طروس العجائب الإلهية المودعة فيه لما كان وسيكون وظهر له صدق ما قيل ونسب لعلي كرم الله تعالى وجهه دواؤك فيك ولا تشعر
وداؤك منك وما تصبر وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر ومما يدل على أحسنية تقويمه أن الله تعالى رسم فيه من الصفات ما تذكره صفاته عز و جل وتدله عليها فجعله عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك وقال تعالى تخلقوا بأخلاق لئلا يتوهم أن ما للسيد على العبد حرام ويكفي في هذا الباب وهو القول الفصل إن الله تعالى خلقه بيديه وأمر سبحانه ملائكته عليهم السلام بالسجود له وهم المكرمون لديه وجاء أن الله تعالى خلق آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن وهي تأبى احتمال عود الضمير على آدم على معنى خلقه غير متنقل في الأطوار كبنيه ولكونه النسخة الجامعة قال يحيى ابن معاذ الرازي من عرف نفسه فقد عرف ربه والناس يزعمونه حديثا وليس كما قال التووي بثابت وعن يحيى بن أكثم وبعض الحنفية أنهما أفتيا من قال لزوجته إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق بعدم وقوع الطلاق واستدلا بهذه الآية في قصة مشهورة وللشعراء في تفضيل معشوقهم على القمر ليلة تمه ما يضيق عنه نطاق الحصر والحق أن الفرق مثل الصبح ظاهر وثم في قوله تعالى ثم رددناه أسفل سافلين للتراخي الزماني أو الرتبي والرد إما بمعنى الجعل فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر كما في قوله فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوههن البيض سودا فأسفل مفعول ثان له هنا والمعنى ثم جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل خلقا وتركيبا لعدم جريه على ما خلقناه عليه من الصفات وجوز أن يكون المراد بالرد
(30/175)

تغيير الحال فهو متعد لواحدة وأسفل حال من المفعول أي رددناه حال كونه أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب النار وأن يكون الرد بمعناه المعروف وأسفل منصوب بنزع الخافض وجعل الأسفل عليه صفة لمكان وأريد بالسافلين الأمكنة السافلة أي رددناه إلى مكان أسفل الأمكة السالفة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار ويعكر على هذا جمعها جمع العقلاء وكونه للفاصلة أو التنزيل منزلة العقلاء ليس مما يهتش له ولعل الأولى على ذلك أن يراد إلى أسفل من سفل من أهل الدركات وقال عكرمة والضحاك والنخعي وقتادة في رواية المراد بذلك رده إلى الهرم وضعف القوى الظاهرة والباطنة أي ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله وابيض شعره بعد سواده وتشنن جلده وكان بضا وكل سمعه وبصره وكانا حديدين وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوته ضعف وشهامته خرف والآية على هذا نظير قوله تعالى ثم يرد إلى أرذل العمر وقوله سبحانه ومن نعمره ننكسه في الخلق وهو باعتبار الجنس فلا يلزم أن يكون كل الإنسان كذلك وفي إعراب أسفل قيل الأوجه السابقة منه غير خفي ثم المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها وإرادة ما ذكر لا يلائمه ومن هنا قيل إنه خلاف الظاهر والظاهر ما لاءم ذلك كما هو المروي عن الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة أيضا وقرأ عبد الله السالفين مقرونا بأل وقوله تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما تقدم استثناء متصل من ضمير رددناه العائد على الإنسان فإنه في معنى الجمع فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ولا تقبح صورهم بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم وحسنا إلى حسنهم وقوله تعالى فلهم أجر غير ممنون أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم مقرر لما يفيده الأستثناء من خروجهم عن حكم الرد ومبين لكيفية حالهم وعلى الأخير الأستثناء منقطع والموصول مبتدأ وجملة لهم أجر خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والكلام على معنى الأستدراك كأنه قيل لكن الذين آمنوا لهم أجر الخ وهو لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره فلا يرد أنه كيف يكون منقطعا والمؤمنون داخلون في المردودين إلى أرذل العمر غير مخالفين لغيرهم في الحكم وقال بعض المحققين الأنقطاع لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الأتصال والأنقطاع كما صرح به في الأصول لا الخروج وادلخول فلا تغفل وحمل غير واحد هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمي كأنه قيل لكن الذين كانوا صالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع أو غير ممنون به عليهم لصبرهم على ما بتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين إياهم عن النهوض لاداء وظائفهم من العبادة أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيماوفي رواية عنه ثم قرأ صلى الله تعالى عليه وسلم فلهم أجر غير ممنون أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن الله تبارك وتعالى يقول إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما أبتليه فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب عز و جل إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية إذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته ومن الناس من حملهم على قراء القرآن وجعل الأستثناء متصلا مخرجا لهم عن حكم الرد إلى أرذل العمر بناء على ما أخرج الحاكم
(30/176)

وصححه والبيهقي في الشعب عن الحبر قال من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله تعالى ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا قال إلا الذين قرؤا القرآن وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه وفيه أنه لا ينزل تلك المنزلة يعني الهرم كي لا يعلم من بعد علم شيئا أحد من قراء القرآن ولا يخفى أن تخصيص الذين آمنوا بما خصص به خلاف الظاهر وفي كون أحد من القراء لا يرد إلى أرذل العمر توقف فليتتبع والخطاب في قوله تعالى فما يكذبك بعد بالدين عند الجمهور للإنسان على طريقة الألتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت والفاء لتفريع التوبيخ عن البيان السابق والباء للسببية والمراد بالدين الجزاء بعد البعث أي فما يجعلك كاذبا بسبب الجزاء وإنكاره بعد هذا الدليل والمعنى إن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه على وجه يبهر الأذهان ويضيق عنه نطاق البيان أو هذا مع تحويله من حال إلى حال من أوضح الدلائل على قدرة الله عز و جل على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك أيها الإنسان بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيبه فإن كل مكذب بالحق فهو كاذب وقال قتادة والأخفش والفراء الخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي فأي شيء يكذبك بالجزاء بعد ظهور دليله وهو من باب الألهاب والتعريض بالمكذبين أي أنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالجزاء لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله تعالى ولا يرفعون بها رأسا فالأستفهام لنفي التكذيب وإفادة أنه عليه الصلاة و السلام لاستمرار الدلائل وتعاضدها مستمر على ما هو على عدم التكذيب وفيه من اللطف ما ليس في الأول وجوز على هذا الوجه كون الباء بمعنى في وكونها السببية وتقدير مضاف عليهما والمعنى أي شيء ينسبك إلى الكذب في إخبارك بالجزاء أو بسبب إخبارك به بعد هذا الدليل وكونها صلة التكذيب والدين بمعناه والمعنى أي شيء يجعلك مكذبا بدين الإسلام وروي هذا عن مجاهد وقتادة والأستفهام على ما سمعت وجوز كون الدين بمعناه على الوجه الأول أيضا وبعض من ذهب إلى كون الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم جعل ما بمعنى من لأن المعنى عليه أظهر وضعف بأنه خلاف المعروف في ما فلا ينبغي ارتكابه مع صحة بقائها على المعروف فيها أليس الله بأحكم الحاكمين أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء وحيث استحال عدم كونه سبحانه أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء والجملة تقرير لما قبلها وقيل الحكم بمعنى القضاء فهي وعيد للكفار وأنه عز و جل يحكم عليهم بما هم أهله من العذاب وأيا ما كان فالأستفهام على ما قيل تقرير بما بعد النفي ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى قوله تعالى أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أتى على هذه الآية سبحانك فبلى وقد تقدم ما يتعلق بهذا في تفسير سورة لا أقسم بيوم القيامة فتذكر
سورة العلق
وتسمى سورة اقرأ لا خلاف في مكيتها وإنما الخلاف في عدد آيها ففي الحجازي عشرون آية وفي العراقي تسع عشرة وفي الشامي ثماني عشرة وفي أنها أول نازل أولا فذهب كثير إلى أنها أول نازل فقد أخرج الطبراني في الكبير بسنده على شرط الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال كان أبو موسى الأشعر يقرئنا فيجلسنا حقا عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة اقرأ باسم
(30/177)

ربك قال هذه أول سورة أنزلت على محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل وصححاه عن عائشة نحوه وأخرج غير واحد عن مجاهد قال أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم ن والقلم وروي الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أولا قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك قال أحدثكم بما حدثنا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فساق الحديث مستدلا به على ما ادعاه وأجاب عنه الأولون بعدة أجوبة مر ذكرها وقيل الفاتحة واحتج له بحديث مرسل رجاله ثقات أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمر عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وأجيب عنه بأن ما فيه يحتمل أن يكون خبرا عما نزل بعد اقرأ ويا أيها المدثر مع أن غيره أقوى منه رواية وجزم جابر بن زيد بأن أول ما نزل اقرأ ثم ن ثم يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر ثم الفاتحة وقيل أول ما نزل صدرها إلى ما لم يعلم في غار حراء ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى وهو ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وعبد بن حميد وعبد الرزاق وغيرهم من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدء الوحي وفيه فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فرجع بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترجف بوادره إلى أن قالت ثم لم ينشب ورفة أن توفي وفتر الوحي وفي آخرها ما رووا قال بن شهاب وأخبرني أبو سلمة عن جابر ابن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فمحى الوحي وتتابع ويعلم منه ضعف الأستدلال على كون سورة المدثر أول نازل من القرآن على الإطلاق بما روي أولا عن جابر كما لا يخفى على الواقف عليه وقد ذكرناه صدر الكلام في سورة المدثر لقوله فيه وهو يحدث عن فترة الوحي وقوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء وقوله فمحي الوحي وتتابع أي بعد فترته وبالجملة الصحيح كما قال البعض وهو الذي اختاره إن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما أنزل من القرآن على الإطلاق كيف وقد ورد حديث بدء الوحي المروي عن عائشة من أصح الأحاديث وفيه فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت ما أنا بقاريء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد الخ والظاهر أن ما فيه نافية بل قال النووي هو الصواب وذلك إنما يتصور أولا وإلا لكان الأمتناع من أشد المعاصي ويطابقه ما ذكره الأئمة في باب تأخير البيان وسنشير إليه إن شاء الله تعالى وفي الكشف الوجه حمل قول جابر على السورة الكاملة وفي شرح صحيح مسلم الصواب أن أول ما نزل اقرأ أي مطلقا وأول ما نزل بعد فترة الوحي يا أيها المدثر وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله والله تعالى أعلم ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بين عز و جل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية وهذا كالبيان للعلة المادية وذكر سبحانه هنا أيضا من أحواله في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عز و جل هناك فقال سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم
إقرأ أي ما يوحى إليك من القرآن مقدر بقرينة المقام كما قيل وليس الفعل منزلا منزلة اللازم ولا أن مفعوله قوله تعالى باسم ربك على أن الباء زائدة كما قال
(30/178)

أبو عبيدة وزعم أن المعنى اذكر ربك بل هي أصلية ومعناها الملابسة وهي متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا كما روي عن قتادة والمعنى اقرأ مبتدئا أو مفتتحا باسم ربك أي قل بسم الله ثم إقرأ وهو ظاهر في أنه لو افتتح بغير اسمه عز و جل لم يكن ممتثلا واستدل بذلك على أن البسملة جزء من كل سورة وفيه بحث وكذا الأستدلال به على أنها ليست من القرآن للمقابلة إذ لقائل أن يقول أنها تخصص القرآن المقدر مفعولا بغيرها وبعضهم استدل على أنها ليست بقرآن في أوائل السور بأنها لم تذكر فيما صح من أخبار بدء الوحي الحاكية لكيفية نزول هذه الآيات كذا أفاده النووي عليه الرحمة ثم قال وجواب المثبتين أنها لم تنزل أولا بل نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة كذلك وهذا خلاف ما أخرج الواحدي عن عكرمة والحسن أنهما قالا أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم وأول سورة إقرأ وكذا خلاف ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال أول ما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يا محمد استعذ ثم قل بسم الله الرحمن الرحيم وقد عد القول بأنها أول ما نزل أحد الأقوال في تعيين أول منزل من القرآن وقال الجلال السيوطي أن هذا القول لا يعد عندي قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق وفيه منع ظاهر كما لا يخفى وجوز كون الباء للأستعانة متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا ورجحت الملابسة بسلامتها عن إيهام كون اسمه تعالى آلة لغيره وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول الكتاب ثم أنه ليس في الأمر المذكور تكليف بما لا يطاق سواء دل الأمر على الفور أم لا لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم أن ما أوحي قرآن فهو المكلف بقراءته عليه الصلاة و السلام ولا محذور في كون اقرأ الخ مأمورا بقراءته لصدق المأمور بقراءته عليه وهذا كما تقول لشخص اسمع ما أقول لك فإنه مأمور بسماع هذا اللفظ أيضا وقد ذكر جمع من الأصوليين أن هذا بيان للمأمور به في قول جبريل عليه السلام اقرأ المذكور في حديث بدء الوحي المتفق عليه قال الآمدي عند ذكر أدلة جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب الذي ذهب إليه جماعة من الحنفية وغيرهم ومن الأدلة ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم اقرأ قال وما أقرأ كرر عليه ثلاث مرات ثم قال له إقرأ باسم ربك الذي خلق بيان ما أمره به أولا مع إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر جبريل عليه السلام وسؤال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع إمكان بيانه أولا وذلك دليل جواز التأخير إلى آخر ما قال سؤالا وجوابا لا يتعلق بهما غرضنا ولا يخفى أن كون هذا بيانا للمراد على الوجه الذي ذكرناه ظاهر وكونه كذلك بجعل اقرأ باسم ربك إلى آخر ما نزل أو بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ الخ ما ادعاه الجلال معمولا لاقرأ المكرر في كلام جبريل عليه السلام مما لا أظن أصوليا يقول به ومثله كونه كذلك بحمل الآية على ما سمعت عن أبي عبيدة وأما بناء الأستدلال على ما في بعض الآثار من أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحراء بنمط من ديباج مكتوب فيه اقرأ باسم ربك إلى ما لم يعلم فقال له اقرأ فقال عليه الصلاة و السلام ما أنا بقاريء قال إقرأ باسم ربك بأن يكون إقرأ الخ بيانا وتلاوة من جبريل عليه السلام لما في النمط المنزل لعدم العلم بما فيه وإن كان مشاهدا منزلة المجمل الغير المعلوم فلا يخفى حاله فتأمل ثم أن في كلام الآمدي من حيث رواية الخبر ما فيه فلا تغفل والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه الصلاة و السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإنزال الوحي المتواتر ووصف الرب بقوله تعالى الذي خلق لتذكيره عليه الصلاة و السلام أول النعماء الفائضة عليه صلى الله تعالى
(30/179)

عليه وسلم منه سبحانه مع ما في ذلك من التنبيه على قدرته تعالى على تعليم القراءة بالطف وجه وقيل لتأكيد عدم إرادة غيره تعالى من الرب فإن العرب كانت تسمي الأصنام أربابا لكنهم لا ينسبون الخلق إليها والفعل إما منزل منزلة اللازم أي الذي له الخلق أو مقدر مفعوله عاما أي الذي خلق كل شيء والأول يفيد العموم أيضا فعلى الوجهين يكون وجه تخصيص الإنسان بالذكر في قوله تعالى خلق الإنسان إنه أشرف المخلوقات وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه أدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة مع أن التنزيل إليه ويجوز أن يراد خلق الإنسان إلا أنه لم يذكر أولا وذكر ثانيا قصدا لتفخيمه بالإبهام ثم التفسير وعن الزمخشري أن المناسب أن يراد خلق الإنسان بعد الأمر بقراءة القرآن تنبيها على أنه تعالى خلقه للقراءة والدراية كما أن ذكر خلق الإنسان عقيب تعليم القرآن أول سورة الرحمن لنحو ذلك وقوله تعالى من علق أي دم جامد لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين وأتى به دالا على الجمع لأن الإنسان مراد به الجنس فهو في معنى الجمع فأتى بما خلق منه كذلك ليطابقه مع ما في ذلك من رعاية الفواصل ولعله على ما قيل السر في تخصيص هذا الطور من بين سائر أطواره الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والترب أدل على كمال القدرة لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية وفي البحر لم يذكر سبحانه مادة الأصل يعني آدم عليه السلام وهو التراب لأن خلقه من ذلك لم يكن متقررا عند الكفار فذكر مادة الفرع وخلقه منها وترك مادة أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال وقيل خص هذا الطور تذكيرا له عليه الصلاة و السلام لما وقع من شرح الصدر قبل النبوة وإخراج العلق منه ليتهيأ تهيئا تاما لما يكون له بعد فكأنه قيل الذي خلق الإنسان من جنس ما أخرجه من صدرك الشريف ليهيئك بذلك لمثل ما يلقى إليك الآن وبهذا تقوى مناسبة هذه السورة لسورة الشرح قبلها أتم مناسبة لا سيما على تفسير الشرح بالشق فتدبره ومن الناس من زعم أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وإن المعنى خلق آدم من طبق يعلق باليد وهو مما لا تعلق به يد القبول ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه منه تعالى وأقدم الدلائل الدالة على وجوده عز و جل وكمال قدرته وعلمه وحكمته سبحانه وصف ذاته تعالى بذلك أولا ليستشهد عليه الصلاة و السلام به على تمكينه تعالى له القراءة ثم كرر جل وعلا الأمر بقوله تعالى اقرأ أي افعل ما أمرت به تأكيدا للأيجاب وتمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى وربك الأكرم الخ فإنه كلام مستأنف وأراد لإزاحة ما بينه صلى الله تعالى عليه وسلم من العذر بقوله عليه الصلاة و السلام لجبريل عليه السلام حين قال له اقرأ ما أنا بقاريء يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل وربك الذي أمرك بالقراءة مفتتحا ومبتدأ باسمه الأكرم الذي علم بالقلم أي علم ما علم بواسطة القلم لا غيره تعالى فكما علم سبحانه القاريء بواسطة الكتابة بالقلم يعلمك بدونها وحقيقة الكرم إعطاء ما ينبغي لا لغرض فهو صفة لا يشاركه تعالى في إطلاقها أحد فافعل للمبالغة وجوز أن لا يكون اقرأ هذا تأكيدا للأول وإنما ذكر ليوصل به ما يزيح العذر فجملة وربك الخ في موضع الحال من الضمير المستتر فيه وقوله تعالى علم الإنسان ما لم يعلم بدل اشتمال من علم بالقلم أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية ما لم يخطر بباله وفي حذف المفعول أولا وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانيا من الدلالة على كمال قدرته تعالى وكمال كرمه عز و جل والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه الصلاة و السلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى قاله في الإرشاد وقدر بعضهم مفعول علم الخط وجعل بالقلم متعلقا به وأيد بقراءة
(30/180)

ابن الزبير الذي علم الخط بالقلم حيث صرح فيها بذلك وقال ولجبائي أن اقرأ الأول أمر بالقراءة لنفسه وقيل مطلقا والثاني أمر بالقراءة للتبليغ وقيل في الصلاة المشار إليها فيما بعد وجملة وربك الخ تحتمل الحالية والأستثنافية وحاصل المعنى على إرادة القراءة للتبليغ في قول بلغ قومك وربك الأكرم الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه ويقويك على حفظ القرآن لتبليغه وأولى الأوجه وأظهرها التأكيد وأبعد بعضهم جدا فزعم أن بسم في البسملة متعلق باقرأ وباسم ربك متعلق باقرأ الثاني ليفيد التقديم اختصاص اسم الله تعالى بالإبتداء وجوز أيضا أن يبقى باسم الله على ما هو المشهور فيه وإقرأ أمر بأحدث القراءة وباسم ربك متعلق باقرأ الثاني لذلك ولا يخفى أن الظاهر تعلق باسم ربك بما عنده وتقديم الفعل ههنا أوقع لأن السورة المذكورة على ما سبق من التصحيح أول سورة نزلت فالقراءة فيها أهم نظرا للمقام وقيل أنه لو سلم كون غيرها نازلا قبلها لا يضر في حسن تقديم الفعل لأن المعنى كما سمعت عن قتادة اقرأ مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله ثم اقرأ فلو افتتح بغير البسملة لم يكن ممتثلا فضلا عن أن يفتتح بما يضادها من أسماء الأصنام ولو قدم أفاد معنى آخر وهو أن ألمطلوب عند القراءة أن يكون الأفتتاح باسم الله تعالى لا باسم الأصنام ولا تكون القراءة في نفسها مطلوبة لما علم أن مقتضى التقديم أن يكون أصل الفعل مسلما على ما هو عليه من زمان طلبا كان أو خبرا وأجاب من علق الجار بالثاني بأن مطلوبية القراءة في نفسها استفيدت من اقرأ الأول فلا تغفل والظاهر أن المعلم غير معين وقيل هو كل نبي كتب وقال الضحاك هو إدويس عليه السلام وهو أول من خط وقال كعب هو آدم عليه السلام وهو أول من كتب وقد نسبوا لآدم وأدريس عليهما السلام نقوشا مخصوصة في كتابة حروف الهجاء والذي يغلب على الظن عدم صحة ذلك وقد أدمج سبحانه وتعالى التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ونيل الرتب الفخيمة ولولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره سبحانه دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به وقد قيل فيه لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
وأرى الجني اشتارته أيد عواسل ومما نسبه الزمخشري في ذلك لبعضهم وعنى على ما قيل نفسه ورواقم رقش كمثل أراقم
قطف الخطى نيالة أقصى المدى سود القوائم ما يجد مسيرها
إلا إذا لعبت بها بيض المدى ولهم في هذا الباب كلام فصل يضيق عنه الكتاب وظاهر الآثار أن الكتابة في الأمم غير العرب قديمة وفيهم حادثة لا سيما في أهل الحجاز وذكر غير واحد أن الكتابة نقلت إليهم من أهل الحيرة وأنهم أخذوا من أهل الأنبار وذكر الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل للخط العربي من العراق إلى الحجاز حرب ابن أمية وكان قد قدم الحيرة فعاد إلى مكة به وأنه قيل لابنه أبي سفيان ممن أخذ أبوك هذا الخط فقال من أسلم بن أسدرة وقال سألت أسلم ممن أخذت هذا الخط فقال من واضعه مرامر بن مرة كان لحمير كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكان لها شأن عندهم فلا يتعاطاها إلا من إذن له تعلمها وأصناف الكتابة كثيرة وزعم بعضهم أن جل كتابات الأمم اثنا عشر صنفا العربية والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية ولعل هذا أن صح باعتبار الأصول وإلا فالفروع توشك أن لا يحصيها قلم كما لا يخفى والله تعالى أعلم ولم ير بعض العلماء من الأدب وصف غيره تعالى كما يفعله كثير من الناس في رسائلهم فيكتبون إلى فلان الأكرم ومع هذا يعدونه وصفا نازلا ويستهجنونه بالنسبة للملوك ونحوهم من الأكابر وقد يصفون
(30/181)

به اليهودي والنصراني ونحوهما مع أنه تعالى يقول وربك الأكرم فعلى العبد أن يراعي الأدب مع مولاه شاكرا كرمه الذي أولاه كلا ردع لمن كفر من جنس الإنسان بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وذلك لأن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل كلا كان ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم الحلائل بالكفران الطغيان وكذلك التعليل بقوله تعالى لإن الإنسان ليطغى أي ليتجاوز والحد في المعصية واتباع هوى النفس ويستكبر على ربه عز و جل وقال الكلبي أي ليرتفع عن منزلة إلى منزله في اللباس والطعام وغيرهما وليس بذاك وقدر بعضهم بعد قوله تعالى ما لم يعلم ليشكر تلك النعم الجليلة فطغى وكفر كلا وقيل كلا بمعنى حقا لعدم ما يتوجه إليه الردع والزجر ظاهرا فقوله سبحانه إن الإنسان الخ بيان لما أريد إحقاقه وهذا إلى آخر السورة قيل نزل في أبي جهل بعد زمان من نزول الآيات السابقة وهو الظاهر ومع نزوله في ذلك اللعين المراد بالإنسان الجنس وقوله سبحانه إن رآه استغنى مفعول من أجله أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا على أن جملة استغنى مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله ومفعوله ضميري واحد نحو علمتني فقد قالوا إن ذلك لا يكون في غير أفعال القلوب وفقد وعدم وذهب جماعة إلى أن رأي البصرية قد تعطى حكم القلبية في ذلك وجعلوا منه قول عائشة لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان وأنشدوا ولقد أراني للرماح دريئة
من عن يميني تارة وأمامي فإذا جعلت رأي هنا بصرية فالجملة في موضع الحال وتعليل طغيانه برؤيته لا بنفس الأستغناء كما ينبيء عنه قوله تعالى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض للإذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد على الأول ومجرد رؤيته ظاهر الحال من غير رؤية وتأمل في حقيقته على الثاني وعلى الوجهين المراد بالأستغناء الغني بالمال أعني مقابل الفقر المعروف وقيل المراد أن رأي نفسه مستغنيا عن ربه سبحانه بعشيرته وأمواله وقوته وهو خلاف الظاهر ويبعده ظاهر ما روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبريل عليه السلام فقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم وقرأ قنبل بخلاف عنه أن رأه بحذف الألف التي بعد الهمزة وهي لام الفعل وروي ذلك عنه ابن مجاهد وغلطه فيه وقال أن ذلك حذف لا يجوز وفي البحر ينبغي وفي البحر ينبغي أن لا يغلظه بل يتطلب له وجها وقد حذفت الألف في نحو من هذا قال
وصاني العجاج فيمن وصني
يريد وصاني فحذف الألف وهي لام الفعل وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم أصاب الناس جهد لو تر أهل مكة وهو حذف لا ينقاس لكن إذا أصحت الرواية وجب القبول فالقرآت جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها وقوله تعالى إن إلى ربك الرجعى تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان والخطاب قيل للإنسان والألتفات للتشديد في التهديد وجوز أن يكون الخطاب لسيد ولمخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد أيضا تهديد الطاغي وتحذيره ولعله الأظهر نظرا إلى الخطابات قبله والرجعي مصدر بمعنى الرجوع كالبشري والألف فيها للتأنيث وتقديم الجار والمجرور عليه للقصر أي إن إلى ربك رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا فترى حينئذ عاقبة الطغيان وفي هذه الآيات على ما قيل إدماج التنبيه على مذمة المال كما أن في الآيات الأول إدماج التنبيه على مدح العلم وكفى ذلك مرغبا في الدين والعلم ومنفرا عن الدنيا والمال وقوله تعالى
(30/182)

أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ذكر لبعض آثار الطغيان ووعيد عليها ولم يختلف المفسرون كما قال ابن عطية في أن العبد المصلي هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والناهي هو اللعين أبو جهل فقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه فأتى رسول الله عليه الصلاة و السلام وهو يصلي ليفعل فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا وأنزل الله تعالى كلا إن الإنسان إلى آخر السورة وقول الحسن هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة لا يكاد يصح لأنه لا خلاف في أن إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه كان بالمدينة بعد الهجرة كما أنه لا خلاف في أن السورة مكية نعم حكم الآية عام فإن كان ما حكى عن أمية واقعا فحكمها شامل له والصلاة التي أشارت إليها الآية كانت على ما حكى أبو حيان صلاة الظهر وحكى أيضا أنها كانت تصلي جماعة وهي أول جماعة أقيمت في الإسلام وإنه كان معه عليه الصلاة و السلام أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما فمر أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال له يا بني صل جناح ابن عمك وانصرف مسرورا وأنشأ يقول إن عليا وجعفرا ثقتي
عند ملم الزمال والكرب والله لا أخذل النبي ولا
يخذله من يكون من حسبي لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم وأبي وفي هذا نظر لأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء بلا خلاف وادعى ابن حزم الإجماع على أنه كان قبل الهجرة بسنة وجزم ابن فارس بأنه كان قبلها بسنة وثلاثة أشهر وقال السدي بسنة وخمسة أشهر وموت أبي طالب كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين لأنه كان قبل وفاة خديجة بثلاثة وقيل بخمسة أيام وكانت وفاتها بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح فأبو طالب على هذا لم يدرك فريضة الصلاة نعم حكى القاضي عياض عن الزهري ورجحه النووي والقرطبي أن الإسراء كان بعد البعث بخمس سنين لكن قيل عليه ما قيل فليراجع والنهي قيل بمعنى المنع وعبر به إشارة إلى عدم اقتدار اللعين على ذلك وفي بعض الأخبار ما ظاهره أنه حصل منه نهي لفظي فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا الحديث والتعبير بما يفيد الأستقبال لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة والرؤية قيل قلبية وكذا في قوله تعالى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز و جل أرأيت إن كذب وتولى والمفعول الأول للأول الموصول وللثاني والثالث محذوف وهو ضمير يعود عليه أو اسم إشارة يشار به إليه والمفعول الثاني للثالث قوله سبحانه ألم يعلم بأن الله يرى والأولان متوجهان إليه أيضا وهو مقدر عندهما وترك إظهاره اختصارا ونظير ذلك أخبرني عن زيدان وفدت عليه أخبرني عنه أن استخبرته أخبرني عنه أن توسلت إليه أما يوجب حقي وليس ذلك من التنازع لأن الجمل لا يصح إضمارها وإنما هو من الطلب المعنوي والحذف في غير التنازع وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة ألم يعلم عليه ويقدر حسبما تقتضيه الصناعة وقيل يدل عليه أرأيت مرادا به ما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى ويقدر كذلك والكلام عليه أيضا نظير ما مر آنفا والضمائر المستترة في كان وما بعد من الأفعال للناهي والمراد من أرأيت أخبرني
(30/183)

فإن الرؤية لما كانت سببا للعلم أجرى الأستفهام عنها مجرى الأستخبار عن متعلقها والأستفهام الواقع موقع المفعول الثاني هو متعلق الأستخبار هنا وهذا الأجراء على ما يفهم من كلام بعض الأئمة يكون مع الرؤية البصرية والرؤية القلبية وللنحاة فيه قولان والخطاب في الكل على ما اختاره جمع لكل من يصلح أن يكون مخاطبا ممن له مسكة وقيل للإنسان كالخطاب في إلى ربك وتنوين عبدا على ما هو ظاهر كلام البعض للتنكير وتقييد النهي بالظرف يشعر بأن النهي عن الصلاة حال التلبس بها وفصل بين الجمل للأعتناء بأمر التشنيع والوعيد حيث أشعر أن كل جملة مقصودة على حيالها فشنع سبحانه على الناهي أولا بنهيه عن الصلاة وأوعد عليه مطلقا بقوله تعالى أرأيت الذي الخ أي أخبرني يا من له أدنى تمييز أو أيها الإنسان عمن ينهى عن الصلاة بعض عباد الله تعالى ألم يعلم بأن الله تعالى يرى ويطلع فيجازيه على ذلك النهي وشنع سبحانه عليه ثانيا بنهيه عن ذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه على زعمه على هدى ورشد في نفس النهي أو أنه أمر بواسطته بالتقوى لأن النهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له فقال تعالى شأنه أرأيت إن كان الخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم أن الله يطلع فيجازيه أن كان على هدى ورشد في نفس النهي أو كان أمرا بواسطته بالتقوى كما يزعم وشنع جل شأنه عليه ثالثا بذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه في نفس الأمر وفيما يقوله تعالى مكذبا بحقية الصلاة متوليا عنها معرضا عن فعلها بقوله تعالى أرأيت إن كذب الخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم بأن الله تعالى يطلع على أحواله إن كذب بحقية ما نهى عنه وأعرض عن فعله على ما نقول نحن والحاصل أنه تعالى شنع وأوعد على النهي عن الصلاة بدون تعرض لحال الناهي الزعمي أو الحقيقي ثم شنع وأوعد جل وعلا عليه مع التعرض لحاله الزعمي ثم شنع عز و جل وأوعد عليه مع التعرض لحاله الحقيقي وهذا كالترقي في التشنيع والجمهور على عدم تقييد ما في حيز الشرطيتين بما ذكرنا حيث قالوا إن كان على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان أمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم وأكان مكذبا للحق ومتوليا عن الصواب كما نقول وذكر أن الشرط الثاني تكرار للأول لأن معنى الأول إنه ليس على الهدى وأوضح بأن إدخال حرف الشرط في الأول لآرحاء العنان صورة والتهكم حقيقة إذ لا يكون في النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام هدى البتة وفي الثاني لذلك والتهكم على عكس الأول إذ لا شك أنه مكذب متول فما لهما إلى واحد وقيل إن الرؤية في الجملة الأولى بصرية فلا تحتاج إلى مفعول ثان وفي الثانية والثالثة قلبية والمفعول الأول على ما تقدم والمفعول الثاني سد مسده الجملة الشرطية بجوابها وهو في الأخيرة ألم يعلم الخ المذكور وفيما قبلها محذوف دل هو عليه ولم تعطف الأخيرة على ما قبلها للإيذان باستقلالها بالوقوع في نفس الأمر وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب وأما قبلها فأمر الشرط فيه ليس إلا لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريده عن الجواب والإحالة به على جواب الشرطية بعده والخطاب في الكل لمن يصلح له والتنوين في عبدا لتفخيمه عليه الصلاة و السلام واستعظام النهي وتأكيد التعجيب منه والمعنى أخبرني عن ذلك الناهي إن كان على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى الخ ما ذكر آنفا ألم يعلم أن الله يرى ويطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل وقيل أن أرأيت في الجمل الثلاث من الرؤية القلبية والمفعول الأول للأولى الموصول ومفعولها الثاني الجملة الشرطية الأولى بجوابها المحذوف اكتفاء عنه بجواب الشرطية الثانية إذ علم من ضرورة التقابل وأرأيت الثانية تكرارا للأولى وأرأيت الثالثة ومفعولها الأول محذوف للقرينة مستقلة لأنها تقابل الأولى للتقابل بين الشرطين يعني قوله تعالى إن كان الخ وقوله سبحانه
(30/184)

إن كذب الخ وفي الإتيان بالجملة الأخيرة من دون العطف ترشيح للكلام المبكت وتنبيه على حقية الشرط ولهذا صرح بجوابه ليتمحض وعيدا والخطاب على ما تقدم أولا والكلام من قبيل الكلام المنصف وإرخاء العنان ولذا قيل عبدا ولم يقل نبيا مجتبى فكأنه قيل أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال هذا الذي ينهى بعض عباد الله تعالى فضلا عن النبي المجتبي عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان آمرا بالتقوى فيما يأمر به عبادة الأصنام كما يزعم وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما تقول ألم يعلم الخ وقيل أرأيت في الجملتين الثانية والثالثة تكرار للأولى والشرطيتان بجوابهما سادتان مسد المفعول الثاني للأولى وألم يعلم الخ جواب الشرط الثاني وجواب الأول محذوف لدلالته عليه ولم يقل أو إن كذب الخ لأنه ليس بقسيم لما قبله على ما قيل والمعنى على نحو ما سمعت وأورد على جميع هذه الأقوال إن في تجويز الإتيان بالأستفهام في جزاء الشرط من غير الفاء وإن صرح به الزخشري في كشافه وارتضاه الرضي واستشهد له بقوله تعالى قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون بحثا لأن ظاهر نقل الزخشري نفسه في المفصل ونقل غيره وجوب الفاء إذا كان الجزاء جملة إنشائية والإستفهام وإن لم يبق على الحقيقة لم يخرج على ما في الكشف من الإنشاء وقال أبو حيان إن وقوع جملة الإستفهام جوابا للشرط بغير فاء لا أعلم أحد أجازه بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة أو شعر وقال الدماميني في شرح التسهيل إن جعل هل يهلك جزاء مشكل لعدم اقترانه بالفاء والأقتران بها في مثل ذلك واجب واعترض أيضا جعل الجملة الشرطية في موضع المفعول الثاني لا رأيت بأن مفعولها الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما نص عليه أبو حيان وجماعة أو قسمية كما في الإرشاد وقال الخفاجي إن جعل الشرطية في موضع المفعول والجملة الإستفهامية في موقع جواب الشرط إما على ظاهره أو على أنهما لدلالتهما على ذلك جعلا كأنهما كذلك لسدهما مسد المفعول والجواب وبما ذكر صرح الرضي والدماميني في شرح التسهيل في باب اسم الإشارة فما قيل من أن المفعول الثاني لا رأيت لا يكون إلا جملة استفهامية مخالف لما صرحوا بأنه مختار سيبويه فلا يلتفت إليه ولم يجعلوا فيما ذكر الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا للكافر الناهي لأن السياق مقتض لخروج الناهي والمنهي عن مورد الخطاب واستظهر في البحر جعله للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وجوز غيره جعله للكافر والمراد تصوير الحال بعنوان كلي وهو كما ترى وقيل الضميران في أن كان وأمر للعبد المصلي والضمائر في كذب وتولي ويعلم للذي ينهى وحاصل المعنى على ما قال الفراء أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي والمنهي على الهدى وآمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا والظاهر أن جواب الشرط عليه محذوف وهو فما أعجب من ذا بقرينة أرأيت فإنه يفيد التعجب والرؤية فيه قيل علمية والمفعول الثاني محذوف نحو هذا الجواب وقيل بصرية وألم يعلم الخ جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وتأكيده وأو تقسيمية بمعنى الواو وقيل الخطاب في أرأيت الثانية للكافر وفي الثانية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو عز و جل كالحاكم الذي حضر الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى وكأنه سبحانه قال يا كافر أخبرني إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمر بالتقوى وأخبرني أتنهاه وأخبرني أيها الرسول إن كان الناهي مكذبا بالحق متوليا عن الدين الصحيح ألم يعلم بأن الله تعالى يجازيه وسكت هذا القائل عن الخطاب في أرأيت الأول فقيل لكل من يصلح له وقيل للأنسان وقيل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالخطاب في الثالث وقوله انتهاه يحتمل أنه جعله مفعولا لرأيت ويحتمل أنه جواب الشرط أو كما في سابقه ولعل ذكر الأمر بالتقوى في الجملة الثانية لأن
(30/185)

النهي على ما قيل كان عن الصلاة والأمر بها وكان الظاهر عليه أن يذكر في الجملة الأولى أيضا بأن يقال أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أو أمر بالتقوى لكنه حذف اكتفاء بذكره في الثانية واقتصر على ذكر الصلاة ولم يعكس لأن الأمر بالتقوى دعوة قولية والصلاة دعوة فعلية والفعل أقوى من القول وإنما كانت دعوة وأمرا لأن المقتدي به إذا فعل فعلا كان في قوة قوله افعلوا هذا وقيل المذكور أولا ليس النهي عن الصلاة بل النهي حين الصلاة وهو محتمل أن يكون لها أو لغيرها وعامة أحوال الصلاة لما انحصرت في تكميل أنفس المصلي بالعبادة وتكميل غيره بالدعوة فنهيه في تلك الحالة يكون عن الصلاة والدعوة معا فلذا ذكر في الجملة الثانية انتهى فلا تغفل وجوز الإمام كون الخطاب في الكل له عليه الصلاة و السلام وقال في بيان معنى أرأيت إن كان الخ أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة فلو اختار الرأي الصائب والأهتداء والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله تعالى والنهي عن خدمته سبحانه عز و جل كأنه تعالى يقول تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العلية وقنع بالمراتب الردية واعتبر عصام الدين هذه الجملة توبيخا على تفويت ما ينفع وما بعدها توبيخا على كسب ما يضر فقال إن قوله تعالى أرأيت الذي الخ استشهاد لطغيان الإنسان إن رآه مستغنيا والرؤية بمعنى لأبصار أي أشاهدت الذي ينهى عبدا إذا صلى وعرفت طغيان الإنسان المستغني وأنه لا يكفي بكفرانه ويتجاوز إلى تكليف العبد الذي أرسل للمنع عن الكفران بالكفران وقوله سبحانه أرأيت إن كان الخ توبيخ له على فوت ما لا يعلم كنهه بفوت الهدى والأمر بالتقوى يعني أعلمت أنه على أي فوزان كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز و جل أرأيت إن كذب الخ توبيخ له بما كسب من استحقاق العذاب والبعد عن رب الأرباب أي أعلمت أنه على عقوبة ومؤاخذة وقوله تعالى ألم يعلم الخ تهديد ووعيد شديد بعد التوبيخ على كسب حال الشقي وفوت حال السعيد انتهى وهو كما ترى فتأمل جميع ما تقدم والله تعالى بمراده أعلم ثم إن الآية وإن نزلت في أبي جهل عليه اللعنة لكن كل من نهى عن الصلاة ومنع منها فهو شريكه في الوعيد ولا يلزم على ذلك المنع عن النهي عن الصلاة في الدار المغضوبة والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه في الحقيقة ليس عن الصلاة نفسها بل عن وصفها المقارن وأشد الأحتياط تحاشي بعضهم عن النهي مطلقا فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلى أقواما المكروهة لأن المنهي مطلقا فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل صلاة العيد فقال ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك فقيل له رضي الله تعالى عنه ألا تنهاهم فقال رضي الله تعالى عنه أخشى أن أدخل تحت وعيد قوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وفي رواية لا أحب أن أنهى عبدا إذا صلى ولكن أحدثهم بما رأيت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سلك نحو هذا المسلك أبو حنيفة عليه الرحمة فقد روي أن أبا يوسف قال له أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي فقال يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ويقاس على النهي عن الصلاة النهي عن غيرها من أنواع العبادة ولا فرق بين النهي القالي والنهي الحالي ومنه أن يشغل المرء عن ذلك وقد ابتلي به كثير من الناس كلا ردع للناهي اللعين وزجر له واللام في قوله تعالى لئن لم ينته موطئة للقسم أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر لنسفعا بالناصية أي لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار يوم القيامة والسفع قال المبرد الجذب بشدة وسفع بناصية فرسه جذب قال عمرو بن معد يكرب قوم إذ كثر الصياح رأيتهم
ما بين ملجم مهره أو سافع
(30/186)

وقال مؤرج السفع الأخذ بلغة قريش والناصية شعر الجبهة وتطلق على مكان الشعر وأل فيها للعهد واكتفى بها عن الإضافة وهو معنى كونها عوضا عن المضاف إليه في مثله والكلام كناية عن سحبه إلى النار وقول أبي حيان أنه عبر بالناصية عن جميع الشخص لا يخفى ما فيه وقيل المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر وفيه بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجروه إن لم ينته وقد فعل عز و جل فقد روي أنه لما نزلت سورة الرحمن قال صلى الله تعالى عليه وسلم من يقرؤها على رؤساء قريش فقام ابن مسعود وقال أنا يا رسول الله فلم يأذن له عليه الصلاة و السلام لضعفه وصغر وصغر جثته حتى قالها ثلاثا وفي كل مرة كان ابن مسعود يقول أنا يا رسول الله فأذن له صلى الله تعالى عليه وسلم فأتاهم وهم مجتمعون حول الكعبة فشرع في القراءة فقام أبو جهل فلطمه وشق أذنه وأماه فرجع وعيناه تدمعان فنزل جبريل عليه السلام ضاحكا فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك فقال عليه السلام ستعلم فلما كان يوم بدر قال عليه الصلاة و السلام التمسوا أبا جهل في القتلى فرآه ابن مسعود مصروعا يخور فارتقى على صدره ففتح عينه فعرفه فقال لقد ارتقيت مرتقي صعبا يا رويعي الغنم فقال ابن مسعود الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فعالج قطع رأسه فقال اللعين دونك فاقطعه بسيفي فقطعه ولم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل فيها خيطا وجعل يجره حتى جاء به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاء جبريل عليه السلام يضحك ويقول يا رسول الله أذن بأذن والرأس زيادة وكأن تخصيص الناصية بالذكر لأن اللعين كان شديد الأهتمام بترجيلها وتطييبها أو لأن السفع بها غاية الأذلال عند العرب إذ لا يكون إلا مع مزيد التمكن والإستيلاء ولأن عادتهم ذلك في البهائم وقرأ محبوب وهارون كلاهما عن أبي عمرو لنسفعن بالنون الشديدة وقرأ ابن مسعود لأسفعن كذلك مع إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم وحده وكتبت النون الخفيفة في قراءة الجمهور ألفا اعتبارا بحال الوقف فإنه يوقف عليها بالألف تشبيها لها بالتنوين وقاعدة الكتابة مبنية على حال الوقف والأبتداء ومن ذلك قوله
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
وقوله
يحسبه الجاهل ما لم يعلما
وقوله تعالى ناصية بدل من الناصية وجاز إبدالها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت بقوله سبحانه كاذبة خاطئة فاستقلت بالإفادة وقد ذكر البصريون أنه يشترط لأبدال النكرة من المعرفة الإفادة لا غير ومذهب الكوفيين أنها تبدل منها بشرطين اتحاد اللفظ ووصف النكرة وليشمل بظاهره كل ناصية هذه صفتها وهذا مما يتأتى على سائر المذاهب ووصف الناصية بما ذكر مع أنه صفة صاحبها للمبالغة حيث يدل على وصفه بالكذب والخطأ بطريق الأولى ويفيد أنه لشدة كذبه وخطئه كأن كل جزء من أجزائه يكذب ويخطأ وهو كقوله تعالى تصف ألسنتهم الكذب وقولهم وجهها يصف الجمال فالإسناد مجازي من إسناد ما للكل إلى الجزء وقرأ أبو حيوة وابن عبلة وزيد بن علي ناصية كاذبة خاطئة ينصب الثلاثة على الشتم والكسائي في رواية برفعها أي هي ناصية الخ فليدع ناديه النادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي يجتمعون للحديث ويجمع على أندية والكلام على تقدير المضاف أي فليدع أهل ناديه أو الإسناد فيه مجازي أو أطلق اسم المحل على من حل فيه ومثله في هذا المجلس ونحوه كما قال جرير أو ذو الرمة لهم مجلس صهب السبال أذلة
سواسية أحرارها وعبيدها وقال زهير وفيهم مقامات حسان وجوههم
وأندية ينتابها القول والفعل وهذا إشارة إلى ما صح من أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فقال ألم أنهك فأغلظ عليه الصلاة و السلام له فقال أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا والأمر على ما في البحر للتعجيز والإشارة إلى أنه لا يقدر
(30/187)

على شيء سندع الزبانية أي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط أي أعوان الولاة واختلف فيه فقيل جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وقال أبو عبيدة زبنية بكسر فسكون كعفرية وقال الكسائي واحده زبني بالكسر كأنه نسب إلى الزبن بالفتح وهو الدفع ثم غير للنسب وكسر أوله كأنسي وأصل الجمع زباني فقيل زبانية بحذف إحدى ياءيه وتعويض التاء عنها وقال عيسى بن عمر والأخفش واحده وابن والعرب قد تطلق هذا الأسم على من اشتد بطشه وإن لم يكن من أعوان الولاة ومنه قوله مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى
زبانية غلب عظام حلومها وسمي ملائكة العذاب بذلك لدفعهم من يعذبونه إلى النار وهذا الدعاء في الدنيا بناء على ما روي من أنه لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا والظاهر أن سندع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم ورسم في المصاحف بدون واو لأتباع الرسم للفظ فإنها محذوفة فيه عن الوصل لالتقاء الساكنين أو لمشاكلة فليدع وقيل أنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر وقرأ ابن أبي عبلة سيدعي الزبانية بالبناء للمفعول ورفع الزبانية كلا ردع لذلك اللعين بعد ردع وزجر له أثر زجر لا تطعه أي دم على ما أنت عليه من معاصاته واسجد وواظب غير مكترث به على سجودك وهو على ظاهره أو مجاز عن الصلاة واقترب وتقرب بذلك إلى ربك وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وفي الصحيح وغيره أيضا من حديث ثوبان مرفوعا عليك بكثرة السجود فإنه لا تسجد لله تعالى سجدة إلا رفعك الله تعالى بها درجة وحط عنك بها خطيئة ولهذه الأخبار ونحوها ذهب غير واحد إلى أن السجود أفضل أركان الصلاة ومن الغريب أن العز بن عبد السلام من أجلة أئمة الشافعية قال بوجوب الدعاء فيه وفي البحر ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة و السلام سجد في إذا السماء انشقت وفي هذه السورة وهي من العزائم عند علي كرم الله تعالى وجهه وكان مالك يسجد فيها في خاصة نفسه والله تعالى الموفق
سورة القدر
قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر وحكى الماوردي عكسه وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وقال الجلال في الإتقان فيها قولان والأكثر على أنها مكية ويستدل لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر ونزلت أنا أنزلناه في ليلة القدر الحديث وهو كما قال المزني حديث منكر انتهى وقدر أخرج الجلال هذا الحديث في الدر المنثور عن ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضا من رواية يوسف بن سعد وذكر فيه أن الترمذي أخرجه وضعفه وأن الخطيب أخرج عن ابن عباس نحوه وكذا عن ابن المسيب بلفظ قال نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر ففي قول المزني هو منكر تردد عندي وأيا ما كان فقد استشكل وجه دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك لقوله فيه على منبره والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلا في المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا أنها تعدل ربع القرآن وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء وقال بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها لما
(30/188)

قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل اقرأ القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم وقال الخطابي المراد بالكتابة في قوله تعالى فيها أنا أنزلناه إلى قوله تعالى ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب في ذاك لأقرأ الخ على ما ستسمعه أن شاء الله تعالى أراد أنه للمقروء من قرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أنزلناه في ليلة القدر الضمير عند الجمهور للقرآن وادعى الأمام فيه اجماع المفسرين وكأنه لم يعتد يقول من قال منهم برجوعه لجبريل عليه السلام أو غيره لضعفه قالوا وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أي تعظيم لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه كأنه حاضر عند كل أحد فهو في قوة المذكور وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين وتأكيد الجملة وأشار الزمخشري إلى إفادة الجملة اختصاص الإنزال به سبحانه بناء على أنها من باب أنا سعيد في حاجتك مما تقدم فيه الفاعل المعنوي على الفعل وتعقب بأن ما ذكروه في الضمير المنفصل دون المتصل كما في اسم إن هنا نعم الإختصاص يفهم من سياق الكلام وفيه أنهم لم يصرحوا باشتراط ما ذكر في تفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى وما أدراك ما لية القدر لما فيه من الدلالة على أن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق لا يعلم ذلك ولا يعلم به إلا علام الغيوب كما يشعر به قوله سبحانه ليلة القدر خير من ألف شهر فأنه بيان إجمالي لشأنها أثر تشويقه عليه الصلاة و السلام إلى درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بإدرائها وعن سفيان ابن عيينه أن كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أدراك أعلم الله تعالى به نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما فيه من قوله سبحانه وما يدريك لم يعلمه عز و جل به وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفي إظهار القدر في الموضعين من تأكيد التعظيم والتفخيم ما لا يخفى والمراد بإنزاله فيها إنزاله كله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فقد صح عن ابن عباس أنه قال أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله تعالى ينزله على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعضه في أثر بعض وفي رواية بدل وكان بمواقع الخ ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة وفي رواية أخرى عنه أيضا أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء ونزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم وفي أخرى أنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام وكون النزول بعد في عشرين سنة قول لهم وقال بعضهم وهو الأشهر في ثلاث وعشرين وقال آخر في خمس وعشرين وهذا للخلاف في المدة صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة بعد البعث وقال الشعبي المراد ابتدأنا بإنزاله فيها والمشهور أن أول ما نزل من الآيات اقرأ وأنه كان نزولها بحراء نهارا نعم في البحر روي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان فإن صح وكان المراد كان ليلا فذاك وإلا فظاهر كلام الشعبي غير مستقيم اللهم إلا أن يقال أنه أراد ابتداء إنزاله إلى السماء الدنيا فيها ولا يلزم أن يتحد ذلك وابتداء إنزاله عليه صلى الله تعالى عليه وسلم في الزمان ثم إن في أنزلناه على ما ذكر تجوزا في الإسناد لأنه أسند فيه ما للجزء إلى الكل أو مجازا الطرف أو تضمينا وقيل إنزاله من اللوح إلى السماء الدنيا مفرقا في ليالي قدر على أن المراد بليلة الجنس فقد قيل إن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين وكان ينزل في كل ليلة ما يقدر الله تعالى إنزاله في كل السنة ثم ينزله سبحانه منجما في جميع السنة وهذا القول ذكره الإمام احتمالا ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعول عليه والصحيح المعتمد عليه احتمالا ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعول عليه والصحيح المعتمد عليه كما قال
(30/189)

ابن حجر في شرح البخاري أنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا بل حكى بعضهم الإجماع عليه نعم لا يبعد القول بأن السفرة هناك نجموه لجبريل عليه السلام في الليالي المذكورة وأجاب السيد عيسى الصفوي بأنه محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلم مخبرا به عن التكلم بقولك أتكلم وفي ذلك اختلاف بين الدواني وغيره ذكره في رسالته التي ألفها في الجواب عن مسئلة الحذر الأصم أو يقال يرجع الضمير للقرآن باعتبار جملته وقطع النظر عن أجزائه فيخبر عن الجملة بأنا أنزلناه وأن كان من جملته أنا أنزلناه وإن كان من جملته أنا أنزلناه المندرج في جملته من غير نظير له بخصوصه وقد ذكروا أن الجزء من حيث من هو مستقل مغاير له من حيث هو في ضمن الكل وفي الإتقان عن أبي شامة فإن قلت أنا أنزلناه أن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة قلت لها وجهان أحدهما أن يكون المعنى أنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضينا به وقدرناه في الأزل والثاني أن لفظ أنزلناه ماض ومعناه على الأستقبال أي تنزله جملة في ليلة القدر انتهى ولم يظهر لي في كلا وجهيه رحمه الله تعالى شامة حسن فأجل في ذلك نظرا فلعلك ترى وقيل المعنى أنا أنزلناه في فضل ليلة القدر أو في شأنها وحقها فالكلام على تقدير مضاف أو الظرفية مجازية كما في قول عمر رضي الله تعالى عنه خشيت أن ينزل في قرآن وقول عائشة رضي الله تعالى عنها لا أنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن وجعل بعضهم في ذلك للسببية والضمير قيل للقرآن بالمعنى الدائر بين الكل والجزء وقيل بمعنى السورة ولا يأباه كون أنا أنزلناه فيها لما مر آنفا فلا حاجة إلى أن يقال المراد بها ما عدا أنا أنزلناه في ليلة القدر وقيل يجوز أن يراد به المجموع لاشتماله على ذلك وأيا ما كان فحمل الآية على هذا المعنى غير معول عليه وإنما المعول عليه ما تقدم والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة أو إثباته لدى السفرة هناك أو نحو ذلك مما لا يشكل نسبته إلى القرآن واختلفوا في تلك الليلة فقيل أنها لخبر في ذلك وهو كما قال الكرماني غلط لأن آخر الخبز يرده والمراد برفع تعيينها فيه وعن عكرمة أنها ليلة النصف من شعبان وهو قول شاذ غريب كما في تحفة المحتاج وظاهر ما هنا مع ظاهر قوله تعالى شهر رمضان أنزل فيه القرآن يرده وعن ابن مسعود أنها تنتقل في ليالي السنة فتكون في كل سنة في ليلة ونسبه النووي إلى أبي حنيفة وصاحبيه والأكثرون على أنها في شهر رمضان فعن ابن رزين أنها الليلة الأولى منه وعن الحسن البصري السابعة عشر لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها وحكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا وعن أنس مرفوعا التاسعة وحكى مرفوعا على ابن مسعود أيضا وعن محمد بن إسحاق الحادية العشرون لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن سعيد الخدري أنه عليه الصلاة و السلام قال قد رأيت هذه الليلة يعني ليلة القدر ثم نسيتها وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين قال أبو سعيد فمطرت السماء من تلك الليلة فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله وعلى جبهته وأنفه أثر الماء الطين من صبيحة إحدى وعشرين وفي مسلم من صبيحة ثلاث وعشرين ومنه مع ما قبله مال الشافعي عليه الرحمة إلى أنها الليلة الحادية أو الثالثة والعشرون وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أنيس أنه سئل عن ليلة القدر فقال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول التمسوها الليلة ليلة ثلاث وعشرين وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن بلال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة القدر ليلة أربع وعشرين وفي الأتقان وغيره أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر أنه سئل عن ليلة القدر فقال كان عمر وحذيفة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين وأخرج ابن نصر وابن جرير في تهذيبه عن معاوية قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التمسوا ليلة القدر
(30/190)

في آخر ليلة من رمضان وفي رواية أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أنها آخر ليلة وقيل هي في العشر الأوسط تنتقل فيه قيل في أوتاره وقيل في أشفاعه وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان وفي حديث أخرجه أحمد وجماعة عن عبادة بن الصامت مرفوعا وحديثين أخرجهما ابن جرير وغيره عن جابر ابن سمرة وعن عبد الله بن جابر كذلك ما يدل على ما ذكر أيضا بل الأخبار الصحيحة الدالة عليه كثيرة وبالجملة الأقوال فيها مختلفة جدا إلا أن الأكثرين على أنها في العشر الأواخر لكثرة الأحاديث الصحيحة في ذلك وأكثرهم على أنها أوتارها لذلك وكثير منهم ذهب إلى أنها الليلة السابعة من تلك الأوتار وصح من رواية الإمام أحمد ومسلم وأبي داود الترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم أن زر بن حبيش سأل أبي كعب عنها فخلق لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين فقال له بم تقول ذلك يا أبا المنذر فقال بالآية والعلامة التي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس ليس لها شعاع وبعض الأخبار عن ابن عباس ظاهرة في ذلك وفي بعضها الأستئناس له بما يدل على جلالة شأن السبعة التي قالوا فيها أنها عدد تام من كون السماوات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والجمار سبعا والطواف بالبيت سبعا السجود على سبع إلى غير ذلك مما ذكره لما علمت من الأخبار الصحيحة المتظافرة وهو زمان البدن وفيه يزيد أجر العمل ووقت قوة الأستعداد للتجليات لمزيد التصفية وأنها في الأوتار أرجى للأحاديث أيضا مع أن الله تعالى وتر يحب الوتر وقال ابن حجر الهيتي أختار جمع أنها لا تلزم ليلة بعينها من العشر الأواخر بل تنتقل في لياليه فعاما أو أعواما تكون وترا إحدى أو ثلاثا أو غيرهما وعاما أو أعواما شفعا اثنتين أو أربعا أو غيرهما قالوا ولا تجتمع الأحاديث المتعارضة فيها إلا بذلك وكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى ولا يخفى أن الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها مطلقا مما لا يتسنى وإنما يتسنى الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها بالنظر إلى العشر وقيل في الجمع مطلقا أنها تنتقل وما صح من التعيين في الجملة أو على التحقيق محمول على ليلة قدر في شهر رمضان مخصوص بأن يكون قد علم صلى الله تعالى عليه وسلم أنها في أول شهر رمضان فرض ليلة كذا فقال عليه الصلاة و السلام هي ليلة كذا أي في هذا الشهر رمضان المخصوص وعلم عليه الصلاة و السلام أنها في شهر رمضان بعده ليلة كذا غير تلك الليلة التي ذكرها قبل فقال صلى الله تعالى عليه وسلم هي ليلة كذا وعلم صلى الله تعالى عليه وسلم أنها في أخر في العشر الأخير منه فقال هي في العشر الأخير أي من هذا الشهر المخصوص وهكذا وهو كما ترى وعلى القول بانتقالها ادعى بعضهم أنه إذا كان أول الشهر ليلة كذا فهي الليلة السابعة والعشرون وأن كانت ليلة كذا فهي الليلة الحادية والعشرون إلى آخر ما قال وقد ذكرناه مع نظمه في الطراز المذهب وليس في ذلك ما يقوم حجة على الغير وفي بعض الأخبار ذكر علامات لها ففي حديث الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت من إماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا لا يرمى فيها بنجم حتى الصباح وأخرج نحوا منه ابن جرير في تهذيبه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعا وحمل ذلك أن صح على ليلة قدر من شهر رمضان مخصوص كالمتعين لعدم إطراده ولا أغلبيته فيما يظهر والحكمة في إخفائها أن يجتهد من يطلبها في العبادة في غيرها ليصادفها كأن يحيى ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب السلف وللإمام في هذا المقام كلام يجل مثله عن التكلم ولعمري لقدسها فيه سهوا بينا وأتى فيه يوشك أن يدل على جهله ومعنى ليلة القدر ليلة التقدير وسميت بذلك لما روي عن ابن عباس وغيره أنه يقدر
(30/191)

فيها ويقتضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وأحياء وأمانة إلى السنة القابلة والمراد إظهار تقديره تعالى ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية وإلا فتقديره تعالى جمع الأشياء أزلي قبل خلق السماوات والأرض لكن قال بعض الأجلة كون التقدير في هذه الليلة يشكل عليه قول كثير أنه ليلة النصف من شعبان وهي المراد بالليلة ولمباركة التي قال الله تعالى فيها فيها يفرق كل أمر حكيم وأجاب بأن ههنا ثلاثة الأول نفس تقدير الأمور أي تعيين مقاديرها وأوقاتها وذلك في الأزل والثاني إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ وذلك في ليلة النصف من شعبان والثالث إثبات المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبرات فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل عليه السلام ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه السلام ونسخة المصائب إلى ملك الموت وذلك في ليلة القدر وقيل يقدر في ليلة النصف الآجال والأرزاق وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة وقيل يقدر في هذه ما يتعلق به أعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقال الزهري المعنى ليلة العظمة والشرف من قولهم رجل له قدر عند فلان أي منزلة وشرف وسميت بذلك لأن من أتى بفعل الطاعات فيها صار ذا قدر وشرف عند الله عز و جل أو لأن الطاعات لها فيها ذلك وقيل لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول ذي قدر لأمة ذات قدر وقيل لأنه يتنزل فيها ملائمة ذوات وقال الخليل بن أحمد المعنى ليلة الضيق من قدر عليه رزقه ضيق وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة عليهم السلام وخيريتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند الأكثرين على معنى العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ولا يعلم مقدار خيريتها منها إلا هو سبحانه وتعالى وهذا تفضل منه تعالى وله عز و جل وجل أن يخص ما شاء بما شاء ورب عمل قليل خير من عمل كثير ولا ينافي هذا قاعدة أن كل ما كثر وشق كان أفضل لخبر مسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها أجرك على قدر نصبك لأنها أغلبية على ما قال غير واحد ولا شك أن العمل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية الإداء كصلاة واحدة أديت بجماعة فإنها تعدل خمسا وعشرين مرة صلاة مثلها أديت على الأنفراد إلى غير ذلك نعم هذه الأفضلية قد تعقل في بعض وقد لا كما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عز و جل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلا هو جل شأنه وتخصيص الألف بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وكثيرا ما يراد بالأعداد ذلك وفي البحر حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر كله أو أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأنزل الله تعالى السورة وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون فعجب أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك فقرأ عليه أنا أنزلناه الخ ثم قال هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسر بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوه ليلة إن أحيوها كانوا أحق
(30/192)

بأن يسموا عابدين من أولئك العباد وقال أبو بكر الوراق كان ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما وفي هذا نظر لأنه إن أريد بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير وإن أريد به الثاني أعني قاتل دارا فهو قد ملك أقل من ذلك بكثير وقيل أرى صلى الله تعالى عليه وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه الصلاة و السلام أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وذكره الإمام مالك في الموطأ وقد سمعت ما يدل على أن الألف إشارة إلى ملك بني أمية وكان على ما قال القاسم بن الفضل ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص يوم على ما قيل ثمانين سنة وهي ألف شهر تقريبا لأنها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر ولا يعكر على ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد لأنه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ولذا لم يعد من ملك منهم هناك من خلفائهم وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار وطعن القاضي عبد الجبار في كون الآية إشارة لما ذكر بأن أيام بني أمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة أنها خير من ألف شهر مذمومة ألم تران السيف ينقص قدره
إذا قيل أن السيف خير من العصا وأجيب بأن تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يبعد أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية فلا تبقى فائدة واختلف في أن تلك الأيام تيتتبع يومها أم لا فقال الشعبي نعم يومها مثلها وقيل لعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستتبع الأيام ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين لزمتاه بيوميهما والكثير لا لكن قيل يسن الأجتهاد في يومها كما يسن فيها ولذا جاء في وصفها أن الشمس تطلع صبيحتها وليس لها شعاع كما تقدم أي لعظم أنوار الملائكة الصاعدين والنازلين فيها فإنه لا فائدة فيه سوى معرفة يومها ولا فائدة فيها لو لم يسن الأجتهاد فيه ومنع بأنه يجوز أن تكون الفائدة معرفتها نفسها ليجتهد فيها من قابل بناء على أنها لا تنتقل وظاهر الآية أنها أفضل من ليلة الجمعة والمسئلة خلافية وأكثر الأئمة على أنها أفضل منها للآية ولأن الله تعالى أنزل فيها القرآن وهو هو ولم ينزله في غيرها ولأنه سبحانه أمر بطلبها فعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى وابتغوا ما كتب الله لكم ليلة القدر ولأنه عز و جل جعلها ليلة الفرق والحكم فقال جل شأنه فيها يفرق كل أمر حكيم وسماها جل وعلا ليلة القدر أي التقدير ولما روي عن كعب أنه قال أن الله تعالى اختار الساعات فاختار ساعات أوقات الصلاة واختار الأيام فاختار يوم الجمعة واختار الشهود فاختار شهر رمضان واختار الليالي فاختار ليلة القدر فهي أفضل ليلة في أفضل شهر ولأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حث على العمل فيها فقد صح من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية وما تأخر ونهى عليه الصلاة و السلام أن يخص ليلة الجمعة بقيام ويومها بصيام ولأنه سبحانه وتعالى أخفاها ولم يعينها كما أخفى سبحانه أعظم أسمائه عز و جل وكما أخفى جل شأنه أفضل الصلوات وهي الصلاة الوسطى إلى غير ذلك وذهب أكثر الحنابلة كأبي الحسن الجزري وعبد الله ابن بطة وأبي حفص البرمكي وغيرهم إلى أن ليلة الجمعة أفضل لما أخرج مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يغفر الله تعالى ليلة الجمعة لأهل الإسلام أجمعين وهذه فضيلة لم تجيء لغيرها ونحوه ما روي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من ليلة جمعة إلا وينظر الله تعالى إلى خلقه ثلاث مرات فيغفر لمن لا يشرك بالله شيئا ولأنه روي ابن بشكوان في كتابه
(30/193)

القربة إلى رب العالمين بسنده إلى عمر رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة والغرة من الشيء خياره ولأنه قد روي كثيرون منهم الإمام أحمد أن يومها سيد الأيام وأعظمها وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى وصحح ابن حيان خبر لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة فهي لذلك سيدة الليالي وأعظمها وأفضلها ولأنها معينة مشهودة يشهدها الخاص والعام من ذكر وأنثى وصغير وكبير وبصير وضرير وتصل بركتها إلى الأحياء والأموات وليلة القدر غير معينة فلا ينتفع بها إلا القليل إلى غير ذلك وأجاب هؤلاء عن الآية بأنه لما أريد فيها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر كما قال قتادة وغيره فليرد أيضا أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة جمعة ويدل للأمرين أن أكثر أسباب النزول السابقة تدل على أن المراد بالشهور شهور من تقدمنا وهي ليس فيها ليلة قدر ولا ليلة جمعة وعن سائر المستندات بأن بعضها معارض وبعضها لا يدل على أكثر من فضلها وهو ما لم ينكر أحد والأولون أجابوا عن مستنداتهم بنحو ما أجابوا وللتعارض قال أحمد بن الحسين بن يعقوب بن قاسم المقري من الحنابلة أن القولين في المسئلة قولان شائعان بين الأصحاب ولكن دلائل تدل على صوابيته فلا ينبغي لأحد أن يطلق الخطا على قائل كل منهما وأنت بعد التأمل في أدلة الطرفين والوقوف على أحوالها يتعين عندك أفضلية ليلة القدر وتعين ليلة الجمعة وههنا قول متوسط بين القولين حكى القاضي أبو يعلى أن أبا الحسن التميمي من الحنابلة أيضا كان يقول ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن أفضل من ليلة الجمعة لما حصل فيها من الخير الكثير الذي لم يحصل في غيرها فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة منها وقيل نظيره في ليلة المعراج مع ليلة الجمعة ونحوها ثم أن ظاهر كلام بعض الحنفية كصاحب الجوهرة أن ليلة النحر أفضل من ليلة القدر وسائر ليالي السنة ويرد عليه ظاهر الآية أيضا ولعله يجيب بنحو ما سبق آنفا ونقل الطحطاوي عليه الرحمة في حواشي المختار عن بعض الشافعية أن أفضل الليالي ليلة مولده عليه الصلاة و السلام ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء ثم ليلة عرفة ثم ليلة الجمعة ثم ليلة النصف من شعبان ثم ليلة العيد وأنا لا أرى أن له ما يعول عليه في ذلك والله تعالى أعلم وما أشير من كونها من خصائص هذه الأمة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول وصرح به الهيتمي وغيره وقال القسطلاني أنه معترض بحديث أبي ذر النسائي حيث قال يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال بل هي باقية ثم ذكر أن عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدمناه في سبب النزول من رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم وتعقبه بقوله هذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر في فتح الباري انتهى والحق الأول والصراحة في حيز المنع وقد أخرج الديلمي عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر ولم يعطها من كان قبلهم فتأمل ولا تغفل وقوله تعالى تنزل الملائكة والروح فيها استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المديدة فضمير فيها لليلة وزعم بعضهم أن الجملة صفة لألف شهر والضمير لها وليس بشيء وجوز بعضهم كون الضمير للملائكة على أن الروح مبتدأ لا معطوف على الملائكة وفيها خبره لا متعلق بتنزل والجملة حال من الملائكة وهو خلاف الظاهر الروح عند الجمهور هو جبريل عليه السلام وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل بالذكر وقيل ملك عظيم لو التقم السماوات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة وذكر في التيسير من وصفه ما يبهر العقول والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقال كعب ومقاتل الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة كالزهاد الذين
(30/194)

لا نراهم إلا يوم العيد أو الجمعة وقيل حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة علينا وقيل خلق من خلق الله تعالى يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ويخلق ما لا تعلمون وما يعلم جنود ربك إلا هو ولعلهم على ما قيل خدك أهل الجنة وقيل هو عيسى عليه السلام ينزل لمطالعة هذه الأمة وليزور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل أرواح المؤمنين ينزلون لزيادة أهليهم وقيل الرحمة كما قريء لا تيأسوا من روح الله بالضم وعلى الأول المعول والظاهر الذي تشهد له الأخبار أن التنزل إلى الأرض فقيل أن ذلك لما ذكر الله تعالى بعد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه وقيل ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين وقيل لأن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الأشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا كما أن الرجل منا يذهب إلى مكة لتصير طاعته كذلك فيكون المقصود من الأخبار بذلك ترغيب الإنسان في الطاعة وقال عصام الدين يحتمل أن يكون تنزلهم لأدراكها إذ ليس في السماء ليل والجملة حينئذ مقررة لما سبق لا مبنية لمناط الفضل وفيه نظر لا يخفى وقيل غير ذلك مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقيل المراد تنزلهم إلى السماء الدنيا وهو خلاف المتبادر وأنزل منه بكثير كون المراد بتنزلهم تنزلهم عن مراتبهم العلية من الأشتغال بالله تعالى والأستغراق بمطالعة جلاله عز و جل ليسلموا على المؤمنين واستظهر أن المراد بالملائكة عليهم السلام جميعهم واستشكل بأن لهم كثرة عظيمة لا تتحملها الأرض وكذا السماء الدنيا لأنها قبل نزولهم مملوءة أطت السماء وحق لها أن تتطء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم وأجيب بأنهم ينزلون فوجا فوجا فمن نازل وصاعد كالحجاج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة مثلا بأسرهم لكن لا على وجه الأجتماع بل هم بين داخل وخارج وفي التعبير بتنزل المفيد للتدريج دون نزل رمز إليه وقيل أنهم لكونهم أنوارا لا تزاحم بينهم فالنور إذا ملأ حجرة مثلا لا يمنع من إدخال ألف نور عليه وهو كما ترى ومن الناس من خص الملائكة ببعض فرقهم وهم سكان سدرة النتهى أو بعض منهم وفي الغنية للقطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال إذا كان ليلة القدر يأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان سدرة المنتهى سبعون ألف ملك ومعهم الوية من نور فإذا هبطوا إلى الأرض ركز جبريل عليه السلام لواءه والملائكة عليهم السلام ألويتهم في أربعة مواطن عند الكعبة وقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء ثم يقول جبريل عليه السلام تفرقوا فيتفرقون ولا يبقى دار ولا حجر ولا بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلا دخلته الملائكة عليهم السلام إلا بيتا فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو صورة تماثيل فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إذا كان وقت الفجر ثم يصعدون إلى السماء فيستقبلهم سكان سماء الدنيا فيقولون لهم من أين أقبلتم فيقولون كنا في الدنيا لأن الليلة ليلة القدر لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقول سكان السماء الدنيا ما فعل الله تعالى بحوائج أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقول جبريل عليه السلام إن الله تعالى غفر لصالحهم وشفعهم في طالحهم فترفع ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى الله تعالى هذه الأمة من المغفرة والرضوان في تشيعهم ملائكة السماء الدنيا إلى الثانية كذلك وهكذا إلى السابعة ثم يقول جبريل عليه السلام يا سكان السماوات ارجعوا فيرجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم فإذا وصلوا إلى سدرة المنتهى يقول لهم سكانها أين كنتم فيجيبونهم مثل ما أجابوا أهل السماوات فيرفع سكان سدرة المنتهى أصواتهم بالتسبيح والتهليل والثناء فتسمع جنة المأوى ثم جنة النعيم وجنة عدن والفردوس ويسمع عرش الرحمن فيرفع
(30/195)

العرش صوته بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى هذه الأمة ويقول إلهي بلغني أنك غفرت البارحة لصالحي أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وشفعت صالحها فيقول الله عز و جل صدقت يا عرشي ولأمة محمد عليه الصلاة و السلام عندي من الكلامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وفي رواية عن كعب نزول جميع ملائكة سدرة المنتهى مع جبريل عليهم السلام ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى وإن جبريل عليه السلام لا يدع أحدا من الناس إلا صافحه وفي رواية لا يدع مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلم الأمد من الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران وإن علامة مصافحته عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين وروي في نزوله مع الملائكة عليهم السلام وعروجه معهم غير ذلك وقد ذكر بعضا من ذلك الإمام وغيره ونسأل الله تعالى صحة الأخبار وذكر بعضهم أن جبريل عليه السلام يقسم تلك الليلة ما ينزل من رحمة الله تعالى حتى يستغرق أحياء المؤمنين فيقول يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به فيقول الله عز و جل قسم على أموات أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقسم حتى يستغرقهم فيقول يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به فيقول سبحانه وتعالى قسمه على الكفار فيقسمه عليهم فمن أصابه منهم شيء من تلك الرحمة مات على الإيمان بإذن ربهم متعلق بتنزل أو بمحذوف وهو حال من فاعله أي ملتبسين بإذن ربهم بأمره عز و جل والتقييد بذلك لتعظيم أمر تنزلهم وقيل الإشارة إلى أنهم يرغبون في أهل الأرض من المؤمنين ويشتاقون إليهم فيستأذنون فيؤذن لهم وفيه نوع ترغيب في الأجتهاد في الطاعة واستشكل أمر هذه الرغبة مع كثرة المعاصي وأجيب بأنهم غير واقفين على تفاصيلها أو لم يعتبروها مانعة من ذلك لأنهم يرون من أنواع الطاعات ما لا يرونه في السماء أو ليسمعوا أنين العصاة التائبين ففي الحديث القدسي لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين أو ليجتمعوا مع من بينه وبينهم مناسبة من الصديقين أداء لمراسم المحبة فإن أرواح الصديقين المتجردة عن جلابيب الأبدان لم تزل تزور الملائكة عليهم السلام في مواضعهم بعروجها إليهم فناسب أن تزورهم ولملائمة عليهم السلام في زواياهم وإن اقتضى ذلك الأجتماع مع غيرهم ممن ليسوا كذلك فإنه أمر تبعي
ولأجل عين ألف عين تكرم
من كل أمر أي من أجل كل أمر متعلق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم قاله غير واحد فمن بمعنى اللام التعليلية متعلقة بتنزل قال عصام الدين فإن قلت المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في تمام السنة فلماذا تنزل الملائكة عليهم السلام فيها لأجل تلك الأمور قلت لعل تنزلهم لتعيين إنفاذ تلك الأمور لهم وتنزلهم لأجل كل أمر ليس على معنى تنزل كل واحد لأجل كل أمر ولا تنزل كل واحد لأمر بل على معنى تنزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات انتهى وأقول يمكن أن يكون تنزلهم لأعداد القوابل لقبول ما أمروا به وأشار بما ذكره من التقسيم إلى أنه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدة أمور وقولهم من أجل كل أمر تعلق الخ قد تقدم ما فيه من البحث فتذكر وقال أبو حاتم من بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر فقيل أي من الخير والبركة وقيل من الخير والشر وجعلت الباء عليه للسببية فيرجع المعنى إلى نحو ما مر ومنهم من جعلها للملابسة والمراد بملابستهم له للأمر به فكأنه قيل تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة وكونهم يتنزلون وهم كذلك لا يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك الليلة والظاهر على ما قالوا أن المراد بالملائكة المدبرات إذ غيرهم لا تعلق له في الأمور التي تعلق بها التقدير لتنزلوا لأجلها على المعنى السابق وهو خلاف ما تدل عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبرات فتدبر وكأنه لذلك قيل أن من كل أمر متعلق بقوله
(30/196)

تعالى سلام وهو مصدر بمعنى السلامة خبر مقدم وقوله تعالى هي مبتدأ أي هي سلام من كل أمر مخوف وتعلقه بذلك على التوسع في الظرف وإلا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور وقيل هو متعلق بمحذوف مقدم يفسره المذكور من وقف على كلام العلامة التفتازاني في أوائل شرح التلخيص في مثل ذلك استغنى عماد ذكر وقيل من كل أمر متعلق بتنزل لكن على معنى تنزل إلى الأرض منفصلة من كل أمر لها في السماء وتاركة له فيه إشارة إلى مزيد الأهتمام بالتنزل إلى الأرض وفيه من البعد ما فيه وتقديم الخبر للحصر كما في تميمي أنا والأخبار بالمصدر للمبالغة أي ما هي إلا سالمة جدا حتى كأنها عين السلامة قال الضحاك في معنى ذلك أنه تعالى لا يقدر ولا يقضي فيها إلا السلامة قيل أي لا ينفذ تقديره تعالى ويتعلق قضاؤه إلا بذلك وحاصله لا يوجد إلا ذلك وقال مجاهد أنها سالمة من الشيطان وأذاه وروي أن الشيطان لا يخرج في ليلة القدر حتى يضيء فجرها ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ولا ينفذ فيها سحر ساحر ولعل ما يصدر من المعاصي على هذا من النفس الأمارة بالسوء لا بواسطة الشيطان واستشكل كلام الضحاك بناء على ما قيل فيه بأنه لا تخلوا ليلة من الشر والأمر المخوف ولا موجد إلا الله عز و جل فلعله أراد ما تقدم نقله غير بعيد من أن الله تعالى إنما يقدر في هذه الليلة السلامة والخير أي لا يظهر سبحانه للملائكة عليهم السلام إلا تقديره عز و جل ذلك وقيل ما هي إلا سلامة على نحو ما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا رحمة والمراد أنها سبب تام للسلامة والنجاة من المهالك يوم القيامة حيث أن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقيل السلام مصدر بمعنى التسليم أي ما هي إلا تسليم لكثرة التسليم والمسلمين من الملائكة على المؤمنين فيها وروي ذلك عن الشعبي ومنصور وجعلها عين التسليم للمبالغة أيضا وقوله تعالى حتى مطلع الفجر غاية تبين تعميم السلامة أو التسليم كل الليلة فالجار متعلق بسلام ومطلع اسم زمان وقد صرحوا أنه من يفعل ويفعل بفتح العين وضمها على مفعل مفتوح العين وجوز كونه مصدرا ميميا بمعنى الطلوع ويحتاج إلى تقدير مضاف قبله هو وقت أو ما في معناه لتتحد الغاية والمغيا فيكونان من جنس واحد وصح تعلق الجار بذلك مع الفصل لأنه ليس بمصدر نظرا للحقيقة وأفاد الطبرسي وغيره أنه لا بد من تأويله بسالمة أو مسلمة ليصح التعلق أما لو أبقى على مصدريته فلا يصح للزوم الفصل بين الصلة والموصول وذهب بعضهم إلى أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر وجوز أن تتعلق الغاية يتنزل على معنى أنه لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى وقت طلوع الفجر وتعقب بأنه تعسف لأن سلام هي أجنبي وليس باعتراض فلا يحسن الفصل به وجعله حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى فيها أي ذات سلامة أو سلام لا يخفى حاله وقيل يجوز أن يكون الوقف على سلام وهو خبر لمحذوف ومن كل أمر متعلق به وهي مبتدأ وحتى مطلع الفجر خبره ولم يجوز ذلك الطيبي والطبرسي وغيرهما قالوا لعدم الفائدة بالإخبار عنها بأنها حتى مطلع الفجر إذ كل ليلة بهذه الصفة وأجيب بأنه لما أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر وفهم أنها مخالفة لسائر الليالي في الصفة وكان مظنة توهم أن ذاتها في المقدار مغايرة لذوات الليالي فيه أيضا دفع ذلك بقوله تعالى هي حتى مطلع الفجر أي لم تخالف سائر الليالي في ذلك وإن خالفتها في الفضل والخيرية وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي من كل امريء بهمز في آخره أي تنزل من أجل كل إنسان أي من أجل ما يتعلق به مما قدر في تلك الليلة ويرجع إلى نحو ما تقدم أو من أجل مصلحته من الأستغفار له ونحوه على أن المراد بذلك كل امريء مؤمن على ما قيل وقيل الجار والمجرور متعلق بسلام والمراد بكل امريء الملائكة عليهم السلام أي سلام وتحتية هي على المؤمنين من كل ملك وأنكر كما قال ابن جني هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن
(30/197)

محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه مطلع بكسر اللام على أنه مصدر كالمرجع ويقدر مضاف كما سمعت أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق فإن مفعلا بالكسر قياس يفعل مكسور العين وفي البحر قيل مطلع بالفتح والكسر مصدران في لغة تميم وقيل المصدر بالفتح وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز انتهى وإرادة الموضع ههنا لا موضع لها كما لا يخفى هذا واعلم أنه يسن الدعاء في هذه الليلة المباركة وهي أحد أوقات الإجابة وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قلت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها وقال سفيان الثوري في تلك الليلة أحب من الصلاة ثم أفاد أنه إذا قرأ ودعا كان حسنا وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يجتهد في ليالي شهر رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا تعوذ وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وقد كان عليه الصلاة و السلام يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما قال البعض بصلاة التراويح وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب ليلة القدر بحظ وافر وأخرج مالك وابن شيبة وابن زنجوية والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتي عليه الرحمة يسن لرائيها كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها انتهى والظاهر أنه عني برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها مما خصت به الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحوا من الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلا أهله وهو كالنص في أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده وقال أبو حفص بن شاهين على ما حكاه ابن رجب أن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه عليه الصلاة و السلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون فأصبح عالما بها وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين يديه رجلان فأنسيها صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بطلبها في ليالي العشر الأواخر لأنهم لا يرونها مكاشفة أبدا ولا يراها أحد بعده صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي المسماة انتهى وحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآها ونسيها وقد رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما لا تردد في صحته لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة و السلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم أبدا ترددا ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذ ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلان من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر وحكى نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط ففي شرح الصحيح للنووي اعلم أن ليلة القدر موجودة وأنها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصى وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلظ فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به انتهى
(30/198)