[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به وحينئذ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلا ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع
واعترض على قوله في الجواب الخامس : إن هذا الإشتباه في حالة خاصة للتأدب لا يقتضي أن يكون صلى الله عليه و سلم على غير بصيرة فيما يوحي إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه اشتبه الأمر عليه عليه الصلاة و السلام مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلى الله عليه و سلم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه عليه الصلاة و السلام في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد
وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلى الله عليه و سلم بعد علمه بالمبلغ بأية قاطعة والمراد بها كما قال ابن ملك : العلم الضروري بأن ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقرآن من هذا القبيل والثاني ما وضح له صلى الله عليه و سلم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة و السلام إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها الحديث وهذا يسمى خاطر الملك والثالث ما تبدي لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره وأما الباطن فما ينال بالرأي والإجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال وهو ظاهر في أنه صلى الله عليه و سلم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القرآن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلى الله عليه و سلم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده عليه الصلاة و السلام قرآنا ووحيا من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون عليه الصلاة و السلام قد علم ذلك علما ضروريا فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلا واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسئلة
ويجوز أن يقال : إنه أراد أنه إذا وقع الإشتباه مرة اقتضى أن لا يكون عليه الصلاة و السلام على بصيرة في شيء مما يوحى إليه بعد لأن احتمال التأديب على تعاطي ما ليس أكمل بالنسبة إليه صلى الله عليه و سلم قائم والعصمة من ذلك ممنوعة فقد وقع منه صلى الله عليه و سلم بعد هذه القصة التي زعمها الخصم ما عوتب عليه كقصة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية وكقصة الإذن المشار إليها بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم وكقصة زينب رضي الله تعالى عنها المشار إليها بقوله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا يقتضيه الحكمة فلا يمكن وقوعه مما لم يقم عليه دليل وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء مشروط بالتمني أو في وقته بناء على الخلاف في أن إذا للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلى إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت
(17/184)

ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم في كل وحي متوقفا غير جازم بأنه وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة و السلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه
واعترض على قوله في الجواب أيضا : إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق الخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول : خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي والظاهر أنه لا يتمثل به صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم من ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل مناما فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولى وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل
وقالت الصوفية في ذلك : إن المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقا وتحققا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكما وسلطنة من صفات الحق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر والنبي صلى الله عليه و سلم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الإعتماد عليه عليه الصلاة و السلام فلذلك عصمت صورته صلى الله عليه و سلم عن أن يظهر بها شيطان أه ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلى الله عليه و سلم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلى الله عليه و سلم إلى المة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو مناما لأحد من أمته مخلصا أو غير مخلص خوف الأشتباه وزوال الإعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر
وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاد ما ليس قرآنا قرآنا للتلبيس الناشيء عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به وكون التلبيس كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه
وأورد على قوله في الجواب السابع : إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلى الله عليه و سلم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي قرآن فلما تطرق الإحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة : ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الإحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتفاء الإحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضا ذلك الإحتمال والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب
ولا يجدي نفعا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى والله عليم حكيم آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة و السلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلا في باب التلبيس
(17/185)

مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عن إخباره صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق
وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلى الله عليه و سلم نطق بما نطق عمدا متعمدا للتلبيس أنه وحي حاملا له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة أثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها وفي شرح الجوهرة الأوسط أن حديث تلك الغرانيق الخ ظاهره مخالف للقواطع فيجب تاويله إن صح بما هو مذكور في موضعه مما أقربه على نظر فيه أن الشيطان ترصد قراءته عليه الصلاة و السلام وكان يرتل القراءة إذ ذاك عند البيت فحين انتهى عليه الصلاة و السلام إلى قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وكان منه عليه الصلاة و السلام وقفة ما للترتيل أدرج ذلك في تلاوته محاكيا صوته صلى الله تعالى عليه وسلم فظن أنه من قوله عليه الصلاة و السلام وليس به انتهى والنظر الذي أشار إليه لا يخفى على من أحاط بما قدمناه خبرا وأخذت العناية بيديه وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها ويجب على قائل ذلك التوبة كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم السلام فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة و السلام مدح آلهتهم بها نسخت وأنت تعلم أن تفسير الآية أعني قوله تعالى وما أرسلنا الخ لا يتوقف على ثبوت أصل القصة وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه وقيل : هو بعيد صدقوا لكن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم هذا وأخرج عبد ابن حميد وابن النباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث فنسخ ولا محدث والمحدثون صاحب يس ولقمان ومؤمن من آل فرعون وصاحب موسى عليه السلام
الملك أي السلطان القاهر والإستيلاء التام والتصرف على الإطلاق يومئذ أي يوم إذ تأتيهم الساعة أو عذابها وقيل أي يوم إذ تزول مريتهم وليس بذلك ومثله ما قيل أي يوم إذ يؤمنون لله وحده بلا شريك أصلا بحيث لا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجاز أو لا صورة ولا معنى كما في الدنيا للبعض فيها تصرفا صوريا في الجملة والتنوين في إذ عوض عن المضاف إليه وإضافة يوم إليه من أضافة العام إلى الخاص وهو متلق بالإستقرار الواقع خبرا وقوله سبحانه يحكم بينهم جمع مستأنفة وقعت جواب سؤال نشأ من الأخبار بكون الملك يومئذ لله وضمير الجمع للفريقين المرمنين والكافرين لذكرهما أولا واشتمال التفصيل عليهما آخرا نعم ذكر الكافرين قبيله ربما يوهم تخصيصه بهم كأنه قيل : فماذا يصنع سبحانه بالفريقين حينئذ فقيل : يحكم بينهم بالمجازاة وجوز أن تكون حالا من الاسم الجليل فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين لا مرية لهم فيما أشير إليه سابقا كيفما كان متعلق الإيمان في جنات النعيم
56
- أي مستقرون في جنات مشتملة على النعم
(17/186)

الكثيرة والذين كفروا وكذبوا بآياتنا وهم الذين لا يزالون في مرية من ذلك وفي متعلق الكفر احتمالات كاحتمالات متعلق الإيمان وزيادة وهي احتمال أن يكون متعلقة الآيات والظاهر أن المراد باها الآيات التنزيلية وجوز أن يراد بها الأدلة وأن يراد بها العم ويتحصل مما ذكر خمسة عشر احتمالا في الآية ولعل أولاها ما قرب به العطف إلى التأسيس فتأمل والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى فأولئك مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الشر والفساد
وقوله سبحانه لهم عذاب جملة إسمية من مبتدأ وخبر مقدم عليه وقعت خبرا للمبتدا الثاني أو لهم خبر له و عذاب مرتفع على الفاعلية بالإستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وجملة المبتدا الثاني وخبره للمبتدأ الأول وتصديره بالفاء قيل للدلالة على أن تعذيب الكفار بسبب قبائحهم ولذا جيء بأولئك
وقيل لهم عذاب بلام الإستحقاق وكان الظاهر في هذاب كما قيل في جنات وجعل تجريد خبر الموصول الأول عنها للإيذان بأن إثابة المؤمنين بطريق التفضل لا لإيجاب محاسنهم إياها ولا ينافي ذلك قوله تعالى فلهم أجر غير ممنون ونحوه لأنها بمقتضى وعده تعالى على الإثابة عليها قد تجعل سببا وقيل جيء بالفاء لأن الكلام لخروجه مخرج التفصيل بتقدير أما فكأنه قيل : فأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك الخ وليس بشيء لأن ذلك يقتضي تقدير أما في قوله تعالى فالذين آمنوا الخ ولا يتسنى فيه لعدم الفاء في الخبر وقوله تعالى مهين
57
- صفة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة ولم يتعرض لوصف هؤلاء الكفرة بعمل السيئات كما تعرض لوصف المؤمنين بعمل الصالحات قيل لظهور عدم اتصافهم بغيره أعني العمل الصالح الذي شرعه الله تعالى على لسان الرسول عليه السلاة والسلام بعد كفرهم وتكذيبهم بالآيات وقيل مبالغة في تهويل أمر الكفر حيث أخبر سبحانه أن للمتصف به دون عمل السيئات عذابا مهينا ولو تعرض لذلك لأفاد أن ذلك العذاب للمتصف بالمجموع فيضعف التهويل والقول بأن المراد من التكذيب بالآيات عمل السيئات أو في الكلام صنعة الإحتباك والأصل فالذين آمنوا وصدقوا بآتنا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا وعملوا السيئات فأولئك لهم عذاب مهين خلاف الزاهر كما لا يخفى
والذين هاجروا في سبيل الله أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى ثم قتلوا أو ماتوا أي في تضاعيف المهاجرة وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد وحمل الموصول الرفع على الإبتداء وقوله تعالى ليرزقنهم الله جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبرا ومن منع أضمر قولا هو الخبر والجملة محكية به وقوله سبحانه رزقا حسنا إما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقا حسنا أو مصدر مبين للنوع والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردوية عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من مات مرابطا أجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين واقرؤا إن شئتم والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا إلة قوله تعالى حليم وقد نص سبحانه في آية أخرى على الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحياء
(17/187)

عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون : المراد به ما لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم
وتعقب بان عدم الإختصاص ممنوع فإن تنكير رزقا يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين وقيل : المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلف الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر
وقال الكلبي : هو الغنيمة وقال الأصم : هو العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام ورزقني منه رزقا حسنا ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو موتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا ولعل قائل ذلك يقول : إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضا
وظاهر الآية على ما قيل : استواء من قتل ومن مات مهاجرا في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى منوفي فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال : والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا الآية
ويؤيد ذلك بما روي عن انس قال : قال صلى الله تعالى عليه وسلم : المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفي في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية وظاهر القول بالتسوية أن المتوفي مهاجرا في سبيل الله تعالى شهيدا كالقتيل وبه صرح بعضهم وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطى ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى وما تقدم في سبب النزول غير مجمع عليه فقد روي أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا في علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت واستدل بعضهم بهذا أيضا على التسوية وقاتل مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد وأيا ما مكان فهذا ابتداء غير داخل في حيز التفصيل ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا وعملوا الصالحات تفخيما لشأنهم وهو كما ترى وإن الله لهو خير الرازقين
58
- فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه
واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطي والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد
وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلانا من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما لا بأس به وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله
(17/188)

وقوله تعالى ليدخلهم مدخلا يرضونه استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه ليرزقهم الله أو بدل منه مقصود منه تأكيده و مدخلا إما اسم مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع أو مصدر ميمي وهو على الإحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق ووصفه بيرضونه على الإحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقيل على الثاني : إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام
وقرأ أهل المدينة مدخلا بالفتح والباقون بالضم وإن الله لعليم بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم حليم
59
- فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضا مناسبة لما بعد ذلك قد حقق أمره ومن عاقب بمثل ما عوقب به أي من جازى الجاني بمثل ما جنى به عليه وتسمية ما وقع ابتداء عقابا مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الإبتداء لما كان سببا للجزاء أطلق عليه مجازا مرسلا بعلاقة السببية وقال بعض المحققين : يجوز أن يقال : لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية و من موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها والجملة مستأنفة والباء في الموضعين قيل للسبب لا للآلة وإليه ذهب أبو البقاء وقال الخفاجي : باء بمثل آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى به والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للآلة وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل
ثم بغى عليه بالمعاودة إلى العقاب لينصرنه الله على من بغى عليه لا محالة عند كره للإنتقام منه إن الله لعفو غفور
60
- تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الحاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى فمن عفا وأصلح فأجره على الله وأن تعفوا أقرب للتقوى ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعي الشرطية وهي عدم العدوان وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية
وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع وثانيها أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده
قال في الكشف : فهو أي إن الله الخ على هذا أيضا تعليل للنصرة وأن والمعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الإكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه وفيه إدماج أيضا للحث على العفو وهذا وجه وجيه أه وثالثها أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولا إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى من عاقب بمثل ما عوقب به والخبر الآخر قوله تعالى لينصرنه الله فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إخلاله ثانيا بذلك
(17/189)

وجعل ذلك بعضهم من التقديم والتأخير ولا ضرورة إليه وقيل : إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى بل لأن المماثلة من كل الوجوه متعسرة فيحتاج للعفو عما وقع فيها وليس بذاك ونقل الطيبي عن الإمام أن الآية نزلت في قوم مشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا : إن ألآصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فأحملوا عليهم فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن القتال فأبوا فقاتلوهم فنصر المسلمون ووقع في أنفسهم شيء من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية ثم قال : فعلى هذا أمر المطابقة ظاهر ويكون أوفق لتأليف النظم وذلك أن لفظة ذلك فصل للخطاب وقوله تعالى ومن عاقب شروع في قصة أخرى لأولئك السادة بعد قوله سبحانه والذين هاجروا الآيتين أه
وتعقب بأن الآية تقتضي ابتداء ثم جزاء ثم بغيا ثم جزاء والقصة لم تدل عليه إلا أن يجعل ما بينهم من التعادي معاقبة بالمثل ويجعل البغي مناواتهم لقتال المسلمين في الشهر الحرام وهو خلاف الظاهر وأما الموافقة لتأليف النظف فعلى ما ذكره غيره أبين لأنه لما ذكر حال المقتولين منهم قيل الأمر فيما يرجع إلى حال الآخرة وفيما يرجع إلى حال الدنيا إنهم لهم المنصورون لأنهم بين معاقب وعاف وكلاهما منصوران أما الأول فنصا وأما الثاني فمن فحوى الخطاب أعني مفهوم الموافقة وفيه وعيد شديد للباغي وأنه مخذول في الدارين مسلوك في قرن من كان في مرية حتى أتته الساعة أو العذاب أه وهو كلام رصين ولا يعكر عليه قولهم : إنه أتى بذلك للإقتضاب فتأمل وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات
واستدل بها الشافعي على وجوب رعاية المماثلة في القصاص وعندنا لا قود إلا بالسيف كما جاء في الخبر والمراد به السلاح وخبر من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه لم يصح وبتسليم صحته محمول على السياسة وينبغي أن يعلم أن المعاقبة بالمثل على الإطلاق غير مشروعة فإن الرجل قد يعاقب بنحو يا زاني وقد قالوا : إنه إذا قيل له ذلك فقال لا بل أنت زان حد هو والقائل الأول فليحفظ ذلك إشارة إلى النصر المدلول عليه بقوله تعالى لينصرنه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وقيل لعدم ذكر المشار إليه صريحا ومحله الرفع على الإبتداء وخبره قوله سبحانه : بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل والباء فيه سببية والسبب ما دل عليه ما بعد بطريق اللزوم أي ذلك النصر كائن لسبب أن الله تعالى شأنه قادر على تغيب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة ومن شأنه ذلك
وعب عن ذلك بإدخال أحد الملوين في الآخر بأن يزيد فيه ما ينقص من الآخر كما هو الأوفق بالإيلاج أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر كما قيل لا بأن يجعل بين كل نهارين ليلا وبين كل ليلين نهارا كما قد توهم لكونه أظهر المواد وأوضحها أو كائن بسبب أنه تعالى خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنتصار كما قيل وعلى الأول قوله تعالى : وأن الله سمع بكل المسموعات التي من جملتها ما يقول المعاقب بصير
61
- بكل المبصرات التي من جملتها ما يقع منه من الأفعال من تتمة الحكم لا بد منه إذ لا بد للناصر من القدرة على نصر المظلوم ومن العلم بأنه كذلك وعلى الثاني هو تتميم وتأكيد والأول أولى وقيل : لا يبعد أن يكون المعنى ذلك النصر بسبب تعاقب الليل والنهار وتناوب الأزمان والأدوار
(17/190)

إلى أن يجيء الوقت الذي قدره الملك الجبار لانتصار المظلوم وغلبته وفيه أنه لا محصل له مالم يلاحظ قدرة الفاعل لذلك وقيل : يجوز أن تكون الإشارة إلى الإتصاف بالعفو والغفران أي ذلك الإتصاف بسبب انه تعالى لم يؤاخذ الناس بذنوبهم فيجعل الليل والنهار سرمدا فتتعطل المصالح وفيه أنه مع كونه لا يناسب السياق غير ظاهر لا سيما إذا لوحظ عطف قوله تعالى وأن الله سميع بصير على مدخول الباء فيما قبل نعم الإشارة إلى الإتصاف في قوله تعالى ذلك بأن الله هو الحق فالمعنى ذلك الإتصاف بكمال القدرة الدال عليه قوله تعالى يولج الليل في النهار الخ وكمال العلم الدال عليه سميع بصير بسبب أن الله تعالى الواجب لذاته الثابت في نفسه وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يستلزمان أن يكون سبحانه هو الموجد لسائر المصنوعات ولا بد في إيجاده لذلك حيث كان على أبدع وجه وأحكمه من كمال العلم على ما بين في موضعه وقيل : إن وجوب الوجود وحده متكفل بكل كمال حتى الوحدة أو المعنى ذلك الإتصاف بسبب أن الله تعالى الثابت الآلهية وحده ولا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم وأن ما يدعون من دونه إلها هو الباطل أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل الإلهية والحصر يحتمل أن يكون غير مراد وإنما جيء به للمشاكلة ويحتمل أن يكون مرادا على معنى أن جميع ما يدعون من دونه هو الباطل لا بعضه دون بعض : وقيل هو باعتبار كمال بطلانه وزيادة هو هنا دون ما في سورة لقمان من نظير هذه الآية لأن ما هنا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله تعالى الآتي وإن الله لهو الغني الحميد دون نظيره في تلك السورة ويمكن أن يقال تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف سورة لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر ههنا قاله النيسابوري ويجوز أن يكون زيادة هو في هذا الموضع لأن المعلل فيه أزيد منه في هذا الموضع فتأمل وأن الله هو العلي على جميع الأشياء الكبير
62
- عن أن يكون له سبحانه شريك لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا
وقرأ الحسن وأن ما بكسر الهمزة وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر تدعون بالتاء على خطاب المشركين وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري يدعون بالياء التحتية مبنيا للمفعول على أن الواو لما فإنه عبارة عن الآلهة وأمر التعبير عنها بما ثم إرجاع ضمير العقلاء إليها ظاهر فلا تغفل
ألم تر أن الله أنزل من السماء أي من جهة العلو ماء أي ألم تعلم ذلك وجوز كون الرؤية بصرية نظرا للماء المنزل والإستفهام للتقرير وقوله تعالى فتصبح الأرض مخضرة أي فتصير وقيل تصبح على حقيقتها والحكم بالنظر إلى بعض الأماكن تمطر السماء فيها ليلا فتصبح الأرض مخضرة والأول أولى عطف على أنزل والفاء مغنية عن الرابط فلا حاجة إلى تقدير بإنزاله والتعقيب عرفي أو حقيقي وهو إما باعتبار الإستعداد التام للإخضرار أو باعتباره نفسه وهو كما ترى وجوز أن تكون الفاء لمحض السبب فلا تعقيب فيها والعدول عن الماضي إلى المضارع لإفادة بقاء أثر المطرز زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغدوا شاكرا له ولو قلت : فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع أو لاستحضار الصورة البديعة ولم ينصب الفعل في جواب الإستفهام هنا في شيء من القراءات فيما نعلم وصرح غير واحد بامتناعه ففي البحر أنه
(17/191)

يمتنع النصب هنا لأن النفي إذا دخل عليه الإستفهام وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى قوله تعالى ألست بربكم قالوا بلى وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا بالنصب فالمعنى ما تأتينا محدثا إنما تأتينا ولا تحدث ويجوز أن يكون المعنى لا تأتينا فكيف تحدثنا فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الإستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته همزة الإستفهام وينفي الجواب فيلزم من ذلك هنا إثبات الرؤية وانتفاء الإخضرار وهو خلاف المراد وأيضا جواب الإستفهام ينعقد منه مع الإستفهام شرط وجزاء ولا يصح أن يقال هنا إن تر إنزال الماء تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتبا على على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال أه
وإلى انعكاس المعنى على تقدير النصب ذهب الزمخشري حيث قال : لو نصب الفعل جوابا للإستفهام لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الإخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الإخضرار لكن تعقبه صاحب الفرائد حيث قال : لا وجه لما ذكره صاحب الكشاف ولا يلزم المعنى الذي ذكره بل يلزم من نصبه أن يكون مشاركا لقوله تعالى ألم تر تابعا له ولم يكن تابعا لإنزل ويكون مع ناصبه مصدرا معطوفا على المصدر التي تضمنه ألم تر والتقدير ألم تكن لك رؤية إنزال الماء من السماء وإصباح الأرض مخضرة وهذا غير مراد من الآية بل أن يكون إصباح الأرض مخضرة بإنزال الماء فيكون حصول اخضرار الأرض تابعا للإنزال معطوفا عليه أه وفيه بحث
وقال صاحب التقريب في ذلك : إن النصب بتقدير أن هو علم للإستقبال فيجعل الفعل مترقبا والرفع جزم بإخباره وتلخيصه أن الرفع جزم بإثباته والنصب ليس جزما بإثباته لا أنه جزم بنفيه ولا يخفى أنه إن صح في نفسه لا يطابق مغزى الزمخشري وعلل أبو البقاء امتناع النصب بأمرين أحدهما انتفاء سببية المستفهم عنه لما بعد الفاء كما تقدم عن البحر والثاني أن الإستفهام المذكور بمعنى الخبر فلا يكون له جواب وإلى هذا ذهب الفراء فقال : ألم تر خبر كما تقول في الكلام أعلم أن تعالى يفعل كذا فيكون كذا وقال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت : أتسمع وفي النسخة الشرقية من الكتاب انتبه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا
وقال بعض المتأخرين : يجوز أن يعتبر تسبب الفعل عن النفي ثم يعتبر دخول الإستفهام التقريري فيكون المعنى حصل منك رؤية إنزال الله تعالى الماء فإصباح الأرض مخضرة لأن الإستفهام المذكور الداخل على النفي يكون في معنى نفي النفي وهو إثبات فإن قلت : الرؤية لا تكون سببا لا نفيا ولا إثباتا للإخضرار قلت : الرؤية مقحمة والمقصود هو الإنزال أو هي كناية عنه لأنها تلزمه مع أنه يكفي التشبيه بالسبب كما نص عليه الرضي في ما تأتينا فتحدثنا في أحد اعتباريه واختار هذا في الإستدلال على عدم جواز النصب أن النصب مخلص المضارع للإستقبال اللائق بالجزائية على ما قرر في علم النحو ولا يمكن ذلك في الآية الكريمة كما ترى
وبالجملة إن الذي عليه المحققون أن من جوز النصب هنا لم يصب وأن المعنى المراد عليه ينقلب وقريء وخضرة بفتح الميم وتخفيف الضاد مثل مقبلة ومجزرة أي ذات خضرة إن الله لطيف أي متفضل على العباد بإيصال
(17/192)

منافعهم إليهم برفق ومن ذلك إنزال الماء من السماء واخضرار الرض بسببه خيبر
63
- أي عليم بدقائق الأمور ومنها مقادير مصالح عباده
وقال ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقال مقاتل : لطيف باستخراج النبات خبير بكيفية خلقه وقال الكلبي : لطيف بأفعاله خبير بأعمال عباده وقال ابن عطية : اللطيف هو المحكم للأمور برفق ونقل الآدمي أنه العالم بالخفيات وأنت تعلم أنه المعنى المشهور للخبير وفسره بعضهم بالمخبر ولا يناسب المقام كتفسير اللطيف بما لا تدركه الحاسة
له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتصرفا فاللام للإختصاص التام وإن الله لهو الغني الذي لا يفتقر إلى شيء أصلا الحميد
64
- الذي حمده بصفاته وأفعاله جميع خلقه قالا أو حالا
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيها كيف شئتم وتقديم الجار والمجرو على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والفلك بالنصب وإسكان اللام وقرأ ابن مقسم والكسائي عن الحسن بضمها وهو معطوف على ما عطف الخاص على العام تنبيها على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها
وجوز أن يكون عطفا على الاسم الجليل وقوله تعالى تجري في البحر بأمره على الأول حال منه وعلى الثاني خبر لأن وتكون الواو قد عطفت الاسم على الاسم والخبر على الخبر وهو خلاف الظاهر وفي البحر هو إعراب بعيد عن الفصاحة وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني والفلك بالرفع على الإبتداء وما بعده خبره والجملة مستأنفة
وجوز أن تكون حالية وقيل : يجوز أن يكون الرفع بالعطف على محل أن مع اسمها وهو على طرز العطف على الاسم ويمسك السماء أن تقع على الأرض أي عن أن تقع عليها فالكلام على حذف حرف الجر وأن وما بعدها في تأويل مصدر أو مجرور على القولين المشهورين في ذلك وجعل بعضهم ذلك في موضع المفعول لأجله بتقدير كراهة أن تقع عند البصريين والكوفيون يقدرون لئلا تقع
وقال أبو حيان : الظاهر أن تقع في موضع نصب بدل اشتمال من السماء أي ويمنع وقوع السماء على الأرض ورد بأن الإمساك بمعنى اللزوم يتعدى بالباء وبمعنى الكف بعن وكذا بمعنى الحفظ والبخل كما في تاج المصادر وأما بمعنى المنع فهو غير مشهور وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مشهور مصرح به في كتب اللغة قال الراغب : يقال أمسكت عنه كذا أي منعته قال تعالى هل هن ممسكات رحمته وكني عن البخل بالإمساك أه وصرح به الزمخشري والبيضاوي في تفسير قوله تعالى إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا نعم الأظهر هو الإعراب الأول والمراد بإمساكها عن الوقوع على الأرض حفظ تماسكها بقدرته تعالى بعد أن خلقها متماسكة آنا فآنا وعدم تعلق إرادته سبحانه بوقوعها قطعا قطعا وقيل إمساكه تعالى إياها عن ذلك بجعلها محيطة لا ثقيلة ولا خفيفة وهذا مبني على اتحاد السماء والفلك وعلى قول الفلاسفة المشهور
(17/193)

بأن الفلك لا ثقيل ولا خفيف : وبنوا ذلك على زعمهم استحالة قبوله الحركة المستقيمة وفرعوا عليه أنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس واستدلوا على استحالة قبوله الحركة المستقيمة بما أبطله المتكلمون في كتبهم
والمعروف من مذهب سلف المسلمين أن السماء غير الفلك وأن لها أطيطا لقوله عليه الصلاة و السلام أطت السمء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد وأنها ثقيلة محفوظة عن الوقوع بمحض إرادته سبحانه وقدرته التي لا يتعاصاها شيء لا لاستمساكها بذاتها
وذكر بعض المتكلمين لنفي ذلك أنها مشاركة في الجسمية لسائر الأجسام القابلة للميل الهابط فتقبله كقبول غيرها وللبحث فيه على زعم الفلاسفة مجال والتعبير بالمضارع لإفادة الإستمرار التجددي أي يمسكها آنا فآنا من الوقوع إلا بإذنه أي بمشيئته والإستثناء مفرغ من أعم الأسباب وصح ذلك في الموجب قيل لصحة إرادة العموم أو لكون يمسك فيه معنى النفي أي لا يتركها تقع بسبب من الأسباب كمزيد مرور الدهور عليها وكثقلها بما فيها إلا بسبب مشيئته وقوعها وقيل : استثناء من أعم الأحوال أي لا يتركها تقع في حال من الأحوال إلا في كونها ملتبسة بمشيئته تعالى ولعل ما ذكرناه أظهر وفي البحر أن الجار والمجرور متعلق بتقع وقال ابن عطية : يحتمل أن يتعلق بيمسك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه فكأنه أراد إلا بإذنه فبه يمسكها ولو كان كما قال لكان التركيب بدون إلا انتهى ولعمري أن ما قاله ابن عطية لا يقوله من له أدنى روية كما لا يخفى ثم أنه لا دلالة في الآية على وقوع الإدن بالوقوع وقيل فيها إشارة إلى الوقوع وذلك يوم القيامة فإن السماء فيه تتشقق وتقع على الأرض وأنا ليس في ذهني من الآيات أو الأخبار ما هو صريح في وقوع السماء على الأرض في ذلك اليوم وإنما هي صريحة في المور والإنشقاق والطي والتبدل وكل ذلك لا يدل على الوقوع على الأرض فضلا عن أن يكون صريحا فيه والظاهر أن المراد بالسماء جنسها الشامل للسماوات السبع ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال : إذا أتيت سلطانا مهيبا تخاف أن يسطو بك فقل : الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعا الله أكبر مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو الممسك السماوات السبع أن يقمن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس إلهي كن لي جارا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك لا إله غيرك ثلاث مرات
والظاهر أيضا أن مساق الآية للإمتنان لا للوعيد كما جوزه بعضهم ويؤيد ذلك قوله تعالى : إن الله بالناس لرؤف رحيم
65
- حيث سخر لهم ما سخر ومن عليهم بالأمن مما يحول بينهم وبين الإنتفاع به من وقوع السماء على الأرض وقيل حيث هيأ لهم أسباب معايشهم وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الإستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية وجعل الجملة تعليلية في ضمن ألم تر أن الله سخر الخ أظهر فيما قلنا والرأفة قيل ما تقتضي درء المضار والرحمة قيل ما تقتضي جلب المصالح ولكون در المضرة أهم من جلب المصلحة قدم رؤف على رحيم وفي كل مما امتن به سبحانه درء وجلب نعم قيل إمساك السماء عن الوقوع أظهر في الدرء ولتأخيره وجه لا يخفى وقال بعضهم : الرأفة أبلغ من الرحمة وتقديم رؤف للفاصلة وذهب جمع إلى أن الرحمة أعم ولعله الظاهر وتقديم بالناس للإهتمام وقيل للفاصلة والفصل بين الموضعين مما لا يستحسن وهو الذي أحياكم بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا حسبما فصل في مطلع
(17/194)

السورة الكريمة ثم يميتكم عند مجيء آجالكم ثم يحييكم عند البعث إن الإنسان لكفور
66
- أي جحود بالنعم مع ظهورها وهذا وصف للجنس بوصف بعض أفراده وقيل المراد بالإنسان الكافر وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وعن ابن عباس أيضا أنه قال : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبي بن خلف ولعل ذلك على طريق التمثيل
لكل أمة كلام مستأنف جيء به لزجر معاصريه عليه الصلاة و السلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته عليه الصلاة و السلام ببيان حال ما تمسكوا به من الشرائع وإظهار خطئهم في النظر أي لكل أمة معينة من الأمم الخالية والباقية جعلنا وضعنا وعينا منسكا أي شريعة خاصة وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر لا لأمة أخرى منهم والكلام نظير قولك لكل من فاطمة وزينب وهند وحفصة أعطيت ثوبا خاصا إذا كنت أعطيت فاطمة ثوبا أحمر وزينب ثوبا أصفر وهند ثوبا أسود وحفصة ثوبا أبيض فإنه بمعنى لفاطمة أعطيت ثوبا أحمر لا لأخرى من أخواتها ولزينب أعطيت ثوبا أصفر لا لأخرى منهن وهكذا وحاصل المعنى هنا عينا كل شريعة لأمة معينة من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى لا استقلالا ولا اشتراكا وقوله تعالى هم ناسكوه صفة لمنسكا مؤكدة للقصر والضمير لكل أمة باعتبار خصوصها أي تلك الأمة المعينة ناسكون به وعاملون لا أمة أخرى فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام منسكهم ما في التوراة هم عاملون به لا غيرهم والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث نبينا صلى الله عليه و سلم منسكهم ما في الإنجيل هم عاملون به لا غيرهم وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم من الموجودين إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم ما في القرآن ليس إلا والفاء في قوله سبحانه فلا ينازعنك في الأمر أي أمر الدين لترتيب النهي على ما قبلها فإن تعيينه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جملتها أمته عليه الصلاة و السلام شريعة مستقلة بحيث لا تتخطى أمة منهم ما عين لها موجب لطاعة هؤلاء له صلى الله عليه و سلم وعدم منازعتهم إياه في أمر الدين زعما منهم أن شريعتهم ما عين لآبائهم مما في التوراة والإنجيل فإن ذلك شريعة لمن مضى قبل انتساخه وهؤلاء أمة مستقلة شريعتهم ما في القرآن فحسب والظاهر أن المراد نهيهم حقيقة عن النزاع في ذلك
واختار بعضهم كونه كناية عن نهيه صلى الله عليه و سلم عن الإلتفات إلى نزاعهم المبني على زعمهم المذكور لأنه أنسب بقوله تعالى الآتي وادع الخ وأمر الأنسبية عليه ظاهر إلا أنه في نفسه خلاف الظاهر وقال الزجاج : هو نهي له عليه الصلاة و السلام على منازعتهم كما تقول : لا يضاربنك زيد أي لا تضاربنه وذلك بطريق الكناية وهذا يجوز على ما قيل وبحث في باب المفاعلة للتلازم فلا يجوز في مثل لا يضرنك زيد أن تريد لا تضربنه
وتعقب بأنه لا يساعده المقام وقريء فلا ينازعنك بالنون الخفيفة وقرأ أبو مجلز ولاحق بن حميد فلا ينزعنك بكسر الزاي على أنه من النزع بمعنى الجذب كما في البحر والمعنى كما قال ابن جني فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم فتكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره
وفي الكشاف أن المعنى أثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه والمراد زيادة
196
- التثبيت له عليه الصلاة و السلام بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله تعالى ولدينه ومثله كثير في القرآن
وقال الزجاج : هو من نازعته فنزعته أنزعه أي غلبته فالمعنى لا يغلبنك في المنازعة والمراد بها منازعة الجدال يعني أن ذلك من باب المغالبة لكن أنت تعلم أنها عند الجمهور تقال في كل فعل فاعلته ففعلته أفعله بصم العين ولا تكسر إلا شذوذا وزعم الكسائي ورده العلماء أن ما كان عينه أو لامه حرف حلق لا يضم بل يترك على ما كان عليه فيكون ما هنا على توجيه الزجاج شاذا عند الجمهور
وقال سيبويه : كما في المفصل وليس في كل شيء يكون هذا أي باب المغالبة ألا ترى أنك تقول : نازعني فنزعته استغنى عنه بغلبته ثم إن المراد من لا يغلبنك في المنازعة لا تقصر في منازعتهم حتى يغلبوك فيها وفيه مبالغة في التثبيت فليس هناك نهي له صلى الله تعالى عليه وسلم عن فعل غيره هذا وما ذكرنا من تفسير المنسك بالشريعة هو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره القفال وقال الإمام : هو الأقرب وقيل : هو مصدر بمعنى النسك أي العبادة قال ابن عطية : يعطى ذلك هم ناكسوه وقيل : هو اسم زمان وقيل : اسم مكان وكان الظاهر ناكسون فيه إلا ألآنه اتسع في ذلك وقال مجاهد : هو الذبح
وأخرج ذلك الحاكم وصححه والبيهقي عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد بن حميد عن عكرمة وجعل ضمير ينازعنك للمشركين والأمر المتنازع فيه أمر الذبائح لما ذكر من أن الآية نزلت بسبب قول الخزاعيين بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس للمؤمنين مالكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى ومنهم من اقتصر على جعل محل النزاع أمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين المذكور وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأنه يستدعي أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدين به المشركون من الأباطيل من المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل وأجيب بأن المعنى لا ينازعنك المشركون في أمر النسائك فإنه لكل أمة شريعة شرعناها وأعلمناها بها فكيف ينازعون بما ليس له عين ولا أثر فيها وقيل : المعنى عليه لا تلتفت إلى نزاع المشركين في أمر الذبائح فإنا جعلنا لكل أمة من أهل الأديان ذبحاهم ذابحوه
وحاصله لا تلتفت إلى ذلك فإن الذبح شرع قديم للأمم غير مختص بأمتك وهذا مما لا شك في صحته ومن قال بصحة الآثار وعص عليها بالنواجذ لا يكاد يجد أولى منه بيان حاصل الآية على ما تقتضيه ومن لم يكن كذلك ورأى أن الآية متى احتملت معنى جزلا لا محذور فيه قيل به وإن لم يذكره أحد من السلف فعليه بما ذكرناه أولا في تفسير الآية وأياما كان فالظاهر أنه إنما لم تعطف هذه الجملة كما عطف قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا الخ لضعف الجامع بينها وبين ما تقدمها من الآيات بخلاف ذلك وفي الكشف بيانا لكلام الكشاف في توجيه العطف هناك وتركه هنا أن الجامع هناك قوي مقتض للعطف فإن قوله تعالى لكم فيها أي في الشعائر منافع دينية ودنيوية كوجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق كالإعادة لما في قوله تعالى ليشهدوا منافع وليذكروا اسم الله في أيام معلومات إلا أن فيه تخصيصا بالمخاطبين فعطف عليه ولكل أمة جعلنا منسكا للذكر لتتم الإعادة والغرض من هذا الأسلوب أن يبين أنه شرع قديم وأنه
(17/195)

لم يزل متضمنا لمنافع جليلة في الدارين وأما فيما نحن فيه فأين حديث تعداد الآيات والنعم الدالة على كمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة ولعمري أن شرعية النسائك لكل أمة وإن كانت من الرحمة والنعمة لكن النظر إلى المجانسة بين النعم وما سيق له الكلام فالحالة مقتضية للقطع وذكره ههنا لهذه المناسبة على نحو خفي ضيق أه وهو حسن وظاهره تفسير النسك بالذبح
وذكر الطيبي أن ما تقدم عطف على قوله تعالى ومن يعظم شعائر الله الخ وهو من تتمة الكلام مع المؤمنين أي الأمر ذلك والمطلوب تعظيم شعائر الله تعالى وليس هذا مما يختص بكم إذ كل أمة مخصوصة بنسك وعبادة
وهذه الآية مقدمة نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عما يوجب نزاع القوم تسلية له وتعظيم لأمره حيث جعل أمره منسكا ودينا يعني شأنك وشأن أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ترك المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤيدة إلى النزاع وملازمة الدعوة إلى التوحيد أو لكل أمة من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقا ودينا هم ناسكوه فلا ينازعنك هؤلاء المجادلة سمى دأبهم نسكا لإيجابهم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه تهكما بهم ومسلاة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مما كان يلقى منهم وأما اتصاله بما سبق من الآيات فإن قوله تعالى ولا يزال الذين كفروا في مرية منه يوجب القلع عن إنذار القوم والإياس منهم ومتاركتهم والآيات المتخللة كالتأكيد لمعنى التسلية فجيء بقوله تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك تحريضا له عليه الصلاة و السلام على التأسي بالأنبياء السالفة في متاركة القوم والإمساك عن مجادلتهم بعد الإياس من إيمانهم وينصره قوله تعالى الله يحكم بينهم يوم القيامة فالربط على طريقة الإستئناف وهو أقوى من الربط اللفظي والذي يدور عليه قطب هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعانديهم والنعي عليهم بشدة شكيمتهم ألا ترى كيف افتتحها بقوله سبحانه ومن الناس من يجادل في الله وكررها وجهلها أصلا للمعنى المهتم به وكما شرع في أمر كر إليه تثبيتا لقلب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومسلاة لصدره الشريف عليه الصلاة و السلام فلا يقال : إن هذه الاية واقعة من أباعد على معناها انتهى ولعمري أنه أبعد عن ربوع التحقيق وفسر الآية الكريمة بما لا يليق وقد تعقب في الكشف اتصاله بما ذكر بأنه لا وجه له فقد تخلل ما لا يصلح لتاكيد معنى التسلية المذكورة أعني قوله تعالى ومن عاقب الآيات لا سيما على ما آثره من جعلها في المقاتلين في الشهر الحرام ولو سلم فلا مدخل للإستئناف وهو تمهيد لما بعده أعني قوله تعالى فلا ينازعنك الخ وأما قوله والذي يدور عليه الخ فهو مسلم وهو عليه لا له فتأمل والله تعالى الموفق للصواب
وادع أي وادع هؤلاء المنازعين أو الناس كافة على أنهم داخلون فيهم دخولا أوليا إلى ربك إلى توحيده وعباده حسبما بين في منسكهم وشريعتهم إنك لعلى هدى أي طريق موصل إلى الحق ففيه استعارة مكنية وتخييليتها على وقوله تعالى مستقيم
67
- أي سوى أو أحدهما تخييل والآخر ترشيح ثم المراد بهذا الطريق إما الدين والشريعة أو أدلتها والجملة استئناف في موضوع التعليل
وإن جادلوك في أمر الدين وقد ظهر الحق ولزمت الحجة فقل لهم على سبيل الوعيد
(17/197)

والله أعلم بما تعملون
68
- من الأباطيل التي من جملتها المجادلة فمجازيكم عليها وهذا إن أريد به المواعدة كما جزم به أبو حيان فهو منسوخ بآية القتال الله يحكم بينكم تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم والخطاب عام للفريقين المؤمنين والكافرين وليس مخصوصا بالكافرين كالذي قبله ولا داخلا في حيز القول وجوز أن يكون داخلا في على التغليب أي الله يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بثبوت حجج المحق دون المبطل فيما كنتم فيه تختلفون
69
- أي من أمر الدين وقيل الجدال والإختلال في أمر الذبائح ومعنى الإختلاف ذهاب كل إلى الإخلاف ما ذهب إليه الآخر
ألم تعلم استئناف مقرر لمضمون ما قبله والإستفهام للتقرير أي قد علمت أن الله يعلم ما في السماء والأرض فلا يخفى عليه شيء من الأشياء التي من جملتها أقوال الكفرة وأعمالهم إن ذلك أي ما في السماء والأرض في كتاب هو كما روي عن ابن عباس اللوح المحفوظ وذكر رضي الله تعالى عنه أن طوله مسيرة مائة عام وأنه كتب فيه ما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم القيامة وأنكر ذلك أبو مسلم وقال : المراد من الكتاب الحفظ والضبط أي أن ذلك محفوظ عنده تعالى والجمهور على خلافه والمراد من الآية أيضا تسليته عليه الصلاة و السلام كأنه قيل إن الله يعلم الخ فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له إن ذلك أي ما ذكر من العلم والإحاطة بما في السماء والأرض وكتبه في اللوح والحكم بينكم وقيل ذلك إشارة إلى الحكم فقط وقيل إلى العلم فقط وقيل إلى كتب ذلك في اللوح ولعل كونه إشارة إلى الثلاثة بتأويل ما ذكروا أولى على الله يسير
70
- فإن علمه وقدرته جل جلاله مقتضي ذاته فلا يخفى عليه شيء ولا يعسر عليه مقدور وتقديم الجار والمجرور لمناسبة رؤس الآي أو للقصر أي يسير عليه جل وعلا لا على غيره ويعبدون من دون الله حكاية لبعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم وهي بناء أمرهم على غير مبني دليل سمعي أو عقلي وإعراضهم عما ألقي إليهم من سلطان بين هو أساس الدين أي يعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى مالم ينزل به أي يجواز عبادته سلطانا أي حجة والتنكير للتقليل وهذا إشارة إلى الدليل السمعي الحاصل من جهة الوحي
وقوله سبحانه وما ليس لهم به علم إشارة إلى الدليل العقلي أي ما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل أو استدلاله والحاصل يعبدون من دون الله ما لا دليل من جهة السمع ولا من جهة العقل على جواز عبادته وتقديم الدليل السمعي لأن الإستناد في أكثر العبادات إليه مع أن التمسك به في هذا المقام أرجى في الخلاص إن حصل لوم من التمسك بالدليل العقلي وإن شككت فارجع إلى نفسك فيما إذا لامك شخص على فعل فإنك تجدها مائلة إلى الجواب بأنى فعلت كذا لأنك أخبرتني برضاك بأن أفعله أكثر من ميلها إلى الجواب بأني فعلته لقيام الدليل العقلي وهو كذا على رضاك به وإنكار ذلك مكابرة وقد يقال : إنما قدم هنا ما يشير إلى الدليل السمعي لأنه إشارة إلى دليل سمعي يدل على جواز تلك العبادة منزل من جهته تعالى غير مقيد بقيد بخلاف ما يشير إلى الدليل العقلي فإن فيه إشارة إلى دليل عقلي خاص بهم وحاصله أن التقديم والتأخير للإطلاق
(17/198)

والتقييد وإن لم يكونا لشيء واحد فافهم وقال العلامة الطيبي : في اختصاص الدليل السمعي بالسلطان والتنزيل ومقابله بالعلم دليل واضح على أن الدليل السمعي هو الحجة القاطعة وله القهر والغلبة وعند ظهوره تضمحل الآراء وتتلاشى الأقيسة ومن عكس ضل الطريق وحرم التوفيق وبقي متزلزلا في ورطات الشبه وإن شئت فانظر إلى التنكير في سلطاناء وعلم وقسهما على قول الشاعر : له حاجب في كل أمر يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب لتعلم الفرق إلى آخر ما قال ومنه يعلم وجه للتقديم واحتمال آخر في تنوين سلطانا غير ما قدمنا وظاهره أن الدليل السمعي يفيد اليقين مطلقا وأنه مقدم على الدليل العقلي ومذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة أنه لا يفيد اليقين مطلقا لتوقف ذلك على أمور كلها ظنية فتكون دلالته أيضا ظنية لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة والحق أنه يفيد اليقين في الشرعيان دون العقليات بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الإحتمالات
وذكر الفاضل الرومي في حواشيه على شرح المواقف بعد بحث أن الحق أنه قد يفيد اليقين في العقليان أيضا وأما أنه مقدم على الدليل العقلي فالذي عليه علماؤنا خلافه وأنه متى عارض الدليل العقلي السمعي وجب تأويل الدليل إلى ما لا يعارضه الدليل العقلي إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما وتقديم السمع على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال الفرع وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كأن مناقضا لنفسه وكان باطلا لكن ظاهر كلام محي الدين ابن العربي قدس سره في مواضع من فتوحاته القول بأنه مقدم ومن ذلك قوله في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من أبيات : كل علم يشهد الشرع له هو علم فبه فلتعتصهم وإذا خالفه العقل فقل طورك الزم مالكم فيه قدم وقوله في الباب الأربعمائة والإثنين والسبعين : على السمع عولنا فكنا أولى النهي ولا علم فيما لا يكون على السمع إلى غير ذلك وهو كأكثر كلامه من وراء طور العقل وما للظالمين أي وما لهم إلا أنه عدل إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم مع تعليل الحكم به وجوز أن لا يكون هناك عدول والمراد ما يعمهم وغيرهم ودخولهم أولى و من في قوله تعالى من نصير
71
- سيف خطيب واتلمراد نفى أن يكون لهم بسبب ظلمهم من يساعدهم في الدنيا بنصرة مذهبهم وتقرير رأيهم ودفع ما يخالفه وفي الآخرة بدفع العذاب عنهم
وإذا تتلى عليهم آياتنا عطف على يعبدون وما بينهما اعتراض وصيغة المضارع للدلالة على الإستمرار التجددي وقوله تعالى بينات حال من الآيات أي واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة أو على بطلان ما هم عليه من عبادة غير الله تعالى تعرف في وجوه الذين كفروا أي في وجوههم والعدول على نحو ما تقدم والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم أو لمن يصح أن يعرف كائنا من كان المنكر أي الإنكار على أنه مصدر ميمي والمراد علامة الإنكار أو المستقبح من التجهم والبسور والهيئات الدالة على ما يقصدونه وهو الأنسب بقوله تعالى : يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا
(17/199)

أي يثبون ويبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب لأباطيل أخذوها تقليدا ولا يخفى ما في ذلك من الجهالة العظيمة و وكان المراد أنهم طول دهرهم يقاربون ذلك وإلا فقد سطوا في بعض الأوقات ببعض الصحابة التالين كما في البحر والجملة في موضع الحال من المضاف إليه وجوز أن يكون من الوجوه على أن المراد بها أصحابها وليس بالوجه
وقرأ عيسى بن عمر يعرف بالبناء للمفعول المنكر بالرفع قل على وجه الوعيد والتقريع أفأنبئكم أي أخاطبكم أو أتسمعون فأخبركم بشر من ذلكم الذي فيكم من غيظكم من التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلى عليكم النار أي هو أو هي النار على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما هو وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى : وعدها الله الذين كفروا وهو على الوجه الأول جملة مستأنفة وجوز أن يكون خبرا بعد خبر
وقرأ ابن عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي رض الله تعالى عنهما النار بالنصب على الإختصاص وجملة وعدها الخ مستانفة أو حال من النار بتقدير قد أو بدونه على الخلاف ولم يجوزوا في قراءة الرفع الحالية على الإعراب الأول إذ ليس في الجملة ما يصح عمله في الحال
وجوز في النصب أن يكون من باب الإشتغال وتكون الجملة حينئذ مفسرة وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة النار بالجر على الإبدال من شر وفي الجملة احتمالا الإسستئناف والحالية والظاهر معنى أن يكون الضمير في وعدها هو المفعول الثاني والأول الموصول أي وعد الذين كفروا إياها والظاهر لفظا أن يكون المفعول الأول والثاني الموصول كأن النار وعدت بالكفار لتاكلهم وبئس المصير
72
- النار يا أيها الناس ضرب مثل أي بين لكم حال مستغربة أو قصة بديعة رائقة حقيقة بان تسمى مثلا وتسير في الأمصار والأعصار وعبر عن بيان ذلك بلفظ الماضي لتحقق الوقوع ومعنى المثل في الأصل المثل ثم خص بما شبه بمورده من الكلام فصار حقيقة ثم استعير لما ذكر وقيل المقل على حقيقته و ضرب بمعنى جعل أي جعل لله سبحانه شبه في استحقاق العبادة وحكى ذلك عن الأخفش والكلام متصل بقوله تعالى ويعبدون من دون الله مالم ينزل به سلطانا فاستمعوا له أي للمثل نفسه استماع تدبر وتفكر أو لأجله ما أقول فقوله : إن الذين تدعون من دون الله إلى آخره بيان للمثل وتفسير له على الأول وتعليل لبطلان جعلهم معبوداتهم الباطلة مثلا لله تعالى شأنه في استحقاق العبادة على الثاني ومنهم من جعله على ما ذكرنا وعلى ما حكى عن الأخفش تفسيرا أما على الأول فللمثل نفسه بمعناه المجازي وأما على الثاني فلحال المثل بمعناه الحقيقي فإن المعنى جعل الكفار لله مثلا فاستمعوا لحاله وما يقال فيه والحق الذي لا ينكره إلا مكابر أن تفسير الآية بما حكى فيه عدول عن المتبادر
والظاهر أن الخطاب في يا أيها الناس لجميع المكلفين لكن الخطاب في تدعون للكفار واستظهر بعضهم كون الخطاب في الموضعين للكفار والدليل على خصوص الأول الثاني وقيل هو في الأول للمؤمنين ناداهم سبحانه ليبين لهم خطأ الكافرين وقيل هو في الموضعين عام وأنه في الثاني كما في قولك : أنتم يا بني تميم
(17/200)

قتلتم فلانا وفيه بخحث
وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو يدعون بالياء التحتية مبنيا للفاعل كما في قراءة الجمهور وقرأ اليماني وموسى السواري يدعون بالياء من تحت أيضا مبنيا للمفعول والراجع للموصول على القراءتين السابقتين محذوف لن يخلقوا ذبابا أي لا يقدرون على خلقه مع صغره وحقارته ويدل على أن المراد نفي القدرة السباق مع قوله تعالى : ولو اجتمعوا أي لخلقه فإن العرف قاض بأنه لا يقال : لن يحمل الزيدون كذا ولو اجتمعوا لحمله إلا إذا أريد نفي القدرة على الحمل وقيل جاء ذلك من النفي بلن فإنها مفيدة لنفي مؤكد فتدل على منافاة بين المنفي وهو الخلق والمنفي عنه وهو المعبودات الباطلة فتفيد عدم قدرتها عليه والظاهر أن هذا لا يستغني عن معونة المقام أيضا و وأنت تعلم أن في إفادة لن النفي المؤكد خلافا فذهب الزمخشري إلى إفادتها ذلك وأن تأكيد النفي هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل وقال في أنموذجه فإفادتها التأييد
وذهب الجمهور وقال أبو حيان : هو الصحيح إلى عدم إفادتها ذلك وهي عندهم أخت لا لنفي المستقبل عند الإطلاق بدون دلالة على تأكيد أو تأييد وأنه إذا فهم فهو من خارج وبواسطة اتلقرائن وقد يفهم كذلك مع كون النفي بلا فلو قيل هنا لا يخلقون ذبابا ولو اجتمعوا له لفهم ذلك ويقولون في كل ما يستدل به الزمخشري لمدعاه : إن الإفادة فيه من خارج لا يسلمون أنها منها ولن يستطيع إثباته أبدا والإنتصار له بأن سيفعل في قوة مطلقة عامة ولن يفعل نقيضه فيكون في قوة الدائمة المطلقة ولا يتأتى ذلك إلا بإفادة لن التأييد بشيء أصلا كما لا يخفى وكأن الذي أوقع الزمخشري في الغفلة فقال ما قال اعتمادا ما لا ينتهض دليلا شدة التعصب لمذهبه الباطل واعتقاده العاطل نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الخذلان والذباب اسم جنس ويجمع على أذبة وذبان بكسر الذال فيهما وحكى في البحر ضمها في ذبان أيضا وهو مأخوذ من الذب أي الطرد والدفع أو من الذب بمعنى الإختلاف أي الذهاب والعود وهو أنسب بحال الذباب لما فيه من الإختلاف حتى قيل : إنه منحوت من ذب آب أي طرد فرجع وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على شرطية أخرى محذوفة ثقة بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا ويتعاونوا عليه لن يخلقوه ولو اجتمعوا له وتعاونوا عليه لن يخلقوا وهما في موضع الحال كأنه قيل : لن يخلقوا ذبابا على كل حال
وقال بعضهم : الواو للحال ولو اجتمعوا له بجوابه حال وقال آخرون : إن لو هنا لا تحتاج إلى جواب لأنها انسلخت عن معنى الشرطية وتمحضت للدلالة على الفرض والتقدير والمعنى لن يخلقوا ذبابا مفروضا اجتماعهم وإن يسلبهم الذباب شيئا بيان لعجزهم عن أمر آخر دون الخلق أي وإن يأخذ الذباب منها شيئا لا يستنقذوه منه أي لا يقدروا على استنقاذه منه مع غاية ضعفه
والظاهر أن استنقذ بمعنى نقذ وفي الآية من تجهيلهم في إشراكهم بالله تعالى القادر على جميع الممكنات المتفرد بإيجاد كافة الموجودات عجزة لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ولا على استنقاذ
(17/201)

ما يختطفه منهم ما لا يخفى والآية وإن كانت نازلة في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران ورؤسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوي فيأكله وقيل : كانوا يضخمونها بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك إلا أن الحكم عام لسائر المعبودات الباطلة
ضعف الطالب والطلوب
73
- تذييل لما قيل إخبار أو تعجب والطالب عابد غير الله تعالى والمطلوب الآلهة كما روي عن السدي والضحاك وكون عابد ذلك طالبا لدعائه إياه واعتقاده نفعه وضعفه لطلبه النفع من غير جهته وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه وقيل الطالب الذباب يطلب ما يسلبه عن الآلهة والمطلوب الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب
وروي ابن مردوية وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الزمخشري أن الطالب الأصنام والمطلوب الذباب وفي هذا التذييل حينئذ إيهام التسوية وتحقيق أن الطالب أضعف لأنه قدم عليه أن هذا الخلق الأقل هو السالب وذلك طالب خاب عن طلبته ولما جعل السلب المسلوب لهم وأجراهم مجرى العقلاء أثبت لهم طلبا ولما بين أنهم أضعف من أذل الحيوانات نبه به على مكان التهكم بذلك ومن الناس من اختاره الأول لأنه أنسب بالسياق إذ هو لتجهيلهم وتحقير آلهتهم فناسب إرادتهم وآلهتهم من هذا التذييل
وما قدروا الله حق قدره قال الحسن والفراء : أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه فإن تعظيمه تعالى حق تعظيمه أن يوصف بما وصف به نفسه ويعبد كما أمر أن يعبد وهؤلاء لم يفعلوا ذلك فإنهم عبدوا من دونه من لا يصلح للعبادة أصلا وفي ذلك وصفه سبحانه بما نزه عنه سبحانه من ثبوت شريك له عز و جل
وقال الأخفش : أي ما عرفوه حق معرفته فإن معرفته تعالى حق معرفته التصديق به سبحانه موصوفا بما وصف به نفسه وهؤلاء لم يصدقوا به كذلك لشركهم به وعبادتهم من دونه من سمعت حاله وقيل : حق المعرفة أن يعرف سبحانه بكنهه وهذا هو المراد في قوله عليه الصلاة و السلام سبحانك ما عرفناك حق معرفتك
وأنت تعلم أن الظاهر أن قوله تعالى ما قدروا الخ إخبار عن المشركين وذم لهم ومتى كان المراد منه نفي المعرفة بالكنه كان الأمر مشتركا بينهم وبين الموحدين فإن المعرفة بالكنه لم تقع لأحد من الموحدين أيضا عند المحققين ويشير إلى ذلك الخبر المذكور لدلالته على عدم حصولها لأكمل الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام وإذا لم تحصل له صلى الله عليه و سلم فعدم حصولها لغيره بالطريق الأولى واحتمال حمل المعرفة المنفية فيه على اكتناه الصفات لا يخفى حاله وكذا احتمال حصول المعرفة بالكنه له عليه الصلاة و السلام بعد الإخبار النذكور وقوله صلى الله عليه و سلم تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في ذاته فإنكم لن تقدروا قدره
والظاهر عموم الحكم دون اختصاصه بالمخاطبين إذ ذاك وقول الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك وقول علي كرم الله تعالى وجهه متما له بيتا : والبحث عن سر ذات الله إشراك بل قال حجة الإسلام الغزالي وشيخه إمام الحرمين والصوفية والفلاسفة بامتناع معرفته سبحانه بالكنه
ونقل عن أرسطو أنه قال في ذلك : كما تعتري العين عند التحديق في جرم الشمس ظلمة وكدرة تمنعها عن تمام الإبصار كذلك تعتري العقل عند إرادة اكتناه ذاته حيرة ودهشة تمنعه عن اكتناهه سبحانه
(17/202)

ولا يخفى أنه لا يصلح برهانا للإمتناع وغاية ما يقال : إنه خطابي لا يحصل به إلا الظن الغير الكافي في مثل هذا المطلب ومثله الإستدلال بأن جميع النفوس المجردة البشرية وغيرها مهذبة كانت أو لا أنقص تجردا وتنزها من الواجب تعالى والأنقص يمتنع له اكتناه من هو أشد تجردا وتنزها منه كامتناع اكتناه الماديات للمجردات وكذا الإستدلال بكونه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد فيمتنع إدراكه كما يمتنع إدراك البصر ما اتصل به وأحسن من ذلك كله ما قيل : إن معرفة كنهه ليست بديهية بالضرورة بالنسبة إلى شخص وإلى وقت فلا تحصل لأحد في وقت بالضرورة فتكون كسبية والكسب إما تحد تام أو ناقص وهو وهو محال مستلزم لتركيب الواجب لوجوب تركب الحد من الجنس القريب أو البعيد ومن الفصل مع أن الحد الناقص لا يفيد الكنه وأما الحد البسيط بمفرد فمحال بداهة فإن ذلك المفرد إن كان عين ذاته يلزم توقف معرفة الشيء على معرفة نفسه من غير مغايرة بينهما ولو بالإجمال والتفصيل كما في الحد المركب مع حده التام وإن كان غيره فلا يكون حدا بل هو رسم أو مفهوم آخر غير مجهول عليه وإما برسم تام ناقص ولا شيء منهما مما يفيد الكنه بالضرورة
واعترض بأن عدم إمكان البداهة بالنسبة إلى جميع الأشخاص وإلى جميع الأوقات يحتاج إلى دليل فربما تحصل بعد تهذيب النفس بالشرائع الحقة وتجريدها عن الكدورات البشرية والعوائق الجسمانية ولو سلمنا عدم إمكان البداهة كذلك فلنا أن نختار كون المعرفة مما تكتسب بالحد التام المركب من الجنس والفصل وغاية ما يلزم منه التركيب العقلي وليس بمحال إلا إن قلنا بأنه يستلزم التركيب الخارجي المستلزم للإحتياج إلى الأجزاء المنافي لوجوب الوجود ونحن لا نقول بذلك لأن المختار عند جمع أن أجزاء الماهية مأخوذة من أمر واحد بسيط وهي متحدة ماهية ووجودا فتكون أمورا انتزاعية لا حقيقية فلا استلزام نعم يكون ذلك إن قلنا : إن الأجزاء مأخوذة من أمور متغايرة بحسب الخارج لكن لا نقول به لأنه إن قيل حينئذ بتغاير الأجزاء أنفسها ماهية ووجودا كما ذهب إليه طائفة يرد لزوم عدم صحة الحمل بينها ضرورة أن الموجودين بوجودين متغايرين لا يحمل أحدهما على الآخر كزيد وعمرو وإن قيل بتغايرها ماهية وجودا ليصح الحمل كما ذهب إليه طائفة أخرى يرد لزوم قيام الوجود الواحد بالشخص بموجودات متعددة متغايرة بالماهية ولو سلمنا الإستلزام بين التركيب العقلي والتركيب الخارجي فلنا أن نقول : لا نسلم أنه لا شيء من الرسم مما يفيد الكنه بالضرورة كيف وهو مفيد فيما إذا كان الكنه لازما للرسم لزوما بينا بالمعنى الأخص بل يمكن إفادة كل رسم إياه على قاعدة الأشعري من استناد جميع الممكنات إليه تعالى بلا شرط وإن لم تقع تلك الإفادة أصلا إذ الكلام في امتناع حصول الكنه بالكسب كذا قالوا
واستدل الملا صدرا على نفي الأجزاء العقلية له تعالى بأن حقيقته سبحانه آنية محضة ووجود بحت فلو كان له عز و جل جنس وفصل لكان جنسه مفتقرا إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه بل في أن يوجد ويحصل بالفعل فحينئذ يقال : ذلك الجنس لا يخلو إما أن يكون وجودا محضا أو ماهية غير الوجود فعلى الأول يلزم أن يكون ما فرضنا فصلا ليس بفصل إذ الفصل مابه يوجد الجنس وهذا إنما يتصور إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود وعلى الثاني يلزم الواجب تعالى ذا ما هية وقد حقق أن نفس الوجود حقيقته بلا شك وأيضا لو كان له تعالى جنس لكان مندرجا تحت مقولة الجوهر وكان أحد الأنواع الجوهرية
(17/203)

فيكون مشاركا لسائرها في الجنس وقد برهن على إمكانها وحقق أن إمكان النوع يستلزم إمكان الجنس المسلتزم لإمكان كل واحد من أفراد ذلك الجنس من حيث كونه مصداقا له إذ لو امتنع الوجود على الجنس من حيث هو جنس أي مطلقا لكان ممتنعا على كل فرد فإذا يلزم من ذلك إمكان الواجب تعالى عن ذلك علوا كبيرا ومبني هذا أن حقيقة والواجب تعالى هو الوجود البحت وهو مما ذهب الحكماء وأجلة المحققين وليس المراد من هذا الوجود المعنى المصدري الذي لا يجهله أحد فإنه مما لا شك في استحالة كونه حقيقة الواجب سبحانه بل هو بمعنى مبدأ الآثار على ما حققه الجلال الدواني وأطال الكلام فيه في حواشيه على شرح التجريد وفي شرحه للهياكل النووية وغيرها من رسائله وللملا صدرا في هذا المقام والبحث في كلام الجلال كلام طويل عريض وقد حقق الكلام بطرز آخر يطلب من كتابه الأسفار بيد أنا نذكر هنا من كلامه سؤالا وجوابا يتعلقان فيما نحن فيه فنقول : قال فإن قلت : كيف يكون ذات الباري سبحانه عين حقيقة الوجود بديهي التصور وذات الباري مجهور الكنه قلت : قد مر أن شدة الظهور وتأكد الوجود هناك مع ضعف قوة الإدراك وضعف الوجود ههنا صارا منشأ لاحتجابه تعالى عنا وإلا فذاته تعالى في غاية الإشراق والإنارة فإن رجعت وقلت : إن كان ذات الباري نفس الوجود فلا يخلو إما أن يكون الوجود حقيقة الذات كما هو المتبادر أو يكون صادقا عليها صدقا عرضيا كما يصدق عليه تعالى مفهوم الشيء وعلى الأول إما أن يكون المراد به هذا المعنى العام البديهي التصور المنتزع من الموجودات أو معنى آخر والول ظاهر الفساد والثاني يقتضي أن يكون حقيقته تعالى غير ما يفهم من لفظ الوجود كسائر الماهيات غير أنك سميت تلك الحقيقة بالوجود كما إذا سمى إنسان بالوجود ومن البين أنه لا أثر لهذه التسمية في الأحكام وأن هذا القسم راجع إلى الواجب ليس الوجود الذي الكلام فيه ويلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد برهن أن كل ذي ماهية معلول وعلى الثاني وهو أن يصدق عليه تعالى صدقا عرضيا فلا يخفى أن ذلك لا يغنيه عن السبب بل يستدعي أن يكون موجودا ولذلك ذهب جمهور المتأخيرين من الحكماء إلى أن الوجود معدوم فأقول منشأ هذا الإشكال حسبان أن معنى كون هذا العام المشترك عرضيا أن للمعروض موجودية وللعارض موجودية أخرى كالماشي بالنسبة إلى الحيوان والضاحك بالقياس إلى الإنسان وليس كذلك بل هذا المفهوم عنوان وحكاية للوجودات العينية ونسبته إليها نسبة الإنسانية إلى الإنسان والحيوانية إلى الحيوان فكما أن مفهوم الإنسانية صح أن يقال : إنها عين الإنسان لأنها مرآة لملاحظته وحكاية عن جهته صح أن يقال : إنها غيره لأنها أمر نسبي والإنسان ماهية جوهرية وبالجملة الوجود ليس كالإمكان حتى لا يكون بإزائه شيء يكون المعنى المصدري حكاية عنه بل كالسواد الذي قد يراد به نفس المعنى النسبي أعني الأسودية وقد يراد به ما يكون به الشيء أسود أعني الكيفية المخصوصة فكما أن السواد إذا فرض قيامه بذاته صح أن يقال ذاته عين الأسودية وإذا فرض جسم متصف به لم يجز أن يقال أن ذاته عين الأسودية مع أن هذا الأمر لكونه اعتبارا ذهنيا على الجميع إذا تقرر هذا قلنا في الجواب في الترديد الأول : نختار الشق الأول وهو أن الوجود حقيقة الذات قولك في الترديد الثاني إما أن يكون الوجود ما يفهم من لفظ الوجود الخ نختار
(17/204)

منه ما بإزاء ما يفهم من هذا اللفظ أعني حقيقة الوجود الخارجي الذي هذا المفهوم حكاية عنه فإن للوجود عندنا حقيقة في كل موجود كما أن للسواد حقيقة في كل أسود لكن في بعض الموجودات مخلوط بالنقائص والأعدام وفي بعضها ليس كذلك وكما أن السوادات متفاوتة في السوادية بعضها أقوى وأشد وبعضها أضعف وأنقص كذلك الموجودات بل الوجودات متفاوتة في الموجودية كمالا ونقصانا ولنا أيضا أن نختار الشق الثاني من شقي الترديد الأول إلا أن هذا المفهوم الكلي وإن كان عرضيا بمعنى أنه ليس بحسب كونه مفهوما عنوانيا وجود في الخارج حتى يكون عينا لشيء لكنه حكاية عن نفس حقيقة الوجود القائم بذاته وصادق عليه بحيث يكون منشأ صدقه ومصداق حمله عليها نفس تلك الحقيقة لا شيئا آخر يقوم به كسائر العرضيات في صدقها على الأشياء فصدق هذا المفهوم على الوجود الخاص يشبه صدق الذاتيات من هذه الجهة فعلى هذا لا يرد علينا قولك : صدق الوجود عليه لا يغنيه عن السبب لأنه لم يكن يغنيه عن السبب لو كان موجوديته بسبب عروض هذا المعنى أو قيام حصة من الوجود وليس كذلك بل ذلك الوجود الخاص بذاته موجود كما أنه بذاته وجود سواء حمل عليه مفهوم الوجود أو لم يحمل والذي ذهب الحكماء إلى أنه معدوم ليس هو الوجودات الخاصة بل هذا الأمر العام الذهني الذي يصدق على الآينات والخصوصيات الوجودية انتهى وما أشار إليه تعدد الوجودات قال به المشاؤن وهو عند الأكثرين حقائق متخالفة متكثرة بأنفسها لا بمجرد عارض الإضافة إلى الماهيات لتكون متماثلة الحقيقة ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها وقال بعضهم بالإختلاف بالحقيقة حيث يكون بينها من الإختلاف ما بالتشكيك كوجود الواجب ووجود الممكن وكذا وجود المجردات ووجود الأجسام وقالت طائفة من الحكماء المتأهلين إنه ليس في الخارج إلا وجود واحد شخصي مجهول الكنه وهو ذات الواجب تعالى شأنه وأما الممكنات المشاهدة فليس لها وجود بل ارتباط بالوجود الحقيقي الذي هو الواجب بالذات ونسبه إليه نعم يطلق عليها أنها موجودة بمعنى أن لها نسبة إلى الواجب تعالى فمفهوم الموجود أعم من الوجود القائم بذاته ومن الأمور المنتسبة إليه نحوا من الإنتساب وصدق المشتق لا ينافي قيام مبدأ الإشتقاق بذاته الذي مرجعه إلى عدم قيامه بالغير ولا كون ما صدق عليه أمرا منتسبا إلى المبدإ لا معروضا له بوجه من الوجوه كما في الحداد والمشمس على أن أمر إطلاق أهل اللغة وأرباب اللسان لا عبرة به في تصحيح الحقائق وقالوا : كون المشتق من المعقولات الثانية والبديهيات الأولية لا يصادم كون المبدإ حقيقة متأصلة متشخصة مجهولة الكنه وثانوية المعقول وتأصله قد يختلف بالقياس إلى الأمور ولا يخفى ما فيه من الأنظار ومثله ما دار على ألسنة طائفة من المتصوفة من أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق تمسكا بأنه لا يجوز أن يكون عدما أو معدوما وهو ظاهر ولا ماهية موجودة بالوجود أو مع الوجود تعليلا أو تقييدا لما في ذلك من الإحتياج والتركيب فتعين أن يكون وجودا وليس هو الوجود الخاص لأنه إن أخذ مع المطلق فمركب أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق ومتمسكهم هذا أو هن من بيت الهنكبوت والذي حققته من كتب الشيخ الأكبر قدس سره وكتب أصحابه أن الله سبحانه ليس عبارة عن الوجود المطلق بمعنى الكلي الطبيعي الموجود في الخارج في ضمن أفراده ولا بمعنى إفراده أنه معقول في النفس مطابق لكل واحد من جزئياته في الخارج على معنى أن ما في النفس لو وجد في أي شخص من الأشخاص الخارجية لكان ذلك الشخص بعينه من غير تفاوت أصلا
(17/205)

بل بمعنى عدم التقيد بغيره مع كونه موجودا بذاته ففي الباب الثاني من الفتوحات أن الحق تعالى موجود بذاته لذاته مطلق الوجود غير مقيد بغيره ولا معلول من شيء ولا علة لشيء بل هو خالق المعلولات والعلل والملك القدوس الذي لم يزل وفي النصوص للصدر القونوي تصور إطلاق الحق يشترط فيه أن يتعقل بمعنى أنه وصف سلبي لا بمعنى أن إطلاق ضده التقييد بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين وعن الحصر أيضا في الإطلاق والتقييد وفي الجمع بين كل ذلك والتنزيه عنه فيصح في حقه كل ذلك حال تنزهه عن الجميع
وذكر بعض الأجلة أن الله تعالى عند السادة الصوفية هو الوجود الخاص الواجب الوجود لذاته القائم بذاته المتعين بذاته الجامع لكل كمال المنزه عن كل نقص المتجلي فيما يشاء من المظاهر مع بقاء التنزيه ثم قال : وهذا ما يقتضيه أيضا قول الأشعري بأن الوجود عين الذات مع قوله الأخير في كتابه إلا بانة بإجراء المتشابهات على ظواهرها مكع التنزيه بليس كمثله شيء
وتحقيق ذلك أنه قد ثبت بالبرهان أن الواجب الوجود لذاته موجود فهو إما الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته أو الوجود المقترن بالماهية المتعين بحسبها أو الماهية المعروضة للوجود المتعين بحسبها أو المجموع المركب من الماهية والوجود المتعين بحسبها لا سبيل إلى الرابع لأن التركيب من لوازمه الإحتياج ولا إلى الثالث لاحتياج الماهية في تحققها الخارجي إلى الوجود ولا إلى الثاني لاحتياج الوجود إلى الماهية في تشخصه بحسبها والإحتياج في الجميع ينافي الوجوب الذاتي فتعين الأول فالواجب سبحانه الموجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته ثم هو أن يكون مطلقا بالإطلاق الحقيقي وهو الذي لا يقابله تقييد القابل لطل إطلاق وتقييد وإما أن يكون مقيدا بقيد مخصوص لا سبيل إلى الثاني لأن المركب من القيد ومعروضه من لوازمه الإحتياج المنافي للوجوب الذاتي فتعين الأول فواجب الوجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية القائم بذاته المتعين بذاته المطلق بالإطلاق الحقيقي وأهل هذا القول ذهبوا إلى أنه ليس في الخارج إلا وجود واحد وهو الوجود الحقيقي وأنه لا موجود سواه وماهيات الممكنات أمور معدومة متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا وهي ثابتة في العلم لم تشم رائحة الوجود ولا تشمه أبدا لكن تظهر أحكامها في الوجود المفاض وهو النور المضاف ويسمي العلماء والحق المخلوق به وهؤلاء هم المشهورون بأهل الوحدة ولعل القول الذي نقلناه عن بعض الحكماء المتأهلين يرجع إلى قولهم وهو ما وراء طور العقل وقد ضل بسببه أقوام وخرجوا من ربقة الإسلام وبالجملة إن القول بأن حقيقة الواجب تعالى غير معلومة لأحد علما اكتناهيا أحاطيا عقليا أو حسيا مما لا شبهة عندي في صحته وإليه ذهب المحققون حتى أهل الوحدة والقول بخلاف ذلك المحكي عن بعض المتكلمين لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا ولا أدري هل تمكن معرفة الحقيقة أولا تمكن ولعل القول بعدم إمكانها أوفق بعظمته تعالى شأنه وجل عن إحاطة العقول سلطانه وأما شهود الواجب بالبصر ففي وقوعه في هذه النشأة خلاف بين أهل السنة وأما في النشأة الآخرة فلا خلاف فيه سوى أن بعض الصوفية قالوا : إنه لا يقع إلا باعتبار مظهر ما وأما باعتبار الإطلاق الحقيقيي فلا وأما شهوده سبحانه بالقلب فقد قيل بوقوعه في هذه النشأة لكن على معنى شهود نوره القدسي ويختلف ذلك باختلاف الإستعداد لا على معنى شهود نفس الذات والحقيقة ومن ادعي ذلك فقد اشتبه عليه الأمر فادعى ما ادعى
(17/206)

هذا ومن الناس من قال : لا مانع من أن يراد من حق قدره حق معرفته ويراد من حق معرفته المعرفة بالكنه وكونها غير حاصلة لأحد مؤمنا كان أو غيره فيما نحن فيه لأن المراد إثبات عظمته تعالى المنافية لما عليه المشركون وكونه سبحانه لا يعرف أحد كنه حقيقته يستدعي العظمة على أتم وجه فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق للصواب
إن الله لقوي على جميع الممكنات عزيز
74
- غالب على جميع الأشياء وقد علمت حال آلهتهم المقهورة لأذل العجزة والجملة في موضع التعليل لما قبلها الله يصطفي أي يختار من الملائكة رسلا يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام بالوحي ومن الناس أي ويصطفي من الناس رسلا يدعون من شاء إليه تعالى ويبلغونهم ما نزل عليهم والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وتقديم رسل الملائكة عليهم السلام لأنهم وسائط بينه تعالى وبين رسل الناس وعطف من الناس على من الملائكة وهو مقدم تقدير على رسلا فلا حاجة إلى التقدير وإن كان رسل كل موصوفة بغير صفة الآخرين كما أشرنا إليه وقيل : إن المراد الله يصطفي من الملائكة رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به من الطاعات ومن الناس رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به أيضا وهذا شروع في إثبات الرسالة بعد هدم قاعدة الشرك ورد دعائم التوحيد
وفي بعض الأخبار أن الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أأنزل عليه الذكر من بيننا الآية وفيها رد لقول المشركين الملائكة بنات الله ونحوه من أباطيلهم إن الله سميع بجميع المسموعات ويدخل في ذلك أقوال الرسل بصير
75
- بجميع المبصرات ويدخل في ذلك أحوال المرسل إليهم وقيل : إن السمع والبصر كناية عن علمه تعالى بالأشياء كلها بقرينة قوله سبحانه : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم لأنه كالتفسير لذلك ولعل الأول أولى وهذا تعميم بعد تخصيص وضمير الجمع للمكلفين على ما قيل : أي يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها وعن الحسن أول أعمالهم وآخرها وعن علي بن عيسى أن الضمير لرسل الملائكة والناس والمعنى عنده ما كان قبل خلق الرسل وما يكون بعد خلقهم وإلى الله ترجع الأمور
76
- كلها لا إلى غيره سبحانه لا اشتراكا ولا استقلالا لأنه المالك لها بالذات فلا يسئل جل وعلا عما يفعل من الإصطفاء وغيره كذا قيل ويعلم منه أنه مرتبط بقوله تعالى : الله يصطفي الخ وكذا وجه الإرتباط ويجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه : يعلم الخ على معنى وإليه تعالى ترجع الأمور يوم القيامة فلا أمر ولا نهي لأحد سواه جل شأنه هناك فيجازي كلا حسبما علم من أعماله ولعله أولى مما تقدم ويمكن أن يقال : هو مرتبط بما ذكر لكن على طرز آخر وهو أن يكون إشارة إلى تعميم آخر للعلم أي إليه تعالى ترجع الأمور كلها لأنه سبحانه هو الفاعل لها جميعا بواسطة وبلا واسطة أو بلا واسطة في الجميع على ما يقوله الأشعري فيكون سبحانه عالما بها
ووجه ذلك على ما قرره بعضهم أنه تعالى عالم بذاته على أتم وجه وذاته تعالى علة مقتضية لما سواه والعلم التام بالعلة أو بجهة كونها علة يقتضي العلم التام بمعلولها فيكون علمه تعالى بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته سبحانه وفي ذلك بحث طويل عريض
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا أي صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها وأفضلها
(17/207)

والمراد أن مجموعهما كذلك وهو لا ينافي تفضيل أحدهما على الآخر ولا تفضيل القيام أو السجود على كل واحد واحد من الأركان وقيل : المعنى اخضعوا لله تعالى وخروا له سجدا وقيل : المراد الأمر بالركوع والسجود بمعناهما الشرعي في الصلاة فإنهم كانوا في أول إسلامهم يركعون في صلاتهم بلا سجود تارة ويسجدون بلا ركوع أخرى فأمروا بفعل الأمرين جميعا فيها حكاه في البحر ولم نره في أثر يعتمد عليه وتوقف فيه صاحب المواهب وذكره الفراء بلا سند واعبدوا ربكم بسائر ما تعبدكم سبحانه به كما يؤذن به ترك المتعلق وقيل : المراد أمرهم بأداة الفرائض
وقوله تعالى وافعلوا الخير تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالنوافل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أمر بصلة الأرحام ومكارم الأخلاق لعلكم تفلحون
77
- في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي افعلوا كل ذلك وأنتم راجعون به الفلاح غير متيقنين به واثقين بأعمالكم والآية آية سجدة عند الشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحاق رضي الله تعالى عنهم اظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولما تقدم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه وعمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس في إحدى الروايتين عنه رضي الله تعالى عنهم وذهب أبو حنيفة ومالك والحسن وابن المسيب وابن جبير وسفيان الثوري رضي الله تعالى عنهم إلى أنها ليست آية سجدة قال ابن الهمام : لأنها مقرونة بالأمر بالركوع والمعهود في مثله من القرآن كونه أمرا بما هو ركن للصلاة بالإستقراء نحو اسجدي واركعي وإذا جاء الإحتمال سقط الإستدلال وما روي من حديث عقبة قال الترمذي : أسناده ليس بالقوي وكذا قال أبو داود وغيره انتهى
وانتصر لإمامه الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال : الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها وأما السجود فلما لم يختص حمل على الحقيقة لعموم الفائدة ولأن العدول إلى المجاز من غير صادف أو نكتة غير جائز والمقارنة لا توجب ذلك وتعقبه صاحب الكشف بأن للقائل أن يقول : المقارنة تحسن ذلك وتوافق الأمرين في الفرضية أو الإيجاب على المذهبين من المقتضيات أيضا ثم رجع إلى الإنتصار فقال : الحق إن السجود حيث ثبت ليس من مقتض خصوص تلك الآية لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة بل إنما ذلك بفعل الرسول صلى الله عليه و سلم أو قوله فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة ومع ذلك تشرع السجدة عند تلاوتها لما ثبت من الرواية الصحيحة وفيه إن أراد أن ما ثبت دليل مستقل على مشروعيتها من غير مدخل للآية فذلك على ما فيه مما لم لا يقله الشافعي ولا غيره إن أراد الآية تدل على ذلك كما تدل على فرضية سجود الصلاة وما ثبت كاشف على تلك الدلالة فذلك قول بخفاء تلك الدلالة والتزام أن الأمر بالسجود لمطلق الطلب الشامل لما كان على سبيل الإيجاب كما في طلب سجود الصلاة ولما كان على سبيل الندب كما في طلب سجود التلاوة فإنه سنة عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ولعله يتعين عنده ذلك ولا محذور فيه بل لا معدل عنه إن صح الحديث لكن قد سمعت آنفا ما قيل فيه ولك أن تقول : إنه قد قوي بما أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن مردوية والبيهقي عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في
(17/208)

القرأن منها ثلاث في المفصل
وفي سورة الحج سجدتان وبعمل كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الظاهر في كونه عن سماع منه صلى الله عليه و سلم أو رؤية لفعله وجاهدوا في الله أي لله تعالى أو في سبيله سبحانه والجهاد كما قال الراغب استفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو ثلاثة أضرب مجاهدة العدو والظاهر كالكفار ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس وهي أكبر من مجاهدة العدو الظاهرة كما يشعر به ما أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم قوم غزاة فقال : قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل وما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد هواه وفي إسناده ضعف مغتفر في مثله
والمراد هنا عند الضحاك جهاد الكفار حتى يدخلوا في الإسلام ويقتضي ذلك أن تكون الآية مدنية لأن الجهاد إنما أمر به بعد الهجرة وعند عبد الله بن المبارك جهاد الهوى والنفس والأولى أن يكون المراد به ضروبه الثلاثة وليس ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء وإلى هذا يشير ما روي جماعة عن الحسن أنه قرأ الآية وقال : إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف ويشمل ذلك جهاد المبتدعة والفسقة فإنهم أعداء أيضا ويكون بزجرهم عن الإبتداع والفسق حق جهاده أي جهادا فيه حقا فقد حقا وأضيف على حد جرد قطيفة وحذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى ضميره تعالى على حد قوله
ويوم شهدناه سليما وعامرا
وفي الكشاف الإضافة تكون لأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصا بالله تعالى من حيث أنه مفعول لوجهه سبحانه ومن أجله صحت إضافته إليه وأياما كان فنصب حق على المصدرية وقال أبو البقاء : إنه نعت لمصدر محذوف أي جهادا حق جهاده وفيه أنه معرفة يوصف به النكرة ولا أظن أن أحدا يزعم أن الإضافة إذا كانت على الإتساع لا تفيد تعريفا فلا يتعرف بها المضاف ولا المضاف إليه والآية على الأمر بالجهاد على أتم وجه بأن يكون خالصا لله تعالى لا يخشى فيه لومة لائم وهي محكمة
ومن قال كمجاهد والكلبي : إنها منسوخة بقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم فقد أراد بها أن يطاع سبحانه فلا يعصى أصلا وفيه بحث لا يخفى وأخرج ابن مردوية عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال : قال لي عمر رضي الله تعالى عنه ألسنا كنا نقرأ وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله قلت : بلى فمتى هذا يا أمير المؤمنين قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره ولا يخفى عليك حكم هذه القراءة وقال النيسابوري : قال العلماء لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسيره صلى الله عليه و سلم وليست من نفس القرآن وإلا لتواترت وهو كما ترى هو اجتباكم أي هو جل شأنه اختاركم لا غيره سبحانه والجملة مستأنفة لبيان علة الأمر بالجهاد فإن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته ومن قربه العظيم يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه بترك ما لا يرضاه ففيها تنبيه على المقتضي للجهاد وفي قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين أي في جميع أموره ويدخل فيه الجهاد دخولا أوليا من خرج أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه والحاصل أنه تعالى أمرهم بالجهاد وبين أنه لا عذر لهم في تركه حيث وجد المقتضى وارتفع المانع
(17/209)

ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الرخصة في ترك بعض ما أمرهم سبحانه به حيث شق عليهم لقوله صلى الله عليه و سلم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فانتفاء الحرج على هذا بعد ثبوته بالترخيص في الترك بمقتضى الشرع وعلى الأول انتفاء الحرج ابتداء وقيل : عدم الحرج بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد ولا يخفى أن تعميمه للتوبة ونحوها خلاف الظاهر وإن روي ذلك من طريق ابن شهاب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وفي الحواشي الشهابية أن الظاهر أن حق جهاده تعالى لما كان متعسرا ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه
وذكر الجلال السيوطي أن هذه الآية أصل قاعدة المشقة تجلب التيسير وهو أوفق بالوجه الثاني فيها
ملة أبيكم إبراهيم نصب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسعة أبيكم أو على الإختصاص بتقدير أعني بالدين ونحوه وإليهما ذهب الزمخشري وقال الحوفي وأبو البقاء : نصب على الإغراء بتقدير اتبعوا أو الزموا أو نحوه وقال الفراء : نصب بنزع الخافض أي كملة أبيكم والمراد بالملة إما ما يعم الأصول والفروع أو ما يخص الأصول فتأمل ولا تغفل و إبراهيم منصوب بمقدر أيضا أو مجرور بالفتح على أنه بدل أو عطف بيان وجعله عليه السلام أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو كالأب لأمته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته عليه السلام فغلبوا على جميع أهل ملته صلى الله عليه و سلم هو أي الله تعالى كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وسفيان ويدل عليه ما سيأتي بعد في الآية وقراءة أبي رضي الله تعالى عنه الله سميكم المسلمين من قبل أي من قبل نزول القرآن وذلك في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل وفي هذا أي في القرآن والجملة مستأنفة وقيل إنها كالبدل من قوله تعالى هو اجتباكم ولذا لم تعطف وعن ابن زيد والحسن أن الضمير لإبراهيم عليه السلام واستظهره أبو حيان للقرب وتسميته إياهم بذلك من قبل في قوله ربنا اجعلنا مسلمين ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وقوله هذا سبب لتسميتهم بذلك في هذا لدخول أكثرهم من الذرية فجعل مسميا لهم فيه مجازا ويلزم عليه الجمع بين الحقيقة والمجاز وفي جوازه خلاف مشهور وقال أبو البقاء : المعنى على هذا وفي هذا بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى في القرآن مقالته وقال ابن عطية : يقدر عليه وسميتكم في هذا المسلمين ولا يخفى ما في كل ذلك من التكلف
واستدل بالآية من قال : إن التسمية بالمسلمين مخصوص بهذه الأمة وفيه نظر
ليكون الرسول يوم القيامة شهيدا عليكم أنه قد بلغكم ويدل هذا القول منه تعالى على قبول شهادته عليه الصلاة و السلام لنفسه اعتمادا على عصمته ولعل هذا من خواصه صلى الله عليه و سلم في ذلك اليوم وإلا فالمعصوم يطالب في الدنيا بشاهدين إذا ادعى شيئا لنفسه كما يدل على ذلك قصة الفرس وشهادة خزيمة رضي الله تعالى عنه وأيضا لو كان كل معصوم تقبل شهادته لنفسه في ذلك لما احتيج إلى شهادة هذه الأمة على الأمم حين يشهد عليهم أنبياؤهم
(17/210)

فينكرون كما ذكر ذلك كثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى وتكونوا شهداء على الناس ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال لأنبياءهم : هل بلغتم أممكم فيقولون : نعم بلغناهم فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنهم قد بلغوا فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق أو شهيدا عليكم بإطاعة من أطاع وعصيان من عصى ولعل علمه صلى الله عليه و سلم بذلك بتعريف الله تعالى بعلامات تظهر له في ذلك الوقت تسوغ له عليه الصلاة و السلام الشهادة وكون أعمال أمته تعرض عليه عليه الصلاة و السلام وهو في البرزخ كل أسبوع أو أكثر أو أقل إذا صح لا يفيد العلم بأعيان ذوي الأعمال المشهود عليهم وإلا أشكل ما رواه أحمد في مسنده والشيخان عن أنس وحذيفة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول : يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك وربما أشكل هذا على تقدير صحة حديث العرض سواء أفاد العلم بالأعيان أم لا وإذا التزم صحة ذلك الحديث وأنه صلى الله عليه و سلم لم يستحضر أعمال أولئك الأقوال حين عرفهم فقال ما قال وأن المراد من إنك لا تدري الخ مجرد تعظيم أمر ما أحدثوه بعد وفاته عليه الصلاة و السلام لا نفي العلم به يبقى من مات من أمته طائعا أو عاصيا في زمان حياته صلى الله عليه و سلم ولم يكن علم بحاله أصلا كمن آمن ومات ولم يسمع صلى الله عليه و سلم به فإن عرض الأعمال في حقه لم يجيء في خبر أصلا والقول بعدم وجود شخص كذلك بعيد ومن زعم أنه صلى الله عليه و سلم يعلم أعمال أمته ويعرفهم واحدا واحدا حيا وميتا ولذا ساغت شهادته عليهم بالطاعة والمعصية يوم القيامة لم يأت بدليل والآية لا تصلح دليلا له إلا بهذا التفسير وهو خل البحث على أن حديث الإفك ما يدل على خلافه
وزعم بعضهم أن معرفته صلى الله عليه و سلم للطائع والعاصي من أمته لما أنه يحضر سؤالهم في القبر عنه عليه الصلاة و السلام كما يؤذن بذلك ما ورد أنه يقال للمقبور : ما تقول في هذا الذي بعث إليكم واسم الإشارة يستدعي مشارا إليه محسوسا مشاهدا وهو كما ترى واختار بعض أن الشهادة بذلك على بعض الأمة وهم الذين كانوا موجودين في وقته صلى الله عليه و سلم وعلى حالهم من طاعة وعصيان والخطاب في عليكم إما خاص بهم أو عام على سبيل التغليب وفيه ما فيه فتدبر وقيل على في عليكم بمعنى اللام كما في قوله تعالى وما ذبح على النصب فالمعنى شهيدا لكم والمراد بشهادته لهم تزكيته إياهم إذا شهدوا على الأمم ولا يخفى بعده واللام متعلقة بسماكم على الوجهين في الضمير وهي للعاقبة على ما قيل وقال الخفاجي : لا مانع من كونها للتعليل فإن تسمية الله تعالى أو إبراهيم عليه السلام لهم بالمسلمين حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول عليه الصلاة و السلام الداخل فيهم دخولا أوليا وقبول شهادتهم على الأمم وفيه نوع خفاء
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي فترقبوا إليه تعالى لما خصكم بهذا الفضل والشرف بأنواع الطاعات وتخصيص هذين الأمرين بالذكر لأنافتهما وفضلهما واعتصموا بالله أي ثقوا به تعالى في جميع أموركم هو مولاكم ناصركم ومتولي أموركم فنعم المولى ونعم النصير
78
- هو إذ لا مثل له تعالى في الولاية والنصرة فإن من تولاه لم يضع ومن نصره لم يخذل بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عز و جل وفي
(17/211)

هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الإعتصام بالله تعالى وتحقيق مقام العبودية وهو التسمية والإجتباء وجوز أن يكون هو مولاكم تتميما للإجتباء وليس بذاك هذا
ومن باب الإشارة في الآيات إن الله يدافع عن الذين آمنوا كيد عدوهم من الشيطان والنفس إن الله لا يحب كل خوان كفور ويدخل في ذلك الشيطان والنفس وصدق الوصفين عليهما ظاهر جدا بل لأخوان ولا كفور مثلهما الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة الخ فيه إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون فلا شطح عندهم ولا يضل أحد بكلماتهم فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد قيل : في القرية الظالمة إشارة إلى القلب الغافل عن الله تعالى وفي البئر المعطلة إشارة إلى الذهن الذي يستخرج منه الأفكار الصافية وفي القصر المشيد إشارة إلى البدن المشتمل على حجرات القوى
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين المنكرين فإن قلوبهم عمي عن رؤية أنوار أهل الله تعالى فإن لهم أنوارا لا ترى إلا بعين القلب وبهذه العين تدرك حقائق الملك ودقائق الملكوت وفي الحديث اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون قد تقدم الكلام في اليوم وانقسامه فتذكر فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة أي ستر عن الأغيار من أن يقفوا على حقيقتهم كما يشير ما يروونه من الحديث القدسي أو ليأتي تحت قبابي لا يعرفهم أحد غيري ورزق كريم وهو العلم اللدني الذي به غذاء الأرواح
وقال بعضهم : رزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار مشاهدة الجمال ورزق الأرواح مكاشفة الجلال وإلى هذا الرزق يشير عليه الصلاة والصلام بقوله : أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني والإشارة في قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآيات على قول من زعم صحة حديث الغرانيق إلى أنه ينبغي أن يكون العبد فناء في إرادة مولاه عز و جل وإلا ابتلى بتلبيس الشيطان ليتأدب ولا يبقى ذلك التلبيس لمنافاة الحكمة والذين هاجروا في سبيل الله عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ثم قتلوا بسيف الصدق والرياضة أو ماتوا بالجذبة عن أوصاف البشرية ليرزقنهم الله رزقا حسنا هو رزق دوام الوصلة كما قيل : أو هو كالرزق الكريم ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله فيه إشارة إلى نصر السالك الذي عاقب نفسه بالمجاهدة بعد أن عاقبته بالمخالفة ثم ظلمته باستيلاء صفاتها وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون أخذ الصوفية منه ترك الجدال مع المنكرين
وذكر بعضهم أن الجدال معهم عبث كالجدال مع العنين في لذة الجماع وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية فيه إشارة إلى ذك المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور وهم في زماننا كثيرون فإنا لله وإنا إليه راجعون وفي قوله تعالى : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا الخ إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور والعقلاء منهم يقولون : إنهم وسائلنا إلى الله تعالى وإنما ننذر لله عز و جل ونجعل ثوابه للولي ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله الله زلفى ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو رد غائبهم أو نحو
(17/212)

ذلك والظاهر من حالهم الطلب ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل : انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا : ثبت ذلك بالكشف قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افترائهم ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة وعلماؤهم يقولون : إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى وكذا لأهل النحل والدهرية نسأل الله تعالى العفو والعافية
وجاهدوا في الله حق جهاده شامل لجميع أنواع المجاهدة ومنها جهاد النفس وهو بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين وجهاد الروح بإفناء الوجود وقد قيل :
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
واعتصموا بالله تمسكوا به جل وعلا في جميع أحوالكم هو مولاكم على الحقيقة فنعم المولى في إفناء وجودكم ونعم النصير في إبقائكم وما أعظم هذه الخاتمة لقوم يعقلون وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
تم والحمد لله الجزء السابع عشر ويليه إن
(17/213)

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي البحر هي مكية بلا خلاف واستثنى منها كما في الأنفال قوله تعالى حتى إذا أخذناهم مترفين إلى قوله سبحانه مبلسون واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة وهي إنما فرضت بالمدينة وأجيب بأنه بعد تسليم أن ماذكر فيه يدل على فرضيتها يقال : إن الزكاة كانت واجبة بمكة والمفروض بالمدينة ذات النصب وتستمع تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وهي كما في كتاب العدد للداني الطبرسي مائة وثمان وعشرة آية في الكوفي ومائمة وسبع عشر آية في الباقي وقد مدح النبي صلى الله عليه و سلم العشر الأول منها فقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكتا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال : لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر ومناسبتها لآخر السور قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا اركعوا الآية وفيها لعلكم تفلحون فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا : بسم الله الرحمن الرحيم
قد أفلح المؤمنون
1
- والفلاح الفوز بالمرام وقيل : البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول بالبشارة وقد يجيء متعديا وعليه قراءة طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد أفلح بالبناء للمفعول و قد لثبوت أمر متوقع وتحققه والظاهر أنه هنا الفلاح لأن قد دخلت على فعله وهو متوقع الثبوت من حال المؤمنين وجعله الزمخشري الإخبار بثباته وذلك لأن الفلاح مستقبل أبرز من معرض الماضي مؤكدا بقد دلالة على تحققه فيفيد تحقق البشارة وثباتها كأنه قيل : قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح في الآخرة وجوز أن يكون جملة قد أفلح جواب قسم محذوف وقد ذكر الزجاج في قوله تعالى : قد أفلح من زكاها أنه جواب القسم المذكور قبله بتقدير اللام
وقرأ ورش عن نافع قد أفلح بالقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها لفظا لالتقاء الساكنين كما قال أبو البقاء وهما الهمزة الساكنة بعد نقل حركتها والدال الساكنة بحسب الأصل لأنه لا يعتد بحركتها العارضة
وقرأ طلحة أيضا قد أفلحوا بضم الهمزة والحاء والقاء واو الجمع وهي مخرجة على لغة أكلوني البراغيث وقول ابن عطية هي قراءة مردودة مردود وعن عيسى بن عمر قال : سمعت طلحة يقرأ قد أفلحوا المؤمنون فقلت له : أتلحن قال : نعم كما لحن أصحابي ولعل مراده إن مرجع قراءتي الرواية ومتى صحت في شيء
(18/213)

لا يكون لحنا في نفس الأمر وإن كان كذلك ظاهرا وإثبات الواو في الرسم مروي عن كتاب ابن خالوية
وفي اللوامح أنها حذفت في الدرج لالتقاء الساكنين وحملت الكتابة على ذلك فهي محذوفة فيها أيضا ونظير ذلك يمح الله الباطل وقد جاء حذف الواو لفظا وكتابة والإكتفاء بالضمة الدالة عليها كما في قوله : ولو أن الأطبا كان حولي وكان مع الأطباء الأساة وهو ضرورة عند بعض النحاة والمراد بالمؤمنين قيل إما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من التوحيد والنبوة والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها فقوله تعالى : الذين هم في صلاتهم خاشعون
2
- وما عطف عليه صفات مخصصة لهم وإما الآتون بفروعه أيضا كما بنبيء إضافة الصلاة إليهم فهي صفات موضحة أو مادحة لهم وفي بعض الآثار ما يؤيد كونها مخصصة وجعل الزمخشري الإضافة للإشارة إلى أنهم هم المنتفعون بالصلاة دون المصلى له عز و جل والخشوع التذلل مع خوف وسكون للجوارح ولذا قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير وغيره خاشعون خائفون ساكنون وعن مجاهد أنه هنا غض البصر وخفض الجناح وقال مسلم بن يسار وقتادة : تنكيس الرأس وعن علي كرم الله تعالى وجهه ترك الإلتفات وقال الضحاك : وضع اليمين على الشمال
وعن أبي الدرداء إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجميع الإهتمام ويتبع ذلك ترك الإلتفات وهو من الشيطان فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الإلتفات في الصلاة فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه قال في مرضه : أقعدوني أقعدوني فإن عندي وديعة أودعنيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يلتفت أحدكم في صلاته فإن كان لابد فاعلا ففي غير ما افترض الله تعالى عليه
وترك العبث بثيابه أو شيء من جسده وإنكار منافاته مكابرة وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول لكن بسند ضعيف عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه وترك رفع البصر إلى السماء وإن كان المصلي أعمى وقد جاء النهي عنه فقد أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم وكان قبل نزول الآية غير منهي عنه فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردوية والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت الذين هم في صلاتهم خاشعون فطأطأ رأسه وترك الإختصار وهو وضع اليد على الخاصرة وقد ذكروا أنه مكروه وجاء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم الإختصار في الصلاة راحة أهل النار أي إن فعل اليهود في صلاتهم استراحة وهم أهل النار لا أن لهم فيها راحة كيف وقد قال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ومن أفعالهم أيضا فيها التميل وقد جاء النهي عنه
أخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : رآني أبو بكر رضي الله تعالى عنه أتميل في صلاتي فزجرني كدت أنصرف
(18/3)

عن صلاتي ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة وقال في الكشاف : من الخشوع أن يستعمل الآداب وذكر من ذلك توقي كف الثوب والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقلب الحصى وفي البحر نقلا عن التحرير أنه اختلف في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول ومحله القلب أه والصحيح عندنا خلافه نعم الحق أنه شرط القبول لا الأجزاء
وفي المنهاج وشرحه لابن حجر ويسن الخشوع في كل صلاته بقلبه بأن لا يحضر فيه غير ما هو فيه وإن تعلق بالآخرة وبجوارحه بأن لا يبعث بأحدها وظاهر أن هذا مراد النووي من الخشوع لأنه سيذكر الأول بقوله : ويسن دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب إلا أن يجعل ذلك سببا له ولذا خصه بحالة الدخول
وفي الآية المراد كل منهما كما هو ظاهر أيضا وكان سنة لثناء الله تعالى في كتابه العزيز على فاعليه ولانتفاء ثواب الصلاة بانتفائه كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ولأن لنا وجها اختاره جمع أنه شرط للصحة لكن في البعض فيكره الإسترسال مع حديث النفس والعبث كتسوية ردائه أو عمامته لغير ضرورة من تحصيل سنة أو دفع مضرة وقيل يحرم أه وللإمام في هذا المقام كلام طويل من أراده فليرجع إليه
وتقديم الظرف قيل لرعاية الفواصل وقيل ليقرب ذكر الصلاة من ذكر الإيمان فإنهما إخوان وقد جاء إطلاق الإيمان عليها في قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم وقيل للحصر على المعنى الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال : يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلا خاشعا
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال : أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عري الإسلام عروة عروة الخبر والذين هم عن اللغو وهو ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال وعن ابن عباس تفسيره بالباطل وشاع في الكلام الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كلام قبيح لغوا ويقال فيه كما قال أبو عبيدة لغو ولغا نحو عيب وعاب وأنشد
عن اللغا ورفث التكليم
معرضون
3
- في عامة أوقاتهم لما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه مع ما فيهم من الإشتغال بما يعنيهم وهذا أبلغ من أن يقال : لا يلهون من وجوه وجعل الجملة إسمية دالة على الثبات والدوام وتقديم الضمير المفيد لتقوى الحكم بتكريره والتعبير في المسند بالإسم الدال كما شاع على الثبات وتقديم الظرف على المفيد للحصر وإقامة الأعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون
(18/4)

في عرض أي ناحية غير عرضه والذين هم للزكاة فاعلون
4
- الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري أعني التزكية لأنه الذي يتعلق به فعلهم وأما المعنى الثاني وهو القدر الذي يخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولا لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون أو تضمين فاعلون معنى مؤدون وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تعقب بأنه لا يقال فعلت الزكاة أي أديتها وإذا أريد المعنى الأول ادى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ وهذا أحد الوجوه للعدول عن والذين يزكون إلى ما في النظم الكريم
وجميع ما مر آنفا بيان أبلغية والذين هم عن اللغو معرضون من الذين لا يلهون جار هنا سوى الوجه الخامس اتفاقا والرابع عند بعض لأن المقدم متعلق تعلق الجار والمجرور بما بعده كيف واللام زائدة لتقوية العمل من وجهين تقديم المعمول وكون العامل اسما
وقال بعض آخر : يمكن جريان مثله حيث قدم المعمول مع ضعف عامله لا للتخصيص بل لكونه مصب الفائدة ويجوز اعتبار التخصيص الإضافي أيضا بالنسبة إلى الإنفاق فيما لا يليق ووصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم لم يألوا جهدا بالعبادة والمالية وتوسيط حديث الإعراض بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة وإلا فأكثر ما تذكر هاتان العبادتان في القرآن معا بلا فاصل
وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله تعالى خيرا منه زكاة واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة واللام للعليل والمعنى والذين يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى أو ليزكوا أنفسهم ونقل نحوه الطيبي عن صاحب الكشف فقال : قال صاحب الكشف : معنى الآية الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير ويرشد إلى ذلك قوله تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وقد أفلح من زكاها فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا ينبغي أن يعدل عن تفسير بعضه ببعض ما أمكن وقال بعض الأجلة : إن اقتران ذلك بالصلاة ينادي على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة الذي هو عبادة مالية ونظير ما نحن فيه بالآيتين بعيد لأنهما ليستا من هذا القبيل في شيء وربما يقال : الفصل بينهما يشعر بما اختاره الراغب ومن حذا حذوه وأيضا كون السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة يؤيده لئلا يحتاج إلى التأويل بما مر فتدبر
وأيما كان فالآية في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة وقول بعض زنادقة الأعاجم الذين حرموا ذوق العربية : ألا قيل مؤدون بدل فاعلون من محض الجهل والحماقة التي أعيت من يداويها فإنه لو فلرض أن القرآن وحاشا لله سبحانه كلام النبي صلى الله عليه و سلم فهو عليه الصلاة و السلام الذي مخضت له الفصاحة زبدها وأعطته البلاغة مقودها وكان صلى الله عليه و سلم بين مصاقع نقاد لم يألوا جهدا في طلب طعن ليستريحوا به من طعن الصعاد وقد جاء نظير ذلك في كلام أمية بن أبي الصلت قال : المطعمون الطعام في السنة الأزمة والفاعلون للزكوات ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا أعابوه واختار الزمخشري في هذا حمل الزكاة على العين وتقدير المضاف دون الآية وعلل بجمعها وهو إنما يكون دون المصدر وتعقب بأنه قد جاء كثير من المصادر مجموعة كالظنون والعلوم والحلول والأشغال وغير ذلك وهي إذا اختلف فالأكثرون على جواز جمعها وقد اختلفت ههنا بحسب متعلقاتها فإن إخراج النقد غير إخراج الحيوان وإخراج الحيوان غير إخراج النبات فليحفظ
(18/5)

والذين هم لفروجهم حافظون
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وصف لهم بالعفة وهو وإن استدعاء وصفهم بالإعراض عن اللغو إلا أنه جيء به اعتناء بشأنه ويجوز أن يقال : إن ما تقدم وإن استدعى وصفهم بأصل العفة لكن جيء بهذا لما فيه من الإيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وأنهم حافظون لها عن استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كمال العفة واللام للتقوية كما مر في نظيره و على متعلق بحافظون لتضمينه معنى ممسكون على ما اختاره أبو حيان والإمساك يتعدى بعلى كما في قوله تعالى أمسك عليك زوجك وذهب جمع إلى اعتبار معنى النفي المفهوم من الإمساك ليصح التفريغ فكأنه قيل حافظون فروجهم لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم وقال بعضهم : لا يلزم ذلك لصحة العموم هنا فيصح التفريغ في الإيجاب وفي الكشف الوجه أن يقال : ما في الآية من قبيل حفظت على الصبي ماله إذا ضبطه مقصورا عليه لا يتعداه والأصل حافظون فروجهم على الأزواج لا تتعداهن ثم قيل غير حافظين إلا على الأزواج تأكيدا على تأكيد وعلى هذا تضمين معنى النفي الذي ذكره الزمخشري من السياق واستدعاء الإستثناء المفرغ ذلك ولم يؤخذ مما في الحفظ من معنى المنع والإمساك لأن حرف الإستعلاء يمنعه انتهى وفيه ما فيه
وياليت شعري كيف عد حرف الإستعلاء مانعا عن ذلك مع أن كون الإمساك مما يتعدى به أمر شائع وقال الفراء وتبعه ابن مالك وغيره : إن على هنا بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما أن من بمعنى على في قوله تعالى ونصرناه من القوم أي على القوم وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير حافظون والإستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا حال كوتهم وألين وقوامين على أزواجهم من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ولذا سميت المرأة فراشا أو متعلقة بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه وكلا الوجهين ذكرهما الزمخشري
واعترض بأنهما متكلفان ظاهرا فيهما العجمة وأورد على الأخير أن إثبات اللوم لهم في أثناء المدح غير مناسب مع أنه لا يختص بهم وكون ذلك على فرض عصيانهم وهو مثل قوله تعالى فمن ابتغى الخ لا يدفعه كما توهم لا يجوز أن تتعلق بملومين المذكور بعد لما قال أبو البقاء من أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله والمراد مما ملكت أيمانهم السريات والتخصيص بذلك للإجماع على عدم حل المملوك الذكر والتعبير عنهن بما على القول باختصاصها بغير العقلاء لأنهن يشبهن السلع بيعا وشراء أو لأنهن لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن جاريات مجرى غير العقلاء هذا وظاهر فيما إذا كن من الجركس أو الروم أو نحوهم فكيف إذا كن من الزنج والحبش وسائر السودان فلعمري إنهن حينئذ إن لم يكن من نوع البهائم فما نوع البهائم منهن ببعيد والآية خاصة بالرجال فإن التسري للنساء بالإجماع وعن قتادة قال تسرت امرأة غلاما فذكرت لعمر رضي الله تعالى عنه فسألها ما حملك على هذا فقالت : كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : تأولت كتاب الله تعالى على غير تأويله فقال رضي الله تعالى عنه : لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدأ كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها وأمر العبد
(18/6)

أن لا يقربها ولو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار
وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة : يبقيان على نكاحهما فإنهم غير ملومين
6
- تعليل لما يفيده الإستثناء من عدم حفظ فروجهم من المذكورات أي فإنهم غير ملومين على ترك حفظها منهن
وقيل الفاء في جواب شرط مقدر أي فإن بذلوا فروجهم لأزواجهم أو أمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك والمراد بيان جنس ما يحل وطؤه في الجملة وإلا فقد قالوا : يحرم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر وهذا مجمع عليه
وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف على ما في البحر وذكر الآدمي في الأحكام أن عليا كرم الله تعالى وجهه احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم فمن ابتغى وراء ذلك أي المذكور من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء وانتصاب وراء على أنه مفعول ابتغى أي خلاف ذلك وهو الذي ذهب إليه أبو حيان وقال بعض المحققين : إن وراء ظرف لا يصلح أن يكون مفعولا به وإنما هو ساد مسد المفعول به ولذا قال الزمخشري : أي فمن أحدث ابتغاء ذلك فأولئك هم العادون الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يشير إليه الإشارة التعريف وتوسيط الضمير المفيد لجعلهم جنس العادين أو جميعهم وفي الآية رعاية لفظ من ومعناها ويدخل يما وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم وهذا مما لا خلاف فيه
واختلف في وطء جارية أبيح له وطؤها فقال الجمهور : هو داخل فيما وراء ذلك أيضا فيحرم وهو أول الحسن وابن سيرين وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عنه أنه سئل عن امرأة أحلت جاريتها لزوجها فقال : لا يحل لك أن تطأ فرجا أي غير فرج زوجتك إلا فرجا إن شئت بعت وإن شئت وهبت وإن شئت أعتقت وعن ابن عباس أنه غير داخل فلا يحرم فقد أخرج عبد الرزاق عنه رضي الله تعالى عنه قال : إذا أحلت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها هو قول طاوس أخرج عنه عبد الرزاق أيضا أنه قال : هو أحل من الطعام فإن ولدت فولدها للذي أحلت له وهي لسيدها الأول وأخرج عن عطاء أنه قال : كان يفعل ذلك يحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها وقد بلغني أن الرجل يرسل وليدته لصديقه وإلى هذا ذهبت الشيعة والآية ظاهرة في ده لظهور أن المعارة للجماع ليست بزوجة ولا مملوكة وكذا قوله تعالى فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم فإن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر خصوصا إذا كان المقام مقتضيا الذكر جميع ما لا يجب العدل فيه وفي عدم وجوب العدل تكون العارية أقدم من الكل إذ لا يجب فيها ألا تحمل منة مالك لفرج فقط وكذا قوله سبحانه ومن لم يستطع منكم طولا إن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم إلى قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم فإنه لو جازت العارية لما كان خوف لعنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر على ترك نكاحهن متحققا ونحوه قوله سبحانه وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله فإنه كانت العارية جائزة لم يؤمر الذين لا يجدون نكاحا بالإستعفاف ولعل الرواية السابقة عن ابن عباس غير صحيحة وكذا اختلف في المتعة فذهبت الشيعة أيضا
(18/7)

إلى جوازها ويرد عليهم بما ذكرنا من الآيات الظاهرة في تحريم العارية وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال : هي محرمة في كتاب الله تعالى وتلا : والذين هم لفروجهم حافظون الآية وقرر وجه دلالة الآية على ذلك أن المستمتع بها ليست ملك اليمين ولا زوجة فوجب أن لا تحل له أما أنها ليست ملك اليمين فظاهر وأما أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة لحصل الثوارث لقوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم وتعقبه في الكشف بأن لهم أن يقولوا : إنها زوجة يكشف الموت عن بينونتها قبيله كما أنها تبين بانقضاء الأجل قضاء لحق التعليق والتأجيل وحاصله منع استفسار في الملازمة إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفد وإن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فإن قيل : لا تبين بالموت كالنكاح المؤبد أجيب بأنه قياس في عين ما افترق النكاحان به وهو فاسد بالإجماع
وتعقب هذا الإسلام لخفاء معناه عليه بأنه ليس للترديد معنى محصل ولو قيل : إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة فالملازمة ممنوعة وإن أريد بعد الموت لم يفد لكان له وجه وقال هو في رد الإستلال لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة وأما إن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونه وقال بعضهم : الحق أن الآية دليل على الشيعة فإن ظاهر كلامهم أنها ليست بزوجة أصلا حيث ينفون عنها لوازم الزوجية بالكلية من العدة والطلاق والإيلاء والظهار وحصول الأحصان وإمكان اللعان والنفقة والكسوة والتوارث ويقولون بجواز جمع ما شاء بالمتعة ولا شك أن نفي اللازم دليل في الملزوم وتعقب بأن هذا حق لو سلم أنهم ينفون اللوازم كلها لكنه لا يسلم ونفي بعض اللوازم لا يكفي في الرد عليهم إذا قالوا : إن الزوجية قسمان كاملة وغير كاملة إذ بنفي ذلك البعض إنما ينتفي القسم الأول وهو لا يضرهم وقيل : الذي يقتضيه الإتصاف أن الآية ظاهرة في تحريم المتعة فإن المستمتع بها لا يقال لها زوجة في العرف ولا يقصد منها ما هو السر في مشروعية النكاح من التوالد والتناسل لبقاء النوع بل مجرد قضاء الوطر وتسكين دغدغة المني ونمو ذلك وزعم أن يتم الإستدلال بالآية بهذا الطرز على التحريم سواء نفيت اللوازم أم لم تنف كما هو مذهب بعض القائلين بالحل كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى
ولعل الأقرب إلى الإنصاف أن يقال : متى قيل بنفي اللوازم من حصول الأحصان وحرمة الزيادة على الأربع ونحو ذلك كانت الآية دليلا على الحرمة لأن المتبادر من الزوجية فيها الزوجية التي يلزمها مثل ذلك وهو كاف في الإستدلال على مثل هذا المطلب الفرعي ومتى لم يقل بنفي اللوازم ولم يفرق بينها وبين النكاح المؤبد إلا بالتوقيت وعدمه لم تكن الآية دليلا على التريم هذا ولي ههنا بحث لم أر من تعرض له وهو أنه قد ذكر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم حرم المتعة يوم خيبر وفي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة و السلام حرمها يوم الفتح ووفق ابن الهمام بأنها حرمت مرتين مرة يوم خيبر ومرة يوم الفتح وذلك يقتضي أنها كانت حلالا قبل هذين اليومين وقد سمعت آنفا ما يدل على أن هذه الآية مكية بالإتفاق فإذا كانت دالة على التحريم كما سمعت عن القاسم بن محمد وروي مثله ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها لزم أن تكون محرمة بمكة يوم نزلت الآية وهو قبل هذين اليومين فتكون قد حرمت ثلاث مرات ولم أر أحدا صرح بذلك وإذا التزمناه يبقى شيء آخر وهو عدم تمامية الإستدلال بها وحدها على تحريم المتعة لمن يعلم أنها أحلت بعد نزولها كما لا يخفى لا يقال : إن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة الأول أن المكي ما نزل قبل الهجرة
(18/8)

والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بمكة عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار الثاني أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني الثالث أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة وحينئذ يمكن أن تكون هذه الآية مكية بالإصطلاح الثاني وتكون نازلة يوم الفتح يوم حرمت المتعة في المرة الثانية ولا يكون التحريم إلا مرتين ويكون استدلال من استدلوا بها من الصحابة والتابعين وغيرهم على التحريم وإن علموا أن المتعة أحلت بعد الهجرة في بعض الغزوات مما لا غبار عليه وإذا التزم هذا الإصطلاح في مكية جميع السورة المجمع عليها سمعت عن البحر ينحل أشكال حمل الزكاة على الزكاة الشرعية مع فرضيتها بالمدينة بأن يقال : أن أوائل السورة نزلت بعد فريضة الزكاة في المدينة عام الفتح في مكة لأنا نقول : لا شبهة في أنه يمكن كون الآية مكية بالإصطلاح الثاني وكونها نازلة يوم الفتح وكذلك يمكن كون كل السورة أو أغلبها مكيا بذلك الإصطلاح وكل ما بني على ذلك صحيح بناء عليه إلا أن المتبادر من المكي والمدني المعنى المصطلح عليه أولا لأن الإصطلاح الأول أشهر الإصطلاحات الثلاثة كما قاله الجلال السيوطي في الإتقان
فالظاهر من قولهم : إن هذه السورة مكية أنها نزلت قبل الهجرة بل قد صرح الجلال المذكور بأنها إلا ما استثنى منها مما سمعته مكية على الإصطلاح الأول دون الثاني ولا يجزم مثله بذلك إلا عن وقوف فما ذكر مجرد تجويز أمر لا يساعد على ثبوته صريح نقل بل الصريح مساعد على خلافه وهو المرجع فيما نحن فيه
فقد قال القاضي أبو بكر في الإنتصار : إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين وكونهما قد يعرفان بالقياس على ما ذكره الجعبري وغيره مع عدم جدواه ليس بشيء نعم إذا جعل استدلال الصحابي أو التابعي المطلع على إباحة المتعة بعد الهجرة بها قولا باستثنائها عن أخواتها من آيات السورة وحكما عليها بنزولها بعد الهجرة دونهن فالأمر واضح وستطلع أيضا إن شاء الله تعالى على ما يوجب استثناء غير ذلك وبالجملة متى قيل المدار في أمثال هذه المقامات صريح النقل تعين القول بأن الآية مكية بمعنى أنها نزلت قبل الهجرة وأشكل الإستدلال بها على تحريم المتعة بعد تحليلها بعد الهجرة لكون دليل التحليل مخصصا لعمومها ومذهب الأئمة الأربعة جواز تخصيص عموم القرآن بالسنة مطلقا وهو المختار ويحتاج حينئذ إلى دليل غيرها على التحريم وبعد ثبوت الدليل تكون هي دليلا آخر بمعونته وهذا الدليل الأخبار الصحيحة من تحريم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إياها وقد تقدم بعضها وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة و السلام كنت أذنت لكم في الإستمتاع من النساء وقد حرم الله تعالى ذلك إلى يوم القيامة
وأخرج الحازمي بسنده إلى جابر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يطفن في رحالنا فجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنظر إليهن وقال : من هؤلاء النسوة فقلنا : يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتواعدنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود إليها أبدا وقد روي تحريمها عنه عليه الصلاة و السلام أيضا علي كرم الله تعالى وجهه وجاء ذلك في صحيح مسلم ووقع عل ما قيل إجماع الصحابة على أنها حرام
(18/9)

وصح عند بعض رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى القول بالحرمة بعد قوله بحلها مطلقا أو وقت الإضطرار إليها واستدل ابن الهمام على رجوعه بما رواه الترمذي عنه أنه قال : إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين قال ابن عباس : فكل فرج سواهما فهو حرام ولا أدري ما عني بأول الإسلام فإن عني ما كان في مكة قبل الهجرة أفاد الخبر أنها كانت تفعل قبل إلى أن نزلت الآية فإن كان نزولها قبل الهجرة فلا إشكال في الإستدلال بها على الحرمة لو لم يكن بعد نزولها إباحة لكنه قد كان ذلك وإن عني ما كان بعد الهجرة أوائلها وأنها كانت مباحة إذ ذاك إلى أن نزلت الآية كان ذلك قولا بنزول الآية بعد الهجرة وهو خلاف ما روي عنه من أن السورة مكية المتبادر منه الإصطلاح الأول ولعله يلتزم ذلك ويقال : إن استدلاله بالآية قول باستثنائها كما مر آنفا أو يقال : أن هذا الخبر لم يصح ويؤيدها هذا قول العلامة ابن حجر : أن حكاية الرجوع عن ابن عباس لم تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع أنهم وافقوه في الحل لكن خالفوه فقالوا : لا يترتب على ذلك أحكام النكاح وبهذا نازع الزركشي في حكاية الإجماع فقال : الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه انتهى ويفهم منه أن ابن عباس يدخل المستمتع بها في الأزواج وحينئذ لا تقوم الآية دليلا عليه فتدبر
ونسب القول بجواز المتعة إلى مالك رضي الله تعالى عنه وهو افتراء عليه بل هو كغيره من الأئمة قائل بحرمتها بل قيل إنه زيادة على القول بالحرمة يوجب الحد على المستمتع ولم يوجبه غيره من القائلين بالحرمة لمكان الشبهة
وكذا اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى الخضخضة وجلد عميرة فجمهور الأئمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك وكان أحمد بن حنبل يجيزه لأن المني فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة وقال ابن الهمام : يحرم فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب ومن الناس من منع دخوله فيما ذكر ففي البحر كان قد جرى لي في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي ابن مطيع القشيري بن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بهذه الآية فقلت : إذا خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر به في أشعارها وكان ذلك كثيرا فيهم بحيث كان بغاياهم صاحبات رايات ولم يكونوا ينكرون ذلك وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيهم ولا ذكره أحد منهم في شعر فيما علمناه فليس بمندرح فيما وراء ذلك انتهى وأنت تعلم أنه إذا ثبت أن جلد عميرة كناية عن الإستمناء باليد عند العرب كما هو ظاهر عبارة القاموس فالظاهر إن هذا الفعل كان موجودا فيما بينهم وإن لم يكن كثيرا شائعا كالزنا فمتى كان ذلك من أفراد العام لم يتوقف اندراجه تحته على شيوعه كسائر أفراده وفي الأحكام إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص مثلا فورد خطاب عام بتحريم الطعام نحو حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافا لأبي حنيفة عليه الرحمة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه نعم لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الإستعمال اسم الطعام بذلك الطذعام كما خصصت الدابة بذوات القوائم الأربع لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم
(18/10)

والفرق أن العادة أولا إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص فلا تكون قاضية على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام وثانيا هي مطردة في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فتكون قاضية على الإستعمال الأصلي أه ومنه يعلم أن الإستمناء باليد إن كان قد جرت عادة العرب على إطلاق ما وراء ذلك عليه دخل عند الجمهور وإن لم تجر عادتهم على فعله وإن كان لم تجر عادتهم على إطلاق ذلك عليه وجرت على إطلاقه على ما عداه من الزنا ونحوه لم يدخل ذلك الفعل في العموم عند الجمهور
ومن الناس من استدل على تحريمه بشيء آخر نحو ما ذكره المشايخ من قوله صلى الله عليه و سلم ناكح اليد ملعون وعن سعيد بن جبير عذب الله تعالى أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم وعن عطاء سمعت قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن أنهم الذين يستمنون بأيديهم والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله ولا يخفى أن كل ما يدخل في العموم تفيد الآية حرمة فعله على أبلغ وجه ونظير ذلك إفادة قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا حرمة فعل الزنا فافهم
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
8
- قائمون يحفظها واصطلاحها وأصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ثم استعمل في الحفظ مطلقا والأمانات جمع أمانة وهي في الأصل مصدر لكن أريد بها هنا ما أئتمن عليه إذا لحفظ للعين لا للمعنى وأما جمعها فلا يعين ذلك إذ المصادر قد تجمع كما قدمنا غير بعيد وكذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه لذلك والآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتمنوا وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذر والقعود ونحوها وجمعت الأمانة دون العهد لأنها متنوعة متعددة جدا بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد
وجوز بعض المفسرين كونها خاصة فيما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الناس وليس بذاك ويجوز عندي أن يراد بالأمانات ماائتمنهم الله تعالى عليه من الأعضاء والقوى والمراد برعيها حفظها عن التصرف بها على خلاف أمره عز و جل وأن يراد بالعهد ما عاهدهم الله تعالى عليه مما أمرهم به سبحانه بكتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه و سلم والمراد برعيه حفظه عن الإخلال به وذلك بفعله على أكمل وجه فحفظ الأمانات كالتخلية وحفظ العهد كالتحلية وكأنه جل وعلا بعد أن ذكر حفظهم لفروجهم ذكر حفظهم لما يشملها وغيرها ويجوز أن تعمم الأمانات بحيث تشمل الأموال ونحوها وجمعها لما فيها لمن التعدد المحسوس المشاهد فتأمل
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية لأمانتهم بالإفراد والذين هم على صلواتهم المكتوبة عليهم كما ألآخرج ابن المنذر عن أبي صالح وعبد بن حميد عن عكرمة يحافظون
9
- بتأديتها في أوقاتها بشروطها وإتمام ركوعها وسجودها وسائر أركانها كما روي عن قتادة
وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن الذين هم على صلواتهم دائمون والذين هم على صلواتهم يحافظون قال : ذاك على مواقيتها قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على فعلها وعدم تركها قال : تركها الكفر وقيل : المحافظة عليها المواظبة على فعلها على أكمل وجه وجيء بالفعل دون الأسم كما في سائر رؤس الآي السابقة لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعت في قراءة السبعة ما عدا الأخوين
(18/11)

وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا من الخشوع في جنس الصلاة للمغايرة التامة بين ما هنا وما هناك كما لا يخفى
وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها وتقديم الخشوع للإهتمام به فإن الصلاة بدونه كلا صلاة بالإجماع وقد قالوا : صلاة بلا خشوع جسد بلا روح وقيل : تقديمه لعموم ما هنا له أولئك إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليهم حسا وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة هم الوارثون
10
- أي الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم ممن لم يتصف بتلك الصفات من المؤمنين وقيل : ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها
الذين يرثون الفردوس صفة كاشفة أو عطف بيان أو بدل وإياما كان ففيه بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا والفردوس أعلا الجنان أخرج عبد بن حميد والترمذي وقال : حسن صحيح غريب عن أنس رضي الله تعالى عنه أن الربيع بنت نضير أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان ابنها الحرث بن سراقة أصيب يوم بدر أصابه سهم غرب فقالت : أخبرني عن حارثة فإن كان أصاب الجنة احتسبت وصبرت وإن كان لم يصب الجنة اجتهدت في الدعاء فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنها جنان في جنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وعلى هذا لا إشكال في الحصر على ما أشرنا إليه أولا فإن غير المتصف بما ذكر من الصفات وإن دخل الجنة لا يرث الفردوس التي هي أفضلها وبتقدير أرثه إياها فهو ليس حقيقا بأن يسمى وارثا لما أن ذلك إنما يكون في الأغلب بعد كد ونصب وارثهم إياها من الكفار حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل منزلا في الجنة ومنزلا في النار
(18/12)

أخرج سعيد بن منصور وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من أحد إلا وله منزلا منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون وقيل الإرث استعارة للإستحقاق وفي ذلك من المبالغة ما فيه لأن الإرث أقوى أسباب الملك واختير الأول لأنه تفسير رسول الله عليه الصلاة و السلام على ما صححه القرطبي هم فيها أي في الفردوس وهو على ما ذكره ابن الشحنة مما يؤنث ويذكر
وذكر بعضهم أن التأنيث باعتبار أنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا تقدم لك تمام الكلام في الفردوس
خالدون
11
- لا يخرجون منها أبدا والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها وإما حال مقدرة من فاعل يرثون أو مفعوله كما قال أبو البقاء إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين
12
- لما ذكر سبحانه أولا أحوال السعداء عقبه بذكر مبدئهم ومآل أمرهم في ضمن ما يعمهم غيرهم وفي ذلك إعظام للمنة عليهم وحث على الإتصاف بالصفات الحميدة وتحمل مؤن التكليفات الشديدة أو لما ذكر إرث الفردوس عقبه بذكر البعث لتوقفه عليه أو لما حث على عبادته سبحانه امتثال أمره عقبه بما يدل على الوهيته لتوقف العبادة على ذلك ولعل الأول أولى في وجه مناسبة الآية لما قبلها ويجوز أن يكون مجموع الأمور المذكورة واللام واقعة في جواب القسم والواو للإستئناف
(18/0)

وقال ابن عطية : هي عاطفة جملة كلام على جملة وإن تباينتا في المعاني وفيه نظر والمراد بالإنسان الجنس والسلالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته فهي ماسل من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل فتارة تكون مقصورة منه كالخلاصة وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل
وذكر الزمخشري أن هذا البناء يدل على القلة ومن الأولى ابتدائية متعلقة بالخلق ومن الثانية يحتمل أن تكون كذلك إلا أنها متعلقة بسلالة على أنها بمعنى مسلولة أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة ويحتمل أن تكون على هذا تبعيضية وأن تكون بيانية وجوز أن يكون من طين بدلا أو عطف بيان بإعادةالجار وخلق جنس الإنسان مما ذكر باعتبار خلق أول الإفراد واصل النوع وهو آدم عليه السلام منه فيكون الكل مخلوقا من ذلك خلقا إجماليا في ضمن خلقه كما مر تحقيقه وقيل : خلق الجنس من ذلك باعتبار أنه مبدأ بعيد لأفراد الجنس فإنهم من النطف الحاصلة من الغذاء الذي هو سلالة الطين وصفوته وفيه وصف الجنس بوصف أكثر أفراده لأن خلق آدم عليه السلام لم يكن كذلك أو يقال ترك بيان حاله عليه السلام لأنه معلوم واقتصر على بيان حال أولاده وجاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس وقيل المراد بالطين آدم عليه السلام على أنه من مجاز الكون والمراد بالسلالة النطفة وبالإنسان الجنس ووصفه بما ذكر باعتبار أكثر أفراده أو يقال كما قيل آنفا ولا يخفى خفاء قرينة للمجاز وعدم تبادر النطفة من السلالة وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وروي ذلك عن جماعة وما ذهبنا إليه أولا أولى والضمير في قوله تعالى ثم جعلناه نطفة عائد على الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السلام وإذا أريد بالإنسان أولا آدم عليه السلام فالضمير على ما في البحر عائد على غير مذكور وهو ابن آدم وجاز لوضوح الأمر شهرته وهو كما ترى أو على الإنسان والكلام على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله وقيل يراد بالإنسان أولا آدم عليه السلام وعند عود الضمير عليه ما تناسل منه على سبيل الإستخدام ومن البعيد جدا أن يراد بالإنسان أفراد بني آدم والضمير عائد عليه ويقدر مضاف في أول الكلام أي ولقد خلقنا أصل الإنسان الخ ومثله أن يراد بالإنسان الجنس أو آدم عليه السلام والضمير عائد على سلالة والتذكير بتأويل المسلول أو الماء أي ثم صيرنا السلالة نطفة
والظاهر أن نطفة في سائر الوجوه مفعولا ثانيا للجعل على أنه بمعنى التصيير وهو على الوجه الأخير ظاهر وأما على وجه عود الضمير على الإنسان فلابد من ارتكاب مجاز الأول بأن يراد بالإنسان ما سيصير إنسان ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحد ويكون نطفة منصوبا بنزع الخافض واختاره بعض المحققين أي ثم خلقنا الإنسان من نطفة كائنة في قرار أي مستقر وهو في الأصل مصدر من قر يقر قرارا بمعنى ثبت ثبوتا وأطلق على ذلك مبالغة والمراد به الرحم ووصفه بقوله تعالى مكين
13
- أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر وجوز أن يقال : إن الرحم نفسها متمكنة ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تمج ما فيها فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه ثم خلقنا النطفة علقة أي دما جامدا وذلك بإضافة أعراض الدم عليها
(18/13)

فتصيرها دما بحسب الوصف وهذا من باب الحركة في الكيف فخلقنا العلقة مضغة أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجرا وبالعكس وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الإستعدادية فإن استعداد الماء مثلا للصورة الأولى الفاسدة يأخذ الإنتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الإشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الإستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد فخلقنا المضغة غالبها ومعظمها أو كلها عظاما صغارا وعظاما حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة وهذا أيضا تصيير بحسب الوصف فيكون من الباب الأول
وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الإختلاف بالأعراض كالحمرة والبياض مثلا وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما الإختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالأعراض
والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الإستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر فكسونا العظام المعهودة لحما أي جعلناه ساترا لكل منها كاللباس وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاما بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها ويحتمل أن يكون لحما آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم
وجميع العظام دون غيرها مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع وعدة العظام مطلقا على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظما وهي عدة رحم بالجمل الكبير وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بإفراد العظام في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني
وقرأ السلمي وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني
وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني ثم أنشأناه خلقا آخر مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ومن هنا قيل : وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
(18/14)

وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقا آخر والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوثها بعد حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه وقيل : الخلق الآخر القوى الحساسة وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد : الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له : أليس يولد وعلى رأسه الشعر فقال : فأين العانة والأبط وما أشرنا إليه من كون ثم للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها ويجوز أن نكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبعضها بالفاء ولم يجيء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الإستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الإستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دما أحمر جامدا بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة وكذا تصليب المضغة حتى تصير عظما وكذا مد لحمها عليه ليستره كذا قيل ولا يخلو عن قيل وقال
واستدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى ثم أنشأناه الخ على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرج لأنه خلق آخر قال في الكشف : وفي هذا الإستدلال نظر على أصل مخالفيه لأن مباينته للأول لا تخرجه عن ملكه عندهم وقال صاحب التقريب : إن تضمينه للفرخ لكونه جزءا من المغضوب لا لكونه عينه أو مسمى باسمه وفي هذا بحث وفي المسئلة خلاف كثير وكلام طويل يطلب من كتب الفروع المبسوطة
وقال الإمام : قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام : إن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه تعالى بين فيها أن الإنسان مركب من هذه الأشياء وعلى بطلان قول الفلاسفة : إن الإنسان لا ينقسم وإنه ليس بجسم وكأنهم أرادوا أن الإنسان هو النفس الناطقة والروح الأمرية المجردة فإنها التي ليست بجسم عندهم ولا تقبل الإنقسام بوجه وليست داخل البدن ولا خارجه فتبارك الله فتعالى وتقدس شأنه سبحانه في علمه الشامل وقدرته الباهرة تبارك فعل ماض لا يتصرف والأكثر إسناده إلى غير مؤنث والإلتفات إلى الإسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من آثار قدرته عز و جل أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالا وإعظاما لشؤونه جل وعلا أحسن الخالقين
14
- نعت للإسم الجليل وإضافة أفعل التفضيل محضة فتفيده تعريفا إذا أضيف إلى معرفة على الأصح
وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون نعتا لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض عن من وهكذا جميع باب أفعل منك وجعله بدلا وهو يقل في المشتقات أو خبر مبتدأ مقدر أي هو أحسن الخالقين والأصل عدم التقدير وتميز أفعل محذوف لدلالة الخالقين عليه أي أحسن الخالقين خلقا فالحسن للخلق قيل : نظيره قوله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى جميل يحب الجمال أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستتر والخلق بمعنى التقدير وهو وصف يطلق على غيره تعالى كما في قوله تعالى وإذ
(18/15)

نخلق من الطين كهيئة الطير وقول زهير : ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية ولا يصح تفسيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجد لها استقلالا فالخالق الموجد متعدد عندهم وقد تكلفت الكتب الكلامية بردهم
ومعنى حسن خلقه تعالى اتقانه وإحكامه ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز و جل شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلا من حيث أنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى
روي أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأملى عليه صلى الله عليه و سلم قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان حتى إذا بلغ عليه الصلاة و السلام ثم أنشأناه خلقا آخر نطق عبد الله بقوله تعالى فتبارك الله الخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة و السلام : هكذا نزلت فقال عبد الله : إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة كافرا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة و السلام وحسن إسلامه وقيل : مات كافرا وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده كما تقتضيه الرواية وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلى الله عليه و سلم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر وقوله : إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى حتى أخذنا مترفيهم إلى قوله سبحانه مبلسون قصورا فتذكر وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل أخرج ابن راهوية وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردوية عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : أملي علي رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى قوله تعالى خلقا آخر فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه فتبارك الله أحسن الخالقين فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله قال : بها ختمت ورويت أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه أخرج الطبراني وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه : فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت كما قال وأخرج ابن عساكر وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز و جل ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل : قصائد إن تكن تتلى على ملإ صدورها علمت منها قوافيها لا يقال : فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدرا أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ثم إنكم بعد ذلك أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبيء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال
(18/16)

وكونه بذلك ممتازا منزلا منزلة الأمور الحسية لميتون
15
- أي لصائرون إلى الموت لا محالة كما يؤذن به إسمية الجملة وإن واللام وصيغة النعت الذي هو للثبوت وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة وابن محيصن لمايتون هو اسم فاعل يراد به الحدوث قال الفراء وابن مالك : إنما يقال مايت في الإستقبال فقط
ثم إنكم يوم القيامة عند النفخة الثانية تبعثون
16
- من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأه خلقا آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكته وعظيم قدرته عز و جل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسيا منسيا مستقرا في رحم العدم كأن لم يكن شيئا ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه بالغ سبحانه عز و جل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لم أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه وقيل في ذلك : إنه تعالى لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصحح تكلفه بنحو تلم التكليفات وهو كونه حيا عاقلا سميعا بصيرا وكان ذلك مستدعيا لذكر طور يقع فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله ثم إنكم يوم القيامة تبعثون فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلابد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل : أيها المخلوق العجيب الشأن إن ما هيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لإثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها ومنه يعلم سر الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى وفيه من البعد ما فيه
وقيل : إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها قال الطيبي : هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق وربما يقال : إن شدة كرهة الموت التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه وأما البعث فمن حيث أنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث أنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدا واحدا وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذ كان وجيها في نفسه وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت مراتب وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة ولقد خلقنا فوقكم
(18/17)

أن لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم وقيل : استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم سبع طرائق هي السماوات السبع و طرائق جمع طريق بمعتى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل والفراء والزجاج فهذا كقوله تعالى طباقا ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب وقيل : جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السماوات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهم السلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرتها
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها وقيل : سمعت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة نعم أودع الله تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك وما كنا على الخلق أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السماوات السبع غافلين
17
- مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة ويجوز أن يراد بالخلق الناس والمعنى أن السماوات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم و وأل على الوجهين للإستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السماوات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والإختلال وندبر أمرها والإظهار في مقام الإضمار للإعتناء بشأنها وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد
وأنزلنا من السماء ماء هو المطر عند كثير من المفسرين والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز الله تعالى وكان الظاهر على هذا منها بدل السماء ليعود الضمير على الطرائق إلا أنه عدل عنه إلى الإضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر في كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للإعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله تعالى : بقدر صفة ماء أي أنزلنا ماء متلبسا بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم وجوز على هذا أن يكون في موضع الحال من الضمير وقيل : هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالا متلبسا بذلك وقيل : في الجار والمجرور غير ذلك فأسكناه في الأرض أي جعلناه ثابتا قارا فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلا فيه من حيث الفاعلية
وقال ابن سينا في نجاته : هذه الأبخرة المحتبسة في الأرض إذا انبعثت عيونا أمدت البحار بصب الأنهار إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائما وما في الآية يؤيد ما ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر : إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص
(18/18)

بنقصانها وإن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك في باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التحربة انتهى واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلا واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الإستحالة سببا تاما وأما على أنها لا مدخل لها أصلا فلا والحق ما يشهد له كتاب الله تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقامات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين وقيل : المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول الله تعالى : وإنا على ذهاب به لقادرون فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة ولا يخفى على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف نعم حديث أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهر الهند وبلخ كما كما سمعت على ما قاله عبد البر والفرات والنيل صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعمم ماء المطر وماء البحر وقال ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء وأنت تعلم أن الأوفق بالأخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر
وإنا على ذهاب به أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك لقادرون
18
- كما كنا قادرين على إنزاله فالجملة في موضع الحال وفي تنكير ذهاب إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين
وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجها للأبلغية الأول أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع الثاني التوكيد بأن الثالث اللام في الخبر الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم الخامس أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب السادس ما في تنكير ذهاب من المبالغة السابع إسناده ههنا إلى مذهب بخلافه ثمت حيث قيل غورا الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة التاسع ما في قادرون من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ العاشر ما في جمعه الحادي عشر ما في لفظ به من الدلالة على أن ما يمسكه
(18/19)

فلا مرسل له الثاني عشر أخلاؤه من التعقيب بأطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي الرابع عشر ما بين الجملتين الإسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره الخامس عشر ما في لفظ أصبح من الدلالة على الإنتقال والصيرورة السادس عشر أن الذهاب ههنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الإستفهام السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه ههنا الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مكؤكدا ثم قال : هذا ما يحضرنا الآن والله تعالى أعلم أه وفي النفس من عد الأخير وجها شيء
وقد يزاد على ذلك فيقال : التاسع عشر إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة و السلام أن يقول ذلك العشرون عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين وقد زاد بعض أجلة أهل العصر العاصرين سلاف التحقيق من كرم إذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملا محمد أفندي الزهاوي فقال : الثالث والعشرون تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالأبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في إن أصبح فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل السادس والعشرون أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الأصباح غورا إلى الماء ومعلوم إن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في باديء النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان إن وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الإستقبال أهون الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الإمتنان بأنه إن أصبح ماؤكم غورا فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى ويؤيده ما سن بعده من قول الله ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل والله تعالى الهادي لأسرار كتابه
واختيرت المبالغة ههنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفص على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتديء بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما ثمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك فأنشأنا لكم به أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف وقال الخلف : المراد أنشأنا عنده جنات من نخيل وأعناب قدمهما لكثرتهما وكثرة الإنتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة لكم فيها أي في الجنات فواكه كثيرة
(18/20)

تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب
ومنها أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول تأكلون
19
- والمراد بالأكل معناه الحقيقي
وجوز أن يكون مجازا أو كناية عن التعيش مطلقا أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي ولكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتهما جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما
وذكر الراغب في الفاكهة قولين : الأول أنها الثمار كلها والثاني أنها ما عدا العنب والرمان وصاحب القاموس اختار الأول وقال : قول مخرج التمر والرمان منها مستدلا بقوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان باطل مردود وقد بينت ذلك مبسوسا في اللامع المعلم العجاب أه وأنت تعلم أن للفقهاء خلافا في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثري ونحوها لا العنب والرطب وقال صاحباه : المستثنيات أيضا فاكهة وعليه الفتوى ولا خلاف كما في القهستاني نقلا عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة
وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما بعد فاكهة عرفا ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي ولا يخفى أن شيئا واحدا يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه أه ثم إني لم أر أحدا من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل وشجرة بالنصب عطف على جنات وقريء بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف والأولى تقديره مقدما أي أنشأنا لكم شجرة تخرج من طور سيناء وهو جبل موسى عليه السلام الذي ناجى ربه سبحانه عنده وهو بين مصر وإيلة ويقال لها اليوم العقبة وقيل بفلسطين من أرض الشام ويقال له طور سينين وجمهور العرب على فتح سين سيناء والمد وبذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويعقوب وأكثر السبعة وهو اسم للبقعة والطور اسم للجبل المخصوص أو لكل جبل وهو مضاف إلى سيناء كما أجمعوا عليه ويقصد تنكيره على الأول كما في سائر الأعلام إذا أضيفت وعلى اللثاني يكون طور سيناء كمنارة المسجد
وجوز أن يكون كامريء القيس بمعنى أنه جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما على ذلك العلم وقيل سيناء اسم لحجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده وروي هذا عن مجاهد وفي الصحاح طور سيناء جبل بالشام وهو طور أضيف إلى سيناء وهو شجر وقيل هو اسم الجبل والإضافة من إضافة العام إلى الخاص كما في جبل أحد
وحكى القول في البحر عن الجمهور لكن صحح القول بأنه اسم البقعة وهو ممنوع من الصرف للألف
(18/21)

الممدودة فوزنه فعلاء كصحراء وقيل : منع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل : للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ووزنه فيعال لا فعلال إذ لا يوجد هذا الوزن في غير المضاعف في كلام العرب إلا نادرا كخزعال لظلع الإبل حكاه الفراء ولم يثبته أبو البقاء والأكثرون على أنه ليس بعربي بل هو إما نبطي أو حبشي وأصل معناه الحسن أو المبارك وجوز بعض أن يكون عربيا من النساء بالمد وهو الرفعة أو السنا بالقصر وهو النور
وتعقبه أبو حيان بأن المادتين مختلفتان لأن عين النساء أو السنا نون وعين سيناء ياء ورد بأن القائل بذلك يقول إنه يقول إنه فيعال ويجعل عينه النون وياءه مزيدة وهمزته منقلبة عن واو وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن سيناء بكسر السين والمد وهي لغة لبني كنانة وهو أيضا ممنوع من الصرف للألف الممدودة عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث وعند البصريين ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق بفعلال كعلباء وحرباء وهو ملحق بقرطاس وسرداح وهمزته منقلبة عن واو أو ياء لأن الإلحاق يكون بهما وقال أبو البقاء : همزة سيناء بالكسر أصل مثل حملاق وليست للتأنيث إذ ليس في الكلام مثل حمراء والياء أصل إذ ليس في الكلام سناء وجوز بعضهم أن يكون فيعالا كديماس وقرأ الأعمش سينا بالفتح والقصر وقريء سينا بالكسر والقصر للتأنيث أن لم يكن أعجميا والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصها بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة وقد قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وتعمر كثيرا ففي التذكرة أنها تدوم ألف عام ولا تبعد صحته لكن علله بقوله : لتعلقها بالكوكب العالي وهو بعيد الصحة وفي تفسير الخازن قيل تبقى ثلاثة آلاف سنة وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضا وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضا على ميلها بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحا لها باعتبار مكانها
وقوله تعالى : تنبت بالدهن مدحا لها باعتبار ما هي عليه في نفسها والباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك : جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل مافيه دسم والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها فإنه الملابس له في الحقيقة
وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك : ذهبت بزيد كأنه قيل : تنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتحصله ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الإستعمال
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري تنبت بضم التاء المثناة من فوق وكسر الباء على أنه من باب الأفعال وخرج ذلك على أنه من أنبت بمعنى نبت فالهمزة فيه ليست للتعدية وقد جاء كذلك في قول زهير : رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل وأنكر ذلك الأصمعي وقال : إن الرواية في البيت نبت بدون همزة مع أنه يحتمل أن تكون همزة أنبت فيه إن كانت للتعدية بتقدير مفعول أي أنبت البقل ثمره أو ما يأكلون ومنهم من خرج ما في الآية على ذلك وقال : التقدير تنبت زيتونها بالدهن والجار والمجرور على هذا في موضع الحال من المفعول أو من الضمير
(18/22)

المستتر في الفعل وقيل : الباء زائدة كما في قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية قال الخفاجي : ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان
وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز تنبت بضم أوله وفتح ما قبل آخره مبنيا للمفعول والجار والمجرور في موضع الحال وقرأ زر بن حبيش تنبت من الأفعال الدهن بالنصب وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان جمع دهن كرماح جمع رمح وما رووا من قراءة عبد الله تخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير على ما في البحر لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور
وصبغ للآكلين
20
- معطوف على الدهن ومغايرته له التي يقتضيها العطف باعتبار المفهوم وإلا فذاتهما واحدة عند كثير من المفسرين مما وقد جاء كثيرا تنزيل تغاير المفهومين منزلة تغاير الذاتين ومنه قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم والمعنى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهن يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي يغمس للإئتدام قال في المغرب يقال : صبغ الثوب بصبغ حسن وصباغ ومنه الصبغ والصباغ من الآدام لأن الخبز يغمس فيه ويلون به كالخل والزيت وظاهر هذا اختصاصه بكل أدام مائع وبه صرح في المصباح وصرح بعضهم بأن إطلاق الصبغ على ذلك مجاز ولعل في كلام المغرب نوع إشارة إليه وروي عن مقاتل أنه قال : الدهن الزيت والصبغ الزيتون وعلى هذا يكون العطف من عطف المتغايرين ذاتا وهو الأكثر في العطف ولا بد أن يقال عليه : إن الصبغ الآدام مطلقا وهو ما يؤكل تبعا للخبز في الغالب مائعا كان أم جامدا والزيتون أكثر ما يأكله الفقراء في بلادنا تبعا للخبز والأغنياء يأكلونه تبعا لنحو الإرز وقلما يأكلونه تبعا للخبز وأنا مشغوف به مذ أنا يافع فكثيرا ما آكله تبعا واستقلالا وأما الزيت فلم أر في أهل بغداد من اصطبغ منه وشذ من أكل منهم طعاما هو فيه وأكثرهم يعجب ممن يأكله ومنشأ ذلك قلة وجوده عندهم وعدم الفهم له فتعافه نفوسهم وقد كنت قديما تعافه نفسي وتدريجا ألفته والحمد لله تعالى فقد كان صلى الله عليه و سلم يأكله وصح أنه صلى الله عليه و سلم طبخ له لسان شاة بزيت فأكل منه وأخرج أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كلوا الزيت وأدهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام وأخرج الترمذي في الأطعمة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا كلوا الزيت وأدهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة لكن قال بعضهم : هذا الأمر لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه وهو كذلك فلا اعتراض على من لم يوافق مزاجه في عدم استعماله بل الظاهر حرمة استعماله عليه إن أضربه كما قالوا بحرمة استعمال الصفراوي للعسل ولا فرق في ذلك بين الأكل والإدهان فإن الإدهان به قد يضر كالأكل قال ابن القيم : الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لأهلها وأما في البلاد الباردة فضار وكثرة دهن الرأس بالزيت فيها فيه خطر على البصر انتهى
وقرأ عامر بن عبد الله وصباغا وهو بمعنى صبغ كما مرت إليه الإشارة ومنه دبغ ودباغ ونصبه بالعطف على موضع بالدهن وفي تفسير ابن عطية وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا للآكلين وهو محمول على التفسير
وإن لكم في الأنعام لعبرة بيان للنعم الواصلة إليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الفائضة من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لا بد من أن
(18/23)

يعتبرون بها ويستدلوا بأحوالها على عظيم قدرة الله عز و جل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر
وقوله تعالى : نسقيكم مما في بطونها تفصيل لما فيها من مواقع العبرة وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها وأيا ما كان فضمير بطونها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على الإستخدام لأن عموم ما بعده يأباه وقريء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام
ولكم فيها منافع كثيرة غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها ومنها تأكلون
21
- الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام ما لا يؤكل وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوهما أو الحصر باعتبار ما في تأكلون من الدلالة على العادة المستمرة وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعشيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم
وعليها وعلى الفلك تحملون
22
- في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم وضمير عليها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضا ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الإستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحه :
سفينة بر تحت خدي زمانها
وهذا مما لا بأس به وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الإبل فلا يناسب مقام الإمتنان ولا سياق الكلام وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل قيل : وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والإعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش
وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه وفي إيرادها إثر قوله تعالى وعليها وعلى الفلك تحملون من حسن الموقع ما لا يوصف وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الإعتناء بمضمونها والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين فقال متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق يا قوم اعبدوا الله أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة هود ألا تعبدوا إلا الله وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست في شيء رأسا وقوله تعالى مالكم من إله غيره استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها و غيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل بلكم أو مبتدأ خبره لكم أو محذوف و لكم للتخصيص والتبيين أي مالكم في الوجود إله غيره تعالى وقريء غيره بالجر اعتبار للفظ إله أفلا تتقون
23
- الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى مالكم من إله
(18/24)

غيره فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده وإشراككم به عز و جل في العبادة ما لا يستحق الوجود لو لا إيجاد الله تعالى إياه فضلا عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الإتقاء مع تحقق ما يوجبه ويجوز أن يكون التقدير ألا تلاحظون فلا تتقون فالمنكر كلا الأمرين فالمبالغة حينئذ في الكمية وفي الأول في الكيفية وتقدير مفعول تتقون حسبما أشرنا إليه أولى من تقدير بعضهم إياه زوال النعم ولا نسلم أن المقام يقتضيه كما لا يخفى فقال الملوأ أي الأشراف الذين كفروا من قومه وصف الملأ بالكفر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التمييز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام إذ لم يؤمن به أحد من أشرافهم كما يفصح عنه قول : ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وقال الخفاجي : يصح أن يكون الوصف بذلك للتمييز وإن لم يؤمن بعض أشرافهم وقت التكلم بهذا الكلام لأن من أهله عليه السلام المتبعين له أشرافا وأما قول ما نراك الخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف وأياما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم ما هذا إلا بشر مثلكم أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة ووصفوه بقوله سبحانه يريد أن يتفضل عليكم إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراء لهم على معاداته والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل : يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم وقيل : صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل : يريد كمال الفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي ولو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلا من الملائكة وإنما قيل لأنزل لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى ولو شاء الله لهداكم ولا بأس في ذلك وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمرا غريبا وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقا فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن وعلى هذا يجوز أن يقال : التقدير ولو شاء الله تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عز و جل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه السلام لهم اعبدوا الله وكذا قوله تعالى ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين
24
- بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضا وذلك بناء على أن هذا إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز و جل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول وقيل : الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد وأياما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مباديء دعوته عليه السلام كما ينبيء عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى فقال الملأ الخ
وقيل : هذا إشارة إلى نوح عليه السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته وقيل : إلى اسمه وهو لفظ نوح
(18/25)

والمعنى لو كان نبيا لكان له ذكر في آبائنا الأولين وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة و السلام وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل : بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر وعليهما أيضا يكون قولهم إن هو أي ما هو إلا رجل به جنة أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول فتربصوا به فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا حتى حين
25
- لعله يفيق مما هو فيه محمولا على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون قال استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل فقيل : قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن رب انصرني بإهلاكهم بالمرة بناء على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا الخ والباء في قوله تعالى بما كذبون
26
- للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وحاصله انصرني بإنجاز ذلك ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام وقرأ أبو جعفر وابن محيصن رب بضم الباء ولا يخفى وجهه فأوحينا إليه عقيب ذلك وقيل : بسبب ذلك أن أصنع الملك إن مفسرة لما في الوحي من معنى القول بأعيننا ملتبسا بمزيد حفظنا ورعايتنا من التعدي أو من الزيغ في الصنع ووحينا وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها والفاء في قوله تعالى فإذا جاء أمرنا لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر الله فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل والمراد بمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا وقوله سبحانه وفار التنور بيان وتفسير لمجيء الأمر وروي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم وقيل : كان في عين وردة من الشام وقيل : بالجزيرة قريبا من الموصل وقيل : التنور وجه الأرض وقيل : فار التنور مثل كحمى الوطيس وعلي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر فار التنور بطلع الفجر فقيل : معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك
فاسلك فيها أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه ومنه قوله تعالى ما سلككم في سقر من كل أي من كل أمة زوجين أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى
(18/26)

اثنين فإنه ظاهر في الفردين دون الجملتين
وقرأ أكثر القراء من كل زوجين بالإضافة على أن المفعول اثنين أي اسلك من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين كجمل وناقة وحصان ورمكة وروي أنه عليه السلام لم يحمل في الفلك من ذلك إلا ما يلد ويبيض وأما ما يتولد من العفونات كالبق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منه ولعل نحو البغال ملحقة في عدم الحمل بهذا الجنس لأنه يحصل بالتوالد من نوعين فالحمل منهما مغن عن الحمل منه إذا كان الحمل لئلا ينقطع النوع كما هو الظاهر فيحتاج إلى خلق جديد كما خلق في ابتداء الأمر والآية صريحة في أن الأمر بالإدخال كان قبل صنعه الفلك وفي سورة هود حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين فالوجه أن يحمل على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكى على صورة التنجيز وأهلك قيل عطف على اثنين على قراءة الإضافة وعلى زوجين على قراءة التنوين ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على فاسلك أي واسلك أهلك والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والصلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضا وعلى هذا يكون قوله تعالى إلا من سبق عليه القول منهم استثناء منقطعا واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذ يكون الإستثناء متصلا كما كان هناك وعدم ذكر من آمن للإكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الإستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الإستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم والمراد بالقول القول بالإهلاك والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا وجيء بعلي لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى لكون السابق نافعا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه إنهم مغرقون
27
- تعليل للنهي أو لما ينبيء عنه عدم قبول الشفاعة لهم أي أنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبيء ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به قوله تعالى فإذا استويت أنت ومن معك من أهلك وأتباعك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين
28
- فإن الحمد على الإنجاء منهم متضمن للحمد على إهلاكهم وإنما قيل ما ذكر ولم يقل فقل الحمد لله الذي أهلك القوم الظالمين لأن نعمة الإنجاء أتم وقال الخفاجي : إن في ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة
(18/27)

أحد ولو عدوا من حيث كونها مصيبة له بل لما تضمنته من السلامة من ضرورة أو تطهير الأرض من وسخ شركه وإضلاله
وأنت تعلم أن الحمد هنا رديف الشكر فإذا خص بالنعمة الواصلة إلى الشاكر لا يصح أن يتعلق بالمصيبة من حيث أنها مصيبة وهو ظاهر وفي أمره عليه السلام بالحمد على نجاة أتباعه إشارة إلى أنه نعمة عليه أيضا
وقل رب أنزلني في الفلك منزلا أي إنزالا أو موضع إنزال مباركا يتسبب لمزيد الخير في الدارين وأنت خير المنزلين
29
- أي من يطلق عليه ذلك والدعاء بذلك إذا كان بعد الدخول فالمراد إدامة ذلك الإنزال ولعل المقصود إدامة البركة وجوز أن يكون دعاء بالتوفيق للنزول في أبرك منازلها لأنها واسعة وإن كان قبل الدخول فالأمر واضح وروي جماعة عن مجاهد أن هذا دعاء أمر نوح عليه السلام أن يقوله عند النزول من السفينة فالمعنى رب أنزلني منها في الأرض منزلا الخ وأخذ منه قتادة ندب أن يقول راكب السفينة عند النزول منها رب أنزلني الخ واستظهر بعضهم الأول إذ العطف ظاهر في أن القولين وقت الإستواء وأعاد قل لتعدد الدعاء والأول متضمن دفع مضرة ولذا قدم وهذا لجلب منفعة
وأمره عليه السلام أن يشفع دعاءه ما يطابقه من ثنائه عز و جل توسلا به إلى الإجابة فإن الثناء على المحسن يكون مستدعيا لإحسانه وقد قالوا : الثناء على الكريم يغني عن سؤاله وإفراده عليه السلام بالأمر مع شركة الكل في الإستواء لإظهار فضله عليه السلام وأنه لا يليق غيره منهم للقرب من الله تعالى والفوز بعز الحضور في مقام الإحسان مع الإيماء إلى كبريائه عز و جل وأنه سبحانه لا يخاطب كل أحد من عباده والإشعار بأن في دعائه عليه السلام وثنائه مندوحة عما عداه
وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان منزلا بفتح الميم وفتح الزاي أي مكان نزول وقرأ أبو بكر عن عاصر منزلا بفتح الميم وكسر الزاي قال أبو علي : يحتمل أن يكون المنزل على هذه القراءة مصدرا وأن يكون موضع نزول إن في ذلك الذي ذكر مما فعل عليه السلام وبقومه لآيات جليلة يستدل بها أولوا الأبصار ويعتبر ذوو الأعتبار وإن كنا لمبتلين
30
- إن مخففة من أن واللام فارقة بينها وبين إن النافية وليست إن نافية واللام بمعنى إلا والجملة حالية أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر والمراد معاملين معاملة المختبر وهذا كقوله تعالى : ولقد تركناها آية فهل مدكر ثم أنشأنا من بعدهم أي من بعد إهلاك قوم نوح عليه السلام قرنا آخرين
31
- هم عاد أو ثمود فأرسلنا فيهم رسولا منهم هو هود أو صالح عليهما السلام والأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه ذهب أكثر المفسرين وأيد بقوله تعالى حكاية عن هود واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وبمجيء قصة عاد بعد قصة قوم نوح في سورة الأعراف وسورة هود وغيرهما واختار أبو سليمان الدمشقي والطبري الثاني واستدلا عليه بذكر الصيحة آخر القصة والمعروف أن قوم صالح هم المهلكون بها دون قوم هود وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى وجعل القرن ظرفا للإرسال كما في قوله تعالى كذلك أرسلناك
(18/28)

في أمة لا غاية له كما في قوله تعالى لقد أرسلنا نوحا إلى قومه للإيذان من أول الأمر أن من أرسل إليهم لم يأتيهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما أظهرهم أن في قوله تعالى أن اعبدوا الله مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله وجوز كونها مصدرية ولا مانع من وصلها بفعل الأمر وقبلها جار مقدر أي أرسلنا فيهم رسولا بأن اعبدوا الله وحده مالكم من إله غيره أفلا تتقون
32
- الكلام فيه كالكلام في نظيره المار في قصة نوح عليه السلام وقال الملأ أي الأشراف من قومه بيان لهم وقوله تعالى الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بالمعاد أو بالحياة الثانية صفة للملأ جيء بها ذما لهم وتنبيها على غلوهم في الكفر ويجوز أن تكون للتمييز إن كان في ذلك القرن من آمن من الأشراف وتقديم من قومه هنا على الصفة مع تأخيره في القصة السابقة لئلا يطول الفصل بين البيان والمبين لو جيء به بعد الصفة وما في حيزها مما تعلق بالصلة مع ما في ذلك من توهم تعلقه بالدنيا أو يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لو جيء به بعد الوصف وقبل العطف كذا قيل
وتعقب بأنه لا حاجة إلى ارتكاب جعل الذين صفة للملأ وإبداء نكتة للتقديم المذكور مع ظهور جواز جعله صفة لقومه ورد بأن الداعي لارتكاب عطف قوله تعالى وأترفناهم في الحياة الدنيا أي نعمناهم ووسعنا عليهم فيها على الصلة فيكون صفة معنى للموصوف بالموصول والمتعارف وإنما هو وصف الأشراف بالمترفين دون غيرهم وكذا الحال إذا لم يعطف وجعل حالا من ضمير كذبوا وأنت تعلم أنا لا نسلم أن المتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين ولئن سلمنا فوصفهم بذلك قد يبقى مع جعل الموصوف صفة لقومه بأن يجعل جملة أترفناهم حالا من الملأ بدون تقدير قد أو بتقديرها أي قال الملأ في حق رسولنا ما هذا إلا بشر مثلكم الخ في حال إحساننا عليهم
نعم الظاهر لفظا عطف جملة أترفناهم على جملة الصلة والأبلغ جعلها حالا من الضمير لإفادته الإساءة إلى من أحسن وهو أقوى في الذم وجيء بالواو العاطفة في وقال الملأ هنا ولم يجأ بها بل جيء بالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقالة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الإستئناف وأما هنالك فيحف الإستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في الكشف ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه : لم حكى هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقاتلين ولم يعكس ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال : إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضا وأنا لم يظهر لي السر في ذلك وأما الإتيان بالواو هنا والفاء في فقال الملأ في قصة نوح عليه السلام فقد قيل : لعله لأن كلام الملأ هنا لم يتصل بكلام رسولهم بخلاف كلام قوم نوح عليه السلام والله تعالى أعلم بحقائق الأمور
ولا يخفى ما في قولهم ما هذا الخ من المبالغة في توهين أمر الرسول عليه السلام وتهوينه قاتلهم الله
(18/29)

ما أجهلهم وقوله تعالى يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون
33
- تقرير للمماثلة والظاهر أن ما الثانية موصولة والعائد إليها ضمير وجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه والحذف هنا مثله في قوله : مررت بالذي مررت في استيفاء الشرائط وحسنه هنا كون تشربون فاصلة
وفي التحرير زعم الفراء حذف العائد المجرور مع الجار في هذه الآية وهذا لا يجوز عند البصريين والآية إما لا حذف فيها أو فيها حذف المفعول فقط لأن ما إذا كانت مصدرية لم تحتج إلى عائد وإن كانت موصولة فالعائد المحذوف ضمير منصوب على المفعولية متصل بالفعل والتقدير مما تشربونه أه وهذا تخريج على قاعدة البصريين ويفوت عليه فصاحة معادلة التركيب على أن الوجه الأول محوج إلى تأويل المصدر باسم المفعول وبعد ذلك يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى ويحتاج إلى ذلك التكلف على الوجه الثاني أيضا إذ لا يشرب أحد من مشروبهم ولا من الذي يشربونه وإنما يشرب من فرد آخر من الجنس فلا بد من إرادة الجنس على الوجهين
ولئن أطعتم بشرا مثلكم فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامره إنكم إذا لخاسرن
34
- عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم واللام موطئة للقسم وجملة إنكم لخاسرون جواب القسم و إذا فيما أميل إليه ظرفية متعلقة بما تدل عليه النسبة بين المبتدأ والخبر من الثبوت أو بالخبر واللام لا تمنع عن العمل في مثل ذلك وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور
قال أبو حيان : ولو كان هذا هو الجواب للزمت الفاء فيه بأن يقال : فإنكم الخ بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن الكريم لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ أه
وذكر بعضهم أن إذا هنا للجزاء والجواب وتكلف لذلك ولا يدعو إليه سوى ظن وجوب اتباع المشهور وأن الحق في امتثال هذه المقامات منحصر فيما عليه الجمهور وفي همع الهوامع وكذا في الإتقان للجلال السيوطي في هذا البحث ما ينفعك مراجعته فراجعه أيعدكم استئناف لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم للإيمان به واستبعاده وقوله تعالى إنكم على تقدير حرف الجر أي بأنكم ويجوز أن لا يقدر نحو وعدتك الخير إذا متم بكسر الميم من مات يمات وقريء بضمها من مات يموت وكنتم ترابا وعظاما أي وكان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابا وبعضها عظاما نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب وتقديم التراب لعراقته في الإستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو وكان متقدموكم ترابا صرفا ومتأخروكم عظاما وقوله تعالى أنكم تأكيد لأنكم الأول ولطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى مخرجون
35
- وإذا ظرف متعلق به أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا
واختار هذا الإعراب الفراء والجرمي والمبرد ولا يلزم من ذلك كون الإخراج وقت الموت كما لا يخفى خلافا لما توهمه أبو نزار الملقب بملك النحاة ورده السخاوي ونقله عنه الجلال السيوطي في الأشباه والمنقول عن سيبويه أن أنكم بدل من أنكم الأول وفيه معنى التأكيد وخبر أن الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه أي أيعدكم أنكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إداء ولا يجوز أن يكون
(18/30)

هو الخبر لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة وإذا أول بحذف المضاف أي إن إخراجكم إذا متم جاز وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر أن الأولى
وذهب الأخفش إلى أن أنكم مخرجون مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبر أنكم الأول ويكون جواب إذا ذلك الفعل المحذوف ويجوز أن يكون ذلك الفعل هو خبر أن ويكون عاملا في إذا وبعضهم يحكى عن الأخفش أنه يجعل أنكم مخرجون فاعلا بإذا كما يجعل الخروج في قولك : يوم الجمعة الخروج فاعلا بيوم على معنى يستقر الخروج يوم الجمعة
وجوز بعضهم أن يكون أنكم مخرجون مبتدأ و إذا متم خبرا على معنى إخراجكم إذا متم وتجعل الجملة خبر أن الأولى قال في البحر : وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه ونسبه السخاوي في سفر السعادة إلى المبرد والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم ما ذكرناه عن الفراء ومن معه وفي قراءة عبد الله أيعدكم إذا متم بإسقاط أنكم الأولى هيهات اسم لبعد وهو في الأصل اسم صوت وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو الصحة أو الوقوع أو نحو ذلك مما يفهمه السياق فكأنه قيل بعد التصديق أو الصحة أو الوقوع وقوله تعالى هيهات تكرير لتأكيد البعد والغالب في هذه الكلمة مجيئها مكررة وجاءت غير مكررة في قول جرير :
وهيهات خل بالعتيق نواصله
وقوله سبحانه لما توعدون
36
- بيان لمرجع ذلك الضمير فاللام متعلقة بمقدر كما في سقيا له أي التصديق أو الوقوع المتصف بالبعد كائن لما توعدون ولا ينبغي أن يقال : إنه متعلق بالضمير الراجع إلى المصدر كما في قوله : وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم فإن إعمال ضمير المصدر وإن ذهب إليه الكوفيون نادر جدا لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى وقيل : لم يثبت والبيت قابل للتأويل وهذا كله مع كون الضمير بارزا فما ظنك إذا كان مستترا والقول بأن الفاعل محذوف وليس بضمير مستتر وهو مصدر كالوقوع والتصديق والجار متعلق به مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا لا سيما إذا كان ذلك المصدر المحذوف معرفا كما لا يخفى ويجوز أن يكون الفاعل ضمير البعد واللام للبيان كأنه قيل فعل البعد ووقع ثم قيل لماذا فقيل : لما توعدون وقيل : فاعل هيهات ما توعدون واللام سيف خطيب وأيد بقراءة ابن أبي عبلة هيهات هيهات ما توعدون بغير لام ورد بأنها لم تعهد زيادتها في الفاعل وقيل : هيهات بمعنى البعد هو مبتدأ مبني اعتبارا لأصله خبره لما توعدون أي البعد كائن لما توعدون ونسب هذا التفسير للزجاج
وتعقبه في البحر بأنه ينبغي أن يكون تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية هيهات
وقرأ هارون عن أبي عمرو هيهاتا هيهاتا بفتحهما منونتين للتنكير كما في سائر أسماء الأفعال إذا نونت فهو اسم فعل نكرة وقيل : هو على هذه القراءة اسم متمكن منصوب على المصدرية وقرأ أبو حيوة والأحمر بالضم والتنوين قال صاحب اللوامح : يحتمل على هذا أن تكون هيهات اسما متمكنا مرتفعا بالإبتداء و لما توعدون خبره والتكرار للتأكيد ويحتمل أن يكون اسما للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه
(18/31)

نون لكونه نكرة أه وقيل : هو اسم متمكن مرفوع على الفاعلية أي وقع بعد وعن سيبويه أنها جمع كبيضات وأخذ بعضهم منه تساوي مفرديهما في الزنة فقال مفردها هيهة كبيضة وفي رواية عن أبي حيوة أنه ضمهما من غير تنوين تشبيها لهما بقبل وبعد في ذلك وقرأ أبو جعفر وشيبة بالكسر فيهما من غير تنوين وروي هذا عن عيسى وهو لغة في تميم وأسد وعنه أيضا وعن خالد بن إلياس أنهما قرآ بكسرهما والتنوين
وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بالإسكان فيهما فمنهم من يبقي التاء ويقف عليها كما في مسلمات ومنهم من يبدلها هاء تشبيها بتاء التأنيث ويقف على الهاء وقيل : الوقف على الهاء لاتباع الرسم والذي يفهم من مجمع البيان أن هيهات بالفتح تكتب بالهاء كأرطاة وأصلها هيهية كزلزلة قلبت الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذا هيهات بالرفع والتنوين وهي على هذا اسم معرب مفرد ومتى اعتبرت جمعا كتبت بالتاء وذلك إذا كانت مكسورة منونة أو غير منونة ونقل ذلك عن ابن جني
وقرأ أيهاه بإبدال الهمزة من الهاء الأولى والوقف بالسكون على الهاء والذي أميل إليه أن جميع هذه القراءات لغات والمعنى واحد وفي هذه الكلمة ما يزيد على أربعين لغة وقد ذكر ذلك في التكميل لشرح التسهيل وغيره إن هي إلا حياتنا الدنيا أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع الضمير موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها فالضمير عائد على متأخر وعوده كذلك جائز في صور منها إذا فسر بالخبر كما هنا كذا قالوا واعترض بأن الخبر موصوف فتلاحظ الصفة في ضميره كما هو المشهور في الضمير الراجع إلى موصوف وحينئذ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا
وأجيب بأن الضمير قد يعود إلى الموصوف بدون صفته وهذا في الآخرة يعود إلى القبول بأن الضمير عائد على ما يفهم من جنس الحياة ليفيد الحمل ما قصدوه من نفي البعث فكأنهم قالوا : لا حياة إلا حياتنا الدنيا ومن ذلك يعلم خطأ من قال : إنه كشعري شعري ومن هذا القبيل على رأي قولهم : هي العرب تقول ما شاءت وقوله : هي النفس ما حملتها تتحمل وللدهر أيام تجوز وتعدل وفي الكشف ليس المعنى النفس النفس لأنه لا يصلح الثاني حينئذ تفسيرا والجملة بعدها بيانا بل الضمير راجع إلى معهود ذهني أشير إليه بما بعده كما في هذا أخوك انتهى فتأمل ولا تغفل وقوله تعالى نموت ونحيا جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا وأرادوا بذلك يموت بعضنا ويولد بعض وهكذا وليس المراد بالحياة حياة أخرى بعد الموت إذ لا تصلح الجملة حينئذ للتفسير ولا يذم قائلها وناقضت قولهم وما نحن بمبعوثين
37
- وقيل : أرادوا بالموت العدم السابق على الوجود أو أرادوا بالحياة بقاء أولادهم فإن بقاء الأولاد في حكم حياة الآباء ولا يخفى بعده ومثله على ما قيل وأنا لا أراه كذلك أن القوم كانوا قائلين بالتناسخ فحياتهم بتعلق النفس التي فارقت أبدانهم بأبدان أخر عنصرية تنقلت في الأطوار حتى استعدت لأن تتعلق بها تلك النفس المفارقة فزيد مثلا إذا مات تتعلق نفسه ببدن آخر قد استعد في الرحم للتعلق ثم يولد فإذا مات أيضا تتعلق نفسه ببدن آخر كذلك وهكذا إلى ما لا يتناهي وهذا مذهب لبعض
(18/32)

التناسخية وهم مليون ونحليون ويمكن أن يقال : إن هذا على حد قوله تعالى لعيسى عليه السلام إني متوفيك ورافعك إلى على قول فإن العطف فيه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب فيجوز أن تكون الحياة التي عنوها الحياة التي قبل الموت ويحتمل أنهم قالوا نحيا ونموت إلا أنه لما حكى عنهم قيل نموت ونحيا ليكون أوفق بقوله تعالى إن هي إلا حياتنا الدنيا ثم المراد بقولهم وما نحن الخ استمرار النفي وتأكيده إن هو أي ما هو إلا رجل افترى على الله كذبا فيما يدعيه من إرساله تعالى إياه وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا وما نحن بمؤمنين
38
- بمصدقين فيما يقوله والمراد أيضا استمرار النفي وتأكيده قال أي رسولهم عند يأسه من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعا إلى الله عز و جل رب انصرني عليهم وانتقم لي منهم بما كذبون
39
- أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه أو بدل تكذيبهم ويجوز أن تكون آلية وما موصولة كما مر في قصة نوح عليه السلام قال تعالى إجابة لدعائه وعدة بما طلب عما قليل أي عن زمان قليل فما صلة بين الجار والمجرور جيء بها لتأكيد معنى القلة و قليل صفة لزمان حذف واستغنى به عنه ومجيئه كذلك كثير وجوز أن تكون ما نكرة تامة و قليل بدلا منها وأن تكون نكرة موصوفة بقليل و عن بمعنى بعد هنا وهي متعلقة بقوله تعالى ليصبحن نادمين
40
- وتعلقها بكل من الفعل والوصف محتمل وجاز ذلك مع توسط لام القسم لأن الجار كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره
وقال أبو حيان : جمهور أصحابنا على أن لام القسم لا يتقدمها معمول ما بعدها سواء كان ظرفا أم جارا ومجرورا أم غيرهما وعليه يكون ذلك متعلقا بمحذوف يدل عليه ما قبله والتقدير عما قليل تنصر أو ما بعده أي يصبحون عما قليل ليصبحن الخ ومذهب الفراء وأبي عبيدة أن يجوز تقديم معمول ما في حيز هذه اللام عليها مطلقا و ويصبح بمعنى يصير أي بالله تعالى ليصيرن نادمين على ما فعلوا من التكذيب بعد زمان قليل وذلك وقت نزول العذاب في الدنيا ومعاينتهم له وقيل : بعد الموت وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة فلو ذهب ذاهب إلى أن القول من الرسول إلى الكفار بعد ما أجيب دعاؤه لكان جائزا
فأخذتهم الصيحة أي صيحة جبريل عليه السلام صاح عليه السلام بهم فدمرهم وهذا على القول بأن القرن قوم صالح عليه السلام ظاهر ومن قال : إنهم قوم هود عليه السلام أشكل ظاهر هذا عليه بناءا على أن المصرح به في غير هذه السورة أنهم أهلكوا بريح عاتية وأجاب بأن جبريل عليه السلام صاح بهم من الريح كما روي في بعض الأحاديث وفي ذكر كل على حدة إشارة إلى أن كلا لو انفرد لتدميرهم لكفى ويجوز أن يراد بالصيحة العقوبة الهائلة والعذاب المصطلم كما في قوله : صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان بالحق متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا مدفع له كما في قوله تعالى : وجاءت سكرة الموت
(18/33)

بالحق أو بالعدل من الله عز و جل من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه أو بالوعد الصدق الذي وعده الرسول في ضمن قوله تعالى : عما قليل ليصبحن نادمين فجعلناهم غثاء أي كغثاء السيل وهو ما يحمله من الورق والعيدان البالية ويجمع على أغثاء شذوذا وقد تشدد ثاؤه كما في قول امريء القيس : كأن ذرى رأس المجير غدوة من السيل والغثاء فلكة مغزل فبعدا للقوم الظالمين
41
- يحتمل الإخبار والدعاء والبعد ضد القرب والهلاك وفعلهما ككرم وفرح والمتعارف الأول والثاني في الثاني وهو منصوب بمقدر أي بعدوا بعدا من رحمة الله تعالى أو من كل خير أو من النجاة أو هلكوا هلاكا ويجب حذف ناصب هذا المصدر عند سيبويه فيما إذا كان دعائيا كما صرح في الدر المصون واللام لبيان من دعى عليه أو أخبر ببعده فهي متعلقة بمحذوف لا ببعدا ووضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن إبعادهم لظلمهم ثم أنشأنا من بعدهم أي بعد هلاكهم قرونا آخرين
42
- هم عند أكثر المفسرين قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغير ذلك
ما تسبق من أمة أجلها أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم فمن سيف خطيب جيء بها لتأكيد الإستراق المستفاد من النكرة الواقعة في سياق النفي وحاصل المعنى ما تهلك أمة من الأمم قبل مجيء أجلها وما يستئخرون
43
- ذلك الأجل ساعة وضمير الجمع عائد على أمة باعتبار المعنى
ثم أرسلنا رسلنا عطف على أنشأنا لكن لا على معنى إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعا بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إرسال قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل : ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة للمسارعة إلى بيان هلاك أولئك القرون على وجه إجمالي وتعليق الإرسال بالرسل نظير تعليق القتل بالقتيل في من قتل قتيلا وللعلماء فيه توجيهات تترا من المواترة وهو التتابع مع فصل ومهلة على ما قاله الأصمعي واختاره الحريري في الدرة
وفي الصحاح المتواترة المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومثله في القاموس وعن أبي علي أنه قال : المواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير ونقل في البحر عن بعض أن المواترة التتابع بغير مهلة وقيل : هو التتابع مطلقا والتاء الأولى بدل من الواو كما في تراث وتجاه ويدل على ذلك الإشتقاق وجمهور القراء والعرب على عدم تنوينه فألفه للتأنيث كألف دعوى وذكرى وهو مصدر في موضع الحال والظاهر أنه حال من المفعول والمراد كما قال أبو حيان والراغب وغيرهما ثم أرسلنا رسلنا متواترين وقيل : حال من الفاعل والمراد أرسلنا متواترين
وقيل هو صفة لمصدر مقدر أي إرسالا متواترا وقيل مفعول مطلق لأرسلنا لأنه بمعنى وأترنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشعبة وابن محيصن والإمام الشافعي عليه الرحمة تترى بالتنوين وهو
(18/34)

لغة كنانة قال في البحر : وينبغي عند من ينون أن تكون الألف فيه للإلحاق كما في أرطني وعلقي لكن ألف الإلحاق في المصادر نادرة وقيل : إنها لا توجد فيها
وقال الفراء : يقال تتر في الرفع وتتر في الجر وتترا في النصب فهو مثل صبر ونصر ووزنه فعل لا فعلى ومتى قيل تترى بالألف فألفه بدل التنوين كما في صبرت صبرا عند الوقف ورد بأنه لم يسمع فيه إجراء الحركات الثلاث على الراء وعلى مدعيه الإثبات وأيضا بالياء يأبى ذلك وما ذكرنا من مصدرية تترى هو المشهور وقيل : هو جمع وقيل : اسم جمع وعلى القولين هو حال أيضا
وقوله تعالى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته لما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أول الملاقاة وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيها سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاؤا كل الأمم وللأشعار بكمال شناعة الكذبين وضلالهم حيث كذبوا الرسول المعين لهم وقيل : أضاف سبحانه الرسول مع الإرسال إليه عز و جل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى والمجيء الذي هو منتهاه إليهم فأتبعنا بعضهم بعضا في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضا في مباشرة سببه وهو تكذيب الرسول وجعلناهم أحاديث جمع أحدوثة وهو ما يتحدث به تعجبا وتلهيا كأعاجيب جمع أعجوبة وهو ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها على سبيل التعجب والتلهي ولا تقال الأحدوثة عند الأخفش إلا في الشر
وجوز أن يكون جمع حديث وهو جمع شاذ مخالف للقياس كقطيع وأقاطيع ويسميه الزمخشري اسم جمع والمراد إنا أهلكناهم ولم يبق إلا خبرهم فبعدا لقوم لا يؤمنون
44
- اقتصر ههنا على وصفهم بعدم الإيمان حسبما اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالا وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا أي بالآيات المعهودة وهي الآيات التسع وقد تقدم الكلام في تفصيلها وما قيل فيه و هارون بدل أو عطف بيان وتعرض لأخوته لموسى عليهما السلام للإشارة إلى تبعيته له في الإرسال وسلطان مبين
45
- أي حجة واضحة أو مظهرة للحق والمراد بها عند جمع العصا وأفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لتفردها بالمزايا حتى صارت كأنها شيء آخر وجوز أن يراد بها الآيات والتعاطف من تعاطف المتحدين في الماصدق لتغاير مدلوليهما كعطف الصفة على الصفة مع اتحاد الذات وقد مر نظيره آنفا أو هو من باب قولك : مررت بالرجل والنسمة المباركة حيث جرد من نفس الآيات سلطان مبين وعطف عليه والإتيان به مفردا لأنه مصدر في الأصل أو للإتحاد في المراد وعن الحسن أن المراد بالآيات التكاليف الدينية وبالسلطان المبين المعجز وقال أبو حيان : يجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء عليهم السلام في أصل الدلالة على الصدق فقد فارقتها في قوة دلالتها على ذلك وهو كما ترى ويمكن أن يقال : المراد بالسلطان تسلط موسى عليه السلام في المحاورة والإستدلال على الصانع
(18/35)

عز و جل وقوة الجاش والإقدام إلى فرعون وملائه أي أشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل وهو مما أرسلا عليهما السلام لأجله منوط بآرائهم ويمكن أن يراد بالملأ قومه فقد جاء استعماله بمعنى الجماعة مطلقا فاستكبروا على الإنقياد لما أمروا به ودعوا إليه من الإيمان وإرسال بني إسرائيل وترك تعذيبهم وليست الدعوة مختصة بإرسال بني إسرائيل وإطلاقهم من الأسر ففي سورة النازعات اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى وأيضا فيما نحن فيه ما يدل على عدم الإختصاص
وكانوا قوما عالين
46
- متكبرين أو متطاولين بالبغي والظلم والمراد كانوا قوما عادتهم العلو
فقالوا عطف على استكبروا وما بينهما اعتراض مقرر للإستكبار والمراد فقالوا فيما بينهم بطريق المناصحة أنؤمن لبشرين مثلنا ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى بشرا سويا ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى فأما ترين من البشر أحدا ولم يثن مثل نظر إلى كونه في حكم المصدر ولو أفرد البشر لصح لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره وكذا الوثني المثل فإنه جاء مثنى في قوله تعالى يرونهم مثليهم ومجموعا في قوله سبحانه ثم لا يكونوا أمثالكم نظرا إلى أنه تأويل الوصف إلا أن المرجح لتثنيته الأول وإفراد الثاني الإشارة بالأول إلى قلتها وانفرادهما عن قومهما مع كثرة الملأ واجتماعهم وبالثاني إلى شدة تماثلهم حتى كأنهم مع اليشرين شيء واحد وهو أدل على ما عنوه
وهذه القصص كما ترى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء عليهم السلام على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شؤن الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها مراقي الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين اللطيف والكثيف فيتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى حضرة الحق وبعضها في أسفل سافلين وهم كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا
ومن العجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر وقد رضي أكثرهم للإلهية بحجر فقاتلهم الله تعالى ما أجهلهم والهمزة للإنكار أي لا نؤمن لبشرين مثلنا وقومهما يعنون سائر بني إسرائيل لنا عابدون
47
- خادمون منقادون لنا كالعبيد ففي عابدون استعارة تبعية نظرا إلى متعارف اللغة
ونقل الخفاجي عن الراغب أنه صرح بأن العابد بمعنى الخادم حقيقة وقال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان للملك عابدا وجوز الزمخشري الحمل على حقيقة العبادة فإن فرعون كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة على الحقيقة
واعترض بأن الظاهر أن هذا القول من الملأ وهو يأبى ذلك وكونهم قالوه على لسان فرعون كما يقول خواص ملك : نحن ذوو رعية كثيرة وملك طويل عريض مرادهم إن ملكنا ذو رعية الخ خلاف الظاهر وقيل عليه أيضا على تقدير أن يكون القائل فرعون : لا يلزم من ادعائه الإلهية عبادة بني إسرائيل له أو كونه يعتقد أو يدعي عبادتهم على الحقيقة له وأنت تعلم أنه متى سلم أن القائل فرعون وأنه يدعي الإلهية لا يقدح
(18/36)

في إرادته حقيقة العبادة عدم اعتقاده ذلك لأنه على ما تدل عليه بعض الآثار كثيرا ما يظهر خلاف ما يبطن حتى أنها تدل على أن دعواه الإلهية من ذلك نعم الأولى تفسير عابدون بخادمون وهو مما يصح إسناده إلى فرعون وملئه وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما السلام وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية واللام في لنا متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل وقيل للحصر أي لنا عابدون لا لهما والجملة حال من فاعل نؤمن مؤكدة لإنكار الإيمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وجهلهم بأن مناط الإصطفاء وللرسالة هو السبق في حيازة النعوت والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من خلقه فكذبوهما فاستمروا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكبارا فكانوا من المهلكين
48
- بالغرق في بحر القلزم والتعقيب باعتبار آخر زمان التكذيب الذي استمروا عليه وقيل : تعقيب التكذيب بذلك بناء على أن المراد محكوم عليهم بالإهلاك وقيل : الفاء لمحض السببية أي فكانوا بسبب تكذيب الرسولين من المهلكين
ولقد آتينا بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من مملكتهم موسى الكتاب أي التوراة وحيث كان إيتاؤه عليه السلام لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل : لعلهم يهتدون
49
- أي إلى طريق الحق علما وعملا لما تضمنته من الإعتقاديات والعمليات
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي آتينا قوم موسى وضمير لعلهم عائد عليه وقيل أريد بموسى عليه السلام قومه كما يقال تميم وثقيف للقبيلة وتعقب بأن المعروف في مثله إطلاق أبي القبيلة عليهم وإطلاق موسى عليه السلام على قومه ليس من هذا القبيل وإن كان لا مانع منه ولم يجعل ضمير لعلهم لفرعون وملئه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وقد يستشهد على ذلك بقوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بناء على أن المراد بالقرون الأولى ما يعم فرعون وقومه ومن قبلهم من المهلكين كقوم نوح وهود لا ما يخص من قبلهم من الأمم المهلكين لأن تقييد الأخبار بإتيانه عليه السلام الكتاب بأنه بعد إهلاك من تقدم من الأمم معلوم فلو لم يدخل فرعون وقومه لم يكن فيه فائدة كما قيل ولم يذكر هارون مع موسى عليهما السلام اقتصارا على من هو كالأصل في الإيتاء وقيل لأن الكتاب نزل بالطور وهارون عليه السلام كان غائبا مع بني إسرائيل
وجعلنا ابن مريم وأمه آية أية آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية وجعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيرا وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيرا وجعلنا أمه آية بأن ولدت من غير مسيس وقال الحسن : إنها عليها
(18/37)

السلام تكلمت في صغرها أيضا حيث قال : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ولم تلتقم ثديا قط وقال الخفاجي : لك أن تقول : إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدر الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيسى عليه السلام لنبوته دون مريم أه ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم والتعبير عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين لأصالتها فيما نسب إليها من الأحصان والنفخ ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام
وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقر بها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام هم بتخليتها فرأى في المنام ملكا أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلا والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقودا عليها ليوسف ويسلمون أنها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون : كان ذلك لقرابته منها وآويناهما أي جعلناهما يأويان إلى ربوة هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل
واختلف في المراد بها هنا فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى إلى ربوة أنبئنا أنها دمشق وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا : الربوة هي دمشق وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف
وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال : هي الرملة من فلسطين وأخرج ذلك ابن مردوية من حديثه مرفوعا وأخرج الطبراني في الأوسط وجماعة عن البهزي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الربوة الرملة وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أنه قال : هي بيت المقدس وأخرج هو وغيره أيضا عن قتادة أنه قال : كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلا ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب وابن جرير وغيره عن ابن زيد الربوة مصر وروي عن زيد بن أسلم أنه قال : هي الإسكندرية وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد الأماكن التي ذكرت كذا في البحر ورأيت في إنجيل متي أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هبرودس الملك وافى جماعة من
(18/38)

المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون : أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمه في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة زكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح فقالوا : في بيت لحم فدعا المجوس سرا وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم : اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجدوه مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكا يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودس قد عزم على أن يطلف الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلا ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس فلما توفى رأى الملك في المنام يقول به : قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة أه فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم وقرأ أكثر القراء ربوة بضم الراء وهي لغة قريش
وقرأ أبو إسحاق السبيعي ربوة بكسرها وابن أبي إسحاق رباة بضم الراء وبالألف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف وقريء بكسرها وبالألف ذات قرار أي مستقر من أرض منبسطة والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوى إليه وقال مجاهد : ذات ثمار وزروع والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى : ومعين
50
- أيوماء معين أي جار ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معن بمعنى جرى وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر
وفي البحر معن الشيء معانة كثر أو من الماعون وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهرا مشاهدا بالعين ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع يا أيها الرسل كلوا من الطيبات حكاية لرسول الله صلى الله عليه و سلم على على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها أثر حكاية إيواء عيسى وأمه عليهم السلام إلى الربوة إيذانا بأن ترتيب مباديء النعم لم تكن من خصائص عيسى عليه السلام بل إحاطة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحا فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالا للإيجاز أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عليهما السلام عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا كأنه قبل آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وقلنا أو قائلين لهما هذا أي أعلمناهما أو معلميهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا واعملا اقتداء بهم وجوز أن يكون نداء لعيسى عليه السلام وأمرا له بأن يأكل من الطيبات فقد جاء في حديث مرسل عن حفص
(18/39)

ابن أبي جبلة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في قوله تعالى يا أيها الرسل الخ : ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل من غزل أمه وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي أنه نداء لرسول الله صلى الله عليه و سلم وخطاب له والجمع للتعظيم واستظهر ذلك النيسابوري وما وقع في ضرح التلخيص تبعا للرضى من أن قصد التعظيم بصيغة الجمع من غير ضمير المتكلم لم يقع في الكلام القديم خطأ لكثرته في كلام العرب مطلقا بل في جميع الألسنة وقد صرح به الثعالبي في فقه اللغة والمراد بالطيبات على ما اختاره شيخ الإسلام وغيره ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه واستدل له بأن السياق يقتضيه والأمر عليه للإباحة والترفيه وفيه إبطال للرهبانية التي ابتدعها النصارى وقيل المراد بالطيبات ما حل والأمر تكليفي وأيد بتعقيبه بقوله تعالى : واعملوا صالحا أي عملا صالحا وقد يؤيد ربما أخرجه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله تعالى عنها أنها بعثت إلى النبي صلى الله عليه و سلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن قالت : من شارة لي فرد إليها رسولها أنى لك الشاة فقالت : اشتريتها من مالي فشرب منه عليه الصلاة و السلام فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت : يا رسول الله بعثت إليك بلبن فرددت إلي الرسول فيه فقال صلى الله عليه و سلم لها : بذلك أمرت الرسل قبلي أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا وكذا بما أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب فأنى يستجاب لذلك وتقديم الأمر بأكل الحلال لأن أكل الحلال معين على العمل الصالح
وجاء في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام وصح أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به ولعل تقديم الأمر الأول تقدير حمل الطيب على ما يستلذ من المباحات لأنه أوفق بقوله تعالى وآويناهما إلى ربوة ذات قرار معين وفي الأمر بعده بالعمل الصالح حث على الشكر
إني بما تعملون من الأعمال الظاهرة والباطنة عليم
51
- فأجازيكم عليه وفي البحر أن هذا تحذير للرسل عليهم السلام في الظاهر والمراد أتباعهم وإن هذه أي الملة والشريعة وأشير إليها بهذه للإشارة إلى كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة أمتكم أي ملتكم وشريعتكم والخطاب للرسل عليهم السلام على نحو ما مر وقيل عام لهم ولغيرهم وروي ذلك عن مجاهد والجملة على ما قال الخفاجي عطف على جملة إني بما تعملون عليهم فالواو من المحكي وقيل هي من الحكاية وقد عطف قولا على قول والتقدير قلنا يا أيها الرسل كلوا الخ وقلنا لهم إن هذه أمتكم ولا يخفى بعده
وقيل : الواو ليست للعطف والجملة بعدها مستأنفة غير معطوفة على ما قبلها وهو كما ترى وقوله سبحانه أمة واحدة حال مبنية من الخبر والعامل فيها معنى الإشارة أي أشير إليها في حال كونها شريعة متحدة
(18/40)

في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الأعصار وقيل هذه إشارة إلى الأمم الماضية للرسل والمعنى إن هذه جماعتكم جماعة واحدة متعفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة وأنا ربكم أي من غير أن يكون لي شريك في الربوبية وهذه الجملة عطف على جملة إن هذه الخ المعطوفة على ما تقدم وهما داخلان في حيز التعليل للعمل الصالح لأن الظاهر أن قوله سبحانه إني بما تعملون عليم تعليل لذلك ولعل المراد بالعمل الصالح ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصحيحة واقتضاء المجازاة الربوبية لذلك ظاهر وأما اقتضاء اتحاد الشريعة في الأصول التي لا تتبدل لذلك فباعتبار أنه دليل على حقية العقائد وحقيتها تقتضي الإتيان بها والإتيان بها يقتضي الإتيان بغيرها من الأعمال الصالحة بل قيل لا يصح الإعتقاد مع ترك العمل وعلى هذا يكون قوله تعالى : فاتقون
52
- كالتصريح بالنتيجة فيكون الكلام نظير قولك : العالم حادث لأنه متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث
وفي إرشاد العقل السليم أن ضمير الخطاب في قوله تعالى : ربكم وفي قوله سبحانه : فاتقون للرسل والأمم جميعا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمة للتحذير والإيجاب والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الإمتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به سبحانه واتحاد الأمة فإن كلا منهما موجب للإتقاء حتما والمعنى فاتقون في شق العصا والمخالفة بالإخلال بموجب ما ذكر
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأن بفتح الهمزة وتشديد النون وخرج على تقدير حرف الجر أي ولأن هذه الخر والجار والمجرور متعلق باتقون قال الخفاجي : والكلام في الفاء الداخلة عليه كالكلام في فاء قوله تعالى : فإياي فارهبون وهي للسببية وللعطف على ما قبله وهو اعملوا والمعنى اتقوني لأن العقول متفقة على ربوبيتي والعقائد الحقة الموجبة للتقوى انتهى ولا يخلو عن شيء وجوز أن تكون إن هذه الخ على هذه القراءة معطوفا على ما تعملون والمعنى أني عليم بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة واحدة الخ فهو داخل في حيز المعلوم وضعف بأنه لا جزالة في المعنى عليه وقيل : هو معمول لفعل محذوف أي واعلموا أن هذه أمتكم الخ وهذا المحذوف معطوف على اعملوا ولا يخفى أن هذا التقدير خلاف الظاهر
وقرأ ابن عامر وأن بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المخففة من الثقيلة ويعلم توجيه الفتح مما ذكرنا
فتقطعوا أمرهم الضمير لما دل عليه الأمة من أربابها إن كانت بمعنى الملة أو لها إن كانت بمعنى الجماعة وجوز أن يراد بالأمة أولا الملة وعند عود الضمير عليها الجماعة على أن ذلك من باب الإستخدام والمراد حكاية ما ظهر من أمم الرسل عليهم السلام من مخالفة الأمر والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم وتقطع بمعنى قطع كتقدم بمعنى قدم والمراد بأمرهم أمر دينهم إما على تقدير مضاف أو على جعل الإضافة عهدية أي قطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة مع اتحاده وجوز أن يراد بالتقطع التفرق و أمرهم منصوب بنزع الخافض أي فتفرقوا أو تحزبوا في أمرهم ويجوز أن يكون أمرهم على هذا نصبا على التمييز عند الكوفيين المجوزين تعريف التمييز بينهم زبرا أي قطعا جمع زبور بمعنى فرقة ويؤيده
(18/41)

أنه قريء زبرا بضم الزاي وفتح الباء فإنه مشهور ثابت في جمع زبرة بمعنى قطعة وهو حال من أمرهم أو من واو تقطعوا أو مفعول ثان له فإنه مضمن معنى جعلوا وقيل : هو جمع زبور بمعنى كتاب من زبرت بمعنى كتبت وهو مفعول ثان لتقطعوا المضمن معنى الجعل أي قطعوا أمر دينهم جاعلين له كتبا
وجوز أن يكون حالا من أمرهم على اعتبار تقطعوا لازما أي تفرقوا في أمرهم حال كونه مثل الكتب السماوية عندهم وقيل : إنها حال مقدرة أو منصوب بنزع الخافض أي في كتب وتفسير زبرا بكتب رواه جماعة عن قتادة كما في الدر المنثور ولا يخفى خفاء المعنى عليه ولا يكاد يستقيم إلا بتأويل فتدبر
وقريء زبرا بإسكان الباء للتخفيف كرسل في رسل وجاء فتقطعوا هنا بالفاء إيذانا بأن ذلك اعتقب الأمر وفيه مبالغة في الذم كما أشرنا إليه وجاء في سورة الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر وجاء هنا وأنا ربكم فاتقون وهو أبلغ في التخويف والتحذير مما جاء هناك من قوله تعالى : هناك : وأنا ربكم فاعبدون لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي تلك السورة وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب وزكريا ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته عز و جل قاله أبو حيان وما ذكره أولا غير واف بالمقصود وما ذكره ثانيا قيل عليه : إنه مبني على أن الآية تذييل للقصص السابقة أو لقصة عيسى عليه السلام لا ابتداء كلام فإنه حينئذ لا يفيد ذلك إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة فتأمل
كل حزب من أولئك المتحزبين بما ليديهم من الأمر الذي اختاروه فرحون
53
- مسرورون منشرحو الصدر والمراد أنهم معجبون به معتقدون أنه الحق وفي هذا ذم أولئك المتحزبين ما فيه
فذرهم في غمرتهم خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم في شأن قريش الذين تقطعوا في أمر الدين الحق والغمرة الماء الذي يغمر القامة وأصلها من الستر المراد بها الجهالة بجامع الغلبة والإستهلاك وكأنه لما ذكر سبحانه في ضمن ما كان من أمم الأنبياء عليهم السلام توزعهم واقتسامهم ما كان يجب اجتماعه واتفاق الكلمة عليه من الدين وفرحهم بفعلهم الباطل ومعتقدهم العاطل قال لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : فإذا ذاك دعهم في جهلهم هذا الذي فوقه تخلية وخذلانا ودلالة على اليأس من أن ينجع القول فيهم وضمن التسلية في ذكر الغاية أعني قوله سبحانه حتى حين
54
- فإن المراد بذلك حين قتلهم وهو يوم بدر على ما روي عن مقاتل أو موتهم على الكفر الموجب للعذاب أو عذابهم وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل
وجوز أن يقال : شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والإنغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب والجامع تضييع الوقت بعد الكدح في العمل والكلام حينئذ على منوال سابقه أعني قوله تعالى : كل حزب بما لديهم فرحون لما جعلوا فرحين غرورا جعلوا لاعبين أيضا أظهر والأول أظهر وقد يجعل الكلام عليه أيضا استعارة تمثيلية بل هو أولى عند البلغاء كما لا يخفى
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة
أيحسبون أنما نمدهم به أي الذي نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم فما موصولة اسم أن ولا يضر كونها
(18/41)

موصولة لأنها في الإمام كذلك لسر لا نعرفه وقوله تعالى : من مال وبنين
55
- بيان لها وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه وقوله سبحانه : نسارع لهم في الخيرات خبر أن والراجع إلى الاسم محذوف أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وحذف هذا العائد لطول الكلام مع تقدم نظيره في الصلة إلا أن حكذف مثله قليل وقال هشام بن معاوية : الرابط هو الاسم الظاهر وهو الخيرات وكأن المعنى نسارع لهم فيه ثم أظهر فقيل في الخيرات وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد قيل : ولا يجوز أن يكون الخبر من مال وبنين لأن الله تعالى أمدهم بذلك فلا يعاب ولا ينكر عليهم اعتقاد المدد كما يفيده الإستفهام الإنكاري وتعقب بأنه لا يبعد أن يكون المراد ما نجعله مددا نافعا لهم في الآخرة ليس المال والبنين بل الإعتقاد والعمل الصالح كقوله تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وفيه ما فيه وما ذكرنا من كون ما موصولة هو الظاهر ومن جوز كونها مصدرية وجعل المصدر الحاصل بعد السبك اسم أن وخبرها نسارع على تقدير مسارعة بناء على أن الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل لم يوف القرآن حقه وكذا من جعلها كافة كالكسائي ونقل ذلك عنه أبو حيان وجوز عليه الوقف على بنين معللا بأن ما بعد يحسب قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى وإن كان في تأويل مفرد وهو كما ترى وقرأ ابن وثاب إنما نمدهم بكسر همزة إن وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعله ضميره تعالى فالكلام في الرابط على ما سمعت وإن كان ضمير الموصول فهو الرابط وعن ابن أبي بكرة المذكور أنه قرأ يسارع بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع وقريء على ما في الكشاف يسرع بالياء مضارع أسرع أيضا وفي فاعله الإحتمالان المشار إليهما آنفا بل لا يشعرون
56
- عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل لا يشعرون أي ليس من شأنهم الشعور أن هم إلا كالأنعام بل هم أضل حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك هو استدراج أم مسارعة ومبادرة في الخيرات ومن هنا قيل : من يعص الله تعالى ولم ير نقصانا فيما أعطاه سبحانه من الدنيا فليعلم أنه مستدرج قد مكر به وقال قتادة : لا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون
75
- الكلام فيه نظير ما مر في نظيره في سورة الأنبياء بيد أن في استمرار الإشفاق هنا في الدنيا والآخرة للمؤمنين ترددا والذين هم بئايات ربهم المنزلة والمنصوبة في الآفاق والأنفس والباء للملابسة وهي متعلقة بقوله تعالى : يؤمنون
58
- أي يصدقون والمراد التصديق بمدلولها إذ لا مدح في التصديق بوجودها والتعبير بالمضارع دون الإسم للإشارة إلى أنه كلما وقفوا على آية آمنوا بها وصدقوا بمدلولها والذين هم بربهم لا يشكرون
59
- فيخلصون العبادة له عز و جل فالمراد نفي الشرك الخفي
(18/43)

كالرياء بالعبادة كذا قيل وقد اختار بعض المحققين التعميم أي لا يشركون به تعالى شركا جليا ولا خفيا ولعله الأولى ولا يغني عن ذلك وصفهم بالإيمان بآيات الله تعالى
وجوز أن يراد مما سبق وصفهم بتوحيد الربوبية ومما هنا وصفهم بتوحيد الألوهية ولم يقتصر على الأول لأن أكثر الكفار متصفون بتوحيد الربوبية ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ولا يأباه التعرض لعنوان الربوبية فإنه في المواضع الثلاثة للإشعار بالعلية وذلك العنوان يصلح لأن يكون علة لتوحيد الألوهية كما لا يخفى
والذين يؤتون ما آتوا أي يعطون ما أعطوا من الصدقات وقلوبهم وجلة خائفة من أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان لا الإيتاء فيهما وأخرج ابن مردوية وسعيد بن منصور عن عائشة أنه صلى الله عليه و سلم قرأ كذلك وأطلق عليها المفسرون قراءة رسول الله عليه الصلاة و السلام يعنون أن المحدثين نقلوها عنه صلى الله عليه و سلم ولم يروها القراء من طرقهم والمعنى عليها يفعلون من العبادات ما فعلوه وقلوبهم وجلة وروي نحو هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه وابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت يا رسول الله قول الله والذين يأتون مأتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله تعالى قال : لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله تعالى أن لا يتقبل منه وجملة قلوبهم وجلة في القراءتين في موضع الحال من ضمير الجمع في الصلة الأولى والتعبير بالمضارع فيها للدلالة على الإستمرار وفي الثانية للدلالة على التحقق وقوله تعالى : أنهم إلى ربهم راجعون
60
- بتقدير اللام التعليلية وهي متعلقة بوجلة أي خائفة من عدم القبول وعدم الوقوع على الوجه اللائق لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة وحينئذ تنكشف الحقائق ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لائق فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
وجوز أن يكون بتقدير من الإبتدائية التي يتعدى بها الوجل أي وجلة من أن رجوعهم إليه عز و جل على أن مناط الوجل أن لا يقبل ذلك منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذ به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه عز و جل وقد يؤيد الوجه الأول بقراءة الأعمش إنهم بكسر الهمزة ولعل التعبير بالجملة الإسمية المخبر فيها بالوصف دون الفعل المضارع للمبالغة في تحقق الرجوع حتى كأنه من الأمور الثابتة المستمرة كذا قيل
وجوز على بعد أن يكون المراد من الرجوع المذكور الرجوع إليه عز و جل بالعبودية فوجه التعبير بالجملة الإسمية عليه أظهر من أن يخفى ووجه تعليل الخوف من عدم القبول وعدم وقوع فعلهم كائنا ماكان على الوجه اللائق بأنهم راجعون إليه تعالى بالعبودية عدم وجوب قبول عملهم عليه تعالى حينئذ لأنه سبحانه مالك الملك والممالك أن يفعل بملكه ما يشاء وظهور نقصهم كيف كانوا عن كماله جل جلاله والناقص مظنة أن لا يأتي بما يليق بالكامل لا سيما إذا كان ذلك الكامل هو الله عز و جل الذي لا يتناهى كماله ولا أراك ترى في هذا
(18/44)

الوجه كلفا سوى كلف البعد فتأمل ثم إن الموصولات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف اتلمذكورة كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون الخ وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة عن حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها وهذا جار على كلتا القرائتين في قوله تعالى : والذين يؤتون ماآتوا وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمد صلى الله عليه و سلم وهم في غاية البعد
وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين أولئك إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات وما فيه من معنى البعد للإشعار بعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : يسارعون في الخيرات والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى : فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وقوله سبحانه وآتيناه أجره في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماء إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الآية وهم لها أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : سابقون
61
- وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعول محذوف أي سابقون الناس أو الكفار وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال : سمعت إلى كذا ولكذا والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها
وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيدا للجملة الأولى وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة وحسن زيادتها كون العامل فرعيا وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضا وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يرد ما قيل : إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال : هم يسبقون الخيرات والإحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل أنه وجه تكلف
وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير لها لها أيضا واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون لها خبر المبتدأ و سابقون خبر بعد خبر ومعنى هم لها أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة وهذا كقولك : لمن يطلب منه حاجة
(18/45)

لا ترجى من غيره : أنت لها وهو من بليغ كلامهم وعلى ذلك قوله : مشكلات أعضلت ودهت يا رسول الله أنت لها ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل لها خبرا وإن لم يكن ظاهرا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات ففي البحر نقلا عنه أن المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقا للآية المتقدمة ومن الناس من زعم أن ضمير لها للجنة ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى وقرأ النحوي يسرعون مضارع أسرع يقال : أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و يسارعون كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه ولا نكلف نفسا إلا وسعها جملة مستأنفة سبقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة إلى عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الإستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم قال مقاتل : من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء
وقوله سبحانه : ولدينا كتاب ينطق بالحق تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرؤنها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف فهو كما في قوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون و الحق المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقيل : المراد بالكتاب صحائف يقرؤنها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول وأدون منه ما قيل : إن المراد به القرآن الكريم وقوله تعالى : وهم لا يظلمون
62
- لبيان فضله عز و جل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطصت بها صحائفها بالحق وجوز أن يكون تقريرا لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها
وقوله عز و جل : بل قلوبهم في غمرة من هذا إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا
(18/46)

ينطق بالحق ويظهرهم أعمالهم السيئة على رؤس الأشهاد فيجزون بها كما ينبيء عنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه قد كانت آياتي تتلى عليكم الخ وقيل : الإشارة إلى القرآن الكريم وما بين فيه مطلقا وروي ذلك عن مجاهد وقيل : إلى ما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة وروي هذا عن قتادة وقيل : إلى الدين بجملته وقيل إلى النبي صلى الله عليه و سلم والأول أظهر ولهم أعمال سيئة كثيرة من دون ذلك الذي ذكر من كون قلوبهم في غمرة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها طعنهم في القرآن الكريم المشار إليه في قوله تعالى : مستكبرين به سامرا تهجرون
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفر والشك وأن ذلك إشارة إلى هذا المذكور والمعنى لهم أعمال دون الكفر وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن ذلك كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنون من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون أي أضداد وصفوا به مما وقع في حيز الصلات وهذا غاية الذم لهم هم لها عاملون
63
- أي مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يفطمون عنها و عاملون عامل في الضمير قبله واللام للتقوية هذا وقال أبو مسلم : إن الضمير في قوله تعالى بل هم الخ عائد على المؤمنين الموصوفين بما تقدم من الصفات كأنه سبحانه قال بعد وصفهم : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق فلا يظلمون بل يوفى عليهم ثواب أعمالهم ثم وصفهم سبحانه بالحيرة في قوله تعالى بل قلوبهم في غمرة فكأنه عز و جل قال : وهم من ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البرسوي ما هم عليه انتهى قال الإمام : وهو الأولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصا وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما يحذر بذلك من الشر وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر و هذا على هذا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم انتهى ولا يخفى ما فيه على من ليس قلبه في غمرة
حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب حتى على ما في الكشاف هي التي يبتدأ بعدها الكلام وهي مع ذلك غاية لما قبلها كأنه قيل : لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا الخ وقال ابن عطية : هي ابتداء لا غير وإذا الأولى والثانية يمنعان من أن تكون غاية لعاملون وفيه نظر وإذا شرطية شرطها أخذنا وهي مضافة إليه وجزاؤها قوله تعالى : إذا هم يجئرون
64
- وهي معمولة له وإذا فيه فجائية نائبة مناب الفاء وقال الحوفي : حتى غاية وهي عاطفة وإذا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط وإذا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إذا الأولى والعامل في الثانية أخذنا انتهى
وهو كلام مخبط يبعد صدوره من مثل هذا الفاضل والمترف المتوسع في النعمة والمراد بالعذاب ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة وقد قتل وأسر في ذلك اليوم كثير من صناديدهم ورؤسائهم والجؤار مثل الخوار يقال جأر الثور يجأر إذا صاح وجأر الرجل إلى
(18/47)

الله تعالى إذا تضرع بالدعاء كما في الصحاح وفي الأساس جائر الداعي إلى الله تعالى ضج ورفع صوته والمراد به الصراخ إما القا أو باستغاثة وضمير الجمع راجعان على ما رجع إليه الضمائر السابقة في مترفيهم ولهم وقلوبهم وغيرها وهم كفار أهل مكة لكن بإرادة من بقي بعد أخذ المترفين بالقتل قال ابن جريج المعذبين قتلى بدر والذين يجأرون أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا وفي أنسان العيون أو قريشا ناحوا على قتلاهم في بدر شهرا وجز نساؤهم شعورهن ومن يأتين بفرس الرجل أو راحلته ويسترنها بالستور وينحن حولها ويخرجن بها إلى الأزقة إلى أن أشير عليهم بترك ذلك خوف الشماتة وقال الربيع بن أنس : المراد بالجؤار الجزع إذ هو سبب الصراخ وفيه بعد لخفاء قرينة المجاز وعن الضحاك أن المراد بالعذاب عذاب الجوع وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا عليهم فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف فاستجيب له عليه الصلاة و السلام فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام المحرقة والعلهز وفي الأخبار ما يدل على أن ذلك كان قبل الهجرة وفيها أيضا ما يدل على أنه كان قبلها ووفق البيهقي بأنه لعله كان مرتين وسيأتي ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وتخصيص المترفين بالذكر لأنه إذا جاع المترف جاع غيره من باب أولى وقيل : المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتخصيص المترفين بما ذكر لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فلأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم
وقال شيخ الإسلام : إن هذا القول هو الحق لأن العذاب الأخروي هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد واناط من النصر وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبيء عنه قوله تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتما وأما عذاب الجوع فإن قريشا وإن تضرعوا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن لم يرد عليهم بالإقناط حيث روي أنه عليه الصلاة و السلام دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك انتهى وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه نعم حمل العذاب على ذلك أوفق بجعل ما في حيز حتى غاية لما قبلها
لا تجئروا اليوم على تقدير القول أي قلنا لهم ذلك والكلام استئناف مسوق لبيان إقناطهم وعدم انتفاعهم بجؤارهم والمراد باليوم الوقت الحاضر الذي اعتراهم فيه ما اعتراهم والتقييد بذلك لزيادة إقناطهم والمبالغة في إفادة عدم نفع جؤارهم
وقال شيخ الإسلام : إن ذلك لتهويل اليوم والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار والمراد بالقول على ما قيل : ما كان بلسان الحال كما في قوله :
امتلأ الحوض وقال قطني
وجوز أن يراد به حقيقة القول وصدوره إما من الله تعالى وإما من الملائكة عليهم السلام والظاهر على هذا الوجه أن يكون القول في الآخرة وكونه في الدنيا مع عدم إسماعهم إياه لا يخلو عن شيء وتقديره فعل الأمر مسندا إلى ضميره صلى الله عليه و سلم أي قل لهم من قبلنا لا تجأروا بعيدا جدا ومن الناس من جوز كون القول المقدر جواب إذا الشرطية وحينئذ يكون إذا هم يجأرون قيدا للشرط أو بدلا من إذا الأولى وعلى الأول المعنى أخذنا مترفيهم وقت جؤارهم أو حال مفاجأتهم لجواز أن تكون إذا ظرفية أو فجائية حينئذ ولم يجوز جعل النهي المذكور جوابا بالخلو
(18/48)

عن الفاء اللازمة فيه إذا وقع كذلك وتعقب هذا القول بأنه لا يخفى أن المقصود الأصلي من الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك أن يكون مفاجأتهم الجؤار غير مقصود أصلي
وقوله تعالى : إنكم منا لا تنصرون
65
- تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه ومن ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه وجوز أن تكون من صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قبله تعالى ولا سياقه فإن قوله تعالى : قد كانت آياتي تتلى عليكم إلى آخره صريح في أنه تعليل لعدم لحوق النصر من جهته بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه أو بعزة الله تعالى وقوته وأنت تعلم أنهم المشركون الذين شركاؤهم نصب أعينهم ولم يقيد الجؤار بكونه إلى الله تعالى وأمر التعليل سهل وقد يقال : المعنى على هذا الوجه دعوى الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ولا ينفعكم عندنا فقد ارتكبتم أمرا عظيما وإثما كبيرا لا يدفعه ذلك ثم لا يخفى ما في كلام المتعقب بعد والمراد قد كانت آياتي تتلى عليكم قبل أن يأخذ مترفيكم العذاب فكنتم عند تلاوتها على أعقابكم تنكصون
66
- أي تعرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها والنكوص الرجوع والأعقاب جمع عقاب وهو مؤخر الرجل ورجوع الشخص على عقبه رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه وجل بعضهم التقييد بالأعقاب من باب التأكيد كما في بصرته بعيني بناء على أن النكوص الرجوع قهقري وعلى الأعقاب وأيلما كان فهو مستعار للإعراض
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه تنكصون بضم الكاف مستكبرون به أي بالبيت الحرام
والباء للسببية وسوغ هذا الإضمار مع أنه لم يجر له ذكر اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدام البيت وقوامه وهذا ما عليه جمهور الالمفسرين وقريب منه كون الضمير للحرم وقال في البحر : الضمير عائد على المصدر الدال عليه تنكصون وتعقب بأنه لا يفيد كثير معنى فإن ذلك مفهوم من جعل مستكبرين حالا واعترض عليه بما فيه بحث وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويحسنه أن في قوله تعالى : قد كانت آياتي تتلى عليكم دلالة عليه عليه الصلاة و السلام والباء إما للتعدية على تضمين الإستكبار معنى التكذيب أو جعله مجازا عنه وإما للسببية لأن استكبارهم ظهر ببعثه صلى الله تعالى عليه وسلم وجوز أن يعود على القرآن المفهوم من الآيات أو عليها باعتبار تأويلها به وأمر الباء كما سمعت آنفا وجوز أن تكون متعلقة بقوله تعالى : سمرا أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا والمعنى على ذلك وإن لم يعلق به به ويجوز على تقدير تعلقه بسامرا عود الضمير على النبي عليه الصلاة و السلام وكذا يجوز كون المعنى عليه وإن لم يعلق به وقيل : هي متعلقة بتهجرون وفيه من البعد ما فيه ونصب سامرا على الحال وهو اسم جمع كالحاج والحاضر والجامل والباقر وقيل : هو مصدر وقع حالا على التأويل المشهور فهو
(18/49)

يشمل القليل والكثير باعتبار أصله ولا يخفى أن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر ومنه العافية والعاقبة
والسمر في الأصل ظل القمر وسمي بذلك على ما في المطلع لسمرته وفي البحر هو ما يقع على الشجر من ضوء القمر وقال الراغب : هو سواد الليل ثم أطلق على الحديث بالليل وفسر بعضهم السامر بالليل المظلم وكونه هنا بهذا المعنى وجعله منصوبا بما بعده على نزع الخافض ليس بشيء وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو سمرا بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر وابن عباس أيضا وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك سمارا بزيادة ألف بعد الميم وهو جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل ذلك تهجرون
67
- من الهجر بفتح فسكون بمعنى القطع والترك والجملة في موضع الحال أي تاركين الحق أو القرآن أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعن ابن عباس تهاجرون البيت ولا تعمرونه بما يليق من العبادة
وجاء الهجر بمعنى الهذيان في الصحاح يقال : هجر المريض يهجر هجرا إذا هذي وجوز أن يكون المعنى عليه أي تهذون في شأن القرآن أو النبي عليه الصلاة و السلام أو أصحابه رضي الله تعالى عنهم أو ما يعم جميع ذلك وفي الدر المصون أن ما كان بمعنى الهذيان هو الهجر بفتحتين
وجوز أن يكون من الهجر بضم فسكون وهو الكلام القبيح قال الراغب : الهجر الكلام المهجور لقبحه وهجر فلان إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد وأهجر المريض إذا أتى بذلك من غير قصد وفي المصباح هجر المريض في كلامه هذي والهجر بالضم اسم ومصدر بمعنى الفحش من هجر كقتل وفيه لغة أخرى أهجر بالألف وعلى هذه اللغة قراءة ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد تهجرون بضم التاء وكسر الجيم وهي تبعد كون تهجرون في قراءة الجمهور من الهجر بمعنى القطع
وقرأ ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الإلتفات وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضا وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم وعكرمة وابن نهيك وابن محيصن أيضا وأبو حيوة تهجرون بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم وشدها على أنه مضاعف هجر من الهجر بالفتح أو بالضم فالمعنى تقطعون أو تهذون أو تفحشون كثيرا
ألفم يدبروا القول الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي افعلوا ما فعلوا من النكوص والإستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعلموا بما فيه من وجوه الإعجاز أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به و أم في قوله تعالى أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين
68
- منقطعة وما فيها من معنى للإضراب والإنتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب مالم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال بمعنى أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم السلام لينذروا بها الناس سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر وان مجيء القرآن على طريقته فمم ينكرونه وقيل : المعنى أفلم يتدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أم جاءهم من الأمن مالم يأت آباءهم الأولين حين خافوا الله تعالى فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه فالمراد بآباءهم المؤمنون كإسماعيل عليه السلام وعدنان وقحطان وكأن وصفهم بالأولين على هذا لإخراج الأقربين
(18/50)

وفي الخبر لا تنسوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحرث ابن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مرد فإنهم كانوا على الإسلام وما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما وروي أن ضبة بن أد كان مسلما وكان على شرطة سليمان بن داود عليهما السلام
وفي الكشف أن جعل فائدة التدبر استعقاب العلم فالهمزة في المنقطعة للتقرير وإثبات أنهم مصرون على التقليد فلذلك لم يتدبروا ولم يعلموا وإن جعلت الإعتبار والخوف فالهمزة فيها للإنكار أو التقرير تهكما أه فتدبر ثم لا يخفى أن إسناد المجيء إلى إلا من غير ظاهر ظهور إسناده إلى الكتاب وبهذا تنحط درجة هذا الوجه على الوجه الأول
أم لم يعرفوا رسولهم إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر والهمزة لإنكار الوقوع أيضا أي بل ألم يعرفوه عليه الصلاة و السلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق إلى غير ذلك من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم السلام
وقد صح أن أبا طالب يوم نكاح النبي صلى الله عليه و سلم خطب بمحضر رؤساء مضر وقريش فقال : أحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضيء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل
وفي هذا دليل واضح على أنهم عرفوه صلى الله تعالى عليه وسلم بغاية الكمال وإلا لأنكروا قول أبي طالب فيه عليه الصلاة و السلام ما قال
فهم له منكرون
69
- الفاء سببية لتسبب الإنكار عن عدم المعرفة فالجملة داخلة في حيز الإنكار ومآل المعنى هم عرفوه بالكمال اللائق بالأنبياء عليهم السلام فكيف ينكرونه واللام للتقوية وتقديم المعمول للتخصيص أو الفاصلة والكلام على تقدير مضاف أي منكرون لدعواه أو لرسالته عليه الصلاة و السلام
أم يقولون به جنة انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه عليه الصلاة و السلام أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأوفرهم رزانة وقد روعي في هذه التوبيخات الأربع التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به عليه الصلاة و السلام الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما بينه شيخ الإسلام وقوله تعالى بل جاءهم بالحق إضراب عما يدل عليه ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلى الله عليه و سلم بل جاءهم بالحق أي بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه والمراد به التوحيد ودين الإسلام الذي تضمنه القرآن ويجوز أن يراد به القرآن
وأكثرهم للحق كارهون
70
- لما في جبلتهم من كمال الزيغ والإنحراف والظاهر أن الظمائر لقريش وتقييد الحكم بأكثرهم لأن منهم من أبى الإسلام واتباع الحق حذرا من تعيير قومه أو نحو ذلك لا كراهة للحق من حيث هو حق فلا يرد ما قيل : إن من أحب شيئا كره ضده فمن أحب البقاء على الكفر فقد كره
(18/51)

الإنتقال إلى الإيمان ضرورة وقال ابن المنير : يحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي وفيه بعد وكذا ما اختاره من كون ضمير أكثرهم للناس كافة لا لقريش فقط فيكون الكلام نظير قوله تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقد يقال : حيث كان المراد إثبات الكراهة للحق على سبيل الإستمرار وعلم الله تعالى أن فيهم من يؤمن ويتبع الحق لم يكن بد من تقييد الحكم بالأكثر والظاهر بناء على القاعدة الأغلبية في إعادة المعرفة أن الحق الثاني عين الحق الأول وأظهر في مقام الإضمار لأنه أظهر في الضمر والضمير ربما يتوهم عوده للرسول عليه الصلاة و السلام وقيل : اللام في الأول للعهد وفي الثاني للإستغراق أو للجنس أي وأكثرهم للحق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبيء عنه الإظهار كارهون وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة بعضهم لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق وفيه بحث إذ لا يكاد يسلم أن أكثرهم كارهون لكل حق وكذا الظاهر أن يراد بالحق في قوله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وجعل الإتباع حقيقيا والإسناد مجازيا وقيل مآل المعنى لو اتبع النبي صلى الله عليه و سلم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي لخرب الله تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة و السلام ما أرسل به من عنده وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والإتباع مجازا عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقا لفسدت السماوات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئا لا يمكن خلافه أصلا فلا فائدة لهم في هذه الكرهة
واعترض بأنه لا يناسب المقام وفيه بحث وكذا ما قيل : إن ما يوافق أهواءهم هو الشرك في الألوهية لأن قريشا كانوا وثنية وهو لا يستلزم الفساد والذي يستلزمه إنما هو الشرك في الربوبية كما تزعمه الثنوية وهم لم يكونوا كذلك كما ينبيء عنه قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
وجوز أن يكون المعنى لو وافق الحق مطلقا أهواءهم لخرجت السماوات والأرض عن الصلاح والإنتظام بالكلية والكلام استطراد لتعظيم شأن الحق مطلقا بأن السماوات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به ولا يخلو عن حسن وقيل : المراد بالحق هو الله تعالى
وقد أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح وحكاه بعضهم عن ابن جريج والزمخشري عن قتادة والمعنى عليه لو كان الله تعالى يتبع أهواءهم ويفعل ما يريدون فيشرع لهم الشرك ويأمرهم به لم يكن سبحانه إلها فتفسد السماوات والأرض وهذا مبني على أن شرع الشرك نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه وقد ذكر ذلك الخفاجي وذكر أنه قد قام الدليل العقلي عليه وأنه لا خلاف فيه ولعل الكلام عليه اعتراض أيضا للإشارة إلى عدم إمكان إرسال النبي عليه الصلاة و السلام إليهم بخلاف ما جاء به مما لا يكرهونه فكراهتهم لما جاء به عليه الصلاة و السلام لا تجديهم نفعا فالقول بأنه بعيد عن مقتضى المقام ليس في محله وقيل : المعنى عليه لو فعل الله تعالى ما يوافق أهواءهم لاختل نظام العالم لما أن آراءهم متناقضة وفيه إشارة إلى فساد عقولهم وأنهم لذلك كرهوا ما كرهوه من الحق الذي
(18/52)

جاء به عليه الصلاة و السلام وهو كما ترى
وقرأ ابن وثاب ولو اتبع بضم الواو بل أتيناهم بذكرهم انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى وأنه لذكر لك ولقومك أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب أن يقبلوا عليه أكمل إقبال ويقبلوا ما فيه أكمل قبول فهم بما فعلوا من النكوص من ذكرهم أي فخرهم وشرفهم خاصة معرضون
71
- لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والإعتناء به وفي وضع الظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم على ما قبلها من الإتيان بذكرهم ومن فسر الحق في قوله تعالى بل جاءهم بالحق بالقرآن الكريم قال هنا : في إسناد الإتيان بالذكر إلى نون العظمة بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة و السلام تنوينه بشأن النبي صلى الله عليه و سلم وتنبيه على كونه عليه الصلاة و السلام بمثابة عظيمة منه عز و جل وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلى الله عليه و سلم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من النكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد المشرفين وقيل : المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكأنه قيل : بل أتيناهم الكتاب الذي تمونه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذكر الوعظ
وأيد بقراءة عيسى بذكراهم بألف التأنيث ورجح القولان الأولان بأن التشنيع عليهما أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس بمثابة إعراضهم عن شرفهم وفخرهم أو عن كتابهم الذي تمنوه في الشناعة والقباحة
وقيل : إن الوعظ فيه بيان ما يصلح به حال من يوعظ فالتشنيع بالإعراض عنه لا يقصر عن التشنيع بالإعراض عن أحد ذينك الأمرين ولا يخفى ما فيه من المكابرة
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو بل أتيتهم بتاء المتكلم وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا واو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بل أتيتهم بتاء الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم وأبو عمرو في رواية آتيناهم بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة وقرأ قتادة نذكرهم بالنون ذكر أم تسئلهم متعلق بقوله تعالى أم يقولون جنة فهو انتقال إلى توبيخ آخر وغير للخطاب لمناسبته ما بعده وكان المراد أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة خرجا أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك وقوله تعالى فخراج ربك خير أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والعقبى خير من ذلك لسعته ودوامه وعدم تحمل منة الرجال فيه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه و سلم ما لا يخفى
و الخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار
(18/53)

بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله تعالى وكذا على ما قيل من أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك واللزوم بالنسبة إليه تعالى إنما هو لفضل وعده عز و جل وقيل الخرج أعم من الخراج وساوى بينهما بعضهم
وقرأ ابن عامر خرجا فخرج وحمزة والكسائي خراجا فخراج للمشاكلة وقرأ الحسن وعيسى خراجا فخرج وكأن اختيار خراجا في جانبه عليه الصلاة و السلام للإشارة إلى قوة تمكنهم في الكفر واختيار خرجا في جانبه تعالى للمبالغة في حط قدر خراجهم حيث كان المعنى فالشيء القليل منه عز و جل خير من كثيرهم فما الظن بكثيره جل وعلا وهو خير الرازقين
72
- تأكيد لخيرية خراجه سبحانه وتعالى فإن من كان خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره
واستدل الجبائي بذلك على أنه سبحانه لا يساويه أحد في الأفضال على عباده وعلى أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم
73
- تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توجب الإتهام قال الزمخشري : ولقد ألزمهم عز و جل الحجة وأزاح عللهم في هذه الآيات بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبي مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله تعالى بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حفظهم من الذكر أه وهو من الحسن بمكان
وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم كفرة قريش المحدث عنهم فيما مر وصفوا بذلك تشنيعا لهم مما هم عليهم من الإنهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة بعدها وإشعار بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله وجوز أن يكون المراد بهم ما يعمهم وغيرهم من الكفرة المنكرين للحشر ويدخلون في ذلك أوليا عن الصراط المستقيم الذي تدعو إليه لناكبون
74
- أي لعادلون وقيل : المراد بالصراحة جنسه أي أنهم عن جنس الصراط فضلا عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه لناكبون ورجح بأنه أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبيء عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط ولو كان معوجا وفيه أن التعليل بمضمون الصلة لا يساعد إلا على إرادة الصراط المستقيم وأظن أنه قد نكب عن الصراط من زعم من أن المراد هنا اتلصراط الممدود على متن جهنم وهو طريق الجنة أي أنهم يوم القيامة عن طريق الجنة لمائلون يمنة ويسرة إلى النار
ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر أي من سوء حال قيل : هو ما عراهم بسبب أخذ مترفيهم بالعذاب يوم بدر أعني الجزع عليهم وذلك بإحيائهم وإعادتهم إلى الدنيا بعد القتل أي ولو رحمناهم وكشفنا ضرهم بإرجاع مترفيهم إليهم للجوا لتمادوا في طغيانهم إفراطهم في الكفر والإستكبار وعداوة الرسول
(18/54)

صلى الله عليه و سلم والمؤمنين يعمهون
75
- عامهين مترددين في الضلال يقال عمه كمنع وفرح عمها وعموها وعموهة وعمهانا وقيل : هو ما هم فيه من شدة الخوف من القتل والسبي ومزيد الإضطراب من ذلك لما رأوا ما حل بمترفيهم يوم بدر وكشفه بأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالكف عن قتالهم وسبيهم بعد أو بنحو ذلك وهو وجه ليس بالبعيد وقيل : المراد بالضر عذاب الآخرة أي أنهم في الرداءة والتمرد إلى أنهم لو رحموا وكشف عنهم عذاب النار وردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه وفيه من البعد ما فيه
واستظهر أبو حيان أن المراد به القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر أنه مروي عن ابن عباس وابن جريج وقد دعا عليهم صلى الله عليه و سلم بذلك في مكة يوم ألقى عليه المشركون وهو قائم يصلي عند البيت سلى جزور فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ودعا بذلك أيضا بالمدينة فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام مكث شهرا إذا رفع رأسه من الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول : اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك الخ وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء وكلتا الروايتين ذكرهما برهان الدين الحلبي في سيرته والكثير على أنه الجوع الذي أصابهم من منع ثمامة الميرة عنهم وذلك أن ثمامة بن أثان الحنفي جاءت به إلى المدينة سرية محمد بن مسلمة حين بعثها صلى الله عليه و سلم إلى بني بكر ابن كلاب فأسلم بعد أن امتنع من الإسلام ثلاثة أيام ثم خرج معتمرا فلما قدم بطن مكة لبى وهو أول من دخلها ملبيا ومن هنا قال الحنفي : ومنا الذي لبى بمكة معلنا برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم فأحذته قريش فقالوا : لقد اجترأت علينا وقد صبوت يا ثمامة قال : أسلمت واتبعت خير دين دين محمد صلى الله عليه و سلم والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خرج ثمامة إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى أضربهم الجوع وأكلت قريش العلهز فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع إنك تأمر بصلة الرحم وأنت قد قطعت أرحامنا فكتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلىثمامة رضي الله تعالى عنه خل بين قومي وبين ميرتهم ففعل وفي رواية أن أبا سفيان جاءه صلى الله عليه و سلم فقال : ألست الخ ووجه الجمع ظاهر وكان هذا قبل الفتح بقليل وعندي أن لو تبعد هذا القول كما لا يخفى نعم أخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس ما هو نص في أن قصة ثمامة سبب لنزول قوله تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب إلى آخره فيكون الجوع مرادا من العذاب المذكور فيه على ذلك ولا يرد على من قال به قوله تعالى : فما استكانوا فما خضعوا بذلك لربهم لأن له أن يقول : المراد بالخضوع له عز و جل الإنقياد لأمره سبحانه والإيمان به جل وعلا وما كان منهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس منه في شيء والمشهور أن المراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر ولا يرد على من فسر العذاب في قوله سبحانه حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب به أيضا لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى إذا هم يجأرون وما هنا من نفي الإستكانة لربهم ونفي التضرع
(18/55)

المستفاد من قوله سبحانه وما يتضرعون
76
- إذ له أن يقول : الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الإستكانة لله عز و جل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالإستكانة له تعالى ما علمت آنفا من الإنقياد لأمره عز و جل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار مالم يكن كذلك وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات وقيل : ما تقدم لبيان حال المتقولين وما هنا لبيان حال الباقين وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلا ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى إذا هم يجأرون وقوله سبحانه وما يتضرعون أيضا واستكان استفعل من الكون وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الإنتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا وقال أبو العباس أحمد بن فارس : سئلت عن ذلك في بغداد لما دخلتها زمن الإمام الناصر وجمع لي علماؤها فقلت واستحسن مني : هو مشتق من قول العرب : كنت لك إذا خضعت وهي هذيلية وقد نقلها أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين وجوز الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله : وأنت من الغوائل حين ترمي ومن ذم الرجال بمنتزاح وقوله : أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب واعترض بأن الأشباع المذكور مخصوص بضرورة الشعر وبأنه لم يعهد كونه جميع تصاريف الكلمة واستكان جميع تصاريفه كذلك فهو يدل على أنه ليس مما فيه إشباع حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد من عذاب الآخرة كما ينبيء عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وإلى هذا ذهب الجبائي و حتى مع كونها غاية للنفي السابق مبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية كأنه قيل : هم مستمرون على هذه الحال حتى إذا فتحنا عليهم يوم القيامة بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه أي في ذلك الباب أو في ذلك العذاب أو بسبب الفتح أقوال مبلسون
77
- متحيرون آيسون من كل خير أو ذوو حزن من شدة البأس وهذا كقوله تعالى ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وقيل : هذا الباب استيلاء النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين عليهم يوم الفتح وقد أيسوا في ذلك اليوم من كل ما كان يتوهمونه من الخير وأخرج ابن جرير أنه الجوع الذي أكلوا فيه العلهز وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه القتل يوم بدر وروت الإمامية وهم بيت الكذب وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة ولعمري لقد افتروا على الله تعالى الكذب وضلوا ضلالا بعيدا والوجه في الآية عندي ما تقدم والظاهر أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها إخبارا عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع
وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية والأفئدة لتتفكروا
(18/56)

بها في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع وقدم السمع لكثرة منافعه وأفرد لأنه مصدر في الأصل ولم يجمعه الفصحاء في الأكثر وقيل : أفرد لأنه يدرك به نوع واحد من المدركات وهو الأصوات بخلاف البصر فإنه يدرك به الأضواء والألوان والأكوان والأشكال وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك به أنواع شتى من التصورات والتصديقات وفي الآية إشارة إلى الدليل الحسي والعقلي وتقديم ما يشير إلى الأول قد تقدم فتذكر فما في العهد من قدم قليلا ما تشكرون
78
- أي شكرا قليلا تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر صرف تلك القوى التي هي أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له فنصب قليلا على أنه صفة مصدر محذوف والقلة على ظاهرها بناء على أن الخطاب للناس بتغليب المؤمنين وجوز أن تكون بمعنى النفي بناء على أن الخطاب للمشركين على سبيل الإلتفات وقيل : هو للمؤمنين خاصة وليس بشيء والأولى عندي كونه للمشركين خاصة مع جواز كون القلة على ظاهرها كما لا يخفى على المتدبر و ما علا سائر الأقوال مزيدة للتأكيد
وهو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم وبثكم فيها وإليه تحشرون
79
- أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره تعالى فما لكم لا تؤمنون به سبحانه وتشكرونه عز و جل وهو الذي يحيي ويميت من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء وله تعالى شأنه خاصة اختلاف الليل والنهار أي هو سبحانه وتعالى المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما من قولهم : فلان يختلف فلان أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب أو تخالفهما زيادة ونقصا وقيل : المعنى لأمره تعالى وقضائه سبحانه اختلافهما ففي الكلام مضاف مقدر واللام عليه يجوز أن تكون للتعليل أفلا تعقلون
80
- أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل صار منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث وقرأ أبو عمرو في رواية يعقلون على الإلتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين وقيل : على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك
بل قالوا عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا مثل ما قال الأولوم
81
- أي آباؤهم ومن دان بدينهم من الكفرة المنكرين للبعث قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون
82
- تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا البعث من قبل متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى المعطوف عليه والمعطوف على ما هو الظاهر وصح ذلك بالنسبة إليهم لأن الأنبياء المخبرين بالبعث كانوا يخبرون به بالنسبة إلى جميع من يموت ويجوز أن يكون متعلقا به من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعدنا آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آبائنا أي كائنين من قبل إن هذا أي ما هذا إلا أساطير الأولين
83
- أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وإلى هذا ذهب المبرد وجماعة وقيل : جمع أسطار جمع سطر كفرس وأفراس والأول كما قال الزمخشري أوفق لأن جمع المفرد أولى وأقيس ولأن بنية أفعولة تجيء لما فيه التلهي فيكون حينئذ كأنه قيل مكتوبا لا طائل تحتها قل لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم
(18/57)

إن كنتم تعلمون
84
- جوابه محذوف ثقة بدلالة الإستفهام عليه أي إن كنتم من أهل العلم ومن العقلاء أو عالمين بذلك فأخبروني به وفي الآية من المبالغة في الاستهانة بهم وتقرير فرط جهالتهم ما لا يخفى
ويقوي هذا أنه أخبر على الجواب قبل أن يجيبوا فقال سبحانه : سيقولون لله فإن بداهة العقل تضطرهم إلى الإعتراف بأنه سبحانه خالقها فاللام للملك باعتبار الخلق قل أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم أفلا تذكرون
85
- أي أتعلمون أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء باهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول وقريء تتذكرون على الأصل قل من قال رب السماوات السبع ورب العرش العظيم
86
- أعيد لفظ الرب تنويها بشأن العرش ورفعا لمحله من أن يكون تبعا للسماوات وجودا وذكرا وقرأ ابن محيصن العظيم بالرفع نعتا للرب
سيقولون لله قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه وفيما بعده ولم يقرأ على ما قيل في السابق بترك اللام والقراءة بغير لام على الظاهر وباللام على المعنى وكلا الأمرين جائزان فلو قيل : من صاحب هذه الدار فقيل : زيد كان جوابا عن لفظ السؤال ولو قيل : لزيد لكان جوابا على المعنى لأن معنى من صاحب هذه الدار لمن هذه الدار وكلا الأمرين وارد في كلامهم أنشد صاحب المطلع : إذا قيل من رب الزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد وأنشد الزجاج وقال السائلون لمن حفرتم فقال المخبرون لهم وزير قل إفحاما لهم وتوبيخا أفلا تتقون
87
- أي أتعلمون ذلك ولا تتقون أنفسكم عقابه على ترك العمل بموجب العلم حيث تكفرون به تعالى وتنكرون ما أخبر به من البعث وتثبتون له سبحانه شريكا
قل من بيده ملكوت كل شيء مما ذكر ومما لم يذكر وصيغة الملكوت للمبالغة في الملك فالمراد به الملك الشامل الظاهر وقيل : المالكية والمدبرية وقيل : الخزائن وهو يجير أي يمنع من يشاء ممن يشاء ولا يجار عليه ولا يمنع أحد منه جل وعلا أحدا وتعدية الفعل بعلى لتضمينه معنى النصرة أو الإستعلاء إن كنتم تعلمون
88
- تكرير لاستهانتهم وتجهيلهم على ما مر سيقولون لله ملكوت كل شيء والوصف بأنه الذي يجير ولا يجار عليه قل تهجينا لهم وتقريعا فأنى تسخرون
89
- كيف أو من أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من البغي فإن من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك وهذه الآيات الثلاث أعني قل لمن إلى هنا على ما قرر الكشف للسابق وتمهيد للاحق وقد روعي في السؤال فيها قضية الترقي فسئل عمن له الأرض ومن فيها وقيل : من تغليبا للعقلاء ولأنه يلزم أن يكون له غيرهم من طريق الأولى ثم سئل عمن له السماوات والعرش العظيم والأرض بالنسبة إليه شيء ثم سئل عمن بيده ملكوت كل شيء فأتي بأعم العام وكلمة الإحاطة وأوثر الملكوت وهو الملك الواسع وقيل : بيده تصويرا وتخييلا وكذلك روعي هذه النكتة في الفواصل فعيروا أولا بعدم التذكر فإن أيسر النظر يكفي في انحلال عقدهم ثم الإتقاء وفيه وعيد ثم بالتعجب من خدع عقولهم فتخيل الباطل
(18/58)

حقا والحق باطل وأنى لها التذكر والخوف
بل أتيناهم بالحق إضراب عن قولهم إن هذه إلا أساطير الولين والمراد بالحق الوعد بالبعث وقيل : ما يعمه والتوحيد ويدل على ذلك السياق وقريء بل أتيتهم بتاء المتكلم وقرأ ابن أبي إسحاق بتاء الخطاب وإنهم لكاذبون
90
- في قولهم إن هذا إلا أساطير الأولين أو في ذلك وقولهم بما ينافي التوحيد ما اتخذ الله من ولد لتنزهه عز و جل عن الأحتياج وتقدسه تعالى عن مماثلة أحد
وما كان معه من إله يشاركه سبحانه في الألوهية إذا لذهب كل إله بما خلق أي لاستبد بالذي خلقه واستقل به تصرفا وامتاز ملكه عن ملك الآخر ولعلا بعضهم على بعض ولوقع التحارب والتغالب بينهم كما هو الجاري بين الملوك والتالي باطل لما يلزم من ذلك نفي ألوهية الجميع أو ألوهية ما عدا واحدا منهم وهو خلاف المفروض أو لما أنه يلزم أن لا يكون بيده تعالى وحده ملكوت كل شيء وهو باطل في نفسه لما برهن عليه في الكلام وعند الخصم لأنه يقول باختصاص ملكوت كل شيء به تعالى كما يدل عليه السؤال والجواب السابقان آنفا كذا قيل ولا يخفى أن اللزوم في الشرطية المفهومة من الآية عادي ولا عقلي ولذا قيل : إن الآية إشارة إلى دليل إقناعي للتوحيد لا قطعي
وفي الكشف قد لاح لنا من لطف الله تعالى وتأييده أن الآية برهان نير على توحيده سبحانه وتقريره أن مرجع الممكنات الواجب الوجود تعالى شأنه جل عن كل كثرة أما كثرة المقومات أو الأجزاء الكمية فبينة الإنتفاء لإيذانها بالإمكان وأما التعدد مع الإتحاد في الماهية فكذلك للإفتقار إلى المميز ولا يكون مقتضى الماهية لاتحادهما فيه فيلزم الإمكان ثم المميزان في الطرفين صفتا كمال لأن الإتصاف بما لا كمال فيه نقص فهما ناقصان ممكنان مفتقران في الوجود إلى مكمل خارج هو الواجب بالحقيقة وكذلك الإفتقار في كمال ما للوجود يوجب الإمكان لإيجابه أن يكون فيه أمر بالفعل وأمر بالقوة واقتضائه التركيب والإمكان
ومن هنا قال العلماء : إن واجب الوجود بذاته واجب بجميع صفاته ليس له أمر منتظر ومع الإختلاف في الماهية يلزم أن لا يكون المرجح مرجحا أي لا يكون الإله إلها لأن كل واحد من الممكنات إن استقلا بترجيحه لزم العلتين التامتين على معلول شخصي وهو ظاهر الإستحالة فكونه مرجحا إلها يوجب الإفتقار إليه وكون غيره مستقلا بالترجيح يوجب الإستغناء عنه فيكون مرجحا غير مرجح في حالة واحدة وإن تعاونا فكمثل إذ ليس ولا واحد منهما بمرجح وفرضا مرجحين ما فيه من العجز على الإيجاد والإفتقار إلى الآخر وإن اختص كل واحد منهما ببعض مع أن الإفتقار إليهما على السواء لزم اختصاص ذلك المرجح بمخصص يخصصه بذلك البعض بالضرورة وليس الذات لأن الإفتقار إليهما على السواء فلا أولوية للترجيح من حيث الذات ولا معلول الذات لأنه يكون ممكنا والكلام فيه عائد فيلزم المحال من الوجهين الأولين أعني الإفتقار إلى مميز غير الذات ومقتضاها ولزوم النقص لكل واحد لأن هذا المميز صفة كمال ثم مخصص كل بذلك التمييز هو الواجب الخارج لا هما وإلى المحال الأول الإشارة بقوله تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق وهو لازم على تقدير التخالف في الماهية واختصاص كل ببعض وخص هذا القسم لأن ما سواه أظهر استحالة وإلى
(18/59)

الثاني افشارة بقوله سبحانه ولعلا بعضهم على بعض أي إما مطلقا وإما من وجه فيكون العالي هو الإله أو لا يكون ثم إله أصلا وهذا لازم على تقديري التخالف والإتحاد والإختصاص وغيره فهو تكميل للبرهان من وجه وبرهان ثان من آخر فقد تبين ولا كفرق الفجر أنه تعالى هو الواحد الأحد جعل وجوده زائدا على الماهية أولا فاعلا بالإختيار أولا وليس برهان الوحدة مبنيا على أنه تعالى فاعل بالإختيار كما ظنه الإمام الرازي قدس سره انتهى وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق وربما يورد عليه بعض مناقشات تندفع بالتأمل الصادق وما أشرنا إليه من انفهام قضية شرطية من الآية ظاهر جدا على ما ذهب إليه الفراء فقد قال : إن إذا حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم تكن ظاهرة نحو إذا لذهب كل إله بما خلق فكأنه قيل : لو كان معه آلهة كما تزعمون لذهب كل الخ
وقال أبو حيان : إذا حرف جواب وجزاء ويقدر قسم يكون لذهب جوابا له والتقدير والله إذا أي إن كان معه من إله لذهب وهو في معنى ليذهبن كقوله تعالى ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا أي ليظلن لأن إذا تقتضي الإستقبال وهو كما ترى وقد يقال : إن إذا هذه ليست الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ والأصل إذا كان معه من إله لذهب الخ والتعبير بإذا من قبيل مجاراة الخصم وقيل : كل إله لما أن النفي عام يفيد استغراق الجنس و ما في بما خلق موصولة حذف عائدها كما أشرنا إليه
وجوز أن تكون مصدرية ويحتاج إلى نوع تكلف لا يخفى ولم يستدل على انتفاء اتخاذ الولد إما لغاية ظهور فساده أو للإكتفاء بالدليل الذي أقيم على انتفاء أن يكون معه سبحانه إله بناء على ما قيل أن ابن الإله يلزم أن يكون إلها إذ الولد يكون من جنس الوالد وجوهره وفيه بحث سبحان الله عما يصفون
91
- مبالغة في تنزيهه تعالى عن الولد والشريك وما موصولة وجوز أن تكون مصدرية وقريء تصفون بتاء الخطاب عالم الغيب والشهادة أي كل غيب وشهادة وجر عالم على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة لأنه أريد به الثبوت والإستمرار فيتعرف بالإضافة
وقرأ جماعة من السبعة وغيرهم برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم والجر أجود عند الأخفش والرفع أبرع عند ابن عطية وأياما كان فهو على ما قيل إشارة إلى دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافق المسلمين والمشركين في تفرده تعالى بذلك وفي الكشف أن في قوله سبحانه عالم الخ إشارة إلى برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصور ثم علمه به يكون انفعاليا تابعا لوجود المعلوم فيكون في إحدى صفات الكمال أعني العلم مفتقرا وهو يؤذن بالنقصان والإكمان فتعالى الله عما يشركون
92
- تفريع على كونه تعالى عالما بذلك فهو كالنتيجة لما أشار إليه من الدليل
وقال ابن عطية : الفاء عاطفة كأنه قيل علم الغيب والشهادة فتعالى كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته على معنى شجع فعظمت ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى الخ على أنه إخبار مستأنف قل رب أما تريني
(18/60)

أي إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد ما يوعدون
93
- أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل واما العذاب الأخرى فلا يناسب المقام رب فلا تجعلني في القوم الظالمين
94
- أي قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة من الإبتهال والتضرع واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد وفي أمره صلى الله عليه و سلم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة و السلام في حرز عظيم من أن يجعل قرينا لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الإستهزاء
وقيل أمر صلى الله عليه و سلم بذلك هضما لنفسه وإظهارا لكمال العبودية وقيل لأن شؤم الكفة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وروي عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلى الله عليه و سلم بأن له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء
وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني ترئني بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف
وإنا على أن نريك ما نعدهم من العذاب لقادرون
95
- ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة قال شيخ الإسلام : ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلى الله عليه و سلم للحكمة الداعية إليه
إدفع بالتي هي أحسن أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها السيئة بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة ودونه أنه يصفح عن إساءته فقط وفي ذلك من الحث له صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ما يليق بشأنه الكريم من حسن الأخلاق ما لا يخفى وهو أبلغ من ادفع بالحسنة لمكان أحسن والمفاضلة فيه على حقيقتها على ما ذكرنا وهو وجه حسن في الآية وجوز أن تعتبر المفاضلة بين الحسنة والسيئة على معنى أن الحسنة في باب الحسنات أزيد من السيئة في باب السيئات ويطرد هذا في كل مفاضلة بين ضدين كقولهم : العسل أحلى من الخل فإنهم يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال : نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا فإنه عنى استواءهما في بلوغ كل منهما الغاية حيث بلغ هو الغاية في التدلي والأعمش الغاية في التعلي وعلى الوجهين لا يتعين هذا إلا حسن وكذا السيئة
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس أنه قال في الآية : يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول : إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لك وإن كنت صادقا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لي
وقيل : التي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك وقال عطاء والضحاك : التي هي أحسن
(18/61)

السلام والسيئة الفحش وقيل : الأول الموعظة والثاني المنكر واختار بعضهم العموم وأن ما ذكر من قبيل التمثيل والآية قيل : منسوخة بآية السيف وقيل : هي محكمة لأن الدفع المذكور مطلوب مالم يؤد إلى ثلم الدين والإزراء بالمروءة نحن أعلم بما يصفون
96
- أي بوصفهم إياك أو بالذي يصفونك به مما أنت بخلافه وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإرشاد له عليه الصلاة و السلام إلى تفويض أمره إليه عز و جل والظاهر من هذا أن الآية آية موادعة فافهم
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين
97
- أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وهي جمع همزة والهمز النخس والدفع بيد أو غيرها ومنه مهماز الرائض لحديدة تربط على مؤخرة رجله ينخس به الدابة لتسرع أو لتثب وإطلاق ذلك على الوسوسة والحث على المعاصي لما بينهما من الشبه الظاهر والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد الشياطين وأعوذ بك أن يحضرون
98
- أي من حضورهم حولي في حال الأحوال وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحال لحلول الأجل كما روي عن عكرمة لأنها أحرى الأحوال بالإستعاذة منها لا سيما الحال الأخيرة ولذا قيل : اللهم إني أعوذ بك من النزع عند النزع وإلى العموم ذهب ابن زيد وفي الأمر بالتعوذ من الحضور بعد الأمر بالتعوذ من همزاتهم مبالغة في التحذير من ملابستهم وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الإعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الإبتهال في الإستدعاء ويسن التعوذ من همزات الشياطين وحضورهم عند إرادة النوم فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون حتى إذا جاء أحدهم الموت حتى ابتدائية وغاية لمقدر يدل عليه ما قبلها والتقدير فلآ أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين وتحضرهم حتى إذا جاء إلخ و ونظير ذلك قوله :
فيا عجبا حتى كليب تسبني
فإن التقدير يسبني كل الناس حتى كليب إلا أنه حذفت الجملة ما بعد حتى وقيل إن هذا الكلام مردود على يصفون الثاني على معنى إن حتى متعلقة بمحذوف يدل عليه كأنه قيل : لا يزالون على سوء المقالة والطعن في حضرة الرسالة حتى إذا الخ وقوله تعالى وقل رب الخ اعتراض مؤكد للأعضاء المدلول عليه بقوله سبحانه ادفع بالتي هي أحسن الخ بالإستعاذة به تعالى من الشياطين أن يزلوه عليه الصلاة و السلام عما أمر به وقيل على يصفون الأول أو على يشركون وليس بشيء
وجوز الزمخشري أن يكون مرورا على قوله تعالى وإنهم لكاذبون ويكون من قوله سبحانه ما اتخذ الله من ولد إلى هذا المقام كالإعتراض تحقيقا لكذبهم ولاستحقاقهم جزاءه وليس بالوجه ويفهم من كلام ابن عطية أنه يجوز أن تكون حتى هنا ابتدائية لا غاية لما قبلها وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت ابتدائية لا تفارقها الغاية والظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن ضمير أحدهم راجع إلى الكفار والمراد من مجيء الموت ظهور أماراته أي ظهر لأحدهم أي أحد منهم أمارات الموت وبدت له أحوال
(18/62)

الآخرة قال تحسرا على ما فرط في جنب الله تعالى رب ارجعون
99
- أي ردني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى كما في قوله : ألا فاحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل وقول الآخر : وإن شئت حرمت النساء سواكم ولإن شئت لم أطعم خاولا بردا والحق أن التعظيم يكون في ضمير المتكلم والمخاطب بل والغائب والاسم الظاهر وإنكار ذلك غير رضي والإيهام الذي يدعيه ابن مالك هنا لا يلتفت إليه وقيل : الواو لكون الخطاب للملائكة عليهم السلام والكلام على تقدير مضاف أي يا ملائكة ربي أرجعوني وجوز أن يكون رب استغاثة به تعالى و أرجعوني خطاب للملائكة عليهم السلام وربما يستأنس لذلك بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن جرير قال : زعموا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا : نرجعك إلى دار الدنيا قال : إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى وأما الكافر فيقولون له نرجعك فيقول : رب ارجعوني وقال المازني : جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب أرجعني أرجعني أرجعني ومثل ذلك تثنية الضمير في قفا نبك ونحوه
واستشكل ذلك الخفاجي بأنه كان أصل ارجعوا مثلا ارجع ارجع ارجع لم يكن ضمير الجمع بل تركيبه الذي فيه حقيقة فإذا كان مجازا فمن أي أنواعه وكيف دلالته على المراد وما علاقته وإلا فهو مما لا وجه له ومن غريبه أن ضميره كان مفردا واجب الإستتار فصار غير مفرد واجب الإظهار ثم قال : لم تزل هذه الشبهة قديما في خاطري والذي خطر لي أن لنا استعارة أخرى غير ما ذكر في المعاني ولكونها لا علاقة لها بالمعنى لم تذكر وهي استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة بقطع النظر عن معناه وهو كثير في الضمائر كاستعمال الضمير المجرور والظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى ومن لفظ إلى آخر وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه غير الضمائر المستترة إلى ضمير جمع ظاهر فلزم الإكتفاء بأحد ألفاظ الفعل وجعل دلالة ضمير الجمع تكرر الفعل قائما مقامه في التأكيد من غير تجوز فيه ولابن جني في الخصائص كلام يدل على ما ذكرناه فتأمل انتهى كلامه
ولعمري لقد أبعد جدا ولعل الأقرب أن يقال : أراد المازني أنه جمع الضمير للتعظيم بتنزيل المخاطب الواحد منزلة الجماعة المخاطبين ويتبع ذلك كون الفعل الصادر منه بمنزلة الفعل الصادر من الجماعة ويتبعهما كون ارجعوني مثلا بمنزلة أرجعني أرجعني أرجعني لكن إجراء نحو هذا في نحو قفا نبك لا يتسنى إلا إذا قيل بأنه قد يقصد بضمير التثنية التعظيم كما قد يقصد ذلك بضمير الجمع ولم يخطر لي أني رأيته فليتتبع وليتدبر لعلي أعمل صالحا فما تركت أي في الإيمان الذي تركته ولعل للترجي وهو إما راجع للعمل والإيمان لعلمه لعدم الرجوع أو للعمل فقط لتحقيق إيمانه إن رجع فهو كما في قولك : لعلي أربح في هذا المال أو كقولك : لعلي أبني على أس أي أسس ثم أبني وقيل : فيما تركت من المال أو من الدنيا جعل مفارقة ذلك تركا له ويجوز أن تكون لعل للتعليل
(18/63)

وفي البرهان حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى : لعلكم تخلدون فإنها للتشبيه
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك نحوه ثم إن طلب الرجعة ليس من خواص الكفار فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مانع الزكاة وتارك الحج المستطيع يسألان الرجعة عند الموت وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول رب أرجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت وهذا الخبر يؤيد أن المراد مما تركت المال ونحوه كلا ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها إنها أي قوله رب أرجعوني الخ كلمة هو قائلها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة وتسلط الندم عليه فتقديم المسند إليه للتقوى أو هو قائلها وحده فالتقديم للإختصاص ومعنى ذلك أنه لا يجاب إليها ولا تسمع منه بتنزيل الإجابة والإعتداد منزلة قولها حتى كأن المعتد بها شريك لقائلها ومثل هذا متداول فيقول من كلمه صاحبه بما لا جدوى تحته : اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة فتكلم واستمع يعني أنها مما لا تسمع منك ولا تستحق الجواب والكلمة هنا بمعنى الكلام كما في قولهم : كلمة الشهادة وهي في هذا المعنى مجاز عند النحاة وأما عند اللغويين فقيل حقيقة وقيل مجاز مشهور
والظاهر أن كلا وما بعدها من كلامه تعالى وأبعد جدا من زعم أن كلا من قول من عاين الموت وأنه يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ومن ورائهم أي أمامهم وقد مر تحقيقه والضمير لأحدهم والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الأفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ برزخ حاجز بينهم وبين الرجعة إلى يوم يبعثون
100
- من قبورهم وهو يوم القيامة وهذا تعليق لرجعتهم إلى الدنيا بالمحال كتعليق دخولهم الجنة بقوله سبحانه حتى يلج الجمل في سم الخياط وعن ابن زيد أن المراد من ورائهم حاجز بين الموت والبعث في القيامة من القبور إلى يوم يبعثون وقيل : حاجز بينهم وبين الجزاء التام باق إلى يوم القيامة فإذا جاء ذلك اليوم جوزوا على أتم وجه فإذا نفخ في الصور لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث والنشور وقيل : المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع صورة على نحو بسر وبسرة لا القرن وأيد بقراءة ابن عباس والحسن وابن عياض في الصور بضم الصاد وفتح الواو وقراءة ابن رزين في الصور بكسر الصاد وفتح الواو فإن المذكور في هاتين القاءتين جمع صورة لا بمعنى القرن قطعا والأصل توافق معاني القراءات ولا تنافي بين النفخ في الصور بمعنى القرن الذي جاء في الخبر ودلت عليه أخر وبين النفخ في الصور جمع صورة فقد جاء أن هذا النفخ عند ذاك فلا أنساب بينهم يومئذ أي يوم إذ نفخ في الصور كما هي بينهم اليوم والمراد أنها لا تنفعهم شيئا فهي منزلة منزلة العدم لعظم الهول واشتغال كل بنفسه بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولين والآخرين
(18/64)

وفي لفظ يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد ألا إن هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه وفي لفظ من كان له مظلمة فليجيء ليأخذ حقه فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم وهذا الأثر يدل على أن هذا الحكم غير خاص بالكفرة بل يعمهم وغيرهم وقيل : هو خاص بهم كما يقتضيه سياق الآية وقيل لا ينفع نسب يومئذ إلا نسبه صلى الله عليه و سلم
فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي
وقد أخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه مرفوعا وأخرج ابن عساكر نحوه مرفوعا أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو خبر مقبول لا يكاد يرده إلا من قلبه شائبة نصب نعم ينبغي القول بأن نفع نسبه صلى الله عليه و سلم إنما هو بالنسبة للمؤمنين الذين تشرفوا به وأما الكافر والعياذ بالله تعالى فلا نفع له بذلك أصلا وقد يقال : إن هذا الخبر لا ينافي إرادة العموم في الآية بأن يكون المراد نفي الإلتفات إلى الأنساب عقيب النفخة الثانية من غير فصل حسبما يؤذن به الفاء الجزائية فإنها على المختار تدل على التعقيب ويكون المراد تهويل شأن ذلك الوقت ببيان أنه يذهل فيه كل أحد عمن بينه وبينه نسب ولا يلتفت إليه ولا يخطر هو بباله فضلا عن أنه ينفعه أو لا ينفعه وهذا لا يدل على عدم نفع كل نسب فضلا عن عدم نفع نسبه صلى الله عليه و سلم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكى عن الجبائي أن المراد أنه لا يفتخر يومئذ بالأنساب كما يفتخر بها في الدنيا وإنما يفتخر هناك بالأعمال والنجاة من الأهوال فحيث لم يفتخر بها ثمت كانت كأنها لم تكن فعلى هذا وكذا على ما تقدم يكون قوله تعالى فلا أساب من باب المجاز
وجوز أن يكون فيه صفة مقدرة أي فلا أنساب نافعة أو ملتفتا إليها أو مفتخرا بها وليس بذاك والظاهر أن العامل في يومئذ هو العامل في بينهم لا أنساب لما لا يخفى ولا يتساءلون
101
- أي ولا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وممن هو ونحو ذلك لاشتغال كل منهم بنفسه عن الإلتفات إلى أبناء جنسه وذلك عقيب النفخة الثانية من غير فصل أيضا فهو مقيد بيومئذ وإن لم يذكر بعده اكتفاء بما تقدم وكان كلا الحكمين بعد تحقيق أمر تلك النفخة لديهم ومعرفة أنها لماذا كانت وحينئذ يجوز أن يقال : إن قولهم من بعثنا من مرقدنا قبل تحقق أمر تلك النفخة لديهم فلا أشكال ويحتمل أن كلا الحكمين في مبدأ الأمر قبل القول المذكور كأنهم حين يسمعون الصيحة يذهلون عن كل شيء الأنساب وغيرها كالنائم إذا صيح به صيحة مفزعة فهب من منامه فزعا ذاهلا عمن عنده مثلا فإذا سكن روعهم في الجملة قال قائلهم من بعثنا من مرقدنا وقيل : لا نسلم أن قولهم من بعثنا من مرقدنا أنه كان بطريق التساؤل وعلى الإحتمالين لا يشكل هذا مع قوله تعالى في شأن الكفرة يوم القيامة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وفي شأن المؤمنين فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فإن تساؤل الكفرة المنفي في موطن وتساؤلهم المثبت في موطن آخر ولعله عند جهنم وهو بعد النفخة الثانية بكثير وكذا تساؤل المؤمنين بعدها بكثير أيضا فإنه في الجنة كما يرشد إليه الرجوع إلى ما قبل الآية وقد يقال : إن التساؤل المنفي هنا تساؤل التعارف ونحوه مما يترتب عليه دفع مضرة
(18/65)

أو جلب منفعة والتساؤل المثبت لأهل النار تساؤل وراء ذلك وقد بينه سبحانه بقوله عز من قائل قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين الآية وقد بين جل وعلا تساؤل أهل الجنة بقوله سبحانه قال قائل منهم إنى كان لي قرين الآية وهو أيضا نوع آخر من التساؤل ليس فيه أكثر من الإستئناس دون دفع مضرة عمن يتكلم معه أو جلب منفعة له
وقيل المنفي التساؤل بالأنساب فكأنه قيل بينهم لا يسأل بعضهم بعضا بها والمراد أنها لا تنفع في نفسها وعندهم والآية في شأن الكفرة وتساؤلهم المثبت في آية أخرى ليس تساؤلا بالأنساب وهو ظاهر فلا إشكال وروي جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن وجه الجمع بين النفي هنا والإثبات في قوله سبحانه وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فقال : إن نفي التساؤل في النفخة الأولى حين لا يبقى على وجه الأرض شيء وإثباته في النفخة الثانية وعلى هذا فالمراد عنده بقوله تعالى فإذا نفخ في الصور فإذا نفخ النفخة الأولى وهذه إحدة روايتين عنه رضي الله تعالى عنه والرواية الثانية حمله على النفخة الثانية وحينئذ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها وقرأ ابن مسعود ولا يساءلون بتشديد السين فمن ثقلت موازينه أي موزونات حسناته من العقائد والأعمال ويجوز أن تكون الموازين جمع ميزان ووجه جمعه قد مر
والمعنى عليه من ثقلت موازينه بالحسنات فأولئك هم المفلحون
102
- الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مهروب ومن خفت موازينه أي موازين أعماله الحسنة أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهي أعماله السيئة كذا قيل وهو مبني على اختلافهم في وزن أعمال الكفرة فمن قال به قال بالأول ومن لم يقل به قال بالثاني وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة الأعراف فتذكر
فأولئك الذين خسروا أنفسهم ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلو استعدادها لنيل كمالها واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول وجمعه باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه
في جهنم خالدون
103
- خبر ثان لأولئك وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم خالدون في جهنم والجملة إما استئنافية جيء بها لبيان خسرانهم وإما خبر ثان لأولئك أيضا وجوز أن يكون الذين نعتا لاسم الإشارة و خالدون هو الخبر وقيل : خالدون مع معموله بدل من الصلة قال الخفاجي : أي بدل اشتمال لأن خلودهم في جهنم يشتمل على خسرانهم وجعل كذلك نظرا لأنه بمعنى يخلدون في جهنم وبذلك يصلح لأن يكون صلة كما يقتضيه الإبدال من الصلة وظاهر صنيع الزمخشري يقتضي ترجيح هذا الوجه وليس عندي بالوجه كما لا يخفى وجهه وتعقب أبو حيان القول بأن في جهنم خالدون بدل فقال : هذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل ما يتعلق به في جهنم أي استقروا وكأنه من يدل الشيء من الشيء وهما لمسعة واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم وأنت تعلم أن الظاهر تعلق في جهنم بخالدون وأن تعليقه بمحذوف وجعل ذلك المحذوف بدلا وإبقاء خالدون مفلتا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه مع ظهور الوجه الذي لا تكلف فيه وقوله تعالى : تلفح وجوههم النار جملة حالية أو مستأنفة واللفح مس لهب النار الشيء وهو كما قال الزجاج أشد من النفح تأثيرا والمراد تحرق وجوههم النار وتخصيص الوجوه
(18/66)

بذلك لأنها أشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل
وهم فيها كالحون
104
- متقلصو الشفاه عن الأسنان من أثر ذلك اللفح وقد صح من رواية الترمذي وجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في الآية تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى تلفح الخ : تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكلوح بسور الوجه وتقطيبه وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة كلحون بغير ألف جمع كلح كحذر ألم تكن آياتي تتلى عليكم على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفا وتوبيخا وتذكيرا لما به استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا فكنتم بها تكذبون
105
- حينئذ قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا أي استولت علينا وملكتنا شقاوتنا التي اقتضاها سوء استعدادنا كما يوميء إلى ذلك إضافتها إلى أنفسهم وقرأ شبل في اختياره شقوتنا بفتح الشين وقرأ عبد الله واتلحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم شقاوتنا بفتح الشين وألف بعد القاف وقرأ قتادة أيضا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه شقاوتنا بالألف وكسر الشين وهي في جميع ذلك مصدر ومعناها ضد السعادة وفسرها جماعة بسوء العاقبة التي علم الله تعالى أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم ونسب ذلك لجمهور المعتزلة وعن الأشاعرة أن المراد بها ما كتبه الله تعالى عليهم في الأزل من الكفر والمعاصي وقال الجبائي : المراد بها الهوى وقضاء اللذات مجازا من باب إطلاق المسبب على السبب وأيا ما كان فنسبة الغلب إليها لاعتبار تشبيهها بمن يتحقق منه ذلك ففي الكلام استعارة مكنية تخييلية ولعل الأولى أن يخرج الكلام مخرج التمثيل ومرادهم بذلك على جميع الأقوال في الشقوة الإعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم لأن منشأها على جميع الأقوال عند التحقيق ما هم عليه في أنفسهم فكأنهم قالوا : ربنا غلب علينا أمر منشؤه ذواتنا وكنا بسبب ذلك قوما ضالين
106
- عن الحق مكذبين بما يتلى من الآيات فما تنسب إلى حيف في تعذيبنا ولا يجوز أن يكون اعتذارا بما علمه الله تعالى فيهم وكتبه عليهم من الكفر أي غلب علينا ما كتبته علينا من الشقاوة وكنا في علمك قوما ضالين أو غلب علينا ما علمته وكتبته وكنا بسبب ذلك قوما ضالين فما وقع منا من التكذيب بآياتك لا قدرة لنا على رفعه وإلا لزم انقلاب العلم وهو محال لأن ذلك باطل في نفسه لا يصلح للإعتذار فإنه سبحانه ما كتب إلا ما علم وما هم عليه في نفس الأمر من سوء الإستعداد المؤدي إلى سوء الإختيار فإن العلم على ما حقق في موضعه تابع للمعلوم ويؤيد دعوى الإعتراف قوله تعالى حكاية عنهم
ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالموا
107
- أي ربنا أخرجنا من النار وأرجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه فيها من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم لأن اجتراءهم على هذا الطلب أوفق بكون ما قبله اعترافا فإنه كثيرا ما يهون به المذنب غضب من أذنب إليه والإعتذار وإن كان كذلك بل أعظم إلا أن هذا الإعتذار أشبه شيء بالإعتراض الموجب لشدة الغضب الذي لا يحسن معه الإقدام على مثل
(18/67)

هذا الطلب هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والإعتذار به نافع لم يقدموا عليه ومع هذا الإعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافا لأنهم إنما قالوه تمهيدا للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت ثم إن القوم لعلهم ظنوا تغير ما هم عليهم من سوء الإستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا
وفي قولهم : عدنا إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل قال الله سبحانه إقناطا لهم أشد إقناط إخسئوا فيها أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية ولا تكلمون
108
- باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا وقيل : لا تكلمون في رفع العذاب ولعل الأول أوفق بما قبله بالتعليل الآتي وقيل : لا تكلمون أبدا وهو آخر كلام يتكلمون به
أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن الله تعالى إذا قال لأهل النار إخسئوا فيها ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم وأخرج الطبراني والبيهقي في البعث وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والحاكم وصححه وجماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن أهل جهنم ينادون مالكا ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلمون قال : فما يبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن كعب قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ثم يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحا إنا موقنون فيجيبهم الله تعالى فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ثم يقولون ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل فيجيبهم الله تعالى أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال ثم يقولون ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فيجيبهم الله تعالى أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءهم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ثم يقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيجيبهم الله تعالى إخسئوا فيها ولا تكلمون فلا يتكلمون بعدها أبدا وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الإعتبار تعالى أعلم
إنه تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن وقرأ أبي وهارون العتكي أنه بفتح الهمزة أي لأن الشأن كان في الدنيا تريدون الرجعة إليها فريق من عبادي وهم المؤمنون
(18/68)

وقيل : هم الصحابة وقيل : أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين
يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين
109
- فاتخذتموهم سخريا أي هزؤا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين خوفا من هذا اليوم بقولهم ربنا آمنا الخ حتى أنسوكم بتشاغلكم بالإستهزاء بهم ذكرى أي خوف عقابي في هذا اليوم
وكنتم منهم تضحكون
110
- وذلك غاية الإستهزاء وقيل : التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتم لأنكم استهزأتم غاية الإستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكرى بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم وقيل : خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون فتشاغلتم بهم ساخرين واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم ذلك إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الإستهزاء بهم ثم قيل : وهذا التذنيب لازم ليصح قوله تعالى : إنه كان الخ تعليلا ويرتبط الكلام ويتلاءم مع قوله سبحانه : وكنتم منهم تضحكون ولو لم يرد به ذلك يكون إنساء الذكر كالأجنبي في هذا المقام وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم كما نبه عليه أولا في قوله تعالى من عبادي وختمه بقوله سبحانه : إني جزيتهم إلى قوله تعالى : هم الفائزون وزاد في خسئهم بإعزاز أضدادهم انتهى ولا يخلو عن بحث
وقرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بضم السين وباقي السبعة بكسرها والمعنى عليهما واحد وهو الهزؤ عند الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء : مضموم السين بمعنى الإستخدام من غير أجرة ومكسورها بمعنى الإستهزاء وقال يونس : إذا أريد الإستخدام ضم السين لا غير وإذا أريد الهزؤ جاز الضم والكسر وهو في الحالين مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة كما في أحمري وقوله تعالى : إني جزيتهم اليوم بما صبروا أي بسبب صبرهم على أذيتكم استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم وفيه إغاظة لهم وقوله سبحانه إنهم هم الفائزون
111
- إما في موضع المفعول الثاني للجزاء وهو يتعدى له بنفسه وبالباء كما قال الراغب أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم كما يؤذن به معمول الوصف حال كونهم مخصوصين بذلك كما يؤذن به توسيط ضمير الفصل وأما في موضع جر بلام تعليل مقدرة أي لفوزهم بالتوحيد المؤدي إلى كل سعادة ولا يمنع من ذلك تعليل الجزاء بالصبر لأن الأسباب لكونها ليست عللا تامة يجوز تعددها
وقا زيد بن علي وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع إنهم بالكسر على أن الجملة استئناف معلل للجزاء وقيل : مبين لكيفيته فتدبر قال الله تعالى شأنه أو الملك المأمور بذلك لا بعض رؤساء أهل النار كما قيل تذكيرا لما لبثوا فيما سألوا الرجعة إليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته وفيه توبيخ على إنكارهم الآخرة وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير قل على الأمر للملك لا لبعض الرؤساء كما قيل ولا لجميع الكفار على إقامة الواحد مقام الجماعة كما زعمه الثعالبي كم لبثتم في الأرض التي تدعون أن ترجعوا إليها
(18/69)

أي كم أقمتم فيها أحياء عدد سنين
112
- تمييز لكم وهي ظرف زمان للبثتم وقال : أبو البقاء عددا بدل من كم وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم عددا بالتنوين فقال أبو الفضل الرازي سنين نصب على الظرف وعددا مصدر أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدم على المنعوت وتجويز أن يكون معنى لبثتم عددتم بعيد وقال أبو البقاء : سنين على هذه القراءة بدل من عددا
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم استقصارا لمدة لبثهم بالنسبة إلى ما تحققوه من طول زمان خلودهم في النار وقيل : استقصروها لأنها كانت أيام سرورهم بالنسبة إلى ما هم فيه وأيام السرور قصار وقيل : لأنها كانت منقضية والمنقضي لا يعتنى بشأنه فلا يدري مقداره طولا وقصرا فيظن أنه كان قصيرا فاسأل العادين
113
- أي المتمكنين من العد فإنا بما دهمنا من العذاب بمعزل من ذلك أو الملائكة العادين لأعمال العباد وأعمالهم على ما رواه جماعة عن مجاهد
وقرأ الحسن والكسائي في رواية العادين بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما نقول كان الأتباع يسمون الرؤساء بذلك لظلمهم إياهم بإضلالهم وقريء العاديين بتشديد الياء جمع عادي نسبة إلى قوم عاد والمراد بهم المعمرون لأن قوم عاد كانوا يعمرون كثيرا أي فاسئل القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون مدة لبثهم قال أي الله تعالى أو الملك وقرأ الإخوان قل على الأمر كما قرآ فيما مر كذلك
وفي الدر المصون الفعلان في مصاحف الكوفة بغير ألف وبألف في مصاحف مكة والمدينة : والشام والبصرة ونقل مثله عن ابن عطية وفي الكشاف عكس ذلك وكأن الرسم بدون ألف يحتمل حذفها من الماضي على خلاف القياس وفي رسم المصحف من الغرائب ما لا يخفى فلا تغفل
إن لبثتم أي ما لبثتم إلا قليلا تصديق لهم في مقالتهم لو أنكم كنتم تعلمون
114
- أي تعلمون شيئا أو لو كنتم من أهل العلم و لو شرطية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الكلام عليه أي لو كنتم تعلمون لعلمتم يومئذ قصر أيام الدنيا كما علمتم اليوم ولعلمتم بموجب ذلك ولم يصدر منكم ما أوجب خلودكم في النار وقولنا لكم اخسؤا فيها ولا تكلمون وقيل المعنى لو كنتم تعلمون قلة لبثكم في الدنيا بالنسبة للآخرة ما أغتررتم بها وعصيتم وكأن نفي العلم بذلك عنهم على هذا لعدم علمهم بموجبه ومن لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء
وقدر أبو البقاء الجواب لما أجبتم بهذه المدة ولعله يجعل الكلام السابق ردا عليهم لا تصديقا وإلا لا يصح هذا التقدير وجوز أن تكون لو للتمني فلا تحتاج لجواب ولا ينبغي أن تجعل وصيلة لأنها بدون الواو نادرة أو غير موجودة هذا وقال غير واحد من المفسرين : المراد يؤالهم عن لبثهم في القبور حيث إنهم كانوا يزعمون أنهم بعد الموت يصيرون ترابا ولا يقومون من قبورهم أبدا
وزعم ابن عطية أن هذا هو الأصوب وأن قوله سبحانه فيما بعد وأنكم إلينا لا ترجعون يقتضيه وفيه منع ظاهر ويؤيد ما ذهبنا إليه ما روي مرفوعا أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال : يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال : لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم يقول : يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد
(18/70)

سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئسما أنجزتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم أنما خلقناكم بغير حكمة حتى أنكرتم البعث فعبثا حال من نون العظمة أي عابثين أو مفعول له أي أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث وهو ما خلا عن الفائدة مطلقا أو عن الفائدة المعتد بها أو عما يقاوم الفعل كما ذكره الأصوليون
واستظهر الخفاجي إرادة المعنى الأول هنا واختار بعض المحققين الثاني وأنكم إلينا لا ترجعون
115
- عطف على أنما خلقناكم أي أفحسبتم ذلك وحسبتم أنكم لا تبعثون
وجوز أن يكون عطفا على عبثا والمعنى أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث ولترككم غير مرجوعين أو عابثين ومقدرين أنكم إلينا لا ترجعون وفي الآية توبيخ لهم على تغافلهم وإشارة إلى أن الحكمة تقتضي تكليفهم وبعثهم للجزاء وقرأ الإخوان ترجعون بفتح التاء من الرجوع فتعالى الله استعظام له تعالى ولشؤنه سبحانه التي يصرف عليها عباده جل وعلا من البدء والإعادة والإثابة والعقاب بموجب الحكمة البالغة أي ارتفع سبحانه بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح الحميدة
الملك الحق أي الحقيق بالمالكية على الإطلاق إيجادا وإعداما بدأ وإعادة إحياء وإماته عقابا وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكوتيته وقيل : الحق أي الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه وهذا وإن كان أشهر إلا أن الأول أوفق بالمقام لا إله إلا هو فإن كل ما عداه عبيده تعالى رب العرش الكريم
116
- وهو جرم عظيم وراء عالم الأجسام والأجرام وهو أعظمها وقد جاء في وصف عظمه ما يبهر العقول فيلزم من كونه تعالى ربه كونه سبحانه رب كل الأجسام والأجرام ووصف بالكريم لشرفه وكل ما شرف في بابه وصف بالكرم كما في قوله تعالى وزروع ومقام كريم وقوله سبحانه وقل لهما قولا كريما إلى غير ذلك
وقد شرف بما أودع الله تعالى فيه من الأسرار وأعظم شرف له تخصيصه باستوائه سبحانه عليه وقيل إسناد الكرم إليه مجازي والمراد الكريم ربه أو المراد ذلك على سبيل الكناية وقيل : هو على تشبيه العرش لنزول الرحمة والبركة منه بشخص كريم ولعل ما ذكرناه هو الأظهر
وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير الكريم بالرفع على أنه صفة الرب وجوز أن يكون صفة للعرش على القطع وقد يرجح بأنه أوفق بقراءة الجمهور ومن يدع أي يعبد مع الله أي مع وجوده تعالى وتحققه سبحانه إلها آخر إفرادا أو إشراكا أو من يعبد مع عبادة الله تعالى إلها آخر كذلك ويتحقق هذا في الكافر إذا أفرد معبوده الباطل بالعبادة تارة وأشركه مع الله تعالى أخرى وقد يقتصر على إرادة الإشراك في الوجهين ويعلم حال من عبد غير الله سبحانه إفرادا بالأولى
وذكر آخر قيل إنه للتصريح بألوهيته تعالى وللدلالة على الشريك فيها وهو المقصود فليس ذكره تأكيدا لما تدل عليه المعية وإن جوز ذلك فتأمل
نعم قوله تعالى لا برهان له به صفة لازمة لإلها لا مقيدة جيء بها للتأكيد وبناء الحكم المستفاد من جزاء الشرط من الوعيد بالجزاء على قدر ما يستحق تنبيها على أن التدين الدليل على خلافه ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء جيء به للتأكيد كما في قولك : من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله تعالى مثيبه
ومن الناس من زعم أنه جواب الشرط دون قوله تعالى قائما حسابه عند ربه وجعله تفريعا على الجملة وليس بصحيح لأنه يلزم عليه حذف الفاء في جواب الشرط ولا يجوز ذلك كما قال أبو حيان إلا في الشعر
والحساب كناية عن المجازاة كأنه قيل : من يعبد إلها مع الله تعالى سبحانه مجاز له على قدر ما يستحقه إنه لا يفلح الكافرون
117
- أي إن الشأن لا يفلح الخ
وقرأ الحسن وقتادة أنه بالفتح على التعليل أو جعل الحصل من السبك خبر حسابه أي حسابه عدم الفلاح وهذا على ما قال الخفاجي من باب
تحية بينهم ضرب وجيع
وبهذا مع عدم الإحتياج إلى التقدير رجح هذا الوجه على سابقه وتوافق القراءتين عليه في حاصل المعنى ورجح الأول بأن التوافق عليه أتم وأصل الكلام على الإخبار فإنما حسابه عند ربه أنه لا يفلح هو فوضع الكافرون موضع الضمير لأن من يدع في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون
وقرأ الحسن يفلح بفتح الياء واللام وما ألطف افتتاح هذه السورة بتقدير فلاح المؤمنين وإيراد عدم فلاح الكافرين في اختتامها ولا يخفى ما في هذه الجمل من تسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم وكأنه سبحانه بعد ما سلاه بذكر ما آل من لا ينجع دعاؤه فيه أمره بما يرمز إلى متاركة مخالفيه فقال جل وعلا وقل رب وقرأ ابن محيص رب بالضم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين
118
- والظاهر أن طلب كل من المغفرة والرحمة على وجه العموم له عليه الصلاة و السلام ولمتعيه وهو أيضا أعم من طلب أصل الفعل والمداومة عليه فلا إشكال وقد يقال في دفعه غير ذلك وفي تخصيص هذا الدعاء بالذكر ما يدل على أهمية ما فيه وقد علم صلى الله عليه و سلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان وجماعة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال : قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم
ولقراءة هذه الآيات أعني قوله تعالى أفحسبتم إلى آخر السورة على المصاب نفع عظيم وكذا المداومة على قراءة بعضها في السفر
أخرج الحكيم الترمذي وابن المنذر وأبو نعيم في الحلية وآخرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ في أذن مصاب أفحسبتم حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال
وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فقرأناها فغنمنا وسلمنا هذا والله تعالى المسؤل لكل خير
(18/71)

ومن باب الإشارة في الآيات قيل قد أفلح المؤمنون أي وصلوا إلى المحل الأعلى والقربة والسعادة والذين هم في صلاتهم خاشعون ظاهرا وباطنا والخشوع في الظاهر انتكاس الرأس والنظر إلى موضع السجود وإلى ما بين يديه وترك الإلتفات والطمأنينة في الأركان ونحو ذلك والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس الدنيوية بالكلية أو ترك الإسترسال معها وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الإلتفات إلى المكنونات واستغراق الروح في بحر المحبة والخشوع شرط لصحة الصلاة عند بعض الخواص نقل الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي من لم يخشع فسدت صلاته وهو قول لبعض الفقهاء وتفصيله في كتبهم ولا خلاف في أنه لا ثواب في قول أو فعل من أقوال وأفعال الصلاة أدى مع الغفلة وما أقبح مصل يقول الحمد لله رب العالمين وهو غافل عن الرب جل شأنه متوجه بشرا شره إلى الدرهم والدينار ثم يقول إياك نعبد وإياك نستعين وليس في قلبه وفكره غيرهما ونحو هذا كثير ومن هنا قال الحسن : كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع
وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن افترى مثل صلاة هذا تلح لذلك حاش لله تعالى من زعم ذلك فقد افترى والذين هم عن اللغو معرضون قال بعضهم : اللغو كل ما يشغل عن الحق عز و جل
وقال أبو عثمان : كل شيء فيه للنفس حظ فهو لغو وقال أبو بكر بن طاهر : كل ما سوى اللاله تعالى فهو لغو الذبن هم للزكاة فاعلون هي تزكية للنفس عن الأخلاق الذميمة والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين إشارة إلى استيلائهم على القوة الشهوية فلا يتجاوزون فيها ما حد لهم وقيل : الإشارة فيه إلى حفظ الأسرار أي والذين هو ساترون لما يقبح كشفه من الأسرار عن الأغيار إلا على أقرانهم ومن أزدوج معهم أو على مريديهم الذين هم كالعبيد لهم والذين هم لأماناتهم
قال محمد بن الفضل : سائر جوارحهم وعهدهم الميثاق الأزلي راعون فهم حسنو الأفعال والأقوال والإعتقادات والذين هم على صلاتهم يحافظون فيؤدونها بشرائطها ولا يفعلون فيها وبعدها ما يضيعها كالرياء والعجب ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين قيل المخلوق من ذلك هو الهيكل المحسوس وأما الروح فهي مخلوقة من نور إلهي يعز على العقوبة إدراك حقيقته وفي قوله سبحانه ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين إشارة إلى نفخ تلك الروح المخلوقة من ذلك النور وهي الحقيقة الآدمية المرادة في قوله صلى الله عليه و سلم خلق الله تعالى آدم على صورته أي على صفته سبحانه من كونه حيا عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك من الصفات ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين إشارة إلى مراتب النفس التي بعضها فوق بعض وكل مرتبة سفلى منها تحجب العليا أو إشارة إلى حجب الحواس الخمس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال وقيل غير ذلك وأنزلنا من السماء قيل أي سماء العناية ماء أي ماء الرحمة بقدر أي بمقدار استعداد السالك فأسكناه في الأرض أي أرض وجوده فأنشأنا لكم به جنات من نخيل أي نخيل المعارف وأعناب أي أعناب الكشوف وقيل النخيل إشارة إلى علوم الشريعة والأعناب إشارة إلى علوم الطريقة لكم فيها فواكه كثيرة هي ما كان منها زائدا على الواجب ومنها تأكلون إشارة إلى ما كان واجبا لا يتم قوام الشريعة والطريقة بدونه وشجرة تخرج من طور سيناء إشارة إلى النور الذي يشرق من طور القلب بواسطة ما حصل له من
(18/73)

التجلي الإلهي تنبت بالدهن وصبغ للآكلين أي تنبت بالجامع لذهين الوصفين وهو الإستعداد والآكلين إشارة إلى التغذية إلى المتغذين بأطعمة المعارف ادفع بالتي هي أحسن السيئة فيه من الأمر بمكارم الأخلاق ما فيه
وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الإغترار بالأعمال وإرشاد إلى التشبت برحمة الملك المتعال نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ويغفر لنا ما ارتكبناه من مخالفته ويتفضل علينا بأعظم مما نؤمله من رحمته كرامة لنبيه الكريم وحبيبه الذي هو بالمؤمنين رؤف رحيم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وعظم وكرم
سورة النور
مدينة كما أخرج ابن مردوية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن الكثير من آيها شيئا وعن القرطبي أن آية يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الخ مكية وهي اثنتان وستون آية وقيل أربع وستون آية ووجه اتصالها بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها والذين هم لفروجهم حافظون ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الأفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا والإستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج وأمر من لم يقدر على النكاح بالإستعفاف ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا
وقال الطبرسي في ذلك : إنه تعالى لما ذكر فيما تقدم أنه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ذكر جل وعلا ههنا جملة من الأوامر والنواهي ولعل الأول أولى وجاء عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نسائكم سورة النور وعن حارثة بن مضرب رضي الله تعالى عنه قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن تعلموا سورة المائدة النساء والأحزاب والنور
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة وأشير إليها بهذه تنزيلا لها منزلة الحاضر المشاهد وقوله تعالى أنزلناها مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات على ما ذكره شيخ الإسلام والقول بجواز أن تكون للتخصيص احترازا عما هو قائم بذاته تعالى ليس بشيء أصلا كما لا يخفى
وجوز أن تكون سورة مبتدأ محذوف الخبر أي مما يتلى عليكم أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها الخ وذكر بعضهم أنه قصد من هذه الجملة الإمتنان والمدح والترغيب لا فائدة الخبر ولا لازمها وهو كون المخبر عالما بالحكم للعلم بكل ذلك والكلام فيما إذا قصد به مثل هذا إنشاء على ما اختاره في الكشف وهو ظاهر قول الإمام المرزوقي في قوله : قومي هموا قتلوا أميم أخي
هذا كلام تحزن وتفجع وليس بإخبار واختار آخرون أن الجملة خبرية مراد بها معناها إلا أنها إنما أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه وإليه ذهب السالكوتي وأول كلام المرزوقي بأن المراد بالإخبار فيه الإعلام وتحقيق ذلك في موضعه واعترض شيخ الإسلام هذا الوجه بما بحث فيه
وجوز ابن عطية أن تكون سورة مبتدأ والخبر قوله تعالى الزانية والزاني الخ وفيه من البعد
(18/74)

ما فيه والوجه الوجيه هو الأول وعندي في أمثال هذه الجمل أن الإثبات فيها متوجه إلى القيد وقد ذكر ذلك الشيخ عبد القاهر وهو هنا إنزالها وفرضها وإنزال آيات بينات فيها لأجل أن يتذكر المخاطبون أو مرجوا تذكرهم فتأمل
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء سورة بالنصب على أنها مفعول فعل محذوف أي اتل وقدر بعضهم اتلوا بضمير الجمع لأن الخطابات الآتية بعده كذلك وليس بلازم لأن الفعل متضمن معنى القول فيكون الكلام حينئذ نظير قوله تعالى قل أطيعوا الله ولا شك في جوازه
وجوز الزمخشري أن تكون نصبا على الإغراء أي دونك سورة ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء لضعفها في العمل لما أن عملها بالحمل على الفعل وكلام ابن مالك يقتضي جوازه وزعم إنه مذهب سيبويه وفيه بحث وجوز غير واحد كون ذلك من باب الإشتغال وهو ظاهر على مذهب من لا يشترط في المنصوب على الإشتغال صحة الرفع على الإبتداء وأما على مذهب من يشترط ذلك فغير ظاهر لأن سورة نكرة لا مسوغ لها فلا يجوز رفعها على الإبتداء ولعل من يشترط ذلك ويقول بالنصب على الإشتغال هنا يجعل النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل : سورة عظيمة كما قيل في شرأ هر ذا ناب
وقال الفراء : نصب سورة على أنها حال من ضمير النصب في أنزلناها والحال من الضمير يجوز أن يتقدم عليه انتهى ولعل الضمير على هذا للأحكام المفهومة من الكلام فكأنه قيل : أنزلنا الأحكام سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن وإلى هذا ذهب في البحر وربما يقال : يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف و سورة المذكورة موصوفة بما يدل عليه تندينها فكأنه قيل : أنزلنا السورة حال كونها سورة عظيمة ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه الذي لا غبار عليه وقوله تعالى : وفرضناها إما على تقدير مضاف أي فرضنا أحكامها وإما على اعتبار المجاز في الإسناد حيث أسند ما للمدلول للدال لملابسة بينهما تشبه الظرفية : ويحتمل على بعد أن يكون في الكلام استخدام بأن يراد بسورة معناها الحقيقي وبضميرها معناها المجازي أعني الأحكام المدلول عليها بها والفرض في الأصل قطع الشيء الصلب والتأثير فيه والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه فكأنه قيل : أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا وفي ذكر ذلك براعة استهلاك على ما قيل
وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير وفرضناها بتشديد الراء لتأكيد الإيجاب والإشارة إلى زيادة لزومه أو لتعدد الفرائض وكثرتها أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف وفي الحوافي الشهابية قد فسر فرضناها بفصلناها ويجري فيه ما ذكر أيضا وأنزلنا فيها أي في هذه السورة آيات بينات يحتمل أن يراد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وأمر الظرفية عليه ظاهر ومعنى كونها بينات وضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها مطلقا لأنها أسوة لأكثر الآيات في ذلك وتكرير أنزلنا مع استلزان إنزال السورة إنزالها إبراز كمال العناية بشأنها ويحتمل أن يراد بها جمع آيات السورة والظرفية حينئذ باعتبار اشتمال الكل على كل واحد من أجزائه ومعنى كونها بينات أنها
(18/75)

لا إشكال فيها يحوج إلى تأويل كبعض الآيات وتكرير أنزلنا مع ظهور أن إنزال جميع الآيات عين إنزال السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعا لمحلها كقوله تعالى ونجيناهم من عذاب غليظ بعد قوله سبحانه نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا والإحتمال الأول أظهر وقال الإمام : إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى فرضناها إشارة إلى الأحكام المبنية أولا وقوله سبحانه وأنزلنا فيها آيات بينات إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد ويؤيده قوله عز و جل : لعلكم تذكرون
1
- فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكرونها انتهى وهو عندي وجه حسن نعم قيل فيما ذكره من التأييد نظر إذ لمن ذهب إلى الإحتمال الأول أن يقول : المراد من التذكر غايته وهو اتقاء المحارم بالعمل بموجب تلك الآيات ولقائل أن يقول : إن هذا محوج إلى ارتكاب المجاز في التذكر دون ما ذكره الإمام فإن التذكر عليه على معناه المتبادر ويكفي هذا القدر في كونه مؤيدا وأصل تذكرون تتذكرون حذف إحدى التاءين وقريء بإدغام الثانية منهما في الذال الزانية والزاني شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها أولا ورفع الزانية على أنها خبر مبتدأ محذوف والكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل مما يتلى عليكم أو في الفرائض أي المشار إليها في قوله تعالى وفرضناها حكم الزانية والزاني والفاء في قوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة سببية وقيل سيف خطيب وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر جملة فاجلدوا الخ والفاء في المشهور لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام فيه وفيما عطف عليه موصولة أي التي زنت والذي زنى فاجلدوا الخ وبعضهم يجوز دخول الفاء في الخبر إذا كان في المبتدأ معنى يستحق به أن يترتب عليه الخبر وإن لم يكن هناك موصول كما في قوله :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
فإن هذه القبيلة مشهورة بالشرف والحسن شهرة حاتم بالسخاء وعنترة بالشجاعة وذلك معنى يستحق به أن يترتب عليه الأمر بالنكاح وعلى هذا يقوي أمر دخول الفاء هنا كما لا يخفى وقال العلامة القطب : جيء بالفاء لوقوع المبتدأ بعد أما تقديرا أي أما الزانية والزاني فاجلدوا الخ ونقل عن الأخفش أنها سيف خطيب والداعي لسيبويه على ما ذهب إليه ما يفهم من الكتاب كما قيل من أن النهج المألوف في كلام العرب إذا أريد بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه أن يذكر قبله ما هو عنوان وترجمة له وهذا لا يكون إلا بأن يبنى على جملتين فما ذهب إليه في الآية أولى لذلك مما ذهب إليه غيره وأيضا هو سالم من وقوع الإنشاء خبرا والدغدغة التي فيه وأمر الفاء عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف وقال أبو حيان : سبب الخلاف أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة الشرط وغيرهما لا يشترط ذلك
وقرأ عبد الله والزان بلا ياء تخفيفا وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمر بن قائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس الزانية والزاني بنصبهما على إضمار فعل يفسره الظاهر والفاء على ما قال ابن جني لأن مآل المعنى إلى الشرط والأمر في الجواب يقترن بها فيجوز زيدا فاضربه لذلك ولا يجوز زيدا فضربته بالفاء لأنها لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا
والمراد هنا على ما في بعض شروح الكشاف إن أردتم معرفة حكم الزانية والزاني فاجلدوا الخ وقيل : إن جلدتم الزانية والزاني فاجلدوا الخ وهو لا يدل على الوجوب المراد وقيل دخلت الفاء لأن حق المفسر
(18/76)

أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ويجوز أن تكون عاطفة والمراد جلد بعد جلد وذلك لا ينافي كونه مفسرا للمعطوف عليه لأنه باعتبار الإتحاد النوعي انتهى
وأنت تعلم أنه لم يعهد العطف بالفاء فيما اتحد فيه لفظ المفسر وقد نصوا على عدم جواز زيدا فضربته بالإتفاق فلو ساغ العطف فيما ذكر لجاز هذا على معنى ضرب بعد ضرب على أن كون المراد فيما نحن فيه جلد بعد جلد مما لا يخفى ما فيه فالظاهر ما نقل عن ابن جني والمشهور أن سيبويه والخليل يفضلان قراءة النصب لمكان الأمر وغيرهما من البصريين والكوفيين يفضلون الرفع لأنه كالإجماع في القراءة وهو أقوى في العربية لأن المعنى عليه من زنى فاجلدوه كذا قال الزجاج وقال الخفاجي بعد نقله كلام سيبويه في هذا المقام : ليس في كلام سيبويه شيء مما يدل على التفضيل كما سمعت بل يفهم منه أن الرفع في نحو ذلك أفصح وأبلغ من النصب من جهة المعنى وأفصح من الرفع على أن الكلام جملة واحدة من جهة المعنى واللفظ معا فليراجع وليتأمل والجلد ضرب الجلد وقد أطرد صوغ فعل المفتوح العين الثلاثي من أسماء الأعيان فيقال رأسه وظهره وبطنه إذا ضرب رأسه وظهره وبطنه وجوز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه ضربه بالعصا والمراد هنا المعنى الأول فإن الأخبار قد دلت على أن الزانية والزاني يضربان بسوط لا عقدة عليه ولا فرع له وقيل : إن كون الجلد بسوط كذلك كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة وأما قبله فكان تارة باليد وتارة بالنعل وتارة بالجريدة الرطبة وتارة بالعصا ثم الظاهر من ضرب الجلد أعم من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة وزعم بعضهم وليس بشيء أن الظاهر أن يكون بلا واسطة وأنه ربما يستأنس به لما ذهب إليه أصحابنا وبه قال مالك من أنه ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به وعن الشافعي وأحمد أنه يترك عليه قميص أو قميصان وروي عبد الرزاق بسنده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد وأما الإمرأة فلا ينزع ثيابها عندنا إلا الفرو والمحشو ووجهه ظاهر
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن الرجل والمرأة في عدم نزع الثياب إلا الفرو والمحشو سواء وكأن من لا يقول ينزع الثياب يقول : إن الجلد في العرف الضرب مطلقا وليس خاصا بضرب الجلد للا واسطة نعم ربما يقال : إن في اختياره على الضرب إشارة إلى أن المراد ضرب يؤلم الجلد وكأنه لهذا قيل ينزع الفرو والمحشو فإن الضرب في الأغلب لا يؤلم جلد من عليه واحد منهما وينبغي أن لا يكون الضرب مبرحا لأن الإهلاك غير مطلوب ومن هنا قالوا : إذا كان من وجب عليه الحد ضعيف الخلقة فخيف عليه الهلاك يجلد جلدا ضعيفا يحتمله وكذا قالوا : يفرق الضرب على أعضاء المحدود لأنه جمعه في عضو قد يفسده وربما يفضي إلى الهلاك وينبغي أن يتقي الوجه المذاكير لما روي موقوفا على علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى برجل سكران أو في حد فقال : اضرب واعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير وكذا الرأس لأنه مجمع الحواس الباطنة فربما يفسد وهو إهلاك معنى وكان أبو يوسف يقول باتقائه ثم رجع وقال يضرب ضربة واحدة وروي عنه أنه استثنى البطن والصدر وفيه نظر إلا أن يقال : كان الضرب في زمانه
(18/77)

كالضرب الذي يفعله ظلمة زماننا وحينئذ ينبغي أن يقول باستثناء الرأس قطعا وعن مالك أنه خص الظهر وما يليه بالجلد لما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لهلال ابن أمية البينة وإلا فحد في ظهرك وأجيب بأن المراد بالظهر فيه نفسه أي فحد ثابت عليك بدليل ما ثبت عن كبار الصحابة من عمر وعلي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وقوله عليه الصلاة و السلام : إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإنه في نحو الحد فما سواه داخل في الضرب ثم خص منه الفرج بدليل الإجماع وعن محمد في التعزير ضرب الظهر وفي الحدود ضرب الأعضاء ثم هذا الضرب يكون للرجل قائما غير ممدود وللمرأة قاعدة وجاء ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وكأن وجهه أن مبني الحد على التشهير زجرا للعامة على مثله والقيام أبلغ فيه والمرأة مبني أمرها على الستر فيكتفي بتشهير الحد فقط من غير زيادة وإن امتنع الرجل ولم يقف أو لم يصبر فلا بأس بربطه على اسطوانة أو إمساك أحد له والمراد من العدد المفروض في جلد كل واحد منهما أعني مائة جلدة ما يقال له مائة جلدة بوجه من الوجوه وإن لم تتعين الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى تمام المائة فلو ضربه مائة رجل بمائة سوط دفعة واحدة كفى في الحد بل قالوا : جاز أن تجمع الأسواط فيضرب مرة واحدة بحيث يصيبه كل واحد منها وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه ضرب في حد بسوط له طرفان أربعين ضربة فحسب كل ضربة بضربتين وقدمت الزانية على الزاني مع أن العادة تقديم الزاني عليها لأنها هي الأصل إذ الباعثة فيها أقوى ولولا تمكينها لم يزن واشتقاقهما من الزنا وهو مقصور في اللغة الفصحى وهي لغة أهل الحجاز وقد يمد في لغة أهل نجد وعليها قال الفرزدق : أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا والزنا في عرف اللغة والشرع على ما قيل وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك وفيه أنه يرد عليه زنى المرأة فإنه زنى ولا يصدق عليه التعريف وما قيل في الجواب عنه : إنه فعل الوطيء أمر مشترك بين الرجل والمرأة فإذا وجد بينهما يتصف كل منهما به وتسمى هي واطئة ولذا سماها سبحانه وتعالى زانية لا يخفى ما فيه مع أن في التعريف ما لا يصلحه هذا الجواب لو كان صحيحا والحق أن زناها لغة تمكينها من زنى الرجل بها وأنه إذا أريد تعريف الزنا المراد في الآية بحيث يشمل زناها فلا بد من زيادة التمكين بالنسبة إليها بل زيادته بالنسبة إلى كل منهما وأن يقال : هو إدخال المكلف الطائع قدر حشفته قبل مشتهاة حالا أو ماضيا بلا ملك أو شبهة أو تمكينه من ذلك أو تمكينها في دار الإسلام ليصدق على ما لو كان مستلقيا فقعدت على ذكره فتركها حتى أدخلته فإنهما يحدان في هذه الصورة وليس الموجود منه سوى التمكين ويعلم من هذا التعريف أنه لا حد على الصبي والمجنون ومن أكرهه السلطان ولا على من أولج في دبر أو في فرج صغيرة غير مشتهاة أو ميتة أو بهيمة بخلاف من أولج في فرج عجوز ولا على من زنى في دار الحرب ولا على من زنى مع شبهة وفي بعض ما ذكر كلام يطلب من كتب الفقه والحكم عام فيمن زنى وهو محصن وفي غيره لكن نسخ في حق المحصن قطعا فإن الحكم في حقه الرجم ويكفينا في تعيين الناسخ القاطع بأمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالرجم وفعله في زمانه عليه الصلاة و السلام مرات فيكون من نسخ الكتاب بالسنة القطعية
وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت وإنكار الخوارج ذلك باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة رضي الله تعالى
(18/78)

عنهم فجهل مركب وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه الصلاة و السلام متواتر المعنى كشجاعة علي كرم الله تعالى وجهه وجود حاتم والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته وهم كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة والمسلمين وترك التردد إلى علماء المسلمين والرواة أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عنهم والشهرة ولذا حين عابوا على عمر ابن عبد العزيز في القول بالرجم من كونه ليس في كتاب الله تعالى ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا : ذلك من فعله صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمين فقال لهم : وهذا أيضا كذلك وقد كوشف بهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكاشف بهم حيث قال كما روى البخاري : خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد في كتاب الله تعالى عز و جل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز و جل ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الإعتراف وروي أبو داود أنه رضي الله تعالى عنه خطب وقال : إن الله عز و جل بعث محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بالحق وأنزل عليه كتابا فكان فيما أنزل آية الرجم يعني بها قوله تعالى : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فقرأناها ووعيناها إلى أن قال وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائب : لا نجد الرجل الحديث بطرقه وقال : لو لا أن يقال : إن عمر زاد في الكتاب لكتبتها على حاشية المصحف الشريف ومن الناس من ذهب إلى أن الناسخ الآية المنسوخة التي ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه
وقال العلامة ابن الهمام : إن كون الناسخ السنة القطعية أولى من كون الناسخ ما ذكر من الآية لعدم القطع بثبوتها قرآنا ثم نسخ تلاوتها وإن ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه وسكت الناس فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه وبتقدير حجيته لانقطع بأن جمع المجتهدين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذ ذاك حضورا ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه ظني ولهذا والله تعالى أعلم قال علي كرم الله تعالى وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها : جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ التلاوة ويعلم من قوله المذكور كرم الله تعالى وجهه أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة وبذلك قال أهل الظاهر وهو رواية عن أحمد واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم الثيب بالثيب جلد مائة ورمي بالحجارة وفي رواية غيره ورجم بالحجارة وعند الحنفية لا يجمع بين الرجم والجلد في المحصن وهو قول مالك والشافعي ورواية أخرى عن أحمد لأن الجلد يعري عن المقصود الذي شرع الحد وهو الإنزجار أو قصده إذا كان القتل لاحقا له والعمدة في استدلالهم على ذلك أنه صلى الله عليه و سلم لم يجمع بينهما قطعا فقد تظافرت الطرق أنه صلى الله عليه و سلم بعد سؤاله ما عزا عن الأحصان وتلقينه الرجوع لم يزد على الأمر بالرجم فقال : ادهبوا به فاجموه وقال أيضا عليه الصلاة و السلام اغديا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت بذلك فارجمها ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها وجاء في باقي الحديث الشريف فاعترفت فأمر بها صلى الله عليه و سلم فرجمت وقد تكرر الرجم في زمانه صلى الله عليه و سلم ولم يرو أحد أنه بينه وبين الجلد فقطعنا بأنه لم يكن إلا الرجم فوجب كون الخبر السابق منسوخا وإن لم يعلم خصوص الناسخ وأجيب عما فعل علي كرم الله تعالى وجهه من الجمع بأنه رأي
(18/79)

لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذا لا يقاوم إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ويحتمل أن يقال : إنه كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد وهو بعيد جدا كما يظهر من الرجوع إلى القصة والله تعالى أعلم وإحصان الرجم يتحقق بأشياء نظمها بعضهم فقال شروط إحصان أتت ستة فخذها عن النص مستفهما بلوغ وعقل وحرية ورابعها كونه مسلما وعقد صحيح ووطه مباح متى اختل شرط فلن يرجما وزاد غير واحد كون واحد من الزوجين مساويا الآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد
وذكر ابن الكمال شرطا آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالإرتداد فلو ارتدا والعياذ بالله تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول بعده ولو بطل بجنون أو عته عاد بالإفافة وقيل بالوطء بعده والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة فلا رجم عنده في المسئلتين السابقتين وكذا لا يشترط الإسلام فلو زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي يوسف وبه قال أحمد وقول مالك كقولنا
واستدل المخالف بما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم فقالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام : كذبتم فيما زعمتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع أحدهم يعني عبد الله بن صوريا يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فقالوا : صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلى الله عليه و سلم فرجما
ودليلنا ما رواه إسحاق بن راهوية في مسنده قال : أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أشرك بالله فليس بمحصن وقد رفع هذا الخبر كما قال إسحاق مرة ووقف أخرى ورواه الدارقطني في سننه وقال : لم يرفعه غير راهوية بن راهوية يقال : إنه رجع عن ذلك والصواب أنه موقوف أه وفي العناية أن لفظ إسحاق كما تراه ليس فيه رجوع وإنما ذكر عن الراوي أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى ولم يرفعه ولا شك في أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختر في علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع وبعد ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لا يضر
وأجاب بعض أجلة أصحابنا بأنه كان الرجم مشروعا بدون اشتراط الإسلام حين رجم صلى الله عليه و سلم الرجل والمرأة اليهوديين وذلك بما أنزله الله تعالى إليه عليه الصلاة و السلام وسؤاله صلى الله عليه و سلم اليهود عما يجدونه في التوراة في شأنه ليس لأن يعلم حكمه من ذلك
والقول بأنه عليه الصلاة و السلام كان أول ما قدم المدينة مأمورا بالحكم بما في التوراة ممنوع بل ليس ذلك إلا ليبكتهم بترك الحكم بما أنزل الله تعالى عليهم فلما حصل الغرض حكم صلى الله عليه و سلم برجمهما بشرعه الموافق
(18/80)

لشرعهم وإذا علم بأن الرجم كان ثابتا في شرعنا حال رجمهما بلا اشتراط الإسلام وقد ثبت في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المفيد لاشتراط الإسلام وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره عنه حصل التعارض بين فعله صلى الله عليه و سلم رجم اليهوديين وقوله المذكور فيطلب الترجيح وقد قالوا : إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر يقدم القول على الفعل وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول موجب لدرء الحد وتقديم ذلك الفعل يوجب الإحتياط في إيجاب الحد والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض
ولا يخفى أن كل مترجح فهو محكوم بتأخره اجتهادا فيكون المعول عليه في الحكم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وقول المخالف : إن المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتص له من المسلم خلاف الظاهر لأن أكثر استعمال الإحصان في إحصان الرجم
ورد بعضهم بالآية على القائلين : إن حد زنا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام أحمد والثورى والحسن بن صالح ووجه الرد أن قوله تعالى الزانية والزاني الخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه زإلا كان تجهيلا لا بيانا وتفصيلا إذ يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من البيان لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان الجهل بسيطا فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا الجلد وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد الحصر وقال المخالف : لو سلما الدلالة على الحصر وأن المذكور تمام الحكم ليكون المعنى إن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ بما صح من رواية عبادة بن الصامت عنه صلى الله عليه و سلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به والقول بأن الخبر المذكور قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعا لأنه إن أريد بتلقيه بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع فقد صح عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه لا يقوم بتغريبهما وقال : حسبهما من الفتنة أن ينفيا وفي رواية كفى بالنفي فتنة وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى صحه سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجبا ولا يدل على أنه واجب الحد بل ما في صحيح البخاري من قول أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعظمه عليه وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيرا لمصلحة وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال : إنها أم الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يوما يا ابن المتمنية تقول
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج إلى فتى ماجد الإعراق مقبل سهل المحيا كريم غير ملجاج
(18/81)

والقول بأنه لا يجتمع التعزيز مع الحد لا يخفى ما فيه وادعى الفقيه المرغيناني أن الخبر المذكور منسوخ فإن شطره الثاني الدال على الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما علمت وفيه أنه لا لزوم فيجوز أن تروى جمل نسخ بعضها وبعضها لم ينسخ نعم ربما يكون نسخ أحد الشطرين مسهلا لتطرق احتمال نسخ الشطر الآخر فيكون هذا الإحتمال قائما فيما نحن فيه فيضعف عن درجة الآحاد التي لم يتطرق ذلك الإحتمال إليها فيكون أحرى أن لا ينسخ ما أفاده الكتاب من أن الحد هو الجلد لا غير على ما سمعت تقريره فتأمل
ثم إن التغريب ليس مخصوصا بالرجل عند أولئك الأئمة فقد قالوا : تغرب المرأة على محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في آخر ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا ولو كان الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان وعند مالك والأوزاعي إنما ينفي ولا تنفى المرأة لقولي عليه الصلاة و السلام : البكر بالبكر الخ وقال غيرهما ممن تقدم : إن الحديث يجب أن يشملها فإنه أوله خذوا عني قد جعل الله تعالى لهن سبيلا البكر البكر الخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال : على الأنثى ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة و السلام : البكر تستأذن ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال : إن هذا من المواضع التي تثبت الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال بتنقيح المناط هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من الزانية والزاني ما يشمل الرقيق وغيره فيكون مقدار الحد في الجميع واحدا لكن قوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب الآية أخرجت الإماء فإن الآية نزلت فيهن وكذا أخرجت العبيد إذ لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط فيرجع في ذلك إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط في الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفي فيه وقيل تدخل العبيد بطريق التغليب عكس القاعدة وهي تغليب الذكور
ولا يشترط الإحصان في الرقيق لما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن وفيه دليل على أن الشرط أعني الإحصان في الآية الدالة على تنصيف الحد لا مفهوم له ونقل عن ابن عباس وطاوس أنه لا حد على الأمة حتى تحصن بزوج وفيه اعتبار المفهوم ثم هذا الإحصان شرط للجلد لأن الرجم لا يتنصف وللشافعي في تغريب العبد أقوال : يغرب سنة يغرب نصف سنة لا يغرب أصلا والخطاب في قوله تعالى : فاجلدوا لأئمة المسلمين ونوابهم
واختلف في إقامة المولى الحد على عبده فعندنا لا يقيمه إلا بإذن الإمام وقال الشافعي ومالك وأحمد يقيمه من غير إذن وعن مالك إلا في الأمة المزوجة واستثنى الشافعي في المولى الذمي والمكاتب والمرأة وكذا اختلف في إقامة الخارجي المتغلب الحد فقيل يقيم وقيل لا وأدلة الأقوال المذكورة وتحقيق ما هو الحق منها محله والظاهر أن إقامة الحد المذكور بعد تحقق الزنا بإحدى الطرق المعلومة وقال إسحاق : إذا وجد رجل وامرأة في ثوب واحد يجلد كل منهما مائة جلدة وروي ذلك عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد : يؤدبان على مذاهبهم في الأدب ولا تأخذكم بهما رأفة تلطف ومعاملة برفق وشفقة في دين الله في طاعته وإقامته حده الذي شرعه عز و جل والمراد النهي عن
(18/82)

التخفيف في الجلد بأن يجلدوهما جلدا غير مؤلم أو بأن يكون أقل من مائة جلدة
وقال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء : المراد النهي عن إسقاط الحد شفاعة كأنه قيل : أقيموا عليهما الحد ولا بد وروي معنى ذلك عن ابن عمر وابن جبير وفي هذا دليل على أنه لا يجوز الشفاعة في إسقاط الحد والظاهر أن المراد عدم جواز ذلك بعد ثبوت سبب الحد عند الحاكم وأما قبل الوصول إليه والثبوت فإن الشفاعة عند الرافع لمن اتصف بسبب الحد إلى الحاكم ليطلقه قبل الوصول وقبل الثبوت تجوز ولم يخصوا ذلك بالزنا لما صح أنه عليه الصلاة و السلام أنكر على حبه أسامة بن زيد حين شفع في فاطو بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية السارقة قطيفة وقيل حليا فقال له أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فخطب فقال : أيها الناس إنما ضل من قبلكم إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله تعالى لو أن فاطمة بنت محمد سرقت وحاشاها لقطعت يدها وكما تحرم الشفاعة يحرم قبولها فعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا عنه إن عفا و بهما قيل متعلق بمحذوف على البيان أي أعني بهما وقيل بترأفوا محذوفا ولا ترأفوا بهما ويفهم صنيع أبي البقاء اختيار تعلقه بتأخذ والباء للسببية أي ولا تأخذكم بسببهما رأفة ولم يجوز تعلقه برأفة معللا بأن المصدر لا يتقدم معموله عليه وعندي هو متعلق بالمصدر ويتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره
وقد حقق ذلك العلامة سعد الملة والدين في أول شرح التلخيص بما لا مزيد عليه و في دين قيل متعلق بتأخذ وعليه أبو البقاء وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لرأفة وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد ولا يأخذكم بالياء التحتية لأن تأنيث رأفة مجازي وحسن ذلك الفصل وقرأ ابن كثير رأفة بفتح الهمزة وابن جريج رأفة بألف بعد الهمزة على وزن فعالة وروي ذلك عن عاصم وابن كثير ونقل أبو البقاء أنه قرأ رأفة بقلب الهمزة ألفا وهي في كل ذلك مصدر مسموع إلا أن الأشهر في الإستعمال ما وافق قراءة الجمهور
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر من باب التهييج والإلهاب كما يقال : إن كنت رجلا فافعل كذا ولا شك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم لكن قصد تهييجهم وتحريك حميتهم ليجدوا في طاعة الله تعالى ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة الرأفة بهما وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين
2
- أي ليحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب أو لذلك وللعبرة والموعظة وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعي لهما بالتوبة والرحمة لا للتفضيح وهو في غاية البعد من السياق والأمر هنا ما يدل عليه كلام الفقهاء للندب
واختلف في هذه الطائفة فأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الرجل فما فوقه وبه قال أحمد وقال عطاء وإسحاق بن راهوية : اثنان فصاعدا وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري : ثلاثة فصاعدا وقال الحسن : عشرة وعن الشافعي وزيد : أربعة وهو قول لمالك وقال الخفاجي : وتحقيق المقام أن الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف الدوران أو الإحاطة فهي إما صفة نفس أي نفس طائفة على الواحد أو صفة جماعة أي جماعة طائفة فتطلق على ما فوقه فهي
(18/83)

كالمشترك بين تلك المعاني فتحمل في كل مقام على ما يناسبه
وذكر الراغب أنها إذا أريد بها الواحد يصح أن تكون جمعا كني به عن الواحد ويصح أن تكون مفردا والتاء فيها كما في رواية وفي حواشي العضد للهروي يصح أن يقال للواحد طائفة ويراد نفس طائفة فهي من الطواف بمعنى الدوران
وفي شرح البخاري حمل الشافعي الطائفة في مواضع من القرآن على أوجه مختلفة بحسب المواضع فهي في قوله تعالى فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة واحد فأكثر واحتج به على قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة أربعة وفي قوله سبحانه فلتقم طائفة منهم معك ثلاثة وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن أما في الأولى فلأن الإنذار يحصل به وأما في الثانية فلأن التشنيع فيه أشد وأما في الثالثة فالضمير الجمع بعد في قوله تعالى وليأخذوا أسلحتهم وأقله ثلاثة وكونها مشتقة من الطواف لا ينافيه لأنه يكون بمعنى الدوران أو هو الأصل وقد لا ينظر إليه بعد الغلبة فلذا قيل : إن تاءها للنقل انتهى ولا يخلو عن بحث
والحق أن المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير والزجر وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه كما لا يخفى
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة تقبيح لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنا لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة فبينهما كما بين سهيل والثريا فترى هذه شامية إذا ما استقلت وترى ذاك إذا ما استقل يمانيا وإنما يليق به أن ينكح زانية هي في ذلك طبقه ليوافق كما قيل شن طبقه أو مشركة هي أسوأ منه حالا وأقبح أفعالا فلا ينكح خبر مراد منه لا يليق به أن ينكح كما تقول : السلطان لا يكذب أي لا يليق به أن يكذب نزل فيه لياقة الفعل منزلة عدمه وهو كثير في الكلام ثم المراد اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا فيكون فيكون فيه تقبيح الزنا ما فيه
ولا يشكل صحة نكاح الزاني المسلم الزانية المسلمة وكذا العفيفة المسلمة وعدم صحة نكاحه المشركة المذكورة في الآية إذا فسرت بالوثنية بالإجماع لأن ذلك ليس من اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا بل من حيثية أخرى يعلمها الشارع كما لا يخفى وعلى هذا الطرز قوله تعالى : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك أي الزانية بعد أن رضيت بالزنا فولغ فيها كلب شهوة الزاني لا يليق أن ينكحها من حيث أنها كذلك إلا من هو مثلها وهو الزاني أو من هو أسوأ حالا منها وهو المشرك وأما المسلم العفيف فأسد غيرته يأبى ورود جفرتها وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب يلغن فيه ولا يشكل على هذا صحة نكاحه إياها وعدم صحة نكاح المشرك سواء فسر بالوثني أو بالكتابي ليحتاج إلى الجواب وهو ظاهر والإشارة في قوله سبحانه : وحرم ذلك على المؤمنين
3
- يحتمل أن تكون للزنا المفهوم مما تقدم والتحريم عليه ظاهره وكذا المؤمنين ولعل هذه الجملة وما قبلها متضمنة لتعليل ما تقدم من الأمر والنهي ولذا لم يعطف قوله سبحانه : الزاني لا ينكح الخ عليه كما عطف قوله عز و جل الآتي والذين يرمون
(18/84)

المحصنات الخ وأمر إشعار ما تقدم بالتحريم سهل وتخصيص المؤمنين بالتحريم عليهم على رأي من يقول : إن الكفار غير مكلفين بالفروع ظاهر وأما على رأي من يقول بتكليفهم بها كالأصول وإن لم تصح منهم إلا بعد الإيمان فتخصيصهم بالذكر لشرفهم ويتحمل أن تكون لنكاح الزانية وعليه فالمراد من التحريم المنع وبالمؤمنين المؤمنون الكاملون ومعنى منعهم عن نكاح الزواني جعل نفوسهم أبية عن الميل إليه فلا يليق ذلك بهم ولا يأبى حمل الآية على ما قرر فيها في سبب نزولها مما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والبيهقي وابن المنذر وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارة من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه وعد رجلا من أسارى مكة بحمله قال فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت الحائط فلما انتهت إلي عرفتني فقالت : مرثد فقلت : مرثد فقالت : مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة قلت : يا عناق حرم الله تعالى الزنا قالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلا غار أو كهف فدخلت فجاؤا حتى قاموا على رأسي فطل بولهم على رأسي وعماهم الله تعالى عني ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناق فأمسك فلم يرد علي شيئا حتى نزل الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فلا تنكحها لأن تفريع النهي فيه عن نكاح تلك البغي مما لا شبهة في صحته على تقدير كون الآية المفرع عليها لتقبيح أمر الزاني والزانية فكأنه قيل : إذا علمت أمر الزانية وأنها بلغت في القبح إلى حيث لا يليق أن ينكحها إلا مثلها أو من هو أسوأ حالا فلا تنكحها
نعم في هذا الخبر ما هو أوفق بجعل الإشارة فيما مر إلى نكاح الزانية ويعلم منه وجه تقديم الزاني والأخبار عن الزانية بأنه لا ينكحها إلا زان أو مشرك على خلاف ما تقتضيه المقابلة هذا وللعلماء في هذه الآية الجليلة كلام كثير لا بأس بنقل ما تيسر منه وإبداء بعض ما قيل فيه ثم انظر فيه وفيما قدمناه واختر لنفسك ما يحلو فأقول : نقل عن الضحاك والقفال وقال النيسابوري : إنه أحسن الوجوه في الآية أن قوله سبحانه الزاني لا ينكح الخ حكم مؤسس على الغالب المعتاد جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير إلا تقي فإنه جار مجرى الغالب ومعنى التحريم على المؤمنين على هذا قيل التنزيه وعبر به عنه للتغليظ ووجه ذلك أن نكاح الزواني متضمن التشبه بالفساق والتعرض للتهمة والتسبب لسوء القالة والطعن في النسب إلى كثير من المفاسد وقيل : التحريم على ظاهره وذلك الفعل يتضمن محرمات والحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد ليكون العقد باطلا وعلى القولين الآية محكمة ولا يخفى أن حمل الزاني والزنية على من شأنهما الزنا والتقحب لا يخلو عن بعد لأنهما فيما تقدم لم يكونا بهذا المعنى
(18/85)

والظاهر الموافقة وأيضا لا يكاد يسلم أن الغالب عدم رغبة من شأنه الزنا في نكاح العفائف ورغبته في الزواني أو المشركات فكثيرا ما شاهدنا كثيرا من الزناة يتحرون في النكاح أكثر من تحري غيرهم فلا يكاد أحدهم ينكح من في أقاربها شبهة زنا فضلا عن أن تكون فيها وقليلا ما سمعنا برغبة الزاني نكاح زانية أو مشركة وأيضا في حمل التحريم على التنزيه نوع بعد وكذا حمله على ظاهره مع التزام أن الحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد
وفي البحر روي عن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أن الآية في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من تزوجهن فنزلت الآية لذلك والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك القوم أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية للتوبيخ ومعنى لا ينكح إلا زانية أو مشركة لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة أي لا تنزع نفسه إلا إلى هذه الخسائس لقلة انضباطها والإشارة بذلك إلى نكاح أولئك البغايا والتحريم على ظاهره ويرد على هذا أن الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك انتهى
وأنت تعلم أن هذا لا يرد بعد حمل نفي النكاح على نفي إرادة التزويج إذ يكون المعنى حينئذ الزانية لا يريد أن يتزوجها إلا زان أو مشرك وليس في الإجماع ما يأباه وفيه أيضا كلام ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى نعم كون الزاني إشارة إلى أحد أولئك القوم وهم من المهاجرين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين كما جاء في آثار كثيرة وقد أسلموا وتابوا من الزنا محل تردد إذ يبعد كل البعد أن يسم الله عز و جل بالزنا صحابيا كان قد زنى قبل إسلامه ثم أسلم وتاب فخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويطلق سبحانه عليه هذا الوصف الشنيع الذي غفره تبارك وتعالى له بمجرد أنه مال إلى نكاح زانية بسبب ما به من الفقر قبل العلم بحظر ذلك مع أنهم كانوا نادين على فراق من ينكحونهن إذا وجدوا عنهن غني
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال : لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم والمدينة غالية السعر شديدة الجهد وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب وإماء لبعض الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن على بابها علامة لتعرف أنها زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرا فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي فيهم من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول ما يكتسبن فقال بعضهم : نستأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتوه فقالوا : يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا وجدنا عنهن غنى تركناهن فأنزل الله تعالى الآية وأيضا إطلاق الزاني عليه بهذا المعنى لا يوافق إطلاق الزانية على إحدى صاحبات الرايات وكذا لا يوافق إطلاق الزاني على من أطلق عليه في قوله سبحانه الزانية والزاني فاجلدوا الخ
وقال أبو مسلم وأبو حيان وأخرجه أبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة وجماعة من طريق ابن جبير عن ابن عباس أن النكاح بمعنى الوطء أي الزنا و ذلك إشارة إليه والمعنى الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان
(18/86)

من المسلمين أو أخس منه وهو المشرك وحرم الله تعالى الزنا على المؤمنين
وتعقب بأنه لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج وبأنه يؤدي إلى قولك الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان وهو غير مسلم إذ قد يزني الزاني بغير زانية يعلم أحدهما بالزنا والآخر جاهل به يظن الحل وإذا ادعى أن ذلك خارج مخرج الغالب كان من الأخبار بالواضحات وإن حمل النفي على النهي كان المعنى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية وبالعكس وهو ظاهر الفساد
وأجيب عن الأول بأن جل العلماء على أن النكاح في قوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره بمعنى الوطء دون العقد وردوا على من فسره بالعقد وزعم أن المطلقة ثلاثا تحل لزوجها الأول بعقد الثاني عليها دون وطء وعن الثاني بأنه إخبار خارج مخرج الغالب أريد به تشنيع أمر الزنا ولذلك زيدت المشركة والإعتراض بالوضوح ليس بشيء
وللفاضل سري الدين المصري كلام طويل في ذلك وما قيل : إنه حينئذ يكون كقوله تعالى الخبيثات للخبيثين الخ فيحصل التكرار ستعلم إن شاء الله تعالى أنه لا يتم إلا في قول وقيل : النكاح بمعنى التزويج والنفي بمعنى النهي وعبر به عنه للمبالغة وأيد بقراءة عمرو بن عبيد لا ينكح بالجزم والتحريم على ظاهره
قال ابن المسيب : وكان الحكم عاما في الزناة أن لا يتزوج أحدهم إلا زانية ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله : وانكحوا الأيامي منكم وقوله سبحانه فانكحوا ما طاب لكم من النساء وروي القول بالنسخ عن مجاهد وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي قال في الأم : اختلف إهل التفسير في قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الخ اختلافا متباينا قيل : هي عامة ولكنها نسخت أخبرنا سفيان عن يحيى عن سعيد بن المسيب أنه قال : هي منسوخة نسختها وانكحوا الأيامي منكم فهي أي الزانية من الأيامي المسلمين كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى ولنا دلائل من الكتاب والسنة على فساد غير هذا القول وبسط الكلام وقد نقل هذا عن الإمام الشافعي البقاعي ثم قال : إن الشافعي لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامي فقط بل مع ما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقنا كدلالة الخاص على ما تناوله فلا يقال : إنه خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام بل العام المتأخر محمول على الخاص لأن ما تناوله متيقن وما تناوله العام مظنون أه
والجبائي يزعم أن النسخ بالإجماع أراد أنه كاشف عن ناشخ وإلا فالإجماع لا يكون ناسخا كما بين في علم الأصول نعم في تحقق الإجماع هنا كلام واعترض هذا الوجه بأنه يلزم عليه حل نكاح المشرك للمسلمة وأقول : إن نكاح الكافر للمسلمة كان حلالا قبل الهجرة وبعدها إلى سنة الست وفيها بعد الحديبية نزلت آية التحريم كما صرح بذلك العلامة ابن حجر الهيتي وغيره وقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم زوج بنته زينب رضي الله تعالى عنها لأبي العاص بن الربيع قبل البعثة وبعث عليه الصلاة و السلام ثم هاجر وهاجرت معه وهي في نكاح أبي العاص ولم يكن مؤمنا غذ ذاك واستمر الأمر على ذلك إلى سنة الست فلما نزلت آية التحريم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء وأظهر إسلامه عنه فردها صلى الله عليه و سلم له بنكاحه الأول
فيحتمل أن يكون النكاح المذكور خلالا عند نزول الآية التي من فيها بأن يكون نزولها قبل سنة الست
(18/87)

ثم نسخ وفي هذه السورة آيات نصوا على أن نزولها كان قبل ذلك وهي قوله تعالى إن الذين جاؤا بالإفك الخ قال : إنها نزلت عام غزوة بني المصطلق وكانت سنة خمسين لليلتين خلتا من شعبان فلعل هذه الآية من هذا القبيل بل في أثر رواه ابن أبي شيبة عن ابن جبير وذكره العراقي وابن حجر ما ظاهره أن هذه الآية مكية فإذا انضم هذا إلى ما روي عن ابن المسيب وقال به الشافعي يكون فيها نسخان لكن لم أر من نبه على ذلك وإذا صح كان هذا الوجه أقل من الأوجه السابقة مؤنة وكأني بك لا تفضل عليه غيره
وذهب قوم إلى أن حرمة التزويج بالزانية أو من الزاني إن لم تظهر التوبة من الزنا باقية إلى الآن وعندهم أنه إن زنى أحد الزوجين يفسد النكاح بينهما وقال بعضهم : لا ينفسخ إلا أن الرجل يؤمر بطلاق زوجته إذا زنت فإن أمسكها أثم وعند بعض من العلماء أن الزنا عيب من العيوب التي يثيب بها الخبار فلو تزوجت برجل فبان لها أنه ممن يعرف بالزنا ثبت لها الخيار في البقاء معه أو فراقه وعن الحسن أن حرمة نكاح الزاني للعفيفة إنما هي فيما إذا كان مجلودا وكذا حرمة نكاح العفيف للزانية إنما هي إذا كانت مجلودة فالمجلود عنده لا يتزوج إلا مجلودة والمجلودة لا يتزوجها إلا مجلود وهو موافق لما في بعض الأخبار
فقد أخرج أبو الدرداء وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر أن رجلا تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد فجاؤا به إلى علي كرم الله تعالى وجهه ففرق بينه وبين امرأته وقال له : لا تتزوج إلا مجلودة مثلك وعن ابن مسعود والبراء بن عازب أن من زنى بامرأة لا يجوز أن يتزوجها أصلا وأبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وجماعة من التابعين والأئمة على خلافه
واستدل على ذلك بما أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال : الحرام لا يحرم الحلال هذا ومن أضعف ما قيل في الآية : إنه يجوز أن يكون معناها ما في الحديث من أن من زنى تزني امرأته ومن زنت يزني زوجها فتأمل جميع ذاك والله عز و جل يتولى هداك
وقرأ أبو البر هسم وحرم بالبناء للفاعل وهو الله تعالى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وحرم بفتح الحرم وضم الراء والذين يرمون المحصنات شروع في بيان حكم من نسب الزنا إلى غيره بعد بيان حكم من فعله والموصول على ما اختاره العلامة الثاني في التلويح منصوب بفعل محذوف يدل فعل الأمر بعد عليه أي اجلدوا الذين ويجوز أن يكون في محل رفع على الإبتداء ولا يخفى عليك خبره والآية نزلت في امرأة عويمر كما في صحيح البخاري وعن سعيد بن جبير أنها نزلت بسبب قصة الإفك والرمي مجاز عن الشتم
وجرح اللسان كجرح اليد
والمراد الرمي بالزنا كما يدل عليه إيراد ذلك عقيب الزواني مع جعل المفعول المحصنات الدال على النزاهة عن الزنا وهذا كالصريح في ذلك وربما يدعى أن اشتراط أربعة من الشهود يشهدون بتحقق ما رمى به كما يدل عليه قوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة قرينة على المراد بناء على العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رأسي المحصن بدلالة النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة
(18/88)

الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الإجتهاد وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة وقيل المراد الفروج المحصنات وفيه أن إسناد الرمي يأباه مع ما فيه من التوصيف بالمحصنات من مخالفة الظاهر
وقال ابن حزم وحكاه الزهراوي : المراد الأنفس المحصنات واستدل له أبو حيان بقوله تعالى والمحصنات من النساء فإنه لو لا أن المحصنات صالح للعموم لم يقيد وتعقب بأن من النساء هناك قرينة على العموم ولا قرينة هنا وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الإعتماد على ما تقدم والإحصان هنا لا يتحقق إلا بتحقق العفة عن الزنا وهو معناه المشهور وبالحرية والبلوغ والعقل والإسلام
قال أبو بكر الرازي : ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك ولعل غيره علم كما ستعلم إن شاء الله تعالى وثبوته بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافا لزفر ووجه اعتبار العفة عن الزنا ظاهر ولكن في شرح الطحاوي في الكلام على العفة عدم الإقتصار على كونها عن الزنا حيث قال فيها : بأن لم يكن وطيء امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد تسقط عدالته ولا حد على قاذفه وكذا لوطيء في غير الملك كما إذا وطيء جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته ولو وطيء في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطيء امرأته في الحيض أو أمته المجوسية وإن كانت مؤبدة سقطت عدالته كما إذا وطيء أمته وهي اخته من الرضاعة
ولو مس امرأة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط أحصانه عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما يسقط ولو وطيء امرأة بالنكاح ثم تزوج بها سقط إحصانه انتهى
والمذكور في غير كتاب أن أبا حنيفة يشترط في سقوط الحد عن قاذف الواطيء في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة ثابتة بحديث مشهور كحرمة وطيء المنكوحة بلا شهود الثابتة بقوله عليه الصلاة و السلام لا نكاح إلا بشهود وهو حديث مشهور أو ثابتة بالإجماع كموطوأة أبيه بالنكاح أو بملك اليمين لو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها ومثل ذلك عنده وطء مزنيته فإنه لا يعتبر الخلاف عند ثبوت الحرمة بالنص وهنا قد ثبتت به لقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤهم من النساء وإنما يعتبره إذا ثبت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى الفرج والمس بشهوة فإن ثبوتها فيما ذكر لإقامة السبب مقام المسبب احتياطا ومن هذا يعلم حال فروعه كثيرة فليحفظ وما ذكر من سقوط إحصان من وطيء أمته وهي أخته من الرضاع فيه خلاف الكرخي فإنه قال لا يسقط الإحصان بوطئها وهو قول الشافعي ومالك وأحمد لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية وفيه أن الحرمة في وطء المجوسية يمكن ارتفاعها فتكون مؤقتة وحرمة الرضاع لا يمكن ارتفاعها فلم يكن المحل قابلا للحل أصلا واشترط في الملك أن لا يظهر فساده بالإستحقاق فلو اشترى جارية فوطئها ثم استحقت فقذفه إنسان لا يحد وفي كافي الحاكم والقهستاني والفتح أن الوطء في الشراء الفاسد يسقط
(18/89)

الحد على القاذف وحمله بعضهم على ما ذكرنا وقال بعض الأجلة : كما يشترط العفة عن الزنا يشترط السلامة عن تهمته ويحترز به عن قذف ذات ولد ليس له أب معروف فإنهم ذكروا أنه لا يحد قاذفها لمكان التهمة وقد ذكر ذلك الحصكفي في باب اللعان من شرح تنوير الأبصار ولا تقاس اللواطة على الزنا فلو قذف بها لا يحد القاذف خلافا لأبي يوسف : ومحمد وقد اختلفا في أحكام كثيرة ذكرها زين الدين في بحره وأما اعتبار الحرية فلأنها يطلق عليها اسم الإحصان قال الله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فإن المراد بالمحصنات فيه الحرائر فالرقيق ليس محصنا بهذا المعنى وكونه محصنا بمعنى آخر كالإسلام وغيره فيكون محصنا من وجه دون وجه ذلك شبهة في إحصانه فوجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنا بجميع المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كون المقذوفة زوجة أم كون المقذوف زوجا فإنه جاء بمعناه في قوله تعالى والمحصنات من النساء أي المتزوجات ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم ثم لا شك في أن الإحصان أطلق بمعنى الحرية كما سمعت وبمعنى الإسلام في قوله عز و جل فإذا أحصن قال ابن مسعود : أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان وعن داود عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد وأما اعتبار العقل والبلوغ ففيه إجماع إلا ما روي عن أحمد عليه الرحمة من أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه والأصح عنه موافقة الجماعة وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصا إذا كانت مراهقة فإن الحد لعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه العار وكذا قوله وقول الليث : إنه يحد قاذف المجنون لذلك والجماعة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما العار بنسبتهما إلى الزنا بل ربما يضحك من ناسبهما إليه إما لعدم صحة قصده منهما وإما لعدم مخاطبتهما بالمحرمات وما أشبه ذلك ولو فرضنا لحوق عار بالمراهق فليس ذلك على الكمال فيندري الحد ومثل الصبي والمجنون في أنه ربما يضحك من نسبة الزنا إليهما الرتقاء والمجبوب بل هما أولى بذلك لعدم تصوره فيهما ولذا لا يحد بقذفهما وإلا ما روي عن سعيد وابن أبي ليلى منه أنه يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم وكذا ما قيل : إنه يحد بقذفها إذا كانت تحت مسلم ثم إن الإسلام والحرية إذا لم يكونا موجودين وقت الزنا المقذوف به بل كانا موجودين وقت القذف لا يفيدان شيئا فلو قذف امرأة مسلمة زنت في نصرانيتها أو رجلا مسلما زنى في نصرانيته وقال : زنيت وأنت كافرة أو زنيت وأنت كافر أو قذف معتقا زنى وهو عبد أو معتقة زنت وهي أمة وقال : زنيت أو زنيت وأنت عبد أو أنت أمة لا يحد وكذا المكاتب والمكاتبة والكافر الحربي إذا زنى في دار الحرب ثم أسلم ويفهم من كلامهم أن البلوغ والعقل كالإسلام والحرية في ذلك فقد صرحوا فيما إذا قال : زنيت وأنت صغيرة أو زنيت وأنت مجنون بأنه لا يحد وكان المدار في درء الحد الصدق في كل ذلك ومن هنا قال في المبسوط : إن الموطوأة إذا كانت مكرهة يسقط أحصانها ولا يحد قاذفها كما يسقط إحصان المكره الواطيء ولا يحد قاذفه لأن الإكره يسقط الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنى ولكن ذكر فيه أن من قذف زانيا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنى آخر من جنسه أو أبهم في حالة القذف ووجه أن الله تعالى أوجب الحد على من رمى المتصف بالإحصان وبالزنا لا يبقى إحصان فلا يثبت الحد خلافا لإبراهيم وابن أبي ليلى نعم إذا كان القذف بزنا تاب عنه المقذوف يعزر القاذف وهذا يقتضي أنه لا يحتاج سقوط الحد في المسائل السابقة إلى التقييد
(18/90)

فليتأمل ولو تزوج مجوسي بأمه أو بنته ثم أسلم ففسخ النكاح فقذفه مسلم في حال إسلامه يحد عند أبي حنيفة عليه الرحمة بناء على ما يراه من أن أنكحة المجوس لها حكم الصحة
وقال الإمامان : لا يحد بناء على أن ليس لها حكم الصحة وهو قول الأئمة الثلاثة ولا يعلم خلاف بين من يعتبر الحرية في الإحصان في أنه لا حد على من قذف مكاتبا مات وترك وفاء لتمكن الشبهة في شرط الحد وهو الإحصان لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أنه مات حرا أو عبدا وذلك يوجب درء الحد ولأنه يدرأ بالشبهة لا يحد من قذف أخرس فإن هناك احتمال أن يصدقه لو نطق ولا يعول على إشارته هنا وإن قالوا : إنها تقوم مقام عبارته في بعض الأحكام لقيام الإحتمال فيها واشترطوا أيضا أن يوجد الإحصان وقت الحد حتى لو ارتد المقذوف سقط الحد ولو أسلم بعد وكذا لو زنى أو وطيء وطأ حراما أو صار معتوها أو أخرس وبقي ذلك لم يحد كما في كافي الحاكم واشترطوا أيضا أن لا يموت قبل أن يحد القاذف لأن الحد لا يورث وأن لا يكون المقذوف ولد القاذف أو ولد ولده فلا يحد من قذف أحدهما إلى غير ذلك مما ستعلم بعضه إن شاء الله تعالى ولم يصرح أكثر الفقهاء بشروط القاذف ويفهم من كلامهم أنه يشترط فيه أن يكون بالغا فلا يحد الصبي إذا قذف ويعزر عاقلا فلا يحد المجنون ولا السكران إلا غذا سكر بمحرم ناطقا فلا يحد الأخرس لعدم التصريح بالزنا وصرح بهذا ابن الشلبي عن النهاية طائعا فلا يحد المكره قاذفا في دار العدل فلا يحد القاذف في دار الحرب أو البغي وفي الآية إشارة إلى بعض ذلك ويحتمل أن يعد من الشروط كونه عالما بالحرمة حقيقة أو حكما بأن يكون ناشئا في دار الإسلام لكن في كافي الحاكم حربي دخل دار الإسلام بأمان فقذف مسلما يحد في قوله الأخير وهو قول صاحبيه وظاهره أنه يحد ولو كان قذفه في فور دخوله ولعل وجهه أن الزنا حرام في كل ملة فيحرم القذف به أيضا فلا يصدق بالجهل ويشترط أن يكون القذف بصريح الزنا بأي لسان كان كما صرح به جمع من الفقهاء وألحقوا به بعض ألفاظ ثبت الحد بها بالأثر والإجماع فيحد بقوله : زنيت أو زاني بياء ساكنة وكذا يا زاني بهمزة مضمومة عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد فلا يحد بذلك عنده لأنه حقيقة عنده في الصعود وتعقب بأن ذلك إنما يفهم منه إذا ذكر مقرونا بمحل الصعود على أنه ينبغي أن يكون المذهب أنه لو قيل مع ذكر محل الصعود في حالة الغضب والسباب يكون قذفا فقد جزم في المبسوط بالحد فيما إذا قال : زنأت في الجبل أو على الجبل في حالة الغضب ولو قال لامرأة : يا زاني حد اتفاقا وعلله في الجوهرة بأن الأصل في الكلام التذكير ولو قال للرجل : يا زانية لا يحد عند الإمام وأبي يوسف لأنه أحال كلامه فوصف الرجل بصفة المرأة وقال محمد : يحد لأن الهاء تدخل للمبالغة كما في علامة وأجيب بأن كونها للمبالغة مجاز بل هي لما عهد لها من التأنيث ولو كانت في ذلك حقيقة فالحد لا يجب للشك ويحد بقوله : أنت أزنى من فلان أو مني على ما في الظهيرية وهو الظاهر لكن في الفتح عن المبسوط أنه لا حد في أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس وعلله في الجوهرة بأن معناه أنت أقدر على الزنا وفي الفتح بأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال : أنت أعلم بالزنا ولا يخفى أن قصد ذلك في حالة السباب بعيد وفي الخانية في أنت أزنى الناس أو أزنى من فلان الحد وفي أنت أزنى مني لا حد ولا يخفى أن التعرقة غير ظاهرة وقد يقال : إن قوله : أنت أزنى من فلان فيه نسبة فلان إلى الزنا وتشريك المخاطب معه في ذلك بخلاف أنت أزنى مني لأن فيه نسبة نفسه
(18/91)

إلى الزنا وذلك غير قذف فلا يكون قذفا للمخاطب لأنه تشريك له فيما ليس بقذف ويحد بلست لأبيك لما فيه من نسبة الزنا إلى الأم ولما جاء في الأثر عن ابن مسعود لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل من أبيه وقيد يكونه في حالة الغضب إذ هو في حالة الرضا يراد به المعاتبة بنفي مشابهته له وذكر أن مقتضى القياس أن لا حد به مطلقا لجواز أن ينفي النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية من كل وجه بأن تكون موطوأة بشبهة ولدت في عدة الواطيء لكن ترك ذلك للأثر ولا حد بالتعريض كأن يقول ما أنا بزان أو ليست أمي زانية وبه قال الشافعي وسفيان الثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح وهو الرواية المشهورة عن أحمد وقال مالك وهو رواية عن أحمد : يحد بتا لعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان : عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الحد بالتعريض وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه جلد رجلا بالتعريض ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح وللجماعة أن الشارع لم يعتبر مثله فإنه حرم صريح خطبة المتوفي عنها زوجها في العدة وأباح التعريض فقال سبحانه : ولا تواعدوهن سرا وقال تعالى : ولا جناح عليكم فيما عرضتم من خطبة النساء أو أكننتم فإذا ثبت من الشرع عدم اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه وهو أولى من الإستدلال بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يلزم الحد للذي قال : يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفسه لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة تدع ذلك ولا حد بوطئك فلان وطأ حراما أو جامعك حراما أو فجرت بفلانة أو يا حرام زاده أو اذهب فقل لفلان : إنك زان فذهب الرسول فقال له ذلك عنه بأن قال : فلان يقول إنك زان لا إذا قال له : إنك زان فإنه يحد الرسول حينئذ واستيفاء ما فيه حد ومالا حد فيه في كتب الفقه وقولنا في كذا حد على إرادته إذا تحقق الشرط المفهوم من قوله سبحانه : ثم لم يأتوا الخ واشتراط الإتيان بأربعة شهداء تشديدا على القاذف ويشترط كونهم رجالا لما صرحوا به من أنه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود وظاهر إتيان التاء في العدد مشعر باشتراط كونهم كذلك ولا يشترط فيهم العدالة ليلزم من عدم الإتيان بأربعة شهداء عدول الجلد لما صرح به في الملتقط من أنه لو أتي بأربعة فساق فشهدوا أن الأمر كما قال رديء الحد على القاذف والمقذوف والشهود ووجه ذلك أن في الفاسق نوع قصور وإن كان من أهل الأداء والتحمل ولذا لو قضي نفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فيسقط الحد عنهم وعن القاذف وكذا عن المقذوف لاشتراط العدالة في الثبوت ولو كانوا عميانا أو عبيدا أو محدودين في قذف فإنهم يحدون للقذف دون المشهود عليه لعدم أهلية الشهادة فيهم كما قيل
والظاهر أن القاذف يحد أيضا لأن الشهود إذا حدوا مع أنهم إنما تمكنوا على وجه الشهادة دون القذف فحد القاذف أولى والظاهر أن المراد ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على من رمى بأنه زنى والمتبادر أن يكون ذلك عن معاينة لكن قال في الفتح : لو شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ عن القاذف الحد وكذا عن الثلاثة أي الرجل والمرأتين لأن الثابت بالبينة كالثابت فكأنا سمعنا إقراره بالزنا انتهى
وأنت تعلم أن البينة على الإقرار لا تعتبر بالنسبة إلى حد المقذوف لأنه إن كان منكرا فقد رجع بالإنكار عن الإقرار وهو موجب لدرء الحد فتلغو البينة وإن أقر بشرطه لا تسمع فإنها إنما تسمع مع الإقرار في سبع
(18/92)

مواضع ليس هذا الموضع منها ويشترط اجتماع شهود الزنا في مجلس الحاكم بأن يأتوا إليه مجتمعين أو فرادى ويجتمعوا فيه ويقوم منهم الحاكم واحد بعد واحد فإن لم يأتوا كذلك بأن أتوا متفرقين أو اجتمعوا خارج مجلس الحاكم ودخلوا واحدا بعد واحد لم تعتبر شهادتهم وحدوا حد القذف
والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن الحسن والشعبي وقال مالك والشافعي : يلاعن الزوج وتحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظاهر الآية أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة بأن أتى بإثنين أو ثلاثة منها جلد وحده ولا يجلد الشاهد إلا أن المأثور جلده فقد روي أنه شهد على المغيرة بالزنا شبل بن معبد البجلي وأبو بكرة وأخره نافع وتوقف زياد فحد الثلاثة عمر رضي الله تعالى عنه بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكروا عليه وهم هم وفي كلمة ثم إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة لم إشارة إلى تحقق العجز عن الإتيان بهم وتقرره
وفي غير كتاب من كتب الفروع لأصحابنا أن القاذف إذا عجز عن الشهود للحال واستأجل لإحضارهم زاعما أنهم في المصر يؤجل مقدار قيام الحاكم من مجلسه فإن عجز حد ولا يكفل ليذهب لطلبهم بل يحبس ويقال : ابعث إليهم من يحضرهم عند الإمام وأبي يوسف في أحد قوليه لأن سبب وجوب الحد ظهر عند الحاكم فلا يكون له أن يؤخر الحد لتضرر المقذوف بتأخير دفع العار عنه والتأخير مقدار قيامه من المجلس قليل لا يتضرر به وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد يكفل أي بالنفس إلى ثلاثة أيام
وكان أبو بكر الرازي يقول : مراد أبي حنيفة أن الحاكم لا يجبره على إعطاء الكفيل فأما إذا سمحت نفسه به فلا بأس لأن تسليم نفسه مستحق عليه والكفيل بالنفس إنما يطالب بهذا القدر وذكر ابن رستم عن محمد أنه إذا لم يكن له من يأتي بالشهود يبعث معه الحاكم واحدا ليرده عليه والأمر في قوله سبحانه فاجلدوهم لولاة الأمر ونوابهم
والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي : لا يحد إلا بمطالبته وقال مالك : كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إن كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف كذا قال أبو حيان وللمقذوف المطالبة وإن كان آمرا للقاذف بقذفه لأن بالأمر لا يسقط الحد كما نقل الحصكفي ذلك عن شرح التكملة ثم لا يخفى أن القول بأن القاذف لا يحد إلا بمطالبة المقذوف ظاهر في أن الحد حق العبد ويشهد لذلك أحكام كثيرة ذكرها أصحابنا منها أنه لا تبطل الشهادة على ما يوجبه بالتقادم ومنها أنه لا يدفعه الرجوع عن الإقرار بموجبه ومنها أنه يقام على المستأمن وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد ومنها أنه يقدم استيفاؤه على استيفاء حد الزنا وحد السرقة وشرب الخمر ومنها أنه يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه ولذا لو قذف بحضرته يحده
وعندنا أحكام تشهد بأنه حق الله عز و جل منها أن استيفاءه إلى الإمام وهو إنما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى وأما حق العبد فاستيفاؤه إليه ومنها أنه لا يحلف القاذف إذا أنكر سببه وهو القذف ولم تقم عليه بينة ومنها أنه لا ينقلب ما لا عند السقوط ومنها أنه ينتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة
(18/93)

حقا له عز و جل وذكر ابن الهمام أنه لا خلاف في أن فيه حق الله تعالى وحق العبد إلا أن الشافعي مال إلى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى الحق سبحانه وتعالى ونحن صرنا إلى تغليب حق الله تعالى لأن ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد موجبا لتغليب حق الله تعالى لا مهدرا ولا كذلك عكسه أي لو غلب حق العبد لزم أن يستوفي حق الله عز و جل إلا بأن يجعل ولاية استيفائه إليه وذلك لا يجوز إلا بدليل بنصبه الشرع على إنابة العبد في الإستيفاء ولم يثبت ذلك بل الثابت هو استنابة الإمام حتى كان هو الذي يستوفيه كسائر الحدود التي هي حقه سبحانه وتعالى ويتفرع على الخلاف أن من ثبت أنه قذف فمات قبل إقامة الحد القاذف لا يورث عند إقامة الحد عندنا إذ الإرث يجري في حقوق العباد بشرط كونها مالا أو ما يتصل بالمال أو ينقلب إليه وتورث عنده وأن الحد لا يسقط عندنا بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف : لم يقذفني أو كذب شهودي وحينئذ يظهر أن القذف لم يقع موجبا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك وهذا كما إذا صدقه المقذوف وقال زين الدين : أن المقذوف إذا عفا لم يكن للإمام استيفاء الحد لعدم الطلب فإذا عاد وطلب يقيمه ويلغو العفو وعند الشافعي يصح العفو وعن أبي يوسف مثله وكان المراد أنه إذا عفا سقط الحد ولا ينفع العود إلى المطالبة وأنه لا يجوز الإعتياض عنه عندنا وبه قال مالك وعنده يجوز وهو قول أحمد وأنه يجري فيه التداخل عندنا لا عنده وبقولنا قال مالك والثوري والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وطاوس وحماد وأحمد في رواية إذا حد الأسوطا فقذف آخر فإنه يتم الأول ولا شيء للثاني
وكذا إذا قذف واحدا مرات أو جماعة بكلمة مثل أنتم زناة أو بكلمات مثل أنت يا زيد زان وأنت يا عمرو زان وأنت يا بشر زان في يوم أو أيام يحد حدا واحدا إذا لم ةيتخلل حد بين القذفين
وواقفنا الشافعي في الحد الواحد لقاذف جماعة بكلمة مرة واحدة وفي الظهيرية من قذف إنسانا فحد ثم قذفه ثانيا لم يحد والأصل في ما روي أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة فحد لما سمعت كان يقول بعد ذلك في المحافل : أشهد أن المغيرة لزان فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يحده ثانيا فمنعه علي كرم الله تعالى وجهه فرجع إلى قوله وصارت المسئلة إجماعا أه والظاهر أن هذا فيما إذا قذفه ثانيا بالزنا الأول أو أطلق لحمل إطلاقه على الأول لأن المحدود بالقذف يكرر كلامه لإظهار صدقه فيما حد به كما فعل بكرة فإنه لم يرد أن المغيرة لزان أنه زان غير الزنا الأول أما إذا قذفه بعد الحد بزنا آخر فإنه يحد كما في الفتح
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في مبسوطه الصحيح أن الغالب في هذا الحد حق العبد كما قال الشافعي لأن أكثر الأحكام تدل عليه والمعقول يشهد له وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص وقد نص محمد في الأصل على أن حد القذف كالقصاص حق العبد وتفويضه إلى الإمام لأن كل أحد لا يهتدي إلى إقامته ولأنه ربما يريد المقذوف موته لحنقه فيقع متلفا وإنما لا يورث لأنه مجرد حق ليس مالا ولا بمنزلته فهو كخيار الشرط وحق الشفعة بخلاف القصاص فإنه ينقلب إلى المال وأيضا هو في معنى ملك العين لأن من له القصاص يملك إتلاف العين وملك الإتلاف ملك العين عند النساء فصار نت عليه القصاص كالملك لمن له القصاص فيملكه
(18/94)

الوارث في حق استيفاء القصاص وإنما لا يصح عفوه لأنه متعنت فيه لأنه رضا بالعار والرضا بالعار عار ولا يخفى ما في ذلك من الأبحاث
والشافعي يستدل بالآية لعدم التداخل فإن مقتضاها ترتب الحكم على الوصف المشعر بالعلية فيتكرر بتكرره ويجاب بأن الإجماع لما كان على دفع الحدود بالشبهات كان مقيدا لما اقتضته الآية من التكرر عند التكرر بالتكرر الواقع من بعد الحد الأول بل هذا ضروري لظهور أن المخاطبين بالإقامة في قوله تعالى فاجلدوهم هم الحكام ولا يتعلق بهم هذا الخطاب إلا بعد الثبوت عندهم فكان حاصل لآية إيجاب الحد إذ ثبت عندهم السبب وهو الرمي وهو أعم من كونه بوصف الكثرة أو القلة فإذا ثبت وقوعه منه كثيرا كان موجبا للجلد ثمانين ليس غير فإذا جلد ذلك وقع الإمتثال ثم هو عليه الرحمة ترك مقتضى التكرر فيما إذا قذف واحدا مرة ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا فإنه لا يحد مرتين عنده أيضا وكذا في حد الزنا والشرب فإنه إذا زنى ألف مرة أو شرب كذلك لا يحد إلا مرة فالحق أن استدلاله بالآية لا يخلص فإنه ملجيء إلى ترك مثلها من آية أخرى وهي آية حد الزنا فيعود إلى أن هذا حق آدمي بخلاف الزنا فكان المبني هو إثبات أنه حق الله عز و جل أو حق العبد والنظر الدقيق يقتضي أن الغالب فيه حق الله سبحانه وتعالى فتدبر
ثم الظاهر أن الرمي المراد في الآية لا يتوقف على حضور المرمي وخطابه فقذف المحصن حاضرا أو غائبا له الحكم المذكور كما في التاتار خانية نقلا عن المضمرات واعتمده في الدرر ويدل على أن الغيبة كالحضور حده صلى الله عليه و سلم أهل الإفك مع أنه لم يشافه أحد منهم به من نزهها الله تعالى عنه فما في حاوي الزاهدي سمع من أناس كثيرة أن فلانا يزني بفلانة فتكلم بما سمعه منهم مع آخر في غيبة فلان لا يجب حد القذف لأنه غيبة لا رمي وقذف بالزنا لأن الرمي والقذف به إنما يكون بالخطاب كقوله : يا زاني يا زانية ضعيف لا يعول عليه
والظاهر أيضا أنه لا فرق بين رمي الحد ورمي الميت فإذا قال : أبوك زان أو أمك زانية كان قاذفا ويحد عند تحقق الشرط لا لو قال : جدك زان فإنه لا حد عليه لما في الظهيرية من أنه لا يدري أي جد هو وفي الفتح لأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفا مالم يعين محصنا ويطالب بحد القذف للميت من يقع القدح في نسبه بالقذف وهو الوالد وإن علا والوالد وإن سفل ولا يطلبان عن غائب خلافا لابن أبي ليلى لعدم اليأس عن مطالبته ولأنه يجوز أن يصدق القاذف وولد البنت كولد الإبن في هذا الفصل خلافا لما روي عن محمد وتثبت المطالبة للمحروم عن الميراث بقتل أو رق أو كفر نعم ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها في حال موتها وعند زفر إذا كان الولد عبدا أو كافرا لا حق له فيها مطلقا وتثبت للأبعد مع وجود الأقرب فيطالب ولد الولد وجود الولد خلافا لزفر ولو عفا بعضهم لغيره المطالبة لأنها الدفع العار عن نفسه والأم كالأب تطالب بحد قذف ولدها لا أم الأم وأبوها ولا يطالب الابن أباه وجده وإن علا بقذف أمه وهو قول الشافعي وأحمد ورواية عن مالك والمشهور عنه أن للإبن أن يطالب الأب بقذف الأم فيقيم عليه الحد وهو قول أبي ثور وابن المنذر لعموم الآية أو إطلاقها ولأنه حد هو حق الله عز و جل ولا يمنع من إقامته قرابة الولاد
وأجيب بأن عموم قوله تعالى ولا تقل لهما أف مانع من إقامة الولد الحد على أبيه ولا فائدة للمطالبة سوى ذلك والمانع مقدم وقد صح أنه صلى الله عليه و سلم قال لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده وأجمعوا على أنه لا يقتص
(18/95)

منه بقتل ولده ولا شك أن إهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق الأولى مع أن القصاص متيقن سببه والمغلب فيه حق العبد بخلاف حد القذف فيهما ولا حق لأخي الميت وعمه وعمته وخاله وخالته في المطالبة بحد قذفه
وعند الشافعي ومالك عليهما الرحمة تثبت المطالبة لكل وارث وهو رواية غريبة عن محمد وللشافعية فيمن يرثه ثلاثة أوجه الأول جميع الورثة والثاني غير الوارث بالزوجية والثالث ذكور العصبات لا غير والظاهر أن مطالبة من له المطالبة بالحد غير واجبة عليه بل في التاتار خانية وحسن أن لا يرفع القاذف إلى القاضي ولا يطالب بالحد وحسن من الإمام أن يقول للمطالب اعرض عنه ودعه أه
وكأنه لا فرق في هذا بين أن يعلم الطالب صدق القاذف وأن يعلم كذبه وما نقل في القنية من أن المقذوف إذا كان غير عفيف في السر له مطالبة القاذف ديانة فيه نظر لا يخفى وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن يكون الرامي حرا وأن يكون عبدا فيجلد كل منهما إذا قذف وتحقق الشرط ثمانين جلدة وبذلك قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي وجمهور الأئمة على أن العبد ينصف له الحد لما علمت أول السورة وإذا أريد إقامة الحد على القاذف لا يجرد من ثيابه إلا في قول مالك لأن سببه وهو النسبة إلى الزنا كذبا غير مقطوع به لجواز كونه صادقا غير أنه عاجز عن البيان
نعم ينزع عنه الفرو والثوب المحشو لأنهما يمنعان من وصول الألم إليه كذا في عامة الكتب ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع والظاهر كما في الفتح أنه لو كان هذا الثوب فوق قميص نزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا من ذلك ويمنع إيصال الألم وكيف لا والضرب هنا أخف من ضرب الزنا هذا وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بأربعة بالتنوين فشهداء بدل أو صفة وقيل حال أو تمييز وليس بذاك وهي قراءة فصيحة ورجحها ابن جني على قراءة الجمهور بناء على إطلاق قولهم : أنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الإتباع أجود من الإضافة
وتعقب بأن ذاك إذا لم تجر الصفة مجرى الأسماء في مباشرتها العوامل وأما إذا جرت ذلك المجرى فحكمها في العدد وغيره غاية في الباب أنه يجوز فيها الإبدال بعد العدد نظرا إلى أنها غير متمحضة الإسمية و شهداء من ذلك القبيل فأربعة شهداء بالإضافة أفصح من أربعة شهداء بالتنوين والإتباع
وقال ابن عطية : وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما في الشعر انتهى وكأنه أراد الطعن في هذه القراءة على هذا القول وفيه أن سيبويه إنما يرى ذلك في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال دون الذي بعده صفة فإنه على التفصيل الذي ذكر كما قال أبو حيان
وقوله سبحانه ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أي مدة حياتهم كما هو الظاهر عطف على اجلدوا داخل في حكمه تتمة له كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد ورد شهادتهم عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة معلق باستيفاء الجلد فلو شهدوا قبل الجلد أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادتهم وقيل : ترد إذا ضربوا سوطا وقيل : ترد إذا أقيم عليهم الأكثر ومن الغريب ما روي ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله : إن للإبن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال : إنه إذا حد الأب سقطت عدالة الابن
(18/96)

لمباشرته سبب عقوبة أبيه أي وكذا عدالة الأب وهذا ظاهر وقوله تعالى وأولئك هم الفاسقون
4
- كلام مستأنف مبين لسوء حالهم في حكم الله عز و جل وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم هم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة ويعلم مما أشرنا إليه أنهم فسقة عند الشرع الحاكم بالظاهر لا أنهم كذلك في نفس الأمر وعند الله عز و جل العالم بالسرائر لاحتمال صدقهم مع عجزهم عن الإتيان بالشهداء كما لا يخفى وصرح بهذا بعض المفسرين
وجوز أن يكون المراد الإخبار عن فسقهم عند الله تعالى وفي علمه ووجهه إذا كانوا كاذبين ظاهر وأما وجهه إذا كانوا صادقين فهو أنهم هتكوا ستر المؤمنين وأوقعوا السامع في الشك من غير مصلحة دينية بذلك والعرض مما أمر الله تعالى بصونه إذا لم يتعلق بهتكه مصلحة فكانوا فسقة غير ممتثلين أمره عز و جل ولا يخفى حسن حمل الآية على هذا المعنى وهو أوفق لما ذكره الحصكفي في شرح الملتقى نقلا عن النجم الغزي من أن الرمي بالزنا من الكبائر وإن كان الرمي صادقا ولا شهود له عليه ولو من الوالد لولده وإن لم يحد به بل يعزر ولو غير محصن وشرط الفقهاء الأحصان إنما هو لوجوب الحد لا لكونه كبيرة وقد روي الطبراني عن واثلة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من قذف ذميا حد له يوم القيامة بسياط من نار وهذه مسئلة مختلف فيها ففي شرح جمع الجوامع للعلامة المحلي قال الحليمي قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر لأن الإيذاء في قذفهن دونه في الحرة الكبيرة المستترة وقال ابن عبد السلام : قذف المحصن في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله تعالى والحفظة ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة أما قذف الرجل زوجته إذا أتت بولد يعلم أنه ليس منه فمباح وكذا جرح الراوي والشاهد بالزنا إذا علم بل هو واجب انتهى وظاهر ما نقل عن ابن عبد السلام نفي إيجاب الحد لا نفي كونه كبيرة أيضا لشيوع توجه النفي إلى القيد في مثله وإن قلنا : إنه هنا لنفي القيد والمقيد فهو ظاهر كما قال الزركشي فيما إذا كان صادقا لا فيما إذا كان كاذبا لجرأته على الله تعالى جل شأنه فهو كبيرة وإن كان في الخلوة ولعل ما ذكره من وجوب جرح الشاهد بالزنا إذا علم مقيد بما إذا قدر على الإتيان بالشهود والأولى عندي فيما إذا كان الضرر في قبول شهادته عليه يسيرا عدم الجرح بذلك وإن قدر على إثباته وما ذكره في جرح الراوي لا يتم فيما أرى على رأي من يعتبر الجرح المجرد عن بيان السبب ولا يبعد القول بأن الرمي منه ما هو كفر كرمي عائشة رضي الله تعالى عنها سواء كان جهرا أو سرا وسواء كان بخصوص الذي برأه الله تعالى منه أو بغيره وكذا رمي سائر أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وكذا القول في مريم عليها السلام ومنه ما هو كبيرة دون الكفر ومثاله ظاهر ومنه ما هو صغيرة كرمي المملوكة والصغيرة ومنه ما هو واجب كرمي شاهد على مسلم معصوم الدم بما يكون سببا لقتله لو قبلت شهادته وعلم كونها زورا وتعين ذلك لرد شهادته وصيانة ذلك المسلم من القتل ولو كان رميه مع إقامة البينة عليه بالزنا موجبا لرجمه ومنه ما هو سنة كرمي ترتبت عليه مصلحة دون مصلحة الرمي الواجب وقوله تعالى : إلا الذين تابوا أي رجعوا عما قالوا وندموا
(18/97)

على ما تكلموا استثناء من الفاسقين كما صرح به أكثر الأصحاب وقال بعضهم : المستثنى منه في الحقيقة أولئك وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك ومحل المستثنى النصب لأنه عن موجب وقوله عز و جل : من بعد ذلك لتهويل المتوب عنه أي من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم الهائل وقوله تعالى وأصلحوا على معنى وأصلحوا أعمالهم بالإستحلال ممن رموه وهذا ظاهر إن كان قد بقي حيا فإن كان قد مات فلعل الإستغفار له يقوم مقام الإستحلال منه كما قيل في نظير المسئلة فإن كانوا قد رموا أمواتا فالظاهر أنهم يستحلون ممن خاصمهم وطلب إقامة الحد عليهم ويحتمل أن يغني عنه الإستغفار لمن رموه والجمع بين الإستحلال من أولئك المخاصمين والإستغفار للمرميين أولى ولم أر من تعرض لذلك
وكون الإستثناء من الجملة الأخيرة مذهب الحنفية فعندهم لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح لكن قالوا : إن حد الكافر ثم أسلم قبلت شهادته وإن لم تكن تقبل قبل على أهل الذمة ووجهه أن النص موجب لرد شهادته الناشئة عن أهليته الثابتة له عند القذف ولذا قيل ولا تقبلوا لهم شهادة دون ولا تقبلوا شهادتهم أي ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي والشهادة التي كانت حاصلة للكافر عند الرمي هي الشهادة على أبناء جنسه فتدخل تحت الرد وأما الشهادة التي اعتبرت بعد الإسلام فغير تلك الشهادة ولهذا قبلت على أهل الإسلام وغيرهم فلم تدخل تحت الرد وهذا بخلاف العبد إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل شهادته لأنه لم تكن له شهادة من قبل للرق فلزم كون تتميم حده برد شهادته التي تجددت له وقد طلب الفرق بينه وبين من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام فإنه لا يحد حيث توقف حكم الموجب في العبد إلى أن أمكن ولم يتوقف في الزنا في دار الحرب إلى الإمكان بالخروج إلى دار الإسلام
وأجيب بأن الزنا في دار الحرب لم يقع موجبا أصلا لعدم قدرة الإمام فلم يكن الإمام مخاطبا بإقامته أصلا لأن القدرة شرط التكليف فلو حد بعد خروجه من غير سبب آخر كان بلا موجب وغير الموجب لا ينقلب موجبا بنفسه خصوصا في الحد المطلوب درؤه وأما قذف العبد فموجب حال صدوره للحد غير أنه لم يكن تمامه في الحال فيتوقف تتميمه على حدوث ذلك بعد العتق كذا قيل وقال في المبسوط في الفرق بين الكافر إذا أسلم بعد الحد والعبد إذا أعتق بعده : إن الكافر استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة له عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تكن مجروحة بخلاف العبد فإنه بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد ثم لا فرق في العبد بين أن يكون حد أعتق وبين أن يكون أعتق ثم حد حيث لم تقبل شهادته في الصورتين وأما الكافر فإنه لو قذف محصنا ثم أسلم حد لا تقبل شهادته ومقتضى الآية عدم قبول كل شهادة للمحدود حادثة كانت أو قديمة لما أن شهادة نكرة وهي واقعة في حيز النهي فتفيد العموم كالنكرة الواقعة في حيز النفي وهذا يعكر على ما مر من قبول شهادة الكافر المحدود إذا أسلم وأجاب العلامة ابن الهمام بأن التكليف بما في الوسع وقد كلف الحكام برد شهادته فالإمتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة فحيث ردت تحقق الإمتثال وتم وقد حدثت أخرى فلو ردت كانت غير مقتضى إذ الموجب أخذ مقتضاه وللبحث فيه مجال ومقتضى العموم أيضا عدم قبول شهادة المحدود في الديانات وغيرها وهي رواية المنتفي وفي رواية أخرة أنها تقبل في الديانات وكأنهم اعتبروها رواية وخبرا لا شهادة ورب شخص ترد شهادته
(18/98)

وتقبل روايته وأورد على العموم أنهم اكتفوا في النكاح بشهادة المحدودين وأجيب بأن الشهادة هناك بمعنى الحضور وإنما يكتفي به في انعقاد النكاح وقد صرحوا بأن للنكاح حكمين حكم الإنعقاد وحكم الإظهار ولا يقبل في الثاني إلا شهادة من تقبل شهادته في سائر الأحكام كما في شرح الطحاوي والحاصل أن الآية تدل على وجوب رد شهادة المحدود على الحكام بمعنى أنه إذا شهد عندهم على حكم وجب عليهم رد شهادته ويندرج في ذلك شهادته في النكاح لأنه يشهد عندهم إذا وقع التجاحد فلا يعكر على العموم اعتبار حضور مجلس النكاح في صحة انعقاده ذلك أمر وراء ما نحن فيه كذا قيل فليتدبر وذهب الشافعي إلى قبول شهادة المحدود إذا تاب والمردا بتوبته أن يكذب نفسه في قذفه ومبني الخلاف على المشهور الخلاف فيما إذا جاء استثناء بعد جمل مقترنة بالواو هل ينصرف للجملة الأخيرة أو إلى الكل أو هناك تفصيل فالذي ذهب إليه أصحاب الشافعي انصرافه إلى الكل والذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة انصرافه للجملة الأخيرة وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى فالإستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصودها منها وذلك على أربعة أقسام الأول أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال : أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر الثاني أن يتحدا نوعا ويختلفا اسما وحكما كما لو قال أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران الثالث أن يتحدا نوعا ويشتركا حكما لا إسما كما لو قال : سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال الرابع أن يتحدا نوعا ويشتركا اسما لا حكما ولا يشتركا الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال مسلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال وقوة اقتضاء اختصاص الإستثناء بالجملة الأخيرة في هذه الأقسام على هذا الترتيب وإن لم يكن الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى بأن كان بين الجملتين نوع تعلق فالإستثناء ينصرف إلى الكل وذلك على أربعة أقسام أيضا الأول أن يتحد الجملتان نوعا واسما لا حكما غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال : أكرم بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام الثاني أن يتحد الجملتان نوعا ويختلفا حكما واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال : أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال الثالث بعكس ما قبله : أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال الرابع أن يختلف نوع الجمل إلا أنه قد أضمر في الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحد وجعل آية الرمي التي نحن من ذلك حيث قيل : إن جملها مختلفة النوع من حيث أن قوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة أمر وقوله سبحانه ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا نهي وقوله جل وعلا وأولئك هم الفاسقون خبر وهي داخلة أيضا تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الإنتقام والإهانة وداخلة أيضا تحت القسم الثاني من جهة إضمار الإسم المتقدم فيها وذهب الشريف المرتضى من الشيعة إلى القول بالإشتراك وذهب القاضي أبو بكر الغزالي وجماعة إلى الوقف وقال الآدمي : المختار أنه مهما ظهر كون الواو للإبتداء فالإستثناء مختصا بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من الأقسام الثمانية لعدم تعلق إحدى الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو الإبتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب الوقف وذكر حجج الذاهب بما لها وعليها في الأحكام وفي التلويح وغيره أنه لا خلاف في جواز رجوع الإستثناء إلى كل
(18/99)

وإنما الخلاف في الأظهر وفيه نظر فإن بعض حجج القائلين برجوعه إلى الجملة الأخيرة قد استدل بما يدل على جواز رجوعه للجميع قال القلانسي : إن نصب ما بعد الإستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما ذهب إليه أكابر البصريين فلو قيل برجوعه إلى الجميع لكان ما بعد إلا منتصبا بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحدهما للآخر في العمل يلزم أن يكون المعمول الواحد مرفوعا منصوبا معا وهو محال ولأنه إن كان كل منهما مستقلا في العمل لزم عدم استقلاله ضرورة أنه لا معنى لكون كل مستقلا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن لم يكن كل منهما مستقلا لزم خلاف المفروض وإن كان المستقل البعض دون البعض لزم الترجيح بلا مرجح ووجه دلالته وإن بحث فيه عدم جواز رجوعه للجميع ظاهر وكما اختلف الأصوليون في ذلك اختلف النحاة فيه ففي شرح اللمع أنه يختص بالأخيرة وأن تعليقه بالجميع خطأ للزوم تعدد العامل في معمول واحد إلا على القول بأن العامل إلا أو تمام الكلام
وقال أبو حيان : لم أر من تكلم على هذه المسألة من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك عود الإستثناء إلى الجمل كلها كالشرط واختار المهاباذي عوده إلى الجملة الأخيرة وقال الولي بن العراقي : لم يطلق ابن مالك عوده إلى الجمل كلها بل استثنى من ذلك ما إذا اختلف العامل والمعمول كقولك : اكس الفقراء وأطعم أبناء السبيل إلا من كان مبتدعا فقال في هذه الصورة : إنه يعود إلى الأخير خاصة ونقل عن أبي علي الفارسي القول برجوعه إلى الأخيرة مطلقا وهذا كقول الحنفية في المشهور والحق أنهم إنما يقولون برجوعه إلى الأخيرة فقط إذا تجرد الكلام عن دليل رجوعه إلى الكل أما إذا وجد الدليل عمل به وذلك كما في قوله تعالى في المحاربين أن يقتلوا أو يصلبوا إلى قوله سبحانه : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فإن قوله تعالى : من قبل أن تقدروا عليهم يقتضي رجوعه إلى الكل فإنه لو عاد إلى الأخيرة أعني قوله سبحانه : ولهم عذاب عظيم لم يبق للتقييد بذلك فائدة للعلم بأن التوبة تسقط العذاب فليس فائدة من قبل الخ إلا سقوط الحد وعلى مثل ذلك ينبغي حمل قول الشافعية بأن يقال : إنهم أرادوا رجوع الإستثناء إلى الكل إذا لم يكن دليل يقتضي رجوعه إلى الأخيرة
وذكر بعض أجلة المحققين أن الحنفية إنما قالوا برجوع الإستثناء إلى الجملة الأخيرة هنا لأن الجملتين الأوليين وردتا لأنهما أخرجتا بلفظ الطلب مخاطبا بهما الأئمة ولا يضر اختلافهما أمرا ونهيا والجملة الأخيرة مستأنفة بصيغة الإخبار دفعا لتوهم استبعاد كون القذف سببا لوجوب العقوبة التي تندريء بالشبهة وهي قائمة هنا لأن القذف خبر يحتمل الصدق وربما يكون حسبة ووجه الدفع أنهم فسقوا بهتك ستر العفة بلا فائدة حيث عجزوا عن الإثبات فلذا استحقوا العقوبة وحيث كانت مستأنفة توجه الإستثناء إليها
ونقل عن الشافعي أنه جعل ولا تقبلوا استئنافا منقطعا عن الجملة السابقة وأبى أن يكون من تتمة الحد لأنه لا مناسبة بين الجلد وعدم قبول الشهادة وجعل الإستثناء مصروفا إليه بجعل من تاب مستثنى من ضمير لهم ويكون قوله تعالى : وأولئك هم الفاسقون اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة غير منقطع عما قبله ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه ولا تعلق للإستثناء به وآثر ذلك ابن الحاجب في أماليه حيث قال : إن الإستثناء لا يرجع إلى الكل أما الجلد فبالإتفاق وأما قوله تعالى : وأولئك هم الفاسقون
(18/100)

فلأنه إنما جيء به لتقرير منع الشهادة فلم يبق إلا الجملة الثانية فيرجع إليها وتعقب بأن استئناف ولا تقبلوا الخ في غاية البعد والمراد من عدم قبول الشهادة ردها ومناسبته للجلد ظاهرة لأن كلا منهما مؤلم زاجر عن ارتكاب جريمة الرمي وكم من شخص لا يتألم بالضرب كما يتألم برد شهادته وربما يقال : إن رد الشهادة قطع للآلة الخائنة معنى وهي اللسان فيكون كقطع اليد حقيقة في السرقة ومن أنصف رأي مناسبته للجلد أتم من مناسبة التغريب له لأن التغريب ربما يكون سببا لزيادة الوقوع في الزنا لقلة من يراقب ويستحي منه في الغربة وقد تضطر المرأة إذا غربت إلى ما يسد رمقها فتسلم نفسها لتحصيل ذلك وأيضا الجلد فعل يلزم على الإمام فعله والرد المراد من عدم القبول كذلك وقد خوطب بكلتا الجملتين الإنشائيتين لفظا ومعنى الأئمة وبهذا يقوي أمر المناسبة
واعترض الزيلعي على القول بأن جملة وأولئك هم الفاسقون تعليل لرد الشهادة فقال : لا جائز أن يكون رد شهادته لفسقه لأن الثابت بالنص في خبر الفاسق هو التوقف لقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا لا الرد وعلة الرد هنا ليست إلا أنه حد انتهى وفيه نظر ولم يجعل الشافعي على هذا النقل الجملة المذكورة مع كونها جارية مجرى التعليل لما قبلها معطوفة عليه لما قال غير واحد من أن العطف بالواو يمنع قصد التعليل لرد الشهادة بسبب الفسق لأن العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل إنما تذكر بالفاء وكذا ينبغي أن لا تكون معطوفة على ما أشير إليه سابقا من أنها علة لاستحقاق العقوبة إذ ذلك غير منطوق وانتصر للشافعي عليه الرحمة فيما ذهب إليه من قبول شهادته إذا تاب بأنه إذا جعلت الجملة تعليلا للرد يتم ذلك ولم سلم رجوع الإستثناء إلى الجملة الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو ولوجوب زوال الحكم بزوال العلة ولا أظنه يدفع إلا بالتزام أنها ليست للتعليل
وقال بعضهم : لا انقطاع بين الجمل عند الشافعي ومقتضى أصله المشهور رجوع الإستثناء إلى الجميع فيلزم حينئذ سقوط الجلد بالتوبة لكنه لا يقول بذلك لأن تحقيق مذهبه أن الرجوع إلى الكل قد يعدل عنه وذلك عند قيام الدليل وظهور المانع والمانع هنا من رجوعه إلى الجملة الأولى على ما قيل الإجماع على عدم سقوط الجلد بالتوبة لما فيه من حق العبد وأولى منه ما أوما إليه القاضي البيضاوي من أن الإستسلام للجلد من تتمة التوبة فيكيف يعود إليه ولا يمكن أن يقال : إن عدم قبول الشهادة والتفسيق تتمتها أيضا كما لا يخفى وقيل : يجوز أن تخرج الآية على أصله المشهور ولا مانع من رجوع الإستثناء إلى الجملة الأولى أيضا لما أن المستثنى هو الذين تابوا وأصلحوا ومن جملة الإصلاح الإستحلال وطلب العفو من المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضا وفيه أن يكون طلب العفو من الإصلاح غير نافع لأن الجلد لا يسقط بطلب العفو بل بالعفو وهو ليس من جملة هذا الإصلاح إذ العفو فعل المقذوف وهذا الاح فعل القاذف فلم يصح صرف الإستثناء إلى الكل كما هو أصله المشهور
وقال الزمخشري : الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن يكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط والمعنى ومن قذف فاجمعوا لهم بين الأجزئة الثلاثة إلا الذين تابوا منهم فيعودون غير مجلودين ولا مردودي الشهادة ولا مفسقين قال في الكشف : وهذا جار على أصل الشافعي من أن الإستثناء يرجع إلى الكل وانضم إليه ههنا أن الجمل دخلت في حيز الشرط فصرن كالمفردات وتعقب القول بدخول قوله تعالى : وأولئك هم الفاسقون في حيز الجزاء بأن دليل المشاركة في الشرط يقتضي عدم الدخول فإنه جملة خبرية غير مخاطب بها الأئمة لإفراد الكاف في أولئك فهو عطف على الجملة الإسمية أي الذين يرمون الخ أو مستأنف لحكاية حال
(18/101)

الرامين عند الشرع وأورد عليه أن عطف الخبر على الإنشاء وعكسه لاختلاف الأغراض شائعان في الكلام وأن إفراد كاف الخطاب مع الإشارة جائز في خطاب الجماعة كقوله تعالى : ثم عفونا عنكم من بعد ذلك على أن التحقيق إن الذين يرمون منصوب بفعل محذوف أي إجلدوا الذين الخ فهو أيضا جمله فعلية إنشائية مخاطب بها الأئمة فالمانع المذكور قائم هنا مع زيادة العدول عن الأقرب إلى الأبعد ولو سلم أن الذين مبتدأ فلا بد من الإنشائية الواقعة موقع الخبر من تأويل وصرف عن الإنشائية عند الأكثر وحينئذ يصح عطف أولئك هم الفاسقون عليه وقال الزمخشري : معنى أولئك هم الفاسقون فسقوهم والإنصاف يحكم بعدم ظهور دخول الجملة الأخيرة في حيز الجزاء وجميع ما ذكروه إنما يفيد الصحة لا الظهر
ولعل الظاهر أنها استئناف تذييلي لبيان سوء حال الرامين في حكم الله تعالى وحينئذ عود الإستئناف إليه ظاهر لا يقال إن ذلك ينفي الفائدة لأنه معلوم شرعا أن التوبة تنزيل الفسق من غير هذه الآية لأنا نقول : لا شبهة في أن العلم بذلك من طريق السمع وقد ذكر الدال عليه منه وكون آية أخرى تفيده لا يضر للقطع بأن طريق القرآن تكرار الدوال خصوصا إذا كان التأكيد مطلوبا هذا وإلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ذهب الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقد روي ذلك عن كل الجلال السيوطي في الدر المنثور وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته ذهب مالك وأحمد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري ومحارب وشريح ومعاوية بن قرة وعكرمة وسعيد بن جبير على ما ذكره الطيبي وعد ابن جبير من القائلين كقول الشافعي يخالفه ما سمعت آنفا وعد ابن الهمام شريحا ممن قال كقول أبي حنيفة وعن ابن عباس روايتان وفي صحيح البخاري جلد عمر رضي الله تعالى عنه أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم وقال من تاب قبلت شهادته ومن تتبع تحقق أن أكثر الفقهاء قائلون كقول الشافعي عليه الرحمة ودعوى إجماع فقهاء التابعين عليه غير صحيحة كما لا يخفى والله تعالى أعلم ووجه التعليل المستفاد من قوله تعالى فإن الله عفور رحيم
5
- على القولين ظاهر لكن قيل إنه على قول أبي حنيفة أظهر وهو تعليل لما يفيده الإستثناء ولا محل من الإعراب وجوز أبو البقاء كون الذين مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي لهم
واختار الجمهور الإستئناف والإستثناء وهو على ما ذهب إليه أصحابنا منقطع وبينه أبو زيد الدبوسي في التقويم بما حاصله أن المستثنى وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما هو معنى الإستثناء المتصل بل قصد أثبات حكم آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقا وتعقبه العلامة الثاني بأنه إنما يتم إذا لم يكن معنى هم الفاسقون الثبات والدوام وإلا فلا تعذر للإتصال فلا وجه للإنقطاع وبينه فخر الإسلام بأن المستثنى غير داخل في صدر الكلام لأن التائب ليس بفاسق ضرورة أنه عبارة عمن قام به الفسق والتائب ليس كذلك لزوال الفسق بالتوبة وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء معنى الفعل وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح الإخراج لأن التائب ليس بمخرج ممن كان فاسقا في الزمان الماضي
واعترض بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الإستثناء ليس هو الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك وهم الذين يرمون المشار إليه بقوله تعالى وأولئك ولا شك أن التائبين داخلون فيهم مخرجون عن حكمهم
(18/102)

وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا التائبين منهم كما يقال القوم منطلقون إلا زيدا استثناء متصلا بناء على أن زيدا داخل في القوم مخرج عن حكم الإنطلاق فيصح الإستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ هو القوم أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب وأن عمل الصفة في المستثنى أظهر وليس المراد أن المستثنى منه لفظا هو لفظ القوم البتة وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام أن زيدا داخل في الذوات المحكوم عليهم بالإطلاق مخرج عن حكم الإنطلاق كما في قولنا انطلق القوم إلا زيدا زكذا الكلام في الآية
وأجيب بأن الفاسقين ههنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان أو من قام به الفسق في الجملة ماضيا كان أو حالا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشارع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة ومن شرط الإستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولا للمستثنى على تقدير السكوت عن الإستثناء وهذا مراد فخر الإسلام بعدم تناول الفاسقين للتائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الإستثناء أريد الثاني أو الثالث فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق
ولا يخفى أن منع عدم دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عنهم بالمعنى الآخر موجه وإن الإستدلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على أولئك المشار به إلى الذين يرمون وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة وكفى به مخصصا أه وفيه أن الإجماع لا يكون مخصصا فيما نحن فيه لكون متراخيا عن النص ضرورة أنه لا إجماع إلا بعد زمان النبي صلى الله عليه و سلم فالحكم بالفسق على أولئك المشار به إلى الذين يرمون وهو عام فيتم الإستدلال
وأجيب عن هذا بأن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله اللفظ لا التخصيص المصطلح وهو كما ترى وفي قوله : ومن شرط الإستثناء المتصل بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وقال العلامة : الظاهر كون الإستثناء متصلا أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنه غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكأنه أراد أنهم غير محكوم عليهم بالفسق الدائم وهو المحكوم به عليهم في الصدر بقرينة الجملة الإسمية
وذكر بعض الأفاضل في توجيه كونه متصلا أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له لما صح استثناؤه فههنا الذين يرمون شامل للتائبين منهم فلا يضر في صحة الإستثناء ليسوا بفاسقين وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدخل زيد في الإنطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدا
والحاصل أنه يكفي في الإستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال : خلق الله تعالى كل شيء إلا ذاته سبحانه وصفاته العلي قال العلامة : ويمكن الجواب عن هذا بأنه لا فائدة للإستثناء المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر الإسلام بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وبحث فيه بأن عدم التناول الشرعي مستفاد من الإستثناء المذكور في الآية والحديث أعني التائب من الذنب كمن لاذنب
(18/103)

له مبين له فلا وجه لمنع وجود الفائدة وبأن كون خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوما هنا غير معلوم لمكان الخلاف في اشتراط بقاء الفعل وبأن الفائدة الجديدة في المنقطع التي يعري عنها المتصل غير ظاهرة وقال أيضا : لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون ويكون لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين والإثبات له فإن الإستثناء كما يجوز من المحكوم به يجوز من غيره كما يقال : كرام أهل بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدا بمعنى أن زيدا وإن كان غنيا لكنه خارج عن الحمل على الكرام لأنا نقول : فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين ولا يكونوا من القاذفين والأمر بالعكس وقد يقال : إن الإستثناء منقطع على معنى أنهم فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكليف في التقدير أي إلا حال توبة الذين الخ أو إلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل الذين حرفا مصدريا لا إسما موصولا وضمير تابوا عائدا على أولئك وبعد اللتيا والتي يكون الإستثناء مفرغا متصلا لا منقطعا انتهى فتأمل
والذين يرمون أزواجهم بيان لحكم الرامين لأزواجهم خاصة وهو ناسخ لعموم المحصنات وكانوا قبل نزول هذه الآية يفهمون من آية والذين يرمون الخ أن حكم من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء فقد أخرج أبو داود وجماعة عن ابن عباس قال : لما نزلت و والذين يرمون المحصنات الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار : أهكذا أنزلت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا معشر الأنصار ألا تسمعوا ما يقول سيدكم قالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته فقال : سعد والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من عند الله تعالى ولكني تعجبت إني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال : فما لبثوا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فغدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد ابن عبادة الآن يضرب رسول الله عليه الصلاة و السلام هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فقال : هلال والله إني لأرجو أن يجعل تعالى لي منها مخرجا فقال : يا رسول الله إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله تعالى يعلم إني لصادق فو الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل على رسول الله عليه الصلاة و السلام الوحي وكان إذا نزل عليه عليه الصلاة السلام الوحي عرفوا ذلك في تربد جلده فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت والذين يرمون أزواجهم الآية فسرى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبشر يا هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي وقال عليه الصلاة و السلام أرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال : هلال والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت : كذب فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : لاعنوا بينهما الحديث ومنه وكذا من رواية أخرى ذكرها البخاري في صحيحه والترمذي : وابن ماجة يعلم أن قصة هلال سبب نزولها الآية وقيل : نزلت في عاصم بن عدي وقيل : في عويمر بن نصر العجلاني وفي البخاري ما يشهد له بل قال السهيلي إن هذا هو الصحيح ونسب غيره للخطأ والمشهود
(18/104)

كما في البحر أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر وأخرج أبو يعلى وابن مردوية عن أنس أنه قال : لأول لعان كان في الإسلام ما وقع بين هلال بن أمية وزوجته ونقل الخفاجي هنا عن السبكي أشكالا وأنه قال : إنه أشكال صعب وارد على آية اللعان والسرقة والزنا وهو أن ما تضمن الشرط نص في العلية مع الفاء ومحتمل لها بدونها ولتنزيله منزلة يكون ما تضمنه من الحدث مستقبلا لا ماضيا فلا ينسحب حكمه على ما قبله ولا يشمل ما قبله من سبب النزول وتعقبه بأنه لا صعوبة فيه بل هو أسهل من شرب الماء البارد في حر الصيف لأن هذا وأمثاله معناه إن أردتم معرفة هذا الحكم فهو كذا فالمستقبل معرفة حكمه وتنفيذه وهو مستقبل في سبب النزول وغيره والقرينة على أن المراد هذا أنها نزلت في أمر ماض أريد بيان حكمه ولذا قالوا : دخول سبب النزول قطعي
ولا حاجة إلى القول بأن الشرط قد يدخل على الماضي ولا أن ما تضمن الشرط لا يلزمه مساواته لصريحه من كل وجه ولا أن دخول ما ذكر بدلالة النص لفساده هنا انتهى ثم أن المراد هنا نظير ما مر والذين يرمون بالزنا أزواجهم المدخول بهن وغير المدخول بهن وكذا المعتدات في طلاق رجعي ولم يكن لهم شهداء أربعة يشهدون بما رموهن به من الزنا وقريء تكن بالتاء الفوقية وقراءة وقراءة الجمهور أفصح إلا أنفسهم بدل من شهداء لأن الكلام غير موجب والمختار فيه الإبدال أو إلا بمعنى غير صفة لشهداء ظهر إعرابها على ما بعدها لكونها على صورة الحرف كما قالوا في أل الموصولة الداخلة على أسماء الفاعلين مثلا وفي جعلهم من جملة الشهداء إيذان كما قيل من أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة وبذلك ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى : فشهادة أحدهم أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله سبحانه أربع شهادات خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع شهادات بالله متعلق بشهادات وجوز بعضهم تعلقه بشهادة
وتعقب بأنه يلزم حينئذ الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو الخبر وأنت تعلم أن في كون الخبر أجنبيا كلاما وأن بعض النحويين أجاز الفصل مطلقا وبعضهم أجازه فيما إذا كان المعمول ظرفا كما هنا
وقرأ الأكثر أربع بالنصب على المصدرية والعامل فيه شهادة وهي خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أو مبتدأ خبره محذوف أي فعليهم شهادة أو فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله واجبة أو كافية ولا خلاف في جواز تعلق الجار على هذه القراءة بكل من الشهادة والشهادات وإنما الخلاف في الأولى إنه لمن الصادقين
6
- أي فيما رماها به من الزنا والأصل على أنه الخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها باللام للتأكيد ولا يختص التعليق بأفعال القلوب بل يكون فيما يجري مجراها ومنه الشهادة لإفادتها العلم وجوز أن تكون الجملة جوابا للقسم بناء على أن الشهادة هنا بمعنى القسم حتى قال الراغب إنه يفهم منها ذلك وإن لم يذكر بالله وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك والخامسة أي والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة لها خمسا بانضمامها إليهن وإفرادها مع كونها شهادة أيضا لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادتها ما يقصد بالشهادة من تحقيق الخبر وإظهار الصدق وهي مبتدأ خبره قوله تعالى أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين
7
- فيما رماها من الزنى ويؤيدها أي يدفع عنها العذاب أي العذاب الدنيوي وهو الحبس عندنا والحد عند الشافعي وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام فيه أن تشهد أربع شهادات بالله إنه أي الزوج
(18/105)

لمن الكاذبين
8
- فيما رماها به من الزنا والخامسة بالنصب عطفا على أربع شهادات وقوله تعالى إن غضب الله عليها إن كان أي الزوج من الصادقين
9
- فيما رماها به من الزنا بتقدير حرف الجر أي بأن غضب الخ وجوز أن تكون إن وما بعدها بدلا من الخامسة وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليضظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن فربما يتجرين على التفوه به لسقوط وقعه على قلوبهن بخلاف غضبه جل جلاله
وقرأ طلحة والسلمي زالحسن والأعمش وخالد بن إياس بنصب الخامسة في الموضعين وقد علمت وجه النصب في الثاني وأما وجه النصب في الأول فهو عطف الخامسة على أربع شهادات على قراءة من نصب أربع وجعلها مفعولا لفعل محذوف يدل عليه المعنى على قراءة من رفع أربع أي ويشهد الخامسة والكلام في أن لعنة الخ كما سمعت في أن غضب الخ وقرأ نافع أن لعنة بتخفيف أن ورفع لعنة و أن غضب بتخفيف أن وغضب فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة و أن في الموضعين مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولم يؤت بأحد الفواصل من قد والسين ولا بينها وبين الفعل في الموضع الثاني لكون الفعل في معنى الدعاء فما هناك نظير قوله تعالى أن بورك من في النار فلا غرابة في هذه القراءة خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما أن لعنة كقراءة نافع و أن غضب بتخفيف أن و غضب مصدر مرفوع هذا وظاهر قوله تعالى والذين يرمون أزواجهم العموم والمذكور في كتب الأصحاب أنه يشترط في القاذف وزوجته التي قذفها أن يكون لهما أهلية أداء الشهادة على المسلم فلا يجري مجرى اللعان بين الكافرين والمملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكا أو صبيا أو مجنونا أو محدودا في قذف ويشترط في الزوجة كونها مع ذلك عفيفة عن الزنا وتهمته بأن لم توطأ حراما لعينه ولو مرة بشبهة أو بنكاح فاسد ولم يكن لها ولد أب معروف في بلد القذف واشتراط هذا لأن اللعان قائم مقام حد القذف في حق الزوج كما يشير إليه ما قدمناه من الخبر لكن بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقا ألا ترى أنه لو قذف بكلمة أو كلمات أربع زوجات له بالزنا لا يجزيه لعان واحد لهن بل لا بد أن يلاعن كلا منهن ولو قذف أربع أجنبيات كذلك حد حدا واحدا بهن فمتى لم تكن الزوجة ممن يحد قاذفها كما إذا لم تكن عفيفة لم يتحقق في قذفها ما يوجب الحد ليقام اللعان مقامه وأما اشتراط كونهما ممن له أهلية أداء الشهادة فلأن اللعان شهادات مؤكدات بالإيمان عندنا خلافا للشافعي فإنه عنده أيمان مؤكدة وهو الظاهر من قول مالك وأحمد فيقع ممن أهلا لليمين وهو ممن يملك الطلاق فكل من يملكه فهو أهل للعان عنده فيكون من كل زوج عاقل وإن كان كافرا أو عبدا
واستدل على أن اللعان أيمان مؤكدة بقوله سبحانه فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله وذلك أن قوله تعالى بالله محكم في اليمين والشهادة محتملة لليمنى ألا يرى أنه قال : أشهد ينوي به اليمين كان يمينا فيحمل المحتمل على المحكم لأن حمله على حقيقته متعذر لأن المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه و وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإن تكرره معهود في القسامة ولأن
(18/106)

الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الآخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما سمعت من الموجبين
واستدل أصحابنا على أن شهادات مؤكدة بأيمان بالآية أيضا لأن الحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان وقوله سبحانه وتعالى ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم أثبت أنهم شهداء لأن الإستثناء من النفي إثبات وجعل الشهداء مجازا عن الحالفين يصير المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون لأنفسهم وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره ولا وجود له أصلا فلو كان معنى اليمين حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه كيف وهو مجازي لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز وما توهم كونه صارفا مما ذكر غير لازم قوله قبول الشهادة لنفسه وتكرر الإداء لا عهد بهما قلنا : وكل من الحلف لغيره والحلف لا يجاب الحكم لا عهد به بل اليمين لرفع الحكم فإن جاز شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز أيضا شرعية ذلك ابتداء بل هي أقرب لعقلية كون التعدد في ذلك أربعا بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم قبول الشهادة له عند التهمة ولذا تثبت عند عدمها أعظم ثبوت قال الله عز و جل شهد الله أنه لا إله إلا هو فغير بعيد أن تشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبا مع عدم ترتب موجبها في حق كل من الشاهدين إذ موجب شهادة كل إقامة الحد على الآخر وليس ذلك بثابت هنا بل الثابت عند الشهادتين هو الثابت بالإيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر وإنما قيل عندهما ولم يقل بهما لأن هذا الإندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب تعارضهما وأما قوله : واليمين للنفي الخ فحمله ما إذا وقعت في إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة والحق أنها على ما وقعت الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع أيمانا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة للشهادة إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدا للآخر
وأورد على اشتراط الأهلية لأداء الشهادة أنهم قالوا : أن اللعان يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أهلية لهما لذلك ودفع بأنهما من أهل الأداء إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز الأعمى بين المشهود له وعليه وهنا هو قادر على أن يفصل بين نفسه وزوجته فيكون أهلا لهذه الشهادة دون غيرها وروي ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وعمم القهستاني الأهلية فقال : ولو بحكم القاضي والفاسق يصح القضاء بشهادته وكذا الأعمى على القول بصحتها فيما يثبت بالتسامع كالموت والنكاح والنسب وهذا بخلاف المحدود بالقذف فإنه لا يصح القضاء بشهادته ولعل مراد ابن كمال باشا بقوله : لو قضى بشهادة المحدود بالقذف نفذ نفاذ الحكم بصحتها ممن يراها كشافعي على ما قيل وهو خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من رجع إليه ويشترط كون القذف في دار الإسلام وكونه بصريح الزنا فلا لعان بالقذف باللواط عند الإمام وعندهما فيه لعان ولا لعان بالقذف كناية وتعريفا والقذف بصريحه نحو أن يقال : أنت زانية أو يا زانية أو رأيتك تزنين والمشهور عن مالك أن القذف بالأولين يوجب الحد والذي يوجب اللعان القذف بالأخير وهو قول اللليث وعثمان ويحيى بن سعيد وضعف بأن الكل رمى بالزنا وهو السبب كما تدل عليه الآية فلا فرق وبمنزلة القذف بالصريح نفي نسب ولدها منه أو من غيره
(18/107)

وفي المحيط والمبتغي إذا نفى الولد فقال : ليس هذا بابني ولم يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينا لاحتمال أن يكون الولد من غيره بوطء شبهة وهو احتمال ساقط لا يلتفت إليه كما حققه زين في البحر ويشترط في وجوب اللعان طلب الزوجة في مجلس القاضي كما في البدائع إذا كان القذف بصريح الزنا لأن اللعان حقها فإنه لدفع العار عنها وبذلك قالت الأئمة الثلاث أيضا وإذا كان القذف بنفي الولد فيشترط طلب القاذف لأنه حقه أيضا لاحتياجه إلى نفي من ليس ولده عنه ويجب عليه هذا النفي إذا تيقن أن الولد ليس منه لما في السكوت أو الإقرار من استلحاق نسب من ليس منه وهو حرام كنفي نسب من هو منه فقد روى أبو داود والنسائي أنه عليه الصلاة و السلام قال حين نزلت آية الملاعنة : أيما امرأة دخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله تعالى في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عز و جل عنه يوم القيامة وفضحه على رؤس الأولين والآخرين وإن احتمل أن يكون الولد منه فلا يجب بل قد يباح وقد يكون خلاف الأولى بحسب قوة الإحتمال وضعفه وقد يضعف الإحتمال إلى حد لا يباح معه النفي كأن أتت امرأته المعروفة بالعفاف بولد لا يشبهه فعن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال : هل لك من إبل قال : نعم قال ما ألوانها قال : حمر قال : فهل فيها أورق قال : نعم قال : فكيف ذلك قال : نزعه عرق قال : فلعل هذا نزعه عرق وذكروا فيما إذا كانت متهمة برجل فأتت بولد يشبهه وجهين إباحة النفي وعدمها وأما القذف بصريح الزنا فمع التحقق يباح ويجوز أن يستر عليها ويمسكها لظاهر ما روي من أن رجلا قال : يا رسول الله إن امرأتي لا ترد يد لامس قال طلقها قال : إني أحبها قال : فامسكها وفيه احتمال آخر ذكره شراح الحديث ومع عدم التحقق لا يباح ذلك والأفضل للزوجة أن لا تطالب باللعان وتستر الأمر وللحاكم أن يأمرها وإذا طلبت وقد أقر الزوج بقذفها أو ثبت بالبينة وهي رجلان لا رجل وامرأتان إذ لا شهادة للنساء في الحدود وما في النهر والدر المنتقي من جواز ذلك سبق قلم لاعن إن كان مصرا وعجز عن البينة على زناها أو على إقرارها به أو على تصديقها له أو أقام البينة على ذلك ثم عمي الشاهدان أو فسقا أو ارتدا وهذا بخلاف ما إذا ماتا أو غابا بعد ما عدلا فإنه حينئذ لا يقضي باللعان فإن امتنع حبسه الحاكم حتى تبين منه بطلاق أو غيره أو يلاعن أو يذكب نفسه فيحد وعند الشافعي أن امتنع حد حد القذف وكذا إذا لاعن فامتنعت عنده حد الزنا وعندنا تحبس حتى تلاعن أو تصدقه فيرتفع سبب وجوب لعانهما وهو التكاذب على ما قيل والأوجه كون السبب القذف والتكاذب شرطه : وكما لا لعان مع التصديق إذا كان بلفظ صدقت لا حد عليها ولو أعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لأن التصديق المذكور ليس بإقرار قصدا وبالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد وكذا يندفع بذلك كما في الحاكم الحد عن قاذفها بعد ولو صدقته في نفي الولد فلا حد ولا لعان أيضا وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع بحكم اللعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله وما في شرحي الوقاية والنفاية من أنها إذا صدقته ينتفي غير صحيح كما نبه عليه في شرح الدرر والغرر
ووجه قول الشافعي بالحد عند الإمتناع أن الواجب بالقذف مطلقا الحد لعموم قوله سبحانه : والذين يرمون المحصنات الخ إلا أنه يتمكن من دفعه فيما إذا كانت المقذوفة زوجة باللعان تخفيفا عليه فإذا لم يدفعه به يحد وكذا المرأة تلاعن بعدما أوجب الزوج عليها بلعانه فإذا امتنعت حدت للزنا ويشير إليه قوله
(18/108)

سبحانه وتعالى : ويدرأ عنها العذاب ووجه قولنا إن قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم إلى قوله تعالى : فشهادة أحدهم الخ يفهم منه كيفما كانت القراءة أن الواجب في قذف الزوجات اللعان ولا ينكر ذلك إلا مكابر فإما أن يكون ناسخا أو مخصصا لعموم ذلك العام والظاهر عندنا كونه ناسخا لتراخي نزوله كما تشهد له الأخبار الصحيحة والمخصص لا يكون متراخي النزول على التقديرين يلزم كون الحكم الثابت في قذف الزوجات إنما هو ما تضمنته الآية من اللعان حال قيام الزوجية كما هو الظاهر فلا يجب غيره عند الإمتناع عن إيفائه بل يحبس لإيفائه كما في حق امتنع من هو عليه عن إيفئه ولم يتعين كون المراد من العذاب في الآية الحد لجواز كونه الحبس وإذا قام الدليل على أن اللعان هو الواجب وجب حمله عليه
قيل : والعجب من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنا مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبدا فاسقا وأعجب منه أن اللعان يمين عنده وهو لا يصلح لا يجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب وأسقط به كل من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به الرجم الذي هو أغلظ الحدود على المرأة فإن قال : إنما يوجب عليها لنكولها بامتناعها عن اللعان قلنا : هو أيضا من ذلك العجب فإن كون النكول إقرارا فيه شبهة والحد مما يندفع بها مع أنه غاية ما يكون بمنزلة إقراره مرة إن هذه الشبهة أثرت عنده في منع إيجاب المال مع أنه يثبت مع الشبهة فكيف يوجب الرجم به وهو أغلظ الحدود وأصعبها إثباتا وأكثرها شروطا انتهى وليراجع في ذلك كتب الشافعية وفي النهر نقلا عن الاسبيجاني أنهما يحبسان إذا امتنعا عن اللعان بعد الثبوت ثم قال : وينبغي حمله على ماذا لم تعف المرأة كما في البحر وعندي في حبسها بعد امتناعه نوع إشكال لأن اللعان لا يجب عليها إلا بعد لعانه فقبله ليس امتناعا لحق وجب عليها انتهى
وأجاب الطحطاوي بأنه بعد الترافع منهما صار إمضاء اللعان حق الشرع فإذا لم تعف وأظهرت الإمتناع تحبس بخلاف ما إذا أبى هو فقط فلا تحبس انتهى
وقيل : ليس المراد امتناعهما في آن واحد بل المراد امتناعه بعد المطالبة به وامتناعها بعد لعانه فتأمل
والمتبادر من الشهادة ما كان قولا حقيقة ولذا قالوا : لا لعان لو كانا أخرسين أو أحدهما لفقد الركن وهو لفظ أشهد وعلل أيضا بأن هناك شبهة احتمال تصديق أحدهما للآخر لو كان ناطقا والحد يدرأ بالشبهة وكتابة الأخرس في هذا الفصل كإشارته لا يعول عليها وذكروا لو طرأ الخرس بعد اللعان قبل التفريق فلا تفريق ولا حد ويشعر ظاهر الآية بتقديم لعان الزوج وهو المأثور في السنة فلو بدأ القاضي بأمرها فلاعنت قبله فقد أخطأ السنة ولا يجب كما في الغاية أن تعيد لعانها بعد وبه قال مالك
وفي البدائع ينبغي أن تعيد لأن اللعان شهادة المرأة وشهادة تقدح في شهادة الزوج فلا تصح إلا بعد وجود شهادته ولهذا يبدأ بشهادة المدعي في باب الدعوى ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع له ونقل ذلك عن الشافعي وأحمد عليهما الرحمة وأشهب من المالكية والوجه ما تقدم فقد أعقب في الآية الرمي بشهادة أحدهم وشهادتها الدارئة عنها العذاب فيكون هذا المجموع بعد الرمي وليس في الآية ما يدل على الترتيب بين أجزاء المجموع وهذا نظير ما قرره بعض أجلة الأصحاب في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق الآية في بيان أنه لا يدل على فرضية الترتيب كما يقوله الشافعية وظاهر الآية أنه لا يجب في لعانه أن يأتي بضمير المخاطبة ولا في لعانها أن تأتي بضمير المخاطب ففي الهداية صفة اللعان أن
(18/109)

يبتديء به القاضي فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا يشير في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني بيه من الزنا وتقول في الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين في رماني به من الزنا والأصل فيه الآية وروي الحسن عن أبي حنيفة أنه يأتي بلفظة المواجهة ويقول فيما رميتك به من الزنا أي وتأتي هي بذلك أيضا وتقول : إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنا لأنه أقطع للإحتمال وهو احتمال إضمار مرجح للضمير الغائب غير المراد ووجه الأول أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الإحتمال وعن الليث أنه يكتفي في اللعان بالكيفية المذكورة في الآية ويأتي الملاعن مكان ضمير الغائب بضمير المتكلم في شهادته مطلقا وتأتي الملاعنة بذلك في شهادتها الخامسة فتدخل على على ياء الضمير والمراد من الإكتفاء بالكيفية المذكورة أنه لا يحتاج إلى زيادة فيما رميتها به من الزنا في شهادته وإلى زيادة فيما رماني به من الزنا في شهادتها وما ذكر من الإتيان بضمير المتكلم هو الظاهر ولم يؤت به في اللفظ الكريم لتتسق الضمائر وتكون في جميع الآية على طرز واحد مع ما في ذلك من نكتة رعاية التالي على ما قيل وليس في الآية التفات أصلا كما توهم بعض من أدركناه من فضلاء العصر وأما ما أشير من عدم الإحتياج إلى زيادة ما تقدم فالظاهر أن الأحوط خلافه وقد جاءت تلك الزيادة فيما وقع في زمانه صلى الله عليه و سلم من اللعان بين هلال وزوجته على ما في بعض الروايات وذكر الأصحاب أنه يزيد في صورة اللعان بالقذف بنفي الولد بعد قوله : لمن الصادقين قوله فيما رميتك به من نفي الولد وأنها بعد لمن الكاذبين قولها : فيما رميتني به من نفي الولد : ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان الأمران ونقل أبو حيان عن مالك أن الملاعن يقول : أشهد بالله إني رايتها تزني والملاعنة تقول أشهد بالله ما رآني أزني وعن الشافعي أن الزوج يقول : أشهد بالله إني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه أن يمضي أمر من يضع يده على فيه فإن لم يمتنع تركه وحينئذ يقول الخامسة ويأتي بياء الضمير مع على وإن كان قد قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا أو اثنين في كل شهادة وإن نفي ولدها زاد إن هذا الولد ولد زنا ما هو مني والتخويف بالله عز و جل مشروع في حق المتلاعنين فقد صح في قصة هلال أنه لما كان الخامسة قيل له اتق الله تعالى واحذر فإن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة وأن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب وقيل : نحو ذلك لامرأته عند الخامسة أيضا
وفي الظاهر الآية رد على الشافعي عليه الرحمة حيث قال إنه بمجرد لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما وذلك لأن المتبادر أنها تشهد الشهادات وهي زوجة ومتى كانت الفرقة بلعان الزوج لم تبق زوجة عند لعانها والذي ذهب إليه أبو حنيفة عليه الرحمة أنه إذا وقع التلاعن ثبتت حرمة الوطء ودواعيه عن الملاعن فإن طلقها فذاك وإن لم يطلقها بانت بتفريق الحاكم وإن لم يرضيا بالفرقة ولو فرق خطأ بعد وجود الأكثر من كل منهما صح ويشترط كون التفريق بحضورهما وحضور الوكيل كحضور الأصيل ويتوارثان قبله ولو زالت أهلية اللعان بعده فإن كان بما يرجى زواله كجنون فرق وإلا لا وقال زفر : الفرقة بتلاعنهما وإن أكذب نفسه من بعد اللعان والتفريق وحد أم لم يحد يحل له تزوجها عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف إذا افترق المتلاعنان
(18/110)

فلا يجمعان أبدا وثبتت بينهما حرمة كحرمة الرضاع وبه قالت الآئمة الثلاثة وأدلة هذه الأقوال وما لها وما عليها تطلب من كتب الفقه المبسوطة واستدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين فإن قوله : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه وتعليقه على ذلك لا يخرجه عن التعيين نعم يقال إن مشروعيته إن كان صادقا فلو كان كاذبا فلا يحل له واستدل الخوارج على أن الكذب كفر لاستحقاق من يتصف به اللعن وكذا الزنا كفر لاستحقاق فاعله الغضب فإن كلا من اللعن والغضب لا يستحقه إلا الكافر لأن اللعن الطرد عن الرحمة وهو لا يكون إلا لكافر والغضب أعظم منه وفيه أنه لا يسلم أن اللعن في أي موضع وقع بمعنى الطرد عن الرحمة فإنه قد يكون بمعنى الإسقاط عن درجة الأبرار وقد يقصد به إظهار خساسة الملعون وكذا لا يسلم اختصاص الغضب بالكافر وإن كان أشد من اللعن والله تعالى أعلم
ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله تواب حكيم
10
- التفات إلى خطاب الرامين والمرميات بطريق التغليب لتوفيه مقام الإمتنان حقه وجواب لو لا محذوف لتهويله حتى كأنه لا توجد عبارة تحيط ببيانه وهذا الحذف شائع في كلامهم
قال جرير : كذب العواذل لو رأين مناخنا بحزيز رامة والمطي سوام ومن أمثالهم لو ذات سوار لطمتني فكأنه قيل : لو لا تفضله تعالى عليكم ورحمته سبحانه وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان مما لا يحيط به نطاق البيان ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضاحة وبعد ما شرع لهم لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر إليها ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية وقد ابتلى الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى أما على الصادق فظاهر وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبيء عنه التعرض لعنوان توابيته تعالى فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته قاله شيخ الإسلام وعن ابن سلام تفسير الفضل بالإسلام ولا يخفى أنه مما لا يقتضيه المقام وعن أبي مسلم أنه أدخل في الفضل النهي عن الزنا ويحسن ذلك لو جعلت الجملة تذييلا لجميع ما تقدم من الآيات من البعد ما فيه إن الذين جاءوا بالإفك أي بأبلغ ما يكون من الكذب والإفتراء وكثيرا ما يفسر بالكذب مطلقا وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك وجوز فيه فتح الهمزة والفاء وأصله من الأفك بفتح فسكون وهو القلب والصرف لأن الكذب مصروف عن الوجه الذي يحق والمراد به ما أفك به الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها على أن اللام فيه للعهد وجوز حمله على الجنس قيل فيفيد القصر كأنه لا إفك إلا ذلك الإفك وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل وتفصيل القصة ما أخرجه البخاري وغيره عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله
(18/111)

صلى الله عليه و سلم معه قالت عائشة فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي وحسبني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما نأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطيء على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لاأعرف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ثم ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا قالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال قالت وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فأزددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : كيف تيكم فقلت أتأذن لي أن آتي أبوي قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن من قبلهما قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس قالت : يا بنية هوني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت : فقلت سبحان الله ولقد تحدت الناس بهذا قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ابن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال : يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيرون وإن تسأل
(18/112)

الجارية تصدقك قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك قالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي سلول قالت : فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا أن رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن خضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد با عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت : فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت : فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظناني أن البكاء فالق كبدي قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت على امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم ثم جلس قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني قالت : فتشهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت : لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما قال قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي : : أجيبي رسول الله قالت : ما أدري ما أقول لرسول الله قالت : فقلت أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حين استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم : إني برية والله يعلم إني برية لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه برية لتصدقني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف فصبر جميل والله المستعان عما تصفون فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني برية وأن الله مبرئني ببراءتي ولكن ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلي ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت : فو الله ما رام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه قالت : فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سرى عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها : يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم ولا أحمد إلا الله وأنزل الله إن الذين جاؤا بالإفك العشر الآيات كلها والظاهر أن قوله تعالى :
(18/113)

عصبة منكم خبر إن وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء وقال ابن عطية : هو بدل من ضمير جاءوا والخبر جملة قوله تعالى : لا تحسبوه شرا لكم والتقدير إن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون عصبة الخبر انتهى ولا يخفى أنه تكلف والفائدة في الأخبار على الأول قيل : التسلية بأن الجائين بذلك الإفك فرقة متعصبة متعاونة وذلك من أمارات كونه إفكا لا أصل له وقيل : الأولى أن تكون التسلية بأن ذلك مما لم يجمع عليه بل جاء به شرذمة منكم وزعم أبو البقاء بوصف العصبة بكونها منهم أفاد الخبر وفيه نظر
والخطاب في منكم على ما أميل إليه لمن ساءه ذلك من المؤمنين ويدخل فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وأم رومان وعائشة وصفوان دخولا أوليا وأصل العصبة الفرقة المتعصبة قلت أو كثرت وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين وعليه اقتصر في الصحاح وتطلق على أقل من ذلك ففي مصحف حفصة عصبة أربعة وقد صح أن عائشة رضي الله تعالى عنها عدت المنافق عبد الله ابن أبي سلول وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله تعالى عنها وزوجة طلحة بن عبيد الله ومسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت ومن الناس من برأ حسان وهو خلاف ما في صحيح البخاري وغيره
نعم الظاهر أنه رضي الله تعالى عنه لم يتكلم به عن صميم قلب وإنما نقله عن ابن أبي لعنه الله تعالى وقد جاء أنه رضي الله تعالى عنه اعتذر عما نسب إليه في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها فقال : حصان رزان ماتزن بريبة وتصبح غرئى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى ذي المكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو فلا رفعت سوطي إلى أناملي زكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلهم تقاصر عنه سورة المتطاول فإن الذي قد قيل ليس بلائط ولكنه قول أمريء بي ما حل وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تكرمه بعد ذلك وتذكره بخير وإن صح أنها قالت له حين أنشدها أول هذه الأبيات : لكنك لست كذلك فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تأذن لحسان وتدعوا له بالوسادة وتقول : لا تؤذوا حسنا فإنه كان ينصر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلسانه
وأخرج ابن جرير من طريق الشعبي عنها أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب : هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالدتي وعرض لعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكفؤ فشركما لخيركما الفداء
(18/114)

لساني صارم لا عيب فيه وبحري لاتدركه الدلاء وعد بعضهم مع الأربعة المذكورين زيد بن رفاعة ولم نر فيه نقلا صحيحا وقيل إنه خطأ ومعنى منكم من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام سواء كان كذلك في نفس الأمر أم لا فيشمل ابن أبي لأنه ممن ينتمي إلى الإسلام ظاهرا وإن كان كافرا في نفس الأمر : وقيل إن قوله تعالى منكم خارج مخرج الأغلب وأغلب أولئك العصبة مؤمنون مخلصون وكذا الخطاب في لا تحسبوه شرا لكم وقيل : الخطاب في الأول للمسلمين وفي هذا لسيد المخاطبين رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والكلام مسوق لتسليتهم
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير أن الخطاب في الثاني لعائشة وصفوان وأبعد عن الحق من زعم أنه للذين جاؤا بالإفك وتكلف للخيرية ما تكلف ولعل نسبته إلى الحسن لا تصح والظاهر أن ضمير الغائب في لا تحسبوه عائد على الإفك
وجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من جاؤا وعلى ما نال المسلمين من الغم والكل كما ترى وعلى ما ذهب إليه ابن عطية يعود على المحذوف إلى اسم إن الذي هو الاسم في الحقيقة ونهوا عن حسبان ذلك شرا لهم إراحة لبالهم بإزاحة ما يوجب استمرار بلبالهم وأردف سبحانه النهي عن ذلك بالإضراب بقوله عز و جل بل هو خير لكم اعتناء بأمر التسلية والمراد بل هو خير عظيم لكم لنيلكم بالصبر عليه الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله عز و جل بإنزال ما فيه تعظيم شأنهم وتشديد الوعيد فيمن تكلم بما أحزنكم والآيات المنزلة في ذلك على ما سمعت آنفا عن عائشة رضي الله تعالى عنها عشرة
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال : نزلت ثماني عشرة آية متواليات بتكذيب من قذف عائشة وبراءتها وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال : إنه سبحانه أنزل فيها خمس عشرة آية من سورة النور ثم قرأ حتى بلغ الخبيثات للخبيثين وكأن الخلاف مبني على الخلاف في رؤس الآي وفي كتاب العدد للداني ما يوافق المروي عن ابن جبير
لكل امريء منهم أي من الذين جاؤا بالإفك ما اكتسب من الإثم أي جزاء ما اكتسب وذلك بقدر ما خاض فيه فإن بعضهم تكلم وبعضهم ضحك كالمعجب الراضي بما سمع وبعضهم أكثر وبعضهم أقل
والذي تولى كبره بكسر الكاف وقرأ الحسن والزهري وأبو رجاء ومجاهد والأعمش وأبو البرهسم وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وعمرة بنت عبد الرحمن وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو كبره بضم الكاف وهو مكسورها مصدران لكبر الشيء عظم ومعناها واحد وقيل : الكبر بالضم المعظم وبالكسر البداءة بالشيء وقيل : الإثم والجمهور على الأول أي والذي تحمل معظمه منهم أي من الجائين به له عذاب عظيم
11
- في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط وفي التعبير بالموصول وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى والمراد بالذي تولى كبره كما في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها عبد الله بن أبي عليه اللعنة وعلى ذلك أكثر المحدثين
(18/115)

وكان لعنه الله تعالى يجمع الناس عنده ويذكر لهم ما يذكر من الإفك وهو أول من اختللقه وأشاعه لا معانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم وعذابه في الآخرة بعد جعله في الدرك الأسفل من النار لا يقدر قدره إلا الله عز و جل وأما في الدنيا فوسمه بميسم الذل وإظهار نفاقه على رؤس الأشهاد وحده حدين على ما أخرج الطبراني وابن مردوية عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من أنه صلى الله عليه و سلم بعد أن نزلت الآيات خرج إلى المسجد فدعا أبا عبيدة ابن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل الله تعالى من البراءة لعائشة وبعث إلى عبد الله بن أبي فجيء به فضربه عليه الصلاة و السلام حدين وبعث إلى حسان ومسطح وحمنة فضربوا ضربا وجيعا ووجئوا في رقابهم وقيل : حد حدا واحدا فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه فسر العذاب في الدنيا بجلد رسول الله صلى الله عليه و سلم إياه ثمانين جلدة وعذابه في الآخرة بمصيره في النار وقيل : إنه لم يحد أصلا لأنه لم يقر ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة كما أنه لم يلتزم إقامة البينة على نفاقه وصدور ما يوجب قتله لذلك وفيه نظر
وزعم بعضهم أنه لم يحد مسطح وآخرون أنه لم يحد أحد ممن جاء بالإفك إذ لم يكن إقرار ولم يلتزم إقامة بينة وفي البحر أن المشهور حد حسان ومسطح وحمنة وقد أخرجه البزاز زابن مردوية بسند حسن عن أبي هريرة وقد جاء ذلك في أبيات ذكرها ابن هشام في ملخص السيرة لأبن إسحاق وهي : لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح تعاطوا برجم الغيب أمر نبيهم وسخطه ذي العرش الكريم فأنزحوا وآذوا رسول الله فيها فجللوا مخازي بغي يمموها وفضحوا وصب عليهم محصدات كأنها شابيب قطر من ذرى المزن تسفح وقيل : الذي تولى كبره حسان واستدل بما في صحيح البخاري أيضا عن مسروق قال : دخل حسان على عائشة فشبب وقال حصان البيت قالت : لكنك لست كذلك قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم : وأي عذاب أشد من العمى وجاء في بعض الأخبار أنها قيل لها : أليس الله تعالى يقول والذي تولى كبره الآية فقالت : أليس أصابه عذاب عظيم أليس قد ذهب بصره وكسع بالسيف تعني الضربة التي ضربها إياه صفوان حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك فإنه يروى أنه ضربه بالسيف على رأسه لذلك ولأبيات عرض فيها به وبمن أسلم من العرب من مضر وأنشد : تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر ولكنني أحمى حماي وأتقي من الباهت الرأي البريء الظواهر وكاد يقتله بتلك الضربة فقد روي ابن إسحاق أنه لما ضربه وثب عليه وثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بني الحرث بن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال : ما هذا قال : أما أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله فقال له عبد الله : هل علم رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك وبما صنعت قال : لا والله قال : لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه فأتوا رسول الله عليه الصلاة و السلام فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال صفوان : يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : يا حسان أتشوهت على قومي بعد أن هداهم الله تعالى للإسلام
(18/116)

ثم قال : أحسن في الذي أصابك فقال : هي لك يا رسول الله فعوضه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها بيرحاء وكان طلحة بن سهل أعطاها إباه عليه الصلاة و السلام ووهبه أيضا سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان
وفي رواية في صحيح البخاري عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها أنها قالت في الذي تولى كبره منهم هو أي المنافق ابن أبي وحمنة وقيل : هو وحسان ومسطح وعذاب المنافق الطرد وظهور نفاقه وعذاب الأخيرين بذهاب البصر ولا يأبى إرادة المتعدد إفراد الموصول لما في الكشف من أن الذي يكون جمعا وإفراد ضميره جائز باعتبار إرادة الجمع أو الفوج أو الفريق أو نظر إلى أن صورته صورة المفرد وقد جاء إفراده في قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به وجمعه في قوله سبحانه وخضتم كالذي خاضوا والمشهور جواز استعمال الذي جمعا مطلقا واشتراط ابن مالك في التسهيا أن يراد به الجنس لا جمع مخصوص فإن أريد الخصوص قصر على الضرورة هذا ولا يخفى أن إرادة الجمع هنا لا تخلو عن بعد والذي اختاره إرادة الواحد وأن ذلك الواحد هو عدو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين ابن أبي وقد روى ذلك الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عتبة وكلهم سمع عائشة تقول الذي تولى كبره عبد الله بن أبي وقد تظافرت روايات كثيرة على ذلك والذاهبون إليه من المفسرين أكثر من الذاهبين منهم إلى غيره ومن الإفك الناشيء من النصب قول هشام بن عبد الملك عليه من الله تعالى ما يستحق حين سئل الزهري عن الذي تولى كبره فقال له : هو ابن أبي كذبت هو علي يعني به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وقد روي ذلك عن هشام البخاري والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ولا بدع من أموي الإفتراء على أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه وأنت تعلم أن قصارى ما روي عن الأمير رضي الله تعالى عنه أنه قال لأخيه وابن عمه رسول الله صلى الله عليه و سلم حين استشاره يا رسول الله لم يضيق الله تعالى عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك
وفي رواية أنه قال : يا رسول الله قد قال الناس وقد حل لك طلاقها وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه ضرب بريرة وقال : أصدقي رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس في ذلك شيء مما يصلح مستندا لذلك الأموي الناصبي وجل غرض الأمير مما ذكر أن يسري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هو فيه من الغم غاية ما في الباب أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسامة وهو أمر غير متعين ومن دقق النظر عرف مغزى الأمير كرم الله تعالى وجهه وأنه بعيد عما يزعمه النواصب بعد ما بين المشرق والمغرب فليتدبر لو لا إذ سمعتموه التفات إلى خطاب الخائضين ما عدا من تولى كبره منهم واستظر أبو حيان كون الخطاب للمؤمنين دونه واختير الخطاب لتشديد ما في لو لا التحضيضية من التوبيخ ولتأكيد التوبيخ عدل إلى الغيبة في قوله تعالى : ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا لكن لا بطريق الإعراض عن المخاطبين وحكاية جناياتهم لغيرهم بل بالتوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا وهو الإيمان وكونه يحملهم على إحسان الظن ويكفهم عن إساءته بأنفسهم أي بأنباء جنسهم وأهل ملتهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى ولا تلمزوا أنفسكم وقوله سبحانه ثم أنتم هؤلاء تقتلون
(18/117)

أنفسكم ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر وإن قيل بجوازه مما لا ريب فيه فإخلالهم بموجب ذلك الوصف أقبح وأشنع والتوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به إلى توبيخ الخائضات والمشهور منهن حمنة ثم إن كان المراد بالإيمان الحقيقي فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص بالمتصفين به وإن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث أنهم كانوا يحترزون عن إظهار ما ينافي مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل والنكته في توسيط معمول الفعل المحضض عليه بينه وبين أداة التحضيض وإن جاز ذلك مطلقا أي سواء كان المعمول الموسط ظرفا أو غيره تخصيص التحضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير الإتيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن والتردد فيه ليفيد عدم الإتيان به رأسا في غاية ما يكون من القباحة والشناعة أي كان الواجب على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا أول ما سمعوا ذلك ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بأهل ملتهم من آحاد المؤمنين والمؤمنات خيرا وقالوا في ذلك الآن هذا إفك مبين
12
- أي ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بأم المؤمنين حليلة رسول الله صلى الله عليه و سلم بنت المهاجرين رضي الله تعالى عنهما
ويجوز أن يكون المعنى هلا ظن المؤمنين والمؤمنات أول ما سمعوا ذلك خيرا بأهل ملتهم عائشة وصفوان وقالوا الخ لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء إما من تمام القول المحضض عليه مسوقف لتوبيخ السامعين على ترك إلزام الخائضين أي هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا فإذا لم يأتوا يالشهداء الأربعة وكان الظاهر فإذ لم يأتوا بهم إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل لزيادة التقرير فأولئك إشارة إلى الخائضين وما فيها من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد أي فأولئك المفسدون عند الله أي في حكمه وشريعته هم الكاذبون
13
- أي المحكوم عليهم بالكذب شرعا أي بأن خبرهم لم يطابق في الشرع الواقع وقيل : المعنى فأولئك في علم الله تعالى هم الكاذبون الذين لم يطابق خبرهم الواقع في نفس الأمر لأن الآية في خصوص عائشة رضي الله تعالى عنها وخبر أهل الأفك فيها غير مطابق للواقع في نفس الأمر في علمه عز و جل
وتعقب بأن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم مع أن ظاهر التقييد بالظرف يأبى ذلك وجعله من قبيل قوله تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا خلاف الظاهر وأيا ما كان فالحصر للمبالغة وإما كلام مبتدأ مسوق من جهته سبحانه وتعالى تقريرا لكون ذلك إفكا ولو لا فضل الله أي تفضله سبحانه عليكم ورحمته إياكم في الدنيا بفنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة و في الآخرة بضروب الآلاء التي من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة وفي الكلام نشر على ترتيب اللف وجوز أن يتعلق في الدنيا والآخرة بكل من فضل الله تعالى ورحمته والمعنى لو لا الفضل العام والرحمة العامة في كلا الدارين لمسكم عاجلا في ما أفضتم فيه أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك
والإبهام لتهويل أمره واستهجان ذكره يقال أفاض في الحديث وخاض وهضب واندفع بمعنى والإفاضة في ذلك مستعارة من إفاضة الماء في الإناء و لو لا امتناعية وجوابها لمسكم عذاب عظيم
14
(18/118)

يستحقر دونه التوبيخ والجلد والخطاب لغير ابن أبي من الخائضين وجوز أن يكون لهم جميعا
وتعقب بأن ابن أبي رأس المنافقين لاحظ له من رحمة الله تعالى في الآخرة لأنه مخلد في الدرك الأسفل من النار إذ تلقونه بألسنتكم بحذف إحدى التاءين و إذ ظرف للمس وجوز أن يكون ظرفا لأفضتم وليس بذلك والضمير المنصوب لما أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الأفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه والتلقي والتلقف والتلقن متقاربة المعاني إلا أن في التلقي معنى الإستقبال وفي التلقف معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي التلقن معنى الحذق والمهارة وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه تتلقونه على الأصل وشد التاء البزي وأدغم الذال في التاء النحويان وحمزة
وقرأ ابن السمقيع تلقونه بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه تلقونه بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي وقرأت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الكلام كذبه حكاه السرقسطي وفيه رد على من زعم أن ولق إذا كان بمعنى كذب لا يكون متعديا وهو ظاهر كلام ابن سيده وارتضاء أبو حيان ولذا جعل ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تلقون فيه وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقرأ ذلك وتقول : الولق الكذب وقال ابن أبي مليكة : وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها
وقال ابن الأنباري : من ولق الحديث أنشأه واخترعه وقيل : من ولق الكلام دبره وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء كعدد في أثر عدد وكلام في أثر كلام ويقال : ناقة ولقي سريعة ومنه الأولق للمجنون لأن العقل باب من السكون والتماسك والجنون باب من السرعة والتهافت
وعن ابن جني أنه إذا فسر ما في الآية بما ذكر يكون ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تسرعون فيه أو إليه وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام ساكنة من الألق وهو الكذب وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء فوقانية مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا تيجل مضارع وجل وعن سفيان بن عيينة سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه من ثقفت الشيء إذا طلبته فأدركته جاء مثقلا ومخففا أي تتصيدون الكلام في الإفك من ههنا ومن ههنا
وقريء تثقفونه من قفاه إذا تبعه أي تتبعونه
وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم أي تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم فهذا كقوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
وقال ابن المنير : يجوز أن يكون قوله سبحانه تقولون بأفواهكم توبيخا كقولكم : أتقول ذلك بملء فيك فإن القائل ربما رمز وعرض وربما تشدق جازما كالعالم وقد قيل هذا في قوله سبحانه بدت البغضاء من أفواههم وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال فائدة ذكر بأفواهكم أن لا يظن أنهم قالوا ذلك بالقلب لأن القول يطلق على غير الصادر من الأفواه كما في قوله تعالى قالتا أتينا طائعين وقول الشاعر : امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
(18/119)

فهو تأكيد لدفع المجار وأنت تعلم أن السياق يقتضي الأول وإليه ذهب الزمخشري وكان الظاهر تقولونه بأفواهكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لما لا يخفى وتحسبونه هينا سهلا لا تبعة له : وهو عند الله عظيم
15
- أي والحال أنه عند الله عز و جل أمر عظيم لا يقادر قدره في الوزر واستجرار العذاب والجملتان الفعليتان معطوفتان على جملة تلقونه داخلتان معها في حيز إذ فيكون قد علق مس العذاب العظيم بتلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير روية وفكر وحسبانهم ذلك مما لا يعبأ به وهو عند الله عز و جل عظيم
ولو لا إذ سمعتموه ممن اخترعه أو المتابع له قلتم تكذيبا له وتهويلا لما ارتكبه ما يكون لنا ن نتكلم أي ما يمكننا وما يصدر عنا بوجه التكلم بهذا إشارة إلى القول الذي سمعوه باعتبار شخصه
وجوز أن يكون إشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس المتصفين بافحصان محرم شرعا وجاء عن حذيفة مرفوعا أنه يهدم عمل مائة سنة فضلا عن تعرض الصديقة حرمة رسول الله صلى الله عليه و سلم والكلام في توسيط الظرف على نحو ما مر سبحانك تعجب ممن تفوه به وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى شأنه تنزيها له سبحانه من أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه واستعماله فيما ذكر متفرع على الكناية ومثله في استعماله للتعجب لا إله إلا الله والعوام يستعملون الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك المقام أيضا ولم يسمع في لسان الشرع بل قد صرح بعض الفقهاء بالمنع منه
وجوز أن يكون سبحانك هنا مستعملا في حقيقته والمراد تنزيه الله تعالى شأنه من أن يصم نبيه عليه الصلاة و السلام ويشينه فإن فجور الزوجة وصمة في الزوج تنفر عنه القلوب وتمنع عن اتباعه النفوس ولذا صان الله تعالى أزواج الأنبياء عليهم السلام عن ذلك وهذا بخلاف الكفر فإن كفر الزوجة ليس وصمة في الزوج وقد ثبت كفر زوجتي نوح ولوط عليهما السلام كذا قيل وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق به وعلى هذا يكون سبحانك تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله سبحانه هذا بهتان أي كذب يبهت ويحير سامعه لفظاعته عظيم
16
- لايقدر قدره لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها كثيرا ما يكونان باعتبار متعلقاتها والظاهر أن التوبيخ للسامعين الخائضين لا للسامعين مطلقا فقد روي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها قال : سبحانك هذا بهتان عظيم وعن سعيد بن المسيب أنه قال : كان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا ما ذكر أسامة بن زيد بن حارثة وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهما وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : إن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له : يا أبا أيوب ألا تسمع ما يتحدث به الناس فقال : ما يكون لنا أن نكلم بهذا سبحانك هذا بهتان هظيم ومنشأ هذا الجزم على ما قاله الإمام الرازي العلم بأن زوجة الرسول عليه الصلاة و السلام لا يجوز أن تكون فاجرة وعلل بأن ذلك ينفر عن الإتباع فيخل بحكمة البعث كدناءة الآباء وعهر الأمهات وقد نص العلامة الثاني على أن من شروط النبوة السلامة عن ذلك بل
(18/120)

عن كل ما ينفر عن الإتباع واستشكل ذلك بأنه إذا كان ما ذكر شرطا فكيف علمه من سمعت حتى قالوا ما قالوا وخفى الأمر على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قال كما في صحيح البخاري وغيره : يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه
وجاء في بعض الروايات يا عائشة إن كنت فعلت هذا الأمر فقولي لي حتى أستغفر الله تعالى لك وكذا خفى على صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقد أخرج البزاز بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه رأسها فقالت : ألا عذرتني فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم
وأجيب بأن ذلك ليس من الشروط العقلية للنبوة كالأمانة والصدق بل هو من الشروط الشرعية والعادية كما قال اللقاني فيجوز أن يقال : إنه لم يكن معلوما قبل وإنما علم بعد نزول آيات براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وعدم العلم بمثل ذلك لا يقدح في منصب النبوة وأما دعوى علم من ذكر به فلا دليل عليها وقولهم وذلك يجوز أن يكون ناشئا عن حسن الظن لا عن علم بكون السلامة من المنفر عن الإتباع من شروط النبوة ويشهد لهذا إلى بعض القائلين والظاهر تساويهم ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله تعالى عنها قال : بل وذلك الكذب أكنت أنت فاعلة ياأم أيوب قالت : لا والله فقال : فعائشة رضي الله تعالى عنها واختير منك وأطيب إنما هذا كذب وإفك باطل وروي قريبا منه الحاكم وابن عساكر أيضا عن أفلح مولى أبي أيوب ولعله المعنى ببعض الأنصار في الخبر السابق ولم يقل صلى الله عليه و سلم نحو ذلك لحسن الظن لشدة غيرته عليه الصلاة و السلام والغيور لا يكاد يعول في مثل ذلك على حسن الظن ويمكن أن يكون قولهم ذلك ناشئا عن العلم بكون السلامة من المنفر عن الإتباع من شروط النبوة بأن يكونوا قد تفطنوا لكون حكمة البعثة تقتضي تلك السلامة وقد يتفطن العالم لما لا يتفطن له من هو أعلم منه
وجوز أن يدعي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان عالما بعدم جواز فجور نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما فيه من النفرة المخلة بحكمة البعثة لكن أراد عليه الصلاة و السلام أن يظهر أمر براءة الصديقة رضي الله تعالى عنها ظهور الشمس في رابعة النهار بحيث لا يبقى فيه خفاء عند أحد من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وما عراه من الهم إنما هو أمر طبيعي حصل بسبب خوض المنافقين ومن تبعهم وشيوع ما لا أصل له من الباطل بين الناس ويحتمل أنه صلى الله عليه و سلم كان عالما بأن السلامة من المنفر من شروط النبوة لكن خشي من الله عز و جل الذي لا يجب عليه شيء أن لا يجعل ما خاض المنافقون وأتباعهم فيه من المنفر بأن لا يرتب سبحانه خلق النفرة في القلوب عليه ليمنع من الإتباع فتختل حكمة البعثة فداخلة عليه الصلاة و السلام من الهم ما داخله وجعل يتتبع الأمر على أتم وجه وما ذلك إلا من مزيد العلم ونهاية الحزم ونظيره من وجه خوفه عليه الصلاة و السلام من قيام الساعة عند اشتداد الريح لا يستطيع أن ينام ما دام الأمر كذلك حتى تمطر السماء
وقيل : يجوز أن لا يمد فجور الزوجة منفرا إلا إذا أمسكت بعد العلم به فلم يجوز أن يقع فيجب طلاقها
(18/121)

وإذا طلقت لا يتحقق المنفر المخل بالحكمة هذا ولا يخفى عليك ما في بعض الإحتمالات من البحث بل بعضها في غاية البعد عن ساحة القبول ولعل الحق أنه عليه الصلاة و السلام قد أخفى عليه أمر الشرطية إلى أن اتضح أمر البراءة ونزلت الآيات فيها لحكمة الإبتلاء وغيره مما الله تعالى أعلم به وأن قول أولئك الأصحاب رضي الله تعالى عنهم : سبحانك هذا بهتان عظيم لم يكن ناشئا إلا عن حسن الظن ولم يتمسك به صلى الله عليه و سلم لأنه لا يحسم القال والقيل ولا يرد به شيء من الأباطيل ولا ينبغي لمن يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم أن يخالج قلبه بعد الوقوف على الآيات والأخبار شك في طهارة نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الفجور في حياة أزواجهن وبعد وفاتهم عنهن ونسب للشيعة قذف عائشة رضي الله تعالى عنها بما برأها الله تعالى منه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار وليس في كتبهم المعول عليها عندهم عين منه ولا أثر أصلا وكذلك ينكرون ما نسب إليهم من القول بوقوع ذلك منها بعد وفاته صلى الله عليه و سلم وليس له أيضا في كتبهم عين ولا أثر
والظاهر أنه ليس في الفرق الإسلامية من يختلج في قلبه ذلك فضلا عن الإفك الذي برأها الله عز و جل منه
يعظكم الله أي ينصحكم أن تعودوا لمثله أبدا أي كراهة أن تعودوا أو لئلا تعودوا أو يعظكم في العود أي في شأنه وما فيه من الإثم والمضار كما يقال وعظته في الخمر وما فيها من المعار أو يزجركم عن العود على تضمين الوعظ معنى الزجر ويقال عاده وعاد إليه وعاد له وعاد فيه بمعنى والمراد بأبدأ مدة الحياة
إن كنتم مؤمنين
17
- من باب إن كنت أبا لك فلم لا تحسن إلي يتضمن تذكيرهم بالإيمان الذي هو العلة في الترك والتهييج لإبرازه في معرض الشك وفيه طرف من التوبيخ
ويبين الله لكم الآيات أي ينزلها مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها والمراد بها الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن آداب معاملة المسلمين وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن البيان
والله عليم بأحوال جميع مخلوقاته جلها ودقها حكيم
18
- في جميع أفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرم من اصطفاه لرسالته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا وإظهار الاسم الجليل ههنا لتأكيد استقلال الإعتراض التذييلي والإشعار بعلية الألوهية للعلم والحكمة إن الذين يحبون أي يريدون ويقصدون أن تشيع أن تنتشر الفاحشة أي الخصلة المفرطة في القبح وهي الفرية والرمي بالزنا أو نفس الزنا كما روي عن قتادة والمراد بشيوعها شيوع خبرها في الذين آمنوا متعلق بتشيع أي تشيع فيها بين الناس
وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة أي كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم والمراد بهم المحصنون والمحصنات كما روي عن ابن عباس لهم بسبب ذلك عذاب أليم في الدنيا مما يصيبه من البلاء كالشلل والعمى و في الآخرة من عذاب النار ونحوه وترتب ذلك على المحبة ظاهر على ما نقل عن الكرماني من أن أعمال القلب السيئة كالحقد والحسد ومحبة شيوع الفاحشة يؤاخذ العبد إذا وطن نفسه عليها ويعلم من الآية على أتم وجه سوء حال من نزلت الآية فيهم كابن أبي ومن وافقه قلبا وقالبا وأن لهم الحظ
(18/122)

الأوفر من العذابين حيث أحبوا الشيوع وأشاعوا
وقال بعضهم : المراد من محبة الشيوع الإشاعة بقرينة ترتب العذاب عليها فإنه لا يترتب إلا على الإشاعة دون المحبة التي لا اختيار فيها وإن سلم أن المراد بها محبة تدخل تحت الإختيار وهي مما يترتب عليها العذاب قلنا : إن ذلك هو العذاب الأخروي دون العذاب الدنيوي مثل الحد وقد فسر ابن عباس وابن جبير العذاب الأليم في الدنيا هنا بالحد وهو لا يترتب على المحبة مطلقا بالإتفاق ومن هنا قيل أيضا : إن ذكر المحبة من قبيل الإكتفاء عن ذكر الشيء وهو الإشاعة بذكر مقتضيه تنبيها على قوة المقتضى وقيل : إن الكلام على التضمين أي يشيعون الفاحشة محبين شيوعها لأن كلا معنى المحبة والإشاعة مقصودان
واستشكل تفسير العذاب الأليم في الدنيا بالحد بأنه لا يضم إليه العذاب الأليم في الآخرة لأن الحدود مكفرة وأجيب بأن حكم الآية مخصوص بمن أشاع ذلك في حق أم المؤمنين وقيل : الحد لمن نقل الإفك من المسلمين والعذاب الأخروي لأبي عذرته ابن أبي والموصول عام لهما على أن في كون لحدود مطلقا مكفرة خلافا فبعضهم قال به فيما عدا الردة وبعضهم أنكره وبعضهم توقف فيه لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة و السلام قال : لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا ولعل الأنسب بمسلق النظم الكريم من تقبيح الخاطئين في الإفك المشيعين له هو ما ذكرناه أولا والمراد بالموصول إما هم على أن يكون للعهد الخارجي كما روي عن مجاهد وابن زيد والتعبير بالمضارع في الصلة للإشارة إلى زيادة تقبيحهم بأنه قد صارت محبتهم لشيوع الفاحشة عادة مستمرة وأما ما يعمهم وغيرهم من كل من يتصف بمضمون الصلة على إرادة الجنس ويدخل أولئك المشيعون دخولا أوليا كما قيل والله يعلم جميع الأمور التي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة وكذا وجه الحكمة في تغليظ الوعيد وأنتم لا تعلمون
19
- ما يعلمه سبحانه وتعالى
والجملة اعتراض تذييلي جيء به تقريرا لثبوت العذاب لهم وتعليلا له قيل : المعنى والله يعلم ما في ضمائرهم فيعاقبهم عليه في الآخرة وأنتم لا تعلمون ذلك بل تعلمون ما يظهر لكم من أقوالهم فعاقبوا عليه في الدنيا
ولو لا فضل الله عليكم ورحمته الخطاب على ما أخرج الطبراني عن ابن عباس لمسطح وحسان وحمنة أو لمن عدا ابن أبي وأضرا به من المنافقين الخائضين وهذا تكرير للمنة بترك المعالجة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة وقوله سبحانه وتعالى وأن الله رءوف رحيم
20
- عطف على فضل الله وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أن المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بهاتين الصفتين الجليلتين على الدوام والإستمرار لإبيان حدوث تعلقهما بهم كما أنه المراد بالمعطوف عليه وجواب لو لا محذوف كما مر
وهذا نظير الآية المارة في آخر حديث اللعان إلا أن في التعقيب بالرؤف الرحيم بدل الثواب الحكيم هنا ما يؤذن بأن الذنب في هذا أعظم وكأنه لا يرتفع إلا بمحض رأفته تعالى وهو أعظم من أن يرتفع بالتوبة كما روي عن ابن عباس من خاض في الحديث الإفك وتاب ولم تقبل توبته والغرض التغليظ فلا تغفل
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان أي لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وما تذرون
(18/123)

والكلام كناية عن اتباع الشيطان وامتثال وساوسه فكأنه قيل : لا تتبعوا الشيطان في شيء من الأفاعيل التي من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها
وقرأ نافع والبزي في رواية ابن ربيعة عنه وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة خطوات بسكون الطاء وقريء بفتحها وهو في جميع ذلك جمع خطوة بضم الخاء وسكون الطاء اسم لما بين القدمين وأما الخطوة بفتح الخاء فهو مصدر خطأ والأصل في الأسم إذا جمع أن تحرك عينه فرقا بينه وبين الصفة فيضم اتباعا للقاء أو بفتح تخفيفا وقد يسكن ومن يتبع خطوات الشيطان وضع الظاهر أن موضع ضميري الخطوات والشيطان حيث لم يقل ومن يتبعها أو من يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة فإنه يأمر بالفحشاء هو ما أفرط قبحه كالفاحشة والمنكر هو ما ينكره الشرع وضمير إنه للشيطان وقيل للشأن وجواب الشرط مقدر سد ما بعد الفاء مسده وهو في الأصل تعليل للجملة الشرطية وبيان لعلة النهي كأنه قيل : من يتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنه لا يأمر إلا بهما ومن كان كذلك لا يجوز اتباعه وطاعته وقد قرر ذلك النسفي وابن هشام في الباب الخامس من المغنى وتعقب بأنه يأباه ما نص عليه النحاة من أن الجواب لا يحذف إلا إذا كان الشرط ماضيا حتى عدوا من الضرورة قوله : لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي أوسع وأجيب بأن الآية ليست من قبيل ما ذكروه في البيت فإنه مما حذف فيه الجواب رأسا وهذا مما أقيم مقامه ما يصح جعله جوابا بحسب الظاهر وقال أبو حيان : الضمير عائد على الشرطية ولم يعتبر في الكلام حذفا أصلا والمعنى على ذلك من يتبع الشيطان فإنه يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا بالفحشاء والمنكر وهو مبني على اشتراط ضمير في جواب الشرط الإسمي يعود إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه
ولو لا فضل الله عليكم ورحمته بما من جملته إنزال هاتيك الآيات البينات والتوفيق للتوبة الممحصة من الذنوب وكذا شرع الحدود المكفر لما عدا الردة منها على ما ذهب إليه جمع وأجابوا عن حديث أبي هريرة السابق آنفا بأنه كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه و سلم بذلك ما زكى أي ما طهر من دنس الذنوب
وقرأ روح والأعمش ما زكى بالتشديد والإمالة وكتب زكى المخفف بالياء مع أنه من ذوات الواو وحقها أن تكتب بالألف قال أبو حيان : لأنه قد يمال أو حملا على المشدد ومن في قوله تعالى : منكم بيانية وفي قوله سبحانه : من أحد سيف خطيب و أحد في حيز الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى وفي محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية والفاعل عليها ضميره تعالى أي ما زكى الله تعالى منكم أحدا أبدا لا إلى غاية ولكن الله يزكي يطهر من يشاء من عباده بإفاضة فضله ورحمته عليه وحمله على التوبة وقبولها منه كما فعل سبحانه بمن سلم عن داء النفاق ممن وقع في شرك الإفك منكم
والله سميع مبالغ في سمعه الأقوال التي من جملتها ما أظهروه من التوبة عليم
21
- بجميع المعلومات التي من جملتها نياتهم وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة وإظهار الإسم الجليل للإيذان باستدعاء
(18/124)

الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من تأكيد الإستقلال التذييلي ولا يأكل أي لا يحلف افتعال من الآلية
وقال أبو عبيدة واختاره أبو مسلم : أي لا يقصر من الألو بوزن الدلو والألو بوزن العتو قيل : والأول أوفق بسبب النزول وذلك أنه صح عن عائشة وغيرها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حلف لما رأى براءة ابنته أن لا ينفق على مسطح شيئا أبدا وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا وكان ابن خالته وقيل : ابن أخته رضي الله تعالى عنه فنزلت ولا يأتل الخ وهذا هو المشهور
وعن محمد بن سيرين أن أبا بكر حلف لا ينفق على رجلين كانا يتيمين في حجره حيث خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح فنزلت وعن ابن عباس والضحاك أنه قطع جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه منافعهم عمن قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل من تكلم فيه فنزلت وقرأ عبد الله بن عباس بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم يتال مضارع تالي بمعنى حلف قال الشاعر : تالي ابن أوس حلفة ليردني إلى نسوة لي كأنهن مقائد وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل أولوا الفضل منكم أي الزيادة في الدين والسعة أي في المال أن يؤتوا أي على أن لا يؤتوا أو كراهة أن يؤتوا أولا يقصروا في أن يؤتوا
وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وابن البرهسم تؤتوا بتاء الخطاب على الإلتفات
أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله صفات لموصوف واحد بناء على ما علمت من أن الآية نزلت على الصحيح بسبب حلف أبي بكر أن لا ينفق على مسطح وهو متصف كما سمعت بها فالعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الموصوفات والجمع وإن كان السبب خاصا لقصد العموم وعدم الإكتفاء بصفة للمبالغة في إثبات استحقاق مسطح ونحوه الإيتاء فإن من اتصف بواحدة من هذه الصفات إذا استحقه فمن جمعها بالطريق الأولى وقيل : هي لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية ظهوره أي أن يؤتوهم شيئا وليعفوا ما فرط منهم وليفصحوا بالإغضاء عنه وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسن وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتفصحوا بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى : ألا تحبون أن يغفر الله لكم أي بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم والله غفور رحيم
22
- مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته سبحانه على المؤاخذة وكثرة ذنوب العباد الداعية إليها وفيه ترغيب عظيم في الغفور ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل : ألا تحبون أن يغفر الله لكم فهذا من موجباته وصح أن أبا بكر لما سمع الآية قال : بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وأعاد له نفقته وفي رواية أنه صار يعطيه ضعفي ما كان يعطيه أولا ونزلت هذه الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بعد أن أقبل مسطح إلى أبي بكر معتذرا فقال جعلني الله تعالى فداك والله الذي أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما قذفتها وما تكلمت بشيء مما قيل لها أي خال فقال أبو بكر ولكن قد ضحكت وأعجبك الذي قيل فيها فقال مسطح لعله يكون قد كان بعض ذلك وفي الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها واستدل بها على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه داخل في أولي الفضل قطعا لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ولا يضر في ذلك عموم
(18/125)

الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر ولا حاجة إلى دعوى أنها فيه خاصة والجميع للتعظيم وكونه مخصوصا بضمير المتكلم مردود على أن فيها من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيها وأجاب الرافضة بأن المراد بالفضل الزيادة في المال ويرد عليه أنه حينئذ يتكرر مع قوله سبحانه والسعة وادعى الإمام أنها تدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه أفضل جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبين ذلك بما هو بعيد عن فضله وذكر أيضا دلالتها على وجوه من مدحه رضي الله تعالى عنه وأكثرها للبحث فيها مجال واستدل بها على أن ما لا يكون ردة من المعاصي لا يحبط العمل وإلا لما سمى الله تعالى مسطحا مهاجرا مع أنه صدر منه ما صدر وعلى أن الحلف على ترك الطاعة غير جائز لأنه تعالى نهى عنه بقوله سبحانه : لا يأتل ومعناه على ما يقتضيه سبب الغزول لا يحلف وظاهر هذا حمل النهي على التحريم وقيل : هو للكرامة وقيل : الحق أن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراما وقد يكون مكروها فالنهي هنا لطلب الترك مطلقا وفيه بحث
وذكر جمهور الفقهاء أنه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفرن عن يمينه كما جاء في الحديث وقال بعضهم إذا حلف فليأت الذي هو خير وذلك كفارته كما جاء في حديث آخر
وتعقب بأن المراد من الكفارة في ذلك الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي بإحدى الخصال
إن الذين يرمون المحصنات قد تقدم تفسيرها الغافلات عما يرمين به بمعنى أنه لم يخطر لهن ببال أصلا لكونهن مطبوعات على الخير مخلوقات من عنصر الطهارة ففي هذا الوصف من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات المؤمنات أي المتصفات بالإيمان بكل ما يحب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبيء عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الإسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم كذا في إرشاد العقل السليم
وفرع عليه كون المراد بذلك عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وروي ما ظاهره ذلك عن ابن عباس وابن جبير والجمع على هذا باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في النزاهة والإنتساب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ونظير ذلك جمع المرسلين في قوله سبحانه وتعالى كذبت قوم نوح المرسلين وقيل : المراد أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا وروي ما يؤيده عن أبي الجوزاء والضحاك وجاء أيضا عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج عند سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه أنه رضي الله تعالى عنه قرأ سورة النور ففسرها فلما أتى على هذه الآية إن الذين الخ قال هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه و سلم التوبة ثم قرأ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى قوله تعالى إلا الذين تابوا الخبر وظاهره أنه لا تقبل توبة من قذف إحدى الأزواج الطاهرات رضي الله تعالى عنهن
وقد جاء عنه في بعض الروايات التصريح بعدم قبول توبة من خاض في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها ولعل ذلك منه خارج مخرج المبالغة في تعظيم أمر الأفك كما ذكرنا أولا وإلا فظاهر الآيات قبول توبته وقد تاب من تاب من الخائضين كمسطح وحسان وحمنة ولو عملوا أن توبتهم لا تقبل لم يتوبوا نعم ظاهر
(18/126)

هذه الآية على ما سمعت من المراد من الموصوف بتلك الصفات كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز و جل رتب رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين فقال سبحانه لعتوا أي بسبب رميهم إياهن في الدنيا والآخرة حيف يعلنهم اللاعنون والملائكة في الدارين ولهم مع ما ذكر من اللعن عذاب عظيم
23
- هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية
وكذا ذكر سبحانه أحوالا مختصة بأولئك فقال عز و جل : يوم تشهد عليهم الخ ودليل الإختصاص قوله سبحانه ويوم يحشر أعداء الله إلى آخر الآيات الثلاث ومن هنا قيل : إنه لا يجوز أن يراد بالمحصنات الخ المتصفات بالصفات المذكورة أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء الأمة لا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمي إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن طيبات سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه و سلم أم لم يستبح ولم يقصد وأما من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقا غير ظاهر
والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحا أو قاصدا الطعن به عليه الصلاة و السلام كابن أبي لعنه الله تعالى فإن ذلك مما يقتضيه إمعان في عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسان ومسطح وحمنة فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله أجمعين وإنما قالوا ما قالوا تقليدا فوبخوا على ذلك توبيخا شديدا ومما يدل دلالة واضحة على عدم كفر الرامين قبل الرمي أنه عليه الصلاة و السلام لم يعاملهم معاملة المرتدين بالإجماع وإنما أقام عليهم حد القذف على ما جاء في بعضص الروايات فالآية بناء على القول بخصوص المحصنات وهو الذي تعضده أكثر الروايات إن كانت لبيان حكم من يرمي عائشة أو إحدى أمهات المؤمنين مطلقا بعد تلك القصة كما هو ظاهر الفعل المضارع الواقع صلة الموصول فأمر الوعيد المذكور فيها على القول بأنه مختص بالكفار والمنافقين ظاهر لما سمعت من القول بكفر الرامي لأحدى أمهات المؤمنين بعد مطلقا وإن كانت لبيان حكم من رمى قبل احتاج أمر الوعيد إلى القول بأن المراد بالموصول أناس مخصوصون رموا عائشة رضي الله تعالى عنها استباحة لعرضها وقصدا إلى الطعن برسول الله صلى الله عليه و سلم كابن أبي وإخوانه المنافقين عليهم اللعنة وعلى هذا يكون التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة كما قيل إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آنا فآنا وعلى هذا يمكن أن يقال المراد بيان حكم من لم يتب من الرمي فإن التائب من فعل قلما يقال فيه إن شأنه ذلك الفعل فيكون الوعيد مخصوصا بمن لم يتب
والذي تقتضيه الأبار أن كل من وقع في تلك المعصية تاب سوى اللعين ابن أبي وأشياعه من المنافقين وعن ابن عباس أنها نزلت فيه خاصة ولا يخفى وجه الجمع عليه وقيل المراد بيان حكم من رمى والوعيد مشروط بعدم التوبة ولم يذكر للعلم به من القواعد المستقرة إذ الذنب كيفما كان يغفر بالتوبة فلا حاجة إلى أن يقال : المراد إن الذين شأنهم الرمي ليشعر بعدم التوبة والظاهر أن من لم يتب بعد نزول هذه الآيات كافر وليس هو إلا اللعين واختار جمع وقال النحال : هو أحسن ما قيل أن الحكم عام فيمن يرمي الموصوفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة ورميهن إن كان مع استحلال فهو كفر فيستحق الوعيد المذكور إن لم يتب على ما علم من القواعد وإن كان بدون استحلال فهو كبيرة وليس بكفر ويحتاج في هذا إلى منع اختصاص تلك العقوبات والأحوال بالكفار والمنافقين أو التزام القول بأن ذلك ثابت للجنس ويكفي فيه ثبوته لبعض أفراده ولا شك أن فيها من يموت كافرا وفي البحر يناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ويؤيده قوله تعالى يوم تشهد الخ أه
وأنت تعلم أن الأوفق بالسياق والسباق ما عليه الأكثر من نزولها في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحكم رمي سائر أمهاتهم حكم رميها وكذا حكم رمي سائر أزواج الأنبياء عليهم السلام وكذا أمهاتهم وعندي أن حكم رمي بنات النبي عليه الصلاة و السلام كذلك لا سيما بضعته الطاهرة الكريمة فاطمة الزهراء صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم ولم أر من تعرض لذلك فتدبر وعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين موته على الكفر إن لم يتضمن إيذاء مسلم أو ذمي إذ قلنا باستوائه مع المسلم في حرمة الإيذاء أما إن تضمن ذلك حرم
ومن الحرم لعن أبي طالب على القول بموته كافرا بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه ثم أن لعن من يجوز لعنه أنه يعد عبادة إلا إذا تضمن مصلحة شرعية وأما لعن كافر معين حي فالمشهور أنه حرام ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة وسؤال ذلك كفر ونص الزركشي على ارتضائه حيث قال عقبه : فتفطن لهذه المسئلة فإنها غريبة وحكمها متجه وقد زل فيه جماعة وقال العلامة ابن حجر في ذلك : ينبغي أن يقال إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر أو أطاق لم يكفر وإن أراد سؤال بقائه على الكفر أو الرضا ببقائه عليه كفر : ثم قال : فتدبر ذلك حق التدبر فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم أه
وكلعن الكافر المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك وقال السراج المفيني : بجواز لعن العاصي المعين واحتج على ذلك بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو ظاهر فيما يدعيه وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه : يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بأن يقولوا : لعن الله من دعاها زوجها إلى فراشه فبات غضبان بعيد جدا ووما يؤيد قول السراج خبر مسلم أنه صلى الله عليه و سلم مر بحمار وسم في وجهه فقال لعن الله من فعل هذا وهو أبعد عن الإحتمال الذي ذكره ولده وقد صح أنه صلى الله عليه و سلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال : اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله وفيه نوع تأييد لذلك أيضا لكن قيل : إنه يجوز أن يكون قد علم عليه الصلاة و السلام موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن صلى الله عليه و سلم إلا من علم موته عليه ولا يخفى عليك الأحوط في هذا الباب فقد صح من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه وأرى الدعاء للعاصي المعين بالصلاح أحب من لعنه على القول بجوازه وأرى لعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالوصف
(18/127)

أو بالشخص عبادة من حيث أن فيه اقتداء برسول الله عليه الصلاة و السلام وكذا لعن من لعنه الله تعالى على الوجه الذي لعنه سبحانه به هذا وقوله عز و جل يوم تشهد الخ إما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب العظيم بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في لهم من معنى الإستقرار لا لعذاب كما ذهب إليه الحوفي لما في جواز أعمال المصدر الموصوف من الخلاف وقيل لإخلاله بجزالة المعنى وفيه نظر وأما منقطع عنه على أنه ظرف لا ذكر محذوفا أو ليوفيهم الآتي كما قيل بكل واختير أنه ظرف لفعل مؤخر وقد ضرب عنه الذكر صفحا للإيذان بأن العبارة لا تكاد تحيط بتفصيل ما يقع فيه من العظائم والكلام مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه كأنه قيل : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
24
- يظهر من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جميع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط
ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه عز و جل ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها بجنايتهم المعهودة فحسب والموصول المحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن أحدهما خاصة ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه قاله شيخ الإسلام ثم قال : وجعل الموصول المذكور عبارة عن جنايتهم المعهودة وحمل شهادة الجوارح على أخبار الكل بها فقط تحجير للواسع وتهوين للأمر الرادع والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على هاتيك الأعمال في الدنيا وتجددها منهم آنا فآنا وتقديم عليهم على الفاعل للمسارعة إلى كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر أه ولا يخلو عن حسن
وجوز أن تكون الشهادة بما ذكر مجازا عن ظهور آثاره على هاتيك الأعضاء بحيث يعلم من يشاهدهم ما علموه وذلك بكيفية يعلمها الله تعالى واعترض بأنه معارض بقوله تعالى انطقنا الله الذي أنطق كل شيء
وأجيب بأن مجوز ما ذكر يجعل النطق مجازا عن الدلالة الواضحة كما قيل به في قولهم نطقت الحال أو يقول : هذا في حال وذاك في حال أو كل منهما في قوم
ولا يخفى أن الظاهر بقاء الشهادة على حقيقتها إلا أنه استشكل ذلك بأنه حينئذ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة يس اليوم نختم على أفواههم الآية لأن الختم على الأفواه ينافي شهادة الألسن
وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم بالألسنة التي فيها ذلك لا ينافي نطق الألسنة نفسها الذي هو المراد من الشهادة كما أشرنا إليه فإن الألسنة في الأول آلة للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع الختم على الأفواه وشهادة الألسن بأن يمنعوا عن التكلم بالألسنة وتجعل الألسنة نفسها ناطقة متكلمة كما جعل سبحانه الذراع المسموم ناطقا متكلما حتى أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأنه مسموم وللمعتزلة في ذلك كلام وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في موطن وحال وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق الكفرة وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضا وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه جزاء له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال : إنها نكتة
(18/129)

سرية والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر
وقرأ الإخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بالياء آخر الحروف ووجه ظاهر
وقوله تعالى : يومئذ ظرف لقوله سبحانه : يوفيهم الله دينهم الحق والتنوين عوض عن الجملة المضافة إليها والتوفية إعطاء الشيء وافيا والدين هنا الجزاء ومنه كما تدين تدان والحق الموجد بحسب مقتضى الحكمة وقريب منه تفسيره بالثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة أي يوم تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله تعالى جزاءهم المطابق لمقتضى الحكمة وافيا تاما والكلام استئناف مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم المحذوف فيما سبق على وجه الإجمال وجوز أن يكون يومئذ بدلا من يوم تشهد من جوز تعلق ذاك بيوفيهم وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يوفيهم مخففا وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة الحق بالرفع على أنه صفة للاسم الجليل ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته ومعنى الحق على هذه القراءة على ما قال الراغب الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة وفسره بعضهم بالعادل والأكثرون على تفسيره بالواجب لذاته وكذا في قوله سبحانه ويعلمون أن الله هو الحق المبين
25
- والمبين إما من أبان اللازم أي الظاهر حقيته على تقدير جعله نعتا للحق أو الظاهر ألوهيته عز و جل على تقدير جعله خبرا ثانيا أو من أبان المتعدي أي المظهر للأشياء كما في أنفسها وجملة يعملون معطوفة على جملة يوفيهم الله فإن كانت مقيدة بما قيدت به الأولى فالمعنى يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعلمون أن الله الخ وإن لم تكن مقيدة بذلك جاز أن يكون المعنى ويعلمون عند معاينتهم الأهوال والخطوب أن الله الخ والظاهر أن للشهادة على الأول وللمعاينة على الثاني دخلا في صحول العلم بمضمون ما في حيز يعلمون فتأمل لتعرف كيفية الإستدلال على ذلك فإن فيه خفاء لا سيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من تعريف الطرفين وضمير الفصل وقيل : إن علم الخلق بصفاته تعالى يوم القيامة ضروري : وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الإعتراض المروح للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم فر رميهم حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز و جل حقا أي موجدا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن فجور زوجات الأنبياء عليهم السلام مخل بحكمة البعثة وكذا تأبى كونه عز و جل حقا أي واجبا لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي يستتبع الإتصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة وهذه الجملة ظاهرة جدا في أن الآية في ابن أبي وأضرابه من المنافقين الرامين حرم الرسول صلى الله عليه و سلم لأن المؤمن عالم أن الله تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له علم ذلك يوم القيامة ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال : يحتمل أن يكون المراد من العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصل قبل وقد حمل السيد السند قدس سره في حواشي المطالع العلم في قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا يكون اللفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم
ويحتمل أن يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما يقتضيه من الكف عن الرمي
(18/130)

عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب الجليل ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانا مقتضى أن الله هو الحق المبين أعني الإنتقام من الظالم للمظلوم ويحتمل غير ذلك
وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر وقوله تعالى : الخبيثات الخ كلام مستأنف مؤسس على السنة الجارية فيما بين الخلق على موجب أن الله تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل وقول القائل :
إن الطيور على أشباهها تقع
أي الخبيثات من النساء للخبيثين ومن الرجال أي مختصات بهم لا يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للإختصاص والخبيثون أيضا للخبيثات لأن المجانسة من دواعي الإنضمام والطيبات منهن للطيبين منهم والطيبون أيضا للطيبات منهن بحيث لا يتجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي الله تعالى عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات حسبما نطق به قوله سبحانه : أولئك مبرءون مما يقولون على أن الإشارة إلى أهل البيت النبوي رجالا ونساء ويدخل في ذلك الصديقة رضي الله تعالى عنها دخولا أوليا وقيل : إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم والصديقة وصفوان وقال الفراء : إشارة إلى الصديقة وصفوان والجمع يطلق على ما زاد على الواحد
وفي الآية على جميع الأقوال تغليب أي تغليب أولئك منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة وجعل الموصوف للصفات المذكورة النساء والرجال حسبما سمعت رواه الطبراني عن ابن عباس ضمن خبر طويل ورواه الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما واختاره أبو مسلم والجبائي وجماعة وهو الأظهر عندي وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها الطبراني أيضا وابن مردوية وغيرهما أن الخبيثات والطيبات صفتان للكلم والخبيثون والطيبون صفتان للخبيثين من الناس وروي ذلك عن الضحاك والحسن و الخبيثون عليه شامل للرجال والنساء على سبيل التغليب وكذا الطيبون و أولئك إشارة إلى الطيبين وضمير يقولون للخبيثين وقيل للآفكين أي الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولائقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في حقهم خبائث الكلم والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرؤن عن الإتصاف مما يقول الخبيثون وقيل الآفكون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة رضي الله تعالى عنها أيضا
وقيل : المراد الخبيثات من القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بالخبيثات من القول متعرضون لها والطيبات من القول للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بالطيبات من القول لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرؤن مما يقول الخبيثون أي لا يصدر عنهم مثل ذلك وروي ذلك عن مجاهد والكلام عليه على حذف مضاف إلى ما ومآله الحط على الآفكين وتنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلو البشر عنه من الذنب وحسنات الأبرار سيئات المقربين ورزق كريم
26
- هو الجنة كما
(18/131)

قاله أكثر المفسرين ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين واعتدنا لها رزقا كريما فإن المراد ثمت الجنة بقرينة أعتدنا والقرآن يفسر بعضه بعضا وفي هذه الآيات من الدلالة على فضل الصديقة ما فيها ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز و جل قد غلظ في شيء اغليظه في الإفك وهو دال على فضلها أيضا وكانت رضي الله تعالى عنها تتحدث بنعمة الله تعالى عليها بنزول ذلك في شأنها
فقد أخرج ابن أبي شيبة عنها أنها قالت : خلال في لم تكن في أحد من الناس إلا ما آتى الله تعالى مريم ابنة عمران والله ما أقول هذا أني أفتخر على صواحباتي قيل : وما هن قالت : نزل الملك بصورتي وتزوجني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسبع سنين وأهديت له لتسع سنين وتزوجني بكرا لم يشركه في أحد من الناس وأتاه الوحي وأنا وإياه في لحاف واحد وكنت من أحب الناس إليه ونزل في آيات من القرآن كادت الأمة تهلك فيهن ورأيت جبريل عليه السلام ولم يره أحد من نسائه غيري وقبض في بيتي لم يله أحد غير الملك وأنا
وأخرج ابن مردوية عنها أنها قالت : لقد نزل عذري من السماء ولقد خلقت طيبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما وفي قوله سبحانه : لهم مغفرة ورزق كريم بناء على شموله عائشة رضي الله تعالى عنها رد على الرافضة القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل مع أشياء افتروها ونسبوها إليها ومما يرد زعم ذلك أيضا قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرم الله تعالى وجهه مع الحسن رضي الله تعالى عنه يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة : إني لأعلم أنها زوجة نبيكم عليه الصلاة و السلام في الدنيا والآخرة ولكن الله تعالى ابتلاكم ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها ومما يقضي منه العجب ما رأيته في بعض كتب الشيعة من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال للأمير علي كرم الله تعالى وجهه : قد أذنت لك أن تخرج بعد وفاتي من الزوجية من شئت من أزواجي فأخرجها كرم الله تعالى وجهه من ذلك لما صدر منها معه ما صدر ولعمري إن هذا مما يكاد يضحك الثكلى وفي حسن معاملة الأمير كرم الله تعالى وجهه إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر الذي صحبها الثابت عند الفريقين ما يكذب ذلك ونحن لا نشك في فضلها رضي الله تعالى عنها لهذه الآيات ولما جاء في مدحها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولو لم يكن من ذلك سوى ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام لكني معى هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته صلى الله عليه و سلم الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها والوجه لا يخفى وفي هذا المقام أبحاث تطلب من محلها ثم أن الذي أراه أن إنزال هذه الآيات في أمرها لمزيد الإعتناء بشأن الرسول عليه الصلاة و السلام ولجبر قلب صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه وكذا قلب زوجته أم رومان فقد اعتراهما من ذلك الإفك ما الله تعالى أعلم به ولمزيد انقطاع عائشة رضي الله تعالى عنها إليه عز و جل مع فضلها وطهارتها في نفسها وقد جاء في خبر غريب ذكره ابن النجار في تاريخ بغداد بسنده عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه : كنت جالسا عند أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لأقر عينها بالبراءة وهي تبكي فقالت : هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني
(18/132)

الهرة وما عرض علي طعام ولا شراب فكنت أرقد وأنا جائعة ظامئة فرأيت في منامي فتى فقال لي : ما لك فقلت : حزينة مما ذكر الناس فقال : ادعي بهذه الدعوات يفرج الله تعالى عنك فقلت : وما هي فقال : قولي يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم يا أعدل من حكم يا حسب من ظلم يا ولي من ظلم يا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية يا من له اسم بلا كنية اللهم اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا قالت : فانتبهت وأنا ريانة شبعانة وقد أنزل الله تعالى فرجي ويسمى هذا الدعاء دعاء الفرج فليحفظ وليستعمل ثم إنه عز و جل إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيا المرضية المستتبعة لسعادة الدارين فقال سبحانه : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم الخ وسبب النزول على ما أخرج الفريابي وغيره من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا ولد ولا والد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع فنزلت يا أيها الذين آمنوا اله وإضافة البيوت إلى ضمير المخاطبين لامية اختصاصية والمراد عند بعض الإختصاص الملكي ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم بهذا المعنى خارج مخرج العادة التي هي سكني كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضا منهيان عن الدخول بغير إذن
وقال بعضهم : المراد : اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها لأن الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الإختصاص الملكي فيحمل ذلك على الإختصاص المذكور فلا حاجة إلى القول بأن ذاك خارج مخرج العادة وقريء بيوتا غير بيوتكم بكسر الباء لأجل الياء حتى تستأنسوا أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها وتفسيره بذلك أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويخالفه ما روي الحاكم وصححه والضياء في المختارة والبيهقي في شعب الإيمان وناس آخرون عنه أنه قال في حتى تستأنسوا أخطأ الكتاب وإنما هي حتى تستأذنوا لكن قال أبو حيان : من روي عن ابن عباس إنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء من ذلك القول انتهى
وأنت تعلم أن تصحيح الحاكم لا يعول عليه عند أئمة الحديث لكن للخبر المذكور طرق كثيرة وكتاب الأحاديث المختارة للضياء كتاب معتبر فقد قال السخاوي في فتح المغيث في تقسيم أهل المسانيد ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء في مختارته والسيوطي يعد ما عد في ديباجة جمع الجوامع الكتب الخمسة وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحيح ابن حيان والمستدرك والمختارة للضياء قال وجميع ما في هذه الكتب الخمسة صحيح
ونقل الحافظ ابن رجب في طبقات الحنابلة عن بعض الأئمة أنه قال : كتاب المختارة خير من صحيح الحاكم فوجود هذا الخبر هناك مع ما ذكر من تعدد طرقه يبعد ما قاله أبو حيان وابن الأنباري أجاب عن هذا الخبر ونحوه من الأخبار الطاعنة بحسب الظاهر في تواتر القرآن المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسيأتي في تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى بعضها أيضا بان الروايات ضعيفة ومعارضة بروايات
(18/133)

أخر عن ابن عباس أيضا وغيره وهذا دون طعن أبي حيان وأجاب ابن أشته عن جميع ذلك بأن المراد الخطأ في الإختيار وترك ما هو الأولى بحسب ظنه رضي الله تعالى عنه لجميع الناس عليه من الأحرف السبعة لأن الذي كتب خطأ خارج عن القرآن
واختار الجلال السيوطي هذا الجواب وقال : هو أولى وأقعد من جواب ابن الأنباري ولا يخفى عليك أن حمل كلام ابن عباس على ذلك لا يخلو عن بعد لما أن ما ذكر خلاف ظاهر كلامه وأيضا ظن ابن عباس أولوية ما أجمع سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على خلافه مما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم في العرضة الأخيرة بعيد وكأنهم رأوا أن التزام ذلك أهون من إنكار ثبوت الخبر عن ابن عباس مع تعدد طرقه وإخراج الضياء إياه في مختارته ويشجع على هذا الإنكار اعتقاد جلالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وثبوت الإجماع على تواتر خلاف ما يقتضيه ظاهر كلامه فتأمل
واستعمال الإستثناء بمعنى الإستئذان بناء على أنه استفعال من آنس الشيء بالمد علمه أو أبصره وإبصاره طريق إلى العلم فالإستئناس استعلام والمستأذن طالب العلم بالحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أولا
وقيل الإستئناس خلاف الإستيحاش فهو من الإنس بالضم خلاف الوحشة والمراد به المأذونية فكأنه قيل : حتى يؤذن لكم فإن من يطرق بيت غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له استأنس وهو في ذلك كناية أو مجاز وقيل : الإسنئناس من الإنس بالكسر بمعنى الناس أي تطلبوا معرفة في البيوت من الإنس وضعف بأن فيه اشتقاقا من جامد كما في المسرج أنه مشتق من السراج وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن فيوهم جواز الدخول بلا إذن ومن الناس من رجحه بمناسبته لقوله تعالى فإن لم تجدوا فيها أحدا ولا يكافيء التضعيف بما سمعت
وذهب الطبري إلى أن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالإستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بان تعلموا أن قد شعر بكم ولا يخفى ما فيه وقيل : المعنى حتى تطلبوا علم أهل البيت والمراد حتى تعلموهم على أتم وجه ويرشد إلى ذلك ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : يا رسول الله ما الإستئناس فقال : يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت وما أخرجه ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال تستأنسوا تنحنحوا وتنخموا وقيل المراد حتى تؤنسوا أهل البيت بإعلامهم بالتسبيح أو نحوه والخبران المذكوران لا يأبيانه وكلا القولين كما ترى وفي دلالة ما ذكر من تفسير الإستئناس في الخبر على ما سبق له بحث سنشير إليه إن شاء الله تعالى وتسلموا على أهلها أي الساكنين فيها وظاهر الآية أم الإستئذان قيل التسليم وبه قال بعضهم
وقال النووي : الصحيح المختار تقديم التسليم على الإستئذان فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم السلام قبل الكلام وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال : لا يؤذن له حتى يسلم وأخرج ابن أبي شيبة وابن وهب في كتاب المجالس عن زيد بن أسلم قال : أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فجئته فقلت : أألج فقال : ادخل فلما دخلت قال : مرحبا يا ابن أخي لا تقل أألج ولكن قل : السلام عليكم فإذا قيل : وعليك فقل :
(18/134)

أأدخل فإذا قالوا : ادخل فادخل
وأخرج قاسم بن أصبغ وابن عبد البر في التمهيد عن ابن عباس قال : استأذن عمر رضي الله تعالى عنه : على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر واختار الماوردي التفصيل وهو أنه إن وقعت عين المستأذن على من في البيت قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الإستئذان والظاهر أن الإستئذان بما يدل على طلب الإذن صريحا والمأثور المشهور في ذلك أأدخل كما سمعت وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقا وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما مما يحصل به إيذان أهل البيت بالجائي فإن إيذانهم دلالة ما على طلب الأذن منهم وحملوا ما تقدم من حديث أبي أيوب وكلام مجاهد على ذلك وهو على ما لاوي عن عطاء واجب على كل محتلم ويكفي فيه المرأة الواحدة على ما يقتضيه ظاهر الآية وأخرج البيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال : كان يقال الإستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له فيهن فليرجع أما الأول فيسمع الحي وأما الثانية فيأخذوا حذرهم وأما الثالثة فإن شاؤا أذنوا وإن شاؤا ردوا وفي الأمر بالرجوع بعد الثلاث حديث مرفوع أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري
وذكر أبو حيان أنه لا يزيد على الثلاث إلا إن تحقق أن في البيت لم يسمع وظاهر الآية مشروعية الإستئذان إذا أريد الدخول على المحارم وقد أخرج مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أأستأذن على أمي قال : نعم قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت قال : أتحب أن تراها عريانة قال الرجل : لا قال : فاستأذن عليها : وأخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن مسعود عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم وهو أيضا على ما يقتضيه بعض الآثار مشروع للنساء إذ أردن دخول بيوت غير بيوتهن : فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت : ندخل فقالت : لا فقال واحد : السلام عليكم أندخل قالت : ادخلوا ثم قالت يا أيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتا غير بيوتكم الخ وإذا صح ذلك ففي الآية نوع تغليب ووجه مشروعية الإستئذان لهن نحو وجه مشروعيته للرجال فإن أهل البيت قد يكونون على حال لا يحبون اطلاع النساء كما لا يحبون اطلاع الرجال
وصح من حديث أخرجه الشيخان وغيرهما إنما جعل الإستئذان من أجل النظر ومن هنا لا ينبغي النظر في قعر البيت قبل الإستئذان وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من كان يشهد أني رسول الله فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأذن ويسلم فإذا نظر في قعر البيت فقد دخل وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أخرج أبو داود والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن بشر إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستورا فاستقبال الباب ربما يفضي إلى النظر وظاهر الآية أيضا مشروعية الإستئذان للأعمى لدخوله في عموم الموصول ووجهها كراهة اطلاعه بواسطة السمع على ما لا يحب أهل البيت اطلاعه عليه من الكلام مثلا
وفي الكشاف إنما شرع الإستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم
(18/135)

ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة أحد ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط وهو تعليل حسن إلا أنه يحتاج القول بذلك إلى القول بأن قوله عليه الصلاة و السلام إنما جعل الإستئذان من أجل النظر خارج مخرج الغالب
وجيء لمزيد افعتناء لا للحصر وقد صرحوا بمجيء إنما لذلك فلا تغفل ثم أعلم أن الإستئذان والتسليم متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن الإستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم دخوله فيه ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن السنة فيه أن يقرن بالتسليم هذا وفي مصحف عبد الله كما أخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ذلكم إشارة على ما قيل إلى الدخول بالإستئذان والتسليم المفهوم من الكلام وقيل : إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين المغيابهما أي الإستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة والدخول على تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول : حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف وخيرية المفضل عليه قيل على زعمهم لما في الأنتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة كما هو عادة اليوم في قولهم : صباح الخير ومساء الخير ولعل الأولى أن يقال : إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل
وجوز أن يكون خير صفة فلا تقدير وقوله تعالى لعلكم تذكرون
27
- تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه فإن لم تجدوا فيها أحدا بأن كانت خالية من الأهل فلا تدخلوها واصبروا حتى يؤذن لكم من جهة من يملك الأذن عند وجدانكم إياه ووجه ذلك أن الدخول في البيت الخالية من غير إذن سبب للقيل والقال وفيه تصرف بملك الغير بغير رضاه وهو يشبه الغضب وهذه الآية لبيان حكم البيوت الخالية على أهلها كما أن الآية الأولى لبيان حكم البيوت التي فيها أهلها
وجوز أن تكون هذه تأكيدا لأمر الإستئناس وأنه لا بد منه والأمر دائر عليه والمعنى فإن لم تجدوا فيها أحدا من الآذنين أي ممن يملك الإذن فلا تدخلوها الخ ويفيد هذا حرمة دخول ما فيه من لا يملك الإذن كعبد وصبي من دون إذن من يملكه ومن اختار الأول قال : إن حرمة ما ذكر ثابتة بدلالة النص فتأمل
وقال سبحانه فإن لم تجدوا إلى آخره دون فإن لم يكن فيها أحد لأن المعتبر وجد أنها خالية من الأهل مطلقا أو ممن يملك الإذن سواء كان فيها أحد في الواقع أم لم يكن كذا قيل : وعليه فالمراد من قولهم في تفسير ذلك بأن كانت خالية كونها خالية بحسب الإعتقاد وكذا يقال في نظيره فلا تغفل ثم أن ما أفادته الآيتان من الحكم قد خصه الشرع فيجوز الدخول لإزالة منكر توقفت على الدخول من غير إذن أهل البيت والدخول في البيت الخالي لإصفاء حريق فيه أو نحو ذلك
وقد ذكر الفقهاء الصور التي فيها الدخول من غير إذن ممن يملك الإذن فلتراجع وقيل : المراد بالإذن في قوله سبحانه حتى يؤذن لكم ما يعم الإذن دلالة وشرعا ولذا وقع بصيغة المجهول وحينئذ لا حاجة إلى
(18/136)

القول بالتخصيص وفيه خفاء وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الآمر من يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا تلحوا هو أي الرجوع أزكى لكم أي أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب بعد المذكور من دنس الدناءة والرذالة أو أنفع لدينكم ودنياكم على أن أزكى من الزكاة بمعنى النمو
والظاهر أن صيغة أفعل في الوجهين للمبالغة وقيدنا الوقوف على الأبواب بما سمعت لأن ليس فيه دناءة مطلقا فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال : يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم وكأنه رضي الله تعالى عنه عد ذلك من التواضع وهو من أقوى أسباب الفتوح لطالب العلم وقد أعطاني الله عز و جل نصيبا وافيا منه فكنت أكثر التلامذة تواضعا وخدمة للمشايخ والحمد لله تعالى على ذلك والله بما تعملون عليم
28
- فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلمتموه فيجازيكم عليه
ليس عليكم جناح أن تدخلوا أي بغير استئذان بيوتا غير مسكونة أي موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات وغيرها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبيء عنه قوله تعالى فيها متاع لكم فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لنفي الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالإستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع والإغتسال وغيرها مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا الخ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى ليس عليكم الخ وعنى الصديق رضي الله تعالى عنه بالبيوت المعلومة الخانات التي في الطرق وهي في الآية أعم من ذلك ولا عبرة بخصوص السبب فما روي عن ابن جبير ومحمد بن الحنفية والضحاك وغيرهم من تفسيرها فيها بذلك من باب التمثيل وكذا ما أخرجه جماعة عن عطاء وعبد بن حميد وإبراهيم النخعي أنها البيوت الخربة التي تدخل للتبرز وأما ما روي عن ابن الحنفية من أنها دور مكة فهو من باب التمثيل أيضا لكن صحة ذلك مبنية على القول بأن دور مكة غير مملوكة والناس فيها شركاء وقد علمت ما في المسئلة من الخلاف
وأخرج أبو داود في الناسخ وابن جرير عن ابن عباس أن قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها قد نسخ بقوله تعالى ليس عليكم جناح الخ واستثنى منه البيوت الغير المسكونة وروي حديث الإستثناء عن عكرمة والحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر خبر
(18/137)

مقاتل وإليه دهب الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه لا يظهر ذلك لأن الآية الأولى في البيوت المملوكة والمسكونة وهذه الآية في البيوت المباحة التي لا اختصاص لها بواحد دون واحد والذي يقتضيه النظر الجليل أن البيوت فيما تقدم أعم من هذه البيوت فيكون ما ذكر تخصيصا لذلك هو المعنى بالإستثناء فتدبر ولا تغفل
والله يعلم ما تبدون وما تكتمون
29
- وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات قل للمؤمنين شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا أوليا وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتفويض ما في حيزه من الأوامر والنواهي إليه عليه الصلاة و السلام قيل لأنها تكاليف متعلقة بامور جزئية كثيرة الوقوع حرية بان يكون الآمر بها الومتصدي لتدبيرها حافظا ومهيمنا عليهم وقيل : إن ذلك لما أن بعض المؤمنين جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كالمستدعي لأن يقول له ما في حيز القول
فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما على الآخر إلا إعجابا به فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال : والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ومفعول القول مقدر و يغضوا جواب لقل لتضمنه معنى الشرط كأنه قيل : إن تقل لهم غضوا يغضوا وفيه إيذان بأنهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة و السلام وأنه كالسبب الموجب له وهذا هو المشهور
وجوز أن يكون يغضوا جوابا للأمر المقدر المقول للقول وتعقب بأن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو تدخل الجنة أو في الفاعل نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيه وأيضا الأمر للمواجهة و يغضوا غائب ومثله لا يجوز وقيل عليه : إنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل من كانت هجرته الحديث ولا نسلم أنه لا يجاب الأمر بلفظ الغيبة إذا كان محكيا بالقول لجواز التلوين حينئذ وفيه بحث ومن أنصف لا يرى هذا الوجه وجيها وهو على ما فيه خلاف الظاهر جدا وجوز الطبرسي وغيره أن يكون يغضوا مجزوما بلام أمر مقدرة لدلالة قل أي قل لهم ليغضوا والجملة نصب على المفعولية المقول وغض البصر إطباق الجفن على الجفن و من قيل صلة وسيبويه يأبى ذلك في مثل هذا الكلام والجواز مذهب الأخفش وقال ابن عطية : يصح أن تكون من لبيان الجنس ويصح أن تكون لابتداء الغاية وتعقبه بأنه لم يتقدم مبهم لتكون من لبيان الجنس على أن الصحيح أنها ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس انتهى والجل على أنها هنا تبعيضية والمراد غض البصر عما يحرم والإقتصار به على ما يحل وجعل الغض عن بعض المبصر غض بعض البصر وفيه كما في الكشف كناية حسنة ثم أن غض البصر عما يحرم النظر إليه واجب ونظرة الفجأة التي لا تعمد فيها معفو عنها فقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
(18/138)

لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة وبدأ سبحانه بالإرشاد إلى غض البصر لما في ذلك من سد باب الشر فإن النظر باب إلى كثير من الشرور وهو بريد الزنا ورائد الفجور وقال بعضهم : كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر كم نظرة فعلت في قلب فاعلها فعل السهام بلا قوس ولا وتر يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر والظاهر أن الإرشاد لكل واحد من المؤمنين ولفظ الجمع لا يأبى ذلك والظاهر أيضا أن المؤمنين أعم من العباد وغيرهم وزعم بعضهم جواز أن يكون المراد بهم العياد والمؤمنين المخلصين على أن يكون المعنى قل للمؤمنين الكاملين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم أي عما لا يحل لهم من الزنا واللواطة ولم يؤت هنا بمن التبعيضية كما أتى بها فيما تقدم لماأنه ليس فيه حسن كناية كما في ذلك وفي الكشاف دخلت من في غض البصر دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن ووصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين وأما أمر الفرج فمضيق وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما إستثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه انتهى وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال : المراد غض البصر عن الأجنبية والأجنبية يحل النظر إلى بعضها وأما الفرج فلا طريق إلى الحل فيه أصلا بالنسبة إلى الأجنبية فلا وجه لدخول من فيه وفيه تأمل وقيل : لم يؤت بمن هنا لأن المراد من حفظ الفروج سترها
فقد أخرج ابن المنذر وجماعة عن أبي العالية أنه قال : كل آية يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية في النور ويحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن فهو أن لا يراها أحد وروي نحوه عن أبي زيد والستر مأمور به مطلقا
وتعقب بأنه يجوز الكشف في مواضع فلو جيء بمن لكان فيه إشارة إلى ذلك وتفسير حفظ الفروج هنا خاصة بسترها قيل لا يخلو عن بعد لمخالته لما وقع في القرآن الكريم كما اعترف به من فسره بما ذكر
واختار بعض المدققين أن المراد من ذلك حفظ الفروج عن الإفضاء إلى ما لا يحل وحفظها عن الإبداء لأن الحفظ لعدم ذكر صلته يتناول القسمين وذكر أن الحفظ عن الإبداء يستلزم الآخر من وجهين عدم خلوه عن الإبداء عادة وكون الحفظ عن الإبداء بل الأمر بالتستر مطلقا للحفظ عن الإفضاء ومن هنا تعلم أن من ضعف ما روي عن أبي العالية وابن زيد بعدم تعرض الآية عليه بحفظ الفرج عن الزنا لم يصب المحز
ذلك أي ما ذكر من الغض والحفظ أزكى لهم أي أطهر من دنس الريبة أو أنفع من حيث الدين والدنيا فإن النظر بريد الزنا وفيه من المضار الدينية أو الدنيوية ما لا يخفى وافعل للمبالغة دون التفضيل
وجوز أن يكون للتفضيل على معنى أزكى من كل شيء نافع أو مبعد عن الريبة وقيل على معنى أنه أنفع من الزنا والنظر الحرام فإنهم يتوهمون لذة ذلك نفعا إن الله خبير بما يصنعون
30
- لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها إجالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون بذلك
(18/139)

فليكونوا على حذر منه عز و جل في كل ما يأتون وما يذرون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال والنساء وهي ما بين السرة والركبة وفي الزواجر لابن حجر المكي يحرم نظر الرجل للمرأة يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته والمذكور في بعض كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا ما بين السرة والركبة بشهوة حرم وإن بدونها لا يحرك نعم غضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه النسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وميمونة قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه عليه الصلاة و السلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : احتجبا منه فقلت : يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال : أفعميا وإن أنتما ألستما تبصرانه واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شيء من الرجل الأجنبي مطلقا ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بشهوة ولا تستبعد وقوع هذا النظر فإنه كثير ممن يستعملن السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى ويحفظن فروجهن أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق أو من الإبداء أو مما يعم ذلك والإبداء ولا يبدين زينتهن أي ما يتزين به من الحلي ونحوه إلا ما ظهر منها أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة كالسوار الخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط
وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لمن استثنى في الآية بعد وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن فنهي عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها كالنظر إلى سوار امرأة يباع في السوق لا مقال في حله كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة شاهدا على أن الساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله تعالى في الكشف عنها كذا في الكشاف وهو على ما قال الطيبي مشعر بأن ما ذكر من باب الكناية على نحو قولهم : فلان طاهر الجيب طاهر الذيل
وقال صاحب الفرائد : هو من باب إطلاق اسم الحال على المحل فالمراد بالزينة مواقعها فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة النص بدلالته وهي أقوى وفيه بحث
وقيل : الكلام على تقدير مضاف أي لا يبدين مواقع زينتهن وقال ابن المنير : الزينة على حقيقتها وما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله عز و جل : ولا يضربن بأرجلهن الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي وأيضا لو كان المراد من الزينة موقعها للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين الظاهرة وهذا باطل لأن كل بدن عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة وأنت تعلم أن ابن المنير مالكي وما ذكره مبني على مذهبه وما ذكره الزمخشري مبني على المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة من أن مواقع الزين الظاهرة من الوجه والكفين والقدمين ليست بعورة
(18/140)

مطلقا فلا يحرم النظر إليها وقد أخرج أبو داود وابن مردوية والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال يااسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وإشار إلى وجهه وكفه صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : إلا ما ظهر منها رقعة الوجه وباطن الكف وأخرجا عن ابن عمر أنه قال : الوجه والكفان ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة فإن الحرج في سترهما أشد من ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة وفي المنهاج وشرحه لابن حجر في باب شروط الصلاة عورة الأمة ولو مبعضة ومكاتبة وأم ولد كعورة الرجل ما بين السرة والركبة في الأصح وعورة الحرة ولو غير مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين وإنما حرم نظرهما كالزائد على عورة الأمة لأن ذلك مظنة الفتنة ويجب في الخلوة ستر سوأة الأمة كالرجل وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى غرض كتبريد وخشية غبار على ثوب تجمل انتهى
وذكر في الزواجر حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة لأن رؤية البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره أيضا بل قال : حرم أئمتنا النظر لقلامة ظغر المرأة المنفصلة ولو من يدها وذهب بعض الشافعية إلى حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة وليس بمعول عليه عندهم وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقا في غاية البعد فتأمل واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة وقيل : بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد أن يجور أن يكون الإستثناء في قوله تعالى : إلا ما ظهر منها من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء ويكون المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار كان كشفته الريح مثلا فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة شهادة ومعالجة طبيب وروري الطبراني والحاكم وصححه وابن المنذر وجمع آخرون عن ابن مسعود أن ما ظهر الثياب والجلباب وفي رواية الإقتصار على الثياب وعليها اقتصر أيضا الإمام أحمد وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد على ما في البحر وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس أن ما ظهر الكحل والخاتم والقرط والقرادة
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه الكف وثغرة النحر وعن الحسن أنه الخاتم والسوار وروي غير ذلك ولا يخفى أن بعض الأخبار ظاهر في حمل الزينة على المعنى المتبادر منها وبعضها ظاهر في حملها على مواقعها وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله تعالى وعلى ما يتزين به من فضل لباس والمراد في الآية عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة قال في البحر : والأقرب دخولها
(18/141)

في الزينة وأي زينة أحسن من الخلقة المعتدلة وليضربن بخمرهن على جيوبهن إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواقع الزينة بعد النهي عن إبدائها والخمر جمع خمار ويجمع في القلة على أخمرة وكلا الجمعين مقيس وهو المقنعة التي تلقيها المرأة على رأسها من الخمر وهو الستر والجيوب جمع جيب وهو فتح في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد وأصله على ما قيل من الجيب بمعنى القطع وفي الصحاح تقول : جيب القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه قال الراجز : باتت تجيب أدعج الظلام جيب البيطر مدرع الهمام وإطلاقه على ما ذكر هو المعروف لغة وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره ابن تيمية لكنه ليس بخطأ بحسب المعنى والمراد من الآية كما روي ابن أبي حاتم عن ابن جبير أمرهن بستر نحورهن وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء وكان النساء يغطين رؤسهن بالخمر ويسدلنها كعادة الجاهلية من وراء الظهر فيبدو نحورهن وبعض صدورهن وصح أنه لما نزلت هذه الآية سارع نساء المهاجرين إلى امتثال ما فيها فشقق مروطهن فاختمرن بها تصديقا وإيمانا بما أنزل الله تعالى من كتابه وعدي يضرب بعلي على ما قال أبو حيان لتضمينه معنى الوضع والإلقاء وقيل : معنى الشد وظاهر كلام الراغب أنه يتعدى بعلى بدون تضمين وقرأ عباس عن أبي عمرو وليضربن بكسر اللام وطلحة بخمرهن بسكون الميم وقرأ غير واحد من السبعة جيوبهن بكسر الجيم والضم هو الأصل لأن فعلا يجمع على فعول في الصحيح والمعتل كفلوس وبيوت والكسر لمناسبة الياء وزعم الزجاج أنها لغة رديئة
ولا يبدين زينتهن كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور إلا لبعولتهن أي أزواجهن فإنهم المقصودون بالزينة والمأمورات نساؤهم بها لهم حتى أن لهم ضربهن على تركها ولهم النظر إلى جميع بدنهن حتى المحل المعهود كما في إرشاد العقل السليم
وكره النظر إلى ذلك أكثر الشافعية وحرمه بعضهم وقيل : إنه خلاف الأولى وهو على ما قاله الخفاجي : مذهب الحنفية وتفصيله في الهداية وفيما ذكرنا إشارة إلى وجه تقديم بعولتهن
أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقيع الفتنة من قبلهم ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وهذا الحكم ليس خاصا بالآباء الأقربين بل آباء الآباء وإن علوا كذلك ومثلهن آباء الأمهات وكذا ليس خاصا بالأبناء والبنين الصلبيين بل يعمهم وأبناء الأبناء وبني البنين وإن سفلوا والمراد بالإخوان ما يشمل الأعيان وهم الأخوة لأب واحد وأم واحدة وبني العلات وهم أولاد الرجل من نسوة شتى والأخياف وهم أولاد المرأة من آباء شتى ونظير ذلك يقال في الأخوات واستعمل بني معهم دون أبناء لأنه أوفق بالعموم وأكثر استعمالا في الجماعة ينتمون إلى شخص مع عدم اتحاد صنف قرابتهم فيما بينهم ألا ترى أنك كثيرا ما تسمع بني آدم وبني تميم وقلما تسمع أبناء آدم وأبناء تميم وفيما نحن فيه قد يجتمع للمرأة ابن أخ شقيق وابن أخ لأب وابن أخ لأم بل قد يجتمع لها أبناء أخ شقيق أو إخوة أشقاء أعيان وبنو علات وأبناء أخ
(18/142)

أو إخوة لأب وأبناء أخ أو إخوة لأم ويتأتى مثل ذلك في ابن الأخت لكن لا يتصور هنا بنو العلات كما لا يتصور في أبناء الأخ الأخياف والإجتماع في أبنائهن وأبناء بعولتهن وإن اتفق لكونه ليس بتلك المثابة
وقيل اختير في الأخيرين بني لأنه لو جيء بأبناء تلاقت همزتان أحدهما همزة أبناء والثالثة همزة إخوان أو أخوات وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال إذ للسائل أن يقول بعد : لم اختبر في الأولين أبناء دون بني ويحتاج إلى نحو أن يقال اختير ذلك لأنه أوفق بآباء وقيل اختير أبناء في الأولين لهذا واختير بني في بني أخواتهن ليكون المضاف والمضاف إليه من نوع واحد وفي بني إخوانهن المشاكلة وفيه ما فيه ولم يذكر سبحانه الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن وابن جبير كسائر المحارم في جواز إبداء الزينة لهم قيل لأنهم في معنى الإخوان من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب فيكون ابنه في معنى الأخ وفيل لم يذكرهم سبحانه لما أن الأحوط أن يستترن عنهم حذارا من أن يصفوهن لأبنائهم فيؤدي ذلك إلى نظر الأبناء إليهن
وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي شيبة عن الشعبي وفيه من الدلالة على وجوب التستر من الأجانب ما فيه
وضعف بأنه يجري في آباء البعولة إذ لو رأوا زينتهن لربما وصفوهن لأبنائهم وهم ليسوا محارم فيؤدي إلى نظرهم إليهن لا سيما إذا كن خليات وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء فإنهم عند الناس بمنزلتهم لا سيما الأعمام وكثيرا ما يطلق الأب على العم ومنه قوله تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ثم أن المحرمية المبيحة للإبداء كما تكون من جهة النسب تكون من جهة الرضاع فيجوز أن يبدين زينتهن لآبائهن وأبنائهن مثلا من الرضاع أو نسائهن المختصات بهن بالصحبة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن أن يصفنهن للرجال فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب ولا فرق في ذلك بين الذمية وغيرها وإلى هذا ذهب أكثر السلف
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه بلغني أن نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها وفي روضة النووي في نظر الذمية إلى المسلمة وجهان أصحهما ما عند الغزالي أنها كالمسلمة وأصحهما عند البغوي المنع وفي المنهاج له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة ومقتضاه أنها معها كالأجنبي واعتمده جمع من الشافعية وقال ابن حجر : الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير سيدتها ومحرمها ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة وقال الإمام الرازي : المذهب أنها كالمسلمة والمراد بنسائهن جميع النساء وقول السلف محمول على الإستحباب وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات
أو ما ملكت أيمانهن أي من الإماء ولو كوافر وأما العبيد فهم كالأجانب وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأحد قولين في مذهب الشافعي عليه الرحمة وصححه كثير من الشافعية والقول الآخر أنهم كالمحارم وصحح أيضا ففي المنهاج وشرحه لابن حجر والأصح أن نظر العبد العدل ولا يكفي العفة عن
(18/143)

الزنا فقط غير المشترك والمبعض وغير المكاتب كما في الروضة عن القاضي وأقره وإن أطالوا في رده إلى سيدته المتصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر أه بتخليص وإلى كون العبد كالأمة ذهب ابن المسيب ثم رجع عنه وقال : لا يغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور وعلل بأنهم فحول ليسوا أزواجا ولا محارم والشهوة متحققة فيهم لجواز النكاح في الجملة كما في البداية
وروي عن ابن مسعود والحسن وابن سيرين أنهم قالوا : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن طاوس أنه سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها قال : ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا فأما رجل ذو لحية فلا ومذهب عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما وروي عن بعض أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهما أنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون : وروي عن عائشة أنها كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها وإنها قالت لذكوان : إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر وعن مجاهد كانت أمهات المؤمنين لا تحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم
وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة رضي الله تعالى عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك
والذي يقتضيه ظاهر الآية عدم الفرق بين الذكر والأنثى لعموم ما ولأنه لو كان المراد الإناث خاصة لقيل أو إمائهن فإنه أخصر ونص في المقصود وإذا ضم الخبر المذكور إلى ذلك قوي القول بعدم الفرق والتفصي عن ذلك صعب وأحسن ما قيل في الجواب عن الخبر أن الغلام فيه كان صبيا إذ الغلام يختص حقيقة به فتأمل وخرج بإضافة الملك إليهن عبد الزوج فهو والأجنبي سواء قيل : وجعله بعضهم كالمحرم لقراءة أو ما ملكت أيمانكم أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أي الذين يتبعون ليصيبوا من فضل الطعام غير أصحاب الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الطاعنون في السن الذين فنت شهواتهم والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم وفي المجبوب وهو الذي قطع ذكره والخصي وهو من قطع خصاه خلاف واختير أنهما في حرمة النظر كغيرهما من الأجانب وكان معاوية يرى جواز نظر الخصي ولا يعتد برأيه وهو على ما قيل أول من اتخذ الخصيان وعن ميسون الكلابية أن معاوية دخل ومعه خصي فتقنعت منه فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله تعالى وليس له أن يستدل بما روي أن المقوقس أهدى للنبي صلى الله عليه و سلم خصيا فقبله إذ لا دلالة فيه على جواز إدخاله على النساء
وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن غير أولى الأربة الأبله الذي لا يعرف أمر النساء وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعن ابن جبير أنه المعتوه ومثله المجنون كما قال ابن عطية
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه المخنث الذي لا يقوم زبه لكن أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رجل يدخل على أزواج
(18/144)

النبي صلى الله عليه و سلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي عليه الصلاة و السلام يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ألا ترى هذا يعرف ما ههنا لا يدخل عليكن فحجبوه وجاء أنه عليه الصلاة و السلام أخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم ولعل الأولى حمل غير أولي الأربة على الذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن بحيث لا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ولا يصفوهن للأجانب ولا أرى الإكتفاء في غير أولي الأربة بعدم الحاجة إلى النساء إذ لا تنتفي به مفسدة الإبداء بالكلية كما لا يخفى
ولعل فيب الخبر نوع إيماء إلى هذا وفي المنهاج وشرحه لابن حجر عليه الرحمة والأصح أن نظر الممسوح ذكره كله وأنثياه بشرط أن لا يبقى فيه ميل للنساء أصلا وإسلامه في المسلمة ولو أجنبيا لأجنبية متصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر ويعلم منه أن التمثيل بالممسوح فيما سبق ليس على إطلاقه وأما الشيخ ألهم والمخنث فهما عند الشافعية في النظر إلى الأجنبيات ليس كالممسوح وصححوا أيضا أن المجنون يجب الإحتجاب منه فلا تغفل وجر غير قيل على البدلية لا الوصفية لاحتياجها إلى تكلف جعل التابعين لعدم تعينهم كالنكرة كما قاله الزجاج أو جعل غير متعرفا بالإضافة هنا مثلها في الفاحشة وفيه نظر وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال والإستثناء
أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء أي الأطفال الذين لم يعرفوا ما العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها على أن لم يظهروا الخ من قولهم ظهر على الشيء إذا اطلع عليه فجعل كناية عن ذلك أو الذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع على أنه من ظهر على فلان إذا قوى عليه ومنه قوله تعالى فأصبحوا ظاهرين ويشمل الطفل الموصوف بالصفة المذكورة بهذا المعنى المراهق الذي لم يظهر منه تشوق للنساء وقد ذكر بعض أئمة الشافعية أنه كالبالغ فيلزم الإحتجاب منه على الأصح كالمراهق الذي ظهر منه ذلك ويشمل أيضا من دون المراهق لكنه بحيث يحكي ما يراه على وجهه وذكروا في غير المراهق أنه إن كان بهذه الحيثية فكالمحرم وإلا فكالعدم فيباح بحضوره ما يباح في الخلوة فلا تغفل
والظاهر أن الطفل عطف على قوله تعالى لبعولتهن أو على ما بعده من نظائره لا على الرجال وكلام أبي حيان ظاهر في أنه عطف عليه وليس بشيء ثم هو مفرد محلى بأل الجمسية فيعم ولهذا كما قال في البحر : وصف بالجمع فكأنه قيل أو الأطفال كما هو المروي عن مصحف حفصة ومثل ذلك قولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدهم البيض وقيل مفرد وضع موضع الجمع ونحوه قوله تعالى ثم يخرجكم طفلا
وتعقب بأن وضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وما هنا عنده من باب المفرد المعرف بلام الجنس وهو يعم بدليل صحة الإستثناء منه والآية المذكورة يحتمل أن تكون عنده على مبني ثم يخرج كل واحد منكم طفلا كما قيل في قوله تعالى وأعتدت لهن متكأ أنه على معنى وأعتدت لكل واحدة منهن متكأ فلا يتعين كون طفلا فيها مما لا ينقاس عنده وقال الراغب : إن طفلا يقع على الجمع كما يقع على المفرد ونص على
(18/145)

ذلك الجوهري وكذا قال بعض النحاة : إنه في الأصل مصدر فيقع على القليل والكثير والأمر على هذا ظاهر جدا والعورات جمع عورة وهي في الأصل ما يحترز من الإطلاع عليه وغلبت في سوأة الرجل والمرأة ولغة أكثر العرب تسكين الواو في الجمع وهي قراءة الجمهور
وروي عن ابن عامر أنه قرأ عورات بفتح الواو والمشهور أن تحريك الواو وكذا الياء في مثل هذا الجمع لغة هذيل بن مدركة ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراآت أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأا عورات بالفتح ثم قال : وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن وإنما جعله لحنا وحظا من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية فإن بني تميم يقولون : روضات وجوزات وعورات بالفتح فيها وسائر العرب بالإسكان وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو وأنشدني بعضهم : أبو بيضات رائح متأدب رفيع بمسح المنكبين سبوح ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين أي ما يسترنه عن الرؤية من زينتهن أي لا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلاخلهن فيلعم أن هن ذوات خلاخل فإن ذلك ما يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم أخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فمرت على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل الله تعالى ولا يضربن إلخ والنساء اليوم على جعل الخرز ونحوها في جوف الخلخال فإذا مشين به ولو هونا صوت ولهن من أنواع الحلي غير الخلخال ما يصوت عند المشي أيضا لا سيما إذا كان مع ضرب الرجل وشدة الوطء ومن الناس من يحرك شهوته وسوسة الحلي أكثر من رؤيته وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينه من النهي عن إبداء مواضعه ما لا يخفى وربما يستدل بهذا النهي على النهي عن استماع صوتهن
والمذكور في معتبرات كتب الشافعية وإليه أميل أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة وكذا إن التذبه كما بحثه الزركشي وأما عند الحنفية فقال الإمام ابن الهمام : صرح في النوازل أن نغمة المرأة عورة ولذا قال النبي صلى الله عليه و سلم التكبير للرجال والتصفيق للنساء فلا يحسن أن يسمعها الرجل أه
ثم أعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ضيابهن ويتسترن به إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوش الذهبية أو الفضية ما يبهر العيون وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك ومثله ما عمت به البلوى أيضا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن وعدم مبالاة بعولتهن بذلك وكثيرا ما يأمرونهن به
وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أياما إلى أن يعطوها شيئا من الحلي ونحوه فتبدو لهم ولا تحتجب منهم بعد وكل ذلك مما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وأمثال ذلك كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وتوبوا إلى الله جميعا تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقية بأن يكون سبحانه وتعالى الآمر
(18/146)

بها لما أنه لا يكاد يخلو أحد من المكلفين عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي لا سيما في الكف عن الشهوات
وقد أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن الأغر رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة والمراد بالتوبة على هذا التوبة عما في الحال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد التوبة عما كانوا يفعلونه قبل من إرسال النظر وغير ذلك وهو وإن جب بالإسلام لكنه يلزم الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر وقد قالوا : إن هذا يلزم كل تائب عن خطيئة إذا تذكرها ومنه يعلم أن ما يفعله كثير ممن يزعمون التوبة من نقل ما فعلوه من الذنوب على وجه التبجح والإستلذاذ عن عدم صدق توبتهم
وفي تكيري الخطاب بقوله تعالى أيه المؤمنون تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للإمتثال حتما وفي هذا دليل على أن المعاصي لا تخرج عن الإيمان وقرأ ابن عامر أيه المؤمنون بضم الهاء ووجه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها وضم ها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق بن مسلمة ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف أبو عمرو والكسائي ويعقوب كما في النشر بالألف على خلاف الرسم لعلكم تفلحون
31
- أي لكي تفوزوا بذلك بسعادة الدارين أو مرجوا فلاحكم
وأنكحوا الأيامي منكم بعد ما زجر سبحانه عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة أمر بالنكاح فإنه مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع على وجه سالم مع اختلاف الأنساب مزجرة من ذلك
و الأيامي كما نقل في التحرير عن أبي عمرو وإليه ذهب الزمخشري مقلوب أيايم جمع أيم لأن فيعل لا يجمع على فعالي أي إن أصله ذلك فقدمت الميم وفتحت للتخفيف فقلبت الياء ألفاء لحركتها وانفتاح ما قبلها وذهب ابن مالك ومن تبعه إلى أنه جمع شاذ لا قلب فيه ووزنه فعالى وهو ظاهر كلام سيبويه والأيم قال النظر بن شميل : كل ذكر لاأنثى معه وكل أنثى لاذكر معها بكرا أو ثيبا ويقال : آم وآمت إذا لم يتزوجا بكرين كأنا أو ثيبين قال : فأن تنكحي أنكح وأن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم وقال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام : قد كثر استعمال هذه الكلمة في الرجل إذا ماتت امرأته وفي المرأة إذا مات زوجها وفي الشعر القديم ما يدل على أن ذلك بالموت وبترك الزوج من غير موت قال الشماخ : يقر لعيني أن أحدث أنها وإن لم أنلها أيم لم تزوج انتهى وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف الأيم التي لا زوج لها وأصله هي التي كانت متزوجة فقعدت زوجها برزء طرأ عليها ثم قيل في البكر مجازا لأنها لا زوج لها وعن محمد أنها الثيب واستدل له بما روي أنه صلى الله عليه و سلم قال : الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها حيث قابلها بالبكر وفيه أنه يجوز أن تكون مشتركة لكن أريد منها ذلك لقرينة المقابلة والأكثرون على ما قاله النضر
(18/147)

أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر والصالحين من عبادكم وإمائكم على أن الخطاب للأولياء والسادات والمراد بالصلاح معناه الشرعي واعتباه في الأرقاء لأن من لا صلاح له منهم بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشفق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة من بذل المال والمنافع بل ربما يحصل له ضرر منه بتزويجه فحقه أن يستبقيه عنده ولما لم يكن من لا صلاح له من الأحرار والحرائر بهذه المثابة لم يعتبر صلاحهم وقيل المراد بالصلاح معناه اللغوي أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه والأمر هنا قيل للوجوب وإليه ذهب أهل الظاهر وقيل للندب وإليه ذهب الجمهور
ونقل الإمام عن أبي بكر الرازي أن الآية وإن اقتضت الإيجاب إلا أنه أجمع السلف على أنه لم يرد الإيجاب ويدل على أمور أحدها أن النكاح لو كان واجبا لكان النقل بفعله من النبي صلى الله عليه و سلم ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة فلما وجدنا عصره عليه الصلاة و السلام وسائر الأعصار بعده قد كانت فيه أيامي من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك ثبت أنه لم يرد بالأمر الإيجاب وثانيها أنا أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها وثالثها إتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده فيقتضي للعطف عد الوجوب في الجميع ورابعها أن اسم الأيامي ينتظم الرجال والنساء فلما لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم لزم ذلك في النساء انتهى وقال الإمام نفسه : ظاهر الأمر للوجوب فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج موليته وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلا بولي وإلا لفوتت المولية على الولي المكنة من أداء هذا الواجب وإنه غير جائز والجواب عما نقل عن أبي بكر أن جميع ما ذكره تخصيصات تطرقت إلى الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب انتهى
وفي الإكليل استدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط ونكاح العبد الحرة
وأنت تعلم أنها لم تبق على العموم والذي أميل إليه أن الأمر لمطلق الطلب وأن المراد من الإنكاح المعاونة والتوسط في النكاح أو التمكين منه وتوقف صحته في بعض الصور على الولي يعلم من دليل آخر
والإستدلال بهذه الآية على اشتراط الولي وعلى أن له الجبر في بعض الصور لا يخلو عن بحث ودون تمامه خرط القتاد فتدبر
وقرأ الحسن ومجاهد من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وهو كالعباد جمع عبد إلا أن استعماله في المماليك أكثر من استعمال العباد فيهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله الظاهر أنه وعد الله عز و جل بالإغناء وأخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولا يبعد أن يكون في ذلك سد لباب التعلل بالفقر وعده مانعا من المناكحة
وفي الآية شرط مضمر وهو المشيئة فلا يرد أن كثيرا من الفقراء تزوج ولم يحصل له الغنى ودليل الإضمار قوله تعالى فإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء وكونه واردا في منع الكفار عن الحرم لا يأبى الدلالة كما توهم أو قوله تعالى والله واسع أي غني ذو سعة لا يرزأه إغناء الخلائق إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته عليم
32
- يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن مآل هذا إلى المشيئة وهو السر في اختيار عليم دون كريم مع أنه أوفق بواسع نظرا إلى الظاهر وفي الإنتصاف فإن قيل
(18/148)

العزب كذلك فإن غناه معلق بالمشيئة أيضا فلا وجه للتخصيص فالجواب أنه قد تقرر في الطباع الساكنة إلى الأسباب أن العيال سبب للفقر وعدمهم سبب توفر المال فأريد قطع هذا التوهم المتمكن بأن الله تعالى قد ينمي المال مع كثرة العيال التي هي في الوهم سبب لقلة المال وقد يحصل الإقلال مع العزوبة والواقع يشهد فدل على أن ذلك الإرتباط الوهمي باطل وأن الغنى والفقر بفعل الله تعالى مسبب لأسباب ولا توقف لهما إلا على المشيئة فإذا علم الناكح أن النكاح لا يؤثر في الإقتدار لم يمنعه في الشروع فيه ومعنى الآية حينئذ أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله تعالى فعبر عن نفي كونه مانعا عن الغنى بوجوده معه ومنه قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض فإن ظاهرة الأمر بالإنتشار انقضاء الصلاة والمراد تحقيق زوال المانع وأن الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الإنتشار فعبر عن نفي مانع الإنتشار بما يقتضي تقاضي الإنتشار مبالغة انتهى وقال بعضهم في الفرق بين المتزوج والعزب : إن الغنى للمتزوج أقرب وتعلق المشيئة أرجى للنص على وعده دون العزب وكذلك يوجد الحال إذا استقريء
وتعقب بأن فيه غفلة عن قوله تعالى وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكذا عن قوله سبحانه : وليستعفف الخ وأشار صاحب الكشف إلى أن في هذه الآية والتي بعدها وعدا للمتزوج والعزب معا بالغنى فلا ورود للسؤال قال : إنه تعالى أمر الأولياء أن لا يبالوا بفقر الخاطب بعد وجود الصلاح ثقة بلطف الله تعالى في الإغناء ثم أمر الفقراء بالإستعفاف إلى وجدان الغنى تأميلا لهم وأدمج سبحانه أن مدار الأمر على العفة والصلاح على التقديرين وهو الجواب عن سؤال المعترض انتهى ولا يخفى عليك أن الأخبار الدالة على وعد الناكح كثيرة ولم نجد في وعد العزب الذي ليس بصدد النكاح من حيث هو كذلك خبرا
فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثة حق على الله تعالى عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله تعالى
وأخرج الخطيب في تاريخه عن جابر قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : ابتغوا الغنى في الباءة وفي لفظ ابتغوا الغنى في النكاح يقول الله تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله
وأخرج الثعلبي والدليمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوا الرزق بالنكاح إلى غير ذلك من الأخبار ولغنى الفقير إذا تزوج سبب عادي وهو مزيد اهتمامه في الكسب والجد التام في السعي حيث ابتلي بمن تلزمه نفقتها شرعا وعرفا وينضم إلى ذلك مساعدة المرأة له وإعانتها إياه على أمر دنياه وهذا كثير في العرب وأهل القرى فقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها وقد ينضم إلى ذلك حصول أولاد له فيقوى أمر التساعد والتعاضد وربما يكون للمرأة أقارب
(18/149)

يحصل له منهم الإعانة بحسب مصاهرته إياهم ولا يوجد ذلك في العزب ويشارك هذا الفقير المتزوج الفقير الذي هو بصدد التزويج بمزيد الإهتمام في الكسب لكن هذا الإهتمام لتحصيل ما يتزوج به وربما يكون لذلك ولتحصيل ما يحسن به حاله بعد التزويج ولا يخفى أن حال الإمرأة المتزوجة وحال الإمرأة التي بصدد التزويج على نحو حال الرجل والفرق يسير
هذا والظاهر من كلام بعضهم أن ما ذكر في الأيامي والصالحين مطلقا وأمر تذكير الضمير ظاهر وقيل : هو في الأحرار والحرائر خاصة وبذلك صرح الطبرسي لأن الأرقاء لا يملكون وإن ملكوا ولذا لا يرثون ولا يورثون والمتبادر من الإغناء بالفضل ما به يحصل الغنى ويدفع الحاجة وهو لا يتحقق مع بقاء الرق نعم أريد بالإغناء التوسعة ودفع الحاجة سواء كان ذلك بما يملك أم لا فلا بأس بالعموم فتدبر
وجوز أن تكون الآية في الأحرار خاصة بأن يكون المراد منها نهي الأولياء عن التعلل بفقرهم إذا استنكحوهم وأن تكون في المستنكحين من الرجال مطلقا والمراد نهي الأولياء عن ذلك أيضا فتدبر جميع ذلك
واحتج بعضهم كما قال ابن الفرس بالآية على أن النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة لأن سبحانه وعد فيها بالغنى وفيه مناقشة لا تخفى وليستعفف إرشاد للتائقين العاجزين عن مبادي النكاح وأسبابه إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم أي وليجتهد في العفة وصون النفس الذين لا يجدون نكاحا أي أسباب نكاح أو لا يتمكنون مما ينكح به من المال على أن فعالا اسم آلة كركب لما يركب به حتى يغنيهم الله من فضله عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى ولطف بهم في استعفافهم وربط على قلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالأعفاء وأدنى من الصلحاء
واستدل بالآية بعض الشافعية على ندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان وكثير من الناس ذهب إلى استحبابه الآية إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وحملوا الأمر بالإستعفاف في هذه الآية على من لم يجد زوجة يجعل فعال صفة بمعنى مفعول ككتاب بمعنى مكتوب ولا يخفى أن الغاية المذكورة تبعده ولا يلزم من الفقر وجدان الأهبة المفسرة عندهم بالمهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه والمذكور في معتبرات كتبنا أن النكاح يكون واجبا عند التوقان أي شدة الإشتياق بحيث يخاف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وكذا فيما يظهر لو كان لا يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن الإستمناء بالكف ويكون فرضا بأن كان لا يمكنه الإحتراز عن الزنا إلا به بأن لم يقدر على التسري أو الصوم الكاسر للشهوة كما يدل عليه حديث ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فلو قدر شيء من ذلك لم يبق النكاح فرضا أو واجبا عينا بل هو أو غيره مما يمنعه من الوقوع في المحرم وكلا القسمين مشروط بملك المهر والنفقة وزاد في البحر شرطا آخر فيهما وهو عدم خوف الجور ثم قال : فإن تعارض خوف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وخوف الجور لو تزوج قدم الثاني ويكره التزوج حينئذ كما أفاده الكمال في الفتح ولعله لأن الجور معصية متعلقة بالعباد دون المنع من الزنا وحق العبد مقسم عند التعارض لاحتياجه وغنى المولى عز و جل انتهى ومقتضاه الكراهة أيضا عند عدم ملك المهر والنفقة لأنهما حق عبد أيضا وإن خلف الزنا لكن ذكروا أنه يندب استدانة المهر ومقتضاه أنه يجب إذا خاف الزنا وإن لم يملك المهر إذا قدر على استدانته وهذا مناف للإشتراط السابق إلا أن يقال :
(18/150)

الشرط ملك النفقة والمهر ولو بالإستدانة أو يقال : هذا في العاجز عن الكسب ومن ليس له جهة وفاء
وذكر بعض الأجلة أنه ينبغي حمل ما ذكروا من ندب الإستدانة على ندبها إذا ظن القدرة على الوفاء وحينئذ فإذا كانت مندوبة مع هذا الظن عند أمنه من الوقوع في الزنا ينبغي وجوبها عن تيقن الزنا بل ينبغي وجوبها حينئذ وإن لم يغلب على ظنه قدرة الوفاء وهو معذور فيما أرى عند الله عز و جل إذا فعل ومات ولم يترك وفاء فتأمل ويكون مكروها عند خوف الجور كما سمعت وحراما عند تيقنه لأن النكاح إنما شرع لمصلحة تحصين النفس وتحصيل الثواب وبالجور يأثم ويرتكب المحرمات فتنعدم المصالح لرجحان هذه المفاسد ويكون سنة مؤكدة في الأصح حالة القدرة على الوطء والمهر والنفقة مع عدم الخوف من الزنا والجور وترك الفرائض والسنن فلو لم يقدر على واحد من الثلاثة الأول أو خاف واحدا من الثلاثة الأخيرة فلا يكون النكاح سنة في حقه كما أفاده في البدائع ويفهم من أشباه ان نجيم توقف كونه سنة على النية وذكر في الفتح أنه إذا لم يقترن بها كان مباحا لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة ومبني العبادة على خلافه فلا يثاب والنية التي يثاب بها أن ينوي مع نفسه وزوجته عن الحرام وكذا نية تحصيل ولد تكثر به المسلمون وكذا نية الإتباع وامتثال الأمر وهو عندنا أفضل من الإشتغال بتعلم وتعليم كما في درر البحار وأفضل من التخلي للنوافل كما نص عليه غير واحد وفي بعض معتبرات كتب الشافعية أن النكاح مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته من مهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه ولا يستحب لمن في دار الحرب النكاح مطلقا خوفا على ولده التدين بدينهم والإسترقاق ويتعين حمله على من لم يغلب على ظنه الزنا لو لم يتزوج إذ المصلحة المحققة الناجزة مقدمة على المصلحة المستقبلة المتوهمة وإنه إن فقد الأهبة استحب تركه لقوله تعالى : وليستعفف الآية وكسر شهوته بالصوم للحديث وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو بابتدائه فإن لم تنكسر به تزوج ولا يكسرها بنحو كافور فيكره بل يحرم على الرجل والمرأة إن أدى إلى اليأس من النسل وقول جمع : إن الحديث يدل على حل قطع العاجز الباءة بالأدوية مردود على الأدوية خطيرة وقد استعمل قوم الكافور فأورثهم عللا مزمنة ثم أرادوا الإحتيال لعود الباءة بالأدوية الثمينة فلم تنفعهم فإن لم يحتج للنكاح كره له إن فقد الأهبة وإلا يفقدها مع عدم حاجته له فلا يكره له لقدرته عليه ومقاصده لا تنحصر في الوطء والتخلي للعبادة أفضل منه فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل في الأصح كما قال النووي لأن البطالة تفضي إلى الفواحش فإن وجد الأهبة وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنن كذلك كره له لعدم حاجته مع عدم تحصين المرأة المؤدي غالبا إلى فسادها وبه يندفع قول الأحياء يسن لنحو الممسوح تشبها بالصالحين كما يسن إمرار الموسى على رأس الأصلع وقول الفزاري : أي نهي ورد في نحو المجبوب والحاجة لا تنحصر في الجماع ولو طرأت هذه الأحوال بعد العقد فهل يلحق بالإبتداء أولا لقوة الدوام تردد فيه الزركشي والثاني هو الوجه كما هو ظاهر انتهى وفيه ما لم يتعرض له في كتب أصحابنا فيما علمت لكن لا تأباه قواعدنا ثم إن الظاهر أن الآية خاصة بالرجال فهم المأمورون بالإستعفاف عند العجز عن مبادي النكاح وأسبابه نعم يمكن القول بعمومها واعتبار التغليب إذا أريد بالنكاح ما ينكح لكن قد علمت ما فيه ولا تتوهمن من هذا أنه لا يندب الإستعفاف للنساء أصلا لظهور أنه قد ندب في بعض الصور بل من تأمل أدنى تأمل يرى جريان الأحكام في نكاحهن لكن لم أر من صرح به من أصحابنا نعم نقل بعض الشافعية عن الأم ندب النكاح للتائقة والحق بها محتاجة للنفقة وخائفة من اقتحام فرجه
(18/151)

وفي التنبيه من جاز لها النكاح إن احتاجته ندب لها ونقله الأذرعي عن أصحاب الشافعي ثم بحث وجوبه عليها إذا لم تندفع عنها الفجرة إلا به ولا دخل للصوم فيها وبما ذكر علم ضعف قول الزنجاني : يسن لها مطلقا إذ لا شيء عليها مع ما فيه من القيام بأمرها وسترها وقول غيره : لا يسن لها مطلقا لأن عليها حقوقا للزوج خطيرة لا يتيسر لها القيام بها بل لو علمت من نفسها عدم القيام بها ولم تحتج له حرم عليها أه ولا يخفى أن ما ذكره بعد بل متجه واستدل بعضهم بالآية على بطلان نكاح المتعة لأنه لو صح لم يتعين الإستعفاف على فاقد المهر وظاهر الآية تعينه ولا يلزم من ذلك تحريم ملك اليمين لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المهر لا يقدر على شراء الجارية غالبا ذكره الكسا وهو كما ترى والذين يبتغون الكتاب بعد ما أمر سبحانه بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر جل وعلا بكتابة من يستحقها منهم ليصير حرا فيتصرف في نفسه وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح قال : كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزي فسألته الكتابة فأبى فنزلت والذين يبتغون الخ ويلوح من هذا أن عبد الله المذكور أول من كتب وربما يتخيل منه أن الكتابة كانت معلومة من قبل لكن نقل الخفاجي عن الدميري أنه قال : الكتابة لفظة إسلامية وأول من كاتبه المسلمون عبد لعمر رضي الله تعالى عنه يسمى أبا أمية
وصرح ابن حجر أيضا بأنها لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية والله تعالى أعلم والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ونظيره العتاب والمعاتبة أي والذين يطلبون منكم المكاتبة مما ملكت أيمانكم ذكورا كانوا أو إناثا وهو عندنا شرعا إعتاق المملوك يدا حالا ورقبة مآلا وركنه الإيجاب بلفظ الكتابة أو ما يؤدي معناه والقبول نحو أن يقول المولى : كاتبتك على كذا درهما تؤديه إلي وتعتق ويقول المملوك : قبلته وبذلك يخرج من يد المولى دون ملكه فإذا أدى كل البدل عتق وخرج من ملكه ومعناه كتب الحروف أي جمعها وإطلاقه على ما ذكر لأن فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة أو لأن البدل يكون في الأغلب منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض أو لأنه يكتب المملوك على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب المولى له عليه العتق وهذا أوفق بصيغة المفاعلة أعني المكاتبة
وفي إرشاد العقل السليم قالوا : معناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق عنده ثم قال : والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجوع كلامي المالم والمملوك كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول
ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شرطيه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه وتحصله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه إلا بتمليكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق
(18/152)

بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا قبل تم العقد أه وبه ينحل إشكال صعب وارد على إسناد أفعال العقود وهو أنه إذا كان ركن منها الإيجاب والقبول يلزم أن لا يصح نحو بعت كذا بكذا مثلا لأن المتكلم به لم يوقع إلا ما يتم من قبله وليس ذلك بيعا شرعيا إذ لا بد في البيع الشرعي من فعل آخر أعني قبول المشتري وهو مما لم يوقعه المتكلم المذكور
والحاصل أن إسناد إلى ضمير المتكلم يقتضي أنه أوقع البيع مع أنه لم يوقع إلا أحد ركنيه فكيف يصح الإسناد ووجه انحلال هذا بما ذكر ظاهر إلا أنه أورد عليه أن فيه دعوى يكذبها وجدان كل عاقد عاقل ألا ترى أنك إذا قلت بعت مثلا لا يخطر ببالك إيقاع ضمني لشراء غيرك إيقاعا متوقفا على رأيه أصلا بل قصارى ما يخطر بالبال إيقاعه الشراء دون إيقاعك لشرائه على نحو فعل الفضولي ومن ادعى ذلك فقد كابر وجدانه وأجيب بان الأمور الضمنية قد تعتبر شرعا وإن لم تقصد كما يرشد إلى ذلك أنهم اعتبروا في قول القائل لآخر : اعتق عبدك عني بكذا فأعتقه البيع الضمني بركنيه وإن لم يكن القائل خاطرا بباله ذلك وقاصدا له
وبحث فيه بأنهم اعتبروا أولا العتق هو مدلول اللفظ والمقصود منه ترجيحا لجانب الحرية ثم لما رأوا أن ذلك موقوف على الملك الموقوف على البيع حسب العادة الغالبة اعتبروا البيع ليتم لهم الإعتبار الأول ولم يعتبروه مدلولا للفظ العتق أصلا ليشترط القصد وأن أوهمه تسميتهم إياه بيعا ضمنيا بخلاف ما نحن فيه على ما سمعت فإن إيقاع القبول قد توقف عليه ماهية البيع الشرعي واعتبر مدلولا ضمنيا له بحيث صار عندهم كما يقتضيه ظاهر كلام الإرشاد نحو بعت بمعنى أوقعت إيجابا مني أصالة وقبولا منك نيابة وظاهر في مثل ذلك تحقق القصد وحيث نفي بالوجدان قصد إيقاع القبول نيابة علم أنه ليس مدلولا ضمنيا
ومن الناس من تفصى عن الإشكال بالتزام أن البيع هو الإيجاب والقبول شرط صحته فقول القائل بعت إنشاء لبيع يحتمل الصحة وعدمها ومتى قال الآخر اشتريت تعينت الصحة وأن قولهم ركن البيع الإيجاب والقبول من المسامحات الشائعة أو بالتزام أن للبيع ونحوه إطلاقين أحدهما العقد الحاصل من مجموع الإيجاب والقبول كما في نحو قولك : وقع البيع بين زيد وعمرو وثانيهما الإيجاب فقط كما في نحو قولك بعته كذا فلم يشتر والبيع الدال على بعت الإنشائي من هذا القبيل فلا إشكال في إسناده إلى المتكلم فتأمل وتدبر
وفي هذا المقام أبحاث تركناها خوفا من مزيد البعد عما نحن بصدده والله تعالى الموفق و الذين يحتمل أن يكون في محل رفع على الإبتداء والخبر قوله تعالى : فكاتبوهم وهو بتقدير القول بناءا على المشهور من أن الجملة الإنشائية لا تقع خبرا عن المبتدأ إلا كذلك وقال بعض المحققين : لا حاجة في مثل هذا إلى التأويل لأنه في معنى الشرط والجزاء ولذا جيء في الخبر بالفاء
ويحتمل أن يكون في محل نصب على أنه مفعول لمحذوف يفسره المذكور والفاء فيه لتضمن الشرط أيضا وفي البحر يجوز أن تقول : زيدا فاضرب وزيدا اضرب فإذا دخلت الفاء كان التقدير تنبه فاضرب فالفاء في جواب أمر محذوف أه وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى هذا في الآية وذكر بعض الأفاضل أن الفاء فيها على الإحتمال الثاني لأن حق المفسر أن يعقب المفسر والمراد كتابة بعد كتابة فإن في الموالي كثرة
(18/153)

وكذا في المكاتبين فليس الأمر به للمولى بالنسبة إلى مكاتب واحد أه وهو يشبه الرطانة بالأعجمية
والأمر للندب على الصحيح وقيل هو للوجوب وهو مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود وما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين الكاتبة فأبيت عليه فأتى عمر رضي الله تعالى عنه فأقبل علي بالدرة وتلا قوله تعالى فكاتبوهم الخ وفي رواية كاتبه لأضربنك بالدرة ظاهر في القول بالوجوب وجمهور الأئمة كمالك والشافعي وغيرهما على أن المكاتبة بعد الطلب وتحقق الشرط الآتي إن شاء الله تعالى مندوبة بيد أن من قال منهم بأن ظاهر الأمر للوجوب كالشافعي لم يقل بظاهره هنا لأنه بعد الحظر وهو بيع ماله بماله للإباحة وادعى أن ندبها من دليل آخر وظاهر الآية جواز الكتابة سواء كان البدل حالا أو مؤجلا أو منجما أو غير منجم لمكان الإطلاق وإلى ذلك ذهب الحنفية
وذهب جمهور الشافعية إلى أنه يشترط أن يكون منجما بنجمين فأكثر فلا تجوز بدون أجل وتنجيم مطلقا وقيل إن ملك السيد بعض العبد وباقيه حر لم يشترط أجل وتنجيم ورده محققوهم وأجابوا عن دعوى إطلاق الآية بأن الكتابة تشعر بالتنجيم فتغني عن التقييد لأنه يكتب أنه يعتق إذا أدى ما عليه ومثله لا يكون في الحال واعترضوا أيضا على القول بصحة الكتابة الحالة بأن الكتابة لو عقدت حالة توجهت المطالبة عليه في الحال وليس له مال يؤديه فيه فيعجز عن الإداء فيرد إلى الرق فلا يحصل مقصود العقد وهذا كما لو أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنه لا يجوز وأنت تعلم ما في إشعار الكتابة بالتنجيم وأنها تضر الشافعية لأن التجيم الذي تشعر به الكتابة على زعمهم يتحقق بنجم واحد فيقتضي أن تجوز به كما ذهب إليه أكثر العلماء وهم لا يجوزون ذلك ويشترطون نجمين فأكثر وما ذكروه في الإعتراض ليس بشيء فإنه لا عجز مع أمر المسلمين بإعانته بالصدقة والهبة والقرض والقياس على السلم لا يصح لظهور الفارق ولعل ما ذكر كالبيع لمن لا يملك الثمن ولا شك في صحته كذا قيل وفيه بحث
وقال ابن خويز منداد : إذا كانت الكتابة على مال معجل كانت عتقا على مال ولم تكن كتابة والفرق بين العتق على مال والكتابة مذكور في موضعه إن علمتم فيهم خيرا أي أمانة وقدرة على الكسب وبهما الخير فسره الشافعي وذكره البيضاوي أنه روي هذا التفسير مرفوعا وجاء نحو ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس وفسرت الأمانة بعدم تضييع المال وقيل ويحتمل أن يكون المراد بها العدالة لكن يشترط على الإستحباب المكاتبة أن لا يكون العبد معروفا بإنفاق ما بيده بالطاعة لأن مثل هذا لا يرجى له عتق بالكتابة وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا إن علمتم فيهم حرفة وظاهره الإكتفاء بالقدرة على الكسب وعدم اشتراط الأمانة وهو قول نقله ابن حجر عن بعضهم وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن أمينا يضيع ما كسبه فلا يحصل المقصود
وأخرج عبد بن حميد عن عبيدة السلماني وقتادة وإبراهيم وأبي صالح أنهم فسروا الخير بالأمانة
(18/154)

وظاهر كلامهم الإكتفاء بها وعدم اشتراط القدرة على الكسب ونقله أيضا ابن حجر عن بعضهم وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على السيد ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة وأخرج ابن مردوية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر الخير بالمال وأخرجه جماعة عن ابن عباس وعن ابن جريج وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك وتعقب بأن ذلك ضعيف لفظا ومعنى أما لفظا فلأنه لا يقال فيه مال بل عنده أو له مال وأما معنى فلأن العبد لا مال له ولأن المتبادر من الخير غيره وإن أطلق الخير على المال في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية وأجيب بأنه يمكن أن يكون المراد بالخير عند هؤلاء الأجلة القدرة على كسب المال إلا أنهم ذكروا ما هو المقصود الأصلي منه تساهلا في العبارة ومثله كثير
وقال أبو حيان : الذي يظهر من الإستعمال أنه الدين تقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح وتعقب بأنه لا يناسب المقام ويتقضي أن لا يكاتب غير المسلم وفسره كثير من أصحابنا بأن لا يضروا المسلمين بعد العتق وقالوا : إن غلب ظن الضرر بهم بعد العتق فالأفضل ترك مكاتبتهم وظاهر التعليق بالشرط أنه إذا لم يعلموا فيهم خيرا لا يستحب لهم مكاتبتهم أو لا تجب عليهم وهذا للخلاف في أن الأمر هل هو للندب أو للوجوب فلا تفيد الآية عدم الجواز عند انتفاء الشرط فإن غاية ما يلزم انتفاءه انتفاء المشروط وليس هو فيها إلا الأمر الدال على الوجوب أو الندب ومن قال : إنه للإباحة التزم أن الشرط هنا لا مفهوم له لجريه على العادة في مكاتبة من علم خيريته كذا قيل والذي أراه حرمة المكاتبة إذا علم السيد أن المكاتب لو عتق أضر المسلمين
ففي التحفة لابن حجر في باب الكتابة عند قول النووي هي مستحبة أن طلبها رقيق أمين قوي على كسب ولا تكره بحال ما نصه : لكن بحث البلقيني كراهتها لفاسق يضع كسبه في الفسق ولو استولى عليه السيد لامتنع من ذلك وقال هو وغيره : بل ينتهي الحال للتحريم أي وهو قياس حرمة الصدقة والفرض إذا علم أن من أخذهما يصرفهما في محرم ثم رأيت الأذرعي بحثه فيمن علم أنه يكتسب بطريق الفسق وهو صريح فيما ذكرته إذ المدار على تمكينه بسببها من المحرم أه وما ذكر من المدار موجود فيها قلنا ثم المراد من العلم الظن القوي وهو أكثر الأحكام الشرعية وما توهم من مال الله الذي آتاكم الظاهر أنه أمر للموالي بإيتاء المكاتبين شيئا من أموالهم إعانة لهم وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهما من طريق عبد الله بن حبيب عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يترك للمكاتب الربع وجاء هذا أيضا في بعض الروايات موقوفا على علي كرم الله تعالى وجهه وقال ابن حجر الهبتي : هو الأصح ولعل ذلك اجتهاد منه رضي الله تعالى عنه
وادعاء أن هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع ممنوع ولهذا الخبر وقول ابن راهويه : أجمع أهل التأويل على أن الربع هو المراد بالآية قالوا : إن الأفضل إيتاء الربع واستحسن ابن مسعود والحسن
(18/155)

إيتاء الثلث وابن عمر رضي الله تعالى عنهما إيتاء السبع وقتادة إيتاء العشر والأمر بالإيتاء عندنا للندب وقال الشافعية : للوجوب إذ لا صارف عنه وصرحوا بأن يلزم السيد أو وارثه مقدما له على مؤن التجهيز
أما الحط عن المكاتب كتابة صحيحة لجزء من المال المكاتب عليه أو دفع جزء من المعقود عليه بعد أخذه أو من جنسه إليه وأن الحط أولى من الدفع لأنه المأثور عن الصحابة ولأن الإعانة فيه محققة والمدفوع قد ينفقه في جهة أخرى وهو في النجم الأخير أفضل والأصح أن وقت الوجوب قبل العتق ويتضمن إذا بقي من النجم قدر ما بفي به من مال الكتابة وشاع أنهم يقولون بوجوب الحط ويرده قوله صلى الله تعالى عليه وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتما وأيضا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا وأيضا هو عقد معارضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع قيل : معنى آتوهم أقرضوهم وقيل : هو أمر لهم بالإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه تعالى إياهم للحث على امتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته سبحانه مع كونه عز و جل هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها وقيل : هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه أمر للولادة أن يعطوهم من الزكاة وهذا نحو ما ذكر في الكشاف من أنه أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله تعالى لهم في بيت المال كقوله سبحانه وفي الرقاب عند أبي حنيفة وأصحابه ويحل للمولى إذا كان غنيا أن يأخذ ما تصدق به على المكاتب لتبدل الملك كما فيما إذا اشترى الصدقة من فقير أو وهبها الفقير له فإن المكاتب يتملكه صدقة والمولى عوضا عن العتق وكذا الحكم لو عجز بعد أداء البعض عن الباقي فأعيد إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة والعلة تبدل الملك أيضا عند محمد وفيه خفاء لأن ما أخذ لم يقع عوضا عن العتق أما فيما إذا أعيد إلى الرق فظاهر وأما فيما إذا أعتق من غير جهة الكتابة فلأن العتق لم يكن مشروطا بأداء ذلك فتدبر
وعلل أبو يوسف المسئلة بأنه لا خبث في نفس الصدقة وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا بالآخذ ولا يجوز ذلك له من غير حاجة والأخذ لم يوجد من السيد وأورد عليه أنه ينافي جعلها أوساخ الناس في الحديث ونقل عن الشافعي أنه أعيد المكاتب إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة يلزم السيد رد ما أخذه إلا أن يتلف قبله لأن ما دفع للمكاتب لم يقع موقعه ولم يترتب عليه الغرض المطلوب
قال الطيبي : وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح والمدار عندي اختلاف جهتي الملك فمتى تحقق لم تبق شبهة في الحل وقد صح أن بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءت بعد العتق بلحم بقر فقالت عائشة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : هذا ما تصدق به على بريرة فقال عليه الصلاة و السلام : هو لها صدقة ولنا هدية فأشار عليه الصلاة و السلام إلى حله لآل البيت الذين لا تحل لهم الصدقة باختلاف جهتي الملك فتأمل وللمكاتبة أحكام كثيرة تطلب من كتب الفقه
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى
(18/156)

رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان لعبد الله بن أبي جارية تدعى معاذة فكان إذا نزل ضيف أرسلها له ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فشكت ذلك إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأمر بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يغلبنا على مماليكنا فنزلت وقيل : كانت لهذا اللعين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت وقيل : نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا أحدهما ابن أبي وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنهوا عن ذلك في الإسلام ونزلت الآية وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى جميع الروايات لا اختصاص للخطاب بمن نزلت فيه الآية بل هي عامة في سائر المكلفين
والفتيات جمع فتاة وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة مطلقا وقد أمر الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم بالتعبير بهما مضافتين إلى ياء المتكلم دون العبد والأمة مضافين إليه فقال عليه الصلاة و السلام لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي وكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كره العبودية لغيره عز و جل ولا حجر عليه سبحانه في إضافة الآخيرين إلى غيره تعالى شأنه وللعبادة المذكورة في هذا المقام باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله سبحانه على البغاء وهو زنا النساء كما في البحر من حيث صدوره عن شوابهن لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر
وقوله عز و جل : إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وأخراج ما عداها عن حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل هو للمحافظة على عادة من نزلت فيهم الآية حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى محاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح وفيه من الزيادة لتقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه بينه من إمائه فضلا عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما عند إرادة التعفف وتوفر الرغبة فيها كما يشعر به التعبير بأردن بلفظ الماضي وإيثار كلمة إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإماء كالشاذ والنادر أو للإيذان بوجوب الإنتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع ويعلم من توجيه هذا الشرط ما أشرنا إليه من بيان حسن موقع الفتيات هنا باعتبار مفهومها الأصلي أنه لا مفهوم لها ولو فرضت صفة لأن شرط اعتبار المفهوم عند القائلين به أن لا يكون المذكور خرج مخرج الغالب وقد تمسك جمع بالآية لإبطال القول بالمفهوم فقالوا : إنه لو اعتبر يلزم جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن والإكراه على الزنا غير جائز بحال من الأحوال إجماعا ومما ذكرنا يعلم الجواب عنه
وفي شرح المختصر الحاجبي للعلامة العضد الجواب عن ذلك أولا أنه مما خرج مخرج الأغلب إذ الغالب
(18/157)

أن الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله وثانيا أن المفهوم اقتضى ذلك وقد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة عند عدم الإرادة وأنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذ لأنهن إذ لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء والإكراه إنما هو إلزام فعل مكروه وإذا لم يمكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة انتهى ولعل ما ذكرناه أولا هو الأولى وجعل غير واحد زيادة التقبيح والتشنيع جوابا بتغيير يسير ولا بأس به
وزعم بعضهم أن إن أردن راجع إلى قوله تعالى : وأنكحوا الأيامي منكم وهو مما يقضي منه العجب وبالجملة لا حجة في ذلك لمبطلي القول بالمفهوم وكذا لا حجة لهم في قوله تعالى : لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فإنه كما في إرشاد العقل السليم قيد للإكراه لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم أيضا جيء به تشنبعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أي لا نفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الإضمحلال فالمراد بالإبتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ هو الصالح لكونه غاية للإكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه ولا اختصاص لعرض الحياة الدنيا يكسبهن أعني أجورهن التي يأخذنها على الزنا بهن وإن كان ظاهر كثير من الأخبار يقتضي ذلك بل ما يعمه وأولادهن من الزنا وبذلك فسره سعيد بن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وفي بعض الأخبار ما يشعر بأنهم كانوا يكرهونهن على ذلك للأولاد
أخرج الطبراني والبزاز وابن مردوية بسند صحيح عن ابن عباس أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت له أولادا من الزنا فلما حرم الله تعالى الزنا قال لها : مالك لا تزنين قالت والله لا أزني أبدا فضربها فأنزل الله تعالى ولا تكرهوا الآية ولا يقتضي هذا وأمثاله تخصيص العرض بالأولاد كما لا يخفى
وسمعت أن بعض قبائل أعراب العراق كآل عزة يأمرون جواريهم بالزنا للأولاد كفعل الجاهلية ولا يستغرب ذلك من الأعراب لا سيما في مثل هذه الأعصار التي عرا فيها كثيرا من رياض الأحكام الشرعية في كثير من المواضع أعصار فإنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقوله تعالى : ومن يكرههن إلى آخره جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل ببيان خلاص المكرهات من عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكره إلى المكرهين إشارة أي ومن يكرههن على ما ذكر من البغاء فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم
33
- لهن كما في قراءة ابن مسعود وقد أخرجها عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه لكن بتقديم لهن على غفور رحيم ورويت كذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وينبيء عنه على ما قيل قوله تعالى : من بعد إكراههن أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنه قال : غفور رحيم لهن وليست لهم وكان الحسن إذا قرأ الآية يقول : لهن والله لهن وفي تخصيص ذلك بهن وتعيين مداره على ما سمعت مع سبق ذكر المكرهين
(18/158)

أيضا في الشرطية دلالة على كونهم محرومين من المغفرة والرحمة بالكلية كأنه قيل : لا لهم أو لا له ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط اللازم في الجملة الشرطية على الأصح كما في المغنى وقيل : في توجيه أمر العائد : إن إكراههن مصدر مضاف إلى المفعول وفاعل المصدر ضمير محذوف عاءد على اسم الشرط والمحذوف كالملفوظ والنقدير من بعد إكرامهم إياهم ورده أبو حيان بأنهم لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف للمصدر في نحو هند عجبت من ضرب زيد وإن كان المعنى من ضربها زيدا فلم يجوزا هذا التركيب ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه وقيل : جواب الشرط محذوف والمذكور تعليل لما يفهم من ذلك المحذوف والتقدير ومن يكرههن فعليه وبال إكراههن لا يتعدى إليهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن وفيه عدول عن الظاهر وارتكاب مزيد إضمار بلا ضرورة وكون ذلك لتسبب الجزاء على الشرط ليس بشيء
وقال في البحر : الصحيح أن التقدير غفور رحيم لهم ليكون في جواب الشرط ضمير يعود على اسم الشرط المخبر عنه بجملة الجواب ويكون ذلك مشروطا بالتوبة وفيه إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل وأمر الربط لا يتوقف على ذلك ومثله ما قيل : إن التقدير لهما فالوجه ما تقدم والجار والمجرور في قراءة من سمعت قال ابن جني : متعلق بغفور لأنه أدنى إليه ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل ويجوز أن يتعلق برحيم لأجل حرف الجر إذا قدر خبرا بعد خبر ولم يقدر صفة لغفور لامتناع تقدم الصفة على موصوفها والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله وليس الخبر كذلك وأيضا يحسن في الخبر لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة لأن المغفرة مسببة عنها فكأنها متقدمة معنى وإن تأخرت لفظا والمعنى على تعلقه بهما كما لا يخفى وتعليق المغفرة لهن مع كونهن مكرهات لا إثم لهن بناءا على أن المكره غير مكلف ولا إثم بدون تكليف وتفصيل المسئلة في الأصول قيل : لشدة المعاقبة على المكره لأن المكرهة مع قيام العذر إذا كانت بصدد المعاقبة حتى احتاجت إلى المغفرة فما حال المكره وللدلالة على أن حد الإكراه الشرعي والمصابرة على أن ينتهي إليه فيرتكب ضيق والله تعالى يغفر ذلك بلطفه وقيل : لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التشبث في التجافي عنه أو لاعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية
ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شؤنها المستوجبة للإقبال الكلي على العمل بمضمونها وصدر بالقسم المعربة عنه اللام لإبراز كمال العناية أي وبالله لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل مالكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك مما هو من مبادي بيانها على أن مبينات من بين المتعدي والمفعول محذوف وإسناد التيبين إلى الآيات مجازي أو آيات واضحات صدقتها الكتب القديمة والعقول السليمة على أنها من بين بمعنى تبين اللازم أي آيات تبين كونها آيات من الله تعالى ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر مبينات على صيغة المفعول أي آيات بينها الله تعالى وجعلها واضحة الدلالة على الأحكام والحدود وغيرها وجوز أن يكون الأصل مبينا فيها الأحكام فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول
(18/159)

ومثلا من الذين خلوا من قبلكم عطف على آيات أي وأنزلنا مثلا كائنا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام فينتظم قصة عائشة رضي الله تعالى عنها المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مريم رضي الله تعالى عنها حيث أسند إليهما مثل ما أسند إلى عائشة من الإفك فبرأهما الله تعالى منه وسائر الأمثال الواردة في هذه السورة الكريمة انتظاما أوليا وهذا أوفق بتعقيب الكلام بما سيأتي إن شاء الله تعالى من التمثيلات من تخصيص الآيات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط وموعظة تتعظون بها وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهي عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور ويكفي في العطف التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما يتعظ به كقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله وقوله سبحانه لو لا إذ سمعتموه الخ وغير ذلك من الآيات الواردة في شأن الآداب وقيدت الموعظة بقوله سبحانه للمتقين
34
- مع شمولها للكل حسب شمول الإنزال حثا للمخاطبين على الإغتنام بالإنتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب وقيل : المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ الله نور السماوات والأرض النور في اللغة على ما قال ابن السكيت الضياء وهذا ظاهر في عدم الفرق بين النور والضياء وفرق بينهما جمع وإن كان إطلاق أحدهما على الآخر شائعا فقال الإمام السهيلي في الروض في قول ورقة : ويظهر في البلاد ضياء نور
يقيم به البرية أن يموجا إنه يوضح معنى النور والضياء وإن الضياء هو المنتشر عن النور والنور هو الأصل وفي التنزيل فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا لأن نور القمر لا ينتشر عنه ما ينتشر عن الشمس لا سيما في طرفي الشهر وقال الفلاسفة : الضياء ما يكون للشيء من ذاته والنور ما يفيض عليه من مقابلة المضيء وعلى هذا جاء فيما زعم إسلاميوهم قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا فإن اختلاف تشكلات القمر بالقرب والبعد من الشمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل على أن نوره فائض عليه من مقابلتها وأنت تعلم أن في هذا مقالا لعلماء تلإسلام وقد قدمنا ما فيه في غير هذا المقام ولعل الأولى في وجه الفرق ما تقدم آنفا في كلام السهيلي
وذكر بعض المحققين أنه يعلم من كلامهم أن لكل من النور والضياء جهة أبلغية فجهة أبلغية النور كونه أصلا ومبدأ للضياء وجهة أبلغية الضياء أن الإبصار بالفعل بمدخليته وادعى بعضهم أن النور على الإطلاق أبلغ من الضياء للآية التي نحن فيها وفيه بحث يعلم أن الله تعالى أثناء تفسيرها وأعلم أن الفلاسفة اختلفوا في حقيقة النور فمنهم من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وأبطل بعدة أوجه الأول أنه لو كان جسما متحركا لكانت حركته طبيعية والحركة الطبيعية إلى جهة واحدة دون سائر الجهات لكن
(18/160)

النور يقع على الجسم في كل جهة كانت له والثاني أنه إذا دخل من كوة تم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تمون باقية في البيت فيلزم أن يكون البيت مستنيرا كما كان قبل السد وليس كذلك وإما أن تكون خارجة من الكوة قبل انسدادها وهو محال لأن السد كان سبب انقطاعها فلا بد أن يكون سابقا عليه بالذات أو بالزمان وإما أن تكون غير باقية أصلا فيلزم أن يكون تخلل جسم بين جسمين موجبا انعدام أحدهما وهو معلوم الفساد والثالث أن كون تلك الأجسام الصغار أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وهو باطل لأن المفهوم من النورية مغاير المفهوم من الجسمية وإما أن يكون مغايرا لها بأن تكون تلك الجسام حاملة لتلك الكيفية منفصلة من المضيء متصلة بالمستضيء فإن لم تكن تلك الأجسام محسوسة فهو ظاهر البطلان لأنها حينئذ كيف تكون واسطة لإحساس غيرها وإن كانت محسوسة كانت ساترة لما وراءها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس فإن النور كلما ازداد قوة ازداد إظهارا والرابع أن الشمس إذ طلعت من الأفق يستنير وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة ولا يخفى حاله على القول باستحالة الخرق على الإفلاك والخامس أن انفصال الأجزاء من الأجرام الكوكبية يستلزم الذبول والإنتقاض وخلو مواضعها عن تمام مقدارها أو مقدار أجزائها أو كونها دائمة التحليل مع إيراد البدل عما يتحلل عن جرمها فتكون أجسامها أجساما مستحيلة غذائية كائنة فاسدة وذلك محال في الفلكيات
وتعقبها بعض متأخريهم بأنها في غاية الضعف أما الأول فلأن كون النور جسما لا يستلزم كونه متحركا ولا كون حدوثه بالحركة بل هو مما يوجد دفعة بلا حركة وأما الثاني فلقائل أن يقول : إن قيام المجعول بلا مادة إنما يكون بالفاعل الجاعل إياه مع اشتراط عدم الحجاب المانع عن الإفاضة فإذا طرأ المانع لم تقع الإفاضة فينعدم المفاض بلا مادة باقية عنه لأن وجوده لم يكن بشركة المادة فكذا عدمه فعند انسداد الباب المانع عن الإفاضة ينعدم الشعاع عن البيت دفعة ولا فرق في ذلك بين كونه عرضا أو جوهرا والسر فيهما جميعا أن النور مطلقا ليس حصوله من جهة انفعال المادة وشركة الهيولي كسائر الجواهر والأغراض الإنفعالية ولذلك لا ينعدم شيء منها دفعة لو فرض حجاب بينها وبين المبدأ الفاعلي إلا بعد زمان واستحالة وأما الذي ذكر فجوابه أن المغايرة في المفهوم لا تنافي الإتحاد والعينية في الوجود فما ذكر مغالطة من باب الإشتباه بين مفهوم الشيء وحقيقته وأما المذكور رابعا وخامسا فلأن مبناه على الإنفصال والقطع للمسافة لا على مجرد الجوهرية والجسمية
هذا وذهب بعضهم إلى أنه عرض من الكيفيات المحسوسة وقالوا : هو غني عن التعريف كسائر المحسوسات وتعريفه بأنه كمال أول للشفاف من حيث أنه شفاف أو بأنه كيفية لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر تعريف بما هو أخفى وكأن المراد به التنبيه على بعض خواصه ومن هؤلاء من قال : إنه نفس ظهور اللون ومنهم من قال بمغايرتهما واستدلوا بأوجه الأول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما اللون أو صفة نسبية أو غير نسبية والأول باطل لأن النور إما أن يجعل عبارة عن تجدد اللون أو اللون المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون مستنيرا إلا غي آن تجدده والثاني يوجب كون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم : الضوء هو ظهور اللون معنى وإن جعلوا اللضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه
(18/161)

بالظهور فذلك نزاع لفظي وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فهو باطل لأن الضوء أمر غير نسبي وإلا لكان أمرا عقليا واقعا تحت مقولة المضاف فلم يكن محسوسا أصلا لكن الحس البصري مما ينفعل عنه ويتضرر بالشديد منه حتى يبطل
والأمور الذهبية لا تؤثر مثل هذا التأثير فإذا لم يكن أمرا نسبيا لم يكن تفسيره بالحالة النسبية والثاني أن البياض قد يكون مضيئا مشرقا وكذا السواد فلو كان ضوء كل منهما عين ذاته لزم أن يكون بعض الضوء ضد بعضه وهو محال لأن ضد الضوء الظلمة والثالث أن اللون يوجد بدون الضوء كما في الجسم الملون في الظلمة وكذا الضوء يوجد بدون اللون كما في البلور إذا وقع عليه الضوء فهما متغايران لوجود كل منهما بدون الآخر والرابع أن الجسم الأحمر مثلا المضيء إذا انعكس عنه إلى مقابله فتارة ينعكس الضوء عنه إلى جسم آخر وتارة ينعكس منه اللون والضوء معا إذا قويا حتى يحمر المنعكس إليه فلو كان مجرد ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره لمعانا ساذجا وليس لقائل أن يقول : هذا البريق عبارة عن إظهار اللون في ذلك القابل لأنه يقال : فلماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه ضوؤه أخفي ضوء المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه
وقال بعض المتأخرين : استقر الرأي على أن النور المحسوس بما هو محسوس عبارة عن نحو وجود الجوهر المبصر الحاضر عند النفس في غير هذا العالم وأما الذي في الخارج بإزائه فلا يزيد وجوده على وجود اللون والأوجه الي ذكرت لمغايرتهما مقدوحة أما الوجه الأول فهو مقدوح بأن ظهور اللون عبارة عن وجوده وهو صفة حقيقية من شأنها أن ينسب ويضاف إلى القوة المدركة وبهذا الإعتبار يقع له التجدد قولهم : يوجب أن يكون الضوء نفس اللون : قلنا : نعم ولكنهما متغابران بالإعتبار كما أن الماهية والوجود في كل شيء متحدان بالذات متغايران بالإعتبار فإن النور والضوء يرجع معناه إلى وجود خاص عارض لبعض الأجسام والظلمة عبارة عن عدم ذلك الوجود الخاص بالكلية والظل عبارة عن عدمه في الجملة واللون عبارة عن امتزاج يقع بين حامل هذا الوجود النوري وحامل عدمه على أنحاء مختلفة فليست الألوان إلا مراتب تراكيب الأنوار والأدلة الموردة على إبطال ذلك ضعيفة فعلى هذا صح قولهم : النور هو ظهور اللون وصح أيضا قول من يقول إنه غير اللون لأن النور بما هو نور لا يختلف إذ لا يعتبر فيه امتزاج ولا شوب مع عدم أو ظلمة والألوان مختلفة وأما الوجه الثاني فهو أيضا مندفع بما مهد وبأن اللون وإن لم يكن غير النور إلا أن مراتب الأنوار مختلفة شدة وضعفا ومع هذا الإختلاف قد تختلف بوجوه أخر بحسب تركيبات وامتزاجات كثيرة تقع بين أعداد من النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها وأعداد من الظلمة أعني عدم ذلك النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها فإن هذه الألوان أمور مادية في الأكثر أو متعلقة بها والمادة منبع الإنقسام والتركيب بين الوجودان والإعدام والإمكانات فليس بعجب أن يحصل من ضروب تركيبات النور بالظلمة هذه الألوان التي نراها فتقع تلك الأقسام في محالها على الوجه المذكور ثم يقع عليها نور آخر بمقابلة المنير
ومن قال بأن النور عين اللون لم يقل بأن كل نور عين كل لون كما أن من قال بأن الوجود عين الماهية لم يقل بأن كل وجود عين كل ماهية ليلزمه أن لا يطرد وجود على وجود ولا تضاد وجود لوجود فالألوان متخالفة الأحكام وبعضها أمور متضادة لكن بما هي ألوان لا بما هي أنوار كما أن الموجودات متخالفة الأحكام وبعضها
(18/162)

أشياء متضادة لكن بما هي ما هيات لا بما هي موجودات مع أن الوجود والماهية واحد وأما الوجه الثالث فسبيل دفعه سهل بما بين وكذا الوجه الرابع بأدنى أعمال روية فإن عدم ظهور اللون قد يكون لضعف اللمعان الواقع على شيء وقد يكون لشدة اللمعان فالواقع على المقابل من عكس المضيء الملون قد يكون ضوءه فقط وذلك عند قصور الضوء واللون أو قصور استعداد القابل المقابل وقد يكون كلاهما لقوتهما وقوة لتعداد المنعكس إليه وعلى أن الكلام في مباحث العكوس طويل وكون المنعكس من جسم المضيء إلى جسم آخر ضوءه دون لونه ربما كان لأجل صقالته فإن الصقيل قد يكون ذا لون وضوء لكن المنعكس منه إلى مقابله ليس إلا ما حصل من نير آخر بتوسطه على نسبة وضعية مخصوصة بينهما له إليهما لا الملون والضوء اللذان يستقران فيه فالمنعكس في ذلك المقابل ليس إلا الضوء فقط من ذلك النير لا من المنعكس منه إلا أن يكون المنعكس إليه أيضا جسما صقيلا فيقع فيه حكاية منهما أي الضوء واللون أو من أحدهما أيضا
هذا غاية ما قالوه في النور المحسوس الذي يظهر به الأجسام على الأبصار ولهم في النور إطلاق آخر وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره وقالوا : هو بهذا المعنى مساو للوجود بل نفسه فيكون حقيقة بسيطة كالوجود منقسما كانقسامه فمنه نور واجب لذاته قاهر على ما سواه ومنه أنوار عقلية ونفسية وجسمية والواجب تعالى نور الأنوار غير متناهي الشدة وما سواه سبحانه أنوار متناهية الشدة بمعنى أن فوقها أشد منها وإن كان بعضها كالأنوار العقلية لا تقف آثارها عند حد والكل من لمعات نوره عز و جل حتى الأجسام الكثيفة فإنها أيضا من حيث الوجود لا تخلو عن نور لكنه مشوب بظلمات الإعدام والإمكانات إذا علمت هذا فاسلم أن إطلق النور على الله سبحانه وتعالى بالمعنى اللغوي والحكمي السابق غير صحيح لكمال تنزهه جل وعلا عن الجسمية والكيفية ولوازمهما وإطلاقه عليه سبحانه بالمعنى المذكور وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره قد جوزه جماعة منهم حجة الإسلام الغزالي فإنه قدس سره بعد أن ذكر في رسالته مشكاة الأنوار معنى النور ومراتبه قال : إذا عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار فاعلم أن لا ظلمة أشد من كتم العدم لأن المظلم سمي مظلما لأنه ليس بظاهر للإبصار مع أنه موجود في نفسه فما ليس موجودا أصلا كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة
وفي مقابلته الوجود وهو النور فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ما له من غيره فما له لوجود من غيره مستعار لأقوام له بنفسه بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض وإنما هو وجود من حيث نسبته إلى غيره وذلك ليس بوجود حقيقي فالوجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله عز و جل وقد قال قبل هذا : أقول ولا أبالي إن إطلاق اسم النور على غير النور الأول مجاز محض إذ كل ما سواه سبحانه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نورانيته مستعارة من غيره لا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض وفسر النور في هذه الآية أعني قوله تعالى الله نور السماوات والأرض بذلك ثم أشار إلى وجه الإضافة إلى السماوات والأرض بقوله : لا ينبغي أن يخفى عليك ذلك بعد أن عرفت أنه تعالى هو النور ولا نور سواه وإنه كل الأنوار والنور الكلي لأن عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما تنكشف به وله ومنه وليس فوقه
(18/163)

نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته لذاته لا من غيره ثم عرفت أن هذا لا يتصف به إلا النور الأول ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نورا من طبقتي النور أعني المنسوب إلى البصر والمنسوب إلى البصيرة أي إلى الحسن والعقل كنور الكواكب وجواهر الملائكة وكالأنوار المشاهدة المنبسطة على كل ما على الأرض وكأنوار النبوة والقرآن إلى غير ذلك
وهذا منزع صوفي والصوفية لا يتحاشون من القول بأنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا هو الكل بل هو لاهوية لغيره إلا بالمجاز ويقولون : لا إله إلا الله توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص لأنه أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل لصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة وقد قال بذلك الغزالي في رسالته المذكورة أيضا وأنت تعلم أنه مما لا يهتدي إليه بنور الإستدلال بل هو طور وراء طور العقل لا يهتدي إليه بنور الله عز و جل
وجوز بعض المحققين كون المراد من النور في الآية الموجد كأنه قيل : الله موجد السماوات والأرض ووجه ذلك بأنه مجاز مرسل باعتبار لازم معنى النور وهو الظهور في نفسه وإظهار لغيره وقيل : هو استعارة والمستعار منه النور بمعنى الظاهر بنفسه المظهر لما سواه والمستعار له الواجب الوجود الموجد لما عداه وكون المراد به مفيض الإدراك ومعطيه مجازا مرسلا أو استعارة والكلام على حذف مضاف أي نور أهل والسماوات والأرض وهذا قريب مما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الله نور السماوات والأرض هادي أهل السماوات والأرض وهو وجه حسن وجاء في رواية أخرى أخرجها ابن جرير عنه رضي الله تعالى عنه أنه فسر النور بالمدبر فقال : الله نور السماوات والأرض يدبر الأمر فيهما وروي ذلك عن مجاهد أيضا وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ
ووجه الشبه كون كل من التدبير والنور سبب الإهتداء إلى المصالح وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية وتعقب بأن ذكر طرفي التشبيه وهو الله تعالى والنور ينافي ذلك وأجيب بان ذكرهما إنما ينافيه إذا كان على وجه ينبيء عن التشبيه وكان كل من المشبه به مذكورا بعينه وهنا لم يشبه الله سبحانه بالنور بل شبه المدبر به وذكر جزئي يصدق عليه المشبه أو كلي يشمله لا ينافي ذلك كما أشار إليه صاحب الكشاف في مواضع منه وصرح به أهل المعاني وقيل : المراد به المنزه من كل عيب ومن ذلك قولهم : امرأة نوار أي بريئة من الريبة بالفحشاء وهو من باب المجاز أيضا وقيل : الكلام على حذف مضاف كما في زيد كرم أي ذو نور ويؤيده كما قيل قوله تعالى بعد مثل نوره ويهدي الله لنوره
وقيل : نور بمعنى منور وروي ذلك عن الحسن وأبي العالية والضحاك وعليه جماعة من المفسرين ويؤيده قراءة بعضهم منور وكذا قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعة نور فعلا ماضيا والأرض بالنصب وتنويره سبحانه السماوات والأرض قبل بالشمس والقمر وسائر الكواكب ونسب إلى الحسن ومن معه تنوير السماوات بالملائكة عليهم السلام وتنوير الأرض بالأنبياء عليهم السلام والعلماء ونسب إلى أبي بن كعب والتنوير على الأول حسن وعلى الثاني عقلي وقيل وهو الذي اختاره : تنويره سبحانه إياهما بما فيهما من الآيات التكوينية
(18/164)

والتنزيلية الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته عز و جل والهادية إلى صلاح المعاش والعاد والجملة استئناف مسوق إما لتحقيق أن بيانه تعالى المؤذن به قوله سبحانه ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات الآية ليس مقصورا على ما ورد في هذه السورة الكريمة وإما لتقرير ما في القرآن الجليل من البيان ولا يتأتى نحو هذا على بعض الأقوال السابقة في بيان المراد بالنور وهو وجه قوي في مناسبة الآية لما قبلها ولا يكاد يظهر مثله بعض آخر منها وذكر العلامة الطيبي في بيان المناسبة كلاما في الغث والسمين إن أردته فارجع إليه
وتخصيص السماوات والأرض بالذكر لأنهما المقر المعروف للمكلفين المحتاجين لما يدلهما ويهديهما لما سبق
وقال العلامة البيضاوي بعد ذكر عدة احتمالات في المراد بالغر : إن إضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما وقيل المراد بهما العالم كله كإطلاق المهاجرين والأنصار على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم
وتعقب بأن هذا إطلاق اسم البعض على الكل مجازا وقد اشترط في التلويح أن يكون الكل مركبا تركيبا حقيقيا ولم يثبت في اللغة إطلاق الأرض على مجموع الأرض والسماء والإنسار على الآدمي والسبع
وأجيب بأنه لا يتعين كونه مجازا لجواز كونه كناية ولو سلم فما في التلويح غير مسلم أو هو أغلبي فقد ذكر الزمخشري في قوله تعالى : لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أنه عبر عن جميع العالم بالسماء والأرض قال العلامة في شرحه : إنه من إطلاق الجزء على الكل فالمعنى حينئذ الله نور العالم كله مثل نوره أي أدلته سبحانه العقلية والسمعية في السماوات والأرض التي هدي بها شاء إلى ما فيه صلاحه وحكى هذا عن أبي مسلم وينتظم ذلك القرآن انتظاما أوليا وعن ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم أن المراد بالنور هنا القرآن كما يعرب عنه ما قبل من وصف آياته بالإنزال والتبيين وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى : وأنزلنا إليكم نورا مبينا وقيل المراد به الحق فقد جاء استعارة النور له كاستعارة الظلمة للباطل في قوله سبحانه الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور أي من أنوار الباطل إلى الحق ووجه الشبه الظهور ومن أمثالهم الحق أبلج ويكفي ذلك في جواز الإستعارة ولا تتوقف على تحقق ما في النور من معنى الإظهار في الحق نعم إذا تحقق ذلك أيضا فهو نور على نور لكن رجح ضعف تفسيره بما ذكر دون القرآن بأنه يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق
وفي الكشف المراد بالحق الذي فسر النور به ما يقابل الباطل وهو يتناول التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل وليس المراد به كون السماوات والأرض دليلين على وجود فاطرهما بل ذلك أيضا داخل في عموم اللفظ انتهى ويضعف عليه أمر هذا التضعيف وقيل المراد به الهدى الذي دل عليه الآيات المبينات وقيل : الهدى مطلقا فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال : مثل نوره مثل هداه في قلب المؤمن وأخرج ابن جرير عن أنس قال : إن إلهي يقول نوري هداي وذكر بعضهم أن تفسيره بالهدى مختار الأكثرين وأن تفسيره بالحق بالمعنى العام يوافقه وقيل : المراد به المعارف والعلوم التي أفاضها عز و جل على قلب المؤمن وإضافة ذلك إليه سبحانه لأنه مفاضه تعالى وعن أبي بن كعب والضحاك تفسيره بالإيمان الذي أعطاه سبحانه المؤمن ووفقه إليه
(18/165)

وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس تفسيره بالطاعات التي حلي بها جل شأنه قلب المؤمن فيشمل الإيمان وسائر الأعمال القلبية الحميدة وقيل المراد بنوره رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم وقد جاء إطلاق النور عليه عليه الصلاة و السلام في قوله تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين على قول وقيل : غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى والضمير على جميع هذه الأقوال راجع إليه تعالى كما هو الظاهر
وجوز رجوع الضمير إلى المؤمن وروي ذلك عن عكرمة وهو إحدى الروايات وصححها الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروي أيضا عن أبي بن كعب بل أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي أنه قال قرأ أبي بن كعب مثل نور المؤمن وأخرج أبو سعيد وابن المنذر عن أبي العالية أن أبيا قرأ مثل نور من آمن به أو قال : مثل من آمن به
وفي البحر روي عن أبي أنه قرأ مثل نور المؤمنين وقيل : الضمير راجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم وروي ذلك جماعة عن ابن عباس عن كعب الأحبار وحكاه أبو حيان عن ابن جبير أيضا وقيل : هو راجع إلى القرآن وقيل : إللا الإيمان ولا يخفى أن رجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه أو كان لكن كانت دلالته عليه خفية خلاف الظاهر جدا لا سيما إذا فات المقصود من الكلام على ذلك والمراد بالمثل الصفة العجيبة أي صفة نوره سبحانه العجيبة الشأن كمشكاة أي كصفتها في الإنارة والتنوير وقال أبو حيان : أي كنور مشكاة وهي الكوة فير النافذة كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور وقال أبو موسى : هي الحديدة أو الرصاصة التي تكون فيها الفتيلة في جوف الزجاجة وعن مجاهد أنها الحديدة التي يعلق بها القنديل وهو كما ترى والمعول عليه قول الجمهور وعن ابن عطية أنه أصح الأقوال وعلى جميعها هو لفظ حبشي معرب كما قال ابن قتيبة والكلبي وغيرهما وقيل : رومي معرب وقال الزجاج كما في مجمع البيان : يجوز أن يكون عربيا فيكون مفعلة والأصل مشكوة فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وإلى أن أصل ألفها الواو ذهب ابن جني واستدل عليه بأن العرب قد نحوا بها منحاة الواو كما فعلوا بالصلاة
وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة فيها مصباح سراج ضخم ثاقب وقيل الفتيلة المشتعلة المصباح في زجاجة في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وضم الزاي لغة الحجاز وكشرها وفتحها لغة قيس بالفتح قرأ أبو رجاء ونصر بن عاصر في رواية ابن مجاهد
وقرأ بعضهم بالكسر أيضا وكذا قريء بهما في قوله تعالى الزجاجة كأنها كوكب دري مضيء متلأليء كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر فوزنه فعلى وجوز أن يكون أصله دريء بهمزة آخره كما قرأ به حمزة وأبو بكر فقلبت ياء وأدغمت في الياء فوزنه فعيل وهو من الدرء بمعنى الدفع فإنه يدفع الظلام بضوئه أو يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه وجوز أن يكون من الدرء بمعنى الجري وليس بذاك ومثله ما قيل إنه من درأ إذا طلع بغتة وفاجأ ولا يخفى على المتتبع أن فعيلا قليل في كلامهم ففي اللباب فعيل غريب لا نظير له مريق لحب العصفر أو ما سمن من الخيل وعلية وسرية وذرية قاله أبو علي وفي البحر سمع أيضا مريخ للذي في داخل القرن اليابس وفيه لغتان ضم الميم وكسرها وقال الفراء : لم يسمع إلا مريق وهو أعجمي
(18/166)

وسيبويه عد ذلك من أبنية العرب ولم يثبت بعضهم هذا الوزن أصلا
وقال أبو عبيد : أصل دريء دروء كسبوح فجعلت الضمة كسرة للإستثقال والواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا في عتوعتي فوزنه فعول وكذا قيل في سرية وذرية وجعل بعضهم سرية من السر وهو النكاح أو الإخفاء والضم من تغييرات النسب فوزنه فعلية كما في الصحاح والأخفش يرى أنه من السرور وقد أبدلت الراء الأخيرة ياء وهو معهود في الفعل فقد قالوا : تسررت جارية وتسريت كما قالوا : تظننت وتظنيت فوزنه على هذا كما قال الخفاجي فعلية وجعل بعضهم ذرية نسبة إلى الذر على غير القياس لإخراجهم كالذر من أظهر آدم عليه السلام
وقرأ قتادة وزيد بن علي والضحاك دري بفتح الدال وروي ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب وقرأ الزهري دري بكسر الراء وقرأ أبو عمرو والكسائي دريء بالكسر والهمزة آخره وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف نحو سكير وقرأ قتادة أيضا وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن قائد والأعمش ونصر بن عاصم دريء بالهمز وفتح الدال قال ابن آدم جني : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلا السكينة بفتح السين وشد الكاف في لغة حكاها أبو زيد وقريء دءري بتقديم الهمزة ساكنة على الراء وهي نادر الشواذ وفي إعادة المصباح والزجاجة معرفين أثر سبقهما منكرين والأخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال : كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب دري من تفخيم شأنهما ورفع مكانتهما بالتفسير أثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وبإثبات ما بعدهما لهما بطريق الأخبار المنبيء عن القصد الأصلي دون الوصف المنبيء عن الإشارة إلى الثبوت في الجملة ما لا يخفى والجملة الأولى في محل الرفع على أنها صفة لمصباح والجملة الثانية في محل الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية كما في مجمع البيان وإرشاد العقل السليم عن الرابط كأنه قيل : فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دري يوقد من شجرة أي يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة مباركة أي كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها وقيل إنما وصفت بالبركة لأنها تتبت في الأرض التي بارك الله تعالى فيها للعالمين وقيل بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام زيتونة بدل من شجرة وقال أبو علي عطف بيان عليها وهو مبني على مذهب الكوفيين من تجويزهم عطف البيان في النكرات وأما البصريون فلا يجوزونه إلا في المعارف
وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم الإبدال أو بيانها تفخيم لشأنها وقد جاء في الحديث مدح الزيت لأنه منها أخرج عبد بن حميد في مسنده والترمذي وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ائتدموا بالزيت وأدهنوا به فإنه من شجرة مباركة
وأخرج البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها ذكر عندها الزيت فقالت : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر أن يؤكل ويدهن ويسعط به ويقول أنه من شجرة مباركة وهو في حد ذاته ممدوح ففي الحديث أنه مصحة من الباسور وذكر له الأطباء منافع كثيرة وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يأكل الخبز به وأكل عليه الصلاة و السلام اللسان مطبوخا بالشعير وفيه الزيت والتوابل فليحفظ وقرأ الإخوان وأبو بكر الحسن وزيد بن علي وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش توقد بالتاء المثناة من فرق مضارع أو قدت مبنيا للمفعول على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة وإسناد الفعل إليها قيل على سبيل المبالغة وقيل هو
(18/167)

بتقدير مضاف أي مصباحها وقرأ الحسن والسلمي وقتادة أيضا وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم توقد بالتاء الفوقية أيضا مضارع توقد وأصله نتوقد بتاءين فخفف بحذف أحدهما
وذكر الخفاجي أنها قراءة أبي عمرو وابن كثير والإسناد فيها للزجاجة على ما مر وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضا يوقد بالياء التحتية على أنه مضارع توقد أيضا وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن وأصله يتوقد أي المصباح فحذفت التاء وهو غير معروف مع الياء وإنما المعروف هو الحذف عند اجتماع التاءين المتماثلتين
ووجه ذلك على ما قال ابن جني أنه شبه فيه حرف مضارعة بحرف مضارعة يعني الياء بالتاء فعومل معاملته كما شبهت التاء والنون في تعد ونعد بياء يعد فحذف الواو معهما كما حذفت فيه لوقوعها بين ياء وكسرة
وقريء توقد بالتاء من فوق على صيغة الماضي من التفعل والضمير للمصباح أي ابتداء توقد المصباح من شجرة
لا شرقية ولا غربية أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شيء من حين تطلع إلى أن تغرب وذلك أحسن لزيتها وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والكلبي وهو تفسير بلازم المعنى أعني به كونها بين الشرق والغرب وعن ابن زيد أي ليست من شجر الشرق ولا من شجر الغرب لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقل زينا وأضعف ضوأ لكنها من شجر الشام وهي ما بين المشرق والمغرب وزيتونها أجود ما يكون وقال أبو حيان في تذكرته : المعنى ليست في مشرقة أبدا أي في موضع لا يصيبه ظل وليست في مقناة أبدا أي في موضع لا تصيبه الشمس وحاصله ليست الزيتونة تصيبها الشمس خاصة ولا الظل خاصة ولكن يصيبها هذا في وقت وهذا في وقت وقال الفراء والزجاج : المعنى لا شرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية أي تصيبها الشمس عند طلوعها وغروبها وأنت تعلم أنه لا بد من تقدير قيد فقط بعد كل من شرقية وغربية كما سمعت ليتوجه النفي إليه فيفيد التركيب اجتماع الأمرين وإلا فظاهره نفيهها وعن المطلع أن هذا كقول الفرزدق : بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم
ولم تكثر القتلى بها حين سلت إذ معناه شاموا سيوفهم وأكثروا بها القتلى وتعقبه في الكشف بأنه لا استدلال بالبيت على ذلك لجواز أن يريد لم يشيموا غير مكثري القتلى على الحال وإفادته المعنى المذكور واضحة حينئذ وعن ابن عباس أنها في دوحة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب وتعقب بأن هذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها وعن الحسن أن هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية وعن عكرمة أنها من شجر الجنة ولعله إنما جزم بذلك لما ذكر الحسن ولا يخفى ما فيه وقرأ الضحاك لا شرقية ولا غربية بالرفع أي هي لا شرقية ولا غربية
وقال أبو حيان : أي هي لا شرقية ولا غربية ولعل ما ذكرنا أولى والجملة في موضع الصفة لزيتونة
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا وكلمة لو في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء الشيء لانتفاء غيره في الزمان الماضي فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقيق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال
(18/168)

مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالا بإدخالها على أبعدها منه والواو الداخلة عليها لعطف الجملة المذكورة على جملة محذوفة مقابلة لها عند الجزولي ومن وافقه ومجموع الجملتين في حيز النصب على الحالية من المستمكن في الفعل الموجب أو المنفي وتقدير الآية الكريمة يكاد زيتها يضيء لو مسته نار ولو لم تمسسه نار أي يضيء كائنا على كل حال من وجود شرط الإضاءة وعدمه وحذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب ثقة بدلالة الثانية عليها دلالة واضحة
وقال الزمخشري : الواو للحال ومقتضاه أن لو مع ما بعدها حال فالتقدير والحال لو كان أو لو لم يكن كذا أي مفروضا ثبوته أو انتفاؤه لكن الزمخشري ومثله المرزوقي يقدر ولو كان الحال كذا وتعقب ذلك بأن أدوات الشرط لا تصلح للحالية لأنها تقتضي عدم التحقق والحال يقتضي خلافه والتزم لذلك أنه انسلخ عنها الشرطية وإنها مؤولة بالحال كما أن الحال تكون في معنى الشرط نحو لأفعلنه كائنا ما كان أي إن كان هذا أو غيره ولذا لا تحتاج إلى الجزاء أصلا وإنما قدر الحال بعد لو على ما قيل : إشارة لى أنه قصد إلى جعل الجملة حالا قبل دخول الشرط المنافي له ثم دخلت لو تنبيها على أنها حال غير محققة واعتراض الرضي القول بأنها عاطفة بأنه لو كان كذلك لوقع التصريح بالمعطوف عليه في الإستعمال وليس كذلك ذهب إلى أنها اعتراضية
ويجوز الإعتراض في آخر الكلام والمقصود منه التأكيد وأجيب عن اعتراضه بأن ظهور ترتب الجزاء على المعطوف عليه أغنى عن ذكره حتى كان ذكره تكرارا وبالجملة الذي عطف عليه الأكثرون وارتضوه كونها عاطفة وبجعل مجموع الجملتين في موضع الحال على ما سمعت يندفع ما يتوهم من أن كاد تنافي اعتبار العطف هنا فتأمل وقرأ ابن عباس والحسن يمسسه بالياء التحتية وحسنه الفصل وكون الفاعل غير حقيقي التأنيث نور على نور أي هو نور عظيم كائن على نور على أن يكون نور خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه فالمراد من الضمير النور الذي مثلت صفته العظيمة الشأن بما سمعت لا النور المشبه به وحمله عليه لا يليق كما قيل بشأن التنزيل الجليل وليس معنى كونه نورا فوق نور أنه نور واحد معين أو غير معين فوق آخر مثله ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل إنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة
والظاهر عندي أن التشبيه الذي تضمنته الآية الكريمة من تشبيه المعقول وهو نوره تعالى بمعنى أدلته سبحانه لكن من حيث أنها أدلة أو القرآن أو التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل أو الهدى أو نحو ذلك بالمحسوس وهو نور المشكاة المبالغ في نعته وأنه ليس في المشبه به أجزاء ينتزع منها الشبه ليبنى عليه أنه مركب أو مفرق وذكر أنه إذا كان المراد تشبيه النور بمعنى الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات
(18/169)

فهو من التشبيه المركب العقلي وقد شبه فيه الهيئة المنتزعة بأخرى فإن النور وإن كان لفظه مفردا دال على متعدد وكذا إذا كان المراد تشبيه ما نور الله تعالى به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها وفي الحواشي الطيبة الطيبية بعد اخييار أن المراد بالنور الهداية بوحي ينزله ورسوله يبعثه ما هو ظاهر في أن التشبيه من التشبيه المفرق بل صرح بذلك أخيرا واستدل عليه بأن التكرير في الآية يستدعي ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام ومنه أن المشبهات المناسبة على هذا المعنى صدر الرسول صلى الله عليه و سلم وقلبه الشريف واللطيفة الربانية فيه والقرآن وما يتأثر منه القلب عند استمداده والتفصيل أنه شبه صدره عليه الصلاة و السلام بالمشكاة لأنه كالكوة ذو وجهين فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين مرة في مصباح وأخرى عند إسرائه قال الله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وهذا تشبيه صحيح قد اشتهر عن جماعة من المفسرين روي محي السنة عن كعب هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة والشجرة المباركة شجرة النبوة وروي الإمام عن بعضهم أن المشكاة صدر محمد عليه الصلاة و السلام والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه من الدين وفي حقائق السلمي عن أبي سعيد الخراز المشكاة حوف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والزجاجة قلبه الشريف والمصباح النور الذي فيه وشبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشرافه وخلوصه عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمارة وانعكاس نور اللطيفة إليه وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : القلوب أربعة قلب أجود فيه مثل السراج يزهر وفيه أما القلب الأجود فقلب المؤمن سراجه فيه نوره الحديث وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها وتشعب فروعها وتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها قال الله تعالى : كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها الآية وروي محيي السنة عن الحسن وابن زيد الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضيء تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم تقرأ وشبه ما يستمده نور قلبه الشريف صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القرآن وابتداء تقويته منه بالزيت الصافي قال الله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فكما جعل سبحانه القرآن سبب توقده منه في قوله تعالى يوقد من شجرة مباركة جعل ضوءه مستفادا من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله عز و جل ولو لم تمسسه نار
والمعنى على ما ذكر في إنسان العين يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي صلى الله عليه و سلم وفيه مسحة من معنى قوله : رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر ومنه وصف الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية وعن ابن عباس تشبيه فؤاده صلى الله عليه و سلم بالكوكب الدري وأن الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام ومعنى لا شرقية ولا غربية أنه ليس ينصراني فيصلي نحو المشرق ولا يهودي فيصلي نحو المغرب والزيت الصافي دين إبراهيم عليه السلام وقد يقال على تفريق التشبيه لكن
(18/170)

على مشرع آخر شبه القرآن بالمصباح على ما سبق ونفسه صلى الله عليه و سلم الزكية الطاهرة بالشجرة لكونها نابتة من أرض الدين متشبعة فروعها إلى سماء الإيمان متدلية أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى فاستقم كما أمرت غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط وذلك معنى قوله تعالى لا شرقية ولا غربية ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة وقبول الآثار بالزيت الصافي لوفور قوة استعدادها للإستضاءة للدهنية القابلة للإشتعال ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان يكاد زيت استعداده صلوات الله تعالى وسلامه عليه لصفائه وزكائه يضيء ولو لم يمسسه نور القرآن روي البغوي عن محمد بن كعب القرظي تكاد محاسن محمد صلى الله عليه و سلم تظهر للناس قبل أن يوحي إليه قال ابن رواحة : لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبيك عن خبره وفي حقائق السلمي مثل نوره في عبده المخلص والمشكاة القلب والمصباح النور الذي قذف فيه والمعرفة تضيء في قلب العارف بنور التوفيق يوقد من شجرة مباركة يضيء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنه على آداب ظاهره وحسن معاملته زيتونة لا شرقية ولا غربية جوهرة صافية لا لها حظ في الدنيا ولا في الآخرة لاختصاصها بموالاة العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار إلى غير ذلك وجعل بعضهم التشبيه من المركب الوهمي بناء على أن المراد من النور المشبه الهدى من حيث أنه محذوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم
وكان الظاهر على هذا دخول الكاف على المصباح دون المشكاة المشتملة عليه ومن هنا قيل إن في الآية قلبا ووجه بعضهم دخولها على المشكاة بأن المشتمل مقدم على المشتمل عليه في رأي العين فقدم لفظا ودخل الكاف عليه رعاية لذلك وقيل إنه على هذا أيضا تشبيه مفرق لأنه شبه الهدى بالمصباح والجهالات بظلم استلزمتها وهو كما ترى
ومن الناس من جعل التشبيه مفرقا لكن بنى كلامه على ما أسسه الفلاسفة فجعل النور المشبه ما منح الله تعالى عباده من القوى الخمس الدراكة المترتبة التي نيط بها المعاش وهو القوة الحساسة أعني الحس المشترك الذي يدرك المحسوسات بجواسيس الحواس الخمس الظاهرة والقوة الخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاء والقوة العقلية المدركة للحقائق الكلية والقوة الفكرية التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها على وجه يحصل به العلم بالمجهولات والقوة القدسية التي يختص بها الأنبياء والأولياء وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت وجعل ما في حيز الكلف عبارة عن أمور شبه بكل منها واحد من هذه الخمس فقال : شبهت القوة الحساسة بالمشكاة من حيث أن محلها تجويف في مقدم الدماغ كالكومة تضع فيه الحواس الظاهرة ما تحس به وبذلك يضيء وشبهت القوة الخيالية بالزجاجة من حيث أنها تقبل الصور المدركة من الجوانب كما تقبل الزجاجة الأنوار الحسية من الجوانب ومن حيث أنها تضبط الأنوار العقلية وتحفظها كما تحفظ الزجاجة الأنوار الحسية ومن حيث أنها تستنير بما يشتمل عليها من المعقولات وشبهت القوة العقلية بالمصباح لإضاءتها بالإدراكات والمعارف وشبهت القوة الفكرية بالشجرة المباركة من حيث أنها تؤدي إلى نتائج كثيرة هي بمنزلة ثمرات الشجرة واعتبرت زيتونة لأن لها فضيلة على سائر الأشجار من حيث أن لب ثمرتها
(18/171)

هو الزيت الذي له منافع جمة منها أنه مادة المصابيح والأنوار الحسية وله من بين سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان واعتبار وصف لا شرقية ولا غربية في جانب المشبه من حيث أن القوة الفكرية مجردة عن اللواحق الجسمية أو من حيث أن انتفاعها ليس مختصا بجانب الصور ولا بجانب المعاني وشبهت القوة القدسية بالزيت الذي يكاد يضيء من غير أن تمسسه نار من حيث أنها لكمال صفائها وشدة استعدادها لا تحتاج إلى تعليم أو تفكر واعترض بأن حق النظم الكريم على هذا أن يقال : مثل نوره كمشكاة وزجاجة ومصباح وشجرة مباركة زيتونة وزيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار حتى يفيد كل واحد بكل واحد وأجيب بأنه لما كان كل من هذه الحواس يأخذ ما يدركه مما قبله كما يأخذ المظروف من ظرفه أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الظرفية دلالة على بديع صنعه سبحانه وحكمته جل شأنه
وجوز أن يراد تشبيه النور المراد به القوة العقلية للنفس بمراتبها بذلك ومراتبها أربع الأولى أن تكون النفس خالية عن جميع العلوم الضرورية والنظرية مستعدة لها كما في مبدأ الطفولية وتسمى القوة العقلية في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني لأنها كالهيولي في أنها في ذاتها خالية عن جميع الصور قابلة لها ثانيها أن تستعمل آلاتها أي الحواس مطلقا فيحصل لها علوم أولية وتستعد لاكتساب علوم نظرية وتسمى القوة المذكورة في هذه المرتبة عقلا بالملكة لحصول ملكة الإنتقال إلى النظريات لها بسبب تلك الأوليات وثالثها أن تصير النظريات مخزونة عندها وتحصل لها ملكة استحضارها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا لحصول تلك العلوم لها بالقوة القريبة من الفعل ورابعتها أن ترتب العلوم الأولية وتدرك العلوم النظرية مشاهدة إياها بالفعل وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا مستفادا لاستفادتها من العقل الفعال فشبهت القوة بالمرتبة الأولى بالمشكاة الخالية في بدء الأمر عن الأنوار الحسية المستعدة للإستنارة بها وبالمرتبة الثانية بالزجاجة المتلألئة في نفسها القابلة للأنوار الفائضة عليها من النير الخارجي وبالمرتبة الثالثة بالمصباح الذي اشتعلت فتيلته المشبعة من الزيت وبالمرتبة الرابعة بالنور المتضاعف المشار إليه بقوله تعالى نور على نور والشيخ ابن سينا بعد أن بين المراتب حمل مفردات التنزيل عليها وحقق في المحاكمات وجه الترتيب فيها حيث جعل الزجاجة في المشكاة والمصباح في الزجاجة بأن هناك إستعدادا محضا كما في المرتبة الأولى واستعداد اكتساب كما في المرتبة الثانية واستعداد استحضار كما في المرتبة الثالثة ولا شك أن استعداد الإكتساب بحسب الإستعداد المحض واستعداد الإستحضار بحسب استعداد الإكتساب فتكون الزجاجة التي هي عبارة عن العقل بالملكة كأنما هي في المشكاة التي هي عبارة عن العقل الهيولاني والمصباح وهو العقل بالفعل في الزجاجة التي هي العقل بالملكة لأنه إنما يحصل باعتبار حصول العقل أولا وحيث أن العقل بالملكة إنما يخرج من القوة إلى الفعل أو بالحدس أو بالقوة القدسية أشير إلى الفكر بالشجرة الزيتونة وإلى الحدس بالزيت وإلى القوة القدسية بيكاد زيتها يضيء ودفع ما يظهر من عدم إنطباق ما ذكر على النظم الجليل لأنه وصف فيه الشجرة بما سمعت من الصفات وهذه أمور متباينة لا يجوز وصف أحدها بالآخر بأن الشجرة الزيتونة شيء واحد فإذا ترقت في أطوارها حصل لها زيت إذا ترقى وصفا كاد يضيء وكذلك الإكتساب قوة نفسية هي فكرة فإذا ترقت كانت حدسا ثم قوة قدسية فهي وإن كانت متباينة ترجع إلى شيء واحد كالشجرة
(18/172)

وذكر أن قوله تعالى : لا شرقية ولا غربية إشارة إلى أنها ليست من عالم الحس الذي لا يخلو عن أحد الأمرين ولا يخفى عليك أن هذا مع تكلفه وابتنائه على ما أسسه الفلاسفة الذين هم في عمى عن نور الشريعة ولله تعالى در من قال فيهم : قطعت الأخوة عن معشر بهم مرض من كتاب الشفا فماتوا على دين رسطالس وعشنا على سنة المصطفى لا يناسب المقام ولا ينتظم معه أطراف الكلام وفيه ما يقتضي أن قوله تعالى نور على نور داخل في التمثيل وفيه خلاف ثم اعلم أنه يعلم بمعونة ما ذكرنا حال التشبيه على سائر الأقوال في المراد بالنور ولعل ما ذكرناه فيه أتم نورا وأشد ظهورا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور يهدي الله لنوره أي يهدي سبحانه هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن وإظهاره في مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز و جل من يشاء هدايته من عباده بأن يوفقهم سبحانه لفهم وجوده دلالة الأدلة العقلية والسمعية التي نور بها السماوات والأرض على وجه ينتفعون به أو بأن يوفقهم لفهم ما في القرآن من دلائل حقيته وكونه من عنده عز و جل من الإعجاز والإخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان وفيه احتمالات أخر بحسب ما في النور من الأقوال وأيا ما كان ففيه إيذان بأن مناط هذه الهداية وملاكها ليس إلا بمشيئته تعالى وأن إظهار الأسباب بدونها بمعزل عن الإفضاء إلى المطالب : إذا لم يك التوفيق عونا لطالب طريق الهدى أعيت عليه مطالبه ويضرب الله الأمثال للناس في تضاعيف الهداية حسبما يقتضيه حالهم فإن لضرب المثل دخلا عظيما في باب الإرشاد لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس وتصوير لأوابد المعاني بصورة المأنوس ولذلك مثل جل وعلا المراد به ما يشمل القرآن أو القرآن المبين فقط بنور المشكاة وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار على ما في إرشاد العقل السليم للإيذان باختلاف ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذي هو من قبيل الهداية العامة كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن شاء والثانية بالناس كافة
والله بكل شيء عليم
35
- معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو باطنا من قضيته أن تتعلق مشيئته تعالى بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التي هي مبنى التكوين والتشريع وأن تكون هدايته سبحانه العامة علة فنون مختلفة وطرائق حسبما تقتضيه أحوالهم وتقوم به الحجة له تعالى عليهم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وقيل جيء بها لوعد من تدبر الأمثال ووعيد من لم يكترث بها وقيل لبيان أن فائدة ضرب الأمثال التي هي التوضيح إنما هي للناس وليس بذاك وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم وبما ذكر ةنفا من اختلاف حال المحكوم به ذاتا وتعلقا
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال
36
- رجال الخ استئناف لبيان حال من حصلت لهم الهداية لذلك النور وذكر بعض أعمالهم القلبية والقالبية فالجار والمجرور أعني
(18/173)

متعلق قوله تعالى في بيوت بيسبح وفيها تكرير لذلك جيء به للتأكيد والتذكير بما بعد في الجملة وللإيذان بأن التقديم للإهتمام دون الحصر ومثل ما ذكر في التكرير للتأكيد قوله تعالى ففي رحمة الله هم فيها خالدون وقولك مررت بزيد به وبعض النحاة أعرب نحو ذلك بدلا كما في شرح التسهيل وفي المغنى هو من توكيد الحرف بإعادة ما دخل عليه مضمرا وليس الجار والمجرور توكيدا للجار والمجرور لأن الظاهر لكونه أقوى لا يؤكد بالضمير وليس المجرور بدلا بإعادة الجار لأنه لا يبدل مضمر من مظهر وإنما جوزه بعض النحاة قياسا وأنت تعلم أن ما ذكر غير وارد لأن المجموع بدل أو توكيد وأتى بالظاهر هربا من التكرار و رجال فاعل يسبح وتأخيره عن الظروف لأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الإنتظام وقال الرماني في بيوت متعلق بيوقد وقال الحوفي : متعلق بمحذوف وقع صفة لمشكاة وقيل هو صفة لمصباح وقيل صفة لزجاجة وهو على هذه الأقوال الأربعة تقييد للممثل به للمبالغة فيه والتنوين في الموصوف للنوعية لا للفردية لينافي ذلك جمع البيوت وأورد على ما ذكر أن شيئا منه لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى ولو لم تمسسه نار على ما هو الحق أو بعد قوله سبحانه نور على نور على ما قيل إلى قوله تعالى بكل شيء عليم كلام متعلق بالممثل قطعا فتوسيطه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه بالأجنبي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنوره تعالى بطريق الإستتباع والإستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصودا بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلا أن يحمل عليه الكلام المعجز وتعقبه الخفاجي بأنه زخرف من القول إذ لا فصل فيه وما قبله إلى هنا من المثل والظاهر عندي أن التمثيل قد تم عند قوله تعالى ولو لم تمسسه نار وقيل هو بسبحوا أو نحوه محذوفا وتلك الجملة على ما قيل مترتبة على ما قبلها وترك الفاء للعلم به كما في نحو قم يدعوك ومنعوا تعلقه بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله والمراد بالبيوت المساجد كلها كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : إنما هي أربع مساجد يبنهن إلا نبي الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن الحسن أن المراد بها بيت المقدس والجمع من حيث أن فيه مواضع يتميز بعضها عن بعض وهو خلاف الظاهر جدا
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذه الآية في بيوت الخ فقام إليه عليه الصلاة و السلام رجل فقال أي بيوت هذه يا رسول الله فقال صلى الله عليه و سلم بيوت الأنبياء عليهم السلام فقام إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما قال : نعم من أفاضلها وهذا إن صح لا ينبغي العدول عنه
وقال أبو حيان : الظاهر أنها مطلقة تصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم وجوز أن يراد بها صلاة المؤمنين أو أبدانهم بأن تشبه صلاتهم الجامعة للعبادات القولية والفعلية أو أبدانهم المحيطة بالأنوار بالبيوت المذكورة أعني المساجد ثم يستعار اسمها لذلك وتعقب بأنه لا حسن فيما ذكر وأظنك لا تكتفي بهذا المقدار من الجرح والمراد بالإذن الأمر وبالرفع التعظيم أي أمر سبحانه بتعظيم قدرها وروي هذا عن الحسن والضحاك ولا يخفى أنه إذا أريد بها المساجد فتعظيم قدرها يكون بأشياء شتى كصيانتها عن
(18/174)

دخول الجنب والحائض والنفساء ولو على وجه العبور وقد قالوا بتحريم ذلك وإدخال بحاسة فيها يخاف منها التلويث ولذا قالوا : ينبغي لمن أراد أن يدخل المسجد أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه احترازا عن تلويث المسجد ومنع إدخال الميت فيها ومنع إدخال الصبيان والمجانين وهو حرام حيث غلب تنجيسهم وإلا فهو مكروه وقد جاء الأمر بتجنيبهم عن المساجد مطلقا
أخرج ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ومنع إشاد الضالة وإنشاد الأشعار فقد أخرج الطبراني وابن السني وابن منده عن ثوبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا فض الله تعالى فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا : لا وجدتها ثلاث مرات الحديث وينبغي أن يقيد المنع من إنشاد الشعر بما إذا كان فيه شيء مذموم كهجو المسلم وصفة الخمر وذكر النساء والمردان وغير ذلك مما هو مذموم شرعا وأما إذا كان مشتملا على مدح النبوة والإسلام أو كان مشتملا على حكمة أو باعثا على مكارم الأخلاق والزهد ونحو ذلك من أنواع الخير فلا بأس بإنشاده فيها ومنع إلقاء القملة فيه بعد قتلها وهو مكروه تنزيها على ما صرح به بعض المتأخرين ويندب أن لا تلقى حية في المسجد فقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن رجل من الأنصار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرجها ومنع البول فيها ولو في إناء وقد صرحوا بحرمة ذلك وفي الأشباه وأما الفصد في المسجد في إناء فلم أره وينبغي أن لا فرق أي لأن كلا من البول والدم نجس مغلظ ومنع إلقاء البصاق فيها
وفي البدائع يكره التوضيء في المسجد لأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في قبلة المسجد نخامة فقام إليها فحكها بيده الشريفة صلى الله عليه و سلم ثم دعا بخلوق فلطخ مكانها فقال الشعبي : هو سنة وذكروا أن القاء النخامة فوق الحصير أخف من وضعها تحته فإن اضطر إليه دفنها وفي حديث أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه وروي الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا أيضا نحوه ومنع الوطء فيها وفوقها كالتخلي وصرحوا بحرمة ذلك ومنع دخول من أكل ذا رائحة كريهة فيها كالثوم والبصل والكراث وأكل الفجل إذا تجشا كذلك وقد كان الرجل في زمان النبي صلى الله عليه و سلم إذا وجد منه ريح الثوم يؤخذ بيده ويخرج إلى البقيع والظاهر أن الأبخر أو من به صنان مستحكم حكمه حكم أكل الثوم والبصل وكذا حكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين وعن مالك أن الزياتين يتأخرون ولا يتقدمون أي إلى الوصف الأول ويقعدون في أخريات الناس ومنع الثوم والأكل فيها لغير معتكف ومنع الجلوس فيها للمصيبة أو للتحدث بكلام الدنيا ومنع اتخاذها طريقا وهو مكروه أو حرام وقد جار النهي عن ذلك في حديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن اتخاذها طريقا من أشراط الساعة وفي القنية معتاد ذلك يأثم ويفسق نعم إن كان هناك عذر لم يكره المرور ومن تعظيمها رشها وقمها فقد أخرج ابن أبي شيبة عن زيد
(18/175)

ابن أسلم قال : كان المسجد يرش ويقم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج عن يعقوب بن زيد أن النبي عليه الصلاة و السلام كان يتبع غبار المسجد بجريدة وكذا تعليق القناديل فيها وفرشها بالآجر والحصير وفي مفتاح السعادة ولأهل المسجد أن يفرشوا المسجد بالآجر والحصير ويعلقوا القناديل لكن من مال أنفسهم لا من مال المسجد إلا بأمر الحاكم ولعل محل ذلك ما لم يعين الواقف شيئا من ريع الوقف لذلك وينبغي أن يكون إيقاد القناديل الكثيرة فيها في ليالي معروفة من السنة كليلة السابع والعشرين من رمضان الموجب لاجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم ورفع أصواتهم وامتهانهم بالمساجد بدعة منكرة وكذا ينبغي أن يكون فرشها بالقطائف المنقوشة التي تشوش على المصلين وتذهب خشوعهم كذلك ومن التعظيم أيضا تقديم الرجل اليمنى عند دخولها واليسرى عند الخروج منها وصلاة الداخل ركعتين قبل الجلوس إذا كان دخوله لغير الصلاة على ما ذكره بعضهم وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : اعطوا المساجد حقها قيل : وما حقها قال : ركعتان قبل أن تسجد ومن ذلك أيضا بناؤها رفيعة عالية لا كسائر البيوت لكن لا ينبغي تزيينها بما يشوش على المصلين وفي حديث أخرجه ابن ماجه والطبراني عن جبير بن مطعم مرفوعا أنها لا تبنى بالتصاوير ولا تزين بالقوارير وفسر بعضهم الرفع ببنائها رفيعة كما في قوله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل والأولى عندي تفسيره بما سبق وجعل بنائها كذلك داخلا في العموم ويدخل فيه أمور كثيرة غير ما ذكرنا وقد ذكرها الفقهاء وأطالوا الكلام فيها
وزعم بعض المفسرين أن إسناد الرفع إليها مجاز والمراد ترفع الحوائج فيها إلى الله تعالى وقيل : ترفع الأصوات بذكر الله عز و جل فيها ولا يخفى ما فيه وفي التعبير عن الأمر بالأذن تلويح بأن اللائق يحال المأمور أن يكون متوجها إلى المأمور به قبل الأمر به ناويا لتحقيقه كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الأمر فيه والمراد بذكر اسمه تعالى شأنه ما يعم جميع أذكاره تعالى وجعل من ذلك المباحث العلمية المتعلقة به عز و جل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به توحيده عز و جل وهو قول : لا إله إلا الله وعنه أيضا المراد تلاوة كتابه سبحانه وقيل : ذكر أسمائه تعالى الحسنى والظاهر ما قدمنا وعطف الذكر على الرفع من قبيل عطف الخاص على العام فإن ذكر اسمه تعالى فيها من أنواع تعظيمها وليس عطف التفسير في شيء خلافا لمن توهمه والتسبيح التنزيه والتقديس ويستعمل باللام وبدونها كما في قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى والمراد به إما ظاهره أو الصلاة لاشتمالها عليه وروي هذا عن ابن عباس والحسن والضحاك
وعن ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة وأيد إرادة الصلاة هنا تعيين الأوقات بقوله سبحانه بالغدو والآصال والغدو جمع غداة كفتى وفتاة أو مصدر أطلق على الوقت الغدو وأيد بأن مجلز قرأ والأيصال مصدرا أي الدخول في وقت الأصيل و الآصال كما قال الجوهري جمع أصيل كشريف وأشرف واختاره جماعة مع أن جمع فعيل على أفعال ليس بقياسي
واختار الزمخشري أنه جمه أصل كعنق وأعناق والأصل كالأصيل العشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح فيشمل الأوقات ما عدا الغداة وهي من أول النهار إلى الزوال ويطلقان على أول النهار وآخره وإفرادهما بالذكر أشرفهما وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والإشتغال بالأشغال وعن ابن عباس أنه حمل الغداة على وقت الضحى وهو مقتضى ما أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان عنه رضي الله تعالى
(18/176)

عنه من قوله : إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها الأغواص وتلا الآية حتى بلغ الآصال
وقرأ ابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان يسبح بالياء التحتية والبناء للمفعول ونائب الفاعل له أو فيها إن لم يتعلق في بيوت به أو بالغدو والأولية للأول لأنه ولي الفعل والإسناد إليه حقيقي دون الأخيرين وجوز أن يكون المجرور فيما ذكر نائب الفاعل والجار فيه زائدا وفيه ارتكاب لما لا داعي إليه ورفع رجال على هذه القراءة على أنه فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف على ما في البحر أي يسبح له أو المسبح له رجال والجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال نشأ من الكلام السابق وهذا نظير قوله : لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح وهو قياسي عند الكثير فيجوز عندهم أن يقال : ضربت هند زيدا بتقدير ضربها أو ضاربها زيد وليس هذا كذكر الفاعل تمييزا بعد العل المبني للمفعول نحو ضرب أخوك رجلا المصرح بعدم جوازه ابن هشام في الباب الخامس من المغنى وإن أوهمت العلة أنه مثله فتأمل
وقرأ أبو حيوة وابن وثاب تسبح بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو رجال والتأنيث لأن جمع التكثير كثير ما يعامل معاملة المؤنث وقرأ أبو جعفر تسبح بالتاء الفوقية والبناء للمفعول وهو قوله تعالى بالغدو والآصال على أن الباء زائدة والإسناد مجازي يجعل الأوقات المسبحى فيها ربها مسبحة وجوز أبو حيان أن يكون الإسناد إلى ضمير التسبيحة الدال عليه تسبح أي تسبح هي أي التسبيحة كما قالوا في قوله تعالى : ليجزي قوما على قراءة من بنى يجزي للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء قال في إرشاد العقل السليم : وهذا أولى من التوجيه الأولى إذ ليس هنا مفعول صريح وضعفه بعضهم هنا بأن الوحدة لا تناسب المقام وأجيب بالتزام كون الوحدة جنسية وأيا ما كان فرفع رجال على هذه القراءة على الفاعلية أو الخبرية كما سمعت آنفا والتنوين فيه على جميع القراءات للتفخيم وقوله سبحانه : لا تلهيهم تجارة صفة له مؤكدة فلما أفاده التنوين من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى الله تعالى من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائنا ما كان وتخصيص الرجال بالذكر لأنهم الأحقاء بالمساجد فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم خير مساجد النساء قعر بيوتهن وتخصيص التجارة التي هي المعارضة مطلقا بذلك لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ولا بيع أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الريح وإفراده بالذكر اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في ثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلها ما عداه نفي إلهائه ولذلك كرر كلمة لا لتذكير النفي وتأكيده وجوز أن يراد بالتجارة المعارضة الرابحة وبالبيع المعارضة مطلقا فيكون ذكره بعدها من باب التعميم بعد التخصيص للمبالغة ونقل عن الواقدي أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه أصلها ومبدؤها فلا تخصيص ولا تعميم وقيل : المراد بالتجارة الجلب لأنه الغالب فيها فهو لازم لها عادة ومنه يقال : تجر في كذا أي جلبه ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله
(18/177)

صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر : هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله تعالى
وأخرج الديلمي وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه وفي ذلك أيضا ما يقتضي أنهم كانوا تجارا وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية لأنه لا يقال فلان لا تلهيه التجارة إلا إذا كان تاجرا وروي ذلك عن ابن عباس
أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال : أما والله لقد كانوا تجارا فلم تكن تجارتهم ولا بيعهم يلهيهم عن ذكر الله تعالى وبه قال الضحاك وقيل : إنهم لم يكونوا تجارا والنفي راجع للقيد والمقيد كما في قوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
كأنه قيل : لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم فإن الآية نزلت فيمن فرغ عن الدنيا كأهل الصفة وأنت تعلم أن الآية على الأول المؤيد بما سمعت أمدح ولم نجد لنزولها فيمن فرغ عن الدنيا سند قويا أو ضعيفا ولا يكتفي في هذا الباب بمجرد الإحتمال عن ذكر الله بالتسبيح والتحميد ونحوهما وإقام الصلاة أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير والأصل أقوام فنقلت حركة الواو لما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت فقيل : إقام وعن الزجاج أنه قلبت الواو ألفا ثم حذف لاجتماع ألفين وأورد عليه أنه لا داعي إلى قلبها ألفا مع فقد شرطه وهو أن لا يسكن ما بعدها وأوجب الفراء لجواز هذا الحذف تعويض التاء فيقال : إقامة أو الإضافة كما هنا وعلى هذا جاء قوله : إن الخليط أجدوا البين وانجردوا وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا فإنه أراد عدة الأمر وتأول خالد بن كلثوم ما في البيت على أن عدا جمع عدوة بمعنى ناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه ومذهب سيبويه جواز الحذف من غير تعويض التاء أو الإضافة وإيتاء الزكاة أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين كما روي عن الحسن ويدل على تفسير الزكاة بذلك دون الفعل ظاهر إضافة الإيتاء إليها وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير إيتاء الزكاة بإخلاص طاعة الله تعالى وفيه بعد كما ترى وإيراد هذا الفعل ههنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد وكذا قوله تعالى : يخافون إلى آخره فإنه صفة أخرى لرجال أو حال من مفعول لا تلهيهم أو استئناف مسوق للتعليل وأيا ما كان فليس خوفهم مقصورا على كونهم في المساجد
وقوله تعالى : يوما مفعول ليخافون على تقدير مضاف أي عقاب يوم وهوله أو بدونه وجعله ظرفا لمفعول محذوف بعيد وأما جعله ظرفا ليخافون والمفعول محذوف فليس بشيء أصلا إذ المراد أنهم يخافون في في الدنيا يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار
37
- لا أنهم يخافون شيئا في ذلك اليوم الموصوف بأنه تتقلب فيه الخ والمراد به يوم القيامة ومعنى تقلب القلوب والأبصار فيه اضطرابها وتغيرها أنفسها فيه من الهول والفزع كما في قوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر أو تغير أحوالها بأن تفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار مالم تكن تبصر أو بأن تتوقع القلوب النجاة تارة وتخاف الهلاك أخرى وتنظر الأبصار يمينا تارة وشمالا أخرى لما أن أغلب أهل الجمع لا يدرون من أي ناحية يؤخذ بهم ولا من
(18/178)

أي جهة يؤتون كتبهم وقيل : المراد تقلب القلوب والأبصار على جمر جهنم وليس بشيء ومثله قول الجبائي : أن المراد تنقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثم تنضجها ثم تحرقها وقرأ ابن محيصن تتقلب بإسكان التاء الثانية
وقوله سبحانه ليجزيهم الله متعلق على ما استظهره أبو حيان بيسبح وجوز أبو البقاء أن يتعلق بلا تلهيهم أو بيخافون ولا يخفى أن تعلقه بأحد المذكورين محوج إلى تأويل ولعل تعلقه بفعل محذوف يدل عليه ما حكى عنهم أولى من جميع ذلك أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى أحسن ما عملوا واللام على سائر الأوجه للتعليل وقال أبو البقاء : يجوز أن تكون لام الصيرورة كالتي في قوله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا وموضع الجملة حال والتقدير يخافون ملهمين ليجزيهم الله وهو كما ترى والجزاء المقابلة والمكافأة على ما يحمد ويتعدى إلى الشخص المجزي بعن قال تعالى لا تجزي نفس عن نفس شيئا وإلى ما فعله ابتداء بعلى تقول جزيته على فعله وقد يتعدى إليه بالباء فيقال جزيته بفعله وإلى ما وقع في مقابلته بنفسه وبالباء قال الراغب : يقال جزيته كذا وبكذا والظاهر أن أحسن هو ما وقع في المقابلة فيكون الجزاء قد تعدى إليه بنفسه ويحتاج إلى تقدير مضاف أي ليجزيهم أحسن جزاء عملهم أو الذي عملوه حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ليكون الأحسن من جنس الجزاء
وجوز أن يكون الأحسن هو الفعل المجزي عليه أو به الشخص وليس هناك مضاف محذوف والكلام على حذف الجار أي ليجزيهم على أحسن أو بأحسن ما عملوا وأحسن العمل أدناه المندوب فاحترز به عن الحسن وهو المباح إذ لا جزاء له ورجح الأول بسلامته عن حذف الجار الذي هو غير مقيس في مثل ما نحن فيه بخلاف حذف المضاف فإنه كثير مقيس وجوز أن يكون المضاف المحذوف قبل أحسن أي جزاء أحسن ما عملوا والظاهر أن المراد بما عملوا أعم مما سبق وبعضهم فسره به ويزيدهم من فضله أي يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم يخطر ببالهم كيفياتها ولا كميتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وقوله صلى الله عليه و سلم حكاية عنه عز و جل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إلى غير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله سبحانه والله يرزق من يشاء بغير حساب
38
- فإنه تذييل مقرر للزيادة ووعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب والموصول عبارة عمن ذكرت صفاتهم الجميلة كأنه قيل والله يرزقهم بغير حساب ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها المناط لما سبق من الهداية لنوره عز و جل وللإيذان بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء سبحانه أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميعها من آثار تلك الهداية والذين كفروا إلى آخره عطف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف الذين كفروا أعمالهم كسراب أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة
(18/179)

سقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقري الأضياف ونحو ذلك على ما قيل وقيل أعمالهم التي يظنون الإنتفاع بها سواء كان مما يشترط فيها الإيمان كالحج أم كانت مما لا يشترط فيها ذلك كسقاية الحاج وسائر ما تقدم وقيل المراد بها ما يشمل الحسن والقبيح ليتأتى التشبيهان وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك والسراب بخار رقيق يرتفع من قعور القيعان فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه من بعيد الماء السارب أي الجري واشترط فيه الفراء اللصوق في الأرض وقيل هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر يخيل للناظر أنه ماء سارب قال الشاعر : فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الفلا متألق وإلى هذا ذهب الطبرسي وفسر الآل بأنه شعاع يرتفع بين السماء والأرض كالماء ضحوة النهار بقيعة متعلق بمحذوف هو صفة سراب أي كائن بقيعة وهي الأرض المنبسطة المستوية وقيل هي جمع قاع كجيرة في جار ونيرة في نار وقرأ مسلمة بن محارب بقيعات بتاء طويلة على أنه جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة وعنه أنه قرأ بقيعاة بتاء مدورة ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا : البناه والإخواه ويحتمل كما قال صاحب اللوامح أن يكون مفردا وأصله قيعة كما في قراءة الجمهور لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف يحسبه الظمآن ماءا صفة أخرى لسراب
وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفا لما يتعلق به الكاف وهو الخبر والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهما بأن الظن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم بأحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك وتخصيص الحسبان بالضمآن مع شموله لكل من يراه من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفية في وجه الشبه الذي هو المطلع المطمع والمقطع المؤيس
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما الظمآن بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم حتى إذا جاءه أي إذا جاء العطشان ما حسبه ماء وقيل إذا جاء موضعه لم يجده أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به شيئا أصلا لا محققا ولا مظنونا كان يراه من قبل فضلا عن وجه أنه ماء ونصب شيئا قيل على الحالية وأمر الإشتقاق سهل وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن وجوز أن يكون منصوبا على البدلية من الضمير ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيدا كما صرح به الرضي واختاره أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجدانا وهو كما ترى ووجد الله عنده عطف على جملة لم يجده فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور وقيل أي وجد الله تعالى محاسبا إياه على أن العندية بمعنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه فوفيه حسابه أي أعطاه وافيا كاملا حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه والله سريع الحساب
39
- لا يشغله حساب عن حساب
وفي إرشاد العقل السليم أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه : لم يجده شيئا وقوله
(18/180)

تعالى : ووجد الخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلا فليست الجملة معطوفة على لم يجده شيئا بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم عينا ولا أثرا كما في قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافذ لهم في الآخرة حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئا كأنه قيل : حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئا ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء وقيل : عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافيا حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم بموجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعا وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالظمآن الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى ولا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر
وأيما كان فالمراد بالظمآن مطلق الظمآن وقيل المراد بع الكافر وإليه ذهب الزمخشري قال : شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية الله تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق وكأنه مأخوذ مما أخرجه عبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي في غرائبه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم والله سريع الحساب واستطيب ذلك العلامة الطيبي حيث قال : إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى ووجد الله عنده الخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق
وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء بنفسه ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار الله تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى وبالجملة هو أحسن مما في الإرشاد كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العتاد
والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبى ذلك قوله تعالى والذين كفروا لأنه غير خاص بسبب النزول وإن دخل فيه دخولا أوليا ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيرا من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذورا أصلا ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزيين بزي الإسلام فإن اعتقاداتهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة
أو كظلمات عطف على كسراب وكلمة أو قيل لتقسيم حال أعمالهم الحسنة وجوز الإطلاق باعتبار وقتين فإنها كالسراب في الآخرة من حيث عدم نفعها وكالظلمات في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق وخص
(18/181)

هذا بالدنيا لقوله تعالى ومن لم يجعل اله له نورا فما له من نور فإنه ظاهر في الهداية والتوفيق المخصوص بها والأول بالآخرة لقوله تعالى ووجد الخ وقدم أحوال الآخرة التي هي أعظم وأهم لاتصال ذلك بما يتعلق بها من قوله سبحانه ليجزيهم الخ ثم ذكر أحوال الدنيا تتميما لها
وجوز أن يعكس ذلك فيكون المراد من الأول تشبيه أعمالهم بالسراب في الدنيا حال الموت ومن الثاني تشبيهها بالظلمات في القيامة كما في الحديث الظلم ظلمات يوم القيامة ويكون ذلك ترقيا مناسبا للترتيب الوقوعي وليس بذلك لما سمعت وقيل للتنويع وذلك أنه أثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بالظلمات المذكورة وزعم الجرجاني أن المراد هنا تشبيه كفرهم فقط وهو كما ترى والظاهر على التنويع أن يراد من الأعمال في قوله تعالى أعمالهم ما يشمل النوعين
واعترض بأنه يأبى ذلك قوله تعالى ووجد الله عنده بناء على دخوله في التشبيه لأن أعمالهم الصالحة وإن سلم أنها لا تنفع مع الكفر لا وخامة في عاقبتها كما يؤذن به قوله سبحانه ووجد الخ وأجيب بأنه ليس فيه ما يدل على أن سبب العقاب الأعمال الصالحة بل وجد أن العقاب بسبب قبائح أعمالهم لكنها ذكرت جميعها لبيان أن بعضها جعل هباء منثورا وبعضها معاقب به وجوز أن تكون للتخيير في التشبيه لمشابهة أعمالهم الحسنة أو مطلقا السراب لكونها لاغية لا منفعة فيها والظلمات المذكورة لكونها خالية عن نور الحق واختاره الكرماني
واعترض بأن الرض كغيره ذكر أنها لا تكون للتخيير إلا في الطلب وأجيب بأنه اشتهر ذلك فقد ذهب كثير إلى عدم اختصاصه به كائن مالك والزمخشري ووقوعه في التشبيه كثير وأيا ما كان فليس في الكلام مضاف محذوف وقال أبو علي الفارسي : فيه مضاف محذوف والتقدير أو كذي ظلمات ودل عليه ما يأتي من قوله سبحانه إذا أخرج يده والتشبيه هنا يحتمل أن يكون للأعمال على نمط التشبيه السابق ويقدر أو كاعمال ذي ظلمات ويحتمل أن يكون للكفرة ويقدر أو هم كذي ظلمات والكل خلاف الظاهر وأمر الضمير سيظهر لك إن شاء الله تعالى
وقرأ سفيان بن حسين أو كظلمات بفتح الواو ووجه ذاك في البحر بأنه جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الإستفهام وقيل هي أو التي في قراءة الجمهور وفتحت الواو للمجاورة كما كسرت الدال لها في قوله تعالى الحمد لله على بعض القراآت في بحر لجي أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر وقيل اللجة وهي أيضا معظمة وهو صفة بحر وكذا جملة قوله تعالى : يغشاه أي يغطي ذلك البحر ويستره بالكلية موج وقدمت الأولى لإفرادها وقيل الجملة صفة ذي المقدر والضمير راجع إليه وقد علمت حال ذلك التقدير وقوله تعالى من فوقه موج جملة من مبتدأ وخبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة الجار والمجرور وما بعده فاعل له لاعتماده على الموصوف والمراد يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض وقوله تعالى من فوقه سحاب صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين أي من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج
(18/182)

وتضاعفها حتى كأنها بلغت السحاب ظلمات خبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات بعضها فوق بعض أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى نور على نور بيان لغاية قورة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده
وأجاز الحوفي أن يكون ظلمات مبتدأ خبره قوله تعالى بعضها فوق بعض وتعقبه أبو حيان وتبعه ابن هشام بأن الظاهر أنه لا يجوز لما فيه من الإبتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا أن يقدر صفة لها يؤذن بها التنوين أي ظلمات مثيرة أو عظيمة وهو تكلف وأجاز أيضا أن يكون بعضها بدلا من ظلمات وتعقب بأنه لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله تعالى أعلم الإخبار بأنها ظلمات وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة لا الإخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة متراكمة وقرأ قنبل ظلمات بالجر على أنه بدل من ظلمات الأولى لا تأكيد لها وجملة بعضها فوق بعض في موضع الصفة له وقرأ البزي سحاب ظلمات بإضافة سحاب إلى ظلمات وهذه الإضافة كالإضافة في لجين الماء أو لبيان أن ذلك السحاب ليس سحاب مطر ورحمة
وإذا أخرج أي من ابتلى بها وإضماره من غير ذكر لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظلمات واحتيج إليه لأن جملة إذا أخرج الخ في موضع الصفة لظلمات ولا بد لها من رابط ولا يتعين ما أشرنا إليه وقيل : ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل على حد لا يشرب الخمر وهو مؤمن أي إذا أخرج المخرج فيها يده وجعلها بمرأى منه قريبة من عينيه لينظر إليها لم يكد يراها أي لم يقرب من رؤيتها وهي أقرب شيء إليه فضلا عن أن يراها وزعم ابن الأنباري زيادة يكد وزعم الفراء والمبرد أن المعنى لم يرها إلا بعد الجهد فإنه قد جرى العرف أن يقال : ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد فعل بجهد مع استبعاد فعله وعليه جاء قوله تعالى فذبحوها وما كادوا يفعلون ومن هنا خطأ ابن شبرمة ذا الرمة بقوله : إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح وناداه يا أبا غيلان أراه قد برح ففك وسلم له ذو الرمة ذلك فغير لم يكد بلم يكن أو لم أجد والتحقيق أن الذي يقتضيه لم يكد وما كاد يفعل أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب في الظن أن يكون ولا يشك في هذا
وقد علم أن كاد موضوعة لشدة قرب الفعل من الوقوع ومشارفته فمحال أن يوجب نفيه وجود الفعل لأنه يؤدي إلى أن يكون ما قارب كذلك فالنظر إلى أنه إذا لم يكن المعنى على أن ثمت حالا يبعد معها أن تكون ثم تغيرت كما في قوله تعالى فذبحوها الخ يلتزم الظاهر ويجعل المعنى أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلا عن أن يكون والآية على ذلك وكذا البيت وقد ذكر أن لم يكد فيهما جواب إذا فيكون مستقبلا وإذا قلت : إذا خرجت لم أخرج فقد نفيت خروجا في المستقبل فاستحال أن يكون المعنى فيهما على أن الفعل قد كان
وهذا التحقيق خلاصة ما حقق الشيخ في دلائل الإعجاز ومنه يعلم تخطئة من زعم أن كاد نفيها إثبات وإثباتها نفي
وفي الحواشي الشهابية أن نفي كاد على التحقيق المذكور أبلغ من نفي الفعل الداخلة عليه لأن نفي مقاربته
(18/183)

يدل عليه نفيه بطريق برهاني إلا أنه وقع في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل وربما أشعر بأنه وقع بعد اليأس منه كما في آية البقرة وإذا وقع في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي فإن قامت قرينة على ثبوته فيه أشعر بأنه انتفى وأيس منه بعد ما كان ليس كذلك كما في هذه الآية فإنه لشدة الظلمة لا يمكنه رؤية يده التي التي كانت نصب عينيه ثم فرع على هذا أن لك أن تقول : إن مراد من قال : إن نفيها إثبات وإثباتها نفي أن نفيها في الماضي يشعر بالثبوت في المستقبل وعكسه كما سمعت وهذا وجه تخطئة ابن شبرمة وتغيير ذي الرمر لأن مراده أن قديم هواها لم يقرب من الزوال في جميع الأزمان ونفيه في المستقبل يوهم ثبوته في الماضي فلا يقال : إنهما من فصحاء العرب المستشهد بكلامهم فكيف خفي ذلك عليهما ولذا استبعده في الكشف وذهب إلى أن قصتهما موضوعة أوصي بحفظ ذلك حيث قال : فاحفظه فإنه تحقيق أنيق وتوفيق دقيق سنح بمحض اللطف والتوفيق انتهى
ولعمري أن ما أول به كلام القائل بعيد غاية البعد ولا أظنه يقع موقع القبول عنده ونفي كل فعل في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ونفيه في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي ولا اختصاص لكاد بذلك فياليت شعري هل دفع الإيهام ما غير إليه ذو الرمة بيته فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء سواء كانت بمحض خلق الله تعالى كما ذهب إليه أهل الحق أو كانت بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط مصمت أو مؤلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس أولا على هيئة مخروط بل على استواء لكن مع ثبوت طرفه الذي يلي العين واتصاله بالمرئى أو بتكيف الشعاع الذي في العين بكيفية الهواء وصيرورة الكل آلة للرؤية كما ذهب إليه فرق الرياضيين أو كانت بانطباع شبح المرئى في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد كما ذهب إليه الطبيعيون وهذان المذهبان هما المشهوران للفلاسفة ونسب للإشراقيين منهم
واختاره شهاب الدين القتيل أن الرؤية بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة وإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على البصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية بلا شعاع ولا انطباع واختار الملا صدرا أنها بإنشاء صورة مماثلة للمرئى بقدرة الله تعالى من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله وتحقيق ذلك بما له وما عليه في مبسوطات كتب الفلسفة وربما يظن أن الظلمة سواء كانت وجودية أو عدم ملكة من شروط الرؤية كالضوء لكن بالنسبة إلى بعض الأجسام كالأشياء التي تلمع بالليل ونفى ابن سينا ذلك وقال : لا سيما أن تكون الظلمة شرطا لوجود اللوامع مبصرة وذلك لأن المضيء مرئي سواء كان الرائي في الظلمة أو في الضوء كالنار نراها مطلقا وأما الشمس فإنما لا يمكننا أن نراها في الظلمة لأنها متى طلعت لم تبق الظلمة وأما الكواكب واللوامع فإنما ترى في الظلمة دون النهار لأن ضوء الشمس غالب على ضوئها وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لا جرم لا ينفعل عن الضعيف فأما في الليل فليس ضوء غالب على ضوئها فلا جرم ترى وبالجملة فصيرورتها غير مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة بل لوجود المانع عن الرؤية وهو وجود الضوء الغالب انتهى ويمكن أن يقال : إن ضوء الشمس على ما ذكرنا مانع عن رؤية اللوامع ورفع مانع الرؤية شرط لها ودفع الضوء هو الظلمة فالظلمة شرط رؤية اللوامع بالليل وهو المطلوب فتدبر ولا تغفل
(18/184)

والله تعالى أعلم بحقائق الأمور
ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور
40
- اعتراض تذييلي جيء به لتقرير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفار كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي من لم يشأ الله تعالى أن يهديه الله سبحانه لنوره في الدنيا فما له هداية ما من أحد أصلا فيها وقيل : معنى الآية لم يكن له نور في الدنيا فلا نور له في الآخرة وقيل : كلا الأمرين في الآخرة والمعنى من لم ينوره الله تعالى بعفوه ويرحمه برحمته يوم القيامة فلا رحمة له من أحد فيها والمعول عليه ما تقدم والظاهر أن المراد تشبيه أعمال الكفرة بالظلمات المتكاثفة من غير اعتبار أجزاء في طرفي التشبيه يعتبر تشبيه بعضها ببعض ومنهم من اعتبر ذلك فقال : الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجي صدر الكافر وقلبه والموج الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه والموج الثاني الفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان وقيل : الظلمات أعمال الكافر والبحر هواه العميق القمر الكثير لخطر الغريق هو فيه والموج ما يغشى قلبه من الجهل والغفلة والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الإهتداء والكل كما ترى ولو جعل من باب الإشارة لهان الأمر
ومن باب الإشارة ما قيل إن في قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين إشارة إلى أنه ينبغي للشيخ إذا أراد تأديب المريد وكسر نفسه الأمارة أن يؤدبه بمحضر طائفة من المريدين الذين لا يحتاجون إلى تأديب ومن هنا قال أبو بكر بن طاهر : لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع والزنا عندهم إشارة إلى الميل للدنيا وشهواتها وفي قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية الخ وقوله تعالى الخبيثات للخبيثين الخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للأخيار معاشرة الأشرار إن الطيور على أشباهها تقع
وفي قوله تعالى لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يشنع عليه المنكرون من المشايخ أن يحزن من ذلك ويظنه شرا له فإنه خير له موجب لترقيه
وفي قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل الخ إشارة إلى أنه ينبغي للشيوخ والأكابر أن لا يهجروا أصحاب العثرات وأهل الزلات من المريدين وأن لا يقطعوا إحسانهم وفيوضاتهم عنهم وفي قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالإستئناس فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك وأطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم فقال : ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالبا الأذن ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل وإلا فليرجع وهذا هو المعنى بأدب الزيارة عندهم ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة و السلام أو نحوه ذلك ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين وهو أيضا مما لم
(18/185)

نعرفه عن أحد من السلف ولا ذكره فقهاؤنا وما أظنه إلا بدعة ولا يعد فاعلها إلا مضحكة للعقلاء وكون المزور حيا في قبره لا يستدعي الإستئذان في الدخول لزيارته وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حيا كما لا يخفى وقد رأيت بعد كتابتي هذه في الجوهر المنتظم في زيارة القبر المعظم صلى الله تعالى عليه وسلم لابن حجر المكي ما نصه قال بعضهم : وينبغي أن يقف يعني الزائر بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء انتهى
وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة و السلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى فاحفظ ذاك والله تعالى يعصمنا من البدع وإياك وقيل في قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم الخ إن فيه أمرا بغض بصر النفر عن مشتهيات الدنيا وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة وبصر السر عن الدرجات والقربات وبصر الروح عن الإلتفات إلى ما سوى الله تعالى وبصر الهمة عن أن يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له تعالى وإجلالا وأمرا بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه والإشارة بأمر النساء بعدم إبداء الزينة إلا لمن استثنى إلى أنه لا ينبغي لمن تزين بزينة الإسرار أن يظهرها لغير المحارم ومن لم يسترها عن الأجانب وبقوله تعالى وانكحوا الأيامي منكم الخ إلى النكاح المعنوي وهو أن يودع الشيخ الكامل في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الإلهي وقد أشير إلى هذا الإستعداد بقوله سبحانه إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ثم قال جل وعلا وليستعفف أي ليحفظ الذين لا يجدون شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حتى يغنيهم الله من فضله بأن يوفق لهم شيخا كاملا أو يخصهم سبحانه بجذبة من جذباته وأشير بقوله تعالى والذين يبتغون الكتاب الخ إلى أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته أن علم فيه الخير وهو التوحيد والمعرفة والتوكل والرضا والقناعة وصدق العمل والوفاء بالعهد ووجب أن يؤتى بعض المواهب التي خصها الله تعالى بها الشيخ وأشير بقوله تعالى ولا تكرهوا الخ إلى أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا لم تكره عليه وقوله تعالى الله نور السماوات والأرض كلام طويل عريض وفيما قدمنا ما يصلح أن يكون من هذا الباب وذكر أن قوله تعالى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله مما يدخل في عمومه أهل الطريقة العلمية النقشبندية الذين حصل لهم الذكر القلبي ورسخ في قلوبهم بحيث لا يغفلون عنه سبحانه في حال من الأحوال وهذا وإن ثبت لغيرهم من أرباب الطرائق فإنما يثبت في النهايات دون المباديء كما يثبت لأهل تلك الطريقة وفي مكتوبات الإمام الرباني قدس ره ما يغني عن الإطالة في شرح أحوال هؤلاء القوم وبيان منزلتهم في الذكر والحضور بين سائر الأقوام حشرتا الله تعالى وإياهم تحت لواء النبي عليه الصلاة و السلام وقيل إن قوله تعالى ومن يجعل الله له نورا فما له من نور إشارة لما ورد في حديث خلق الله تعالى الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه منه اهتدى ومنه أخطأه ضل والله تعالى الموفق لصالح العمل ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض الخ استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم
(18/186)

للإيذان كما في إرشاد العقل السليم بأن الله تعالى قد أفاض عليه مراتب النور وأجلاها وبين له من أسرار الملك والملكوت أدقها وأخفاها وقال الطبرسي هو بيان للآيات التي جعلها نورا والخطاب له عليه الصلاة و السلام والمراد به جميع المكلفين والهمزة للتقرير والرؤيى هنا بمعنى العلم والظاهر أن إطلاقها عليه حقيقة وقيل هي حقيقة في الإبصار وإطلاقها على العلم استعارة أو مجاز لعلاقة اللزوم وأياما كان فالمراد ألم تعلم بالوحي أو بالمكاشفة أو بالإستدلال أن الله تعالى ينزهه آنا فآنا في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل من نقص أو خلل تنزيها معنويا تفهمه العقول السليمة جميع من في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم كائنا ما كان فإن كل موجود من الموجودات الممكنة مركبا كان أو بسيطا فهو من حيث ذاته ووجوده وأحواله المتجددة له يدل على صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال منزه عن كل ما لا يليق بشأن من شؤنه الجليلة وقد نبه سبحانه على كمال قوة تلك الدلالة وغاية وضوحها حيث عبر عنها بما يخص العقلاء من التسبيح الذي هو أقوى مراتب التنزيه وأظهرها تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال وتخصيص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا لما أن مساق الكلام لتقبيح حال الكفرة في إخلالهم بالتنزيه يجعلهم الجمادات شركاء له سبحانه في الألوهية ونسبتهم إياه عز و جل إلى اتخاذ الولد ونحو ذلك مما تعالى الله عنه علوا كبيرا وإطلاق من على العقلاء وعيرهم بطريق التغليب ولا يغني عن اعتباره أو اعتبار مجاز مثله إسناد التسبيح المختص بالعقلاء بحسب الظاهر كما توهمه بعض الأجلة وحمل بعضهم التسبيح على معنى مجازي شامل لتسبيح العقلاء وغيرهم ويسمى عموم المجاز ورد بأن بعضا من العقلاء وهم الكفرة من الثقلين لا يسبحونه بذلك المعنى قطعا وإنما تسبيحهم ما ذكر من الدلالة التي يشاركهم فيها غير العقلاء أيضا وفي ذلك من تخطئتهم وتعييرهم ما فيه والقول بأن الكفرة يسبحون كالمؤمنين لكن من حيث لا يشعرون كما قال الحلاج : جحودي لك تقديس مما لا يقبله ذوو العقول وحري بأن لا يكون من المقبول وقال بعضهم إذا كانت من للتغليب يندرج في عمومها العقلاء المطيعون والعقلاء العاصون وغير العقلاء مطلقا فيحمل التسبيح على معنى مجازي يصح نسبته إلى كل مما ذكر وأي مانع من ذلك وهو كما ترى
واستظهر أبو حيان إبقاء التسبيح على ظاهره وتخصيص من بالعقلاء المطيعين وما ذكر أولا أولى
والطير بالرفع عطفا على من وتخصيصها بالذكر عليه مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استمرار قرارها فيها واستقلالها بصنع بارع وإنشاء رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح أنبائها على كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسبما يعرب عنه التقييد بقوله تعالى : صافات أي تسبحه الطير حال كونها صافات أجنحتها فإن أعطاه تعالى للأجرام الثقيلة ما يتمكن به من الوقوف في الجو والحركة كيف شاء من الأجنحة والأذناب الخفية وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا ونحو ذلك حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد وغاية حكمة المبديء المعيد والعطف على ما استظهره أبو حيان على من أيضا وقد صرح بذلك ونقل عن الجمهور أن تسبيحها حقيقي وظاهره أنه على نحو تسبيح العقلاء من الثقلين ولعل ملتزم ذلك لا يلتزم وجوب كون التسبيح الحقيقي بالألفاظ المألوفة لنا وإلا لا يتسنى القول بأن تسبيحها حقيقي مع هذا الوجوب لفقد الألفاظ المألوفة لنا منها ويجوز أن يقال : إنه
(18/187)

تعالى ألهم الطير تسبيحا مخصوصا يليق بها وهو غير التسبيه الحالي الذي هو الدلاة السابقة ويقدر فعل رافع لها يراد منه ذلك المعنى الملهم أي ويسبح الطير وتخصيص تسبيحها بذلك المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجودا وأقرب حملا على التسبيح لكن التقييد بالحال على هذا حاله في الحسن دون حاله على ما سبق
وقرأ الأعرج والطير بالنصب على أنه مفعول معه وقرأ الحسن وخارجة عن نافع والطير صافات برفعهما على الإبتداء والخبرية والظاهر على هذه القراءة أن قوله تعالى كل قد علم صلاته وتسبيحه خبر بعد خبر وعلى قراءة الجمهور استئناف جيء به لبيان كمال عراقة كل واحد مما ذكر من الطير وما اندرج في عموم من في السماوات والأرض في التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن اتفاق بلا روية وقد أدمج سبحانه تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضة منه عز و جل لما يهمه بلسان استعداده وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة في حد ذاته بمعزل عن استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يليق بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداء وبقاء فهو مشتفيض منه تعالى على الإستمرار فيفيض عليه في كل آن من فنون الفيوض المتعلقة بذاته وصفاته ما لا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الربانية من العلاقة لانعدم بالمرة وقد عبر عن تلك الإستفاضة المعنوية بالصلاة التي هي الدعاء والإبتهال لتكميل التمثيل وتقديمها على التسبيح في الذكر لتقدمها عليه في الرتبة كذا في إرشاد العقل السليم والكلام عليه استعارة تمثيلية والمضاف إليه الذي عنه تنوين كل ما يشمل المذكور المصرح به والمندرج تحت العموم حتى الجماد وضمير علم وكذا ضميرا صلاته وتسبيحه لكل واحد وإليه ذهب الزجاج
وزعم بعضهم أنه يكون في علم على ذلك استعارة تبعية وقال في بيان ذلك : إنه يشبه دلالو كل واحد من المذكورين على الحق بلسان الحق والمقال وميل كل منهم إلى النفع اختيارا أو طبعا بعلم التسبيح والصلاة فيطلق على كل واحد من تلك الدلالة والميل اسم العلم على سبيل الإستعارة ويشتق منه لفظ علم ومن له أدنى ذوق لا يرتضيه وجوز أيضا أن يكون الصلاة مجازا على الميل والتسبيح مجازا عن الدلالة ومع هذا قيل إنه وإن صح غير مناسب للتمثيل وزعم بعض أن الأولى أن يجعل المضاف إليه غير شامل للجماد وليس بذاك وجوز أن يكون ضميرا صلاته وتسبيحه لله تعالى على أن الإضافة للمفعول وجوز أن يكون لكل واحد مما في السماوات والأرض ويكون ضمير علم لله عز و جل وقال غير واحد : يجوز أن لا يكون هناك استعارة والعلم على حقيقته ويراد به مطلق الإدراك ويراد بما ناب عنه التنوين أنواع الطير أو أفرادها وبالصلاة والتسبيح ما ألهمه الله عز و جل كل واحد من الدعاء والتسبيح المخصوصين به ولا يعد في هذا الإلهام فقد ألهم سبحانه كل نوع من أنواع الحيوانات علوما دقيقة لا يكاد يهتدي إليها جهابذة العقلاء وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره أصلا كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الحيوانات من الإدراك قالوا : إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبهما فيغير المدخل إلى حجره والجملة على هذا لبيان كمال الرسوخ في الأمرين وأن صدورهما عن الطير ليس بطريق الإتفاق بلا روية بل عن علم وإتقان نظير ما مر لكن لا على سبيل التمثيل وقدر فعل رافع للطير
(18/188)

عليه أي ويسبح الطير كما تقدم ولم تجعل معطوفة على من مرفوعة برافعها قيل لأنه يؤدي إلى أن يراد بالتسبيح الدال عليه الفعل المذكور معنى مجازي شامل للتسبيح المقالي والحال من العقلاء وغيرهم وقد تقدم ما فيه وجوز جعل ما ندب عنه التنوين ما يشمل الطير وغيره من المندرج في العموم السابق وفيه أن مما اندرج في العموم الجماد ولا ينسب إليه العلم وإن كان بمعنى مطلق الإدراك والتزم أن له علما وأنه سبحانه ألهمه صلاة وتسبيحا لائقين به مما لا يرضيه كثير من الناس وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام في سورة الإسراء فتذكر
وجوز بعضهم على تقدير حمل العلم على المعنى الحقيقي أن يكون عطف التسبيح على الصلاة من عطف التفسير وأنت تعلم أنه إذا قبل ذلك على ذلك التقدير فما المانع من قبوله على التقدير السابق من جعل الإستعارة تمثيلية نعم يفوت حينئذ الإدماج الذي أشير إليه فيما مر وهو ليس بمانع والحق أن إحتمال التفسير بعيد ولا داعي إلى ارتكابه بل يفوت عليه ما يفوت كما لا يخفى وقوله تعالى : والله عليم بما يفعلون
41
- أي بالذي يفعلونه اعتراض تذيياي مقرر لمضمون ما قبله و ما إما عبارة عن الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندا إلى ضمير العقلاء لما أشرنا إليه أول الكلام وأما عبارة عنها وعن التسبيح الخاص بالطير معا أو عن تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ضمير العقلاء لما مر والإعتراض حينئذ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل وإما عبارة عن الأعم من الصلاة والتسبيح وغيرهما من الأفعال الصادرة عمن في السماوات والأرض والأحوال العارضة له والإعتراض حينئذ مقرر لمضمون كل قد علم أي الله تعالى صلاته وتسبيحه وأمر التعبير بالفعل والإسناد إلى ضمير العقلاء لا يخفى ولتعدد الأوجه فيما مر تعددت الإحتمالات هنا فتأمل ولا تغفل
وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمرو تفعلون بتاء الخطاب وفيه كما قيل وعيد وتخويف ولعل الظاهر أن الخطاب فيه للكفرة وربما يجوز أن يكون ضمير الجمع على قراءة الجمهور لهم أيضا على أن المراد بالجملة تخويفهم لإعراضهم عن تسبيحه تعالى بعد أن أخبر سبحانه عمن أخبر بأنه قد علم صلاته وتسبيحه وهذا وإن كان بعيدا إلا في القرءة المذكورة نوع تأييد له ولله ملك السماوات والأرض لا لغيره تعالى استقلالا أو اشتراكا لأنه سبحانه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجادا وإعداما إبداء وإعادة وقوله تعالى : وإلى الله أي إليه عز و جل خاصة لا إلى غيره أصلا المصير
42
- أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المنتهى إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبتدأ وقيل : إن الجملة لبيان أن ما يرى من ظهور بعض الآثار على أيدي المخلوقات لا ينافي الحصر السابق بإفادة أن الإنتهاء إليه تعالى لا إلى غيره ويكفي ذلك في الحصر ولعل الأول أولى وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم وقوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا الخ كالتأكيد لما قبله والتنوير له والإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة وقيل : سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به ومن البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئا بعد شيء على قلة وضعف وقيل : أي التي تزجي أي تدفع للرعية للرغبة عنها وفي التعبير بيزجي على ما ذكر إيماءا إلى أن السحاب
(18/189)

بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة والمعنى كما في البحر يسوق سحابة إلى سحابة ثم يؤلف بينه بأن يوصل سحابة بسحابة وقال غير واحد : السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه وهذا لأن بين لا تضاف لغير متعدد وبهذا التأويل يحصل التعدد كما قيل به في قوله : بين الدخول فحومل واستغنى بعضهم عنه بجعل السحاب اسم جمعي على ما سمعت
وقرأ ورش عن نافع يولف غير مهموز ثم جعله ركاما أي متراكما بعضه فوق بعض فترى الودق أي المطر شديدا كان أو ضعيفا إثر تراكمه وتكاثفه وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بحيلة عن أبيه أنه فسر الودق بالبرق ولم نره لغيره والذي رأيناه في معظم التفاسير وكتب اللغة أنه المطر يخرج من خلاله أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والإنعصار وهو جمع خلل كجبال وجبل وقيل : هو مفرد كحجاب وحجاز وأيد بقراءة ابن عباس وابن مسعود وابن زيد والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله والمراد حينئذ الجنس والجملة في موضع الحال من الودق لأن الرؤية بصرية وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق ومن الإعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى وينزل من السماء أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء وكأنه العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلا فيما ينزل بناء على المشهور في سبب تكون البرد وجوز أن يراد بها جهة العلو للإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل من جبال أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ كما في قوله تعالى : حتى إذا جعله نارا والمراد بها قطع السحاب ومن الغريب الذي لا تساعده اللغة كما في الدرر والغرر الرضوية قول الأصبهاني : إن الجبال ما جبله الله تعالى أي خلقه من البرد فيها أي في السماء والجار والمجرور في موضع الصفة لجبال وقوله تعالى : من برد وهو معروف وسمي بردا لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد مفعول ينزل على أن من تبعيضية وقيل : زائدة على رأي الخفش والأوليان لابتداء الغاية والجار والمجرور الثاني بدل من الأول بدل اشتمال أو بعض أي ينزل مبتدأ من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد أو بردا
وزعم الحوفي أن من الثانية للتبعيض كالثالثة مع قوله بالبدلية وهو خطأ ظاهر وقيل : من الأولى ابتدائية والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول وقيل : زائدة على رأي الأخفش أيضا والثالثة للبيان أي ينزل مبتدأ من السماء بعض جبال أو جبالا كائنة فيها التي هي برد فالمنزل برد وعن الأخفش إن من الثانية ومن الثالثة زائدتان وكل من المجرورين في محل نصب أما الأول فعلى المفعولية لينزل وأما الثاني فعلى البدلية منه أي ينزل من السماء جبالا بردا وماآله ينزل من السماء بردا
وقال الفراء : هما زائدتان إلا أن المجرور بأولاهما في موضع نصب على المفعولية والمجرور بثانيهما في موضع رفع إما على أنه مبتدأ و فيها خبره والضمير من فيها للجبال أي ينزل من السماء جبالا في تلك الجبال برد لا شيء آخر من حصى وغيره وإما على أنه فاعل فيها لأنه قد اعتمد على الموصوف أعني الجبال وضمير راجع إليها أيضا والمراد بالجبال على غير ما قول الكثرة مجازا وقد جاء استعمالها فيها كذلك في قول ابن مقبل :
(18/190)

إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى لها شاعرا مني أطلب وأشعرا وأكثر بيتا شاعرا ضربت له بطون جبال الشعر حتى تيسرا ويقال : عنده جبل من ذهب وجبل من علم وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين أن المراد بالسماء المظلمة وبالجبال حقيقتها قالوا : إن الله تعالى خلق في السماء جبالا من برد كما خلق في الأرض جبالا من حجر وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل والمشهور بين أهل الحكمة أن انبعاث قوى السماويات وأشعتها قد يوجب تصعيد أجسام لطيفة مرتفعة عن الماء ممتزجة مع الهواء وهي التي سمي بخارا ولثقله بالنسبة إلى الدخان لرطوبته ويبس الدخان يقف في حيز الهواء بحيث لا يكون واصلا إليه الحرارة الكائنة من الشعاع المنعكس عن جرم الأرض ويكون متباعدا عن المتسخن بحرارة النار فيبقى في الطبقة الباردة من الهواء فيبرد ويتكاثف بالتصاعد شيئا فشيئا فيرتكم منه سحاب فيقطر مطرا إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت بردا أو نزلت ثلجا وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من البرد القوي فإن صادف ريحا اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحا أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض وذكروا أنه كلما طالت المسافة اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقدارا وقد ينعقد المطر بردا داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عندما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفا فلا يقوى على الإرتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع وليس بحيث يصير سحابا فيكون منه الظل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحابا ويمطر بحاله والحق أن كل ذلك مستند إلى إرادة الله عز و جل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأسا بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال : إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لا سيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس فيصيب به أي بما ينزل من البرد من يشاء أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه ويصرفه عن من يشاء أن يصرفه عنه فينجو من غائلته ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر
وفي البحر يحتمل رجوعهما إلى الودق والبرد فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والإمتنان أه وفيه بعد ومنع ظاهر
يكاد سنا برقه أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما سمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر
وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدودا برقه بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار
(18/191)

من البرق كالغرفة واللقمة وعنه أيضا أنه قرأ برقه بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في ظلمات والسناء ممدودا بمعنى العلو وارتفاع الشأن وهو هنا كناية عن قوة الضوء وقريء يكاد سنا بإدغام الدال في السين يذهب بالأبصار
43
- أي يحفظها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث أنه توليد للضد من الضد
وقرأ أبو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا : لأن الباء تعاقب الهمزة ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية وقد أخطأ في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبي وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله : فلثمت فاها قابضا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية
يقلب الله الليل والنهار بإتيان أحدهما بعد الآخر أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه وكأن الجملة على هذا استئناف بيان الحكمة فيما مر وعلى الأولين استئناف لبيان أنه عز و جل لا يتعاصاه ما تقدم من الإزجاء وما بعده وقيل هي معطوفة على ما تقدم داخلة في حيز الرؤية وأسقط حرف لقصد التعداد وهو كما ترى إن في ذلك إشارة إلى ما فضل آنفا وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته لعبرة لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي ودلالة ذلك على الوحدة بواسطة برهان التمانع وإلا ففيه خفاء بخلاف دلالته على ما عدا ذلك فإنها واضحة لأولي الأبصار
44
- لكل من له بصيرة يراجعها ويعملها فالأبصار هنا جمع بصر بمعنى البصيرة بخلافها فيما سبق وقيل : هو بمعنى البصر الظاهر كما هو المتبادر منه والتعبير بذلك دون البصائر للإيذان بوضوح الدلالة
وتعقب بأنه عليه ذهاب حسن التجنيس وارتكاب ما هو كالإيطاء واشتهر أنه ليس في القرآن جناس تام غير ما في قوله تعالى ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة وفيه كلام نقله السيوطي في الإتقان ناشيء عند من دقق النظر من عدم الإتقان واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني موضعا آخر وهو هذه الآية الكريمة وهو لا يتم إلا على ما قلنا وأشار إليه البيضاوي وغيره ولعل من اختار المتبادر راعي أن حسن تلك الإشارة فوق حسن التجنيس فتأمل والله خلق كل دابة أي كل حيوان يدب على الأرض وأدخلوا في ذلك الطير والسمك وظاهر كلام بعض أئمة التفسير أن الملائكة والجن
(18/192)

يدخلون في عموم الدابة ولعلها عنده كل ما دب وتحرك مطلقا ومعظم اللغويين يفسرها بما سمعت والتاء فيها للنقل إلى الإسمية لا للتأنيث وقيل دابة واحد داب كخائنة وخائن
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل كل دابة بالجر بالإضافة من ماء هو جزء مادته وخصه بالذكر لظهور مزيد احتياج الحيوان بعد كمال تركيبه إليه وأن امتزاج الأجزاء الترابية به إلى غير ذلك أو ماء مخصوص هو النطفة فالتنكير على الأول للإفراد النوعي وعلى الثاني للإفراد الشخصي
وجوز أن يكون عليهما لذلك وكلمة كل على الثاني للتكثير كما في قوله تعالى يجبي إليه ثمرات كل شيء لأن من الدواب ما يتولد لا عن نطفة وزعم بعضهم أنها على الأول لذلك أيضا بناء على شمول الدابة للملائكة المخلوقين من نور وللجن المخلوقين من نار وادعى أيضا أن من الإنس من لم يخلق من ماء أيضا وهو آدم وعيسى عليهما السلام فإن الأول خلق من التراب والثاني خلق من الروح ولا يخفى ما فيه وجوز أن يعتبر العموم في كل ويراد بالدابة ما يخلق بالتوالد بقرينة من ماء أي نطفة وفيه بحث وقيل ما من شيء دابة كان أو غيره إلا وهو مخلوق من الماء فهو أصل جميع المخلوقات لما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور وخلق منها الخلق وأيا ما كان فمن متعلقة بخلق وقال القفال واستحسنه الإمام : هي متعلقة بمحذوف وقع صفة لدابة فالمراد الإخبار بأنه تعالى خلق كل دابة كائنة أو متولدة من الماء فعموم الدابة عنده مخصص بالصفة وعموم كل على ظاهره
والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصا أو نوعا والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن الماء مبدأ كل شيء حي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشيا مع كونها زحفا مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وأنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى ويزيد ذلك حسنا ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف من الماشين ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى يد الله فوق أيديهم على رأي ومنهم من يمشي على رجلين كالإنس والطير ومنهم من يمشي على أربع كالنعم والوحش
والظاهر أن المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الإعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه يخلق الله ما يشاء أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل وزعم الفلاسفة أن اعتماد ماله أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآنا وتذكير الضمير في منهم لتغليب العقلاء وبني على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضي وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في كل دابة وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الإختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب لا تغليب في من الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط وقد يقال : لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازا كما توهم وإظهار الأسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية والإظهار في قوله سبحانه إن الله على كل شيء قدير
45
- أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضا مع تأكيد استقلال الإستئناف التعليلي لقد أنزلنا آيات مبينات أي لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذي خلوا الآية ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر إليكم هناك وعدم ذكره هنا
والله يهدي من يشاء هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها إلى صراط مستقيم
46
- موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة ويقولون آمنا بالله وبالرسول شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ الله تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروي عن الحسن نحوه وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة و السلام وقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى الله عليه و سلم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق : أكذلك فقال : نعم فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي الله تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فنزلت وقال جبريل عليه السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي لذلك الفاروق وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي كرم الله تعالى وجهه خصومة في أرض فتقاسما فوقع لعلي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة : يعني أرضك فباعها إياه وتقابضا فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي كرم الله تعالى وجهه : اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فإن الماء لا ينالها فقال علي : قد أشتريتها ورضيتها وقبضتها وأنت تعرف حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أما محمد فلست آتيه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت وعلى هذا وما قبله جمع الضمير لعموم الحكم أو لأن مع القائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما في قولهم بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد وإعادة الباء للمبالغة في دعوى الإيمان وكذا التعبير عنه صلى الله عليه و سلم بعنوان الرسول وقولهم مع ذلك وأطعنا أي واطعنا الله تعالى والرسول صلى الله عليه و سلم في الأمر والنهي ثم يتولى أي يعرض عما يقتضيه هذا القول من قبول الحكم الشرعي عليه فريق منهم من بعد ذلك أي من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه و سلم والطاعة لهما وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرا معتدا به واجب المراعاة وما أولئك إشارة إلى القائلين آمنا الخ وهم المنافقون
(18/193)

جميعهم لا إلى الفريق المتولي منهم فقط وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الإيمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل بالمؤمنين
47
- أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص والثبات عليه ونفي الإيمان بهذا المعنى عنهم مقتض لنفيه عن الفريق على أبلغ وجه وآكده ولذا اختير كون الإشارة إليهم وجوز أن تكون للفريق على أن المراد بهم فريق منافقون وضمير يقولون للمؤمنين مطلقا والحكم على أولئك الفريق بنفي الإيمان لظهور أمارة التكذيب الذي هو التولي منهم و ثم على هذا حسبما قرره الطيبي للإستبعاد كأنه قيل كيف يدخلون في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين ويرغبون عن تلك المقالة وهذا بعيد عن العاقل المميز وعلى الأول حسبما قرره أيضا للتراخي في الرتبة إيذانا بارتفاع درجة كفر الفريق المتولي عنهم انحطاط درجة أولئك
وفي الكشف أن الكلاف على تقدير كون الإشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتولي وحده كالإستدراك وفيه دلالة على توغل المتولي في الكفر وأصل الكفر شامل للطائفتين وأما على تقدير اختصاص الإشارة بالمتولي ففائدة ثم استبعاد التولي بعد تلك المقالة وفائدة الأخبار إظهار أنهم لم يثبتوا على قولهم كأنه قيل يقولون هذا ثم يوجد فيهم ما يضاده فلا يكون في دليل خطابه أن غيرهم مؤمن انتهى وعليه فضمير يقولون للمنافقين الشاملين للفريق المتولي لا للمؤمنين مطلقا على الوجهين فتأمل
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أي وبين خصومهم وضمير يحكم للرسول عليه الصلاة و السلام وجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ما يفهم من الكلام إلى المدعو إليه وهو شامل لله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام لكن المباشر للحكم صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر الله تعالى على الوجهين لتفخيمه عليه الصلاة و السلام والإيذان بجلالة محله عنده تعالى وأن حكمه في الحقيقة حكم الله عز و جل فقد قالوا : إنه إذا ذكر اسمان متعاطفان والحكم إنما هو لأحدهما كما في نحو قوله تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا أفاد قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه وإنهما بمنزلة شيء واحد بحيث يصح نسبة أوصاف أحدهما وأحواله إلى الآخر وضمير ادعوا يعود إلى ما يعود إليه ضمير يقولون أي وإذا دعى المنافقون أو المؤمنون مطلقا إذا فريق منهم معرضون
48
- أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليع عليه الصلاة و السلام لكون الحق عليهم وعلمهم بأنه صلى الله عليه و سلم لا يحكم بالحق والجملة الشرطية شرح للتولي ومبالغة فيه حيث أفادت مفاجأتهم الإعراض عقب الدعوة دون الحكم عليهم مع ما في الجملة الإسمية الواقعة جزاء من الدلالة على الثبوت والإستمرار على ما هو المشهور والتعبير بينهم دون عليهم لأن المتعارف قول أحد المتخاصمين للآخر : إذهب معي إلى فلان ليحكم بيننا لا عليك وهو الطريق المنصف وقيل : هذا الإعراض إذا اشتبه عليهم الأمر ولذا قال سبحانه : بينهم لا عليهم وفي ذلك زيادة في المبالغة في ذمهم وفيه بحث
وإن يكن لهم الحق أي لا عليهم كما يؤذن به تقديم الخبر يأتوا إليه أي إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
(18/195)

مذعنين
49
- منقادين لعلمهم بأنه عليه الصلاة و السلام يحكم لهم والظاهر تعلق إلى بيأتوا وجوز تعلقها بمذعنين على أنها بمعنى اللام أو على تضمين الإذعان معنى الإسراع وفسره الزجاج بالإسراع مع الطاعة وتقديم المعمول للإختصاص أو للفاصلة أولهما وعبر بإذا فيما مر إشارة إلى تحقق الشرط وبأن هنا إشارة إلى عدم تحققه وفي ذلك أيضا ذم لهم
وقوله تعالى : أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الإستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل : أسبب أعراضهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه و سلم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ام أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة و السلام مع ظهور حقيقتها أم سببه أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
وهذا نظير قولك أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول : هجر الحبيب مثلا فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضا أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جدا وهو كثير في المحاورات إلا أن الإستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية وقوله تعالى : بل أولئك هم الظالمون
50
- تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الإستفهام كأنه قيل : ليس شيء مما ذكر سببا لذلك الإعراض أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سببا له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة و السلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضا وأما الثالث فلانتفائه رأسا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة و السلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الإنقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة و السلام فيعرضون عنها لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يقضي بالحق عليهم فمناط النفي المستفاد من الإستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين هو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعا وإذا خص الإرتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله تعالى عليه وسلم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة و السلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة و أم عليه متصلة وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري والبيضاوي حيث جعلا ما تقدم نقسيما لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخيرين من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث أنه يناقض تسرعهم إليه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا كان الحق لهم على الغير والثاني جعله إضرابا عن الأخيرين منهما لتحقيق القسم الأول وقال : وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم والثاني إما أن يكون محققا أو متوقعا وفسر الإرتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم ثم قال : وكلاهما باطلان فتعين الأول أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة و السلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف
وقال العلامة الطيبي : الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي كأنه قيل : دع التقسيم
(18/196)

فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف فلذلك صدوا عن حكومتك يدل عليه الإتيان باسم الإشارة والخطاب وتعريف الخبر بلام الجنس وتوسيط ضمير الفصل ونقل عن الإمام ما يدل على أن أم منقطعة قال : أثبتهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق فكان فيها ارتياب فكانوا يخافون الحيف ووجه الإضراب أن كلا مسبب عن الآخر علم على وجوده وزيادة واعترض بأنه لا يجب التسبب إلا أن يدعى في هذه المادة خصوصا وصرح أبو حيان بأنها منقطعة وبأن الإستفهام للتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الأوجه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ويستعمل في الذم والمدح كما في قوله : ألست من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر وقوله : ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ولا يخفى أن الأظهر أنها متصلة والتلازم بين الأمور الثلاثة ممنوع على أنه لا يضر وأن معنى الآية ما ذكرناه أولا وتقديم عليهم على الرسول لتأكيد أن حكمه عليه الصلاة و السلام هو حكم الله تعالى ووجه اختلاف أساليب الجمل يظهر بأدنى تأمل
وقوله سبحانه : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا جار على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي ونصب قول على أنه خبر كان وأن مع ما في حيزها في تأويل مصدر اسمها ونص سيبويه في مثل ذلك على جواز العكس فيرفع قول على الإسمية وينصب المصدر الحاصل من السبك على الخبرية
وقد قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق : والحسن برفع قول على ذلك قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن الأولى للإسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو المصدر الذي أولى به أن يقولوا لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين فإنه يحتمله كما إذا اختزلت عنه الإضافة وقيل في وجه أعرفيته أنه لا يوصف كالضمير ولا يخفى أنه لا دخل له في الأعرفية ثم أنت تعلم أن المصدر الحاصل من سبك أن والفعل لا يجب كونه مضافا في كل موضع ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى ما كان هذا القرآن أن يفتري إنه بمعنى ما كان هذا القرآن افتراه
وذكر أن جواز تنكيره مذهب الفارسي وهو متعين في نحو أن يقوم رجل إذ هو مؤول قطعا بقيام رجل وهو نكرة بلا ريب وفي إرشاد العقل السليم أن النصب أقوى صناعة لكن الرفع أقعد معنى وأو في لمقتضى المقام أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخرج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذن هو أحق بالخبرية وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنوانا للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين إذا دعوا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ليحكم بينهم وبين خصومهم أن يقولوا سمعنا الخ أي خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا وأما النصب فالمعنى عليه إنما كان قولا للمؤمنين خصوصية قولهم سمعنا الخ ففيه من جعل أخص النسبتين وأبعدهما
(18/197)

وقوعا وحضورا في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغا عنها عنوانا للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلي ما لا يخفى انتهى وبحث فيه بعضهم بأن مساق الآية يقتضي أن يكون قول المؤمنين سمعنا وأطعنا في مقابلة إعراض المنافقين فحيث ذم ذلك على أتم وجه ناسب أن يمدح هذا ولا شك أن الأنسب في مدحه الإخبار عنه لا الإخبار به فينبغي أن يجعل أن يقولوا سمعنا وأطعنا اسم كان و قول المؤمنين خبرها وفي ذلك مدح لقولهم سمعنا وأطعنا إذ معنى كونه قول المؤمنين أنه قول لائق بهم ومن شأنهم على أن الأهم بالإفادة كون ذلك القول الخاص هو قولهم إذ دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أي قولهم المقيد بما ذكر ليظهر أتم ظهور مخالفة حال قولهم سمعنا وأطعنا وحال قول المنافقين آمنا بالله وبالرسول وأطعنا فتدبر فإنه لا يخلو عن دغدغة والظاهر أن المراد من أطعنا هنا غير المراد منه فيما سبق فكأنهم أرادوا سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم بالذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحكم بينكم وبيننا وقيل المعنى قبلنا قولكم وانقدنا له وأجبنا إلى حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وعن ابن عباس ومقاتل أن المعنى سمعنا قول النبي صلى الله عليه و سلم وأطعنا أمره وقيل المراد من الطاعة الثبوت أو الإخلاص لتغاير ما مر وهو كما ترى
وقرأ الجحدري وخالد بن الياس ليحكم بالبناء للمفعول مجاوبا لدعوا وكذلك قرأ أبو جعفر هنا وفيما مر ونائب الفاعل ضمير المصدر أي ليحكم هو أي الحكم والمعنى ليفعل الحكم كما في قوله تعالى وحيل بينهم
وأولئك إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي وأولئك المنعوتين بما ذكر من النعت الجليل هم المفلحون
51
- أي هم الفائزون بكل مطلوب والناجون عن كل محذور
ومن يطع الله ورسوله استئناف جيء به لتقرير مضمون ما قبله من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم في الإنتظام في سلكهم أي ومن يطع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم كائنا من كان فيما أمر به من الأحكام اللازمة والمتعدية وعن ابن عباس أنه قال : ومن يطع الله ورسوله في الفرائض والسنن وهو يحتمل اللف والنشر وعلى ذلك جرى في البحر ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل فأولئك الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والإتقاء هم الفائزون
52
- بالنعيم المقيم لا من عدهم
وقرأ أبو جعفر وقالون عن نافع ويعقوب ويتقه بكسر القاف وكسر الهاء من غير إشباع وقرأ أبو عمرو وحمزة في رواية العجلي وخلاد وأبو بكر في رواية حماد ويحيى بكسر القاف وسكون الهاء وقرأ حفص بسكون القاف وكسر الهاء غير مشبعة والباقون بكسر القاف وكسر الهاء مشبعة بحيث يتولد ياء ووجه ذلك أبو علي بأن الأصلي في هاء الضمير إذا كان ما قبلها متحركا أن تشبع حركتها كما في يؤته ويؤده ووجه عدم الإشباع أن ما قبل الضمير ساكن تقديرا ولا إشباع بحركته فيما إذا سكن ما قبله كفيه ومنه ووجه إسكان الهاء إنها هاء السكت وهي تسكن في كلامهم وقيل : هي هاء الضمير لكن أجريت مجرى هاء السكت فسكنت وكثيرا ما يجري الوصل مجرى الوقف وقد حكى عن سيبويه أنه سمع من يقول : هذه أمة الله في الوصل والوقف ووجه قراءة حفص أنه أعطى يتقه حكم كتف لكونه على وزنه فخفف بسكون
(18/198)

وسطه لجعله ككلمة واحدة كما خفف يلدا في قوله
وذي ولد لم يدله أبوان
وعن ابن الأنباري أنه لغة لبعض العرب في كل معتل حذف آخره فيقولون لم أر زيدا يسقطون الحرف للجزم ثم يسكنون ما قبل وعلى ذلك قوله : ومن يتق فإن الله معه ورزق الله مؤتاب وغاد وقوله : قالت سيلمى اشتر لنا سويقا وهات خبز البر أو دقيقا والهاء إما للسكت وحركت لالتقاء الساكنين أو ضمير وكان القياس ضمنها حينئذ كما في منه لكن السكون لعروضه لم يعتد به ولئلا ينتقل من كسر لضم تقديرا وضعف الأول لتحريك هاء السكت وإثباتها في الوصل كذا قيل فلا تغفل وأقسموا بالله حكاية لبعض آخر من أكاذيب الكفرة المنافقين مؤكدا بالأيمان الفاجرة فهو عود على بدء والقسم الحلف وأصله من القسامة وهي الأيمان تقسم على متهمين بقتل حسبما بين في كتب الفقه ثم صار إسما لكل حلف وقوله سبحانه جهد أيمانهم نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله المحذوف وجملة ذلك الفعل مع فاهله في موضع الحال أو هو نصب على الحال أي حلفوا به تعالى يجهدون أيمانهم جهدا أو جاهدين أيمانهم ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الإستعارة من قولهم : جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها والمراد أقسموا بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة وجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لأقسموا أي أقسموا أقسام اجتهاد في اليمين قال مقاتل : من حلف بالله تعالى فقد اجتهد في اليمين
والظاهر هنا أنهم الأيمان وشددوها ولم يكتفوا بقول والله لئن أمرتهم أي بالخروج كما يدل عليه قوله تعالى ليخرجن والمراد بهذا الخروج للجهاد كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يدل على أن المراد الخروج من الأموال
وأيا ما كان فالجملة جواب لأقسموا وجواب الشرط محذوف لدلالة هذه الجملة عليه وهي حكاية بالمعنى والأصل لنخرجن بصيغة المتكلم مع الغير وقيل الأصل لخرجنا إلا أنه أريد حكاية الحال الماضية فعبر بذلك وتعقب بأن المعتبر زمان الحكم وهو مستقبل قل أي ردا عليهم وزجرا لهم عن التفوه بتلك الأيمان وإظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين لا تقسموا على ما ينبيء عنه كلامكم من الطاعة طاعة معروفة خبر مبتدأ محذوف أي طاعتكم طاعة والجملة تعليل للنهي كأنه قيل لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة معروفة بأنها واقعة باللسان فقط من غير واطأة من القلب لا يجهلها أحد من الناس وقيل التقدير المطلوب منكم طاعة معلومة لا يشك فيها كطاعة الخلص من المؤمنين وقيل طاعة مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة متوسطة على قدر الإستطاعة أمثل وأولى بكم من قسمكم واختاره الزجاج وقيل مرفوع بفعل مقدر أي لتكن طاعة معروفة منكم وضعف الكل بأنه مما لا يساعده المقام والأخير بأن فيه حذف الفعل في غير موضع الحذف
وقال البقاعي : لا تقدير في الكلام و طاعة مبتدأ خبره معروفة وسوغ الإبتداء بالنكرة أنها أريد بها
(18/199)

الحقيقة فتعم العموم من المسوغات ولم تعرف لئلا يتوهم أن تعريضها للعهد والجملة تعليل للنهي أي لا تقسموا فإن الطاعة معروفة منكم ومن غيركم لا تخفى فقد جرت سنة الله تعالى على أن العبد وإن اجتهد في إخفاء الطاعة لا بد وأن يظهر سبحانه مخايلها على شمائله وكذا المعصية فلا فائدة في إظهار ما يخاف الواقع وفي الأحاديث ما يشهد لما ذكر فقد روي الطبراني عن جندب ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها وروي الحاكم وقال : صحيح الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج لأنسان كائنا من كان وهذا المعنى على ما قيل حسن لكنه خلاف الظاهر
وقرأ زيد بن علي والزيدي طاعة معروفة بالنصب على تقدير تطيعون طاعة معروفة نفاقية وقيل أطيعوا طاعة معروفة حقيقية وطاعة بمعنى إطاعة كما في قوله تعالى : أنبتكم من الأرض نباتا إن الله خبير بما تعملون
53
- من الأعمال الظاهرة والباطنة التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة وما تضمرونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد والمراد الوعيد بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم وفي الإرشاد أن الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك ووعيد لهم بالمجازاة
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كرر الأمر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما حيث أن المقول الأول نهي بطريق الرد والتبكيت وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع وفي تكرر فعل الإطاعة والعدول عن أطيعوني إلى أطيعوا الرسول ما لا يخفى من الحث على الطاعة وإطلاقها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما تقدم للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء
وقوله تعالى فإن تولوا خطاب للمنافقين الذين أمر عليه الصلاة و السلام أن يقول لهم ما سمعت وارد من قبله عز و جل غير داخل في حيز قل على ما اختاره صاحب التقريب وغيره وفيه تأكيد للأمر السابق والمبالغة في إيجاب الإمتثال به والحمل بالترهيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبيء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة بالذات كما هنا والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه عليه الصلاة و السلام للمأمور به إليهم وعدم التصريح للإيذان بغاية مسارعته صلى الله عليه و سلم إلى تبليغ ما أمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمركم الرسول صلى الله عليه و سلم بها فإنما عليه أي على الرسول عليه الصلاة و السلام ما حمل أي ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وعليكم ما حملتم أي ما أمرتم به من الطاعة ولعل التعبير بالتحميل أولا للإشعار بثقل الوحي في نفسه وثانيا للإشعار بثقل الأمر عليهم وقيل : لعل التعبير بذلك في جانبهم للإشعار بثقله وكون مؤنه باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل : وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل والتعبير به في جانبه عليه الصلاة و السلام للمشاكلة والفاء واقعة في جواب الشرط وما بعدها قائم مقام الجواب أو جواب على حد ما في قوله تعالى : وما بكم من
(18/200)

نعمة فمن الله كأنه قيل فإن تتولوا فاعلموا أنما عليه الخ هذا واختار بعضهم دخول الجملة الشرطية في حيز القول قال الطيبي : الظاهر أنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يقول لهم : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا يخاف مضرتهم فكان أصل الكلام قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا بمعنى فما يضرونك شيئا وإنما يضرون أنفسهم على الماضي والغيبة في تولوا فصرف الكلام إلى المضارع والخطاب في تتولوا بحذف إحدى التاءين بمعنى فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم لتكون المواجهة بالخطاب أبلغ في تبكيتهم وجعل ذلك جاريا مجرى الإلتفات وجعله غيره التفاتا حقيقيا من حيث أنهم جعلوا أولا غيبا حيث أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بخطابهم بقل لهم ثم خوطبوا بأن تتولوا استقلالا من الله تعالى لا من رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى أن حمل الآية على الخطاب الإستقلالي الغير الداخل تحت القول أدخل في التبكيت
وفي الأحكام أنه استدل بهذه الآية على أن الأمر للوجوب لأنه تعالى أمر بالإطاعة ثم هدد بقوله تعالى فإن تولوا الخ والتهديد على المخالفة دليل الوجوب وتعقب بأنه لا نسلم أن ذلك للتهديد بل للإخبار وإن سلمنا أنه للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به وليس مهددا على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد عليه وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصيا وبه يدفع أكثر ما ذكره القائلون بالوجوب في معرض الإستدلال على دعواهم فتدبر
وأن تطيعوه فيما أمركم به عليه الصلاة و السلام من الطاعة تهتدوا إلى الحق الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير المنجي عن كل شر ولعل في تقديم الشق الأول وتأخير هذا إشارة إلى أن الترهيب أولى بهم وأنهم ملابسون لما يقتضيه وفي الإرشاد تأخير بيان حكم الإطاعة عن بيان حكم التولي لما في تقديم الترهيم من تأكيد الترغيب وتقريبه مما هو من بابه من الوعد الكريم وقوله تعالى : وما على الرسول إلا البلاغ المبين
54
- اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان على المخاطبين وأل أما للجنس المنتظم صلى الله عليه و سلم انتظاما أوليا أو للعهد أي ما على جنس الرسول كائنا من كان أو ما على رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح أو الواضح في نفسه على أن المبين من أبان المتعدي بمعنى بأن اللازم وقد علمتم أنه عليه الصلاة و السلام قد فعله بما لا مزيد عليه وإنما بقي ما عليكم وقوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومن آمن معه ففي الآية تنويع الخطاب حيث خاطب سبحانه المقسمين على تقدير التولي ثم صرفه تعالى عنهم إلى المؤمنين الثابتين وهو كالإعتراض بناء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى من كون وأقيموا الصلاة عطفا على قوله سبحانه : وأطيعوا الله وفائدته أنه لما أفاد الكلام السابق أنه ينبغي أن يأمرهم بالطاعة كفاحا ولا يخلف مضرتهم أكد بأنه عليه الصلاة و السلام هو الغالب ومن معه فأنى للخوف مجال وإن شئت فاجعله استئنافا جيء به لتأكيد
(18/201)

مايفيده الكلام من نفي المضرة على أبلغ وجه من غير اعتبار كونه اعتراضا فإن في العطف المذكور ما ستسمعه إن شاء الله تعالى ومن بيانية ووسط الجار والمجرور بين جملة آمنوا والجملة المعطوفة عليها الداخلة معها في حيز الصلة أعني قوله تعالى وعملوا الصالحات مع التأخير في قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما قيل للدلالة على أن الأصل في ثبوت الإستخلاف الإيمان ولهذا كان الأصح عدم الإنعزال بالفسق الطاريء ودل عليه صحاح الأحاديث ومدخلية الصلاح في ابتداء البيعة وأما في المغفرة والأجر العظيم فكلاهما أصل فكان المناسب التأخير وقد يقال : إن ذلك لتعجيل مسرة المخاطبين حيث أن الآية سيقت لذلك وقيل : الخطاب للمقسمين والكلام تتميم لقوله تعالى : وإن تطيعوه تهتدوا ببيان ما لهم في العاجل من الإستخلاف وما يترتب عليه وفي الآجل ما لا يقادر قدره على ما أدمج في قوله سبحانه : لعلكم ترحمون والجار للتبعيض وأمر التوسيط على حاله ولم يرتضه بعض الأجلة لأن آمنوا إن كان ماضيا على حقيقته لم يستقم إذ لم يكن فيهم من كان آمن حال الخطاب وإن جعل بمعنى المضارع على المألوف عن أخبار الله تعالى فمع نبوه عن هذا المقام لم يكن دليلا على صحة أمر الخلفاء ولم يطابق الواقع أيضا لأن هؤلاء الأجلاء لم يكن من بعضهم من آمن من أولائك المخاطبين ولا كان في المقسمين من نال الخلافة انتهى وفيه شيء ولعله لا يضر بالغرض وارتضى أبو السعود تعلق الكلام بذلك وادعى أنه استئناف مقرر لما في قوله تعالى : وإن تطيعوه تهتدوا الخ من الوعد الكريم معرب عنه بطريق التصريح ومبين لتفاصيل ما أجمل فيه من فنون السعادات الدينية والدنيوية التي هي آثار الإهتداء ومتضمن لما هو المراد بالطاعة التي نيط بها الإهتداء وأن المرد بالذين آمنوا كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أي طائفة كان وفي أي وقت كان لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ضرورة عموم الوعد الكريم وأن الخطاب ليس للرسول عليه الصلاة و السلام ومن معه من المؤمنين المخلصين أو من يعمهم وغيرهم من الأمة ولا للمنافقين خاصة بل هو لعامة الكفرة وأن من للتبعيض وقال في نكتة التوسيط : إنه لإظهار إصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم وأهم ما يجب عليهم وأما التأخير في آية سورة الفتح فلان من هناك بيانية والضمير للذين معه عليه الصلاة و السلام من خلص المؤمنين ولا ريب في أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة مثابرون عليها فلا بد من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها انتهى
وأنت تعلم أن كون الخطاب لعامة الكفرة خلاف الظاهر وحمل الفعل الماضي على ما يعم الماضي والمستقبل كذلك وفيما ذكره أيضا بعد عن سبب النزول فقد أخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لايبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى فنزلت وعد الله الذين آمنوا منكم الآية ولا يتأتى معه الإستدلال بالآية على صحة أمر الخلفاء أصلا ولعله لا يقول به ويستغنى عنه بما هو أوضح دلالة وعن ابن عباس ومجاهد عامة في أمة محمد صلى الله عليه و سلم وأطلقا الأمة وهي تطلق على أمة الإجابة وعلى أمة الدعوة لكن
(18/202)

الأغلب في الإستعمال الإطلاق الأول فلا تغفل وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم ليستخلفنهم في الأرض أي ليجعلهم خلفاء ماصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب زقيل مأواه عليه الصلاة و السلام من مشارق الأرض ومغاربها ففي الصحيح زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد الله الذين آمنوا استخلافهم وأقسم ليستخلفنهم ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق إنجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون ليستخلفنهم منزل منزلة المفعول فلا حذف
وما في قوله تعالى كما استخلف مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه الذين من قبلهم وهم بنو إسرائيل استخلفهم الله عز و جل في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها أو هم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم الله تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين
وقريء كما استخلف بالبناء للمفعول فيكون التقدير ليستخلفنهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافا أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم عطف على ليستخلفنهم والكلام فيه كالكلام فيه وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للإستخلاف المذكور
وقيل : لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصير المواعيد في الإستمالة أدخل والتمكين في الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بأن يعلي سبحانه شأنه ويقوي بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجل والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكون بحيث ييأسون من التجميع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرا بعد عين
وقيل : المعنى ليجعله مقررا ثابتا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون وأصل التمكين جعل الشيء مكانا لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الإستخلاف في الأرض انتهى وفيه بحث وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى : الذي ارتضى لهم وتأخيره عن الوصف من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه وليبدلنهم بالتشديد وقرأ ابن كثير وابن بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال وأخرج ذلك عبد ابن حميد عن عاصم وهو عطف على ليستخلفنهم أو ليمكنن من بعد خوفهم بمقتضى البشرية في الدنيا
(18/203)

من أعدائهم في الدين أمنا لايقادر قدره وقيل : الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة وإلا من في الاخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول
وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل
يعبدونني جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال ما من الذين الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الآتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الإستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في ليستخلفنهم أو في ليبدلنهم وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الإستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد وقوله تعالى : لا يشركون بي شيئا حال من الواو في يعبدونني أو من الذين أو يدل من الحال أو استئناف ونصب شيئا على أنه مفعول به أي شيئا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه : يعبدونني لا يشركون بي شيئا لا يخافون أحدا غيري وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه ولعلهما أرادا بذلك تفسيير لا يشركون بي شيئا وكأنهما عدا خوف غير الله تعالى نوعا من الإشراك واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل : يعبدونني غير خائفين أحدا غيري وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع يعبدونني لا يشركون الخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة يعبدونني الخ استئناف لبيان ما يصلون إليه في الأمن كأنه قيل : يأمنون إلي حيث لا يخافون أحدا غير الله تعالى ولا يخفى ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في يعبدونني ولا يشركون بي دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة
ومن كفر أي ومن ارتد من المؤمنين بعد ذلك أي بعد حصول الموعود به فأولئك المرتدون البعداء عن الحق هم الفاسقون
55
- أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ ولا كجناح بعوضة وقيل : كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكمالهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها وقيل : ذلك إشارة إلى الوعد السابق نفسه وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الإهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث أنه لا يبقى بعد حصوله عذر لمن يرتد وقوة مناسبته للمقام لا تخفى وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال : كنت جالسا مع حذيفة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فقال حذيفة : ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال : بم تقول قال : بهذه الآية وعد الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات إلى آخر
(18/204)

الآية وكأن ضحك ابن مسعود كان استغرابا لذلك وسكوته بعد الإستدلال ظاهر في ارتضائه لما فهمه معدن سر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الآية و من تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية وجملة من كفر الخ قيل معطوفة على جملة وعد الله الخ أو على جملة محذوفة كأنه قيل : من آمن فهم الفائزون ومن كفر الخ وقيل : إن هذه الجملة وكذا جملة يعبدونني استئناف بياني أما ذلم في الأولى فالسؤال ناشيء من قوله تعالى : وعد الله الخ فكأنه قيل : فما ينبغي للمؤمنين بعد هذا الوعد الكريم أو بعد حصوله فقيل : يعبدونني لا يشركون بي شيئا وأما في الثانية فالسؤال ناشيء من الجواب المذكور فكأنه قيل فإن لم يفعلوا فماذا فقيل : ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وجزاؤهم معلوم وهو كما ترى
هذا واستدل كثير بهذه الآية على صحة خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم لأن الله تعالى وعد فيها من في حضرة الرسالة من المؤمنين بالإستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء ولا بد من وقوع ما وعد به ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى ولم يقع المجموع إلا في عهدهم فكان كل منهم خليفة حقا باستخلاف الله تعالى إياه حسبما وعد جل وعلا لا يلزم عموم الإستخلاف لجميع الحاضرين المخاطبين بل وقوعه فيهم كبنو فلان قتلوا فلانا فلا ينافي ذلك عموم الخطاب الجميع وكون من بيانية وكذا لا ينافيه ما وقع في خلافة عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما من الفتن لأن المراد من الأمن الأمن من أعداء الدين وهم الكفار كما تقدم
وأقامها بعض أهل السنة دليلا على الشيعة في اعتقادهم عدم صحة خلافة الخلفاء الثلاثة ولم يستدل بها على صحة خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه لأنها مسلمة عند الشيعة والأدلة كثيرة عند الطائفتين على من ينكرها من النواصب عليهم من الله تعالى ما يستحقون فقال : إن الله تعالى وعد فيها جمعا من المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت نزولها بما وعد من الإستخلاف وما معه ووعده سبحانه الحق ولم يقع إلا في عهد الثلاثة والإمام المهدي لم يكن موجودا حين النزول قطعا بالإجماع فلا يمكن حمل الآية على وعده بذلك والأمير كرم الله تعالى وجهه وإن كان موجودا إذ ذاك لكن لم يرج الدين المرضي كما هو حقه في زمانه رضي الله تعالى عنه بزعم الشيعة بل صار أسوأ حالا بزعمهم مما كان في عهد الكفار كما صرح بذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام بل كل كتب الشيعة تصرح بأن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم ويظهرون دين المخالفين تقية ولم يكن الأمن الكامل حاصلا في زمانه رضي الله تعالى عنه فقد كان أهل الشام ومصر والمغرب ينكرون أصل إمامته ولا يقبلون أحكامه وهم كفرة بزعم الشيعة وأغلب عسكر الأمير يخافون ويحذرون غاية الحذر منهم ومع هذا الأمير فرد فلا يمكن إرادته من الذين آمنوا ليكون هو رضي الله تعالى عنه مصداق الآية كما يزعمون فإن حمل لفظ الجمع على واحد خلاف أصولهم إذ أقل الجمع عندهم ثلاثة أفرد وأما الأئمة الآخرون الذين ولدوا بعد فلان احتمال لإرادتهم من الآية إذ ليسوا بموجودين حال نزولها ولم يحص لهم التسلط في الأرض ولم يقع رواج دينهم المرتضي لهم وما كانوا آمنين بل كانوا خائفين من أعداء الدين متقين منهم كما أجمع الشيعة فلزم أن الخلفاء الثلثة هم مصداق الآية فتكون خلافتهم حقة وهو المطلوب
(18/205)

وزعم الطبرسي أن الخطاب للنبي وأهل بيته صلى الله عليه و سلم فهم الموعودن بالإستخلاف وما معه ويكفي في ذلك تحقق الموعود في زمن المهدي رضي الله تعالى عنه ولا ينافي ذلك عدم وجوده عند نزول الآية لأن الخطاب الشفاهي لا يخص الموجودي وكذا لا ينافي عدم حصوله للكل لأن الكلام نظير بنو فلان قتلوا فلانا واستدل على ذلك بما روي العياشي بإسناده عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الآية فقال : هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا
وزعم أنه روي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وهذا على ما فيه مما يأباه السياق والأخبار الصحيحة الواردة في سبب النزول وأخبار الشيعة لا يخفى حالها لا سيما على من وقف على التحفة الأثني عشرية نعم ورد من طريقنا ما يستأنس به لهم في هذا المقام لكنه لا يعول عليه أيضا مثل أخبارهم وهو ما أخرجه عبد بن حميد عن عطية أنه عليه الصلاة و السلام قرأ الآية فقال : أهل البيت ههنا وأشار بيده إلى القبلة وزعم بعضهم نحو ما سمعت عن الطبرسي إلا أنه قال : هي في حق جميع أهل البيت علي كرم الله تعالى وجهه وسائر الأئمة الأثني عشر وتحقق ذلك فيهم زمن الرجعة حين يقوم القائم رضي الله تعالى عنه وزعم أنها أحد أدلة الرجعة وهذا قد زاد في الطنبور نغمة وقال الملا عبد الله المشهدي في كتابه إظهار الحق لإبطال الإستدلال بها على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة : يحتمل أن يكون الإستخلاف بالمعنى اللغوي وهو الإتيان بواحد خلف آخر أي بعده كما في قوله تعالى في حق بني إسرائيل عسى ربكم أن يعلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فقصارى ما يثبت أنهم خلفاء بالمشي اللغوي وليس النزاع فيه بل هو في المعنى الإصطلاحي وهو معنى مستحدث بعد رحلة النبي صلى الله عليه و سلم أه
وأجيب بأنه لو تم هذا لا يتم لهم الإستدلال على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بالمعنى المصطلح بحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى المعتضد بما حكاه سبحانه عن موسى عليه السلام من قوله لهارون أخلفني في قومي وبما يرونه من قوله صلى الله عليه و سلم : يا علي أنت خليفتي من بعدي وكذا لا يتم لهم الإستدلال على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه بما تضمن لفظ الإمام لأنه لم يستعمل في الكتاب المجيد بالمعنى المصطلح أصلا وإنما استعمل بمعنى النبي والمرشد والهادي والمقتدي به في أمر خيرا كان أو شرا ومتى ادعى فهم المعنى المصطلح من ذلك بطريق اللزوم فليدع فهم المعنى المصطلح من الخليفة كذلك وربما يدعى أن فهمه منه أقوى لأنه مقرون حيث وقع في الكتاب العزيز بلفظ في الأرض الدال على التصرف العام الذي هو شأن الخليفة بذلك المعنى على أن مبنى الإستدلال على خلافة الثلاثة بهذه الآية ليس مجرد لفظ الإستخلاف حتى يتم غرض المناقش فيه بل ذلك مع ملاحظة إسناده إلى الله تعالى وإذا أسند الإيتخلاف اللغوي إلى الله عز و جل فقد صار استخلافا شرعيا وقد يستفتي في هذه المسئلة من علماء الشيعة فيقال : إن إتيان بني إسرائيل بمكان آل فرعون والعمالقة وجعلهم متصرفين في أرض مصر والشام هل كان حقا أولا ولا أظنهم يقولون إلا أنه حق وحينئذ يلزمهم أن يقولوا به في الآية لعدم الفرق وبذلك يتم الغرض هذا حاصل ما قيل في هذا المقام
(18/206)

والذي أميل إليه أن الآية ظاهرة في نزاهة الخلفاء الثلاثة رضي الله تعالى عنهم عما رماهم للشيعة به من الظلم والجود والتصرف في الأرض بغير الحق لظهور تمكين الدين والأمن من أعدائه في زمانهم ولا يكاد يحسن الإمتنان بتصرف باطل عقباه العذاب الشديد وكذا ى يكاد يحسن الإمتنان بما تضمنته الآية على أهل عصرهم مع كونهم الرؤساء الذين بيدهم الحل والعقد لو كانوا وحاشاهم كما يزعم الشيعة فيهم ومتى ثبت بذلك نزاهتهم عما يقولون اكتفينا به وهذا لا يتوقف إلا على اتصافهم بالإيمان والعمل الصالح حال نزول الآية وإنكار الشيعة له إنكار للضروريات وكون المراد بالآية عليا كرم الله تعالى وجهه أو المهدي رضي الله تعالى عنه أو أهل البيت مطلقا مما لا يقوله منصف
وفي كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه ما يقتضي بسوقه خلاف ما عليه الشيعة ففي نهج البلاغة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما استشار الأمير كرم الله تعالى وجهه لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال له : إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله تعالى الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا والله تعالى منجز وعده وناصر جنده ومكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالإجتماع فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أظرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك وكان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطعمهم فيك فأما ما ذكرت من عددهم فأنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما نقاتل بالنصر والمعونة أه فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول جوز أن يكون عطفا على أطيعوا الله داخلا معه في حيز القول والفاصل ليس بأجنبي من كل وجه فإنه وعد على المأمور به وبعضه من تتمته وفي الكشاف ليس ببعيد أن يقطع بين المعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه والفاصل يؤكد المغايرة ويرشحها لأن المجاورة مظنة الإتصال والإتحاد في تكرير الأمر بإطاعة الرسول عليه الصلاة و السلام للتأكيد وأكيد دون الأمر بطاعة الله تعالى لما أن في النفوس لا سيما نفوس العرب من صعوبة الإنقياد للبشر ما ليس فيها صعوبة الإنقياد لله تعالى ولتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه وهي الجمل الواقعة في حيز القول بقوله تعالى لعلكم ترحمون
56
- كما علق الإهتداء بالإطاعة في قوله تعالى وإن تطيعوه تهتدوا والإنصاف إن هذا العطف بعيد بل قال بعضهم : إنه مما لا يليق بجزالة النظم الكريم
وجوز أن يكون عطفا على يعبدونني وفيه تخصيص بعد التعميم وكان الظاهر أن يقال يعبدونني لا يشركون بي شيئا ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الرسول لعلهم يرحمون لكن عدل عن ذلك إلى ما ذكر التفاتا إلى الخطاب لمزيد الإعتناء وحسنه هنا الخطاب في منكم وتعقب بأنه مما لا وجه له لأنه بعد تسليم الإلتفات وجوزا عطف الإنشاء على الأخبار لا يناسب ذلك وكون الجملة السابقة حالا أو
(18/207)

استئنافا بيانيا والذي اختاره كونه عطفا على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإنه سبحانه لما ذكر ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون فهم النهي عن الكفر فكأنه قيل : فلا تكفروا وأقيموا الصلاة الخ
وجوز أن يكون انفهام المقدر من مجموع ما تقدم من قوله تعالى قل أطيعوا الله الخ حيث أنه يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح فكأنه قيل فآمنوا واعملوا الصالحات وأقيموا الخ وجوز في أطيعوا أن يكون أمرا بإطاعته صلى الله عليه و سلم بجميع الأحكام الشرعية المنتظمو للآداب المرضية وأن يكون أمرا بالإطاعة فيما عدا الأمرين السابقين فيكون ذكره لتكميلهما كأنه قيل : وأطيعوا الرسول في سائر ما يأمركم به وقوله تعالى لعلكم الخ متعلق بالأوامر الثلاثة وجعل على الأول متعلقا بالأحير وقوله تعالى لا تحسبن الذين كفروا الخ بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة بعد بيان تناهيهم في الفسق وفوز أضدادهم بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين وفي ذلك أيضا رفع استبعاد تحقق الوعد السابق مع كثرة عدد الكفرة وعددهم والخطاب لكل من يتأتى منه الحسبان نظير ما في قوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناسكوا رؤسهم
وجوز أن يكون للرسول صلى الله عليه و سلم على سبيل التعريض بمن صدر منه ذلك كقوله :
إياك أعني فاسمعي يا جاره
أو الإشارة إلى أن الحسبان المذكور بلغ في القبح المحذورية إلى حيث ينهى من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يمكن ذلك منه كما قيل في قوله تعالى فلا تكونن من المشركين فقول أبي حيان : إن جعل الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم ليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه منه عليه الصلاة و السلام ليس بجيد لما فيه من الغفلة عما ذكر ومحل الموصول نصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى معجزين ثانيهما وقوله تعالى في الأرض ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المقصود بالنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك غني عن البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز لجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب وقرأ حمزة وابن عامر يحسبن بالياء آخر الحروف على أن الفاعل كل أحد كأنه قيل لا يحسبن حاسب الكافرين معجزين له عز و جل في الأرض أو ضميره صلى الله عليه و سلم لتقدم ذكره عليه الصلاة و السلام في قوله تعالى وأطيعوا الرسول وإليه ذهب أبو علي
وزعم أبي حيان أنه ليس بجيد لما تقدم ليس بجيد لما تقدم أو ضمير الكافر أي لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين ونقل ذلك عن علي بن سليمان أو الموصول والمفعول الأول محذوف كأنه قيل : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض وذكر أن الأصل على هذا لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث وتعقبه في البحر بأن هذا الضمير ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يجوز كون الأصل لا يحسبهم الذين الخ كما لا يجوز ظنه زيد قائما وقال الكوفيون معجزين المفعول الأول و 0 في الأرض المفعول الثاني والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله تعالى في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك قال الزمخشري : وهذا معنى قوي جيد وتعقب بأنه بمعزل عن المطابقة لمقتضى المقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض ورد بأنه وإن كان
(18/208)

مصب الفائدة جعل مفروغا منه وإنما المطلوب بيان المحل أي لا يعجزوه سبحانه في الأرض والإنصاف أن ما ذكر خلاف الظاهر والظاهر إنما هو تعلق في الأرض بمعجزين وأيا ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفا ومن ذلك يعلم ما في قول النحاس ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطيء قراءة حمزة فمنهم من يقول : هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن ومنهم من قال هذا أبو حاتم انتهى من قلة الوقوف ومزيد الهذيان والجسارة على الطعن في متواتر من القرآن ولعمري لو كانت القراءة بالرأي لكان اللائق بمن خفي عليه وجه قراءة حمزة أن لا يتكلم بمثل ذلك الكلام ويتهم نفسه ويحجم عن الطعن في ذلك الإمام وقوله تعالى ومأواهم النار عطف على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهي عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل الذين كفروا معجزين ومأواهم النار
وجوز أن يكون عطفا على مقدر لأن الأول وعيد الدنيا كأنه قيل فهم مقهورون في الدنيا بالإستئصال ومخزون في الآخرة بعذاب النار وعن صاحب النظم تقديره بل هم مقدور عليهم ومحاسبون ومأواهم النار
قال في الكشف : وجعله حالا على معنى لا ينبغي الحسبان لمن مأواه النار كأنه قيل أنى للكافر هذا الحسبان وقد أعد له النار والعدول إلى ومأواهم النار للمبالغة في التحقق وأن ذلك معلوم لهم لا ريب وجه حسن خال عن كلف الكلفة ألم به بعض الأئمة انتهى ولا يخفى أن في ظاهره ميلا إلى بعض تخريجات قراءة يحسبن بياء الغيبة
وتعقب في البحر تأويل جملة النهي لتصحيح العطف عليها بقوله : الصحيح أنه يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضا على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه والمأوى اسم مكان وجوز فيه المصدرية والأول أظهر وقوله تعالى ولبئس المصير
57
- جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وبالله لبئس المصير هي أي النار والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصيرا لهم أثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة ما لا غاية وراءه فلله تعالى در شأن التنزيل
يا أيها الذين آمنوا الخ رجوع عند الأكثرين إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الإمتثال بالأوامر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد وفي التحقيق ويحتمل أن يقال : أنه مما يطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فيه وتخصيصه بالذكر لأن دخوله في الطاعة باعتبار أنه من الآداب أبعد من غيره والخطاب إما للرجال خاصة والنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين تغليبا واعترض الأول بأن الآية نزلت بسبب النساء فقد روي أن أسماء بنت أبي مرئد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت وقد ذكر في الإتقان أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي
وأجيب بأنه ما المانع من أن يعلم الحكم في السبب بطريق الدلالة والقياس الجلي ويكون ذلك في حكم الدخول ونقل عن السبكي أنه ظني فيجوز إخراجه وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول ثم ما ذكر في سبب النزول ليس مجمعا عليه فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله تعالى
(18/209)

عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج وكان رضي الله تعالى عنه نائما فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله تعالى عنه للوحي وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات فيغتسلوا ثم يخرجون إلى الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ويعلم منه أن الأمر في قوله سبحانه ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم وإن كان في الظاهر للمملوكين والصبيان لكنه في الحقيقة للمخاطبين فكأنهم أمروا أن يامروا المذكورين بالإستئذان وبهذا ينحل ما قيل : كيف يأمر الله عز و جل من لم يبلغ الحلم بالإستئذان وهو تكليف ولا تكليف قبل البلوغ وحاصله أن الله تعالى لم يأمره حقيقة وإنما أمر سبحانه الكبير أن يأمره بذلك كما أمره أن يأمره بالصلاة فقد روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وأمره بما ذكر ونحوه من باب التأديب والتعليم ولا إشكال فيه وقيل : الأمر للبالغين من المذكورين على الحقيقة ولغيرهم على وجه التأديب وقيل : هو للجميع على الحقيقة والتكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ فالمراد لم يبلغوا الحلم المميزون من الصغار وهم كما ترى واختلف في هذا الأمر فذهب بعض إلى أنه للوجوب وذهب الجمهور إلى أنه للندب وعلى القولين هو محكم على الصحيح وسيأتي تمام الكلام في ذلك والجمهور على عموم الذين ملكت أيمانكم في العبيد والإماء الكبار والصغار وعن ابن عمر ومجاهد أنه خاص بالذكور كما هو ظاهر الصيغة وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقال السلمي : إنه خاص بالإناث وهو قول غريب لا يعول عليه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تخصيصه وهو الخلاف الظاهر جدا والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان ذكورا وإناثا على ما يقتضيه ما مر في سابقه عن الجمهور وخص بالمراهقين منهم و منكم لتخصيصهم بالأحرار ويشعر به المقابلة أيضا
وفي البحر هو عام في الأطفال عبيدا كانوا أو أحرارا وكني عن القصور عن درجة البلوغ بما ذكر لأن الإحتلام أقوى دلائله وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا احتلم الصبي فقد بلغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة في المشهور : لا يكون بالغا حتى يتم له ثماني عشرة سنة وكذا الجارية إذا لم تحتلم أو لم تحض أو لم تحبل لا تكون بالغة عنده حتى يتم لها سبع عشرة سنة ودليله قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأشد الصبي كما روي عن ابن عباس وتبعه القتبي ثماني عشرة سنة وهو أقل ما قيل فيه فيبني الحكم عليه للتيقن به غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقص في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة وقال صاحباه والشافعي وأحمد : إذا بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن الإمام رضي الله تعالى عنه أيضا وعليه الفتوي
ولهم أن العادة الفاشية أن لا يتأخر البلوغ فيهما عن هذه المدة وقيدت العادة بالفاشية لأنه قد يبلغ الغلام في اثنتي عشرة سنة وقد تبلغ الجارية في تسع سنين واستدل بعضهم على ما تقدم بما روي ابن عمر رضي الله تعالى
(18/210)

عنهما أنه عرض على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه عليه الصلاة و السلام يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه واعترض واعترض أبو بكر الرازي على ذلك بأن أحدا كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يصح ما ذكر في الخبر وأيضا لا دلالة فيه على المدعي لأن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ فقد لا يؤذن البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته وقدرته على حمل السلاح
ولعل عدم إجازته عليه الصلاة و السلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أولا إنما كان لضعفه ويشعر بذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما سأله عن الإحتلام والسن ومما تفرد به الشافعي رضي الله تعالى عنه على ما قيل جعل الإنبات دليلا على البلوغ واحتج له بما روي عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال : فنظروا إلى فلم أكن قد أنبت فاستبقاني صلى الله عليه و سلم وتعقبه أبو بكر الرازي بأن هذا الخبر لا يجوز إثبات الشرع بمثله فإن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر وأيضا هو مختلف الألفاظ ففي بعض رواية أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من جرت عليه المواسي وأيضا يجوز أن يكون الأمر بقتل من أنبت ليس لأنه بالغ بل لأنه قوي فإن الإنبات يدل على القوة البدنية وانتصر للشافعي بأن الإحتمال مردود بما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن غلام فقال : هل اخضر إزاره فإنه يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم المشهور عن الشافعي عليه الرحمة جعل ذلك دليلا على البلوغ في حق أطفاء الكفار وتكلف الشاغعية في الإنتصار له ورد التشنيع عليه بما لا يخفى ما فيه على من راجعه
ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود يقتص له ويقتص منه
وعن ابن سيرين عن أنس قال : أتى أبو بكر رضي الله تعالى عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله يمدح يزيد بن المهلب : ما زال مذ عقدت يداه إزاره وسما فادرك خمسة الأشبار يدني كتائب من كتائب تلتقي بالطعن يوم تجاول وغوار وأكثر الفقهاء لا يقولون به لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلا وفوق البلوغ ويكون قصيرا فلا عبرة بذلك ولعل الأخبار السابقة لا تصح وما نقل عن الفرزدق لا يتعين إرادة البلوغ فيه ومن الناس من قال : إنه أراد بخمسة الأشبار القبر كما قال الآخر : عجبا لأربع أذرع في خمسة في جوفه جبل أشم كبير هذا وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية الحلم بسكون اللام وهي لغة تميم وذكر الراغب أن الحلم بالضم والحلم السكون كلاهما مصدر حلم في نومه بكذا بالفتح إذا رآه في المنام يحلم بالضم ولم يخص ذلك بلغة دون أخرى وعن بعضهم عد حلما بالفتح مصدرا لذلك أيضا وفي الصحاح الحلم بالضم ما يراه النائم تقول منه : حلم بالفتح واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضا فيتعدى بالباء وبنفسه قال : فحلمتها وبنور فيدة دونها لايبعدن خيالها المحلوم والحلم بكسر الحاء الإناة تقول منه : حلم الرجل بالضم إذا صار حليما وفي القاموس الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام ثم قال : وحلم به وعنه رأى له رؤيا أو رآه في النوم والحلم بالضم والإحتلام الجماع في النوم
(18/211)

والاسم الحلم كعنق والحلم بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم أه والظاهر أن ما نحن فيه بمعنى الجماع في النوم وهو الإحتلام المعروف ووجه الكناية السابقة عليه ظاهر
وقال الراغب : الحلم زمان البلوغ وسمي الحلم لكونه جديرا صاحبه بالحلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجات الغضب وفي النفس منه شيء ثلاث مرات أي ثلاث أوقات في اليوم والليلة والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار طلب الإستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها فنصب ثلاث مرات على الظرفية للإستئذان وهو الذي ذهب إليه الجمهور ويدل على ما ذكر قوله تعالى : من قبل صلاة الفجر الخ فإن الظاهر أنه في محل النصب أو الجر كما قيل أنه بدل من ثلاث أو من مرات بدل مفصل من مجمل
وجوز أن يكون في محل الرفع علىأنه خبر لمبتدأ محذوف أي أحدها من قبل الخ وهو أيضا يدل على ما ذكرنا واختار في البحر أن المعنى ثلاث استئذانات كما هو الظاهر فإنك إذا قلت : ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة و السلام الإستئذان ثلاث وعليه يكون ثلاث مرات مفعولا مطلقا للإستئذان و من قبل الخ ظرف له وشرع الإستئذان من قبل صلاة الفجر لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة وكل ذلك مظنة انكشاف العورة وأيضا كثيرا ما يجنب الشخص ليلا فيغتسل في ذلك الوقت ويستحي من الإطلاع عليه في تلك الحالة ولو مستور العورة وحين تضعون ثيابكم أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتحطونها عنكم من الظهيرة بيان للحين والظهيرة كما قال الراغب وقت الظهر وفي القاموس هي حد انتصاف النهار أو إنما ذلك في القيظ
وجوز أن تكون من أجلية والكلام على حذف مضاف أي وحين تضعون ثيابكم من أجل الظهيرة وفسر بعضهم الظهيرة بشدة الحر عند انتصاف النهار فلا حاجة إلى الحذف و حين عطف على من قبل وهو ظاهر على تقدير كونه في محل نصب وأما على التقديرين الآخرين فيلتزم القول ببناء حين على الفتح وإن أضيف إلى مضارع كما قيل في قوله تعالى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم على قراءة فتح ميم يوم والتصريح بمدار الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون ما قبل وما بعد لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبيء عنه إيراد الحين مضافا إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والإطراد بمنزلة ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق المدار فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به
ومن بعد صلاة العشاء ضرورة أنه وقت التجرد عن لباس اليقظة والإلتحاف بثياب النوم وكثيرا ما يتعاطى فيه مقدمات الجماع وإن كان الأفضل تأخيره لمن لا يغتسل على الفور إلى آخر الليل ويعلم مما ذكر في حيز بيان حكمة مشروعية الإستئذان في الوقت الأول والوقت الأخير أن المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين ليبس مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين صلاة الفجر وصلاة العشاء بل المراد بهما طرفا ذلك الوقت الممتد المتصلان اتصالا عاديا بالصلاتين المذكورتين وعدم التعرض للأمر بالإستئذان في الباقي
(18/212)

من الوقت الممتد إما لانفهامه بعد الأمر بالإستئذان في الأوقات المذكورة من باب الأولى وأما لندرة الوارد فيه جدا كما قيل وقيل إن ذاك لجريان العادة على أن من ورد فيه لا يرد حتى يعلم أهل البيت لما في الورود ودخول البيت فيه من دون إعلام أهله من التهمة ما لا يخفى
وقوله تعالى ثلاث عورات خبر لمبتدأ محذوف وقوله سبحانه لكم متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب : من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة والكلام على حذف مضاف أي هن أوقات يختل فيها التستر عادة وقدر أبو البقاء المضاف قبل ثلاث فقال : أي هي أوقات ثلاث عورات أولا حذف فيه وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الإستئذان في تلك الأوقات
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي ثلاث بالنصب على أنه بدل من ثلاث مرات وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأوقات المذكورة وكونه منصوبا بإضمار أعني وقرأ الأعمش عورات بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة وبني تميم ليس عليكم ولا عليهم أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم جناح أي في الدخول بغير استئذان بعدهن أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفيه حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان الفعل المكلف كذا في إرشاد العقل السليم وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر
وكان الظاهر أن يقال : ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهرا فيما تقدم بالإستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر ههنا أن يقال : ليس عليكم جناح بعدهن مقتصرا عليه ولعل اختيار ما في النظم الجليل لرعاية المبالغة في الإذن بترك الإستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفى الجناح عن المأمورين به فيها ظاهرا وحقيقة
والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي
وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة
(18/213)

ويرد على القول بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم بحث لا يخفى والتزم في الجوام كون المراد بالجناح لإثم العرفي الذي مرجعه ترك الأولى وإلا خلق من حيث المروءة والأدب وجواز ثبوت ذلك للمكلف وغير المكلف مما لا كلام فيه فكأن المعنى ليس عليكم أيها المؤمنون جناح في دخولهم عليكم بعدهن لترككم تعليمهم وتمكينكم إياهم منه المفضي إلى الوقوف على ما تأتي المروءة والغيرة الوقوف عليه ولا عليهم جناح في ذلك لإخلالهم بالأدب المفضي إلى الوقوف على ما تكره ذوو الطباع السليمة الوقوف عليه وينفعلون منه ولا يأبى ذلك تقدم الأمر السابق ولا ما في الإرشاد من بيان نكتة إيراد العورات الثلاث بعنوان البعدية بما سمعت فتدبر فإنه دقيق
وذهب بعضهم إلى قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها منسوخ بهذه الآية حيث دلت على جواز الدخول بدون استئذان بعد الأوقات الثلاث ودل ذلك على خلافه ومن لم يذهب إليه قال : إنها في الصبيان وومماليك المدخول عليه وآية الإستئذان في الأحرار البالغين ومماليك الغير في حكمهم فلا منافاة ليلتزم النسخ ثم اعلم أن نفي الجناح بعدهن على من ذكر ليس على عمومه فإنه متى تحقق أو ظن كون أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين من الأحرار عليها كانكشاف عورة أحدهم ومعاشرته لزوجته أو أمته إلى غير ذلك لا ينبغي الدخول عليهم بدون استئذان سواء كان ذلك في إحدى العورات الثلاث أو في غيرها والأمر بالإستئذان فيها ونفي الجناح بعدها بناء على العادة الغالبة من كون أهل البيت في الأوقات الثلاث المذكورة على حال يقتضي الإستئذان وكونهم على حال لا يقتضيه في غيرها
هذا وفي الآية توجيه آخر ذكره أبو حيان وظاهر صنيعه اختياه وعليه اقتصر أبو البقاء وهو أن التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهم فيهن فحذف الفاعل وحرف الجر فبقي استئذانهن ثم حذف المصدر فصار بعدهن وعليه تقل مؤمنة الكلام في الآية إلا أنه خلاف الظاهر جدا والجمهور على ما سمعت أولا في معناها والظاهر أن الجملة على القرائتين السابقتين في ثلاث مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها وفي الكشاف أنها إذا رفع ثلاث كانت في حل رفع على الوصف والمعنى هن ثلاث مخصوصة بالإستئذان وإذا نصب لم يكن لها محل وكانت كلاما مقررا للإستئذان في تلك الأحوال خاصة وقال في ذلك صاحب التقرير : إن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه فإذا وصف به ثلاث عورات نصبا وهو بدل من ثلاث مرات كان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات مخصوصة بالإستئذان ويدفعه وجوه مستفادة من علم المعاني أحدهما اشتراط تقدم علم السامع بالوصف وهو منتف إذا لم يعلم إلا من هذا والثاني جعل الحكم المقصود وصفا للظرف فيصير غير مقصود والثالث أن الأمر بالإستئذان في المرات الثلاث حاصل وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف فيضيع الوصف وأما إذا وصف المرفوع فيزول الدوافع لأنه ابتداء تعليم أي هن ثلاث مخصوصة بالإستئذان وصفة للخبر المقصود ولم يتقيد أمر الإستئذان به فليتأمل فإنه دقيق جليل انتهى وتعقب بأن الوجهين الأخيرين ساقطان لا طائل تحتهما والأول هو الوجه فإن قيل : هو مشترك الإلزام قيل : قد تقدم في قوله تعالى ليستأذنكم ما يرشد إلى العلم بذلك وليست الجملة الأخيرة من أجزائه كما هي كذلك على فرض جعلها صفة للبدل ولا يحتاج مع هذا إلى حديث أن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصودة في نفسه بل قيل هو في نفسه ليس بشيء فقد قال الطيبي : إن المقصود الأولى الإستئذان في الأوقات المخصوصة ورفع الحرج في غيرها
(18/214)

تابع له لقول المحدث رضي الله تعالى عنه لوددت أن الله عز و جل نهى آباءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقد نزلت الآية وفي الكشف أنه جيء أي بالكلام الدال على رفع الحرج أعني ليس عليكم الخ على رفع ثلاث مؤكدا للسالف على طريق الطرد والعكس وكذلك إذا نصب وجعل استئنافا وأما إذا جعل وصفا فيفوت هذا المعنى وهذا أيضا من الدوافع انتهى فتأمل ولا تغفل
وقوله تعالى طوافون عليكم خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون والجملة استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الإستئذان وهو المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة وفيه دليل على تعليل الأحكام الشرعية وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاث وغيرها بأنها عورات وقوله عز و جل بعضكم على بعض جوز أن يكون مبتدأ وخبرا ومتعلق الجار كون خاص حذف لدلالة ما قبله عليه أي بعضكم طائف على بعض وجوز أن يكون معمولا لفعل محذوف أي يطوف بعضكم على بعض وقال ابن عطية بعضكم بدل من طوافون وتعقبه في البحر بأنه إن أراد أنه بدل من طوافون نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم بعضكم على بعض وهو معنى لا يصح وإن أراد أنه بدل من الضمير فيه فلا يصح أيضا إن قدر الضمير غيبة لتقديرهم لأنه يصير التقدير هم يطوف بعضكم على بعض وإن جعل التقدير أنتم يطوف عليكم بعضكم على بعض فيدفعه أن عليكم يدل على أنهم هم المطوف عليهم وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فيتعارضان وقيل : يقدر أنتم طوافون ويراد بأنتم المخاطبون والغيب من المماليك والصبيان وهو كما ترى وجوز أبو البقاء كون الجملة بدلا من التي قبلها وكونها مبنية مؤكدة ولا يخفى عليكم ما تضمنته من جبر قلوب المماليك بجعلهم بعضا من المخاطبين وبذلك يقوي أمر العلية وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير عليهم كذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعد على ما مر تفصيله في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وفي غيره أيضا أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما فيه نفعكم وصلاحكم أي ينزلها مبينة واضحة الدلالة لا أنه سبحانه يبينها بعد أن لم تكن كذلك وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة وقيل : يبين علل الأحكام وتعقب بأنه ليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر ههنا
والله عليم مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم حكيم
58
- في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاحكم معاشا ومعادا
وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم لما بين سبحانه آنفا حكم الأطفال من أنهم لا يحتاجون إلى الإستئذان في غير الأوقات الثلاثة عقب جل وعلا ببيان حالهم إذا بلغوا دفعا لما عسى أن يتوهم أنهم وإن كانوا أجانب ليسوا كسائر الأجانب بسبب اعتيادهم الدخول فاللام في الأطفال للعهد إشارة إلى الذين لم يبلغوا الحلم المجعولين قسما للمماليك أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب فليستأذنوا إذا أرادوا الدخول عليكم كما استأذن الذين من قبلهم أي الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها وجوز أن تكون القبلية باعتبار الوصف لا باعتبار الذكر في النظم الجليل بقرينة ذكر البلوغ وحكم الطفولية أي الذين بلغوا من قبلهم وأخرج هذا ابن أبي حاتم عن مقاتل وزعم بعضهم أنه أظهر
(18/215)

وتعقب بان المراد بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع ولا ريب في أن بلوغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم فالمعنى فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف وكون المراد بالأطفال الأطفال الأحرار الأجانب قد ذهب غير واحد وقال بعض الأجلة : المراد بهم ما يهم الأحرار والمماليك فيجب الإستئذان على من بلغ من الفريقين وأوجب هذا استئذان العبد البالغ على سيدته لهذه الآية وقال في البحر منكم أي من أولادكم وأقربائكم
وأخرج ابن أبي حاتم نحو هذا التفسير عن سعيد بن جبير وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه قال : يستأذن الرجل على أمه فإنما نزلت وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم في ذلك وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أأستأذن على أختي قال : نعم قلت : إنها في حجري وأنا أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها قال : نعم إن الله تعالى يقول ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم الآية فلم يأمر هؤلاء بالإستئذان إلا في العورات الثلاث وقال تعالى وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم فالذن واجب على خلق الله تعالى أجمعين وروي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : آية لايؤمن بها أكثر الناس آية الأذن وإني لآمر جارتي يعني زوجته أن تستأذن علي وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم ونقل عن بعضهم أن وجوب الإستئذان المستفاد من الأمر الدال عليه في الآية منسوخ وأنكر ذلك سعيد بن جبير روي عنه يقولون : هي منسوخة لا والله ما هي منسوخة ولكن الناس تهاونوا بها وعن الشعبي ليست منسوخة فقيل له : إن الناس لا يعلمون بها فقال : الله تعالى المستعان وقيل : ذلك مخصوص بعدم الرضا وعدم باب يغلق كما كان في العصر الأول كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم
59
- الكلام فيه كالذي سبق والتكرير للتأكيد والمبالغة في طلب الإستئذان وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لتشريفها وهو مما يقوي أمر التأكيد والمبالغة والقواعد من النساء أي العجائز وهو جمع قاعد كحائض وطامث فلا يؤنث لاختصاصه ولذا جمع على فواعل لأن التاء فيه كالمذكورة أو هو شاذ قال ابن السكيت : امرأة قاعد قعدت عن الحيض وقال ابن قتيبة : سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن القعود لكبر سنهن وقال ابن ربيعة : لقعودهن عن الإستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج فقوله تعالى : اللاتي لا يرجون نكاحا أي لا يطمعن فيه لكبرهن صفة كاشفة فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن أي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة كالجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار
وأخرج ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنه قال : في مصحف أبي بن كعب ومصحف ابن مسعود فليس عليهن جناح أن يضعن جلابيبهن وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقرآن كذلك ولعله لذلك اقتصر بعض في تفسير الثياب على الجلباب والجملة خبر القواعد والفاء إما لأن اللام في القواعد موصولة بمعنى اللاتي وإما لأنها موصوفة بالموصول وقوله
(18/216)

تعالى : غير متبرجات بزينة حال وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم : سفينة بارج لا غطاء عليها والرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء وقيل : أصله الظهور من البرج أي القصر ثم خص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال : إن ذكر الزينه من باب التجريد والظاهر أن الباء للتعدية وقيل زائدة في المفعول لأنهم يفسرون التبرج بمتعد ففي القاموس تبرجت أظهرت زينتها للرجال وفيه نظر والمراد بالزينة الزينة الخفية لسبق العلم باختصاص الحكم بها ولما في لفظ التبرج من الإشعار والتنكير لإفادة الشياع وأن زينة ما وإن دقت داخلة في الحكم أي غير مظهرات زينة مما أمر بإخفائه في قوله تعالى ولا يبدين زينتهن
وأن يستعففن بترك الوضع والتستر كالشواب خير لهن من الوضع لبعده من التهمة فلكل ساقطة لاقطة وذكر ابن المنير للآية معنى استحسنه الطيبي فقال : يظهر لي والله تعالى أعلم أن قوله تعالى : غير متبرجات بزينة من باب
على لا حب لا يهتدي بمناره
أي لا منار فيه فيهتدي به وكذلك المراد والقواعد من النساء لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هن بهذه المثابة وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الإستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة هذا في القواعد فكيف بالكواعب والله سميع مبالغ في سمع جميع ما يسمع فيسمع بما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة عليم
60
- فيعلم سبحانه مقاصدهن وفيه من الترهيب ما لا يخفى
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في كتاب الزهراوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الطوائف كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت وقيل : كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو إلى بعض من سماهم الله تعالى في الآية الكريمة فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره ولعل أهله كارهون لذلك وكذا كانوا يتحرجون من الأكل من أموال الذين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو وخلفوا هؤلاء الضعفاء في بيوتهم ودفعوا إليهم مفاتيحها وأذنوا لهم أن ياكلوا مما فيها مخافة أن لا يكون أذنهم عن طيب نفس منهم
وكان غير هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرهم فعن عكرمة كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من البيوت الذي ذكر الله تعالى وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأجل أنه ليس ثم رب البيت والحرج لغة كما قال الزجاج الضيق من الحرجة وهو الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه وقال الراغب : هو في الأصل مجتمع الشيء ثم أطلق على الضيق وعلى الإثم والمعنى على الرواية الأولى ليس على هؤلاء حرج في أكلهم مع الأصحاء ويقدر على سائر الروايات ما يناسب ذلك مما لا يخفى و على على معناها في جميع
(18/217)

ذلك وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل تحرج المسلمون على مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار لمكان جولان يد الأعمى وانبساط جلسة الأعرج وعدم خلو المريض من رائحة تؤذي أو جرح ينض أو أنف يذن فنزلت ومن ذهب إلى هذا جعل على بمعنى في أي ليس في مؤاكلة الأعمى حرج وهكذا وإلا لكان حق التركيب ليس عليكم أن تأكلوا مع الأعمى حرج وكذا يقال فيما بعد وفيه بعد لا يخفى وقيل : لا حاجة إلى أن يقدر محذوف بعد قوله تعالى حرج حسبما أشير إليه إذ المعنى ليس على الطوائف المعدودة ولا على أنفسكم حرج أن تأكلوا أنتم وهم معكم من بيوتكم الخ وإلى كون المعنى كذلك ذهب مولانا شيخ الإسلام ثم قال : وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتما ولعل ما تقدم أولى وأما تعميم الخطاب فلا أقول به أصلا وعن ابن زيد والحسن وذهب إليه الجبائي وقال أبو حيان : هو القول الظاهر أن الحرج المنفي عن أهل العذر هو الحرج في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه والحرج المنفي عمن بعدهم الحرج في الأكل من البيوت المذكورة قال صاحب الكشاف : والكلام عليه صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلا منفي عنه الحرج ومثاله أن يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحو وهو تحقيق لأمر العطف وذلك أنه لما كان فيه غرابة لبعد الجامع باديء النظر أزاله بأن الغرض لما كان بيان الحكم كفاء الحوادث والحادثتان وإن تباينتا كل التباين إذا تقارنتا في الوقوع والإحتياج إلى البيان قرب الجامع بينهما ولا كذلك إذا كان الكلام في غير معرض الإفتاء والبيان وليس هذا القول منه بناء على أن الإكتفاء في تصور ما كاف في الجامعية كما ظن وبهذا يظهر الجواب عما اعترض به على هذه الرواية من أن الكلام عليها لا يلائم ما قبله ولا ما بعده لأن ملاءمته لما بعده قد عرفت وجهها وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة إذ لم يعطف عليه وربما يقال في وجه ذكر نفي الحرج عن أهل العذر بترك الجهاد وما يشبهه مما رخص لهم فيه أثناء بيان الإستئذان ونحوه : إن نفي الحرج عنهم بذلك مستلزم عدم وجوب الإستئذان منه صلى الله عليه و سلم لترك ذلك فلهم القعود عن الجهاد ونحوه من غير استئذان ولا إذن كما أن للمماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا أذن من أهل البيت ومثل هذا يكفي وجها في توسيط جملة أثناء جمل ظاهرة التناسب ويرد عليه شيء عسى أن يدفع بالتأمل وإنما لم يذكر الحرج في قوله تعالى ولا على أنفسكم بأن يقال : ولا على أنفسكم حرج اكتفاء بذكره فيما مر والأواخر محل الحذف ولم يكتف بحرج واحد بأن يقال : ليس على الأعمى والأعرج والمريض وأنفسكم حرج أن تأكلوا دفعا لتوهم خلاف المراد وقيل حذف الحرج آخرا للإشارة إلى مغايرته للمذكور ولا تقدح في دلالته عليه لا سيما إذ قلنا : إن الدال غير منحصر فيه وهو كما ترى ومعنى على أنفسكم كما في الكشاف عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين وفيه كما في الكشف إشارة إلى فائدة إقحام النفس وأن الحاصل
(18/218)

ليس على الضعفاء المطعمين ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ومن في مثل حالهم وهم الأصدقاء حرج
وقيل : إن فائدة إقحامها الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن وهو وجه حسن دقيق لا يلزمه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ظاهرا وكان منشأه كثرة إقحام النفس في ذوي الشأن ومن ذلك قوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة ولم يقل سبحانه كتب ربكم عليه الرحمة وقوله عز و جل في الحديث القدسي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي دون أن يقول جل وعلا : إني حرمت الظلم علي إلى غير ذلك مما يعرفه المتتبع المنصف وما قيل من أن فائدة الإقحام الإشارة إلى أن التجنب عن الأكل المذكور لا يخلو عن رعاية حظ النفس مع خفائه لا يلائم إلا بعض الروايات السابقة في سبب النزول ونحو ما قيل من أنها أقحمت للإشارة إلى أن نفي الحرج عن المخاطبين في الأكل من البيوت المذكورة لذواتهم بخلاف نفي الحرج عن أهل الأعذار في الأكل منها فإنه لكونهم مع المخاطبين وذهابهم بهم إليها والتعرض لنفي الحرج عنهم في أكلهم من بيوتهم مع ظهور انتفاء ذلك لإظهار التسوية بينه وبين قرنائه كما في قوله تعالى يكلم الناس في المهد وكهلا لكن ذلك فيما نحن فيه من أول الأمر ولم يتعرض لبيوت أولادهم لظهور أنها كبيوتهم وذكر جمع أنها داخلة في بيوت المخاطبين فقد روي أبو داود وابن ماجه أنت ومالك لأبيك وفي حديث رواه الشيخان وغيرهما إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه وقال بعضهم : المراد ببيوت المخاطبين بيوت أولادهم وأضافها إليهم لمزيد اختصاصها بهم كما يشهد به الشرع والعرف وقيل المعنى أن تأكلوا من بيوتكم من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جملة عيالكم وهو كما ترى أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم والكسائي وطلحة بكسر الهمزة وفتح الميم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أي أو مما تحت أيديكم وتصرفكم من بستان أو ماشية وكالة أو حفظا وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس فقد روي عنه غير واحد أنه قال : ذاك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته فلا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر وقال السدي : هو الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه
وقال ابن جرير : هو الزمن يسلم إليه مفتاح البيت ويؤذن له بالتصرف فيه وقيل : ولي اليتيم الذي له التصرف بماله فإنه يباح له الأكل منه بالمعروف وملك المفتاح على جميع ذلك كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه والعطف على ما أشرنا إليه على ما بعد من وعن قتادة أن المراد بما ملكتم مفاتحه العبيد فالعطف على ما بعد بيوت والتقدير أو بيوت الذين ملكتم مفاتحهم وكان ملك المفتاح لما شاع كناية لم ينظر فيه إلى أن المتصرف مما يتوصل إليه بالمفتاح أولا ومثله كثيرا أو هو ترشيح لجري العبيد مجرى الجماد من الأموال المشعر به استعمال ما فيهم ولا يخفى عليك بعد هذا القول وأنه يندرج بيوت العبيد في قوله تعالى بيوتكم لأن العبد لا ملك له وإرادة المعتوقين منهم بقرينة ملكهم بلفظ الماضي مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقرأ ابن جبير ملكتم بضم الميم وكسر اللام مشددة ومفاتيحه بياء بعد
(18/219)

التاء جمع مفتاح وقرأ قتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه بالإفراد وهو آلة الفتح وكذا المفتح كما في القاموس وقال الراغب : المفتح والمفتاح ما يفتح به وجمعه مفاتيح ومفاتح وفي بعض الكتب أن جمع مفتح مفاتح وجمع مفتاح مفاتيح أو صديقكم أي أو بيوت صديقكم وهو من يصدق في مودتك وتصدق في مودته يقع على الواحد والجمع والمراد به هنا الجمع وقيل : المفرد وسر التعبير به دون أصدقائكم الإشارة إلى قلة الأصدقاء حتى قيل : صاد الصديق وكاف الكيمياء معا لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا ونقل عن هشام بن عبد الملك أنه قال : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه وقيل : إنه إشارة إلى أن شأن الصداقة رفع الأثنينية ورفع الحرج في الأكل من بيت الصديق لأنه أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من ذوي القرابة روي عن ابن عباي رضي الله تعالى عنهما الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات فقالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة ووالإنبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ وقيل لأفلاطون من أحب إليك أخوك أم صديقك فقال : لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي وقد كان السلف ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيبا
ويحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهلك أساوير وجهه سرورا وضحك وقال : وجدناهم هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك وهذا شيء قد كان
إذا الناس ناس والزمان زمان
وأما اليوم فقد طوى فيما أعلم بساطه واضمحل والأمر لله تعالى فسطاطه وعفت آثاره وأفلت أقماره وصار الصديق اسما للعدو الذي يخفي عداوته وينتظر لك حرب الزمان وغارته فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلا بالله
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد ثم إن نفي الحرج في الأكل المذكور مشروط بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة ولا يرد أنه إذا وجد الرضا جاز الأكل من مال الأجنبي والعدو أيضا فلا يكون للتخصيص وجه لأن تخصيص هؤلاء لاعتياد التبسط بينهم فلا مفهوم له وقال أبو مسلم : هذا في الأقارب الكفرة أباح سبحانه في هذه الآية ما حظره في قوله سبحانه : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وليس بشيء وقيل : كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله صلى الله عليه و سلم : لا يحل مال امريء مسلم إلا عن طيب نفس منه وقوله عليه الصلاة و السلام من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه وقوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية وقوله عز و جل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه فإنهم منعوا من منزله صلى الله عليه و سلم إلا بالشرط المذكور وهو عليه الصلاة و السلام أكرم الناس وأقلهم حجابا فغيره صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم بالطريق الأولى
(18/220)

وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى القول بالنسخ بناء على ما قلنا أولا واحتج بالآية بعض أئمة الحنفية على أنه لا قطع بسرقة مال المحارم مطلقا لا فرق بين الوالدين والمولودين وبين غيرهم لأنها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم فلا يكون مالهم محرزا مجردا احتمال إرادة الظاهر وعدم النسخ كاف في الشبهة المدرئة للحد وبحث فيه بأن درء الحدود بالشبهات ليس على إطلاقه عندهم كما يعلم من أصولهم وأورد عليه أيضا أنه يستلزم أن لا تقطع يد من سرق من الصديق وأجيب عن هذا بأن الصديق متى قصد سرقة مال صديقه انقلب عدوا وتعقب بأن الشرع ناظر إلى الظاهر لا إلى الشرائر وقريء صديقكم بكسر الصاد اتباعا لحركة الدال حكى ذلك حميد الخزاز ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أي مجتمعين وهو نصب على الحال من فاعل تأكلوا وهو في الأصل بمعنى كل ولا يفيد الإجتمال خلافا للفراء ودل عليه هنا لمقابلته بقوله تعالى : أو أشتاتا فإنه عطف عليه داخل في حكمه وهو جمع شت على أنه صفة كالحق يقال : أمر شت أي متفرق أو على أنه في الأصل مصدر وصف به مبالغة والآية على ما ذهب أكثر المفسرين كلام مستأنف مسوق لبيان حكم آخر من جنس ما بين قبله وقد نزلت على ما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة في بني ليث بن عمرو بن كنانة تحرجوا أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل قيل : وهذا التحرج سنة موروثة من الخليل عليه الصلاة و السلام وقد قال حاتم : إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي وفي الحديث شر الناس من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده وهذا الذم لاعتياده بخلا بالقرى ونفي الجناح عن وقوعه أحيانا بيانا لأنه لا إثم فيه ولا يذم به شرعا كما ذمت به الجاهلية فلا حاجة إلى القول بأن الوعيد في الحديث لمن اجتمعت فيه الخصال الثلاث دون الإنفراد بالأكل وحده فإنه يقتضي أن كلا منها على الإنفراد غير منهي عنه وليس كذلك والقول بأنهم أهل لسان لا يخفى عليهم مثله ولكن لمجيء الواو بمعنى أو تركوا كل واحد منها احتياطا لا وجه له لأن هؤلاء المتحرجين لم يتمسكوا بالحديث وكون الواو بمعنى أوتوهم لا عبرة به ولا شك أن إجماع الأيدي على الطعام سنة فتركه داع مذمة انتهى
وعن عكرمة ابي صالح أنها نزلت في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤا وقيل : الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول : إني لأتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير وروي ذلك عن ابن عباس وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى ونحوه طعاما على حدة فبين الله تعالى أن ذلك ليس بواجب
وقيل : كانوا فرادى خوفا أن يزيد أحدهم على الآخر في الأكل أو أن يحصل من الإجتماع ما ينفر أو يؤذي فنزلت لنفي وجوب ذلك وأيا ما كان فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وقيل : الآية من تتمة ما قبلها على معنى أنها وقعت جوابا لسؤال نشأ منه كأن سائلا يقول : هل نفي الحرج في الآكل من بيوت
(18/221)

من ذكر خاص فيما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت أم لا فأجيب بقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أي مجتمعين مع أهل تلك البيوت في الأكل أو أشتاتا أي متفرقين بأن يأكل كل منكم وحده ليس معه صاحب البيت وما ألطف نفي الحرج فيما اتسعت دائرته ونفي الجناح فيما ورد فيه بين أمرين والنكات لا يجب إطرادها كذا قيل فتدبر
فإذا دخلتم شروع في بيان الأدب الذي ينبغي رعايته عند مباشرة ما رخص فيه بعد بيان الرخصة فيه بيوتا أي من البيوت المذكورة كما يؤذن به الفاء فسلموا على أنفسكم أي على أهلها كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس وقريب منه ما أخرجه عبد الرزاق وجماعة عن الحسن أن المعنى فليسلم بعضكم على بعض نظير قوله تعالى : فاقتلوا أنفسكم والتعبير عن أهل تلك البيوت بالأنفس لتنزيلهم منزلتها لشدة الإتصال وفي الإنتصاف في التعبير عنهم بذلك تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت المعدودة وأن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه للقرابة ونحوها وقيل : المراد السلام على أهلها على أبلغ وجه لأن المسلم إذا ردت تحيته عليه فكأنه سلم على نفسه كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله كأنه قاتل نفسه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في الآية : هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله تعالى الصالحين فحمل البيوت فيها على المساجد والسلام على الأنفس على ظاهره وقيل : المراد بيوت المخاطبين وأهلهم وذكر أن الرجل إذا دخل على أهله سن له أن يقول : السلام عليكم تحية من عند الله مباركة طيبة فإن لم يجد أحدا فليقل السلام علينا من ربنا وروي هذا عن عطاء وقيل السلام على الأنفس على ظاهره والمراد ببيوت الكفار وذكر أن داخلها وكذا داخل البيوت الخالية يقول ما سمعت آنفا عن ابن عباس وقيل يقول على الكفار يقول : السلام على من اتبع الهدى ولا يخفى المناسب للمقام والسلام بمعنى السلامة من الآفات وقيل : اسم من أسمائه عز و جل وقد مر الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكر
تحية من عند الله أي ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه عز و جل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لتحتية وجوز أن يتعلق بتحتية فإنها طلب الحياة وهي من عنده عز و جل وأصل معناها أن تقول حياك الله تعالى أي أعطاك سبحانه الحياة ثم عمم لكل دعاء وانتصابها على المصدرية لسلموا على طريق قعدت جلوسا فكأنه قيل فسلموا تسليما أو فحيوا تحية مباركة بورك فيها بالأجر كما روي عن مقاتل قال الضحاك : في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون ومع البركات ثلاثون طيبة تطيب بها نفس المستمع والظاهر أنه يزيد المسلم ما ذكر في سلامه وعن بعض السلف زيادته كما مر آنفا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله تعالى سمعت الله الله تعالى يقول فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات لله
كذلك يبين الله لكم الآيات تكرير لمزيد التأكيد وفي ذلك تفخيم فخيم للأحكام المختتمة به لعلكم تعقلون
61
- ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام وتعملون بموجبها وتحرزون بذلك سعادة الدارين
(18/222)

وفي تعليل هذا التبيين بهذه الغاية القصوى بعد تذييل الأولين بما يوجبهما من الجزالة ما لا يخفى وذكر بعض الأجلة أنه سبحانه بدأ السورة بقوله تعالى وأنزلنا فيها آيات بينات وختمها بقوله عز و جل كذلك يبين الله لكم الآيات ثم جعل تبارك وتعالى ختام الختم قوله سبحانه إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله الخ دلالة على أن ملاك ذلك كله والمنتفع بتلك الآيات جمع من سلم نفسه لصاحب الشريعة صلوات الله تعالى وسلامه عليه كالميت بين يدي الغاسل لا يحجم ولا يقدم دون إشارته صلى الله عليه و سلم ولهذه الدقيقة أورد هذه الآية شهاب الحق والدين أبو حفص عمر السهروردي قدس سره في باب سير المريد مع الشيخ ونبه بذلك أن كل ما يرسمه من أمور الدين فهو أمر جامع
وقال شيخ الإسلام : إن هذا استئناف جيء به في أواخر الأحكام السابقة تقريرا لها وتأكيدا لوجوب مراعاتها وتكميلا لها ببسان بعض آخر من جنسها وإنما ذكر الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم صلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ مع تضمنه له قطعا تقريرا لما قبله وتمهيدا لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان المذكور منتظما في سلكه فقوله تعالى وإذا كانوا معه على أمر جامع الخ معطوف على آمنوا داخل معه في حيز الصلة وبذلك يصح الحمل والحصر باعتبار الكمال أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم عن صميم قلوبهم وأطاعوا في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الإتفاق كما إذا كانوا معه عليه الصلاة و السلام على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى الإجتماع لغرض من الأغراض وعن ابن زيد أن الأمر الجامع الجهاد وقال الضحاك وابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والإستسقاء وعن ابن جبير هو الجهاد وصلاة الجمعة والعيدين ولا يخفى أن الأولى العموم وإن كانت الآية نازلة في حفر الخندق ولعل ما ذكر من باب التمثيل ووصف الأمر بالجمع مع أنه سبب له للمبالغة والظاهر أن ذلك من المجاز العقلي وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية
وقرأ اليماني على أمر جميع وهو بمعنى جامع أو مجموع له على الحذف والإيصال لم يذهبوا عنه صلى الله عليه و سلم حتى يستأذنوه عليه الصلاة و السلام في الذهاب فيأذن لهم به فيذهبون فالغاية هي الأذن الحاصل بعد الإستئذان والإقتصار على الإستئذان لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الإيمان لا الأذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالصداق لصحته والمميز للمخلص عن المنافق فإن ديدنه التسلل للفرار ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه عليه الصلاة و السلام من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب سبحانه بقوله عز و جل إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فقد جعل فيه المستأذنين هم المؤمنون عكس الأول دلالة على أنهما متعاكسان سواء بسواء ومنه يلزم أنه كالمصداق لصحة الإيمانين وكذلك من اسم الإشارة لدلالته على أن استئهال الإيمانين لذلك فإذا استئذنوك بيان لما هو وظيفته صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الباب أثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذنون فإذا استأذنوك لبعض شأنهم أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم الملم
(18/223)

فأذن لمن شئت منهم تفويض للأمر إلى رأيه صلى الله عليه و سلم واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه مسئلة التفويض المختلف في جوازها بين الأصوليين وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له : احكم بما شئت فإنه صواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا فقال موسى بن عمران : بجواز ذلك مطلقا للنبي وغيره من العلماء وقال أبو علي الجبائي : يجوز ذلك للنبي خاصة في أحد قوليه وقد نقل عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك الباقون والمجوزون اختلفوا في الوقوع قال الآدمي : والمختار الجواز دون الوقوع وقد أطال الكلام في هذا المقام فليراجع والذي أميل إليه جواز أن يفوض الحكم إلى المجتهد إذا علم أنه يحكم ترويا لا تشهيا ويكون التفويض حينئذ كالأمر بالإجتهاد والأليق بشأن الله تعالى وشأن رسوله صلى الله عليه و سلم أن ينزل ما هنا على ذلك وتكون المشيئة مقيدة بالعلم بالمصلحة وذكر بعض الفضلاء لا خلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت ترويا بل الخلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت تشهيا كيفما اتفق وأنت تعلم أنه بعد التقييد لا يكون ما نحن فيه من محل النزاع ومن الغريب ما قيل : إن المراد ممن شئت منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا يخفى ما فيه واستغفر لهم الله فإن الإستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة وتقديم لهم للمبادرة إلى أن الإستغفار للمستأذن لا للإذن
إن الله غفور مبالغ في مغفرة فرطات العباد رحيم
62
- مبالغ في إفاضة شابيب الرحمة عليهم والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الإستغفار لهم وقد بالغ شأنه في الإحتفال برسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه فجعل سبحانه الإستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا للإستغفار فضلا عن الذهاب بدون إذن ورتب الإذن على الإستئذان لبعض شأنهم لا على الإستئذان مطلقا ولا على الإستئذان لأي أمر مهما كان أو غير مهم ومع ذلك علق الأذن بالمشيئة وإذا اعتبرت وجوه المبالغة في قوله تعالى إنما المؤمنون إلى هنا وجدتها تزيد على العشرة وفي أحكام القرآن للجلال السيوطي أن في الآية دليلا علة وجوب استئذانه صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الإنصراف عنه عليه الصلاة و السلام في كل أمر يجتمعون عليه قال الحسن : وغير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس وقال ابن الفرس : لا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الإنصراف واختلف في صلاة الجمعة إذا كان له عذر كالرعاف وغيره فقيل يلزمه الإستئذان سواء كان أمامه الأمير أم غيره أخذ من الآية وروي ذلك عن مكحول والزهري لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا استئناف مقرر لمضمون ما قبله والإلتفات لإبراز مزيد الإعتناء بشأنه أي لا تقيسوا دعاءه عليه الصلاة و السلام إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه عليه الصلاة و السلام بغير استئذان فإن ذلك من المحرمات وإلى نحو هذا ذهب أبو مسلم واختاره المبرد والقفال وقيل : المعنى لا تحسبوا دعاءه صلى الله تعالى عليه وسلم عليكم كدعاء بعضكم
(18/224)

على بعض فتعرضوا لسخطه ودعائه عليكم عليه الصلاة و السلام بمخالفة أمره والرجوع عن مجلسه بغير استئذان ونحو ذلك وهو مأخوذ مما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروي عن الشعبي وتعقبه ابن أبي عطية بأن لفظ الآية يدفع هذا المعنى وكأنه أراد أن الظاهر عليه على بعض وقيل : إنه يأباه بينكم وهو في حيز المنع وقيل : المعنى لا تجعلوا دعاءه عليه الصلاة و السلام ربه عز و جل كدعاء صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم يسأله حاجته فربماا أجابه وربما رده فإن دعاءه صلى الله تعالى عليه وسلم مستجاب لا مرد له عند الله عز و جل فتعرضوا لدعائه لكم بامتثال أمره واستئذانه عند الإنصراف عنه إذا كنتم معه على أمر جامع وتحققوا قبول استغفاره لكم ولا تتعرضوا لدعائه عليكم بضد ذلك
ولا يخفى وجه تقرير الجملة لما قبلها على هذين القولين لكن بحث في دعوى أن جميع دعائه عليه الصلاة و السلام مستجاب بأنه قد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل الله تعالى في أمته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه وهو ظاهر في أنه قد يرد بعض دعائه عليه الصلاة و السلام وتعقب بأنه كيف يرد وقد قال الله تعالى : ادعوني أستجب لكم وفي الحديث إن الله تعالى لا يرد دعاء المؤمن وإن تأخر وقد قال الإمام السهيلي في الروض : الإستجابة أقسام إما تعجيل ما سأل أو أن يدخر له خير مما طلب أو يصرف عنه من البلاء بقدر ما سأل من الخير وقد أعطى صلى الله تعالى عليه وسلم عوضا من أن لا يذيق بعضهم بأس بعض الشفاعة وقال أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة عذاب عذابها في الدنيا الزلزال والفتن كما في أبي داود فإذا كانت الفتنة سببا لصرف عذاب الآخرة عن الأمة فلا يقال : ما أجاب دعاءه صلى الله عليه و سلم لأن عدم استجابته أن لا يعطي ما سأل أولا يعوض عنه ما هو خير منه والمراد بالمنع في الحديث منع ذلك بخصوصه لا عدم استجابة الدعاء بذلك بالمعنى المذكور وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله
وقيل : المعنى لا تجعلوا نداءه عليه الصلاة و السلام وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات ولكن بلقبه المعظم يا نبي الله ويا رسول الله مع التواضع وخفض الصوت
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كانوا يقولون : يا محمدا يا أبا القاسم فنهاهم الله تعالى عن ذلك بقوله سبحانه لا تجعلوا الآية إعظاما لنبيه صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا نبي الله يا رسول الله وروي نحو هذا عن قتادة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وفي أحكام القرآن للسيوطي أن هذا النهي تحريم ندائه صلى الله عليه و سلم باسمه
والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته إلى الآن وذكر الطبرسي أن من جملة المنهي عنه النداء بياابن عبد الله فإنه مما ينادى به العرب بعضهم بعضا وتعقب هذا القول بأن الآية عليه لا تلائم السباق واللحاق
وقال بعضهم : وجه الإرتباط بما قبلها عليه الإرشاد إلى أن الإستئذان ينبغي أن يكون بقولهم : يا رسول الله أنا نستأذنك ونحوه وكذا خطاب من معه في أمر جامع إياه صلى الله عليه و سلم ينبغي أن يكون بنحو يا رسول الله لا بنحو يا محمد ويكفي هذا القدر من الإرتباط بما قبل ولا حاجة إلى بيان المناسبة بأن في كل منهما ما ينافي التعظيم اللائق بشأنه العظيم صلى الله عليه و سلم نعم الأظهر في معنى الآية ما ذكرناه أولا كما لا يخفى وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء آخر الحروف مشددة بدل بينكم الظرف في قراءة الجمهور وخرج على أنه بدل من الرسول ولم يجعل نعتا له لأنه مضاف إلى الضمير والمضاف إليه في رتبة العلم
(18/225)

وهو أعرف من المعرف بأل ويشترط في النعت أن يكون دون المنعوت أو مساويا له في التعريف وقال أبو حيان : ينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علما بالغلبة كالبيت للكعبة فقد تساويا في التعريف
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم وعيد لمن هو بضد أولئك المؤمنين الذين لم يذهبوا حتى يستأذنوه عليه الصلاة و السلام والتسلل الخروج من البين على التدريج والخفية وقد للتحقيق وجوز أن تكون لتقليل المتسللين في جنب معلوماته تعالى وأن تكون للتكثير إما حقيقة أو استعارة ضدية وقال أبو حيان : إن قول بعض النحاة بإفادة قد التكثير إذا دخلت على المضارع غير صحيح وإنما التكثير مفهوم من سياق الكلام كما في قول زهير : أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائله فإن سياق الكلام للمدح يفهم منه ذلك أي قد يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية لواذا أي ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل قال : كان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه و سلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام فيأذن له النبي صلى الله عليه و سلم يشير إليه بيده وكان من المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتربه حتى يخرج فأنزل الله تعالى قد يعلم الآية وقيل يلوذ به إرادة أنه من أتباعه
ونصب لواذا على المصدرية أو الحالية بتأويل ملاوذين وهو مصدر لاوذ لعدم قلب واوه ياء تبعا لفعله ولو كان مصدر لاذ لقيل لياذا كقياما
وقرأ يزيد بن قطيب لواذا بفتح اللام فاحتل أن يكون مصدر لاذ ولم تقلب واوه ياء لأنه لا كسرة قبلها فهو كطواف مصدر طاف واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وفتحة اللام لأجل فتحة الواو والفاء في قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره لترتيب الحذر أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنه مما يوجب الحذر البتة والمخالفة كما قال الراغب : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله والأكثر استعمالها بدون عن فيقال خالف زيد عمرا وإذا استعملت بعن فذاك على تضمين معنى الإعراض
وقيل الخروج أي يخالفون معرضين أو خارجين عن أمره وقال ابن الحاجب : عدي يخالفون بعن لما في المخالفة من معنى التباعد والحيد كأنه قيل الذين يحيدون عن أمره بالمخالفة وهو أبلغ من أن يقال : يخالفون أمره
وقيل على تضمين معنى الصد وقيل إذا عدي بعن يراد به الصد دون تضمين ويتعدى إلى مفعول بنفسه يقال : خالف زيدا عن الأمر أي صده عنه والمفعول عليه هنا محذوف أي يخالفون المؤمنين أي يصدونهم عن أمره وحذف المفعول لأن المراد تقبيح حال المخالف وتعظيم أمر المخالف عنه فذكر الأهم وترك ما لا اهتمام به وقد يتعدى بإلى فيقال خالف إليه إذا أقبل نحوه
وقال ابن عطية : عن هنا بمعنى بعد والمعنى يقع خلافهم بعد أمره كما تقول : كان المطر عن ريح وأطعمته عن جوع وقال أبو عبيدة والأخفش : هي زائدة أي يخالفون أمره وضمير أمره لله عز و جل فإن الأمر له سبحانه في الحقيقة أو للرسول صلى الله عليه و سلم فإنه المقصود بالذكر والأمر له قيل الطلب أو الشأن أو ما يعمهما ولا يخفى أن في تجويز كل على كل من الإحتمالين في الضمير نظرا فلا تغفل وقريء يخلفون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم عن أمره
(18/226)

أن تصيبهم فتنة أي بلاء ومحنة في الدنيا كما روي عن مجاهد وعن ابن عباس تفسير الفتنة بالقتل وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه تفسيرها بتسليط سلطان جائر وعن السدي ومقاتل تفسيرها بالكفر والأول أولى
أو يصيبهم عذاب أليم
63
- أي في الآخرة وقيل في الدنيا والمراد بالعذاب الأليم القتل وبالفتنة ما دونه وليس بشيء وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وإعادة الفعل صريحا للإعتناء بالتهديد والتحذير وشاع الإستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب فإنه تعالى أوجب فيها على مخالف الأمر الحذر عن العذاب وذلك تهديد على مخالفة الأمر وهو دليل كون الأمر للوجوب إذ لا تهديد على ترك غير الواجب وأيضا بناء حكم الحذر عن العذاب إلى المخالف يقتضي أن يكون حذره عنه من حيث المخالفة وذلك إنما يكون إذا أفضى إلى العذاب كما في قولك فليحذر الشاتم للأمير أن يضربه ولا إفضاء في ترك غير الواجب
وهذا الأمر أعني فليحذر بخصوصه مستعمل في الإيجاب إذ لا معنى لندب الحذر عن العقاب أو إباحته وأيضا إشعار الآية بوجوب الحذر غير خاف بقرينة ورودها في معرض الوعيد بتوقع إصابة العذاب على أنه لو حمل الأمر المذكور على أنه للندب يحصل المطلوب وذلك لأن التحذير عما لم يعلم أو لم يظن تحققه ولا تحقق ما يفضي إلى وقوعه في الجملة سفه غير جائز بمعنى أنه مخالف للحكمة ولهذا يلام من يحذر عن سقوط الجدار المحكم الغير المائل وأيا ما كان يندفع ما يقال : لا نسلم أن قوله تعالى فليحذر للوجوب لأنه عين محل النزاع إذ يكفي في المطلوب على ما قررنا استعماله في الندب أيضا والقول بأن معنى مخالفة الأمر عدم اعتقاد حقيته أو حمله على غير ما هو عليه بأن يكون للوجوب أو الندب مثلا فيحمل على غيره بعيد جدا والظاهر المتبادر إلى الفهم أنه ترك الإمتثال والإتيان بالمأمور به فلا يترك إلى ذلك إلا بدليل واعترض بأنه بعد القيل والقال لا يدل على أن جميع الأوامر حقيقة في الوجوب لإطلاق الأمر
وأجيب بأنه أمره مصدر مضاف وهو يفيد العموم حيث فقدت قرينة العهد على أن الإطلاق كاف في المطلوب وهو كون الأمر المطلق للوجوب خاصة إذ لو كان حقيقة لغيره أيضا لم يترتب التهديد على مخالفة مطلق الأمر وقال بعض الأجلة : لا قائل بالفصل في صيغ الأمر بأن بعضها للوجوب وبعضها لغيره وزعم بعضهم أن الإستدلال لا يتم إذا أريد بالأمر الطلب ولو فسر بالشأن وكان الضمير للرسول عليه الصلاة و السلام لزم من القول بدلالتها على الوجوب أن يكون ما يفعله صلى الله عليه و سلم واجبا علينا ولا قائل به والزمخشري فسره بالدين والطاعة
وقال صاحب الكشف : إن الإستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب مشهور سواء فسر بما ذكر لأن الطاعة امتثال الأمر القولي أو فسر على الحقيقة وأما إذا جعل إشارة إلى ما سبق من الأمر الجامع ومعنى يخالفون عن أمره ينصرفون عنه فلا وليس بالوجه وإن آثره جمع لفوات المبالغة والتناول الأولى والعدول عن الحقيقة في لفظ الأمر ثم المخالفة من غير ضرورة انتهى وهذا الذي آثره جمع الطيبي عن البغوي ثم قال هذا هو التفسير الذي عليه التعويل ويساعد عليه النظم والتأويل لأن الأمر حينئذ بمعنى الشأن وواحد الأمور وبيانه إن ما قبله حديث في الأمر الجامع وهو الأمر الذي يجمع عليه الناس ومدح من لزم مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يذهب عنه وذم من فارقه بغير الأذن وأمر بالإستغفار في حق من فارق بالإذن لأن
(18/227)

قوله تعالى : فأذن لمن شئت منهم يؤذن أن القوم ثلاث فرق المأذون في الذهاب بعد الإستئذان والمتخلف عنه ثم المتخلف إما أن يدوم في مجلسه عليه الصلاة و السلام ولم يذهب وهم المؤمنون المخلصون أو يتسلل لو إذا وهم المنافقون وقوله تعالى : فليحذر الخ مترتب على القسم الثالث على سبيل الوعيد والفعل المضارع يفيد معنى الدأب والعادة وقد أقيم المظهر موضع المضمر علة لاستحقاقهم فتنة الدارين انتهى وقد كشف عن بعض ما فيه صاحب الكشف نعم قيل عليه : إن فوات المبالغة والتناول لا يقاوم العهد ولا عدول عن الحقيقة لأن الأمر حقيقة في الحادثة وكذا المخالفة فيما ذكر ولو سلم فهو مشترك الإلزام فإن الأمر ليس حقيقة في الأمر وقوله : بلا ضرورة ممنوع فإن إضافة العهد صارفة وتعقب بأن هذا مكابرة ومنع مجرد لا يسمع فإن الأبلغية لا شبهة فيها فإن تهديد من لم يمتثل أمره عليه الصلاة و السلام أشد من تركه بلا إذن وكون الأمر حقيقة في الطلب هو الأصح في الأصول والمخالفة المقارنة للأمر لا شبهة في أن حقيقتها عدم الإمتثال واشتراك الإلزام بتام لأن أمره إذا عم يشمل الأمر الجامع بمعنى الطلب أيضا وعهد الإضافة ليس بمتعين حتى يعد صارفا كذا قيل وفيه بحث فتأمل وقد يقال بناء على كون الأمر المذكور إشارة إلى الأمر الجامع : إنه جيء بأو في قوله أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم لما أن الأمر الجامع إما أن يكون أمرا دنيويا كالتشاور في الأمور الحربية فالإنصراف عنه مظنة إصابة المحنة الدنيوية للمنصرفين وإما أن يكون أمرا دينيا كإقامة الجمعة التي فيها تعظيم شعائر الإسلام فالإنصراف عنه مظنة إصابة العذاب الأخروي
وبالجملة لا استدلال بالآية على اعتبار العهد وأما إذا لم يعتبر فقد استدل بها وقد سمعت شيئا من الكلام في ذلك وتمامه جرحا وتعديلا وغير ذلك في كتب الأصول ألا إن لله ما في السماوات والأرض من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدءا وإعادة لا لأحد غيره شركة أو استقلالا قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق ودخول المنافقين مع أن الخطاب فيما قبل للمؤمنين بطريق التغليب وقوله تعالى ويوم يرجعون إليه خاص بالمنافقين وهو مفعول به عطف على ما أنتم أي يعلم يوم يرجع المنافقون المخالفون للأمر إليه عز و جل للجزاء والعقاب
وتعليق علمه بيوم رجعهم لا برجعهم لزيادة تحقيق علمه سبحانه بذلك وغاية تقريره لما أن العلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعلم بوقوع الشيء على أبلغ وجه وآكده وفيه إشعار بأن علمه جل وعلا بنفس رجعهم من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان قطعا ويجوز أن يكون الخطاب السابق خاصا بهم أيضا فيتحقق التفاتان التفات من الغيبة إلى الخطاب في أنتم والتفات من الخطاب إلى الغيبة في يرجعون والعطف على حاله وجوز أن يكون على مقدار أي ما أنتم عليه الآن ويوم الخ فإن الجملة الإسمية تدل على الحال في ضمن الدوام والثبوت وقيل : يجوز أن يكون يوم ظرفا لمحذوف يعطف على ما قبله أي وسيحاسبهم يوم أو نحو ذلك ولا أرى اختصاصه بالوجه الثاني في الخطاب
وفي البحر بعد ذكر الوجهين فيه والظاهر عطف يوم على ما أنتم عليه وقال ابن عطية : يجوز أن يكون التقدير والعلم يظهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون يوم نصبا على الظرفية بمحذوف وقد للتحقيق وفيها الإحتمالان المتقدمان آنفا وقد مر غير مرة ما يراد بمثل هذه الجملة من الوعيد أو الوعد ولا يخفى المناسب لكل من
(18/228)

الإحتمالات في أنتم ويرجعون وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو يرجعون مبنيا للمفعول فينبئهم بما عملوا أي بعلمهم أو بالذي عملوه من الأعمال السيئة التي من جملتها مخالفة الأمير فيرتب سبحانه عليه ما يليق به من التوبيخ والجزاء أو فينبئهم بما عملوا خيرا أو شرا فيرتب سبحانه على ذلك ما يليق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر والله بكل شيء عليم
64
- لا يخفى عليه شيء من الأشياء والجملة تذييل مقرر لما قبله وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم وتقديم الظرف لرعاية رؤس الآي وقيل وفيه بحث : إنه للحصر على معنى والله عليم بكل شيء لا ببعض الأشياء كما يزعمه بعض جهلة الفلاسفة ومن حذا حذوهم حفظنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلالات وجعل لنا نورا نهتدي به إذا أدلهم ليل الجهالات هذا
ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل في قوله تعالى ألم تر أن الله يزجي سحابا إلى آخره أنه إشارة إلى جمع العناصر الأربعة وتركيب الأسنان منها ثم خروج مطر الإحساس من عينيه وأذنيه مثلا وينزل من سماء العقل الفياض برد حقائق العلوم فيصيب به من يشاء فتظهر عليه آثار ويصرفه عمن يشاء حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية يكاد سنا برقه نور تجليه يذهب الأبصار بأن يعطلها عن الأبصار ويفني أصحابها عنها لما أن الإدراك بنوره فوق الإدراك بنور الأبصار يقلب الله الليل والنهار إشارة إلى ليل المحور ونهار الصحو أو ليل القبض ونهار البسط أو ليل الجلال ونهار الجمال أو نحو ذلك وقيل : يزجي سحاب المعاصي إلى أن يتراكم فترى مطر التوبة يخرج من خلاله كما خرج من سحاب وعصى آدم مطر ثم اجتباه ربه وينزل من سماء القلوب من جبال القسوة فيها من برد القهر يقلب االله ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس والله خلق كل دابة من ماء تقدم الكلام في الماء فمنهم من يمشي على بطنه يعتمد في سيره على الباطن وهم أهل الجذبة المغمورون في بحار المحبة ومنهم من يمشي على رجلين يعتمد في سيره الشريعة والطريقة لكن فيما يتعلق به خاصة منهما وهم صنف من الكاملين سكنوا زوايا الخمول ولم يخالطوا الناس ولم يشتغلوا بالإرشاد ومنهم من يمشي على أربع يعتمد في سيره الشريعة والطريقة فيما يتعلق به وبغيره منهما وهم صنف آخر من الكاملين برزوا للناس وخالطوهم واشتغلوا بالإرشاد وعملوا في أنفسهم بما تقتضيه الشريعة والطريقة وعاملوا الناس والمريدين بذلك أيضا يخلق ما يشاء فلا يبعد أن يكون في خلقه من يمشي على أكثر كالكاملين الذين أوقفهم الله تعالى على أسرار الملك والملكوت وما حده لكل أمة من الأمم ونوع من أنواع المخلوقات فعاملوا بعد أن عملوا في أنفسهم ما يليق بهم كل أمة وكل نوع بما حد له كل قد علم صلاته وتسبيحه
وفي قوله تعالى ويقولون آمنا بالله وبالرسول الآيات إشارة إلى أحوال المنكرين في القلب على المشايخ وأحوال المصدقين بهم قلبا وقالبا وفي قوله سبحانه وإن تطيعوه تهتدوا إشارة إلى أن طاعة الرسول سبب لحصول المكاشفات ونحوها قال أبو عثمان : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول وإن تطيعوه تهتدوا وفي قوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إشارة إلى أنه لا ينبغي للمريد الإستبداد بشيء قال عبد الله الرازي : قال قوم من أصحاب أبي عثمان لأبي عثمان أوصنا فقال : عليكم بالإجتماع على الدين وإياكم
(18/229)

ومخالفة الأكابر والدخول في شيء من الطاعات إلا بإذنهم ومشورتهم وواسوا المحتاجين بما أمكنكم فإذا فعلتم أرجو أن لا يضبع الله تعالى لكم سعيا لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فيه من تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه و سلم ما فيه وذكر أن الشيخ في جماعته كالنبي في أمته فينبغي أن يحترم في مخاطبته ويميز على غيره فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم قال أبو سعيد الخراز : الفتنة إسباغ النعم مع الإستدراج وقال الجنيد قدس سره : قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر وقال بعضهم : طبع على القلوب والعذاب الأليم هو عذاب البعد والحجاب عن الحضرة نعوذ بالله تعالى من ذلك ونسأله سبحانه التوفيق إلى أقوم المسالك فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره
سورة الفرقان
أطلق الجمهور القول بمكيتها وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله سبحانه وكان الله غفورا رحيما وقال الضحاك : هي مدنية إلا أو لها إلى قوله تعالى ولا نشورا فهو مكي وعدد آياتها سبع وسبعون آية بلا خلاف كما ذكره الطبرسي والداني في كتاب العدد ولما ذكر جل وعلا في آخر السورة السابقة وجوب متابعة المؤمنين للرسول صلى الله عليه و سلم ومدح المتابعين وحذر المخالفين افتتح سبحانه هذه السورة بما يدل على تعاليه جل شأنه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله أو على كثرة خيره تعالى ودوامه وأنه أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا إطماعا في خيره وتحذيرا من عقابه جل شأنه وفي هذه السورة أيضا من تأكيد ما في السابقة من مدح الرسول صلى الله عليه و سلم ما فيها فقال تبارك وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا
1
- أي تعالى جل شأنه في ذاته وصفاته وأفعاله على أتم وجه وأبلغه كما يشعر به إشناد صيغة التفاعل إليه تعالى وهذا الفعل لا يسند في الأغلب إلى غيره تعالى ومثله تعالى ولا يتصرف فلا يجيء منه مضارع ولا أمر ولا في الأغلب أيضا وإلا فقد قرأ أبي كما سيأتي إن شاء الله تعالى تباركت الأرض ومن حولها وجاء كما في الكشف تباركت النخلة أي تعالت وحكى الأصمعي أن أعرابيا صعد رابية فقال لأصحابه : تباركت عليكم وقال الشاعر :
إلى الجذع جذع النخلة المتبارك
وقال الخليل : معنى تبارك تمجد وقال الضحاك : تعظم وهو قريب من قريب وعن الحسن والنخعي أن المعنى تزايد خيره وعطاؤه وتكاثر وهي إحدى روايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وثانيتهما أن المعنى لم يزل ولا يزال وتحقيق ذلك أن تبارك من البركة وهي في الأصل مأخوذة من برك البعير وهو صدوره ومنه برك البعير إذا ألقى بركه على الأرض واعتبر فيه معنى اللزوم فقيل براكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال وسمي محبس الماء بركة كسدرة ثم أطلقت على ثبوت الخير الإلهي في الشيء ثبوت الماء في البركة وقيل : لما فيه ذلك الخير مبارك ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة فمن اعتبر معنى اللزوم كابن عباس بناء على الرواية الثانية عنه قال : المعنى لم يزل ولا يزال أو نحو ذلك ومن اعتبر معنى التزايد انقسم إلى طائفتين فطائفة جعلوه باعتبار كمال الذات في نفسها ونقصان ما سواها ففسروا ذلك
(18/230)

بالتعالي ونحوه وطائفة جعلوه باعتبار كمال الفعل ففسروه بتزايد الخير وتكاثره ولا اعتبار للتغير المبني على اعتبار معنى اللزوم لقلة فائدة الكلام عليه وعدم مناسبة ذلك المعنى لما بعد ومن هنا ردد الجمهور المعنى بين ما ذكره أولا وما روي عن الحسن ومن معه وترتيب وصفه تعالى بقوله سبحانه تبارك بالمعنى الأول على إزنزاله جل شأنه الفرقان لما أنه ناطق بعلو شأنه سبحانه وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية وترتيب ذلك بالمعنى الثاني عليه لما فيه من الخير الكثير لأنه هداية ورحمة للعالمين وفيه ما ينتظم أمر المعاش والمعاد وكلا المعنيين مناسب للمقام ورجح الأول بأنه أنسب به لمكان قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا فقد قال الطيبي في اختصاص النذير البشير سلوك طريقة براعة الإستهلال والإيذان بأن هذه السورة مشتملة على ذكر المعاندين المتخذين لله تعالى ولدا وشريكا الطاعنين في كتبه ورسله واليوم الآخر وهذا يؤيد تأويل تبارك بتزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله جل وعلا لإفادته صفة الجلال والهيبة وإيذانه من أول الأمر بتعاليه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا وهو من الحسن بمكان و الفرقان مصدر فرق الشيء من الشيء وعنه إذا فصله ويقال أيضا كما ذكره الراغب فرقت بين الشيئين إذا فصلت بينهما سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر أو بفصل تدركه البصيرة والتفريق بمعناه إلا أنه يدل على التكثير دونه وقيل أن الفرق في المعاني والتفريق في الأجسام والمراد به القرآن وإطلاقه عليه لفصله بين الحق والباطل بما فيه من البيان أو بين المحق والمبطل لما فيه من الإعجاز أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في نفس أو في الإنزال حيث لم ينزل دفعة كسائر الكتب وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية في ذلك فهو مصدر بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول ويجوز أن يكون ذلك من باب هي إقبال وإدبار فلا تغفل
والمراد بعبده نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وإيراده عليه الصلاة و السلام بذلك العنوان لتشريفه والإيذان بكونه صلوات الله تعالى وسلامه عليه في أقصى مراتب العبودية والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبد للمرسل ردا على النصارى وقيل : المراد بالفرقان جميع الكتب السماوية لأنها كلها فرقت الحق والباطل وبعبده الجنس الشامل لجميع من نزلت عليهم وأيد بقراءة ابن الزبير على عباده ولا يخفى ما في ذلك من البعد والمراد بالعباد في قراءة ابن الزبير الرسول عليه الصلاة و السلام وأمته والإنزال كما يضاف إلى الرسول صلى الله عليه و سلم يضاف إلى أمته كما في قوله تعالى لقد أنزلنا إليكم لأنه واصل إليهم ونزله لأجلهم فكأنه منزل عليهم وإن كان إنزاله حقيقة عليه عليه الصلاة و السلام وقيل : المراد بالجمع هو صلى الله عليه و سلم وعبر عنه به تعظيما وضمير يكون عائد على عبده وقيل على الفرقان وإسناد الإنذار إليه مجاز وقيل على الموصول الذي هو عبارة عنه تعالى ورجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل والإنذار من صفاته عز و جل كما في قوله تعالى إنا كنا منذرين وقيل على التنزيل المفهوم من نزل والمتبادر إلى الفهم هو الأول وهو الذي يقتضيه ما بعد والنذير صفة مشبهة بمعنى منذر
وجوز أن يكون مصدرا بمعنى إنذار كالنكير بمعنى إنكار وحكم الإخبار بالمصدر شهير والإنذار إخبار فيه تخويف ويقابله التبشير ولم يتعرض له لما مر آنفا والمراد بالعالمين عند جمع من العالمين الإنس والجن ممن عاصره صلى الله عليه و سلم إلى يوم القيامة ويؤيد قراءة ابن الزبير للعالمين للجن والإنس وإرساله صلى الله عليه و سلم إليهم معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره وكذا الملائكة عليهم السلام كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه ورد على من
(18/231)

خالف ذلك وادعى بعضهم دلالة الآية عليه لأن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته العلى فيشمل الملائكة عليهم السلام وصيغة جمع العقلاء للتغليب أو جمع بعد تخصيصه بالعقلاء
ومن قال كالبارزي : إنه عليه الصلاة و السلام أرسل حتى إلى الجمادات بعد جعلها مدركة لظاهر خبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة لم يخصص واكتفى بالتغليب وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه عليه الصلاة و السلام ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين عليهم السلام
وتقديم الجار والمجرور على متعلقه للتشويق ومراعاة الفواصل وللحصر أيضا على القول الأول في العالمين وإبراز تنزيل الفرقان في معرض الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند السامع مع إنكار الكفرة له لإجرائه مجرى المعلوم المسلم تنبيها على قوة دلائله وكونه بحيث لا يكاد يجهله أحد كقوله تعالى لا ريب فيه وكذا يقال في نظائره من الصلات التي ينكرها الكفرة : وقال بعضهم : لا حاجة لما ذكر إذ يكفي في الصلة أن تكون معلومة للسامع المخاطب بها ولا يلزم أن تكون معلومة لكل سامع والمخاطب بها هنا هو رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو عليه الصلاة و السلام عالم بثبوتها للموصول وفي شرح التسهيل أنه لا يلزم فيها أن تكون معلومة وإن تعريف الموصول كتعريف أل يكون للعهد والجنس وأنه قد تكون صلته مبهمة للتعظيم كما في قوله : فإن أستطع أغلب وأن يغلب الهوى فمثل الذي لا قيت يغلب صاحبه وما ذكر أولا من تنزيلها منزلة المعلوم أبلغ لكونه كناية عما ذكر مناسبة للرد على من أنكر النبوة وتوحيد الله تعالى الذي له ملك السماوات والأرض أي له سبحانه خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا السلطان القاهر والإستيلاء الباهر عليهما المستلزم للقدرة التامة والتصرف الكلي فيهما وفيما فيهما إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة مستانفة مقررة لما قبلها أو على أنه نعت للموصول أو بيان له أو بدل منه وما بينهما ليس بأجنبي لأنه من تمام الصلة ومتعلق بها فلا يضر الفصل به بين التابع والمتبوع كما في البحر أو محله الرفع أو النصب على المدح بتقدير هو أو أمدح
واختار الطيبي أن محله الرفع على الإبدال وعلله بقوله لأن من حق الصلة أن تكون معلومة عند المخاطب وتلك الصلة لم تكن معلومة عند المعاندين فأبدل الذي له الخ بيانا وتفسيرا وهو بعيد من مقله وسبحان من لا يعاب عليه شيء ولم يتخذ ولدا أي لم ينزل أحدا منزلة الولد وقيل أي لم يكن ولد كما يزعم الذين يقولون في حق المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام ما يقولون فسبحان الله عما يصفون والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة الظرفية وكذا قوله تعالى ولم يكن له شريك في الملك أي ملك السماوات والأرض وأفرد بالذكر مع أن ما ذكر من اختصاص ملكهما به تعالى مستلزم له قطعا للتصريح ببطلان زعم الثنوية القائلين بتعدد الآلهة والرد في نحورهم وتوسيط نفي اتخاذ الولد بينهما للتنبيه على استقلاله وأصالته
(18/232)

والإحتراز عن توهم كونه تتمة للأول وخلق كل شيء أي أحدثه إحداثا جاريا على سنن التقدير والتسوية حسبما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة فقدره أي هيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به تقديرا
2
- بعيدا لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاش واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك فلا تكرار في الآية لما ظهر من أن التقدير الدال عليه الخلق بمعنى التسوية والمعبر عنه بلفظه بمعنى التهيئة وهما غير أن والخلق على هذا على حقيقته ويجوز أن يكون الخلق مجازا بل منقولا عرفيا في معنى الأحداث والإيجاد غير ملاحظ فيه التقدير وإن لم يخل عنه ولهذا صح التجوز ويكون التصريح بالتقدير دلالة على أن كل واحد مقصود بالذات فكأنه قيل وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا بل أوجده متناصفا متناسبا وقيل التقدير الثاني هو التقدير للبقاء إلى الأجل المسمى فكأنه قيل وأوجد كل شيء على سنن التقدير فأدامه إلى الأجل المسمى والقول الأول مختار الزجاج وهو كما في الكشف أظهر والفاء عليه للتعقيب مع الترتيب
وزعم بعضهم أن في الكلام قلبا وهو على ما فيه لا يدفع لزوم التكرار بدون أحد الأوجه المذكورة كما لا يخفى وجملة خلق الخ عطف على ما تقدم وفيها رد على الثنوية القائلين بأن خالق الشر غير خالف الخير ولا يضر كونه معلوما مما تقدم لأنها تفيد فائدة جديدة لما فيها من الزيادة وقيل : هي رد على من يعتقد اعتقاد المعتزلة في أفعال الحيوانات الإختيارية وفي إرشاد العقل السليم أنها جارية مجرى العليل لما قبلها من الجمل المنتظمة في سلك الصلة فإنه خلقه تعالى لجميع الأشياء على النمط البديع كما يقتضي استقلاله تعالى باتصافه بصفات الألوهية يقتضي انتظام كل ما سواه كائنا تحت ملكوته القاهر بحيث لا يشذ عن ذلك شيء ومن كان كذلك كيف يتوهم كونه ولدا له سبحانه أو شريكا في ملكه عز و جل وذكر الطيبي أن قوله تعالى : له ملك السماوات والأرض توطئة وتمهيد لقوله سبحانه : لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وأردف بقوله تعالى : وخلق كل شيء لما أن كونه سبحانه بديع السماوات والأرض وفاطرهما ومالكهما مناف لاتخاذ الولد والشريك قال تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد الآية وقد يقال : إن هذه الجملة تصريح بما علم قبل ليكون التشنيع على المشركين بقوله سبحانه : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أظهر وضمير اتخذوا للمشركين المفهوم من قوله تعالى : ولم يكن له شريك في الملك أو من المقام وقوله سبحانه : نذيرا وقال الكرماني : للكفار وهم مندرجون في قوله تعالى : للعالمين والمراد حكاية أباطيلهم في أمر التوحيد والنبوة وإظهار بطلانها بعد أن بين سبحانه حقيقة الحق في مطلع السورة الكريمة أي اتخذوا لأنفسهم متجاوزين الله تعالى الذي ذكر بعض شؤنه العظيمة آلهة لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء وهم مخلوقون لله تعالى أو هم يختلقهم عبدتهم بالنحت والتصوير ورجح المعنى الأول بأن الكلام عليه أشمل ولا يختص بالأصنام بخلافه على الثاني ويكون التعبير بالمضارع عليه في يخلقون المبني للمفعول لمشاكلة يخلقون المبني للفاعل مع استحضار الحال الماضية ورجح المعنى الثاني بأنه أنسب بالمقام لأن الذين أنذرهم نبينا صلى الله عليه و سلم
(18/233)

شفاها عبدة الأصنام وأن الأحكام الآتية أوفق بها نعم فيه تفسير الخلق بالإفتعال كما في قوله تعالى : وتخلقون إفكا لأنه الذي يصح نسبته لغيره عز و جل وكذا الخلق بمعنى التقدير كما في قول زهير : ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري والمتبادر منه إيجاد الشيء مقدارا بمقدار كما هو المراد من سابقه وتفسيره بذلك أيضا كما فعل الزمخشري بعيد كذا قيل : وتعقب بأنه يجوز أن يراد منه هذا المتبادر والأصنام بذواتها وصورها وأشكالها مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق لأن أفعال العباد وما يترتب عليها وينشأ منها من الآثار مخلوقة له عز و جل عندهم كما حقق بل لو قيل بتعين هذه الإرادة على ذلك الوجه لم يبعد وقوله تعالى : ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا لبيان حالهم بعد خلقهم ووجودهم والمراد لا يقدرون على التصرف في ضر ما ليدفعوه عن أنفسهم ولا في نفع ما حتى يجلبوه إليهم ولما كان دفع الضر أهم أفيد أولا عجزهم عنه وقيل : لأنفسهم ليدل على غاية عجزهم لأن من لا يقدر على ذلك في حق نفسه فلأن لا يقدر عليه في حق غيره من باب أولى ومن خص الأحكام في الأصنام قال : إن هذا لبيان مالم يدل عليه ما قبله من مراتب عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين العاجزين عن الخلق ربما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان وقد يقال : التصرف في الضر والنفع بالدفع والجلب على الإطلاق ليس على الحقيقة إلا لله عز و جل كما ينبيء عنه قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه و سلم : قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله وقوله تعالى : ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا
3
- أي لا يقدرون على التصرف في شيء منها بإماتة الأحياء وإحياء الموتى في الدنيا وبعثهم في الأخرى للتصريح بعجزهم عن كل واحد مما ذكر على التفصيل والتنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك وتقديم الموت لمناسبة الضر المقدم وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك القائلون كما أخرجه جمع عن قتادة هو مشركو العرب لا جميع الكفار بقرينة ادعاء إعانة بعض أهل الكتاب له صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سمي منهم في بعض الروايات النضر بن الحرث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد ويجوز أن يراد غلاتهم كهؤلاء ومن ضامهم وروي عن ابن عباس ما يؤيده وروي عن الكلبي ومقاتل أن القائل هو النضر والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك ومن خص ضمير اتخذوا بمشركي العرب وجعل الموصول هنا عبارة عنهمخ كلهم جعل وضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة والإيذان بأن ما تفوهوا به كفر عظيم وفي كلمة هذا حط لرتبة المشار إليه أي قالوا ما هذا إلا كذب مصروف عن وجهه افتراه يريدون أنه اخترعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينزل عليه عليه الصلاة و السلام وأعانه عليه أي على إفترائه واختراعه أو على الإفك قوم آخرون يعنون اليهود بأن يلقوا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبار الأمم الدارجة وهو عليه الصلاة و السلام يعبر عنها بعبارته وقيل : هم عداس وقيل : عائش مولى حويطب بن عبد العزي ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبريل مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤن التوراة أسلموا وكان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يتعهدهم فقيل ما قيل وقال المبرد : عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلا من جنس الأول وفيه أن الإشتراك في الوصف غير لازم ألا ترى قوله تعالى : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى
(18/234)

كافرة فقد جاءوا أي الذين كفروا كما هو الظاهر ظلما منصوب بجاءوا فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيتعديان تعديته كما قال الكسائي واختار هذا الوجه الطبرسي وأنشد قوله طرفة : على غير ذنب جئته غير أنني نشدت فلم أغفل حمولة معبد وقال الزجاج : منصوب بنزع الخافض فهو من باب الحذف والإيصال وجوز أبو البقاء كونه حالا أي ظالمين والأول أولى والتنوين فيه للتفخيم أي جاؤا بما قالوا ظلما هائلا عظيما لا يقادر قدره حيث جعلوا الحق البحت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إفكا مفترى من قبل البشر وهو من جهة نظمه الرائق وطرازه الفائق بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ومن وجهة اشتماله على الحكم الخفية والأحكام المستتبعة للسعادات الدينية الدنيوية والأمور الغيبية بحيث لا تناله عقول البشر ولا تحيط بفهمه القوى والقدر وكذا التنوين في وزورا
4
- أي وكذبا عظيما لا يبلغ غايته حيث قالوا ما لا احتمال فيه للصدق أصلا وسمي الكذب زورا لازوراره أي ميله عن جهة الحق والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة يقع أحدهما عقيب الآخر أو يحصل بسببه بل على أن الثاني عين الأول حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الإعتيادي وقد لتحقيق ذلك المعنى فإن ما جاءه من الظلم والزور هو عين ما حكى عنهم لكنه لما كان مغايرا له في المفهوم وأظهر منه بطلانا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره كما قاله شيخ الإسلام وقيل : ضمير جاؤا عائد على قوم آخرين والجملة من مقول الكفار وأرادوا أن أولئك المعينين جاءوا ظلما بإعانتهم وزورا بما أعانوا به وهو كما ترى
وقالوا أساطير الأولين بعد ما جعلوا الحق الذي لا محيد عنه إفكا مختلفا بإعانة البشر بينوا على زعمهم الفاسد كيفية الإعانة وتقدم الكلام في أساطير وهي خبر مبتدأ محذوف أي هذه أو هو أو هي أساطير الأولين وقوله تعالى اكتتبها خبر ثان وقيل : حال بتقدير قد وتعقب بأن عامل الحال إذا كان معنويا لا يجوز حذفه كما في المغنى وفيه أنه غير مسلم كما في شرحه وجوز أن يكون أساطير مبتدأ وجملة اكتتبها الخبر ومرادهم كتبها لنفسه والإسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة والمراد أمر بكتابتها أو يقال حقيقة أكتبت أمر بالكتابة فقد شاع افتعل بهذا المعنى كاحتجم وافتصد إذا أمر بالحجامة والفصد وقيل قالوا ذلك لظنهم أنه يكتب حقيقة أو لمحض الإفتراء عليه عليه الصلاة و السلام بناء على علمهم أنه لم يكن يكتب صلى الله عليه و سلم وقيل : مرادهم جمعها من كتب الشي جمعه والجمهور على الأول
وقرأ طلحة اكتتبها مبنيا للمفعول والأصل اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه فبني الفعل للمفعول وأسند للضمير فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا وهذا مبني على جواز إقامة المفعول الغير الصريح مقام الفاعل مع وجود الصريح وهو هنا ضمير الأساطير وهو الذي ارتضاه الرضي وغيره وجمهور البصريين على عدم الجواز وتعين المفعول الصريح للإقامة فيقال عندهم : اكتتبه وعليه قول الفرزدق :
(18/235)

ومنا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هب الرياح الزعازع بنصب الرجال وعلى الأول كان حق التركيب اختيره الرجال بالرفع فإن الأصل اختاره من الرجال مختار وظاهر أنه إذا عمل فيه ما تقدم يصير إلى ما ذكر فهي تملي عليه أي تلقي تلك الأساطير عليه بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة فالإملاء الإلقاء للحفظ بعد الكتابة استعارة لا الإلقاء للكتابة كما هو المعروف حتى يقال : إن الظاهر العكس بأن يقال : أمليت عليه فهو يكتتبها أو المعنى أراد اكتتابها أو طلب كتابتها فأمليت عليع أي عليه نفسه أو على كاتبه فالإملاء حينئذ باق على ظاهره وقرأ طلحة وعيسى تتلى بالتاء بدل الميم بكرة وأصيلا
5
- أي دائما أو قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم وعنوا بذلك أنها تملي عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال وهذه جراءة عظيمة منهم قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وعن الحسن أن اكتتبها الخ من قول الله عز و جل يكذبهم به وإنما يستقيم أن لو افتتحت الهمزة في اكتتبها للإستفهام الذي هو في معنى الإنكار ووجه أن يكون نحو قول حضرمي بن عامر وقد خرج يتحدث في مجلس قوم وهو في حلتين له فقال جزء بن سنان بن مؤلة : والله إن حضرميا لجذل بموت أخيه إن ورثه : أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث زودا شصايصا نبلا من أبيات وحق للحسن على ما في الكشاف أن يقف على الأولين قل لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازلتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق الله تعالى العليم الخبير عليها وإذا أرادوا ببكرة وأصيلا خفية عن الناس ازداد موقع السر حسنا وأما التذييل بقوله تعالى إنه كان غفورا رحيما
6
- فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلا وأبدا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الإستمرار فلذلك لا يجعل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياه وغاية قدرته سبحانه عليها ولو لا ذلك لصب عليكم العذاب صبا وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى : لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
وجوز أن يكون الكلام كناية عن الإقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة وفي إيثارها تعبير لهم ونعي على فعلهم يعني أنكم فيما أنتم عليه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته المغفرة والرحمة وليس بذاك وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال : ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك لأجل
(18/236)

أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مغفورة أن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها وأن لا ييأسوا من رحمته تعالى بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة وهو كما ترى
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام الخ نزلت في جماعة من كفار قريش أخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه ابن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم عليه الصلاة و السلام فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك وإن كنت تريد ملكا ملكناك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله عز و جل بيني وبينكم قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا عليك فما لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فأنزل الله تعالى في قولهم ذلك وقالوا مال هذا الرسول الخ
وقد سيق هنا لحكاية جنايتهم المتعلقة بخصوص المنزل عليه الفرقان بعد حكاية جنايتهم التي تتعلق بالمنزل وما استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه في محل رفع على الإبتداء والجار والمجرور بعدها متعلق بمحذوف خبر لها وقعت اللام مفصولة عن هذا المجرور بها في خط الإمام وهي سنة متبعة وعتوا بالإشارة والتعبير بالرسول الإستهانة والتهكم وجملة يأكل الطعام حال من الرسول والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الإستقرار وجوز أن يكون الجار والمجرور أي أي شيء وأي سبب لهذا الزاعم أنه رسول حال كونه يأكل الطعام كما نأكل ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية ومن الناس من جوز جعل الجملة استئنافية والأولى ما ذكرنا ومرادهم استبعاد الرسالة المنافية لأكل الطعام وطلب المعاش على زعمهم فكأنهم قالوا : إن صح ما يدعيه فما باله لم نألف حاله حالنا وليس هذا إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أبصارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عليهم السلام عما عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية أعني ما جبلهم الله تعالى عليه من الكمال كما يشير إليه قوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد واستدل بالآية على إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الدين والصلاح خلافا لمن كرهه لهم
(18/237)

لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا
7
- أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها تنزل عما تقدم كأنهم قالوا : إن لم توجد المخالفة بيننا وبينه في الأكل والتعيش فهلا يكون معه من يخالف فيهما يكون ردءا له في الإنذار فإن لم توجد فهلا يخالفنا في أحدهما وهو طلب المعاش بأن يلقى إليه من السماء كنز يستظهر به ويرتفع احتياجه إلى التعيش بالكلية فإن لم يوجد فلا أقل من رفع الإحتياج في الجملة بإتيان بستان يتعيش بريعه كما للدهاقين والمياسير من الناس والزمخشري ذكر أنهم عنوا بقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق أنه كان يجب أن يكون ملكا ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك له يعينه ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل من ويرتزق قيل الجملة الأخيرة فقط تنزل منهم وما قبل استئناف جوابا عما يقال كيف يخالف حاله صلى الله عليه و سلم حالكم وبأي شيء يحصل ذلك ويتميز عنكم ولا يخفى ما فيه ونصب يكون على جواب التحضيض وقريء فيكون بالرفع حكاه أبو معاذ وخرج على أن يكون معطوف على أنزل لأنه لو وقع موقعه المضارع لكان مرفوعا لأنك تقول ابتداء لو لا ينزل بالرفع وقد عطف عليه يلقى و تكون وهما مرفوعان أو هو جواب التخضيض على إضمار هو أي فهو يكون ولا يجوز في مثل هذا التركيب نصب يلقى وتكون بالعطف على يكون المنصوب لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب
ولعل التعبير أولا بالماضي مع أن الأصل في أولا التي للتحضيض أو العرض دخولها على المضارع لأن إنزال الملك مع قطع النظر عن أن يكون معه عليه الصلاة و السلام نذيرا أمر متحقق لم يزل مدعيا له صلى الله عليه و سلم فما أخرجوا الكلام حسبما يدعيه عليه الصلاة و السلام وإن لم يكن مسلما عندهم وفيه نوع تهكم منهم قاتلهم الله تعالى بخلاف الإلقاء وحصول الجنة ولعل في التعبير بالمضارع فيهما وإن كان هو الأصل إشارة إلى الإستمرار التجددي كأنهم طلبوا شيئا لا ينفد وذكر ابن هشام في المغنى عن الهروي أنه قال بمجيء لو لا للإستفهام ومثل له بمثالين أحدهما قوله تعالى لو لا أنزل إليه ملك وتعقب ذلك بأنه معنى لم يذكره أكثر النحويين والظاهر أنها في المثال المذكور مثلها في قوله تعالى لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء وذكر أنها في ذلك للتوبيخ والتنديم وهي حينئذ تختص بالماضي ولا يخفى أنه إن عنى بقوله تعالى لو لا أنزل إليه ملك ما وقع هنا فأمر كونها فيه للتوبيخ والتنديم في غاية الخفاء فتدبر وقرأ قتادة والأعمش أو يكون بالياء آخر الحروف وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش نأكل بالنون إسنادا للفعل إلى ضمير الكفر القائلين ما ذكر وقال الظالمون هم القائلون الأولون وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه لكونه إضلالا خارجا عن حد الضلال مع ما فيه من نسبته صلى الله عليه و سلم إلى ما يشهد العقل والنقل ببراءته منه أو إلى ما لا يصلح أن يكون متمسكا لما يزعمون من نفي الرسالة وقيل : يحتمل أن يكون المراد وقال الكاملون في الظلم منهم وأيا ما كان فالمراد أنهم قالوا للمؤمنين أن تتبعون أي ما تتبعون إلا رجلا مسحورا
8
- سحر فغلب على عقله فالمراد بالسحر ما به اختلال العقل وقيل : أصيب سحره أي رئته فاختل حاله كما يقال مرؤس أي أصيب رأسه وقيل : يسحر بالطعام وبالشراب أي يغذي أو ذا سحر أي رئة على أن مفعول للنسب وأرادوا أنه عليه الصلاة و السلام بشر مثلهم وقيل أي ذا سحر بكسر السين وعنوا قاتلهم الله تعالى ساحرا والأظهر على ما في البحر التفسير الأول وذكر أن هو الأنسب بحالهم انظر كيف ضربوا لك الأمثال استعظام
(18/238)

للأباطيل التي اجترؤا على التفوه بها وتعجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع فضلوا فلا يستطيعوا سبيلا
9
- فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون في القدح في نبوتك قولا يستقرون عليه وإن كان باطلا في نفسه فالفاء الأولى سببية ومتعلق ضلوا غير منوي والفاء الثانية تفسيرية أو فضلوا عن طريق الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المفدمات الحقة فالفاء في الموضعين سببية ومتعلق ضلوا منوي ولعل الأول أولى والمراد نفي أن يكون ما أتوا به قادحا في نبوته صلى الله عليه و سلم ونفى أن يكون عندهم ما يصلح للقدح قطعا على أبلغ وجه فإن القدح فيها إنما يكون في القدح بالمعجزات الدالة عليها وما أتوا به لا يفيد ذلك أصلا وأنى لهم بما يفيده
تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا
10
- أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئا خيرا لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور وكذا في الكشاف وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصورا في الدنيا ولا يخفى ما فيه وقيل : المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة ودخلت إن على فعل المشيئة تنبيها على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد والعباد على الله عز و جل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى بل كذبوا بالساعة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لما أنه مطلوب لذانه بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضا أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز وعدم التعرض لجواب الإقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية وربما يعلم من كثير من الآيات كذا قيل
وفي إرشاد العقل السليم أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلى الله عليه و سلم جنة يأكل منها وجنات بدل من خيرا محقق لخيريته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقا عن قيد التعدد وجريان الأنهار وتعليق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بان عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح وعدم التعرض لجواب الإقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الإقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم السلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكا عظيما انتهى وهذا الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وما ذكر أولا استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد وحكى عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال : إنه بعيد وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره وصاحب الإرشاد والظاهر أن يجعل مجزوم فيكون معطوفا على محل الجزاء الذي هو جعل وهو جزاء أيضا وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظا كما أنهما مستقبلتان معنى والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة
(18/239)

وكأن التعبير على هذا بالجملتين الماضويتين لفظا في إن شاء جعل الخ لزيادة تبكيت الكفار فيما اقترحوا من جنسه ولما لم يقترحوا ما هو من جنس جعل القصور لم يسلك فيه ذلك المسلك فتدبر وقيل : كان الظاهر نعد التعبير أولا في الجزاء بالماضي أن يعبر به هنا أيضا لكنه عدل إلى المضارع لأن جعل القصور في الجنان مستقبل بالنسبة إلى جعل الجنان ثم أن هذا العطف يقتضي عدم دخول القصور في الخير المبدل منه قوله سبحانه جنات وكان ما تقدم عن الكشاف بيان الحاصل المعنى بمعونة السياق وجوز أن يكون مرفوعا أدغمت لامه في لام لك لكن إدغام المثلين غذا تحرك أولهما إنما هو مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالتسكين من السبعة هو وحمزة والكسائي ونافع وفي رواية محبوب عنه أنه قرأ بالرفع بلا إدغام وهي قراءة ابن عامر وابن كثير ومجاهد وحميد وأبي بكر والعطف على هذه القراءة واحتمال الإدغام عند ابن عطية على المعنى في جعل لأن جواب الشرط موضع استئناف ألا يرى من المبتدأ والخبر قد تقع موقع جواب الشرط
وقال الزمخشري : وهو معطوف على جعل لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع كقول زهير في مدح هرم بن سنان وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم ومذهب سيبويه أن الجواب في مثل ذلك محذوف وأن المضارع الموفوع على نية التقديم وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء والتركيب عند الجمهور فصيح سائغ في النثر كالشعر وحكى أبو حيان عن بعض أصحابه أنه لا يجوز إلا في الضرورة إذ لم يجيء إلا في الشعر وتمام الكلام في تحقيق المذاهب في محله وقال الحوفي وأبو البقاء : الرفع على الإستئناف قيل وهو استئناف نحوي والكلام وعد له صلى الله عليه و سلم بجعل تلك القصور في الآخرة ولذا عدل عن الماضي إلى المضارع الدال على الإستقبال وقيل : هو استئناف بياني كان قائلا يقول : كيف الحال في الآخرة فقيل : يجعل لك فيها قصورا وجعل بعضهم على الإستئناف هذا الجعل في الدنيا أيضا على معنى إن شاء جعل لك في الدنيا جنات ويجعل لك في تلك الجنات قصورا إن تحققت الشرطية وهو كما ترى وقيل : الرفع بالعطف على تجري صفة بتقدير ويجعل فيها أي الجنات وليس بشيء وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان ويجعل بالنصب على إضمار أن ووجهه على ما نقل عن السيرافي أن الشرط لما كان غير مجزوم أشبه الإستفهام وقيل : لما كان غير واقع حال المشاطرة أشبه النفي وقد ذكر النصب بعده سيبويه وقال إنه ضعيف وقيل : الفعل مرفوع وفتح لامه اتباعا للام لك نظير ما قيل في قوله : لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال من أنه فتح راء غير اتباعا لهمزة أن وهو أحد وجهين في البيت ونظير الآية في هذه القراءات قول النابغة : فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام فإنه يروى في نأخذ الجزم والرفع والنصب بل كذبوا بالساعة انتقال إلى حكاية نوع آخر
(18/240)

من أباطيلهم متعلق بأمر المعاد وما قبل كان متعلقا بأمر التوحيد وأمر النبوة لا يضر في ذلك العود إلى ما يتعلق بالكلام السابق واختلاف أساليب الحكاية لاختلاف المحكي وما ألطف تصدير حكاية ما يتعلق بالآخرة قبيل الإنتقالية
وقوله تعالى وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا
11
- الخ لبيان ما لهم في الآخرة بسببه أي هيأنا لهم نارا عظيمة شديدة الإشتعال شأنها كيت وكيت بسبب تكذيبهم بها على ما يشعر به وضع الموصول موضع ضميرهم أو لكل من كذب بها كائنا من كان وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا وضع الساعة ضميرها للمبالغة في التشنيع وهذا الإعتداد وإن كان ليس بسبب تكذيبهم بها خاصة بل يشاركه في السببية له ارتكابهم الأباطيل في أمر التوحيد وأمر النبوة إلا أنه لما كانت الساعة نفسها هي العلة القريبة لدخولهم السعير أشير بما ذكر إلى سببية التكذيب بها لدخولها ولم يتعرض للإشارة إلى سببية شيء آخر وقيل من كذب بالساعة صار كالإسم لأولئك المشركين والمكذبين برسول الله صلى الله عليه و سلم والمكذبين بالساعة أي الجامعين للأوصاف الثلاثة لأن التكذيب بها أخص صفاتهم القبيحة وأكثر دورانا على ألسنتهم إذ من الكفار من يشرك ويكذب برسول الله عليه الصلاة و السلام ولا يكذب بالساعة فالمراد من يكذب بالساعة أولئك الصنف من الكفرة وهو كما ترى
وقيل : إن قوله تعالى بل كذبوا بالساعة عطف على قوله تعالى قالوا ما لهذا الرسول الخ وإضراب عنه إلى ما هو أعجب منه على معنى أن ذلك تكذيب للرسول صلى الله عليه و سلم وهذا تكذيب لله سبحانه وتعالى ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك إلى قوله تعالى فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وظاهره أن أعجبية التكذيب بالساعة لأنه تكذيب لله عز و جل وقال بعضهم : إن الأعجبية لأنهم أنكروا قدرة الله تعالى على الإعادة مع ما شاهدوه في الأنفس والآفاق وما ارتكز في أوهامهم من أن الإعادة أهون من الإبداء وليس ذلك تكذيب الله عز و جل فإنهم لم يسمعوا أمر الساعة إلا من النبي صلى الله عليه و سلم فهو تكذيب له عليه الصلاة و السلام فيه وأنت تعلم أن في الحديث إشارة إلى ما ارتضاه
وقيل : إضراب عن ذاك على معنى أتوا بأعجب منه حيث كذبوا بالساعة وأنكروها والحال أنا قد اعتدنا لمن كذب بها سعيرا فإن جراءتهم على التكذيب بها وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها من أنواع العذاب أعجب من القول السابق وتعقب بأنه كون الجراءة على التكذيب بالساعة أعجب من الجراءة على القول السابق بعد ظهور المعجزة ولا نسلم أن انضمام عدم الخوف مما يترتب عليه إذا كان ذلك الترتيب في الساعة المكذب بها يفيد شيئا وفيه تأمل وقيل : هو إضراب عن ذاك على معنى أتوا بأعجب منه حيث كذبوا بالساعة التي أخبر بها جميع الأنبياء عليهم السلام فالجراءة على التكذيب بها جراءة على التكذيب بهم والجراءة على التكذيب بهم أعجب من الجراءة على القول السابق وتعقب بأن مرادهم من القول السابق نفي نبوته عليه الصلاة و السلام وتكذيبه وحاشاه ثم حاشاه من الكذب في دعواه إياها لعدم مخالفة حاله صلى الله عليه و سلم حالهم واتصافه بما زعموا منافاة للرسالة وذلك موجود ومتحقق في جميع الأنبياء عليهم السلام فتكذيبه صلى الله عليه و سلم لذلك تكذيب لهم أيضا فلا يكون التكذيب بالساعة على ما ذكر أعجب من تكذيب النبي صلى الله عليه و سلم لاشتراك التكذيبين في كونهما في حكم تكذيب الكل وقيل : هو متصل بقوله تعالى تبارك الذي إن شاء الخ الواقع جوابا لهم والمنبيء عن الوعد بالجنات والقصور في الآخرة مسوق لبيان أن ذلك لا يجدي نفعا على طريقة قول من قال :
(18/241)

عوجوا لنعم فحيوا دمنة الدار ماذا تحيون من نؤى وأحجار والمعنى أنهم لا يؤمنون بالساعة فكيف يقتنعون بهذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وقيل : إضراب عن الجواب إلى بيان العلة الداعية لهم إلى التكذيب والمعنى بل كذبوا بالساعة فقصرت أنظارهم على الحظوظ الدنيوية وظنوا أن الكرامة ليست إلا بالمال وجعلوا خلو يدك عنه ذريعة إلى تكذيبك وقوله تعالى إذا رأتهم إلى آخره صفة للسعير والتأنيث باعتبار النار وقيل لأنه علم لجهنم كما روي عن الحسن وفيه أنه لو كان كذلك لامتنع دخول أل عليه ولمنع من الصرف للتأنيث والعلمية
وأجيب بأن دخول أل للمح الصفة وهي تدخل الإعلام لذلك كالحسن والعباس وبأنه صرف للتناسب ورعاية الفاصلة أو لتأويله بالمكان وتأنيثه هنا للتفنن وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد إذ لا امتناع في أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكا كهذه الآية وقوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وقوله صلى الله عليه و سلم كما في صحيح البخاري شكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا فاذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف إلى غير ذلك وإذا صح ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من بين عيني حهنم قالوا : يا رسول الله هل لجهنم من عين قال : نعم أما سمعتم الله تعالى يقول إذا رأتهم من مكان بعيد فهل تراهم إلا بعينين كان ما قلناه هو الصحيح وإسنادها إليها لا إليهم للإيذان بأن التغيظ والزفير منها لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم من مكان بعيد هو أقصى ما يمكن أن يرى منه وروي أنه هنا مسيرة خمسمائة عام وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس أنه مسيرة مائة عام وحكى ذلك عن السدي والكلبي وروي أيضا عن كعب وقيل : مسيرة سنة وحكاه الطبرسي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ونسبه في إرشاد العقل السليم إلى السدي والكلبي سمعوا لها تغيظا أي صوت تغيظ ليصح تعلق السماع به وفي مفردات الراغب الغيظ أشد الغضب والتغيظ هو إظهار الغيظ وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما في هذه الآية وقيل : أريد بالسماع مطلق الإدراك كأنه قيل : أردكوا لها تغيظا وزفيرا
12
- هو إخراج النفس بعد مده على ما في القاموس وقال الراغب : هو ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه وشاع استعماله في نفس صوت ذلك النفس ولا شبهة في أنه مما يتعلق به السماع ولذا استشكلوا تعلق السماع بالتغيظ دون الزفير فأولوا لذلك بما سمعت وقال بعضهم : إن ما ذكر من قبيل قوله : ورأيت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا وهو بتقدير سمعوا لها وأدركوا تغيظا وزفيرا ويعاد كل إلى ما يناسبه ومن الناس من قال : الكلام خارج مخرج المبالغة بجعل التغيظ مع أنه ليس من المسموعات مسموعا والتنوين فيه وفي زفيرا للتفخيم
وقد جاء في الآثار ما يدل على شدة زفيرها أعاذنا الله تعالى منها ففي خبر أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم
(18/242)

بسند صحيح عن ابن عباس أنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن عبيد بن عمير أنه قال في قوله تعالى سمعوا لها الخ : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي وأخرج أبو نعيم عن كعب قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد فنزلت الملائكة صفوفا فيقول الله تعالى لجبريل عليه السلام : ائت بجهنم فيأتي بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت زفرة ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهل العقول فيفزع كل امريء إلى عمله حتى أن إبراهيم عليه السلام يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى عليه السلام : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي ويقول عيسى عليه السلام : بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني ومحمد صلى الله عليه و سلم يقول : أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي فيجيبه الجليل جل جلاله إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فوعزتي لأقرن عينك ثم تقف الملائكة عليهم السلام بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون وهذه الأخبار ظاهرة في أن النار هي التي تزفر وأن الزفير على حقيقته
وزعم بعضهم أن زفيرها صوت لهيبها واشتعالها وقيل : إن كلا من الرؤية والتغيظ والزفير لزبانيتها ونسبته إليها على حذف المضاف ونقل ذلك عن الجبائي وقيل : إن قوله تعالى رأتهم من قوله صلى الله عليه و سلم إن المؤمن والكافر لا تتراءى نارهما وقولهم : دورهم تتراءى وتتناظر كأن بعضها يرى بعضا على سبيل الإستعارة بالكناية والمجاز المرسل وجوز أن يكون من باب التمثيل وأيا ما كان فالمراد إذا كانت بمرأى منهم وقوله سبحانه : سمعوا لها تغيظا على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وفيه استعارة تصريحية أو مكنية وجوز أن تكون تمثيلية وقد ذكر هذا التأويل الزمخشري مقدما له وذكر بعض الأئمة أن هذا مذهب المعتزلة لأنهم جعلوا البنية شرطا في الحياة
وفي الكشف الأشبه أن ذلك ليس لأن البنية شرط ومن أين العلم بأن بنية نار الآخرة بحيث لا تستعد للحياة بل لأنه لا بد من ارتكاب خلاف الظاهر من جعل الشيء المعروف جماديته حيا ناطقا فكان خبرا على خلاف المعتاد أو الحمل على المجاز التمثيلي الشائع في كلامهم لا سيما في كلام الله تعالى ورسله عليهم السلام وإذ لاح الوجه فكن الحاكم في ترك الظاهر إلى هذا أو ذاك وفتح هذا الباب لا يجر إلى مذهب الفلاسفة كما توهم صاحب الإنتصاف ولا يخالف تعبدنا بالظواهر فإن ما يدعونه أيضا ليس بظاهر انتهى وأنت تعلم بعد الإغماض عن المناقشة فيما ذكر أن الحمل على الحقيقة هنا أبلغ في التهويل ولعله يهون أمر الخبر على خلاف المعتاد وهذا إن صح لم يصح الخبر السابق أما إذا صح فلا ينبغي العدول عما يقتضيه وليس لأحد قول مع قوله صلى الله عليه و سلم فإنه الأعلم بظاهر الكتاب وخافيه وإذا ألقوا منها مكانا أي في مكان فهو منصوب على الظرفية و منها حال منه لأنه في الأصل صفة وجوز تعلقه بألقوا
وقوله تعالى ضيقا صفة لمكانا مقيدة لزيادة شدة الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
(18/243)

سئل عن قوله تعالى وإذا ألقوا الخ فقال : والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أها تضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح
وقرأ الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يحطهم الداخلون فيزدحمون وقرأ ابن كثير ضيقا بسكون الياء
مقرنين حال من ضمير ألقوا أي إذا ألقوا مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع وقيل : مقرنين مع الشياطين في السلاسل كل كافر مع شيطانه وفي أرجلهم الأصفاد وحكى عن الجبائي وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالرفع ونسبها ابن خالويه إلى معاذ ووجهها على ما في البحر كونه بدلا من ضمير ألقوا بدل نكرة من معرفة دعوا هنالك أي في ذلك المكان الهائل ثبورا
13
- أي هلاكا كما قال الضحاك وقتادة وهو مفعول دعوا أي نادوا ذلك فقالوا : يا ثبوراه على معنى احضر فهذا وقتك وجعل غير واحد النداء بمعنى التمني فيتمنون الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل أشد من الموت ما يتمنى معه الموت
وجوز أبو البقاء نصب ثبورا على المصدرية لدعوا على معنى دعوا دعاء وقيل : على المصدرية لفعل محذوف ومفعول دعوا مقدر أي دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبورا وكلا القولين كما ترى ولا اختصاص لدعاء الثبور بكفرة الإنس فإنه يكون للشيطان أيضا أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والزاز : وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو بنادي يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على النار : فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم الحديث وفي بعض الروايات أن أول من يقول ذلك إبليس ثم يتبعه أتباعه وظاهره شمول الأتباع كفرة الإنس والجن ولا يتوهم اختصاص ذلك ببعض كفرة الإنس بناء على ما قيل : إن الآية نزلت في أبي جهل وأصحابه لما لا يخفى وقوله تعالى : لا تدعوا الليوم ثبورا واحدا على تقدير قول إما منصوب على أنه حال من فاعل دعوا أي دعوا مقولا لهم ذلك حقيقة كما هو الظاهر بأن تخاطبهم الملائكة لتنبيههم على خلود عذابهم وأنهم لا يجابون إلى ما يدعونه أو لا ينالون ما يتمنونه من الهلاك المنجي أو تمثيلا لهم وتصويرا لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول وخطاب كما قيل أي دعوه حال كونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإما لا محل له من الإعراب على أنه معطوف على ما قبله أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا دعوا ثبورا فيقال لهم : لا تدعوا الخ أو على أنه مستأنف وقع جوابا عن سؤال مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل : فماذا يكون عند دعائهم المذكور فقيل : يقال لهم ذلك والمراد به إقناطهم عما علقوا به أطماعهم من الهلاك وتنبيههم على أن عذابهم الملجيء لهم إلى ذلك أبدي لا خلاص لهم منه على أبلغ وجه حيث أشار إلى أن المخلص مما هم فيه من العذاب عادة غير مخلص وما يخلص غير ممكن فكأنه قيل : لا تدعوا اليوم هلاكا واحدا فإنه لا يخلصكم وادعوا ثبورا وهلاكا كثيرا
14
- لا غاية لكثرته لتخلصوا به وأنى بالهلاك الكثير
(18/244)

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد وهذا معنى دقيق لم أعلم أن أحدا ذكره وقيل : وصف الثبور بالكثرة باعتبار كثرة الألفاظ المشعرة به فكأنه قيل : لا تقولوا يا ثبوراه فقط وقولوا يا ثبوراه يا هلاكاه يا ويلاه يا لهفاه إلى غير ذلك وهو كما ترى
وقال شيخ الإسلام : وصفه بذلك بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيلرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق دعاء آخر وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدنه مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن ثم قال : وهذا أدل على فظاعة العذاب وهوله من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير أما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف وهم إنما يدعون هلاكا ينهى عذابهم وينجيهم منه فلا بد أن يكون الجواب إقناطا لهم عن ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد انتهى وتعقب القول بأن وصف الثبور بالكثرة بحسب كثرة الدعاء بأنه لا يناسب النظم وكذا كونه بحسب كثرة الألفاظ المشعرة بالثبور لأنه كان الظاهر أن يقال دعاء كثيرا وأما قوله : وأما ما قيل الخ فهو لا يخلو عن بحث فتأمل
وحكى علي بن عيسى ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك عنه وجوز أن يكون الثبور في الآية من ذلك كأنهم ندموا على ما فعلوا فقالوا : وأصرفاه عن طاعة الله تعالى كما يقال : وأندماه فأجيبوا بما أجيبوا وتقييد النهي والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهودة التي يخلص من عذابها ثبور واحد ويجوز أن يكون ذلك لتذكيرهم بالساعة التي أصابهم ما أصابهم بسبب التكذيب بها ففيه زيادة إيلام لهم وقرأ عمر بن محمد ثبورا بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو القفول
قل تقريعا لهم وتهكما بهم وتحسيرا على ما فاتهم أذلك إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة فإنها التي كثيرا ما تقابل بالجنة وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة وقيل : إشارة إلى ما ذكر من الجنة والكنز في قولهم : أو يلقى إليه كنز الخ
وقيل : إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة وكلا القولين لا يعول عليهما لا سيما الأخير أي أذلك الذي ذكر من السعير التي اعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها أذيت ذيت خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون أي وعدها المتقون لأن وعد تتعدى لمفعولين وهذا المحذوف هو العائد على الموصول إضافة الجنة إلى الخلد إن كانت نسبة الإضافة معلومة للمدح فإن المدح يكون بما هو معلوم وإن لم تكن معلومة فلا فائدة خلود الجنة ولا يخدشه قوله تعالى : خالدين بعد لأنه للدلالة على خلود أهلها لا خلودها في نفسها وإن تلازما أو أن ذلك للتمييز عن جنات الدنيا وقيل : إن جنة الخلد علم كجنة عدن والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط ويدل عليه مقابلتهم بالكافرين في النظم الكريم وقيل : يجوز أن يراد الكاملون في التقوى ووعدها إياهم وعد دخولها ابتداء دون
(18/245)

سبق عذاب وهو مختص بهم وليس بذاك والترديد والتفضيل في خير مع أنه لا شك في أنه لا خيرية في السعير للتهكم والتقريع كما أشرنا إليه
وقال ابن عطية : حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه مجيء لفظة التفضيل بين الجنة والسعير في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبرا لأن فيه مخالفة الواقع وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ وقال أبو حيان : إن خير هنا ليس للدلالة على الأفضلية بل هو على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقول حسان :
فشركما لخيركما الفداء
وقولهم الشفاء أحب إليك أم السعادة والعسل أحلى من الخل وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام السجن أحب إلي ولا اختصاص لذلك في استفهام أو خبر
وما ذكر من أمثلة الخبر يرد على ابن عطية إلا أن يقيد الخير الذي ادعى منع سيبويه فيه بما لم يكن الحكم فيه واضحا أما إذا كان الحكم فيه واضحا للسامع بحيث لا يختلع في ذهنه ولا يتردد في الأفضل فإن التفضيل يجوز فيه وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام وما أشرنا إليه هنا أولى بالإعتبار مما أشار ابن عطية وأبو حيان إليه
كانت تلك الجنة لهم أي في علم الله تعالى أو في اللوح أو المراد تكون على أنه وعد من أكرم الأكرمين عبر عنه بالماضي على طريق الإستعارة لتحقيق وقوعه فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد وجوز أن يكون هذا باعتبار تقدم وعده تعالى في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام إياهم بها جزاء على أعمالهم بمقتضى الوعد لا بالإيجاب ومصيرا
15
- ينقلبون إليه ولم يكتف بقوله تعالى كانت لهم جزاء لعدم استلزامه ذلك فقد يثيب الملك في الدنيا إنسانا ببستان مثلا ولا يراه فضلا عن أن يسكن فيه وجملة كانت لهم الخ على ما ذكره الطبرسي في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على الموصول في وعد المتقون بتقدير قد أو بدونه وجوز أن تكون بدلا من وعد المتقون وتفسيرا له وأن تكون استئنافا في موضع التعليل
وذكر الزمخشري ما يشعر بأن هذه الجملة تذييل لتذكير النعمة بما خولهم الله تعالى وطيب عيشهم في ذلك المكان الرافع على وجه يتضمن ضد ذلك لإضدادهم فكأنه قيل كانت لهم جزاء موفورا لا يدخل تحت الوصف ومصيرا أي مصيرا لا يقادر قدره وليس كمصير الكفرة المشار إليه بقوله سبحانه وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا ويعلم منه فائدة ذكر المصير مع ذكر الجزاء فتأمل وقوله سبحانه لهم فيها ما يشاءون قيل استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله حيث أفاد أن الجنة مسكن لهم والساكن في دار يحتاج إلى أشياء كثيرة لتطيب نفسه بسكناها فكأن سائلا يقول : ما لهم إذا صاروا إليها وسكنوا فيها فقيل لهم فيها ما يشاؤن وقال الطبرسي : الجملة في موضع الحال من قوله تعالى المتقون وما موصولة مبتدأ والعائد محذوف و لهم خبره و فيها متعلق بما تعلق به أي كائن لهم فيها الذي يشاؤنه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم الروحاني والجسماني ولعل كل فريق منهم يقتنع بما أبيح من درجات النعيم ويرى ما هو فيه ألذ الأشياء ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ولا يخطر بباله ما يخطر طلبه ولا يتأتى له فلا يشاء أحاد المؤمنين رتبة الأنبياء عليهم السلام ولا يتعرضون للشفاعة لمن كتب عليه الخلود في النار مثلا فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان وعلى ضد هؤلاء فيما ذكر أهل النار فقد قال سبحانه فيهم وحيل بينهم وبين ما يشتهون
(18/246)

خالدين حال من أحد ضمائرهم على ما قيل وظاهره عدم الترجيح وقال بعض الأفاضل : جعله حالا من الأول يقتضي كونها حالا مقدرة ومن الثالث يوهم تقييد المشيئة بها فخير الأمور أوسطها ورجح بعضهم الثالث لقربه والتقييد غير مخل بل مهم وجوز كونها حالا من المتقين ولا يخفى حاله ولبعض الأجلة ههنا كلام فيه بحث ذكره الحمصي في حواشي التصريح فليراجع كان أي الوعد بما ذكر أو الموعود المفهوم من الكلام فيشمل الوعد بالجنة وبحصول ما يشاؤن لهم فيها وبالخلود على الأول والجنة وحصول المرادات والخلود الموعود بها على الثاني وقال بعضهم : الضمير للخلود وآخر لحصول ما يشاؤن لهم فيها أو له ولكون الجنة جزاء ومصيرا والإفراد باعتبار ما ذكروا يغني عنه ما سمعت والأكثرون على أنه لما يشاؤن وهو اسم كان وقوله تعالى على ربك متعلق بها أو بمحذوف وقع حالا من قوله سبحانه وعدا وهو خبرها ولم يجوز تعلق الجار به سواء كان باقيا على مصدريته أو مؤولا باسم المفعول أي موعودا لما علمت من الخلاف في مرجع الضمير بناء على منع تقديم معمول المصدر عليه وإن كان مؤولا بغيره أو كان المقدم ظرفا وفيه خلاف وجوز أن يكون على ربك متعلقا بمحذوف هو الخبر و وعدا مصدرا مؤكدا والأظهر أن يجعل هو الخبر أي كان ذلك وعدا أو موعودا مسئولا
16
- أي حقيقيا يسئل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو سببا لحصول ذلك فمسئوليته كناية عن كونه أمرا عظيما ويجوز أن يراد كون الموعود مسئولا حقيقة بمعنى يسأله الناس في دعائهم بقولهم ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك وقال سعيد بن أبي هلال : سمعت أبا حازم رضي الله تعالى عنه يقول : إذا كان يوم القيامة يقول المؤمنون : ربنا عملنا لك بما أمرتنا فانجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله تعالى : وعدا مسئولا
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد هذا عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية : إن الملائكة عليهم السلام لتسأل ذلك في قولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام ولتشريفه صلى الله عليه و سلم والإشعار بأنه عليه الصلاة و السلام هو الفائز بمغانم الوعد الكريم واستشكلت الآية على مذهب الأشاعرة لأنها تدل على الوجوب على الله تعالى لمكان على وعندهم لا يجب عليه سبحانه شيء لاستلزام ذلك سلب الإختيار وعدم استحقاق الحمد وأجيب بأن الوجوب الذي تدل عليه الآية وجةب بمقتضى الوعد والممتنع إيجاب الإلجاء والقسر من خارج لأنه السالب للإختيار الموجب للمفسدة دون إيجابه تعالى على نفسه شيئا بمقتضى وعده وكرمه فإنه مسبوق بالإرادة والوجوب الناشيء من الإرادة لا ينافي الإختيار وهذا ظاهر إذا كان الوعد حادثا وأما إذا كان قديما فالسابقية والمسبوقية بحسب الذات وذلك لا يستلزم الحدوث أو يقال : الحادث بالإرادة تعلقه بالموعود به فافهم ويوم يحشرهم نصب على أنه مفعول لمضمر مقدم معطوف على قوله تعالى قل أذلك الخ أي قيل لهم ذلك واذكر لهم بعد التقريع والتحسير يوم يحشرهم الله عز و جل والمراد تذكيرهم بما فيه من الحوادث الهائلة على ما سمعت في نظائره أو على أنه ظرف لمضمر مؤخر قد حذف للتنبيه على كمال هوله وفظاعة ما فيه والإيذان بأن العبارة لا تحيط ببيانه أي ويوم يحشرهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه المقال
(18/247)

وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر وكثير من السبعة نحشرهم بنون العظمة بطريق الإلتفات من الغيبة إلى التكلم وقرأ الأعرج يحشرهم بكسر الشين قال صاحب اللوامح : في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي وقال ابن عطية : وهي قليلة في الإستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين وفيه كلام ذكره أبو حيان في البحر وما يعبدون من دون الله عطف على مفعول يحشرهم وليست الواو للمعية وجوز ذلك أبو البقاء والمراد بالموصول عند الضحاك وعكرمة والكلبي الأصنام بناء أن السياق فيها وينطقها الله تعالى الذي لا يعجزه شيء وقيل : تتكلم بلسان الحال وليس بذاك
وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد به الملائكة وعيسى وعزير وإضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى وهو قول الجمهور على ما في البحر لأن السؤال والجواب يقتضيانه لاختصاصهما بالعقلاء عادة وإن كان الجماد ينطق يومئذ وجاء فيما يشبه الإستفهام الآتي النص عليهم نحو قوله تعالى : ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقوله سبحانه أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله والظاهر أن المراد بما على هذا القول العقلاء المعبودون الذين ليس منهم إضلال كالملائكة والأنبياء عليهم السلام لا ما يشملهم والشياطين مثلا فإن الجواب يأبى ذلك بظاهره كما لا يخفى وأطلقت ما على العقلاء إما على أنها تطلق عليهم حقيقة أو مجازا أو باعتبار الوصف كأنه قيل : أو معبوديهم وقال بعض الأجلة : المراد ما يعم العقلاء وغيرهم إما لأن كلمة ما موضوعة للكل كما ينبيء عنه أنك إذا رأيت شبحا من بعيد تقول : ما هو أو لأنه أريد بها الوصف فلا تختص حينئذ بغير العقلاء كما أريد بها الذات أو لتغليب الأصنام على غيرها تنبيها على بعدهم عن استحقاق العبادة وتنزيلهم في ذلك منزلة من لا علم له ولا قدرة أو اعتبارا لغاية عبدتها وكثرتهم فيقول أي الله عز و جل للمعبودين من دونه أثر حشر الكل تقريعا للعبدة وتبكيتا لهم
وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر فنقول بنون العظمة أيضا ومن قرأ ممن عداهم هناك بالنون وهنا بالياء على قراءته هنا التفاتا من التكلم إلى الغيبة وفي نون هناك إشارة إلى أن الحشر أمر عظيم
ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وإضافة عبادي قيل للترحم أو لتعظيم جرمهم لعبادة غير خالقهم أو لتعظيم أمر أضلالهم بدعوتهم إلى عبادتهم مع كونهم عبادا لله عز و جل و هؤلاء بدل منه وجوز أن يكون نعتا له أم ضلوا السبيل
17
- أي عن السبيل بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد من كتاب أو رسول فحذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدي السبيل والأصل إلى السبيل أو للسبيل
وذكر بعض الأجلة أنه لم يقل عن السبيل للمبالغة فإنه ضله بمعنى فقده وضل عنه بمعنى خرج عنه والأول أبلغ لأنه يوهم أنه لا وجود له رأسا وتقديم الضميرين على الفعلين لما أن المراد بالسؤال التقريعي هو المتصدي للفعل لا نفسه قالوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا : سبحانك وكان الظاهر أن يعبر بالمضارع لمكان يقول أولا وكأن
(18/248)

العدول إلى الماضي للدلالة على تحقق التنزيه والتبرئة وأنه حالهم في الدنيا وقيل : للتنبيه على أن إجابتهم بهذا القول هو محل الإهتمام فإن بها التبكيت والإلزام فدل بالصيغة على تحقق وقوعها وسبحان إما للتعجب مما قيل لهم إما لأنهم جمادات لا قدرة لها على شيء أو لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون أو أولياء عن مثل ذلك محفوظون وإما هو كناية عن كونهم موسومين بتسبيحه تعالى وتوحيده فكيف يتأتى منهم إضلال عباده وإما هو على ظاهره من التنزيه والمراد تنزيهه تعالى عن الأضداد وهو على سائر الأوجه جواب إجمالي إلا أن في كونه كذلك على الأخير نوع خفاء بالنسبة إلى الأولين وقوله تعالى : ما كان ينبغي لنا الخ كالتأكيد لذلك والتفصيل له
وجعل الطيبي قولهم : سبحانك توطئة وتمهيدا للجواب لقولهم : ما كان الخ أي ما صح وما استقام لنا أن نتخذ من دونه أولياء أي أولياء على أن من مزيدة لتأكيد النفي ويحسن زيادتها بعد النفي والمنفي إن كان كان لكن هذا معمول معمولها فينسحب النفي عليه والمراد نفى أن يكونوا هم مضليهم على أبلغ وجه كأنهم قالوا : ما صح وما استقام لنا أن نتخذ متجاوزين إياك أولياء نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك فضلا أن يتخذنا وليا وجوز أن يكون المعنى ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أتباعا فإن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع ومنه أولياء الشيطان أي أتباعه وقرأ أبو عيسى الأوسود القاريء ينبغي بالبناء للمفعول وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ذلك لغة
وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن علي وأخوه الباقر رضي الله تعالى عنهما ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني يتخذ مبنيا للمفعول وخرج ذلك الزمخشري على أنه من اتخذ المتعدي إلى مفعولين والمفعول الأول ضمير المتكلم القائم مقام الفاعل والثاني من أولياء ومن تبعيضية لا زائدة أي يتخذونا بعض الأولياء ولم يجوز زيادتها بناء على ما ذهب إليه الزجاج من أنها لا تزاد في المفعول الثاني وعلله في الكشف بأنه محمول على الأول يشيع بشيوعه ويخص كذلك ومراده أنه إذا كان محمولا لا يراد صدقه على غيره فيشيع ويخص كذلك في الإرادة فلا يرد زيد حيوان فإن المحمول باق على عمومه مع خصوص الموضوع وقيل : مراده أن الإختلاف لا يناسب مع إمكان الإتحاد والمثال ليس كذلك والزمخشري لما بني كلامه على ذلك المذهب والتزم التبعيض جاء الإشكال في تنكير أولياء فأجاب بأنه للدلالة على الخصوص وامتيازهم بما امتازوا وهو للتنويع على الحقيقة
وقال السجاوندي : المعنى ما ينبغي لنا أن نحسب من بعض ما يقع عليه اسم الولاية فضلا عن الكل فإن الولي قد يكون معبودا ومالكا وناصرا ومخدوما والزجاج خفي عليه أمر هذه القراءة على مذهبه فقال : هذه القراءة خطأ لأنك تقول : ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحدا في معنى جميع ويقال : ما من أحد قائما وما من رجل محبا لما يضره ولا يقال : ما قائم من أحد وما رجل من محب لما يضره ولا وجه عندنا لهذا البتة ولو جاز هذا لجاز في فما منكم من أحد عنه حاجزين
(18/249)

ما منكم أحد عنه حاجزين وأجاز الفراء هذه القراءة عن ضعف وزعم أن من أولياء هو الاسم وما في يتخذ هو الخبر كأنه يجعله على القلب انتهى
ونقل صاحب المطلع عن صاحب النظم أنه قال : الذي يوجب سقوط هذه القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا معفول دونه نحو قوله تعالى ما كان لله أن يتخذ من ولد فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخولها كما في الآية على هذه القراءة ولا يخفى عليك أن في الإقدام على القول بأنها خطأ أو ساقطة مع روايتها عمن سمعت من الأجلة خطرا عظيما ومنشأ ذلك الجهل ومفاسده لا تحصى وذهب ابن جني إلى جواز زيادة من في المفعول الثاني فيقال : ما اتخذت زيدا من وكيل على معنى ما اتخذته وكيلا أي وكيل كان من أصناف الوكلاء ومعنى الآية على هذا المنوال ما ينبغي لنا أن يتخذونا من دونك أولياء أي ما يقع عليه اسم الولاية وجوز أن يكون نتخذ على هذه القراءة مما له مفعول واحد ومن دونك صلة و من أولياء حال و من زائدة وعزا هذا البحر إلى ابن جني وجوز بعضهم كون نتخذ في القراءة المشهورة من اتخذ المتعدي لمفعولين وجعل أبو البقاء على هذا من أولياء المفعول بزيادة من ومن دونك المفعول الثاني وعلى كونه من المتعدي لواحد يكون هذا حالا
وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء عاصما فقال : مقت المخدج أو ما علم أن فيها من وقوله تعالى : ولكن متعتهم وآباءهم الخ استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم على أبلغ وجه كما سمعت وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة أي ما أضللناهم ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها ستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها حتى نسوا الذكر أي غفلوا عن ذكرك والإيمان بك أو عن توحيدك أو عن التذكر لنعمك وآيات ألوهيتك ووحدتك
وفي البحر الذكر ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أو الكتب المنزلة أو القرآن ولا يخفى ما في الأخير إذا قيل : بعموم الكفار والمخبر عنهم في الآية وشمولهم كفار هذه الأمة وغيرهم وكانوا أي في علمك الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في أنفسها أو بما سيصدر عنهم فيما لا يزال باختيارهم وسوء استعدادهم من الأعمال السيئة قوما بورا
18
- هالكين على أن بورا وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع وأنشدوا : فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم وكافوا به فالكفر بور لصانعه وقول ابن الزبعري : يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور أو جمع بأثر كعوذ في عائذ وتفسيره بها الكين رواه ابن جرير وغيره عن مجاهد وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع الأزرق سأله عن ذلك فقال : هلكى بلغة عمان وهم من اليمن وقيل : بورا فاسدين في لغة الأزد يقولون : أمر بأثر أي فاسد وبارت البضاعة إذا فسدت وقال الحسن : بورا لا خير فيهم من قولهم : أرض بور أي متعطلة لا نبات فيها وقيل : بورا عميا عن الحق والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله على ما قال أبو السعود
(18/250)

وقال الخفاجي : هي حال بتقدير قد أو معطوفة على مقدر أي كفروا وكانوا أو على ما قبلها وقد شنع الزمخشري بما ذكر من السؤال والجواب على أهل السنة فقال : فيه كسر بين لقول من يزعم أن الله تعالى يضل عباده على الحقيقة حيث يقول سبحانه للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتم أم هم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤن من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا برأت الملائكة والرسل عليهم السلام أنفسهم من نسبة الإضلال هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه فهم لربهم الغني العدل أشد تبرئة وتنزيها منه ولقد نزهوه تعالى حين أضافوا إليه سبحانه النفضل بالنعمة والتمتيع بها وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله سبحانه يضل من يشاء ولو كان سبحانه هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتهم انتهى وأجاب صاحب الفرائد عن قوله : فيتبرؤن من إضلالهم إنما تبرؤا لأنهم يستحقون العذاب بإضلالهم ولم يكن منهم فوجب عليهم أن يقولوا ذلك ليندفع عنهم ما يستحقون به من العذاب وذلك أنهم مسؤلون عما يفعلون والله عز و جل لا يسأل عما يفعل فيلحق بهم النقصان إن ثبت عليهم ولا يمكن لحوقه به تعالى لأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وعن قوله : ولقد نزهوه حيث أضافوا الخ بأن قولهم ولكن متعتهم الخ لا ينافي نسبة الإضلال إليه سبحانه على الحقيقة وأيضا ما يؤدي إلى الضلال إذا كان منه تعالى وكان معلوما له عز و جل أنهم يضلون به كان فيه ما في الإضلال بالحقيقة فوجب على مذهبه أنه لا يجوز عليه سبحانه مع أنهم نسبوه إليه سبحانه وعن قوله : ولو كان تعالى هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أنت أضللتهم بأن هذا غير مستقيم لأنه تعالى ما سألهم إلا عن أحد الأمرين وما ذكر لا يصلح جوابا له بل هو جواب لمن قال : من أضلهم انتهى وذكر في الكشف جوابا عن الأخير أنه ليس السؤال عن تعيين من أضل لأنه تعالى عالم به وإنما هو سؤال تقريع على نحو أأنت قلت للناس فلو قالوا : أنت أضللتهم لم يطابق وإنما الجواب ما أجابوا به كما أجاب عيسى عليه السلام بقوله سبحانك ما يكون لي الخ وقد اقتدى بالإمام في ذلك وذكر أيضا قبل هذا الجواب أنه لو قيل : إن في متعتهم وآباءهم ما يدل على أنه تعالى الفاعل الحقيقي للإضلال وأنه لا ينسب إليه سبحانه أدبا لكان وجها ولا ينبغي أن يكون ذلك بعد التسليم المقصود من الجواب بتمتعهم الخ بأن يكون المراد الجواب بأنت أضللتهم لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل أدبا لأن الجواب بذلك مما لا يقتضيه السياق كما لا يخفى
وقال ابن المنير : إن جواب المسؤلين بما ذكر يدل على معتقدهم الموافق لما عليه أهل الحق لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق الضلال إلا أن للعباد اختيارا فيه وعندهم أن كل فعل اختياري له نسبتان إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى الله تعالى وإن نظر إلى كونه مختارا للعبد فهو منسوب للعبد وهؤلاء المجيبون نسبوا النسيان أي الإنهماك في الشهوات الذي ينشأ عنه النسيان إلى الكفرة لأنهم اختاروه لأنفسهم فصدقت نسبته إليهم ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهماكهم في الشهوات إلى الله تعالى وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم وصبها صبا فلا تنافي بين معتقد أهل الحق ومضمون ما قالوا في الجواب بل هما متواطئان على أمر واحد انتهى
ولا يخفى ما في بيان التوافق من النظر وقد يقال : حيث كان المراد من الإستفهام تقريع المشركين وعلم
(18/251)

المستفهمين بذلك مما لا ينبغي أن ينكر لا سيما إذا كانوا الملائكة والأنبياء عليهم السلام جيء بالجواب متضمنا ذلك على أتم وجه مشتملا على تحقيق الأمر في منشأ ضلالهم كل ذلك للإعتناء بمراده تعالى من تقريعهم وتبكيتهم ولذا لم يكتفوا في الجواب بهم ضلوا بل افتتحوا بالتسبيح ثم نفوا عن أنفسهم الإضلال على وجه من المبالغة ليس وراءه وراء أفادوا أنهم ضلوا بعد تحقيق ما ينبغي أن يكون ذريعة لهم إلى الإهتداء من تمتيعهم بأنواع النعم وذلك من أقبح الضلال ونبهوا على زيادة قبحه فوق ما ذكر بالتعبير عنه بنسيان الذكر ثم ذكروا منشأ ضلالهم والأصل الأصيل فيه بقولهم وكانوا قوما بورا أما على معنى كانوا في الأنفس الأمر قوما فاسدين وإن شئت قلت هالكين ونحوه مما تقدم فظهروا على حسب ما كانوا لأن ما في نفس الأمر لا يتغير أو على معنى كانوا في العلم التابع للمعلوم في نفسه كذلك فظهروا على حسب ذلك لئلا يلزم الإنقلاب المحال وحاصله أن منشأ ضلالهم فساد استعدادهم في نفسه من غير مدخلية للغير في التاثير فيه وهذا شأن جميع ما هيات الأشياء في أنفسها فإن مدخلية الغير إنما هي في نحو وجودها الخارجي لا غير وإلى هذا ذهب جمع من الفلاسفة والصوفية وشيد أركانه الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في أكثر كتبه مقبولا فلا بأس في تخريج الآية الكريمة عليه فتدبر وقوله تعالى فقد كذبوكم حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجيهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك : قد كذبكم المعبودون أيها الكفرة وقال بعض الأجلة الفاء فصيحة مثلها في قول عباس بن الأحنف : قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا والتقدير هنا قلنا أو قال تعالى إن قلتم أنهم آلهة فقد كذبوكم بما تقولون أي في قولكم على أن الباء بمعنى في وما مصدرية والجار والمجرور متعلق بالفعل والقول بمعنى المقول ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف أي في الذي تقولونه وجوز أن تكون الباء صلة والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب في كذبوكم والمراد بمقوهم أنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا وتعقب بأن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلا وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وفيه نظر كما سنشير إليه قريبا إن شاء الله تعالى وقيل : الخطاب للمعبودين أي فقد كذبكم العابدون أيها المعبودون في قولكم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء حيث زعموا أنكم آلهة والمراد الحكم على أولئك المكذبين بالكفر على وجه فيه استزادة غيظ المعبودين عليهم وجعله مفرعا عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى
والفاء أيضا فصيحة والجملة جزاء باعتبار الأخبار وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفرة في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد وجيء بالكلام ليفرع عليه ما بعد وكلا القولين كما ترى والثاني أبعدهما وقرأ أبو حيوة يقولون بالياء آخر الخروف وهي رواية عن ابن كثير وقنبل والخطاب في كذبوكم للعابدين وضمير الجمع فيه وفي يقولون للمعبودين أي فقد كذبكم أيها العبدة المعبودين بزعمكم بقولهم سبحانك الخ والباء للملابسة أو الإستعانة وفيه أيضا القولان السابقان أي فقد كذبكم أيها المعبودون العبدة بقولهم إنكم آلهة أو فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في التوحيد بقولهم إن هؤلاء المحكي عنهم آلهة
(18/252)

فما تستطيعون أي فما تملكون أيها العبدة صرفا أي دفعا للعذاب عن أنفسكم بوجه من الوجوه كما يعرب عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة وقيل : حيلة من قولهم : إنه ليصرف في أموره أي يحتال فيها وقيل : توبة وقيل : فدية والأول أظهر فإن أصل الصرف رد الشيء من حالة إلى أخرى وإطلاقه على الحيلة أو التوبة أو الفدية مجاز والمراد فما تملكون دفعا للعذاب قبل حلوله ولا نصرا أي فردا من أفراد النصر أي العون لا من جهة أنفسكم ولا من جهة غيركم بعد حلوله وقيل : نصرا جمع ناصر كصحب جمع صاحب وليس بشيء والفاء لترتيب عدم الإستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على معنى أنه لولاه لوجدت الإستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم والمراد من التكذيب المرتب عليه ما ذكر تكذيبهم بقولهم أنهم آلهة ويجوز أن يراد به تكذيبهم بقولهم : هؤلاء أضلونا وهو متضمن نفي كونهم آلهة وبذلك يتم أمر الترتيب
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأكثر السبعة يستطيعون بالياء التحتية أي فما يستطيع آلهتكم دفعا للعذاب عنكم وقيل حيلة لدفعه وقيل فدية عنكم ولا نصرا لكم وقيل في معنى الآية على تقدير كون الخطاب السابق للمؤمنين إنه سبحانه أراد أن هؤلاء الكفرة شديدو الشكيمة في التكذيب الموجب للتعذيب فما تستطيعون أنتم صرفهم عنه ولا نصرا لكم فما يصيبهم مما يستوجبه من العذاب هذا على قراءة حفص تستطيعون بالتاء الفوقية وأما على قراءة الجماعة يستطيعون بالياء فالمعنى ما يستطيعون صرفا لأنفسهم عما هم عليه ولا نصرا لها فيما استوجبوه بتكذيبهم من العذاب أو فما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه ولا نصرا لأنفسهم من العذاب انتهى وهو كما ترى ومن يظلم أي يكفر منكم أيها المكلفون ويعبد من دون الله تعالى إلها آخر كهؤلاء الكفرة نذقه في الآخرة عذابا كبيرا
19
- لا يقادر قدره وهو عذاب النار وقريء يذقه على أن الضمير لله عز و جل وقيل : لمصدر يظلم أي يذقه الظلم والإسناد مجازي وتفسير الظلم بالكفر هو المروي عن ابن عباس والحسن وابن جريج وأيد بأن المقام يقتضيه فإن الكلام في الكفر ووعيده من مفتتح السورة وجوز أن يراد به ما يعم الشرك وسائر المعاصي والوعيد بالعذاب لا ينافي العفو بالنسبة إلى غير المشرك لما حقق في موضعه واختار الطيبي التفسير الأول وجعل الخطاب للكفار أيضا لأن الكلام فيهم من أول وقد سبق فقد كذبوكم وهذه الآية لما يجري عليهم من الأهوال والنكال من لدن قوله تعالى إذا رأتهم من مكان بعيد ومعنى ومن يظلم حينئذ ومن يدم على الظلم وفي الكشف الوجه أن الخطاب عام والظلم الكفر ومن يظلم مظهر أقيم مقام المضمر تنبيها على توغلهم في الكفر وتجاوزهم حد الإنصاف والعدل إلى محض الإعتساف والجدل فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان الأصل فلا يستطيعون صرفا ولا نصرا ونذيقهم عذابا كبيرا أو نذيقهم على اختلاف القرائتين والحمل على من يدم على الظلم منكم ليختص الخطاب بالكفار صحيح أيضا ولكن تفوته النكتة التي ذكرناها انتهى ولا يخفى أن كونه من إقامة المظهر مقام المضمر خلاف الظاهر فتأمل وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قيل هو تسلية له صلى الله عليه و سلم عن قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق بأن لك في سائر الرسل عليهم السلام
(18/253)

أسوة حسنة فإنهم كانوا كذلك وقال الزجاج : احتجاج عليهم في قولهم ذلك كأنه قيل كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فكيف يكون محمد صلى الله عليه و سلم بدعا من الرسل عليهم السلام ورده الطيبي بأنه لا يساعد عليه النظم الجليل لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال وتعقبه في الكشف بقوله : ولقائل أن يقول هذا جواب آخر كما أجيب هنالك من أوجه على ما نقل عن الإمام وجعل قوله تعالى بل كذبوا جوابا ثالثا وعقبه بقوله تعالى وأعتدنا لمن كذب بالساعة لمكان المناسبة وتم الوعيد ثم أجابهم سبحانه جوابا آخر يتضمن التسلية أيضا وهذا عليه النظم الجليل والجملة التي بعد إلا قيل صفة ثانية لموصوف مقدر قبل من من المرسلين والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين
وتعقب بأن فيه الفصل بين الموصوف والصفة بإلا وقد رده أكثر النحاة كما في المغنى ومن هنا جعلها بعضهم صفة لموصوف مقدر بعد إلا وذلك بدل مما حذف قبل وأقيمت صفته مقامه والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا رجالا أو رسلا أنهم الخ وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه وهو جائز عندهم وقدر الفراء بعد إلا من وهي تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون نكرة موصولة وجعل بعضهم الجملة في خل نصب بقول محذوف وجملة القول صفة أي إلا رجالا أو رسلا قيل أنهم الخ وهو كما ترى وقال ابن الأنباري : الجملة حالية والإستثناء من أعم الأحوال والتقدير إلا وأنهم قال أبو حيان : وهو المختار وقدر الواو بناء على أن الإكتفاء في مثل هذه الجملة الحالية بالضمير غير فصيح وربما يختار عدم التقدير ويمنع دعوى عدم الفصاحة أو يحمل ذلك على غير المقترن بإلا لأنه في الحقيقة بدل ووجه كسر إن وقوعها في الإبتداء ووقوع اللام بعدها أيضا وقريء أنهم بالفتح على زيادة اللام بعدها وتقدير جار قبلها أي لأنهم يأكلون الخ والمراد ما جعلناهم رسلا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ابو مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله يمشون بتشديد الشين المفتوحة مع ضم الياء مبنيا للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس والتضعيف للتكثير كما في قول الهذلي :
يمشي بيننا حانوت خمر
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في البحر يمشون بضم الياء والشين مع التشديد مبنيا للفاعل وهو مبالغة يمشي المخفف فهي مطابقة للقراءة المشهورة ولا يحتاج إلى تقدير يمشيهم حوائجهم ونحوه وأنشدوا قوله : ومشى بأغصان المباءة وابتغى قلائص منها صبعة وذلول وقوله فقد تركت خزيمة كل وغد يمشي بين خاتام وطاق وفي بعض نسخ الكشاف ما يدل على أنه لم يظفر بهذه القراءة وقوله تعالى وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون قيل تسلية له صلى الله عليه و سلم أيضا لكن عن قولهم أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة أي وجعلنا أغنياءكم أيها الناس ابتلاء لفقرائكم لننظر هل يصبرون وكان ربك بصيرا
20
- أي عالما بالصواب فيما يبتلي به وغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاريلهم وقيل تصير له عليه الصلاة و السلام على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد الإحتجاج عليهم بسائر الرسل والكلام من تلوين الخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم السلام بطريق التغليب على ما اختاره بعضهم والمراد بالبعض الأول كفار الأمم واختصاصهم بالرسل مصحح لأن
(18/254)

يعدوا بعضا منهم وبالبعض الثاني رسلهم على معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين وإنما لم يصرح بذلك تعويلا على شهادة الحال وحاصله جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإطلاق ألسنتهم فيهم بالأقاويل الخارجة عن حد الإنصاف وسلوكهم في أذاهم كل مسلك لنعلم صبرهم أو هو خطاب للناس كافة على ما قيل وهو الظاهر والبعض الأول أعم من الكفار والأغنياء والأصحاء وغيرهم ممن يصلح أن يكون فتنة والبعض الثاني أعم من الرسل والقراء والمرضي وغيرهم ممن يصلح أن يفتن والكلام عليه مفيد لتصبره صلى الله عليه و سلم على ما قالوه وزيادة وقيل : المراد بالبعض الأول من لا مال له من المرسلين وبالبعض الثاني أممهم ويدخل في ذلك نبينا صلى الله عليه و سلم وأمته دخولا أوليا فكأنه قيل جعلناك فتنة لأمتك لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا وإنما بعثناك لا مال لك ليكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله تعالى من غير طمع دنيوي وكذا حال سائر من لا مال له من المرسلين مع أممهم والأظهر عموم الخطاب والبعضين وهو الذي تقتضيه الآثار وإليه ذهب ابن عطية فقال : ذلك عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى واختار ذلك أبو حيان ولا يضر فيه خصوص سبب النزول فقد روي عن الكلبي أنها نزلت في أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم قالوا : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة والإستفهام إما في حيز التعليل للجعل ومعادله محذوف كما حذف فيما لا يحصى من الأمثلة والتقدير لنعلم أتصبرون أم لا أي ليظهر ما في علمنا وقرينة تقدير العلم تضمن الفتنة إياه وأما أن لا يكون في حيز التعليل وليس هناك معادل محذوف بأن يكون للترغيب والتحريض والمراد اصبروا فإني ابتليت بعضكم ببعض ويجوز أن لا يقدر معادل على تقدير التعليل أيضا بأن يكون الخطاب للرسل عليهم السلام على ما سمعت وجعل ابن عطية الخطاب فيما سبق عاما وفي أتصبرون خاصا بالمؤمنين الذين جعل إمهال الكفار فتنة لهم في ضمن العموم السابق وقدر معادلا فقال : كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ثم وقفهم أتصبرون أم لا وجعل قوله تعالى وكان ربك بصيرا وعدا للصابرين ووعيد للعاصين وجعله بعضهم وعدا للرسول صلى الله عليه و سلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له عليه الصلاة و السلام بالإلتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلى الله عليه و سلم وجوز أن يكون وعيدا لأولئك المعاندين له عليه الصلاة و السلام جيء به إتماما للتسلية أو التصبر وليس بذاك واستدل بالآية على القضاء والقدر فإنها أفادت أن أفعال العباد كعداوة الكفار وإيذائهم بجعل الله تعالى وإرادته والفتنة بمعنى الإبتلاء وإن لم تكن من أفعال العباد إلا أنها مفضية ومستلزمة لما هو منها وفيه من الخفاء ما فيه وقوله تعالى
تم والحمد لله الجزء الثامن عشر من تفسير روح المعاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر وأوله وقال الذين لايرجون 19
(18/255)

بسم الله الرحمن الرحيم وقال الذين لايرجون لقاءنا الخ شروع في حكاية بعض آخر من أقاويلهم الباطلة وبيان بطلانها إثر حكاية إبطال أباطيلهم السابقة وذكر ما يتعلق بذلك والجملة معطوفة على قوله تعالى وقالوا مال هذا الرسول إلى آخره ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما يحكى عنهم في الشناعة بحيث لايصدر عمن يرجو لقاء الله عز و جل والرجاء في المشهور الأمل وقد فسر أحدهما بالآخر أكثر اللغويين وفي فروق ابن هلال الأمل رجاء يستمر ولذا قيل للنظر في الشيء إذا استمر وطال تأمل وقيل : الأمل يكون في الممكن والمستحيل والرجاء يخص الممكن وفي المصباح الأمل ضد اليأس وأكثر ما يستعمل فيما يبعد حصوله والطمع يكون فيما قرب حصوله والرجاء بين الامل والطمع فان الراجي يخاف أن لايحصل مأموله ولذا استعمل بمعنى الطمع انتهى وفسره أبو عبيدة وقوم بالخوف وقال الفراء : هذه الكلمة تهامية وهي أيضا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون : فلان لايرجو ربه سبحانه يريدون لايخاف ربه سبحانه ومن ذلك مالكم لاترجون لله وقارا أي لاتخافون لله تعالى عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا على معنى الرجاء لا على معنى الخوف وقال الشاعر : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل وقال آخر : لايرتجي حين يلاقي الذائذا أسبعة لاقت له أو واحدا انتهى وذكر أن استعمال الرجاء في معنى الخوف مجازا لأن الراجي لأمر يخاف فواته وأصل اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته وهو مراد من قال : الوصول إلى الشيء المماسة ويطلق على الرؤية لأنها وصول إلى المرئي ولقاؤه تعالى هنا كناية عن لقاء جزائه يوم القيامة أو المراد ذلك بتقدير مضاف والمعنى على التفسير المشهور للرجاء وقال الذين لايأملون لقاء جزائنا بالخير والثواب على الطاعة لتكذيبهم بالبعث كذا قيل وقيل : المراى به رؤيته تعالى في الآخرة والرجاء عليه بمعنى دون الخوف إذ لامعنى لكون الرؤية مخوفة وهو خلاف الظاهر وإن لم يأبه ما بعد إذ يكون المعنى عليه إن الذين لايرجون رؤيتنا في الآخرة التي هي مظنة الرؤية لكثير من الناس اقترحوا رؤيتنا في الدنيا التي ليست مظنة لذلك وقد يقال : نفي رجاء لقائه تعالى كناية عن انكار البعث والحشر ولعله أولى مما تقدم أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر لولا أنزل علينا الملائكةأي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا بصدق محمد صلى الله عليه و سلم أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك كما روي عن ابن جريج وغيره وفي طلب إنزال ملائكة للتصديق دون انزال ملك إشارة إلى أنهم بلغوا في التكذيب مبلغا لاينفع معه تصديق ملك واحد وإذا اعتبرت أل في الملائكة للاستغراق الحقيقي كانت الاشارة إلى قوة تكذيبهم أقوى وتزداد القوة إذا القوة إذا اعتبر في
(19/2)

علينا معنى كل واحد منا ولم يعتبر توزيع ويشير أيضا إلى قوة ذلك تعبيرهم بالمضارع الدال على الاستمرار التجددي في أو نرى ربنا كأنهم لم يكتفوا برؤيته تعالى واخباره سبحانه بصدق رسوله صلى الله عليه و سلم حتى يروه سبحانه ويخبرهم مرارا بذلك ولا يأبى قصد الاستمرار من المضارع كون الأصل في لولا التي للتحضيض أو العرض أن تدخل على المضارع وما لم يكن مضارعا يؤول به ولعل عدولهم إلى الماضي في جانبإنزال الملائكة المعطوف عليه وإن كان في تأويل المضارع على نحو ما قدمنا في تفسير قوله تعالى لولا أنزل اليه ملك فتذكر فما في العهد من قدم
وقيل : المعنى لولا أنزل علينا الملائكةفيبلغون أمر الله تعالى ونهيه بدل محمد صلى الله عليه و سلم أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك من غير توسيط أحد ورجح الأول بأن السياق لتكذيبه صلى الله عليه و سلم وحاشاه ثم حاشاه من الكذب والتعنت في طلب مصدق له عليه الصلاة و السلام لا لطلب من يفيدهم الأمر والنهي سواه صلى الله عليه و سلم ولا نسلم أن لولا أنزل علينا الملائكة يتكرر عليه مع لولا أنزل عليه ملك السابق لظهور الفرق بين المطلوبين فيهما ولو فرض لزوم التكرار بينهما فهو لايضر كما لايخفى وانتصر للاخير بأن المقام ليس الا لذكر المكذبين وحكاية أباطيلهم الناشئة عن تكذيبهم وقد عد فيما سبق بعضا منها متضمنا تعنتهم في طلب مصدق له صلى الله عليه و سلم فالأولى أن يكون ما هنا حكاية نوع آخر منها ليكون أبعد عن التكرار وأدل على العناد والاستكبار ولعل قوله تعالى لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
12
- أنسب بما ذكر ومعنى استكبروا في أنفسهم أوقعوا الاستكبار في شأنها وعدوها كبيرة الشأن وفيه تنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم كما في قوله :
يجرح في عراقيبها نصلي
والعتو تجاوز الحد في الظلم وهو المصدر الشائع لعتا واللام واقعة في جواب القسم أي والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان تجاوزا كبيرا بالغا أقصى غايته حيث كذبوا الرسول عليه الصلاة و السلام ولم ينقادوا لبشر مثلهم يوحى اليه في أمرهم ونهيهم ولم يكترثوا بمعجزاته القاهرة وءاياته الباهرة فطلبوا ما لايكاد ترنوا اليه أحداق الأمم وراموا ما لايحظى به إلا بعض أولي العزم من الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم وقد فسر استكبروا في أنفسهم باضمروا الاستكبار وهو الكفر والعناد في قلوبهم وهو أظهر مما تقدم وما تقدم أبلغ وأوفق لما انتصر له وكذا فسر العتو بالنبو عن الطاعة وما تقدم أبلغ وأوفق بذلك أيضا وفي تعقب حكاية باطل أولئك الكفرة بالجملة القسمية ايذان بغاية قبح ما هم عليه واشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم وهو من الفحوى في الحقيقة ومثل ذلك شائع في الكلام تقول لمن جنى جناية : فعلت كذا وكذا استعظاما وتعجبا منه ويستعمل في سائر الألسنة وجعل الزمخشري من ذلك قول مهلهل : وجارة جساس أبأنا بنابها كليبا غلت ناب كليب بواؤها والطيبي قوله تعالى كبرت كلمة وتعقب بأن ذلك ليس من هذا القبيل لأن الثلاثي المحول إلى فعل لفظا أو تقديرا موضوع للتعجب كما صرح به النحاة وذكر الامام مختار القول في تفسير لولا أنزل الخ أن هذه الجملة جواب لقولهم لولا أنزل الخ من عدة أوجه أحدها أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت نبوته
(19/3)

صلىصلى الله تعالى عليه وسلم فبعد ذلك لايكون اقتراح هذ الآيات الا محض استكبار وثانيها أن نزول الملائكة عليهم السلام لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك ورد الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح وثالثهما أنهم بتقدير رؤية الرب سبحانه وتصديقه لرسوله صلى الله عليه و سلم لايستفيدون علما أزيد من تصديق المعجز إذ لافرق بين أن يقول النبي : اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه عز و جل وبين أن يقول : إن كنت صادقا فصدقني فيصدقه فتعيين أحد الطريقين محض العناد ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على مولاه إما بحكم المالكية عند الاشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لايرضى بما ينعم عليه مذموم واظهار المعجز من جملة الايادي الجسمية فرد احداهما واقتراح الاخرى ليس من الادب في شيء وسادسها لعل المراد أني لوعلمت أنهم ليسوا مستكبرين وعاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت أنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لايرى في الدنيا وأنه لاينزل الملائكة عليهم السلام على عوام الخلق ثم أنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون انتهى وفيه مالا يخلوا عن بحث
واستدلت الاشاعرة بقوله تعالى لايرجون لقاءنا على أن رؤية الله تعالى ممكنة واستدلت المعتزلة بقوله سبحانه لقد استكبروا وعتوا على أنها ممتنعة ولا يخفى ضعف الاستدلالين يوم يرون الملئكة استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدة الملائكة عليهم السلام بعد استعظام طلبهم إنزالهم عليهم وبيان كونه في غاية الشناعة وإنما قيل : يوم يرون دون أن يقال يوم تنزل الملائكة ايذانا من أول الأمر بان رؤيتهم لهم ليست على طريق الاجابة إلى ما طلبوه بل على وجه آخر لم يمر ببالهم ويوممنصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى لابشرى يومئذ للمجرمين فانه في معنى لايبشر يومئذ المجرمين والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى فكأنه قيل لايبشرون يوم يرون الملائكة وقدر بعضهم يمنعون البشرى أو يفقدونها والأول أبعد من احتمال توهم تهوين الخطب وقدر بعضهم لابشرى قبل يوم وجعله ظرفا لذلك وجوز أبو البقاء تعلقه بيعذبون مقدرا لدلالة لابشرى الخ عليه وكونه معمولا لاذكر مقدرا قال : أبو حيان وهو أقرب
وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يكون منصوبا بينزل مضمرا لقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة كأنه قيل ينزل الملائكة يوم يرونهم ولا يقال : كيف يكون وقت الرؤية وقتا للانزال لأنا نقول : الظرف يحتمل ذلك لسعته واستحسنه الطيبي فقال هو قول لامزيد عليه لأنه إذا انتصب بينزل يلتئم الكلام ان لأن قوله تعالى يوم يرون الخ نشر لقوله تعالى لولا أنزل الخ وقوله سبحانه وقدمنا نشر لقوله عز و جل أو نرى ربنا ولم يجوز الأكثرون تعلقه ببشرى المذكور لكونه مصدرا وهو لايعمل متأخرا وكونه منفيا بلا ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها ويومئذ تأكيدا للأول أو بدل منه أو خبر وللمجرمين تبيين متعلق بمحذوف كما في سقيا له أو خبر ثان أو هو ظرف لما يتعلق به اللام أو لبشرى ان قدرت منونة غير مبنية مع لا فانا لا تعمل إذ لو عمل اسم لا طال وأشبه المضاف فينتصب
وفي البحر أحتمل بشرى أن يكون مبنيا مع لا واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ومنع من الصرف والتأنيث اللازم فان كان مبنيا مع لا احتمل أن يكون الخبر يومئذ وللمجرمين خبر بعد خبر أو نعت لبشرى أو متعلق بما تعلق به الخبر وأن يكون يومئذ صفة لبشرى والخبر للمجرمين ويجيء خلاف سيبويه
(19/4)

والأخفش هل الخبر لنفس لا أو للمبتدأ الذي هو مجموع لا وما بني معها وان كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون يومئذ معمولا لبشرى وأن يكون صفة والخبر للمجرمين وجاز أن يكون يومئذ خبرا وللمجرمين صفة وجاز أن يكون يومئذ خبر أو للمجرمين خبر أبعد خبر والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا للانفسها بالاجماع
وقال الزمخشري : يومئذ تكرير ولايجوز ذلك سواء أريد بالتكرير للتوكيد اللفظي أم أريد به البدل لأن يوم منصوب بما تقدم ذكره من أذكر أو من يفقدون وما بعد لا العاملة في الاسم لايعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبلها انتهى ولا يخفى عليك ما في الاحتمالات التي ذكرها وأما ما اعترض به على الزمخشري فتعقب بان الجملة المنفية معمولة لقول مضمر وقع حالا من الملائكة التي هي معمول ليرون ويرون معمول ليوم وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث أنه معمولا لبعض ما في حيزه ومثله لايعد محذورا مع أن كون لا لها الصدر مطلقا أو إذا بني معها اسمها ليس بمسلم عند جميع النحاة لأنها لكثرة ودورها خرجت عن الصدارة فتأمل هذا ما وقفنا عليه للمتقدمين في اعراب الآية وما فيه من الجرح والتعديل
وقال بعض العصريين : يجوز تعلق يوم بكبير أو تقييد كبره بذلك اليوم ليس لنفي كبره في نفسه بل لظهور موجبه في ذلك اليوم ونظيره لزيد علم عظيم يوم يباحث الخصوم وتكون جملة لابشرى يومئذ للمجرمين استئنافا لبيان ذلك وهو كما ترى وأياما كان فالمراد بذلك اليوم على ماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يوم الموت وقال أبو حيان : الظاهر أنه يوم القيامة لقوله تعالى بعد وقدمنا إلى ماع ملوا الخ وفيه نظر
ونفي البشرى كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى والله لايجب الكافرين كناية عن البغض والمقت فيدل على ثبوت النذرى لهم على أبلغ وجه والمراد بالمجرمين اولئك الذين لايرجون لقاءه تعالى ووضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالاجرام مع ماهم عليه من الكفر والعناد وإيذانا بعلة الحكم ومن اعتبر المفهوم في مثله ادعى افادة الآية عدم الحكم في غيرهم وقد دل قوله تعالى في حق المؤمنين تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا الخ على حصول البشرى لهم وقيل : المراد بهم ما يعم العصاة والكفار الذين لايرجون لقاءه تعالى ويفيد الكلام سلب البشرى عن الكفار على أتم وجه لدلالته على أن المانع من حصول البشرى هو الاجرام ولا اجرام اعظم من اجرام الذين لايرجون لقاءه عز و جل ويقولون ما يقولون فهم أولى به ويتم استدلال المعتزلة بالآية عليه في نفي العفو والشفاعة للعصاة لأنها لاتفيد النفي في جميع الأوقات فيجوز أن يبشر العصاة بما ذكر في وقت آخر
وتعقب بأن الجملة قبل النفي لكونها أسمية تفيد الاستمرار فبعد دخول النفي أراد نفي استمرار البشرى للمجرمين بمعنى أن البشرى تكون لهم لكن لاتستمر مما لايظن أن أحدا يذهب اليه فيتعين إرادة استمرار النفي كما في قوله تعالى في حق أضدادهم لاخوف عليهم ولا هم يحزنون فحينئذ لايتسنى قوله : إنها لاتفيد النفي في جميع الأوقات فالأولى أن يراد بالمجرمين من سمعت حديثهم ويقولون عطف على لايبشرون أو يمنعون البشرى أو نحوه المقدر قبل يوم
وجوز أن يكون عطفا على ما قبله باعتبار ما يفهم منه كأنه قيل : يشاهدون أهوال القيامة ويقولون وأن
(19/5)

يكونيكون عطفا على يرون وجملة لابشرى حال بتقدير القول فلا يضر الفصل به وضمير الجمع على ما استظهره أبو حيان لأنهم المحدث عنهم وحكاه الطبرسي عن مجاهد وابن جريج للذين لايرجون أي ويقول أولئك الكفرة حجرا محجورا
22
- وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكأن المعنى نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا
وقال الخليل : كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف من القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول : حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذاالشهر فلا يبدؤه بشر وقال أبو عبيدة : هي عوذة للعرب يقولها من يخاف ءاخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة وقال أبو علي الفارسي : مما كانت العرب تستعمله ثم ترك قولهم حجرا محجورا وهذا كان عندهم لمعنيين أحدهما أن يقال عند الحرمان إذا سئل الانسان فقال ذلك علم السائل أنه يريد أن يحرمه ومنه قوول المتلمس : حنت إلي النخلة القصوى فقلت لها حجرا حرام ألا تلك الدهاريس والمعنى الآخر الاستعاذة كان الانسان إذا سافر فرأى ما يخاف قال حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي انتهى وذكر سيبويه حجرا من المصادر المنصوبة غير المتصرفة وأنه واجب اضمار ناصبها وقال : ويقول الرجل للرجل أتفعل كذل فيقول : حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله تعالى أن يمنع المكروه من أن يلحقه والاصل فيه فتح الحاء وقريء به كما قال أبو البقاء لكن لما خصوا استعماله بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول فلما تغير معناه تغير لفظه عما هو أصله وهو الفتح إلى الكسر وقد جاء فيه الضم أيضا وهي قراءة أبي رجاء والحسن والضحاك ويقال فيه حجرى بألف التأنيث ومثله في التغيير عن أصله قعدك الله تعالى بسكون العين وفتح القاف وحكي كسرها عن المازني وأنكره الأزهري وقعيدك وهو منصوب على المصدرية والمراد رقيبك وحفيظك الله تعالى ثم نقل إلى القسم فقيل قعدك أو قعيدك الله تعالى لاتفعل وأصله باقعاد الله تعالى أي ادامته سبحانه لك وكذا عمرك الله بفتح الراء وفتح العين وضمها وهو منصوب على المصدرية ثم اختص القسم وأصله بتعميرك الله تعالى أي باقرارك له بالبقاء وما ذكر من أنه لازم النصب على المصدرية بفعل واجب الاضمار اعتراض عليه في الدر المصون بما أنشده الزمخشري : قالت وفيها حيدة وذعر عوذ بربي منكم وحجر فانه وقع فيه مرفوعا ووصفه بمحجورا للتأكيد كشعر شاعر وموت مايت وليل أليل وذكر أن مفعولا هنا للنسب أي ذو حجر وهو كفاعل يأتي لذلك وقيل : إنه على الاسناد المجازي وليس بذاك والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليه السلام وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعا شديدا وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول باس فظيع وقيل : ضمير يقولون للملائكة وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري والضحاك وقتادة وعطية ومجاهد على ما في الدر المنثور قالوا : إن الملائكة يقولون للكفار حجرا محجورا أي حراما محرما عليكم البشرى أي جعلها الله تعالى حراما عليكم
(19/6)

وفي بعض الروايات أنهم يطلبون البشرى من الملائكة عليهم السلام فيقولون ذلك لهم وقال بعضهم : يعنون حراما محرما عليكم الجنة وحكاه في مجمع البيان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : الغفران وفي جعل حجرا نصب على المفعولية لجعل مقدرا كما أشير اليه بحث والظاهر على ما ذكر أن ايراد هذه الكلمة للحرمان وهو المعنى الأول منن المعنيين اللذين ذكرهما الفارسي ويقولون على هذا القول قيل معطوف على ما عطف عليه على القول بان ضميره للكفرة وقيل : معطوف على جملة يقولون المقدرة قبل لابشرى الواقعة حالا
وقال الطيبي : هو حال من الملائكة بتقدير وهم يقولون نظير قولهم : قمت وأصك وجهه وعلى الأول هو عطف على يرون وقدمنا أي عمدنا وقصدنا كما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرحمن بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد إلى ما عملوا في الدنيا من عمل فخيم كصلة رحم وإغاثة ملهوف وقري ضعيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الايمان لنالوا ثوابها والجار والمجرور بيان لما وضحه البيان باعتبار التنكير كصحة الاستثناء في إن نظن إلا ظنا لكن التنكير هنا للتفخيم كما أشرنا
وجوز أن يكون للتعميم ودفع مايتوهم من العهد في الموصول أي عمدنا إلى كل عمل عملوه خال عن الايمان ولعل الأول أنسب بقوله تعالى فجعلناه هباء مثل هباء الحقارة وعدم الجدوى وهو على ما أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه وهج الغبار يسطع ثم يذهب
وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الشرر الذي يطير من النار إذا أضطرمت وفي رواية أخرى عنه أنه الماء المهراق وعن يعلى بن عبيد أنه الرماد
وأخرج جماعة عن مجاهد والحسن وعكرمة وأبي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة كأنهم ارادوا ما فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين قال الراغب : الهباء دقاق التراب وما أنبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة ويقال : هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع ووصف بقوله تعالى منثورا
32
- مبالغة في الغاء أعمالهم فان الهباء تراه منتظما مع الضوء فاذأ حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعل متناثرا لايمكن جمعه والانتفاع به أصلا ومثل هذا الارداف يسمى في البديع بالتميم والايغال ومنه قول الخنساء : أغر أبلج تأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار حيث لم يكفها أن جعلته علما في الهداية حتى جعلته في رأسه نار وقيل : وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن اغراضهم في أعمالهم متفرقة فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقا جزاء من جنس العمل وجوز أن يكون مفعولا بعد مفعول لجعل وهو مراد من قال : مفعولا ثالثا لها على معنى جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ونظير ذلك قوله تعالى : كونوا قردة خاسئين أي جامعين للمسخ والخسء وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبر ان وقياس قوله : أن يمنع أن يكون لجعل مفعول ثالث ومع هذا الظاهر الوصفية وفيه الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها
(19/7)

في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقد إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فافسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر واللفظ المستعار وقع فيه استعمال قدم بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأن مقدمته وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة فلا إشكال على ما قيل والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله وجعل بعضهم القدوم في حقه عز و جل عبارة عن حكمه وقيل : الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا وأسند ذلك اليه عز و جل لأنه عن أمره سبحانه ونقل عن بعض السلف أنه لايؤول في قوله تعالى : وجاء ربك وقوله سبحانه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة وقياس ذلك عدم التأويل في الآية ولعله من هنا قيل : إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات والقلب إلى التأويل فيها أميل
وأنت إن لم تؤول القدوم فلابد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا باظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه ولا يأبى ذلك السلف أصحاب الجنة هم المؤمنون المشار اليهم في قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون يومئذ أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباء منثورا أو من هذا وعدم التبشير وقولهم : حجرا محجورا خير مستقرا المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الاوقات للتجالس والتحادث وأحسن مقيلا المقيل المكان الذي يؤوى اليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا وقيل : هو في الأصل مكان القيلولة وهي النوم نصف النهار ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة وقيل : أريد به مكان الاسترواح مطلقا استعمالا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لانوم في الجنة أصلا
وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لاينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وقرأ إن مقيلهم لألى الجحيم وأخذ منه بعضهم أن المراد بالمستقر موضع الحساب وبالمقيل محل الاستراحة بعد الفراغ منه ومعنى يقيل هؤلاء يعني أصحاب الجنة ينقلون اليها وقت القيلولة وقيل : المستقر والمقيل في المحشر قبل دخول الجنة أو المستقر فيها والمقيل فيه
فقد أخرج ابن جرير عن سعيد الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وإنهم ليقيلون في رياض حتى يفرغ الناس من الحساب وذلك قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أن لهم ما يتزين به والتفضيل المعتبر فيهما المسرة إما لارادة الزيادة على الاطلاق أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل وإما بالاضافة الى ماللكفرة المتنعمين في الدنيا
(19/8)

أو إلى مالهم في الآخرة بطريق التهكم بهم هذا وتفسير المستقر والمقيل بالمكانين حسبما سمعت هو المشهور وهو أحد أحتمالات تسعة وذلك أنهم جوزوا أن يكون كلاهما اسم مكان أو اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الاول مكان والثاني اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الأول اسم زمان والثاني اسم مكان أو مصدرا وأن يكون الاول مصدرا والثاني اسم مكان أو اسم زمان وما شئت تخيل في خيرية زمان أصحاب الجنة وأحسنيته وكذا في خيرية استقرارهم وأحسنية استراحتهم يومئذ ويوم تشقق السماء بالغمام العامل في يوم إما اذكر أو ينفرد الله تعالى بالملك الدال عليه قووله تعالى : الملك يومئذ الحق للرحمن وقيل : العامل ذاك بمعناه المذكور وقيل : إنه معطوف على يومئذ أو يوم يرون و : تشقق : تتفتح والعبير به دونه التهويل وأصله تتشقق فحذفت إحدى التاءين كما في تلظى وقرأ الحرميان وابن عامر بادغام التاء في الشين لما بينهما من المقاربة والظاهر أن المراد بالسماء المظلة لنا وبالغمام السحاب المعروف والباء الداخلة عليه باء السبب أي تشقق السماء بسبب طلوع الغمام منها ولا مانع من أن تشقق به كما يشق السنام بالشفرة والله تعالى على كل شيء قدير وحديث امتناع الخرق على السماء حديث خرافة
وقيل باء الحال وهي باء الملابسة واستظهره بعضهم أي تشقق متغيمة وقيل : بمعنى عن واليه ذهب الفراء والفرق بين قولك انشقت الأرض بالنبات وانشقت عنه أن معنى الأول أن الله تعالى شقها بطلوعه فانشقت به ومعنى الثاني أن التربة ارتفعت عنه عند طلوعه وقيل : المراد بالغمام غمام ابيض رفيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه الغمام الذي يأتي الله تعالى فيه بيوم القيامة المذكور في قوله سبحانه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام قال ابن جريج : وهو غمام زعموا أنه في الجنة وعن مقاتل أن المراد بالسماء ما يعم السموات كلها وتشقق سماء سماء وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قرأ هذه الآية إلى قوله تعالى : ونزل الملئكة تنزيلا
52
- أي تنزيلا عجيبا غير معهود فقال : يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد والانس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والانس وجميع الخلق فيحيطون بجميعهم فتقول أهل الأرض : أفيكم ربنا فيقولون : لا ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والانس وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والانس وجميع الخلق ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والدنيا وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والانس وجميع الخلق ثم ينزل أهل السماء الرابعة وهم أكثر من أهل الثالثة والثانية والاولى وأهل الأرض ثم ينزل أهل السماء الخامسة وهم أكثر ممن تقدم ثم أهل السماء السادسة كذلك ثم أهل السماء السابعة وهم أكثر من أهل السموات وأهل الأرض ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر أهل السموات السبع والانس والجن وجميع الخلق لهم قرون ككعوب القنا وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن فخذه الى ترقوته مسيرة خمسائة عام ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك
(19/9)

خمسمائةخمسمائة عام ونزول الرب جل وعلا من المتشابه وكذا قوله : وحوله الكروبيون واهل التأويل يقولون : المراد بذلك نزول الحكم والقضاء فكأنه قيل : ثم ينزل حكم الرب وجوله الكروبيون أي معه وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وعظم أجسامهم فلا يمنع عنه ما يشاهد من صغر الأرض لأن الأرض يومئذ تمتد بحيث تسع أهلها وأهل السموات أجمعين وسبحان من لايعجزه شيء ثم الخبر ظاهر في أن الملائكة عليهم السلام لاينزلون في الغمام وذكر بعضهم في الآية أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف الأعمال وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء ونزل ماضيا مبنيا للفاعل مشددا وعنه أيضا وأنزل مبنيا للفاعل وجاء مصدره تنزيلا وقياسه إنزالا إلا أنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدا جاء مصدر أحدهما للآخر كما قال الشاعر :
حتى تطويت انطواء الخصب
: انه قال : حتى انطويت وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن ابي عمرو ونزل ثلاثيا مخففا مبنيا للفاعل وقرأ أبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو ونزل بضم النون وشد الزاي وكسرها ونصب الملائكة وخرجها ابن جني بعد أن نسبها إلى ابن كثير وأهل مكة على أن الأصل ننزل كما وجد في بعض المصاحف فحذفت النون التي هي فاء الفعل تخفيفا لالتقاء النونين وقرأ أبي ونزلت ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو ونزل مخففا مبنيا للمفعول والملائكة بالرفع فان صحت القراءة فانه حذف منها المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه : والتقدير ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل اعرابه الى الملائكة بمعنى نزل نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم اه وقال الطيبي : قال ابن جني : نزل بالبناء للمفعول غير معروف لأن نزل لايتعدى إلى مفعول به ولا يقاس بجن حيث أنه مما لايتعدى إلى المفعول فلا يقال جنه الله تعالى بل أجنه الله تعالى وقد بني للمفعول لأن شاذ والقياس عليه مردود فاما أن يكون ذلك لغة نادرة وإما أن يكون من حذف المضاف أي نزل نزول الملائكة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه قال العجاج :
حتى إذا اصطفوا له حذارا
فحذارا منصوب مصدرا لامفعولا به يريد اصطفوا له اصطفافا حذارا ونزل نزول الملائكة على حد قولك : هذا نزول منزول وصعود مصعود وضرب مضروب وقريب منه وقد قيل قول وقد خيف منه خوف فاعرف ذلك فانه أمثل ما يحتج به لهذه القراءة اه وهو أحسن من كلام صاحب اللوامح وعن أبي عمرو وأيضا أنه قرأ وتنزلت الملائكة فهذه مع قراءة الجمهور وما في بعض المصاحف عشرة قراءات وما كان منها بصيغة المضارع وجهه ظاهر وأما ما كان بصيغة الماضي فوجهه على ما قيل الاشارة إلى سرعة الفعل
الملك يومئذ الحق للرحمن أي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا بحيث لازوال له ثابت للرمن يوم إذ تشقق السماء وتنزل للملائكة فالملك مبتدأ و الحق صفته و للرحمن خبره و يومئذ ظرف لثبوت الخير للمبتدأ وفائدة التقييد أن ثبوت الملك له تعالى خاصة يومئذ وأما فيما عداه من أيام الدنيا فيكون لغيره عز و جل أيضا تصرف صوري في الجملة واختار هذا بعض المحققين ولعل أمر الفصل بين الصفة والموصوف بالظرف المذكور سهل وقيل : الملك مبتدأ ويومئذ متعلق به وهو بمعنى
(19/10)

المالكية والحق خبره و للرحمن متعلق بالحق وتعقب بأنه لايظهر حينئذ نكتة ايراد المسند معرفا فان الظاهر عليه أن يقال : الملك يومئذ حق للرحمن وأجيب بأن في تعلقه بما ذكر تأكيدا لما يفيده تعريف الطرفين وقيل : هو متعلق بمحذوف على التبيين كما في سقيا لك والمبين من له الملك وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة للحق وهو كما ترى وقيل يومئذ هو الخبر والحقنعت للملك وللرحمن متعلق به وفيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر فلا تغفل
ومنعوا تعلق يومئذ فيما إذا لم يكن خبرا بالحق وعللوا ذلك بأنه مصدر والمصدر لاتتقدم عليه صلته ولو ظرفا وفيه بحث والجملة على أكثر الاحتمالات السابقة في عامل يوم استئناف مسوق لبيان أحوال ذلك اليوم وأهواله وايراده تعالى بعنوان الرحمانية للايذان بأن أتصافه عر وجل بغاية الرحمة لايهون الخطب على الكفرة المشار اليه بقوله تعالى وكان يوما على الكافرين عسيرا
62
- أي وكان ذلك اليوم مع كون الملك فيه لله تعالى المبالغ في الرحمة بعباده شديدا على الكافرين والمراد شدة ما فيه من الأهوال وفسر الراغب العسير بما لايتيسر فسه أمر والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وفيها إشارة إلى مون ذلك اليوم يسيرا للمؤمنين وفي الحديث إنه يهون على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا
ويوم يعض الظألم على يديه قال الطبرسي : العامل في يوم اذكر محذوفا ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله والظأهر أن أل في الظالم للجنس فيعم كل ظالم وحكى ذلك أبو حيان عن مجاهد وأبي رجاء وذكر أن المراد بفلان فيما بعد الشيطان وقيل : لتعريف العهد والمراد بالظالم عقبة بن أبي معيط لعنه الله تعالى وبفلان أبي بن خلف فقد روي أنه كان عقبة بن أبي معيط لايقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه و سلم ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى طعامه فقال : ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال : اطعم يا ابن أخي فقال صلى الله عليه و سلم : ما أنا بالذي أفعل حتى تقول فشهد بذلك وطعم عليه الصلاة و السلام من طعامه فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال : أصبوت يا عقبة وكان خليله فقال : والله ما صبوت ولكن دخل على رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتفعل كذا وذكر فعلا لايليق إلا بوجه القائل اللعين ففعل عقبة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا ألقاك خارجا عن مكة إلا علوت رأسك بالسيف وفي رواية إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه : أخرج معنا قال : قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا فقالوا : لك جمل أحمر لايدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم فلما هزم الله تعالى المشركين رحل به جمله في جدد من الأرض فأخذ أسيرا في سبعين من قريش وقدم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه
(19/11)

وفي رواية ثابت بن أبي ألافلح بأن يضرب عنقه فقال أتقتلني من بين هؤلاء قال : نعم قال : بم قال : بكفرك وفجورك وعوك على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام وفي رواية أنه صلى الله عليه و سلم صرح له بما فعل معه ثم ضرب عنقه وأما أبي بن خلف فمع فعله ذلك قال : والله لاقتلن محمدا صلى الله عليه و سلم فبلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال : بل أقتله إنشاء الله تعالى فأفزعه ذلك وقال لمن أخبره : أنشدك بالله تعالى أسمعته يقول ذلك قال نعم فوقعت في نفسه لما علموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال قولا إلا كان حقا فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين فجعل يلتمس غفلة النبي عليه الصلاة و السلام ليحمل عليه فيحول رجل من المسلمين بين النبي عليه الصلاة و السلام وبينه فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : خلوا عنه فاخذ الحربة فرماه بها فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه فخر يخور كما يخور الثور فأتى أصحابه حتى أحتملوه وهو يخور فقالوا : ماهذا فوالله ما بك الا خدش فقال : والله لو لم يصيبني الا بريقه لقتلني أليس قد قال أنا أقتله والله لو أن الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم فما لبث الا يوما أو نحو ذلك حتى ذهب إلى النار فأنزل الله تعالى هذه الآية وروي هذا القول عن ابن عباس وجماعة وفي رواية اخرى عن ابن عباس أن الظالم أبي بن خلف وفلان عقبة وعض اليدين إما على ظاهره وروي ذلك عن الضحاك وجماعة قالوا : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وإا كناية عن فرط الحسرة والندامة وكذا عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الاسنان والادم ونحوها لأنها لازمة لذلك في العادة والعرف وفي المثل يأكل يديه ندما ويسيل دمعه دما وقال الشاعر : أبي الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فافضى والسيوف معاقله والفعل عض على وزن فعل مكسور العين وحكى الكسائي عضضت بفتح العين
يقول ياليتني أتخذت مع الرسول سبيلا
72
- الجملة مع موضع الحال من الظالم أو جملة مستأنفة أو مبينة لما قبلها و ياليتني الخ مقول القول ويا أما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف يا قومي ليتني وأل في الرسول اما للجنس فيعم كل رسول واما للعهد فالمراد به رسول هذه الأمة محمد صلى الله عليه و سلم والأول إذا كانت أل في الظالم للجنس والثاني إذا كانت للعهد وتنكير سبيلا اما للشيوع أو للوحدة وعدم تعريفه لادعاء تعينه أي ياليتني اتخذت طريقا إلى النجاة أي طريق كان او طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة
ياويلتي بقلب ياء المتكلم ألفا كما في صحارى وقرأ الحسن وابن قطيب يا ويلتي بكسر التاء والياء على الاصل وقرأت فرقة بالامالة قال أبو علي : وترك الامالة أحسن لان الأصل في هذه اللفظة الياء فابدلت الكسرة فتحة والياء الفا فرارا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فرأولا وأياما كان فالمعنى ياهلكتي تعالى واحضري فهذا اوانك ياليتني لم أتخذ فلانا خليلا
82
- أراد بفلان الشيطان أو من أضله في الدنيا كائنا من كان أو أبيا ان كان الظالم عقبة أو عقبة إن كان الظالم أبيا وهو كناية عن علم مذكر وفلانة عن علم مؤنث واشترط ابن الحاجب في فلان أن يكون محكيا بالقول كما هنا ورده في شرح التسهيل بانه سمع خلافه كثيرا كقوله : وإذا فلان مات عن أكرومة دفعوا معاوز فقره بفلان وتقدير القول فيه غير ظاهر والفلان والفلانة كناية عن غير العاقل من الحيوانات كما قال الراغب وفل
(19/12)

وفلةوفلة كناية عن نكرة من يعقل فالأول بمعنى رجل والثاني بمعنى امرأة ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط كما في البحر في قولهم : فل كناية عن العلم كفلان ويختص بالنداء إلا ضرورة كما في قوله :
في لجة أمسك فلان عن فل
وليس مرخم فلان خلافا للفراء واختلفوا في لام فل وفلان فقيل واو قيل : ياء وكنو بهن بفتح الهاء وتخفيف النون عن اسماء الأجناس كثيرا وقد كني به عن الاعلام كما في قوله : والله أعطاك فضلا عت عطيته على هن وهن فيما مضى وهن فانه على ما قال الخفاجي أراد عبد الله وابراهيم وحسنا والخليل من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة أطلق عليها ذلك إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها وأنشد : قد تخللت مسلك الروح مني وبه سعى الخليل خليلا وإما لأنها تخلها فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية وإما لفرط الحاجة اليها وهذا التمني وإن كان مسوقا لابراز الندم والحسرة لكنه متضمن لنوع تعلل واعتذار بتوريك جنايته إلى الغير وقوله تعالى : لقد أضلني عن الذكر تعليل لتمنيه المذكور وتوضيح لتعلله وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته أي والله لقد أضلني فلان عن ذكر الله تعالى أو عن موعظة الرسول عليه الصلاة و السلام أو عن كلمة الشهادة أو عن القرآن بعد إذ جاءني أي وصل إلي وعلمته أو تمكنت منه فلادلالة في الآية على ايمان من أنزلت فيه ثم ارتداده وكان الشيطان للانسان خذولا
92
- مبالغا في الخذلان وهو ترك المعاونة والنصرة وقت الحاجة ممن يظن فيه ذلك والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى أو من تمام كلام الظالم على أنه سمي خليله شيطانا بعد وصفه بالاضلال الذي هو أرخص الأوصاف الشيطانية أو على أنه أراد بالشيطان ابليس لأنه الذي حمله على مجالسة المضلين ومخالفة الرسول الهادي عليه الصلاة و السلام بوسوسته واغوائه فان وصفه بالخذلان يشعر بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة وهو أوفق الحال ابليس عليه اللعنة
وقال الرسول عطف على قوله تعالى : وقال الذين لايرجون لقاءنا الخ وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام ماقالوه وبيان ما يحيق بهم من الأهوال والخطوب والمراد بالرسول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة لتحقيق الحق والرد على نحورهم حيث كان ما حكي عنهم قدحا في رسالته صلى الله عليه و سلم أي قالوا كيت وكيت وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه عز و جل والشكوى عليهم يا رب إن قومي الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع أتخذوا هذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم مهجورا
3
- أي متروكا ولم يؤمنوا به ولم يرفعوا اليه رأسا ولم يتأثروا بوعيده ووعده فمهجورا من الهجر بفتح الهاء بمعنى الترك وهو الظاهر وروي ذلك عن مجاهد والنخعي وغيرهما واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه وكان ذلك لئلا يندرج من لم يتعاهد القراءة فيه تحت ظاهر
(19/13)

النظم الكريم فان ظاهره ذم الهجر مطلقا وإن كان المراد به عدم القبول لاعدم الاشتغال مع القبول ولا ما يعمهما فان كان مثل هذا يكفي في الاستدلال فذاك وإلا فليطلب دليل آخر للكراهة وأورد بعضهم في ذلك خبرا وهو من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه وقد تعقب هذا الخبر العراقي بأنه روي عن أبي هدبة وهو كذاب والحق أنه متى كان ذلك مخلا باحترام القرءان والاعتناء به كره بل حرم وإلا فلا
وقيل : مهجورا من الهجر بالضم على المشهور أي الهذيان وفحش القول والكلام على الحذف والايصال أي جعلوه مهجورا فيه إما على زعمهم الباطل نحو ماقالوا : إنه أساطير الأولين اكتتبها وإما بأن هجروا فيه ورفعوا أصواتهم بالهذيان لما قريء لئلا يسمع كما قالوا : لاتسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه وجوز أن يكون مصدرا من الهجر بالضم كالمعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلادة أي اتخذوه نفس الهجر والهذيان ومجيء مفعول مصدرا مما أثبته الكوفيون لكن على قلة وفي هذه الشكوى من التخويف والتحذير مالايخفى فان الأنبياء عليه الصلاة و السلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا
وقيل : إن قال الخ عطف على يعض الظالم والمراد ويقول الرسول إلا أنه عدك إلى الماضي لتحقق الوقوع مع عدم قصد الاستمرار التجددي المراد بمعونة المقام في بعض وإن كان إخبارا عما في الآخرة
وحال عطفه على وكان الشيطان الخ على أنه من كلامه تعالى لايخفى حالة وقال الرسول ذلك يوم القيامة وهو كالشهادة على اولئك الكفرة وليس بتخويف وإلى ذلك ذهبت فرقة منهم أبو مسلم والأول أنسب بقوله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين فانه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الانبياء عليهم السلام والبلية إذا عمت هانت والعدو يحتمل أن يكون واحدا وجمعا أي كما جعلنا لك اعداء من المشركين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة اليها عدوا من مرتكبي الجرائم واةثام ويدخل في ذلك آدم عليه السلام لدخول الشياطين وقابيل في المجرمين ويكتفي بدخول قابيل إن أريد بالمجرمين مجرمو الانس أو مجرمو أمة النبي وقيل الكلية بمعنى الكثرة والمراد بجعل الأعداء جعل عداوتهم وخلقها وما ينشأ منها فيهم لا جعل ذواتهم ففي ذلك رد على المعتزلة في زعمهم إن خالق الشر غيره تعالى شأنه وقوله تعالى : وكفى بربك هاديا ونصيرا
13
- وعد كريم له عليه الصلاة و السلام بالهداية إلى كافة مطالبه والنصر على اعدائه أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديا لك إلى مايوصلك إلى غاية الغايات التي من جملتها تبليغ ما أنزل اليك واجراء أحكامه في أكناف الدنيا إلى أن يبلغ الكتاب أجله وناصرا لك عليهم على أبلغ وجه
وقدر بعضهم متعلق هاديا إلى طريق قهرهم وقيل : المعنى هاديا لمن آمن منهم ونصيرا لك على غيره وقيل هاديا للانبياء إلى التحرز عن عداوة المجرمين بالاعتصام بحبله ونصيرا لهم عليهم وهو كما ترى ونصب الوصفين على الحال أو التمييز وقال الذين كفروا حكاية لنوع آخر من أباطيلهم والمراد بهم المشركون كما صح عن ابن عباس وهم القائلون أولا والتعبير عنهم بعنوان الكفر لذمهم به والاشعار بعلة الحكم وقيل : المراد بهم طائفة من اليهود لولا نزل عليه القرءان أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر فلا قصد فيه إلى التدريج
(19/14)

لمكان جملة واحدة فانه لو قصد ذلك لتدافعا إذ يكون المعنى لولا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية وقيل : عبر بذلك للدلالة على كثرة المنزل في نفسه ونصب جملة على الحال و واحدة على أنه صفة مؤكدة له أي هلا أنزل القرآن عليه عليه الصلاة و السلام دفعة غير مفرق كما أنزلت التوراة والانجيل والزبور على ما تدل عليه الأحاديث والآثار حتى كاد يكون اجماعا كما قال السيوطي ورد على من أنكر ذلك من فضلاء عصره فتقول ابن الكمال إن التوراة أنزلت منجمة في ثماني عشرة سنة ويدل عليه نصوص التوراة ولا قاطع بخلافه من الكتاب والسنة ناشيء من نقصان الاطلاع
وهذا الاعتراض مما لا طائل تحته لأن الاعجاز مما لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما ذكره الله تعالى بعد وقيل : إن شاهد صحة القرآن اعجازه وذلك ببلاغته وهي بمطابقته لمقتضى الحال في كل جملة منه ولا يتيسر ذلك في نزوله دفعة واحدة فلا يقاس بسائر الكتب فان شاهد صحتها ليس الاعجاز
وفيه أن قوله : ولا يتيسر الخ منوع فانه يجوز أن ينزل دفعة واحدة مع رعاية المطابقة المذكورة في كل جملة لما يتجدد من الحوادث الموافقة لها الدالة على أحكامها وقد صح أنه نزل كذلك الى السماء الدنيا فلو لم يكن هذا لزم كونه غير معجز فيها ولا قائل به بل قد يقال ان هذا أقوى في اعجازه والبليغ يفهم من سياق الكلام ما يقتضيه المقام فافهم كذلك لنثبت به فؤادك استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم وبيان بعض الحكم في تنزيله تدريجيا ومحل الكاف نصب على أنها صفة لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما بعده وجوز نصبها على الحالية وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي تنزيلا مثل ذلك التنزيل الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه لاتنزيلا مغايرا له أو نزلناه مماثلا لذلك التنزيل لنقوي به فؤادك فان في تنزيله مفرقا تيسيرا لحفظ النظم وفهم المعاني وضبط الكلام والوقوف على تفاصيل ما روعي فيه من الحكم والمصالح وتعدد نزول جبريل عليه السلام وتجدد اعجاز الطاعنين فيه في كل جملة مقدار أقصر سورة تنرل منه ولذلك فوائد غير ما ذكر أيضا منها معرفة الناسخ المتأخر نزوله من المنسوخ المتقدم نزوله المخالف لحكمه ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فانه يعين على معرفة البلاغة لأنه بالنظر إلى الحال يتنبه السامع لما يطابقها ويوافقها إلى غير ذلك وقيل : قووله تعالى كذلك من تمام كلام الكفرة والكاف نصب على الحال من القرآن أو الصفة لمصدر نرل المذكور أو لجملة والاشارة إلى تنزيل الكتب المتقدمة ولام لنثبت لام التعليل والمعلل محذوف نحو ما سمعت أولا أي نزلناه مفرقا لنثبت الخ وقال أبو حاتم : هي لام القسم والتقدير والله لنثبتن فحذف النون وكسرت اللام وقد حكي ذلك عن أبو حيان والظاهر أنها عنده كذلك على القولين في كذلك وتعقبه بانه قول في غاية الضعف وكأنه ينحو إلى مذهب الأخفش إن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغى اليه أفئدة الخ وهو مذهب مرجوح وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله تعالى
وقوله تعالى : ورتلناه ترتيلا
23
- عطف على الفعل المحذوف المعلل بما ذكر وتنكير ترتيلا للتفخيم أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لايقادر قدره وترتيله تفريقه ءاية بعد ءاية قال النخعي والحسن وقتادة
وقال ابن عباس : بيناه بيانا فيه ترسل وقال السدي : فصلناه تفصيلا وقال مجاهد : جعلنا بعضه إثر بعض وقيل : هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى : ورتل القرآن ترتيلا وقيل : قرأناه عليك بلسان جبريل
(19/15)

عليه السلام شيئا فشيئا في عشرين أو ثلاثة وعشرين سنة على تؤدة وتمهل وهو مأخوذ من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج الأسنان غير متلاصقها ولا يؤتونك بمثل من الأمثال التي من جملتها اقتراحاتهم القبيحة الخارجة عن دائرة العقول الجارية لذلك مجرى الأمثال أي لايأتونك بكلام عجيب هو مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك ويظهرونه لك إلا جئناك في مقابلته بالحق أي بالجواب الحق الثابت الذي ينحى عليه بالابطال ويحسم مادة القيل والقال كما مر من الأجوبة الحقة القالعة لعروق اسئلتهم الشنيعة الدامغة لها بالكلية وقوله تعالى : وأحسن تفسيرا
33
- عطف على الحق أي جئناك بأحسن تفسيرا أي بما هو أحسن او على محل بالحق أي استحضرنا لك وأنزلنا عليك الحق وأحسن تفسيرا أي كشفا وبيانا على معنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته لا أن ما يأتون به له حسن في الجملة وهذا أحسن منه وهذا نظير قولهم : الله تعالى أكبر أي له غاية الكبرياء في حد ذاته وبعضهم قدر مفضلا عليه فقال : أي وأحسن تفسيرا من مثلهم وحسنه على زعمهم أو هو تهكم وتعقب الأول بأنه يفوت عليه معنى التسلية لأن المراد لايهلك ما أقترحوه من قولهم : لولا أنزل عليه القرءان جملة فان تنزيله مفرقا أحسن مما اقترحوه لفوائد شتى وفيه منع ظاهر وقيل : المراد بالتفسير المعنى والمراد أحسن معنى لأنه يقال : تفسير كذا كذا أي معناه فهو مصدر بمعنى المفعول لأن المعنى مفسر كدرهم ضرب الأمير ورد بأن المفسر اسم مفعول هو الكلام لا المعنى لأنه يقال فسرت الكلام لا معناه
وقال الطيبي : وضع التفسير موضع المعنى من وضع السبب موضع المسبب لأن التفسير سبب لظهور المعنى وكشفه وقيل عليه : إنه فرق بين المعنى وظهوره فلا يتم التقريب وقد يكتفى بسببيته له في الجملة
وايا ما كان فهو نصب على التمييز والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فالجملة في محل النصب على الحالية أي لايأتونك بمثل في حال من الأحوال أي إلا حال إنزال عليك واستحضارنا لك الحق وأحسن تفسيرا وجعل ذلك مقارنا لاتيانهم وإن كان بعده للدلالة على المسارعة إلى إبطال ما أتوا له تثبيتا لفؤاده صلى الله عليه و سلم وجوز أن يكون المثل عبارة عن الصفة الغريبة التي كانوا يقترحون كونه عليه الصلاة و السلام عليها من الاستغناء عن الأكل والشرب وحيازة الكنز والجنة ونزول القرءان عليه جملة واحدة على معنى لايأتوك بحالة عجيبة يقترحون اتصافك بها قائلين هلا كان على هذه الحالة إلا أعطيناك نحن من الأحوال الممكنة ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن وتعقب بأنه يأباه الاستثناء المذكور فان المتبادر منه أن يكون ما أعطاه الله تعالى من الحق مترتبا على ما أتوا به من الأباطيل دامغا لها ولا ريب في أن ما أتاه الله تعالى من الملكات السنية الطائفة بالرسالة قد أتاه من أول الأمر لا بمقابلة ما حكي عنهم من الاقتراحات لأجل دمغها وإبطالها
وأجيب بأن معنى إلا جئناك الخ على ذلك إلا أظهرنا فيك ما يكشف عن بطلان ما أتوا به وهو كما ترى فالحق التعويل على ألاول والمشهور أن الاتيان والمجيء بمعنى لكن عبر أولا بالاتيان وثانيا بالمجيء للتفنن وكراهة أن يتحد ما ينسب اليه عز و جل وما ينسب اليهم لفظا مع كون ما أتوا به في غاية القبح والبطلان وما جاء به سبحانه في غاية الحقية والحسن وفرق الراغب بينهما فقال المجيء كالاتيان لكن المجيء أعم لأن الاتيان مجيء بسهولة ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتى وأتاوي والاتيان قد يقال باعتبار القصد وإن لم يكن
(19/16)

منه الحصول والمجيء يقال له اعتبار بالحصول ولعل في التعبير بالاتيان أولا والمجيء ثانيا على هذا إشارة إلى أن ما يأتون به من الأمثال في نفسه من الأمور التي تتخيل بسهولة ولا تحتاج إلى أعمال فكر بخلاف ما يكون في مقابلته فانه في نفسه من الأمور العقلية التي صقلها الفكر فلا يجد أحد سبيلا إلى ردها والطعن فيها أو إلى أن فعلهم لخروجه عن حيز القبول منزل منزلة العدم حتى كأنهم لم يتحقق منهم القصد دون الحصول بخلاف ما كان من قبله عز و جل والله تعالى أعلم باسرار كتابه
الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أي يحشرون ماشين على وجوههم فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم اما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وهذا يحتمل أن يكون بمس وحوههم وسائر ما في جهتها من صدورهم وبطونهم ونحوها الأرض وأن يكون بنكسهم على رؤسهم وجعل وجوههم الى ما يلي الأرض والارتفاع اقدامهم وسائر ابدانهم ولعل الحديث أظهر في الأول وقيل : إن الملائكة عليهم السلام تسحبهم وتجرهم على وجوههم إلى جهنم والأمر عليه ظاهر لاغرابة فيه وقيل : الحشر على الوجه مجاز عن الذلة المفرطة والخزي والهوان وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب وقيل : الكلام كناية أو استعارة تمثيلية والمراد أنهم يحشرون متعلقة قلوبهم بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم اليها ولعل كون هذه الحال في الحشر باعتبار بقاء آثارها والافهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وزخارفها وتعلق قلوبهم بها ومحل الموصول قبل إما النصب بتقدير أذم أو أعني أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين أو على أنه مبتدأ وقوله تعالى : أولئك بدل منه أو بيان له وقوله تعالى : شر مكانا وأضل سبيلا
43
- خبر له أو اسم الاشارة مبتدأ ثان وشر خبره والجملة خبر الموصول وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يكون الموصول بدلا من الضمير في يأتونك و أولئك شر مكانا كلام مستأنف ولعل الاقرب كون الموصول مبتدأ وما بعده خبره قال الطيبي وذلك من باب كلام المنصف وارخاء العنان وفصل الذين يحشرون عما قبله استئنافا لأن التسلية السابقة حركت منه صلى الله عليه و سلم بان يسأل فاذا بماذا أجيبهم وما يكون قولي لهم فقيل قل لهم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم الخ يعني مقصودكم من هذا التعنت مكاني وتضليل سبيلي وما أقول لكم أنتم كذلك بل أقول الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم شر مكانا وأضل سبيلا فانظروا بعين الانصاف وتفكروا من الذي هو أولى فانظروا بعين الانصاف وتفكروا من الذي هو أولى بهذا الوصف منا ومنكم لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا وسبيلكم أضل من سبيلنا وعليه قوله تعالى إنا أو اياكم لعلى هدى أوفى ضلال مبين فالمكان ألشرف والمنزلة ويجوز أن يراد به الدار والمسكن وشر وأضل محمولان على التفضيل على طريقة قوله تعالى قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل صاحب الفرائد ذلك لاثبات كل الشر لمكانهم وكل الضلال لسبيلهم ووصف السبيل بالضلال من باب الاسناد المجازي للمبالغة والآية على ما سمعت متصلة بما قبلها من قوله تعالى ولايأتونك الخ وقال الكرماني هي متصلة بقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ الآية قيل ويجوز أن تكون
(19/17)

متصلة بقوله سبحانه وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين انتهى وما ذكر أولا أبعد مغزى وقوله تعالى ولقد ءاتينا موسى الكتاب الخ جملة مستأنفة سيقت لتأكيد ما مر من التسلية والوعد بالهداية والنصر في قوله تعالى وكفى بربك هاديا ونصيرا على ما قدمناه بحكاية ما جرى بين من ذكر من الأنبياء عليهم السلام وبين قومهم حكاية أجمالية كافية فيما هو المقصود واللام واقعة في جواب القسم أي وبالله تعالى لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناها عليه بالآخرة وقيل : المراد بالكتاب الحكم والنبوة ولا يخفى بعده وجعلنا معه الظرف متعلق بجعلنا وقوله تعالى أخاه مفعول أول له وقوله سبحانه هرون بدل من أخاه أو عطف بيان له وقوله عز و جل وزيرا
53
- مفعول ثان له وتقدم معنى الوزير ولا ينافي هذا قوله تعالى ووهبنا له أخاه هرون نبيا لأنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها كما أن الوزير متبع لسلطانه
فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا هم فرعون وقومه والظاهر تعلق بآياتنا بكذبوا والمراد بها دلائل التوحيد المودعة في الأنفس والآفاق أو الآيات التي جاءت بها الرسل الماضية عليهم السلام أو التسع المعلومة والتعبير عن التكذيب بصيغة الماضي على الاحتمالين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل : لتنزيل المستقبل لتحققه منزلة الماضي وتعقب بأنه لايناسب المقام وقال العلامة أبو السعود : لم يوصف القوم لهما عند ارسالهما اليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات التسع عن اظهارها المتأخر عن ذهابهما عن الامر به بل انما وصفوا بذلك عند الكاية لرسول الله صلى الله عليه و سلم بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير وبحث فيه بما فيه تأمل وجوز أن يكون الظرف متعلقا باذهبا فمعنى كذبوا فعلوا التكذيب فدمرناهم تدميرا
63
- عجيبا هائلا لايقادر قدره ولا يدرك كنهه والمراد به أشد الهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لايمكن اصلاحه والفاء فصيحة والاصل فقلنا اذهبا إلى القوم فذهبا اليهم ودعواهم إلى الايمان فكذبوهما واستمروا على ذلك فدمرناهم فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود وقيل : معنى فدمرناهم فحكمنا بتدميرهم فالتعقيب باعتبار الحكم وليس في الاخبار بذلك كثير فائدة وقيل : الفاء لمجرد الترتيب وهو كما ترى
وعطف قلنا على جعلنا المعطوف على آياتنا بالواو التي لا تقتضي ترتيبا على الصحيح فيجوز تقدمه مع ما يعقبه على ايتاء الكتاب فلا يرد أن ايتاء الكتاب وهو التوراة بعد هلاك فرعون وقومه فلا يصح الترتيب والتعرض لذلك في مطلع القصة مع أنه لامدخل له في اهلاك القوم لما أنه بعد للايذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال التي هي انجاء بني اسرائيل من ملكة فرعون وارشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام إذ به يحصل تأكيد الوعد بالهداية على الوجه الذي ذكر سابقا
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومسلمة بن محارب فدمراهم على الأمر لموسى وهرون عليهما السلام وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا كذلك إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة وعنه كرم الله تعالى وجهه فدمرا أمرا لهما بباء الجر وكأن ذلك من قبيل
(19/18)

تجرح في عراقيبها نصلي
وحكي في الكشاف عنه أيضا كرم الله تعالى وجهه فدمرتهم بتاء الضمير وقوم نوح منصوب بمضمر يدل عليه قووله تعالى فدمرناهم أي ودمرنا قوم نوح وجوز الحوفي وأبو حيان كونه معطوفا على مفعول فدمرناهم ورد بأن تدمير
(19/0)

قوم نوح ليس مترتبا على تكذيب فرعون وقومه فلا يصح عطفه عليه
وأجيب بأن ليس من ضرورة ترتب تدميرهم على ما قبله ترتب تدمير هؤلاء عليه لاسيما وقد بين سببه بقوله تعالى لما كذبوا الرسل أي نوحا ومن قبله من الرسل عليهم السلام أو نوحا وحده فان تكذيبه عليه السلام تكذيب للكل لاتفاقهم على التوحيد أو أنكروا جواز بعثة الرسل مطلقا وتعريف الرسل على الأول عهدي ويحتمل أن يكون للاستغراق إذ لم يوجد وقت تكذيبهم غيرهم وعلى الثاني استغراقي لكن على طريق المشابهة والادعاء وعلى الثالث للجنس أو للاستغراق الحقيقي وكأن المجيب أراد أن اعتبار العطف قبل الترتيب فيكون المرتب مجموع المتعاطفين ويكفي فيه ترتب البعض وقيل : المقصود من العطف التسوية والتنظير كأنه قيل : دمرناهم كقوم نوح فتكون الضمائر لهم والرسل نوح وموسى وهرون عليهم السلام ولا يخفى ما فيه واختار جمع كونه منصوبا باذكر محذوفا وقيل : هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى : أغرقناهم ويرجحه على الرفع تقدم الجمل الفعلية ولا يخفى أنه إنما يتسنى ءلك على مذهب الفارسي من كون لما ظرف زمان وأما إذا كانت حرف وجود لوجود فلا لأن أغرقناهم حينئذ يكون جوابا لها فلا يفسر ناصبا ولعل أولى الأوجه الأول و أغرقناهم استئناف مبين لكيفية تدميرهم كأنه قيل : كيف كان تدميرهم فقيل : أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم أي جعلنا اغراقهم أو قصتهم للناس ءاية أي آية عظيمة يعتبر بها من شاهدها أو سمعها وهو مفعول ثان لجعلنا و للناس متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من آية إذ لو تأخر عنها لكان صفة لها وأعتدنا للظالمين عذابا أليما
73
- أي جعلناه معدا لهم في الآخرة أو في البرزخ أو فيهما والمراد بالظالمين القوم المذكورون والاظهار في موقع الاضمار للايذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب أو جميع الظالمين الذين لم يعتبروا بما جرى عليهم من العذاب فيدخل في زمرتهم قريش دخولا أوليا ويحتمل العذاب الدنيوي وغيره
وعادا عطف على قوم نوح أي ودمرنا عادا أو واذكر عادا على ما قيل ولا يصح أن يكون عطفا إذا نصب على الاشتغال لأنهم لم يغرقوا وقال أبو اسحق هو معطوف على هم من جعلناهم للناس آية ويجوز أن يكون معطوفا على محل الظالمين فان الكلام بتأويل وعدنا الظالمين اه ولايخفى بعد الوجهين وثمودا الكلام فيه وفيما بعده كما فيما قبله
وقرأ عبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى وثمود غير مصروف على تأويل القبيلة وروي ذلك عن حمزة وعاصم والجمهور بالصرف ورواه عبد بن حميد عن عاصم على اعتبار الحي أو أنهم سموا بالأب الأكبر وأصحاب الرس عن ابن عباس هم قوم ثمود ويبعده العطف لأنه يقتضي التغاير وقال قتادة : هم أهل قرية من اليمامة يقال لها الرس والفلج قيل قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح وقال كعب ومقاتل والسدي : أهل بئر يقال له الرس بانطاكية الشام قتلوا فيها صاحب يس وهو حبيب النجار
وقيل : هم قوم قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه وقال وهب والكلبي : أصحاب الرس وأصحاب الايكة قومان أرسل اليهما شعيب وكان أصحاب الرس قوما من عبدة الاصنام وأصحاب آبار ومواش فدعاهم
(19/19)

إلى الاسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه عليه السلام فبينما هم حول الرس وهي بئر غير المطوية كما روي عن أبي عبيدة انهارت بهم بدارهم وقال علي كرم الله تعالى وجهه فيما نقله الثعلبي : هم قوم عبدوا شجرة يقال لها : شاة درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل وقيل : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير وكان فيها من كل لون وسميت عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد ولاتيانها بهذا الأمر الغريب سميت مغربا وقيل : لأنها اختطفت عروسا وقيل : : لغروبها أي غيبتها وقيل : لأن وكرها كان عند مغرب الشمس ويقال فيها عنقاء مغرب بالتوصيف والاضافة مع ضم الميم وفتحها فدعا عليها حنظلة فاصابتها الصاعقة فهلكت ثم انهم قتلوا حنظلة فاهلكوا وقيل : هم قوم ارسل اليهم نبي فأكلوه وقيل : قوم نساؤهم سواحق وقيل : قوم بعث اليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر وقيل : هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وفي رواية عن ابن عباس أنه بئر أذربيجان : وقيل : الرس ما بين نجران الى اليمن إلى حضرموت : وقيل : هو ماء ونخل لنبي أسد وقيل : نهر من بلاد المشرق بعث الله تعالى إلى أصحابه نبيا من أولاد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا فشكا إلى الله تعالى منهم فحفروا له بئر وأرسلوه فيه وقالوا : نرجو أن ترضى عنا آلهتنا فكانوا عليه يومهم يسمعون أنين نبيهم فدعا بتعجيل قبص روحه فمات وأظلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن أصحاب الرس أخذوا نبيهم فرسوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى البئر فيعينه الله تعالى على تلك الصخرة فيرفعها فيعطيه ما يغذيه به ثم يرد الصخرة على فم البئر إلى أن ضرب الله تعالى على أذن ذلك الأسود فنام اربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل ذكر فيه أن ذلك الاسود أول من يدخل الجنة وهذا إذا صح كان القوول الذي لايمكن خلافه لكن يشكل عليه ايرادهم هنا وأجاب عنه الطبري بأنه يمكن أنهم كفروا بعد ذلك فاهلكوا فذكرهم الله تعالى مع من ذكر من المهلكين وملخص الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله تعالى بتكذيب من أرسل اليهم وقرونا أي أهل قرون وتقدم الكلام في القرن بين ذلك أي المذكور من الأمم وللتعدد بين من غير عطف كثير
83
- يطول الكلام جدا بذكرها ولا يبعد أن يكون قد علم رسول الله صلى الله عليه و سلم مقدارها وقوله تعالى ومنهم من لم نقصص عليك ليس نصا في نفي العلم بالمقدار كما لايخفى وفي إرشاد العقل السليم لعل الاكتفاء في شؤون تلك القرون بهذا البيان الاجمالي لما أن كل قرن منها لم يكن في الشهرة وغرابة القصة بمثابة الأمم المذكورة
وكلا منصوب بمضمر يدل عليه ما بعده فان ضرب المثل في معنى التذكير والتحذير والمحذوف الذي عوض عنه التنوين عبارة إما عن الامم التي لم تذكر أسباب إهلاكهم وإا عن الكل فان ما حكي عن فرعون وقومه وعن قووم نوح عليه السلام تكذيبهم للآيات والرسل لاعدم التأثر من الأمثال المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كل واحد من المذكورين ضربنا له الأمثال 9 أي بينا لكل القصص العجيبة الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي بواسطة الرسل عليهم السلام وقيل : ضمير له للرسول عليه الصلاة و السلام والمعنى
(19/20)

وكل الامثال ضربناها للرسول فيكون كلا منصوبا بضربنا وألامثال بدلا منه على ما في البحر وفيه أنه أبعد من ذهب إلى ذلك وعندي أنه مما لاينبغي أن يفسر به كلام الله تعالى
وقوله تعالى : وكلا مفعول مقدم لقوله سبحانه : تبرنا تتبيرا
93
- وتقديمه للفاصلة وقيل لافادة القصر على أن المعنى كلا لا بعضا وتعقب بأن لفظ كل يفيد ذلك ويمكن توجيه ذلك بالعناية وأصل التتبير التفتيت قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته تبرته ومنه التبر لفتات الذهب والفضة والمراد به التمزيق والاهلاك أي أهلكنا كل واحد منهم إهلاكا عجيبا هائلا لما أنهم لم يتأثروا بذلك ولم يرفعوا له رأسا وتمادوا على ما هم عليه من الكفر والعدوان ولقد أتوا جملة مستأنفة مسوقة لبيان مشاهدة كفار قريش لآثار هلاك بعض الأمم المتبرة وعدم اتعاظهم بها وتصديرها بالقسم لتقرير مضمونها اعتناء به وأتي مضمن معنى مر لتعديه بعلى والمعنى بالله لقد مر قريش في متاجرهم إلى الشام
على القرية التي أمطرت مطر السوء وهي سذوم وهي أعظم قرى قوم لوط سميت باسم قاضيها سذوم بالذال المعجمة على ما صححه الأزهري واعتمده في الكشف وفي المثل أجور من سذوم أهلكها الله تعالى بالحجارة وهو المراد بمطر السوء وكذا أهلك سائر قراهم وكانت خمسا إلا قرية واحدة وهي زغر لم يهلكها لأن أهلها لم يعملوا العمل الخبيث كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وافراد القرية بالذكر لما أشرنا اليه وانتصب مطر على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أعطيت أو أوليت أو على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي امطار السوء كما قيل في أنبتكم من الأرض نباتا وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لمحذوف أي امطارا مثل مطر السوء وليس بشيء
وقرأ زيد بن علي مطرت ثلاثيا مبنيا للمفعول ومطر مما يتعدى بنفسه وقرأ ابو السمال مطر السوء بضم السين أفلم يكونوا يرونها توبيخ على تركهم التذكر عند مشاهدة ما يوجبه والهمزة لأنكار نفي استمرار رؤيتهم لها وتقرير استمرارها حسب استمرار ما يوجبها من اتيانهم عليها لا لأنكار استمرار نفي رؤيتهم وتقرير رؤيتهم لها والفاء لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون اليها فلم يكونوا يرونها أو كانوا ينظرون اليها فلم يكونوا يرونها في مرار مرورهم ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من ءاثار العذاب
والمنكر في الأول النظر وعدم الرؤية مع وفي أنه أخصر وأظهر قصدا لافادة التكرار مع الاستمرار ولم يصرح في أول الآية بنحو ذلك بأن يقال : ولقد كانوا يأتون بدل ولقد أتوا للاشارة إلى أن المرور ولو مرة كاف في العبرة فتأمل وقوله تعالى : بل كانوا لايرجون نشورا
40
- إما اضراب عما قبله من عدم رؤيتهم لآثار ما جرى على أهل القرى من العقوبة لكون عدم اتعاظهم بسبب انكارهم لكون ذلك عقوبة لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارها خلا أنه اكتفى عن التصريح بانكارهم ذلك بذكر ما يستلزمه من انكار الجزاء الأخروي وقد كني عن ذلك بعدم رجاء النشور والمراد بالرجاء التوقع مجازا كأنه قيل : بل كانوا لايتوقعون النشور المستتبع للجزاء الأخروي وينكرونه ولا يرون لنفس من النفوس نشورا أصلا مع
(19/21)

تحققه حتما وشموله للنس عموما وإطراده وقوعا فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الاطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك وإنما يحملونه على الاتفاق وإا انتقال من التوبيخ بما ذكر من ترك التذكر إلى التوبيخ بما هو أعظم منه من عدم الرجاء النشور وحمل الرجاء على التوقع وعموم النشور أوفق بالمقام وقيل : هو على حقيقته أعني انتظار الخير والمراد بالنشور نشور فيه خير كنشور المسلمين
وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على لغة تهامة والمراد بالنشور نشورهم والكل كما ترى
وإذا رأوك إن يتخذونك أي ما يتخذونك إلا هزوا على معنى ما يفعلون به الا اتخاذك هزوا أي موضع هزو أو مهزوا به فهزوا إا مصدر بمعنى المفعول مبالغة أو هو بتقدير مضاف وجملة إن يتخذونك جواب إذا وهي كما قال أبو حيان وغيره تنفرد بوقوع جوابها المنفي بأن ولا وما بدون فاء بخلاف غيرها من ادوات الشرط وقوله تعالى : أهذا الذي بعث الله رسولا
14
- مقول قول مضمر أي يقول أهذا الخ والجملة في موضع الحال من فاعل يتخذونك أو مستأنفة في جواب ماذا يقولون
وجوز أن يكون الجواب وجملة ان يتخذونك معترضة وقائل ذلك أبو جهل ومن معه وروي أن الآية نزلت فيه والاشارة للاستحقار كما في يا عجبا لابن عمر وهذا وعائد الموصول محذوف أي بعثه و رسولا حال منه وهو بمعنى مرسل وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا حذف منه المضاف أي ذا رسول أي رسالة وهو تكلف مستغنى عنه وإخراج بعث الله تعالى إياه صلى الله عليه و سلم رسولا بجعله صلة وهم على غاية الانكار تهكم واستهزاء وإلا لقالوا : أبعث الله هذا رسولا وقيل : إن ذلك بتقدير أهذا الذي بعث الله رسولا في زعمه وما تقدم أوفق بحال اولئك الكفرة مع سلامته من التقدير إن كاد ان مخففة من ان واسمها عند بعض ضمير الشأن محذوف أي إنه كاد ليضلنا عن ءالهتنا أي ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط والعدول إلى الاضلال لغاية ضلالهم بادعاء أن عبادتها طريق سوي
لولا أن صبرنا عليها ثبتنا عليها واستمكنا بعبادتها و لولا في أمثال هذا الكلام يجري مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه و سلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد واظهار المعجزات وإقامة الحجج والبينات ما شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم ولا ينافي هذا استحقارهم واستهزائهم السابق لأن هذا من وجه وذاك من وجه آخر زعموه سببا لذلك قاتلهم الله تعالى وقيل : إن كلامهم قد تناقض لاضطرابهم وتحيرهم فان الاستفهام السابق دال على الاستحقار وهذا دال على قووة حجته وكما عقله صلى الله عليه و سلم ففيما حكاه سبحانه عنهم تحميق وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه
وقيل عليه : إنه ليس بصريح في اعترافهم بما ذكر بل الظاهر أنه أخرج في معرض التسليم تهكما كما في قولهم بعث الله رسولا وفيه منع ظاهر والتناقض مندفع كما لايخفى
وسوف يعلمون حين يرون العذاب الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم من أضل سبيلا
24
- أي يعلمون جواب هذا على أن من استفهامية و أضل خبرها والجملة في موضع مفعولي يعلمون إن كانت
(19/22)

تعدت الى مفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كانت متعدية الى واحد أو يعلمون الذي هو أضل على أن من موصولة مفعول يعلمون وأضل خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول وحذف صدر الصلة وهو العائد لطولها بالتمييز وكان أولئك الكفرة لما جعلوا دعوته صلى الله عليه و سلم إلى التوحيد إضلالا حيث قالوا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا الخ والمضل لغيره لابد أن يكون ضالا في نفسه جيء بهذه الجملة ردا عليهم ببيان أنه عليه الصلاة و السلام هاد لامضل على أبلغ وجه فانها تدل على نفي الضلال عنه صلى الله عليه و سلم لأن المراد أنهم يعلمون أنهم في غاية الضلال لا هو ونفي اللازم يقتضي نفي ملزومه فيلزمه أن يكون عليه الصلاة و السلام هاديا لامضلا وفي تقييد العلم بوقت رؤية العذاب وعيد لهم وتنبيه على أنه تعالى لايهملهم وإن أمهلهم أرأيت من اتخذ إلهه هواه تعجب لرسول الله صلى الله عليه و سلم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الاقوال والافعال والتنبيه على مالهم من المصير والمآل وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه والظاهر أن رأى بصرية و من مفعولها وهي اسم موصول والجملة بعدها صلة و اتخذ متعدية لمفعولين أولهما هواه وثانيهما إلهه وقدم على الاول للاعتناء به من حيث أنه يدور عليه أمر التعجيب لامن حيث أن الاله يستحق التعظيم والتقديم كما قيل أي أرأيت الذي جعل هواه إلها لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة وملاحظة البرهان النير بالكلية على معنى انظر اليه وتعجب منه وقال ابن المنير في تقديم المفعول الثاني هنا نكتة حسنة وهي افادة الحصر فان الكلام قبل دخول أرأيت واتخذ الأصل فيه هواه إلهه على أن هواه مبتدأ خبره الهه فاذا قيل إلهه هواه كان في تقديم الخبر على المبتدأ وهو يفيد الحصر فيكون معنى الآية حينئذ أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه
وقال صاحب الفرائد : تقديم المفعول الثاني يمكن حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبر فالمقدم هو المبتدأ فمن جعل ما هنا نظير قولك : علمت منطلقا زيدا فقد غفل عن هذا ويمكن أن يقال : المتقدم ههنا يشعر بالثبات بخلاف المتأخر فتقدم الهه يشعر بأنه لابد من إلهه فهو كقولك اتخذ ابنه غلامه فانه يشعر بأن له ابنا ولا يشعر بأن له غلاما فهذا فائدة تقديم إلهه على هواه وتعقب ذلك الطيبي فقال : لايشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم وأن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ لكن صاحب المعاني لايقطع نظره عن أصل المعنى فاذأ قيل : زيد الأسد فالاسد هو المشبه به أصالة ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع فاذا جعلته مبتدأ في قولك : الأسد زيد فقد أرلته عن مقره الأصلي للمبالغة وما نعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه لا القار فيه فالمشبه به ههنا إلا له والمشبه الهوى لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الاله فقدم المشبه به الأصلي وأوقع مشبها ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة عندهم أقوى من الاله عز و جل كقوله تعالى قالوا انما البيع مثل الربا ولمح صاحب المفتاح الى هذا المعنى في كتابه
وأما المثال الذي أورده صاحب الفرائد فمعنى قوله : اتخذ ابنه غلامه جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله وقوله : اتخذ غلامه ابنه جعل غلامه كابنه مكرما مدللا اه وأنت تعلم ما في قوله : إن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ فان الحق ان الأمر دائر مع القرينة والقرينة هنا قائمة على أن الهه الخبر وهي عقلية لأن المعنى على ذلك فلا حاجة إلى جعل ذلك من التقديم المعنوي وقال شيخ الاسلام : من توهم أنهما على الترتيب بناء على
(19/23)

تساويهما في التعريف فقد زل عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو الملتبس بالحالة الحادثة وفي ذلك رد على أبي حيان حيث أوجب كونهما على الترتيب
ونقل عن بعض المدنيين أنه قرأ ءالهة منونة على الجمع وجعل على التقديم والتأخير والمعنى جعل كل جنس من هواه الها وذكر أيضا أن ابن هرمز قرأ الهة على وزن فعالة وهو أيضا من التقديم والتأخير أي جعل هواه إلهه بمعنى ماولهة أي معبودة والهاء للمبالغة فلذلك صرفت وقيل : بل الالاهة الشمس ويقال ألاهة بضم الهمرة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام التعريف في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نرعت فلذلك صرفت وصارت كالمنكر بعد التعريف قاله صاحب اللوامح وهو كما ترى والآية نزلت على ما قيل في الحرث بن قيس السهمي كان كلما هوى حجرا عبده وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : كان الرجل يعبد الحجر الأبيض رمانا من الدهر في الجاهلية فاذا وجد أحسن منه رمى به وعبد الآخر فأنزل الله تعالى أرأيت الخ وزعم بعضهم لهذا ونحوه أن هواه بمعنى مهويه وليس بلازم كما لايخفى
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية كلما هوى شيئا ركبه وكلما اشتهى شيئا أتاه لايحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فالآية شاملة لمن عبد غير الله تعالى حسب هواه ولمن أطاع الهوى في سائر المعاصي وهو الذي يقتضيه كلام الحسن فقد أخرج عنه عبد بن حميد أنه قيل له : أفي أهل القبلة شرك فقال : نعم المنافق مشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله تعالى وإن المنافق عبد هواه ثم تلا هذ الآية والمنافق عند الحسن مرتكب المعاصي كما ذكره غير واحد من الأجلة
وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله تعالى أعظم من الله عز و جل من هوى يتبع ولا يكاد يسلم على هذا من عموم الآية إلا من اتبع ما اختاره الله تعالى لعباده وشرعه سبحانه لهم في كل ما يأتي ويذر وعليه يدخل الكافر فيما ذكر دخولا أوليا أفأنت تكون عليه وكيلا
34
- استئناف مسوق لاستبعاد كونه صلى الله عليه و سلم حفيظا على هذا المتخذ يزجره عما هو عليه من الضلال ويرشده إلى الحق طوعا أو كرها وإنكاره له والفاء لترتيب الانكار على ما قبله من الحالة الموجبة له كأنما قيل : ابعد ما شاهدت غلوه فى طاعة الهوى تعسره على الانقياد إلى الهدى شاء أو أبى وجوز أن تكون رأي علمية وهذ الجملة في موضع المفعول الثاني وليس بذاك
وقوله تعالى : أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إضراب وانتقال عن الأنكار المذكور في إنكار حسبانه صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم ممن يسمع أو يعقل حسبما ينبيء عنه جده عليه الصلاة و السلام في الدعوة واهتمامه بالارشاد والتذكيرعلى معنى أنه لاينبغي أن يقع أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من اةيات القرآنية أو يعقلون ما أظهر لهم من الآيات الآفاقية والأنفسية فتعتني في شأنهم وتطمع في ايمانهم ولما كان الدليل السمعي أهم نظرا للمقام من الدليل العقلي قبل : يسمعون أو يعقلون وقيل : المعنى بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات أو يعقلون ما تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن فتجتهد في دعوتهم وتهتم
(19/24)

بارشادهم وتذكيرهم ولعل ما قلناه أولى فتدبر
وأيا ما كان فضمير أكثرهم لمن باعتبار معناه وضمير عليه له أيضا باعتبار لفظه واختير الجمع هنا لمناسبة إضافة الأكثر لهم وأفرد فيما قبله لجعلهم في اتفاقهم على الهوى كشيء واحد وقيل : ضمير أكثرهم للكفار لا لمن لأن قوله تعالى عليه ياباه وليس بشيء وضمير الفعلين للأكثر لا لما أضيف اليه وتخصيص الأكثر لأن منهم من سبقت له العناية الأزلية بالايمان بعد الاتخاذ المذكور ومنهم من سمع أو عقل لكنه كابر استكبارا و خوفا على الرياسة وقوله تعالى إن هم إلا كالانعام الخ جملة مستأنفة لتكرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة والضمير للأكثر أو لمن واكتفى عن ذكر الأكثر بما قبله أي ماهم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وانتفاء التدبر بما يشاهدونه من الدلائل البينات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة بل هم أضل منها سبيلا
44
- لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها وتعرف من يحسن اليها ومن يسيء اليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوي إلى معاطنها ومرابضها وهؤلاء لاينقادون لربهم سبحانه وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانه تعالى اليهم من إساءة الشيطان المزين لهم اتباع الشهوات الذي هو عدو مبين ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والمورد العذب الروي ولأنها إن لم تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلا مستوجبا لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لاتتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنة والفساد وصد الناس عن سنن السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة فيها بل صارفة لها إلى ما خلقت له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها واستدل بالآية على أن البهائم لا تعلم ربها عز و جل ومن ذهب إلى أنها تعلمه سبحانه وتسبحه كما هو مذهب الصوفية وجماعة من الناس قال : إن هذا خارج مخرج الظاهر وقيل : المراد إن هم إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بالآيات القرآنية والدلائل الانفسية والآفاقية فان الأنعام كذلك والعلم بالله تعالى الحاصل لها ليس استدلاليا بل هو فطري وكونهم أضل سبيلا من الأنعام من حيث أنها رزقت علما بربها تعالى فهي تسبيحه عز و جل به وهؤلاء لم يرزقوا ذلك فهم في غاية الضلال
وقوله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل الخ بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والهمزة للتقرير والرؤية بصرية لأنها التي تتعدى بالى وفي الكلام مضاف مقدر حذف وأقيم المضاف اليه مقامه أي ألم تنظر الى ما صنع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله عز و جل وكون إلى اسما واحدا الآلاء وهي النعم بعيد جدا وجوز أن تكون علمية وليس هناك مضاف مقدر وتعديتها بالى لتضمين معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك الى أن ربك كيف مد الظل والأول أولى
وذكر بعض الأجلة أنه يحتمل أن يكون حق التعبير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل
(19/25)

إشعارا بأن المعقول المفهوم من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه وقال الفاضل الطيبي لو قيل ألم تر الى الظل كيف مده ربك كان الانتقال من الأثر الى المؤثر والذي عليه التلاوة كان عكسه والمقام يقتضيه لأن الكلام في تقريع القوم وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلها مع وضوح هذ الدلائل ولذلك جعل ما يدل على ذاته تعالى مقدما على أفعاله في سائر آياته وهو الذي جعل لكم الليل وهو الذي أرسل الرياح ولو شئنا لبعثنا وروى السلمي في الحقائق عن بعضهم مخاطبة العام أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت ومخاطبة الخاص ألم تر الى ربك انتهى وفي الأرشاد لعل توجيه الرؤية اليه سبحانه مع أن المراد تقرير رؤيته عليه الصلاة و السلام لكيفية مد الظل للتنبيه على أن نظره عليه الصلاة و السلام غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع بل مطمح أنظاره صلى الله عليه و سلم معرفة شؤن الصانع المجيد جل جلاله ولعل هذا هو سر ما روي عن السلمي وقيل : إن التعبير المذكور للاشعار بأن المقصود العلم بالرب علما يشبه الرؤية ونقل الطبرسي عن الزجاج أنه فسر الرؤية بالعلم وذكر أن الكلام من باب القلب والتقدير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك ولا حاجة الى ذلك والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة الى ضميره عليه الصلاة و السلام لتشريفه صلى الله عليه و سلم وللايذان بأن ما يعقبه من آثار ربوبيته تعالى ورحمته جل وعلا وكيف منصوب بمد على الحالية وهي معلقة لتر إن لم تكن الجملة مستأنفة وفي البحر أن الجملة الاستفهامية التي يتعلق عنها فعل القلب ليس باقية على حقيقة الاستفهام وفيه بحث وذكر بعض الأفاضل أن كيف للاستفهام وقد تجرد عن الاستفهام وتكون بمعنى الحال نحو أنظر الى كيف تصنع وقد جوزه الدماميني في هذ الآية على أنه بدل اشتمال من المجرور وهو بعيد انتهى ولا يخفى أنه يستغنى على ذلك عن اعتبار المضاف لكنه لايعادل البعد والمراد بالظل على مارواه جماعة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وأيوب بن موسى وابراهيم التيمي والضحاك وأبي مالك الغفاري وأبي العالية وسعيد بن جبير ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وذلك أطيب الأوقات فان الظلمة الخالصة تنفر عنها الطباع تسد النظر وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر ومن هنا كان ظل الجنة مدودا كما قال سبحانه وظل ممدود
وقيل : المراد به مايكون من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس عند ابتداء طلوعها ومد الظل من باب ضيق فم القربة فالمعنى ألم تنظر الى صنع ربك كيف أنشا ظلا أي مظلا كان عند ابتداء طلوع الشمس ممتدا الى ماشاء الله عز و جل واختاره شيخ الاسلام وتعقب ما تقدم بقوله : غير سديد اذ لاريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة الله عز و جل وبالغ حكمته سبحانه فيما يشاهدونه فلابد أن يراد بالظل مايتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس وما ذكر وان كان في الحقيقة ظلا للافق الشرقي لكنهم لايعدونه ظلا ولا يصفونه بأوصافه المعهودة اه وفيه منع ظاهر وهو أظهر على ماذكره أبو حيان في الاعتراض على ذلك من أنه لايسمى ظلا فقد قال الراغب وكفى به حجة في اللغة الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فانه يقال : ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل اليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس انتهى وظاهر قوله تعالى وظل ممدود في وصف الجنة يقتضي أنهم يعدون مثل ما ذكر ظلا وقيل : هو ما كان من غروب
(19/26)

الشمس الى طلوعها وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي وقيل : هو ما كان يوم خلق الله تعالى السماء وجعلها كالقبة ودحا الأرض من تحتها فالقت ظلها عليها وليس بشيء وإن فسر ألم تر بألم تعلم لما في تطبيق ما يأتي من تتمة الآية عليه من التكلف وارتكاب خلاف الظاهر وربما يفوت عليه المقصود الذي سيق له النظم الكريم وربما يختلج في بعض الاذهان جواز أن يراد به ما يشمل جميع ما يصدق عليه أنه ظل فيشمل ظل الليل وما بين الفجر وطلوع الشمس وظل الأشياء الكثيفة المقابلة للمشس كالجبال وغيرها فاذأ شرع في تطبيق الآية على ذلك عدل عنه كما لا يخفى وللصوفية في ذلك كلام طويل سنذكر إن شاء الله تعالى شيئا منه وجمهور المفسرين على الأول والقول الثاني أسلم من القال والقيل
وقوله تعالى ولو شاء لجعله ساكنا جملة اعتراضية بين المتعاطفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لامدخل للاسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على الأول أو قيام الشاخص الكثيف على الثاني وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة ومفعول المشيئة محذوف وهو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة في أمثال هذا التركيب أي ولو شاء جعله ساكنا لجعله ساكنا أي ثابتا على حاله ظلا أبدا كما فعل عز و جل في ظل الجنة أو لجعله ثابتا على حاله من الطول والامتداد وذلك بأن لايجعل سبحانه للشمس على سخه سبيلا بأن يطلعها ولا يدعها تنسخه أو بأن لايدعها تنسخه أو بأن لايدعها تغيره باختلاف اوضاعها بعد طلوعها وقيل : بأن يجعلها بعد الطلوع مقيمة على وضع واحد وليس بذاك وإنما عبر عن ذلك بالسكون قيل : لما أن مقابلة الذي هو زواله لما كان تدريجيا كان أشبه شيء بالحركة وقيل : لما أن مقابلة الذي هو تغير حاله حسب تغير الأوضاع بين الظل وبين الشمس يرى رأي العين حركة وانتقالا
وأفاد الزمخشري أنه قوبل مد الظل الذي هو انبساطه وامتداده بقوله تعالى ساكنا والسكون إنما يقابل الحركة فيكون قد أطلق مد الظل على الحركة مجازا من باب تسمية الشيء باسم ملابسة أو سببه كما قرره الطيبي وذكر أنه عدل عن حرك إلى مد مع أنه اظهر من مد في تناوله الانبساط والامتداد دون الانبلاج وتمم معنى الادماج بقوله تعالى ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا أي بالتدرج والمهل لمعرفة الساعات والأوقات وفيه لمحة من معنى قوله تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس اه ولا يبعد أن يقال : إن التعبير بمد لما أن الظل المذكور ظل الافق الشرقي وقد اعتبر المشرق والمغرب طرفي جهتي الأرض طولا والشمال والجنوب طرفي جهتيها عرضا أو لأن طهوره في الأرض وطول المعمور منها الذي يسكنه من يشاهد الظل أكثر من عرض المعمور منها إذ الأول كما هو المشهور نصف دور أعني مائة وثمانين درجة والثاني دون ذلك على جميع الاقوال فيه فيكون الظل بالنظر إلى الرائين في المعمور من الأرض ممتدا ما بين جهتي شرقيةوغربية أكثر مما بين جهتي شمالية وجنوبية وربما يقال : إن ذلك لما أن مبدأ الظل الفجر الأول وضوؤه يرى مستطيلا ممتدا كذنب السرحان ويلتزم القول بأنه لايذهب بالكلية وإن ضعف بل يبقى حتى يمده ضوء الفجر الثاني فيرى منبسطا والله تعالى أعلم وقوله سبحانه ثم جعلنا الشمس عليه دليلا
54
- عطف على مد داخل في حكمه أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهوره للحس فان الناظر إلى الجسم الملون حال قيام
(19/27)

الظل عليه لايظهر له شيء سوى الجسم ولونه ثم إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ظهر له أن الظل كيفية زائدة على الجسم ولونه
والضد يظهر حالة الظد
قاله الرازي والطبري وغيرهما وقيل أي ثم جعلناها دليلا على وجود ه أي علة له لأن وجوده بحركة الشمس إلى الافق وقربها منه عادة ولا يخفى ما فيه أو ثم جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعا حسبما نطق به الشرطية المعترضة ومن الغريب الذي لاينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد أن على بمعنى مع أي ثم جعلنا الشمس مع الظل دليلا على وحدانيتنا على معنى جعلنا الظل دليلا وجعلنا الشمس دليلا على وحدانيتنا
والالتفات الى نون العظمة للايذان بعظم قدر هذا الجعل لما يستتبعه من المصالح التي لا تحصى أو لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الظل والشمس من الدوران المطرد المنبيء عن السببية من مريد الدلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة وثم إما للتراخي الرتبي ويعلم وجهه مما ذكر وإا للتراخي الزماني كما هو حقيقة معناها بناء على طول الزمان بين ابتداء الفجر وطلوع الشمس وقوله سبحانه ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا
64
- عطف على مد داخل في حكمه أيضا أي ثم أزلناه بعدما أنشأناه ممتدا عند إيقاع شعاع الشمس وموقعه أو بايقاعه كذلك ومحوناه على مهل قليلا حسب سير الشمس وهذا ظاهر على القول بأن المراد بالظل ظل الشاخص من جبل ونحوه وأما على القول بان المراد به ما بين الطلوعين فلأنه إذا عم لايزول دفعة واحدة بطلوع الشمس في أفق لكروية الأرض واختلاف الآفاق فقد تطلع في افق ويزول ما عند أهله من الظل وهي غير طالعة في افق آخر وأهله في طرف من ذلك الظل ومتى ارتفعت عن الافق الأول حتى بانت من افقهم زال ما عندهم من الطل فزوال الظل بعد عمومه تدريجي كذا قيل
وقيل لاحاجة إلى ذلك فان زواله تدريجي نظرا إلى أفق واحد أيضا بناء على أنه يبقى منه بعد طلوع الشمس مالم يقع على موقعه شعاعها المانع جبل ونحوه ويزول ذلك تدريجيا حسب حركة الشمس ووقوع شعاعها على مالم يقع عليه ابتداء طلوعها وكأن التعبير عن تلك الازالة بالقبض وهو كما قال الطبرسي : جمع الأجزاء المنبسطة لما أنه قد عبر عن الاحداث بالمد
وقوله سبحانه الينا للتنصيص على كون مرجع الظل اليه عز و جل لايشاركه حقيقة أحد في إزالته كما أن حدوثه منه سبحانه لايشاركه حقيقة فيه أحد وثم يحتمل أن تكون للتراخي الزماني وأن تكون للتراخي الرتبي نحو ما مر ومنه فسر الظل بما كان يوم خلق الله تعالى السماء كالقبة ودحا الأرض من تحتها فالقت ظلها عليها جعل معنى ثم جعلنا الخ ثم خلقنا الشمس وجعلناها مسلطة على ذلك الظل وجعلناها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد وينقص ويمتد ويقلص ثم قبضناه قبضا سهلا لا عسر فيه
ويحتمل أن يكون قبضه عند قيام الساعة بقرينة الينا وكذا يسيرا وذلك بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر اعدامه باعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بانشاء أسبابه والتعبير بالماضي لتحققه ولمناسبة ما ذكر معه وثم للتراخي الزماني وفيه ما فيه كما أشرنا اليه وهو الذي جعل لكم الليل لباسا بيان لبعض بدائع آثار قدرته عز و جل وروائع أحكام رحمته ونعمته الفائضة على الخلق وتلوين الخطاب
(19/28)

لتوفية مقام الامتنان حقه واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للاعتناء ببيان كون ما بعد من منافعهم وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك مالا مزيد عليه أي وهو الذي جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس و جعل النوم الذي يقع فيه غالبا بسبب استيلاء الأبخرة على القوى عادة وقيل : بشم نسيم يهب من تحت العرش ولا يكاد يصح
سباتا راحة للابدان بقطع الأفاعيل التي تكون حال اليقظة وأصل السبت القطع وقيل : يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه على ما قيل وقيل : لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة : مسبوت وإلى هذا ذهب أبو مسلم
وقال أبو حيان : السبات ضرب من الأغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به والسبت الاقامة في المكان فكان النوم سكونا ما وجعل النهار نشورا
74
- أي ذا نشور ينتشر فيه الناس لطلب المعاش فهو كقوله تعالى : وجعلنا النهار معاشا وفي جعله نفس النشور مبالغة وقيل : نشورا بمعنى ناشرا على الاسناد المجازي وجوز أن يراد بالسبات الموت لما فيه من قطع الاحساس أو الحياة وعبر عن النوم به لما بينهما من المشابة التامة في انقطاع أحكام الحياة وعليه قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل وقوله سبحانه : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها وبالنشور البعث أي وجعل النهار زمان بعث من ذلك الثبات أو نفس البعث على سبيل المبالغة وأبى الزمخشري الراحة في تفسير السبات وقال : انه يأباه النشور في مقابلته اباء للعيوف الورد وهو مرنق وكأن ذلك لأن النشور في القرآن لايكاد يوجد بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش وعلل في الكشف اباء الزمخشري بذلك وبأن الآيات السابقة واللاحقة مع ما فيها من التذكير بالنعمة والقدرة أدمج فيها الدلالة على الاعادة فكذلك ينبغي أن لا يفرق بين هذا وبين أترابها
وكأنه جعل جعل الليل لباسا والنوم فيه سباتا بمجموعه مقابل جعل النهار نشورا ولهذا كرر جعل فيه لما في النشور من معنى الظهور والحركة الناصبة أو معنى الظهور والبعث ولم يسلك في ءاية سورة النبأ هذا المسلك لما لا يخفى وهو الذي أرسل الرياح وقرأ ابن كثير بالتوحيد على ارادة الجنس بأل أو الاستغراق فهو في معنى الجمع موافقة لقراءة الجمهور وقال ابن عطية : قراءة الجمع أوجه لأن الريح متى وردت في القرآن مفردة فهي للعذاب ومتى كانت للمطر والرحمة جاءت مجموعة لأن ريح المطر تتشعب وتتذأب وتتفرق وتأتي لينة من ههنا وههنا وشيئا إثر شيء وريح العذاب تأتي جسدا واحدا لاتتذأب الا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه
وقال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والدبور وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور وفي قوله صلى الله عليه و سلم إذا هبت الريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا اشارة إلى ما ذكر وأنت تعلم أن في كلام ابن عطية غفولا عن التأويل الذي تتوافق به القرءتان وقد ذكر في البحر أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلا منها متواتر وأل في الريح للجنس فتعم وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثر أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث وسيأتي ان شاء الله تعالى في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث
(19/29)

0 بشرا تخفيف بشرا بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي أرسل الرياح مبشرات وقريء نشرا بالنون والتخفيف جمع نشور كرسول ورسل و نشرا بضم النون والشين وهو جمع لذلك أيضا أي أرسلها ناشرات للسحاب من النشر بمعنى البعث لأنها تجمعه كأنها تحييه لامن النشر بمعنى التفريق لأنه غير مناسب إلا أن يراد به السوق مجازا و نشرا بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به مبالغة أن يكون مفعولا مطلقا لأرسل لأنه بمعنى نشر والكل متواتر
وروي عن ابن السميقع أنه قرأ بشرى بألف التأنيث بين يدي رحمته أي قدام المطر وقد استعيرت الرحمة له ورشحت الاستعارة أحسن ترشيح وجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية و بشرا من تتمة الاستعارة داخل في جملتها والالتفات الى نون العظمة في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء لابراز كمال العناية بالانزال لأنه نتيجة ما ذكر من ارسال الرياح أي أنزلناه بعظمتنا بما رتبنا من ارسال الرياح من جهة العلو التي ليست مظنة الماء أو من السحاب أو من الجرم المعلوم وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ماء طهورا
84
- الظاهر أنه نعت لماء وعليه قيل معناه بليغ الطهارة زائدها ووجه في البحر المبالغة بأنها راجعة إلى الكيفية باعتبار أنه لم يشبه شيء آخر مما في مقره أو ممره أو ما يطرح فيه كمياه الارض وفسره ثعلب بما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره وتعقبه الزمخشري بأنه إن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء وقال غيره : إن أخذ التطهير فيه يأباه لزوم الطهارة والمبالغة في اللازم لاتوجب التعدي
وأجاب صاحب الكشف بأنه لما لم تكن الطهارة في نفسها قابلة للزيادة رجعت المبالغة فيها إلى انضمام معنى التطهير اليها لا أن اللازم صار متعديا وتعقبه المولى الدواني بأن فيه تأملا من حيث أن انضمام معنى التطهير لما كان مستفادا من المبالغة بمعنونة عدم قبول الزيادة كانت المبالغة في الجملة سببا للتعدي ثم قال : ويمكن التفصي بأن المعنى اللازم باق بحاله والمبالغة أوجبت انضمام المتعدي اليه لاتعدية ذلك اللازم وبينهما فرقان وذكر بعض الأجلة أن افادة المبالغة تعلق الفعل بالغير مما لا يساعده لغة ولا عرف وأين هذا التعلق في قول جرير : إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور ومثله قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا ومن هذا وأمثاله اختار بعضهم كون المبالغة راجعة إلى الكيفية على ما سمعت عن البحر وقال بعض المحققين : إن طهورا هنا اسم لما يتطهر به كما في قوله صلى الله عليه و سلم : التراب طهور المؤمن وفعول كما قال الأزهري في كتاب الزاهر يكون اسم آلة لما يفعل به الشيء كغسول ووضوء وفطور وسحور إلى غير ذلك كما يكون صفة بمعنى فاعل كاكول أو مفعول كصبوب بمعنى مصبوب واسم جنس كذنوب ومصدرا وهو نادر كقبول فيفيد التطهير للغير وضعا ويمكن حمل ماروي عن ثعلب على هذا واعتبار كونه طاهرا في نفسه لأن كونه مطهرا للغير فرع ذلك وجعل على هذا بدلا من ماء أو عطف بيان له لا نعتا فيكون التركيب نحو أرسلت اليك ماء وضوءا
وأنت تعلم أن المتبادر فيما نحن فيه كونه نعتا فان أمكن ذلك على هدا الوجه بنوع تأويل كان أبعد عن
(19/30)

القيل والقال وحكى سيبويه أن طهورا جاء مصدر التطهر في قولهم : تطهرت طهورا حسنا وذكر أن منه قوله عليه الصلاة و السلام : لاصلاة إلا بطهور وحمل ما في الآية على ذلك مما لاينبغي وأياما كان ففي توصيف الماء به اعظام المنة كما لا يخفى لنحيي به أي بما أنزلنا من الماء الطهور بلدة ميتا ليس فيها نبات وذلك بانبات النبات به والمراد بالبلدة الأرض كما في قوله : أنيخت فالقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها وجوز أن يراد بها معناها المعروف وتنكيرها للتنويع وتذكير صفتها لأنها بمعنى البلد أو لأن ميتا من أمثلة المبالغة التي لاتشبه المضارع في الحركات والسكنات وهو يدل على الثبوت فاجري مجرى الجوامد ولام لنحيي متعلق بانزلنا وتعلقه بطهورا ليس بشيء وقرأ عيسى وأبو جعفر ميتا بالتشديد قال أبو حيان : بما أشبهه بخلاف المشدد فانه يماثل فاعلا من حيث قبوله للتاء إلا فيما خص المؤمنث نحو طامث
ونسقيه أي ذلك الماء الطهور وعند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمناقع والآبار مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا
94
- أو أهل البوادي الذين يعيشون بالحياء ولذلك نكر الأنعام والأناسي فالتنكير للتنويع
وتخصيص هذا النوع بالذكر لأن أهل القرى والامصار يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فبهم وبما لهم من الانعام غنية عن سقي السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلايعوزها الشرب غالبا ومساق الآيات الكريمة كما هو للدلالة على عظم القدرة كذلك هو لتعداد أنواع النعمة فالانعام حيث كانت قنية للانسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها أحياء الأرض فانه سبب لحياتها وتعيشها فالتقديم من قبيل تقديم الاسباب على المسببات وجوز أن يكون تقديم ما ذكر على سقي الاناسي لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقي ارضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم وحاصله أنه من باب تقديم ما هو الأهم والاصل في باب الامتنان وذكر سقي الاناسي على هذا إرداف وتتميم للاستيعاب ومن تبعيضية أو بيانية و كثير صفة للمتعاطفين لا على البدل
وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وابو عمرو في رواية عنهما ونسقيه بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأسقي وسقى لغتان وقيل : أسقاه بمعنى جعل السقيا له وهياها و أناسي جمع انسان عند سيبويه وأصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها
وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أنه جمع أنسى قال في البحر : والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة وفي الدر المصون أن فعالى إنما يكون جمعا لما فيه ياء مشددة إذا لم يكن للنسب ككرسي وكراسي وما فيه ياء النسب يجمع على أفاعلة كأزرقي وأزارقة وكون ياء انسي ليست للنسب بعيد فحقه أن يجمع على أناسية وقال في التسهيل : أنه أكثري وعليه لايرد ماذكر ولقد صرفناه الضمير للماء المنزل من السماء كالضميرين السابقين وتصريفه تحويل أحوله وأوقاتنه وإنزاله على أنحاء مختلفة أي وبالله تعالى لقد صرفنا المطر بينهم أي بين الناس
(19/31)

في البلدان المختلفة والاوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرها ليذكروا أي ليعتبروا بذلك فابى أكثر الناس إلا كفورا
5
- أي لم يفعل إلا كفران النعمة وإنكارها رأسا باضافتها لغيره عز و جل بأن يقول : مطرنا بنوء كذا معتقدا أن النجوم فاعلة لذلك ومؤثرة بذواتها فيه وهذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى كفر وفي الكشاف وغيره أن من أعتقد أن الله عز و جل خالق الامطار وقد نصب الأنواء دلائل وامارات عليها وأراد بقوله مطرنا بنوء كذا مطرنا في وقت سقوط النجم الفلاني في المغرب مع الفجر لايكفر وظاهره أنه لايأثم أيضا وقال الأمام : من جعل الافلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلاشك في كفره وأما من قال : إنه سبحانه جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لايبلغ خطؤه إلى حد الكفر
وسيأتي إنشاء الله تعالى منا في هذه المسئلة كلام أرجو من الله تعالى أن تستحسنه ذوو الأفهام ويتقوى به كلام الامام ورجوع ضمير أنزلناه إلى الماء المنزل مروي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة
وأخرج جماعة عن الأول وصححه الحاكم أنه قال : ما من عام بأقل مطرا من عام ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية واخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن الثاني مثله ويفهم من ذلك حمل التصريف على التقسيم وقال بعضهم : هو راجع إلى القول المفهوم من السياق وهو ماذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال القطر لما ذكر من الغايات الجليلة وتصريفه تكريره وذكره على وجوه ولغات مختلفة والمعنى ولقد كررنا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة في القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس من المتقدمين والمتأخرين ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز و جل في ذلك فأبى أكثرهم ممن سلف وخلف إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث بها أو إنكارها رأسا باضافتها لغيره تعالى شأنه واختار هذا القول الزمخشري وقال أبو السعود : هو الأظهر وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني أنه عائد على القرآن ألا ترى قوله تعالى بند : وجاهدهم به وحكاه في البحر عن ابن عباس أيضا والمشهور عنه ما تقدم ولعل ما ذكر فيه من الأدلة على كما قدرته تعالى وواسع رحمته عز و جل أو نحو ذلك فتأمل وأما ما قيل إنه عائد على الريح فليس بشيء
ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا
15
- نبيا ينذر أهلها فتخف عليك اعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك وقصرنا الأمر عليك اجلالا وتعظيما فلا تطع الكافرين فيما يريدونك عليه وهو تهييج له صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين
وجاهدهم به أي بالقرآن كما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك بتلاوة ما فيه من البراهين والقوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة جهادا كبيرا
25
- فان دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهادا كبيرا لايقادر قدره كما وكيفا وترتيب ما ذكر على ما قبله حسبما تقتضيه الفاء باعتبار أن قصر الرسالة عليه عليه الصلاة و السلام نعمة جليلة ينبغي شكرها وما ذكر نوع من الشكر فكأنه قيل : بعثناك نذيرا لجميع القرى وفضلناك وعظمناك ولم نبعث في كل قرية نذيرا فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة واظهار الحق وفي الكشف لبيان النظم الكريم أنه لما ذكر ما يدل على حرصه صلى الله عليه و سلم على طلب هداهم وتمارضهم في ذلك في قوله سبحانه : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت
(19/32)

تكون عليه وكيلا وذنب بدلائل القدرة والنعمة والرحمة دلالة على أنهم لاينفع فيهم الاحتشاد وانهم يغمطون مثل هذه النعم ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه وجعلوا كالانعام وأضل وختم بانه ليس لهم مراد إلا كفورا نعمته تعالى قيل : ولو شئنا على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل باعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه فعليك بالمجاهدة والمصابرة ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالاباء والمشاجرة وبولغ فيه فجعل حرصه صلى الله عليه و سلم على ايمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم وقيل : فلا تطعهم ومدار السورة على ما ذكره الطيبي على كونه صلى الله تعالى عليه وسلم مبعوثا على الناس كافة لينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى أفرأيت إلى آخر الآيات وفيها من التنويه بشأنه عليه الصلاة و السلام ما فيها وليست مسوقة للتأديب كما وهم وقيل : هي متعلقة بما عند على معنى ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم كما قسمنا المطر بينهم ولكنا نفعل ما هو الأنفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك اليهم كافة فلا تطع الخ وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه
هذا وجوز أن يكون ضمير به عائدا على ترك طاعتهم المفهوم من النهي ولعل الباء حينئذ للملابسة والمعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا ترك طاعتهم كأنه قيل : وجاهدهم بالشدة والعنف لابالملائمة والمداراة كما في قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم والاورد عليه أن مجرد ترك الطاعة يتحقق بلا دعوة أصلا وليس فيه شائبة الجهاد فضلا عن الجهاد الكبير وجوز أيضا أن يكون لما دل عليه قوله عز و جل ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا من كونه صلى الله تعالى عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له عليه الصلاة و السلام : وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة فانه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للسيف
وأنت تعلم أن السورة مكية ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف ومع هذا لايخفى ما فيه ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لاعداء الدين بما يوردون عليهم من الادلة وأوفرهم حظا المجاهدون بالقرآن منهم وهو الذي مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويقال في هذا أمرج أيضا على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد
وأصل المرج كما قال الراغب : الخلط ويقال : مرج أمرهم أي اختلط وسمي المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة وقوله تعالى هذا عذب فرات الخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها وقيل : هو البارد كما في مجمع البيان إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وقيل : هي حال من
(19/33)

غير تقدير قول على معنى مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك واسم الاشارة يغني غناء الضمير والأجاج شديد الملوحة كما أشرنا اليه أطلق عليه لأن شربه يزيد أجيج العطش وقال الراغب : هو شديد الملوحة والحرارة من أجيج النار انتهى وقيل : هو المر وحكاه الطبرسي عن قتادة : وقيل : الحار فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد
وقرأ طلحة بن مصرف وقتيبة عن الكسائي ملح بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في فاطر قال أبو حاتم : وهذا منكر في القراءة وقال أبو الفتح : أراد مالحا فخفف بحذف الالف كما قيل برد في بارد في قوله : أصبح قلبي صردا
لايشتهي أن يراد
إلا عرادا عردا
وصليانا بردا
وعكنا ملتبدا وقيل مخفف مليح لأنه ورد بمعنى مالح وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : هي لغة شاذة قليلة فليس مخففا من شيء نعم هو كملح في قراءة الجمهور ببمعنى مالح والافصح أن يقال في وصف الماء : ماء ملح دون ماء مالح وإن كان صحيحا كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب وقال الخفاجي : الصحيح أنه مسموع من العرب كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لاثباته شواهد كثيرة وعليه فمن خطأ الامام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه بقوله : ماء مالح فقد أخطأ جاهلا بقدر هذا الامام وجعل بينهما برزخا أي حاجزا وهو لفظ عربي وقيل : أصله برزه فعرب والمراد بهذا الحاجز كما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه فلا اشكال في التثنية وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الاشكال وبين البحر الكبير والمراد حيلولتها في مجاريها وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الانهار العظام ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته عز و جل كونه على خلاف مقتضى الطبيعة فان مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعا غامرا للارض محيطا بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الاجزاء أيضا لاغور فيها ولا نجد مغمورة بالماء واقعة في جوفه كمركز الدائرة كما قرر ذلك الفلاسفة وذكروا في سبب انكشاف ما أنكشف من الأرض ووقوع الاغوار والانجاد فيها ما لا يخلوا عن قيل وقال و بينهما ظرف لجعل ويجوز أن يكون حالا من برزخا والظاهر أن تنوين برزخا للتعظيم أي وجعل بينهما برزخا عظيما حيث إنه على كثرة مرور الدهور لايتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى اةخر فيغير طعمه وحجرا محجورا
35
- أي وتنافرا مفرطا كأن كلا منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة والمراد لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة فلا ينقلب البحر العذب ملحا في مكانه ولا البحر الملح عذبا في مكانه وذلك من كمال قدرته تعالى وبالغ حكمته عز و جل فان العذوبة والملوحة ليستا بسبب طبيعة الأرض ولا بسبب طبيعة الماء وإلا لكان الكل عذبا أو الكل ملحا وذكر في حكمة جعل البحر الكبير ملحا أن لاينتن بطول المكث وتقادم الدهور قيل : وهو السر في جعل دمع العين ملحا وفيه حكم أخرى الله تعالى أعلم بها
والظأهر إن حجرا عطف على برزخا أي وجعل بينهما هذ الكلمة والمرا بذلك ما سمعت آنفا وهو من أبلغ الكلام وأعذبه وقيل : هو منصوب بقول مقدر أي ويقولان حجرا محجور وعن الحسن أن
(19/34)

المرادالمراد من الحجر ما حجر بينهما من الأرض وتقدم تفسيره البرزخ بنحو ذلك وكان الجمع بينهما حينئذ لزيادة المبالغة في أمر الحاجز وما قدمنا أولى وأبعد مغزى وقيل : المراد بالبرزخ حاجز من قدرته عز و جل غير مرئي وبقوله سبحانه حجرا محجورا التميز التام وعدم الاختلاط وأصله كلام بقوله المستعيذ لما يخافه كما تقدم تفصيله وحاصل معنى الآية أنه تعالى هو الذي جعل البحرين مختلطين في مرأى العين ومنفصلين في التحقيق بقدرته عز و جل أكمل انفصال بحيث لايختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ولا يتغير طعم كل منهما بالآخر أصلا
وحكي هذا عن الأكثرين وفيه أنه خلاف المحسوس فان الأنهار العظيمة كدجلة وما ينظم اليها والنيل وغيرهما مما يشاهده الناس إذا اتصلت في البحر تغير طعم غير قليل منها في جهة المتصل وكذا يتغير طعم غير قليل من البحر في جهة المتصل أيضا ويختلف التغير قلة وكثرة باختلاف الورود لاختلاف أسبابه من الهواء وغيره قوة وضعفا كما أخبر به مبلغ التواتر ولم يخبر أحد أنه شاهد في الأرض بحرين أحدهما عذب والآخر ملح وقد اتصل أحدهما بالآخر من غير تغير لطعم شيء منهما أصلا ولا مساغ عند من له أدنى ذوق لجعل اةية في بحرين في الارض كذلك لكنهما لم يشاهدهما أحد كما لا يخفى ولا أرى وجها لتفسير الآية بما ذكر والتزام هذا ونحوه من التكلفات الباردة مع ظهور الوجه الذي لاكدورة فيه عند المنعطف إلا تسبب طعن الكفرة في القرآن العظيم وسوء الظن بالمسلمين وقيل : المراد بالبرزخ الواسطة أي وجعل بين البحر العذب الشديد العذوبة والبحر الملح الشديد الملوحة ماء متوسطا ليس بالشديد العذوبة ولا بالشديد الملوحة وهو قطعة من العذب الفرات عند موضع التلاقي مازجها شيء من الملح الأجاج فكسر سورة عذوبتها وقطعة من الملح الأجاج عند موضع التلاقي أيضا مازجها شيء من العذب الفرات فكسر سورة ملوحتها ويكون التنافر البليغ بينهما المفهوم من قوله سبحانه وحجرا محجورا فيما عدا ذلك وهو مالم يتأثر بصاحبه منهما بل يبقى على صفته من العذوبة الشديدة والملوحة الشديدة وهو كما ترى وحكي في البحر أن المراد بالبحرين بحران معينان هما بحر الروم وبحر فارس
وذكره في الدر المنثور عن الحسن برواية ابن أبي حاتم وهو من العجب العجاب لأن كلا هذين البحرين ملح أجاج فكيف يصح ارادتهما هنا مع قوله تعالى هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج نعم قد يصح فيما سياتي ان شاء الله تعالى من آية سورة الرحمن أعني قوله سبحانه مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لايبغيان لعدم ذكر ما يمنعه هناك وما روي عن الحسن إن صح فلعله في تلك الآية ووهم السيوطي في روايته في الكلام على هذ الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن البحرين هما بحر السماء وبحر الأرض وذكر مثله في البحر عن ابن عباس وانهما يلتقيان كل عام وهذا شيء أنا لا أقول به في الآية ولا أعتقد صحة روايته عمن سمعت وإن كان منابة الآية عليه لما تقدم من قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا على القول بأن المطر من بحر في السماء أتم ودلالتها على كمال قدرته تعالى أظهر وأما أنت فبالخيار والله تعالى ولي التوفيق
وهو الذي خلق من الماء بشرا هو الماء الذي خمر به طينة ءادم عليه السلام وجعله جزءا من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتستعد لقبول الأشكار والهيئات فالمراد بالماء الماء المعروف وتعريفه للجنس والمراد بالبشر آدم عليه السلام وتنوينه للتعظيم أو جنس البشر الصادق عليه عليه السلام وعلى ذريته ومن
(19/35)

ابتدائية ويجوز أن يراد بالماء النطفة وحينئذ يتعين حمل البشر على أولاد ءادم عليه السلام
فجعله نسبا وصهرا أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب اليهم وذوات صهر أي اناثا يصاهر بهن فهو كقوله تعالى فجعل منه الزوجين الذكر والانثى فالواو للتقسيم والكلام على تقدير مضاف حذف ليدل على المبالغة ظاهرا وعدل عن ذكر وأنثى ليؤذن بالانشعاب نصا وهذا الجعل والتقسيم مما لاخفاء فيه على تقدير أن يراد بالبشر الجنس وأما على تقدير أن يراد به ءادم عليه السلام فقيل : هو باعتبار الجنس وفي الكلام ما هو من قبيل الاستخدام نظير ما في قولك : عندي درهم ونصفه وقيل : لاحاجة إلى اعتبار ذلك والكلام من باب الحذف والايصال أي جعل منه وقد جيء به على الاصل في نظير هذه الآية وهو ماسمعته ءانفا وقيل : معنى جعل ءادم نسبا وصهرا خلق حواء منه وابقاؤه على ماكان عليه من الذكورة
وتعقيب جعل الجنس قسمين خلق ءادم أو الجنس باعتبار خلقه أو جعل قسمين من آدم خلقه عليه السلام كما تؤذن به الفاء ظاهر وربما يتوهم أن الضمير المنصوب في جعله عائد على الماء والفاء مثلها في قوله تعالى : ونادى نوح ربه فقال رب الخ وقوله تعالى وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم نائمون وليس بشيء
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أن النسب ما لايحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه النسب ما لايحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع وتفسير الصهر بذلك مروي عن الضحاك أيضا
وكان ربك قديرا
45
- مبالغا في القدرة حيث قدر على أن يخلق من مادة وادحة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين وكان في مثل هذا الموضع للاستمرار وإذا قلنا بأن الجملة الاسمية نفسها تفيد ذلك أيضا أفاد الكلام استمرارا على استمرار وربما أشعر ذلك بأن القدرة البالغة من مقتضيات ذاته جل وعلا ومن العجب ما زعمه بعض من يدعي التفرد بالتحقيق ممن صحبناه من علماء العصر رحمة الله تعالى عليه ان كان في مثله للاستمرار فيما لم يزل والجملة الاسمية للاستمرار فيما لايزال فيفيد جمعهما استمرار ثبوت الخبر للمبتدأ أزلا وأبدا ويعلم منه مبلغ الرجل في العلم ويعبدون من دون الله الذي شأنه تعالى شأنه ما ذكر مالا ينفعهم ان عبدوه ولا يضرهم إن لم يعبدوه والمراد بذلك الأصنام أو كل ما عبد من دون الله عز و جل وما من مخلوق يستقل بالنفع والضر وكان الكافر على ربه الذي ذكرت ءاثار ربوبيته جل وعلا ظهيرا
55
- أي مظاهرا كما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وفعيل بمعنى مفاعل كثير ومنه نديم وجليس والمظاهرة المعاونة أي يعاون الشيطان على ربه سبحانه بالعداوة والشرك والمراد بالكافر الجنس فهو اظهار في مقام الاضمار لنعي كفرهم عليهم وقيل : هو أبو جهل واةية نزلت فيه وقال عكرمة : هو ابليس عليه اللعنة والمراد يعاون المشركين على ربه عز و جل بأن يغريهم على معصيته والشرك به عز و جل وقيل : المراد يعاون على أولياء الله تعالى
وجوز أن يكون هذا مراد على سائر الاحتمالات في الكافر وقيل : المراد بظهيرا مهينا من قولهم : ظهرت به اذا نبذته خلف ظهرك أي كان من يعبد من دون الله تعالى ما لاينفعه ولا يضره مهينا على ربه
(19/36)

عز و جل لاخلاق له عنده سبحانه قاله الطبري ففعيل بمعنى مفعول والمعروف أن ظهيرا بمعنى معين لابمعنى مظهور به وما أرسلناك في حال من الأحوال الا حال كونك مبشرا للمؤمنين ونذيرا
65
- أي ومنذرا مبالغا في الانذار للكافرين ولتخصيص الانذأر بهم وكون الكلام فيهم والاشعار بغاية اصرارهم على ما هم فيه من الضلال اقتصر على صيغة المبالغة فيه وقيل : المبالغة باعتبار كثرة المنذرين فان الكفرة في كل وقت أكثر من المؤمنين
وبعضهم اعتبر كثرتهم بادخال العصاة من المؤمنين فيهم أي ونذيرا للعاصين مؤمنين كانوا أو كافرين والمقام يقتضي التخصيص بالكافرين كما لايخفى والمراد ما أرسلناك إلا مبشرا للمؤمنين ونذير للكافرين فلا تحزن على عدم ايمانهم قل لهم دافعا عن نفسك تهمة الانتفاع بايمانهم ما أسئلكم عليه أي على تبليغ الرسالة التي ينبيء عنه الارسال أو على المذكور من التبشير والانذار وقيل : على القرآن من أجر أي أجر ما من جهتكم إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه أي إلى رحمته ورضوانه سبيلا
75
- أي طريقا والاستثناء عند الجمهور منقطع أي لكن ما شاء أن يتخذ إلى ربه سبحانه سبيلا أي بالانفاق القائم مقام الأجر كالصدقة والنفقة في سبيل الله تعالى ليناسب الاستدراك فليفعل وذهب البعض إلى أنه متصل وفي الكلام مضاف مقدر أي الا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالايمان والطاعة حسبما ادعو اليهما وهو مبني على الادعاء وتصوير ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الاتيان به وهذا كالاستثناء في قوله : ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يعاب بنسيان الأحبة والوطن وفي ذلك قلع كلي لشائبة الطمع وإظهار لغاية الشفقة عليهم حيث جعل ذلك مع كون منفعة عائدا اليهم عائد اليه صلى الله عليه و سلم وقيل : المعنى ما أسألكم عليه أجرا إلا أجر من آمن أي إلا الأجر الحاصل لي من إيمانه فان الدال على الخير كفاعله وحينئذ لايحتاج إلى الادعاء والتصوير السابق والأولى ما فيه قلع شائبة الطمع بالكلية
وتوكل على الحي الذي لايموت في الاغناء عن أجورهم والاستكفاء عن شرورهم وكأن العدول عن وتوكل على الله إلى مافي النظم الجليل ليفيد بفحواه أو بترتب الحكم فيه على وصف مناسب عدم صحة التوكل على غير المتصف بما ذكر من الحياة والبقاء أما عدم صحة التوكل على من لم يتصف بالحياة كالاصنام فظاهر وأما عدم صحته على من لم يتصف بالبقاء بأن كان ممن يموت فلأنه عاجز ضعيف فالمتوكل عليه أشبه شيء بضعيف عاد بقرملة وقيل : لأن إذا مات ضاع من توكل عليه
وأخرج ابن أبي الدنيا في التوكل والبيهقي في شعب الايمان عن عقبة بن أبي ثبيت قال : مكتوب في التوراة لاتوكل على ابن آدم فان ابن آدم ليس له قوام ولكن توكل على الحي الذي لايموت وقرأ بعض السلف هذ الآية فقال : لايصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وسبح بحمده أي ونزهه سبحانه ملتبسا بالثناء عليه تعالى بصفات الكمال طالبا لمزيد الانعام بالشكر على سوابقه عز و جل فالباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال وقدم التنزيه لأنه تخليةوهي أهم من التحلية وفي الحديث من قال سبحان الله وبحمده غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وكفى به بذنوب عباده ما ظظهر منها وما بطن كما يؤذن به الجمع
(19/37)

المضاف فانه من صيغ العموم أو قوله تعالى خبيرا
85
- لأن الخبرة معرفة بواطن الأمور كما ذكره الراغب ومن علم البواطن علم الظواهر بالطريق الأولى فيدل على ذلك مطابقة والتزاما
والظاهر أن بذنوب متعلق بخبيرا وهو حال أو تمييز وباء به زائدة في فاعل كفى وجوز أن يكون بذنوب صلة كفى والجملة مسوقة لتسليته صلى الله عليه و سلم ووعيد الكفار أي أنه عز و جل مطلع على ذنوب عباده بحيث لايخفى عليه شيء منها فيجازيهم عليها ولا عليك ان آمنوا أو كفروا
الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش قد سلف تفسيره ومحل الموصول الجر على أنه صفة أخر للحي ووصف سبحانه بالصفة الفعلية بعد وصفه جل وعلا بالأبدية التي هي من الصفات الذاتية والاشارة إلى اتصافه تعالى بالعلم الشامل لتقرير وجوب التوكل عليه جل جلاله وتأكيده فان من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق والنسق الرائق بتدبير متين وترتيب رصين في أوقات معينة مع كمال قدرته سبحانه على ابداعها دفعة بحكم جليلة وغايات جميلة لاتقف على تفاصيلها العقول أحق من يتوكل عليه وأولى من يفوض الأمر اليه
وقوله تعالى : الرحمن مرفوع على المدح أي هو الرحمن وهو في الحقيقة وصف آخر للحي كما في قراءة زيد بن عبد الرحمن بالجر مفيد لزيادة تأكيد ما ذكر من وجوب التوكل عليه جل شأنه وإن لم يتبعه في الأعراب لما تقرر من أن المنصوب والمرفوع مدحا وان خرجا عن التبعية لما قبلها صورة حيث لم يتبعاه في الاعراب وبذلك سميا قطعا لكنهما تابعان له حقيقة ألا ترى كيف التزموا حذف الفعل والبتدأ روما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ما قبله وتنبيها على شدة الاتصال بينهما وإنما قطعوا للافتنان الموجب لايقاظ السامع وتحريكه إلى الجد في الاصغاء
وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الاختصاص وان يكون في محل رفع على انه خبر مبتدأ محذوف صفة له أو مبتدأ و الرحمن خبره وجوز أن يكون الرحمن بدلا من المستكن في استوى ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون الرحمن مبتدأ وقوله تعالى فسئل به خبيرا
95
- خبره على حد تخريجه قول الشاعر
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
وهو بعيد والظاهر أن هذه جملة منقطعة عما قبلها اعرابا والفاء فصيحة والجار والمجرور صلة اسأل والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتناء وعليه قول علقمة بن عبيدة : فان تسألوني بالنساء فانني خبير بادواء النساء طبيب فلا حاجة الى جعلها بمعنى عن كما فعل الأخفش والزجاج والضمير راجع الى ما ذ : ره اجمالا من الخلق واستواء والمعنى ان شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيل ما ذكر فاسأل معتنيا به خبيرا عظيم الشأن محيطا بظواهر الأمور وبواطنها وهو الله عز و جل يطلعك على جلية الأمر والمسؤل في الحقيقة تفاصيل ما ذكر لا نفسه إذ بعد بيانه لايبقى الى السؤال حاجة ولا في تعديته بالباء المبنية على تضمينه معنى الاعتناء المستدعي لكون المسؤل أمرا خطيرا مهتما بشأنه غير حاصل للسائل فائدة فان نفس الخلق والاستواء بعد الذكر ليس
(19/38)

كذلك كما لايخفى وكون التقدير ان شككت فيه فاسأل خبيرا على ان الخطاب له صلى الله عليه و سلم والمراد غيره عليه الصلاة و السلام بمعزل عن السداد وقيل : به صلة خبيرا قدم لرؤس الآي
وجوز أن يكون الكلام من باب التجريد نحو رأيت به أسدا أي رأيت برؤيته أسدا فكأنه قيل هنا فاسأل بسؤاله خبيرا والمعنى إن سالته وجدته خبيرا والباء عليه ليست صلة فانها باء التجريد وهي على ما ذهب اليه الزمخشري سببية والخبير عليه هو الله تعالى أيضا وقد ذكر هذا الوجه السجاوندي واختاره صاحب الكشف قال : وهو أوجه ليكون كالتتميم لقوله تعالى : الذي خلق الخ فانه لاثبات القدرة مدمجا فيه العلم وكون ضمير به راجعا إلى ماذكر من الخلق والاستواء والخبير في الآية هو الله تعالى مروي عن الكلبي وروي تفسير الخبير به تعالى عن ابن جريج أيضا
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخبير هو جبريل عليه السلام وقيل : هو من وجد ذلك في الكتب القديمة المنزلة من عنده تعالى أي فسأل بما ذكر من الخلق والاستواء من علم به من أهل الكتب ليصدقك وقيل : إذا أريد بالخبير من ذكر فضمير به للرحمن والمعنى إن أنكروا اطلاق الرحمن عليه تعالى فاسأل به من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم وفيه أنه لايناسب ما قبله ولأن فيه عود الضمير للفظ الرحمن دون معناه وهو خلاف الظاهر ولأنه كان الظاهر حينئذ أن يؤخر عن قوله تعالى : ما الرحمن
وقيل : الخبير محمد صلى الله عليه و سلم وضمير به للرحمن والمراد فاسال بصفاته والخطاب لغيره صلى الله عليه و سلم ممن لم يعلم ذلك وليس بشيء كما لايخفى وقيل ضمير به للرحمن والمراد فاسأل برحمته وتفاصيلها عارفا يخبرك بها أو المراد فاسأل برحمته حال كونه عالما بكل شيء على أن خبيرا حال من الهاء لامفعول اسأل كما في الأوجه السابقة
وجوز أبو البقاء أن يكون خبيرا حالا من الرحمن إذا رفع باستوى وقال : يضعف أن يكون حالا من فاعل اسأل لأن الخبير لايسأل إلا على جهة التوكيد مثل وهو الحق مصدقا والوجه الأقرب الأولى في الآية من بين الأوجه المذكورة لايخفى وقريء فسل
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن القائل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو الله عز و جل على لسان رسوله عليه الصلاة و السلام ولا يخفى موقع هذا الاسم الشريف هنا وفيه كما قال الخفاجي : معنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد قالوا على سبيل التجاهل والوقاحة وما الرحمن كما قال فرعون وما رب العالمين حين قال له موسى عليه السلام إني رسول رب العالمين وهو عالم بع عز و جل كما يؤذن بذلك قول موسى عليه السلام له : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر والسؤال يحتمل أن يكون عن المسمى ووقع بما دون من لأنه مجهول بزعمهم فهو كما يقال للشبح المرئي ما هو فاذا عرف أنه من ذوي العلم قيل من هو ويحتمل أن يكون عن معنى الاسم ووقوعه بما حينئذ ظاهر وقيل : سالوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه تعالى أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره عز و جل فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة فظنوا أنه المراد بحمل التعريف على العهد وقيل : لأنه كان عبرانيا وأصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب ولم يسمعوه والأظهر عندي أن ذلك عن تجاهل وأن السؤال عن المسمى ولذا قالوا : أنسجد لما تأمرنا أي للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه فما موصولة
(19/39)

والعائد محذوف وأصل الجملة المشتملة عليه ما أشرنا اليه ثم صار تأمرنا بسجوده ثم تأمرنا سجوده كأمرتك الخير ثم تأمرناه بحذف المضاف ثم تأمرنا واعتبار الحذف تدريجيا مذهب أبي الحسن ومذهب سيبويه أنه حذف كل ذلك من غير تدريج ويحتمل أن يكون ما نكرة موصوفة وأمر العائد على ما سمعت ويجوز أن تكون مصدرية واللام تعليلية والمسجود له محذوف أو متروك أي انسجد له لأجل أمرك ايانا أو أنسجد لأجل أمرك إيانا
وقرأ ابن مسعود والاسود بن زيد وحمزة والكسائي يأمرنا بالياء من تحت على أن الضمير للنبي صلى الله عليه و سلم وهذا القول قول بعضهم لبعض وزادهم أي الأمر بالسجود للرحمن والاسناد مجازي والجملة معطوفة على قالوا أي قالوا ذلك وزادهم نفورا
6
- عن الايمان وفي اللباب أن فاعل زادهم ضمير السجود لما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين وعليه فليست معطوفة على جواب إذا بل على مجموع الشرط والجواب كما قيل : وفي لايستقدمون من قوله تعالى : إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون والأول أولى وأظهر تبارك الذي جعل في السماء بروجا الظاهر أن البروج الاثنا عشر المعروفة وأخرج ذلك الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهي في الأصل القصور العالية واطلقت عليها على طريق التشبيه لكونها للكواكب كالمنازل الرفيعة لساكنيها ثم شاع فصار حقيقة فيها وعن الزجاج أن البرج كل مرتفع فلا حاجة إلى التشبيه أو النقل واشتقاقه واشتقاقه من التبرج بمعنى الظهور والذي يقتضيه مشرب أهل الحديث أنها في السماء الدنيا ولا مانع منه عقلا لاسيما إذا قلنا بعظم ثخنها بحيث يسع الكواكب وما تقتضيه على ما ذكره أهل الهيئة وهي عندهم أقسام الفلك الأعظم المسمى على ما قيل بالعرش ولم يرد فيما أعلم اطلاق السماء عليه وان كان صحيحا لغة سميت بأسماء صور من الثوابت في الفلك الثامن وقعت في محاذاتها وقت اعتبار القسمة وتلك الصور متحركة بالحركة البطيئة كسائر الثوابت وقد قارب في هذه الأزمان أن تخرج كل سورة عما حاذته أولا وابتداؤها عندهم من نقطة الاعتدال الربيعي وهي نقطة معينة من معدل النهار لاتتحرك بحركة الفلك الثامن ملاقية لنقطة أخرى من منطقة البروج تتحرك بحركته وإذا لم يتحرك مبدأ البروج بتلك الحركة لم يتحرك ما عداها وقد جعل الله تعالى ثلاثة منها ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وتسمى التوأمين أيضا وثلاثة صيفية وهي السرطان والاسد والسنبلة وتسمى العذراء أيضا وهذه الستة الشمالية وثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس ويسمى الرامي أيضا وثلاثة شتوية وهي الجدي والدلو ويسمى الدالي وساكب الماء أيضا والحوت وتسمى السمكتين وهذه الستة جنوبية ولحلول الشمس في كل من الاثني عشر يختلف الزمان حرارة وبرودة والليل والنهار طولا وقصرا وبذلك يظهر بحكم جري العادة في عالم الكون والفساد آثار جليلة من نضج الثمار وإدراك الزروع ونحو ذلك مما لايخفى ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها
وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعا وقت الولادة أو شروع في عمل من الاعمال او وقت حلول الشمس نقطة الحمل الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور فهو محض ظن ورجم بالغيب وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك مفصلا ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث وليلي ونهاري حار
(19/40)

وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل ولعلنا نذكر شيئا منه بعد إنشاء الله تعالى ومن أراده مستوفي فليرجع إلى كتبهم ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لادخل للاعتبار فيها والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصة من اعتبار فرض ستة دوائر معلومة قاطعة للعالم فيكون للاعتبار دخل فيها وان لم تكن في ذلك كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها فان كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتبر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج وفيه من الخير الكثير ما فيه وقيل : إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي والمشهور أن من اعتبر ذلك أولا هرمس وهو على ما قيل ادريس عليه السلام فتأمل
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس وقيل : هي القصور في الجنة قال الأعمش : وكان أصحاب عبد الله يقرؤن في السماء قصورا وتعقب بأنه يأباه السياق لأن اةية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لايسجدون للرحمن جل شأنه وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله جل جلاله والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم تلك القصور ليست كذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد أنها النجوم وروي ذلك عن قتادة أيضا وعن أبي صالح تقييدها بالكبار وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لاسيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة
وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروي عن ابن عباس الذي هو أظهر من الشمس وجعل فيها أي في السماء وقيل : في البروج سراجا هي الشمس كقوله تعالى : وجعل الشمس سراجا وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش والاخوان سرجا بالجمع مضموم الراء وقرأ الأعمش أيضا والنخعي وابن ثابت كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو على ما قيل من قبيل إن إبراهيم كان أمة لأن الشمس لعظها وكمال إضاءتها لأنها سرج كثيرة أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر :
لمعان برق أو شعاع شموس
وعلى هذا القول تتحد القراءتان وقال بعض الأجلة : الجمع على ظاهره والمراد به الشمس والكواكب الكبار ومنهم من فسره بالكواكب الكبار واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى : وقمرا منيرا
16
- بعد دخوله في السرج والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية ولذا يقدم الليل على النهار وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها فهم أكثر عناية به مع أنه على ماذكره يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها فد قرن لايجدي والقمر معروف ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر قيل : سمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب وفي الصحاح لبياضه وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه بمنيرا دون مضيئا إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد
(19/41)

منمن غيره وهو الشمس بل قال غير واحد : إن نور جميع الكواكب مستفاد منها وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر
وقرأ الحسن والاعمش والنخعي وعصمة عن عاصم وقمرا بضم القاف وسكون الميم واستظهر أبو حيان أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب وقيل : هو جمع قمراء وهي الليلة المنيرة بالقمر والكلام على حذف مضاف أي وذا قمر أي صاحب ليل قمر والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه ويكون قوله سبحانه : منيرا صفة لذلك المضاف المحذوف لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول حسان رضي الله تعالى عنه :
بردى يصفق بالرحيق السلسل
فانه يريد ماء بردى ولذا قال يصفق بالياء من تحت ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أي يعمل فيه وروي هذا عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقيل : بأن يعقبه ويجيء بعده وهو اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل أو حال إن كان بمعنى خلق وجعله بعضهم بمعنى اختلافا والمراد الاختلاف في الزيادة والنقصان كما قيل أو في السواد والبياض كما روي عن مجاهد أو فيما يعم ذلك وغيره كما هو محتمل وفي البحر يقال : بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير : بها العين والآرام يمشين خلفه واطلاؤها ينهضن من كل مجثم وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا : ولها بالماطون إذا أكل النمل الذي جمعا خلفة حتى إذا ارتفعت سكنت من جلق بيعا في بيوت وسط دسكرة حولها الزيتون قد نبعا انتهى وجوز عليه أن يكون المراد يذهب كل منهما ويجيء كثيرا واعتبار المضاف المقدر على حاله وكذا فيما قبله وفي القاموس الخلف والخلفة بالكسر المختلف وعليه لاحاجة إلى تقدير المضاف والمعنى جعلهما مختلفين والافراد لكونه مصدرا في الأصل لمن أراد أن يذكر أي ليكونا وقتين للمتذكر من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركه في الآخر وروي هذا عن جماعة من السلف وروى الطيالسي وابن أبي حاتم أن عمر رضي الله تعالى عنه أطال صلاة الضحى فقيل له : صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال : إنه بقي علي من وردي شيء فأحببت ان أتمه أو قال : أقضيه وتلا هذ الآية وكأن التذكر مجاز عن اداء ما فات وهو مما يتوقف الاداء عليه وفي الكلام تقدير كما أشير اليه ويجوز أن يكون تقدير معنى لا إعراب أو أراد شكورا
26
- أن يشكر الله تعالى باداء نوع من العبادة لم يكن وردا له وفي مجمع البيان المعنى لمن أراد النافلة بعد أداء الفريضة ويجوز أن يكون المعنى لمن أراد أن يتذكر ويتفكر في بدائع صنع الله تعالى فيعلم أنه لابد لما ذكر من صانع حكيم واجب الذات ذي الرحمة على العباد أو أراد أن يشكر الله سبحانه على ما فيهما من النعم وهو وجه حسن يكاد لايلتفت لغيره لو لم يكن مأثورا والظأهر أن اللام على هذا صلة جعل ولما كان ظهور فائدة ذلك لمن أراد التذكر أو أراد الشكر اقتصر عليه وجوز أن تكون للتعليل و أو للتنويع على معنى الاشتمال على
(19/42)

هذين المعنيين أو للتخيير على معنى الاستقلال بكل ولا منع من الاجتماع وفائدة هذا الاسلوب إفادة الاستقلال ولو ذكر الواو بدلها لتوهم المعية ولعل في التعبير أولا بأن والفعل دون المصدر الصريح كما في الشق الثاني مع أنه أخصر إيماء إلى الاعتناء بأمر التذكر فتذكر
وقرأ أبي بن كعب أن يتذكر وهو أصل ليذكر فابدل التاء ذالا وأدغم وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة أن يذكر مضارع ذكر الثلاثي بمعنى تذكر وعباد الرحمن كلام مستأنف لبيان أوصاف خلص عباد الله تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له عز و جل إضافتهم إلى الرحمن دون غيره من اسمائه تعالى وضمائره عز و جل لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم لكونهم مرحومين منعما عليهم كما يفهم من فحوى الاضافة إلى مشتق وفي ذلك تعريض بمن قالوا : وما الرحمن والاكثرون أن عبادا هنا جمع عبد وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال ويوافقه قراءة اليماني وعباد بضم العين وتشديد الباء فانه جمع عابد بالاجماع وهو على هذا من العبادة وهي أن يفعل ما يرضاه الرب وعلى الأول من العبودية وهي أن يرضى ما يفعله الرب وقال الراغب : العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل وفرق بعضهم بينها بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك والعبودية فعل المامورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إحسان الله تعالى عليه قيل : وفوق ذلك العبودة وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه عز و جل واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع واليه الاشارة بقوله تعالى فصل لربك وقرأ الحسن وعبد بضم العين والباء وهو كما قال الأخفش جمع عبد كسقف وسقف وأنشد : أنسب العبد إلى آبائه أسود الجلدة من قوم عبد وهو على كل حال مبتدأ وفي خبره قولان الاول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الاشارة والثاني وهو الأقرب أنه قوله تعالى الذين يمشون على الأرض هونا والهون مصدر بمعنى اللين والرفق ونصبه إا على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على أنه حال من ضمير يمشون والمراد يمشون هينين في تؤدة وسكينة ووقار وحسن سمت لايضربون باقدامهم ولايخفقون بنعالهم أشرا وبطرا وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والفضيل بن عياض وغيرهم وعن الامام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الهون مشي الرجل بسجيته التي جبل عليها لايتكلف ولا يتبختر
وأخر الآمدي في شرح ديوان الأعشى بسنده عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له : إن البخترة مشية نكرة إلا في شبيل الله تعالى وقد مدح الله تعالى أقواما ما بقوله سبحانه : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا فاقصد في مشيك وقيل : المشي الهون مقابل السريع وهو مذموم فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وابن النجار عن ابن عباس قالا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سرعة المشي تذهب بهاء الدين
وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران إن هونا بمعنى حلماء بالسريانية فيكون حالا لا غير والظاهر
(19/43)

أنه عربي بمعنى اللين والرفق وفسره الراغب بتذلل الانسان في نفسه لما لايلحق به غضاضة وهو الممدوح ومنه الحديث المؤمن هين لين والظاهر بقاء المشي على حقيقته وأن المراد مدحهم بالسكينة والوقار فيه من غير تعميم نعم يلزم من كونهم يمشون كذلك أنهم هينون لينون في سائر أمورهم بحكم العادة على ما قيل
واختار ابن عطية أن المراد مدحهم بعدم الخشونة والفظاظة في سائر أمورهم وتصرفاتهم والمراد أنهم يعيشون بين الناس هينين في كل أمورهم وذكر المشي لما أنه انتقال في الأرض وهو يستدعي معاشرة الناس ومخالطتهم واللين مطلوب فيها غاية الطلب ثم قال : وأما أن يكون المراد مدحهم بالمشي وحده هونا فباطل فكم ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يتكفأ في مشيته كانما يمشي في صبب وهو عليه الصلاة و السلام الصدر في هذه الآية وفيه بحث من وجهين فلا تغفل وقرأ اليماني والسلمي يمشون مبنيا للمفعول مشددا وإذا خاطبهم الجاهلون أي السفهاء وقليلو الأدب كما في قوله : ألا لايجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا قالوا سلاما
36
- بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أو بيان لحسن معاملتهم وتحقيق للينهم عند تحقق ما يقتضي خلاف ذلك إذا خلي الانسان وطبعه أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسلما منكم ومتاركة لاخير بيننا وبينكم ولا شر فسلاما مصدر أقيم مقام التسليم وهو مصدر مؤكد لفعله المضمر والتقدير نتسلم تسلما منكم والجملة مقولة القول وإلى هذا ذهب سيبويه في الكتاب ومنع أن يراد السلام المعروف بأن الآية مكية والسلام في النساء وهي مدنية ولم يؤمر المسلمون بمكة أن يسلموا على المشركين
وقال الاصم : هو سلام توديع لاتحية كقول ابراهيم عليه السلام لأبيه سلام عليك ولا يخفى أنه راجع إلى المتاركة وهو كثير في كلام العرب وقال مجاهد : المراد قالوا قولا سديدا
وتعقب بأن هذا تفسير غير سديد لأن المراد ههنا يقولون هذه اللفظة لا أنهم يقولون قولا ذا سداد بدليل قوله تعالى سلام عليكم لانبتغي الجاهلين ورده صاحب الكشف بان تلك الآية لاتخالف هذا التفسير فان قولهم سلام عليكم من سداد القول أيضا كيف والظاهر أن خصوص اللفظ غير مقصود بل هو أو مايؤدي مؤداه أيضا من كل قول يدل على المتاركة مع الخلوعن الاثم واللغو وهو حسن لاغبار عليه
وفي بعض التواريخ كما في البحر أن ابراهيم بن المهدي كان منحرفا عن علي كرم الله تعالى وجهه فرآه في النوم قد تقدم إلى عبور قنطرة فقال له : إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فحكى ذلك على المأمون ثم قال : ما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به قال : كان يقول لي : سلاما سلاما فقال المأمون : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب ونبهه على هذه الآية فخزى ابراهيم واستحيى عليه من الله تعالى ما يستحق والظاهر أن المراد مدحهم بالاغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ولا تعرض في الآية لمعاملتهم مع الكفرة فلا تنافي آية القتال ليدعي نسخها بها لأنها مكية وتلك مدنية ونقل عن أبي العالية واختاره عطية أنها نسخت بالنظر إلى الكفرة بآية القتال
وقوله تعالى والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما
46
- بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم وكان الحسن إذا قرأ ما تقدم يقول : هذا وصف نهارهم وإذا قرأ هذه قال : هذا وصف ليلهم والبيتوتة أن يدركك الليل
(19/44)

نمت أو لم تنم ولربهم متعلق بما بعده وقدم للفاصلة والتخصيص والقيام جمع قائم أو مصدر أجري مجراه أي يبيتون ساجدين وقائمين لربهم سبحانه أي يحيون الليل كلا أو بعضا بالصلاة وقيل : من قرأ شيئا من القرءان بالليل في صلاة فقد بات ساجدا وقائما وقيل : أريد بذلك فعل الركعتين بعد المغرب والركعتين بعد العشاء وقيل من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في عموم الآية وبالجملة في الآية حض على قيام الليل في الصلاة وقدم السجود على القيام ولم يعكس وإن كان متأخرا في الفعل لأجل الفواصل ولأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه سبحانه واباء المستكبرين عنه في قوله تعالى : وإذا قيل الآية
وقرأ أبو البرهسم 0 سجودا على وزن قعودا وهو أوفق بقياما والذين يقولون في اعقاب صلواتهم أو في عامة أوقاتهم ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما
56
- أي لازما كما أخرجه الطستي عن ابن عباس وأنشد رضي الله تعالى عنه في ذلك قول بشر بي أبي حاتم : ويوم النسار ويوم الجفار كانا عذابا وكان غراما ومثله قول الأعشى : ان يعاقب يكن غراما وان يع ط جزيلا فانه لايبالي وهذا اللزم إما للكفار أو المراد به الامتداد كما في لزوم الغريم وفي رواية أخرى عنه تفسيره بالفضيع الشديد وفسره بعضهم بالمهلك وفي حكاية قولهم هذا مزيد مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق يخافون العذاب ويبتهلون إلى ربهم عز و جل في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كقوله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون وفي ذلك تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء والظاهر أن قوله تعالى : ان عذابها الخ من كلام الداعين وهو تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حال عذابها وكذا قوله تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما
66
- وهو تعليل لذلك بسوء حالها في نفسها وترك العطف للاشارة إلى أن كلا منهما مستقل بالعلية وقيل : تعليل لما علل به أولا وضعفه ابن هشام في التذكرة بأنه لامناسة بين كون الشيء غراما وكونه ساء مستقرا
وأجيب بأنه بملاحظة اللزوم والمقام فان المقام من شأنه اللزوم وقيل : كلتا الجملتين من كلامه تعالى ابتداء علل بهما القول على نحو ما تقدم أو علل ذلك باولاهما وعللت الأولى بالثانية وجوز كون احداهما مقولة والأخرى ابتدائية والكل كما ترى و ساءت في حكم بئست والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي وهو الرابط به وأنث لتأويل المستقر بجهنم أو مطابقة للمخصوص ألا ترى إلى ذي الرمة كيف أنث الزورق على تأويل السفينة حيث كان المخصوص مؤنثا في قوله : أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة دعائم الزور نعمت زورق البلد قيل : ويجوز أن تكون ساءت بمعنى أحزنت فهي فعل متصرف متعد وفاعله ضمير جهنم ومفعوله محذوف أي أحزنت أهلها وأصحابها و مستقرا تمييز أو حال وهو مصدر بمعنى الفاعل أو اسم مكان وليس بذاك
والظاهر أن مستقرا ومقاما كقوله
وألفي قولها كذبا ومينا
وحسنه كون المقام يستدعي التطويل أو كونه فاصلة وقيل : المستقر للعصاة والمقام للكفرة وإن في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقرأت فرقة ومقاما
(19/45)

بفتحبفتح الميم أي مكان قيام 0 والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا أي لم يتجاوزوا حد الكرم ولم يقتروا أي ولم يضيقوا تضييق الشحيح وقال أبو عبد الرحمن الحبلي : الاسراف هو الانفاق في المعاصي والقتر الامساك عن طاعة وروي نحو ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقال عون بن عبد الله بن عتبة : الاسراف أن تنفق مال غيرك
وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم يقتروا بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر بضم الياء وكسر التاء وقرأ العلاء ابن سبابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق وأنكر أب حاتم لغة أقتر رباعيا هنا وقال : إنما يقال أقتر ومنه وعلى المقتر قدره وغاب عنه ما حكاه الاصمعي وغيره من أقتر بمعنى ضيق وكان انفاقهم بين ذلك المذكور من الاسراف والقتر قواما
76
- وسطا وعدلا سمي به لاستقامة الطرفين وتعادلهما كأن كلا منهما يقاوم الآخر كما سمي سواء لاستوائهما وقرأ حسان قواما بكسر القاف فقيل : هما لغتان بمعنى واحد وقيل : هو بالكسر ما يقام به الحاجة لايفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان لكان مؤكد للاول وهو بين ذلك أو هو خبر و بين ذلك إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف وإما حال من قواما لأنه لو تأخر لكان صفة وجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا به أو بين ذلك هو الخبر و قواما حال مؤكدة وأجاز الفراء أن يكون بين ذلك اسم كان وبني لاضافته إلى مبني كقوله تعالى ومن خزي يومئذ فد قراة من فتح الميم ومنه قول الشاعر : لم يمنع الشرب منها أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال وتعقبه الزمخشري بأنه من جهة الاعراب لابأس به ولكن المعنى ليس بقي لأن ما بين الاسراف والتقتير قوام لامحالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة وحاصله أن الكلام عليه من باب كان الذاهب جاريته صاحبها وهو غير مفيد ولا يخفى أنه غير وارد على قراءة قواما بالكسر على القول الثاني فيه وعلى غير ذلك متجه وما قيل من أنه من باب شعري شعري والمعنى كان قواما معتبرا مقبولا غير مقبول لأنه من بعده إنما ورد فيما أتحد لفظه وما نحن فيه ليس كذلك وكذا ما قيل : بين ذلك أعم من القوام بمعنى العدل الذي يكون نسبة كل واحد من طرفيه اليه على السواء فان ما بين الاقتار والاسراف لايلزم أن يكون قواما بهذا المعنى إذ يجوز أن يكون دون الاسراف بقليل وفوق الاقتار بقليل فانه تكلف أيضا إذ ما بينهما شامل لحاق الوسط وما عداه كالوسط من غير فرق ومثله لايستعمل في المخاطبات لالغازه وقيل : لأنه بعد تسليم جواز الاخبار عن الأعم بالأخص يبعد أن يكون مدحهم بمراعاة حاق الوسط مع ما فيه من الحرج الذي نفي عن الاسلام وفيه أنه لاشك في جواز الاخبار عن الأعم بالاخص نحو الذي جاءني زيد والقائل لم يرد إلحاق الحقيقي بل التقريبي كما يدل عليه قوله بقليل ولا حرج في مثله فتأمل
ولعل الاخبار عن انفاقهم بما ذكر بعد قوله تعالى : إدا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا المستلزم لكون
(19/46)

إنفاقهم كذلك للتنصيص على أن فعلهم من خير الامور فقد شاع خير الأمور أوساطها والظاهر أن المراد بالانفاق ما يعم إنفاقهم على أنفسهم وإنفاقهم على غيرها والقوام في كل ذلك خير وقد أخرج أحمد والطبراني عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من فقه الرجل رفقه في معيشته
واخرج ابن ماجة في سننه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ان من السرف أن تأكل ما اشتهيت وحكي عن عبد الملك بن مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز عليه الرحمة حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر : الحسنة بين السيئتين ثم تلا اةية وقد مدح الشعراء التوسط في الأمور والاقتصاد في المعيشة قديما وحديثا ومن ذلك قوله : ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقول حاتم : إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقول الآخر : إذا المرء أعطى نفسه كا ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل وساقت اليه الاثم والعار بالذي دعته اليه من حلاوة عاجل إلى غير ذلك والذين لايدعون مع الله إلها ءاخر أي لايشركون به غيره سبحانه
ولايقتلون النفس التي حرم الله أي حرمها الله تعالى بمعنى حرم قتلها لأن التحريم إنما يتعلق بالافعال دون الذوات فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه مبالغة في التحريم إلا بالحق 9 متعلق بيقتلون والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي لايقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كالزنا بعد الاحصان والكفر بعد الايمان وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لايقتلونها نوعا من القتل إلا قتلا متلبسا بالحق وأن يكون حالا أي لايقتلونها في حال من الاحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق
وقيل : يجوز أن يكون متعلقا بالقتل المحذوف والاستثناء أيضا من أعم الاسباب أي لايقتلون النفس التي حرم الله تعالى قتلها بسبب من الاسباب إلا بسبب الحق ويكون الاستثناء مفرغا في الاثبات لاستقامة المعنى بارادة العموم أو لكون حرم نفيا معنى ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا يزنون ولا يطؤن فرجا محرما عليهم والمراد من نفي القبائح العظيمة التعريض بما كان عليه اعداؤهم من قريش وغيرهم وإلا فلا حاجة اليه بعد وصفهم بالصفات السابقة من حسن المعاملة وإحياء الليل بالصلاة ومزيد خوفهم من الله تعالى لظهور استدعائها نفي ما ذكر عنهم ومنه يعلم حل ما قيل الظاهر عكس هذا الترتيب وتقديم التخلية على التحلية فكانه قيل : والذين طهرهم الله تعالى وبرأهم سبحانه مما أنتم عليه من الاشراك وقتل النفس المحرمة كالموؤدة والزنا
وقيل : إن التصريح بنفي الاشراك مع ظهور إيمانهم لهذا أو لاظهار كمال الاعتناء والاخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه وقد صرح من رواية البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : سالت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي الذنب أكبر قال أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك قلت : ثم أي قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت : ثم أي قال : أن تزاني حليلة جارك فانزل الله تعالى تصديق ذلك والذين يدعون مع الله إلها آخر الآية
(19/47)

وأخرجوأخرج الشيخان وابو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناسا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه و سلم فقالوا إن الذي تقول وتدعوا اليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت والذين يدعون مع الله إلها آخر الآية ونزلت قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية
وقد ذكر الامام الرازي أن ذكر هذا بعد ما تقدم لأن الموصوف بتلك الصفات قد يرتكب هذه الأمور تدينا فبين سبحانه أن المكلف لايصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذ الكبائر وهو كما ترى وجوز أن يقال في وجه تقديم التحلية على التخلية كون الاوصاف المذكورة في التحلية أوفق بالعبودية التي جعلت عنوان الموضوع لظهور دلالتها على ترك الانانية ومزيد الانقياد والخوف والاقتصاد في التصرف بما أذن المولى بالتصرف فيه ولا يأبى هذا قصد التعريض بما ذكر في التخلية ويؤيد هذا القصد التعقيب بقوله عز و جل ومن يفعل ذلك يلق أثاما
86
- أي ومن يفعل ما ذكر يلق في الآخرة عقابا لايقادر قدره وتفسير الأثام بالعقاب مروي عن قتادة وابن زيد ونقله أبو حيان عن أهل اللغة وأنشد قوله : جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له جزاء أخرج ابن الانباري عن ابن عباس أنه فسره لنافع بن الأزرق بالجزاء وأنشد قول عامر بن الطفيل : وروينا الأسنة من صداه ولاقت حمير منا أثاما والفرق يسير : وقال أبو مسلم الاثام الاثم والكلام عليه على تقدير مضاف أي جزاء أثام أو هو مجاز من ذكر السبب وارادة المسبب وقال الحسن : هو اسم من أسماء جهنم وقيل : اسم بئر فيها وقيل : اسم جبل
وروى جماعة عن عبد الله بن عمر ومجاهد أنه واد في جهنم وقال مجاهد : فيه قيح ودم
واخرج ابن المبارك في الزهد عن شفى الاصبحي أن فيه حيات وعقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم والعقرب منهن مثل البغلة الموكفة وعن عكرمة اسم لأودية في جهنم فيها الزناة وقريء يلق بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وقرأ ابن مسعود وابو رجاء يلقى بالف كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فاقرت الألف وقرأ أبو مسعود أيضا أياما جمع يوم يعني شدائد واستعمال الأيام بهذا المعنى شائع ومنه يوم ذو أيام وأيام العرب لوقائعهم ومقاتلتهم يضاعف له العذاب يوم القيامة بدل من يلقبدل كل من كل أو بدل اشتمال وجاء الابدال من المجزوم بالشرط في قوله : متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا ويخلد فيه أي في العذاب المضاعف مهانا
96
- ذليلا مستحقرا فيجتمع له العذاب الجسماني والروحاني وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن كثير يضعف بالياء والبناء للمفعول وطرح الألف والتضعيف
وقرأ شيبة وطلحة بن سليمان وأبو جعفر أيضا نضعف بالنون مضمومة وكسر العين مضعفة و العذاب بالنصب وطلحة بن مصرف يضاعف مبنيا للفاعل و العذاب بالنصب وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب على الالتفات المنبيء عن شدة الغضب مرفوعا وقرأ أبو حيوة وتخلد مبنيا للمفعول مشدد اللام مجزوما ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففا وقرأ ابو بكر عن عاصم يضاعف ويخلد بالرفع فيهما وكذا ابن عامر والمفضل عن عاصم يضاعف ويخلد مبنيا للمفعول مرفوعا مخففا والأعمش
(19/48)

بضمبضم الياء مبنيا للمفعول مشددا مرفوعا وقد عرفت وجه الجزم وأما الرفع فوجهه الاستئناف جعل الجملة حالا من فاعل يلق والمعنى يلق أثاما مضاعفا له العذاب ومضاعفته مع قوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله سبحانه ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها قيل لانظمام المعصية إلى الكفر ويدل عليه قوله تعالى إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فان استثناء المؤمن يدل على اعتبار الكفر في المستثنى منه وأورد عليه أن تكرر لا النافية يفيد نفي كل من تلك الأفعال بمعنى لايوقعون شيئا منها فيكون ومن يفعل ذلك بمعنى ومن يفعل شيئا من ذلك ليتحد مورد الاثبات والنفي فلادلالة على الانضمام والمستثنى من جمع بين ما ذكر من الايمان والتوبة والعمل الصالح فيكون المستثنى منه غير جامع لها فلعل الجواب أن المضاعفة بالنسبة إلى عذاب مادون المذكورات
وتعقب بأن الجواب المذكور لابعد فيه وإن لم يذكر ما دونها إلا أن الايراد ليس بشيء لأن الكلام تعريض للكفرة ومن يفعل شيئا من ذلك منهم فقد ضم معصيته إلى كفره ولو لم يلاحظ ذلك على ما اختاره لزم أن من ارتكب كبيرة يكون مخلدا ولا يخفى فساده عندنا وما ذكر من اتحاد مورد الاثبات والنفي ليس بلازم
ثم إن في الكلام قرينة على أن المستثنى منه من جمع بين أضدادها كما علمت ولذا جمع بين الايمان والعمل الصالح مع أن العمل مشروط بالايمان فذكره للاشارة إلى انتفائه عن المستثنى منه ولذا قدم التوبة عليه ويحتمل أن تقديمها لأنها تخلية وقال بعضهم : ليس المراد بالمضاعفة المذكورة ضم قدرين متساويين من العذاب كل منهما بقدر ما تقتضيه المعصية بل المراد لازم ذلك وهو الشدة فكأنه قيل : ومن يفعل ذلك يعذب عذابا شديدا ويكون ذلك العذاب الشديد جزاء كل من تلك الأفعال ومماثلا له والقرينة على المجاز قوله تعالى ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ونحوه ويراد من الخلود المكث الطويل الصادق بالخلود الأبدي وغيره ويكون لمن أشرك باعتبار فرده الأول ولمن ارتكب إحدى الكبيرتين الأخيرتين باعتبار فرده الآخر وهو كما ترى ومثله ما قيل من أن المضاعفة لحفظ ما تقتضيه المعصية فان الأمر الشديد إذا دام هان
هذا والظاهر ان الاستثناء متصل على ماهو الأصل فيه وقال أبو حيان : الأولى عندي أن يكون منقطعا أي لكن من تاب الخ لأن المستثنى منه على تقدير الاتصال محكوم عليه بانه يضاعف له العذاب فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فلا يضاعف له العذاب ولا يلزم من انتفاء التضعيف لقاء العذاب غير المضعف وفيه إن قوله تعالى الآتي فاولئك الخ احتراس لدفع توهم ثبوت أصل العذاب بافادة أنهم لايلقونه أصلا على أكمل وجه وقيل أيضا في ترجيح الانقطاع : إن الاتصال مع قطع النظر عن إيهامه ثبوت أصل العذاب بل وعن إيهامه الخلود غير مهان يوهم أن مضاعفة العمل الصالح شرط لنفي الخلود مع أنه ليس كذلك
ثم أية ضرورة تدعو إلى أن يرتكب ما فيه إيهام ثم يتشبث بأذيال الاحتراس على أن الظاهر أن يجعل من مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبره وقرنت بذلك لوقوعها خبرا عن الموصول كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم وأنا أميل لما مال اليه أبو حيان لمجموع ما ذكر وذكر الموصوف في قوله سبحانه وعمل عملا
(19/49)

صالحا مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء والتنصيص على مغايرته للاعمال السابقة
0 - فأولئك إشارة إلى الموصول والجمع باعتبار معناه كما أن الافراد في الافعال الثلاثة باعتبار لفظه أي فأولئك الموصوفون بالتوبة والايمان والعمل الصالح
يبدل الله في الدنيا سيئاتهم حسنات بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم كما يشير إلى ذلك كلام كثير من السلف وقيل : المراد بالسيئات والحسنات ملكتهما لأنفسهما أي يبدل عز و جل بملكة السيئات ودواعيها في النفس ملكة الحسنات بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية وقيل : هذا التبديل في الآخرة والمراد بالسيئات والحسنات العقاب والثواب مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب والمعنى يعفو جل وعلا عن عقابهم ويتفضل سبحانه عليهم بدله بالثواب وإلى هذا ذهب القفال والقاضي وعن سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون ومكحول أن ذلك بأن تمحى السيئات نفسها يوم القيامة من صحيفة أعمالهم ويكتب بدلها الحسنات واحتجوا بالحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أبي ذر قال : ثال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وينحى عنه كبارها فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذاوهو يقر ولا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول : إن لي ذنوبا لم أرها هنا قال : ولقد رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ونحو هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه الصلاة و السلام ليأتين ناس يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئأت قيل : من هم قال صلى الله تعالى عليه وسلم الذين يبدل الله تعالى سيئاتهم حسنات ويسمى هذا التبديل كرم العفو وكأنه لذلك قال أبو نواس : تعض ندامة كفيك مما تركت مخافة الذنب السرورا ولعل المراد أنه تغفر سيئاته ويعطى بدل كل سيئة ما يصلح أن يكون ثواب حسنة تفضلا منه عز و جل وتكرما لا أنه يكتب له أفعال حسناته لم يفعلها ويثاب عليها وفي الكلام أبي العالية ما هو ظاهر في إنكار تمني الاستكثار من السيئات فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قيل له إن أناسا يزعمون أنهم يتمنون أن يستكثروا من الذنوب فقال : ولم ذلك فقيل : يتأولون هذه الآية فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان أبو العالية إذا أخبر بما لايعلم قال : آمنت بما أنزل الله تعالى من كتابه فقال ذلك ثم تلا هذ الآية يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا وكأنه ظن أن ما تلاه مناف لما زعموه من التمني ويمكن أن يقال : إن ما دلت عليه تلك الآية يكون قبل الوقوف على التبديل والله تعالى أعلم
وكان الله غفورا رحيما
7
- اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ومن تاب أي عن المعاصي التي فعلها بتركها بالكلية والندم عليها وعمل صالحا يتلافى به ما فرط منه أو ومن خرج عن جنس المعاصي وإن لم يفعله ودخل في الطاعات فانه يتوب إلى الله أي يرجع اليه سبحانه بذلك متبا
17
- أي رجوعا عظيم الشأن مرضيا عنده تعالى ما حيا للعقاب محصلا للثواب أو فانه يتوب إلى الله تعالى
(19/50)

تعالى ذي اللطف الواسع الذي يحب التائبين ويصطنع اليهم أو فانه يرجع الى الله تعالى أو إلى ثوابه سبحانه مرجعا حسنا وأيا ماكان فاشرط والجزاء متغايران وهذا لبيان حال من تاب من جميع المعاصي وما تقدم لبيان من تاب من أمهاتها فهو تعميم بعد تخصيص والذي لايشهدون الزور أي لايقيمون الشهادة الكاذبة كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه والباقر رضي الله تعالى عنه فهو من الشهادة الزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي شهادة الزور أو بالزور ويفهم من كلام قتادة أن الشهادة هنا بمعنى يعم ماهو المعروف منها أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه قال : أي لايساعدون أهل الباطل على باطلهم ولا يؤملونهم فيه
وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد بالزور الغناء وروي نحوه عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه وضم الحسن اليه النياحة وعن قتادة أنه الكذب وعن عكرمة أنه لعب كان في الجاهلية وعن ابن عباس أنه صنم كانوا يلعبون حوله سبعة أيام وفي رواية أخرى عنه أنه عيد المشركين وروي ذلك عن الضحاك وعن هذا أنه الشرك فيشهدون على هذه الأقوال من الشهود بمعنى الحضور و الزور مفعول به بتقدير مضاف أي محال الزور وجوز أن يراد بالزور ما يعم كل شيء باطل مائل عن جهة الحق من الشرك والكذب والغناء والنياحة ونحوها فكأنه قيل : لايشهدون مجالس الباطل لما في ذلك من الاشعار بالرضا به وأيضا من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإذا مروا على طريق الاتفاق باللغو بما ينبغي أن يلغي ويطرح مما لا خير فيه مروا كراما
27
- أي مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه معرضين عنه
وفسر الحسن اللغو كما أخرج عنه ابن أبي حاتم بالمعاصي وأخرج هو وابن عساكر عن ابراهيم بن ميسرة قال : بلغني أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مر بلهو معرضا ولم يقف فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ثم تلا إبراهيم وإذا مروا باللغو مروا كراما
وقيل : المراد باللغو الكلام الباطل المؤذي لهم أو ما يعمه والفعل المؤذي وبالكرم العفو والصفح عمن آذاهم واليه يشير ما أخرجه جماعة عن مجاهد أنه قال في الآية : إذا أوذوا صفحوا وجعل الكلام على هذا بتقدير مضاف أي إذا مروا بأهل اللغو أعرضوا عنهم كما قيل : ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لايعنيني ولايخفى أنه ليس بلازم وقيل : اللغو القول المستهجن والمراد بمرورهم عليه إتيانهم على ذكره وبكرمهم الكف عنه والعدول إلى الكناية واليه يوميء ما أخرجه جماعة عن مجاهد أيضا أنه قال : فيها كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كنو عنه وعمم بعضهم وجعل ما ذكر من باب التمثيل وجوز أن يراد باللغو الزور بالمعنى العام أعني الأمر الباطل عبر عنه تارة بالزور لميله عن جهة الحق وتارة باللغو لأنه من شأنه أن يلغى ويطرح ففي الكلام وضع المظهر موضع المضمر والمعنى والذين لايحضرون الباطل ؤإذا مروا به على طريق الاتفاق أعرضوا عنه والذين إذا ذكروا بآيات ربهم القرآنية المنطوية على المواعظ والأحكام
(19/51)

لم يخروا عليها صما وعميانا
37
- أي أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية فالنفي متوجه الى القيد على ما هو الأكثر في لسان العرب وفي التعبير بما ذكر دون أكبوا عليها سامعين مبصرين ونحو تعريض لما عليه الكفرة والنافقون إذا ذكروا بآيات ربهم والخرور السقوط على غير نظام وترتيب وفي التعبير به مبالغة في تأثير التذكير بهم وقيل : ضمير عليها للمعاصي المدلول عليها باللغو والمعنى إذا ذكروا بآيات ربهم المتضمنة للنهي عن المعاصي والتخويف لمرتكبها لم يفعلوها ولم يكونوا كمن لايسمع ولا يبصر وهو كما ترى
والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين بتوفيقهم للطاعة كما روي عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد فان المؤمن الصادق إدا رأى أهله قد شاركوه في الطاعة قرت به عينه وسر قلبه وتوقع نفعهم له في الدنيا حيا وميتا ولحوقهم به في الأخرى وذكر أنه كان في أول الاسلام يهتدي الأب والأبن كافر والزوج والزوجة كافرة فلا يطيب عيش ذلك المهتدي فكان يدعو بما ذكر وعن ابن عباس قرة عين الوالد بولده أن يراه يكتب الفقه ومن ابتدائية متعلقة بهب أي هب لنا من جهتهم
وجوز أن يكون بيانية كأنه قيل : هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله سبحانه : من أزواجنا وذرياتنا وهذا مبني على مجيء من للبيان وجواز تقدم المبين على المبين وقرة العين كناية عن السرور والفرح وهو مأخوذ من القر وهو البرد لأن دمعة السرور باردة ولذا يقال في ضده : أسخن الله تعالى عينه وعليه قول أبي تمام : فأما عيون العاشقين فاسخنت وأما عيون الشامتين فقرت وقيل : هو مأخوذ من القرار لأن ما يسر يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره وقيل : في الضد أسخن الله تعالى عينه على معنى جعله خائفا مترقبا ما يحزنه ينظر يمينا وشمالا واماما ووراء لايدري من أين يأتيه ذلك بحيث تسخن عينه لمزيد الحركة التي تورث السخونة وفي تكلف وقيل : أعين بالتنكير مع أن المراد بها أعين القائلين وهي معينة لقصد تنكير المضاف للتعظيم وهو لايكون بدون تنكير المضاف اليه وجمع القلة على ما قال الزمخشري لأن أعين المتقين قليلة بالاضافة إلى عيون غيرهم
وتعقبه أبو حيان وابن المنير بأن المتقين وإن كانوا قليلا بالاضافة إلى غيرهم إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالاضافة إلى غيره وأحيب بأن المراد أنه استعمل الجمع المذكور في معنى القلة مجردا عن العدد بقرينة كثرة القائلين وعيونهم واستظهر ابن المنير أن ذلك لأن المحكي كلام كل واحد من المتقين فكأنه قيل : يقول كل واحد منهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين فتدبر وتأمل في وجه اختيار هذا الجمع في غير هذا الموضع مما لايتأتى في ما ذكروه ههنا
وأنا أظن أنه اختير الأعين جمعا للعين الباصرة والعيون جمعا للعين الجارية في جميع القرآن الكريم ويخطر لي في وجه ذلك شيء لا أظنه وجيها ولعلك تفوز بما يغنيك عن ذكره والله تعالى ولي التوفيق وقرأ طلحة وأبو عمرو وأهل الكوفة غير حفص وذريتنا على الافراد
وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وابو هريرة قرات على الجمع واجعلنا للمتقين إماما
47
- أي اجعلنا
(19/52)

بحيث يقتدون بنا في اقامة مراسم الدين بافاضة العلم والتوفيق للعمل واما يستعمل مفردا وجمعا كهجان والمراد به هنا الجمع ليطابق المفعول الأول لجعل واختير على أئمة لأنه أوفق بالفواصل السابقة واللاحقة وقيل هو مفرد وأفرد مع لزوم المطابقةلأنه اسم جنس فيججوز اطلاقه على معنى الجمع مجازا بتجريده من قيد الوحدة أو لأنه في الأصل مصدر وهو لكونه موضوعا للماهية شامل للقليل والكثير وضعا فاذا نقل لغيره قد يراعي أصله ولأن المراد واجعل كل واحد منا أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم
وفي ارشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر أن مدار التوجيه على أن هذا الدعاء صدر عن الكل على طريق المعية وهو غير واقع أو عن كل واحد وهو غير ثابت فاظاهر أنه مصدر عن كل واحد قول واجعلني للمتقين إماما فعبر عنهم للايجاز بصيغة الجمع وأبقي إماما على حاله
وتعقب بأن فيه تكلفا وتعسفا مع مخالفته للعربية وأنه ليس مداره على ذلك بل أنهم شركوا في الحكاية في لفظ واحد لاتحاد ما صدر عنهم مع أنه يجوز اختيار الثاني لأن التشريك في الدعاء أدعى للاجابة فاعرف ولا تغفل
وروي عن مجاهد أن إماما جمع آم بمعنى قاصد كصيام جمع صائم والمعنى اجعلنا قاصدين للمتقين مقتدين بهم وماذكر أولا أقرب كما لايخفى وليس في ذلك كما قال النخعي : طلب للرياسة بل مجرد كونهم قدوة في الدين وعلماء عاملين وقيل : في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين مما ينبغي أن يطلب وإعادة الموصول في المواقع السبعة مع كفاية ذكر الصلاة بطريق العطف على صلة الموصول الأول للايذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حياله له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما عرفته فيما سبق غير مرة اولئك إشارة إلى المتصفين بما فصل في حيز الصلات من حيث اتصافهم به وفيه دلالة على أنهم متميزين منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : يجزون الغرفة والجملة على الأقرب استئناف لامحل لها من الاعراب مبينة لما لهم في الآخرة من السعادة الأبدية إثر بيان مالهم في الدنيا من الأعمال السنية و الغرفة الدرجة العالية من المنازل وكل بناء مرتفع عال وقد فسرت هنا على ماروي عن ابن عباس ببيوت من زبرجد ودر وياقوت
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال فيها بيوت من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم وقيل أعلى منازل الجنة ولا يأباه الخبر الجواز أن تكون الغرف الموصوفة فيه هناك وروي عن الضحاك أنها الجنة وقيل : السماء السابعة وعلى تفسيرها بجمع ويويده قوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون وقريء فيه في الغرفة يكون المراد بها الجنس وهو يطلق على الجمع كما سمعت آنفا وإيثار الجمع هنالك على ما قال الطيبي لأنها رتبت على الايمان والعمل الصالح ولا خفاء في تفاوت الناس فيهما وعلى ذلك تتفاوت الأجزية وههنا رتب على مجموع الأوصاف الكاملة فلذا جيء بالواحد دلالة على أن الغرف لاتتفاوت بما صبروا أي بسبب صبرهم على أن الباء للسببية وما مصدرية وقيل : هي للبدل كما في قوله :
(19/53)

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الأغارة فرسانا وركبانا أي بدل صبرهم ولم يذكر متعلق الصبر ليعم ما سلف من عبادتهم فعلا وتركا وغيره من أنواع العبادة والكل مدمج فيه فانه إما عن المعاصي وإما على الطاعات وإما على الله تبارك وتعالى وهو أعلى منهما ويعلم من ذلك وجه إيثار صبروا على فعلوا ويلقون فيها تحية وسلاما
57
- أي تحييهم الملائكة عليهم السلام ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة عن الآفات أو يحيي بعضهم بعضا ويدعوا له بذلك والمراد من الدعاء به التكريم وإلقاء السرور والمؤانسة وإلا فهو متحقق لهم ويعطون التبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة فليس هناك دعاء أصلا
وقرأ طلحة ومحمد اليماني وأهل الكوفة غير حفص يلقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف خالدين فيها لايموتون ولا يخرجون وهو حال من ضمير يجزون أو من ضمير يلقون
حسنت مستقرا ومقاما
67
- مقابل ساءت مستقرا معنى ومثله إعرابا فتذكر ولا تغفل قل أمر لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يبين للناس أن الفائزين بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها يعتد بهم أصلا أي قل للناس مشافها لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر ما يعبؤ بكم ربي أي أي عبء يعبأ بكم وأي اعتداد يعتد بكم لولا دعاؤكم أي عبادتكم له عز و جل حسبما مر تفصيله فان ما خلق له الانسان معرفة الله تعالى وطاعته جل وعلا وإلا فهو والبهائم سواء فما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي محل النصب وهي عبارة عن المصدر وأصل العبء الثقل وحقيقة قولهم : ما عبأت به ما اعتددت له من فوادح همي ومما يكون عبأ علي كما تقول : ما أكترثت له أي ما أعددت له من كوارثي ومما يهمني
وقال الزجاج : معناه أي وزن يكون لكم عنده تعالى لولا عبادتكم ويجوز أن تكون ما نافية أي ليس يعبأ وأيا ما كان فجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لولا دعاؤكم لما أعتد بكم ودا بيان لحال المؤمنين من المخاطبين
وقوله سبحانه فقد كذبتم بيان لحال الكفرة منهم والمعنى إدا أعلمتكم أن حكمي أنى لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم حكمي ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين فالفاء مثلها في قوله : فقد جئنا خراسانا والتكذيب مستعار للمخالفة وقيل : المراد فقد قصرتم في العبادة على أنه من قولهم : كذب القتال إذا لم يبالغ فيه والأول أولى وإن قيل : إن المراد من التقصير في العبادة تركها وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير فقد كذب الكافرون وهو على معنى كذب الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين على ما أشرنا اليه وهو الذي اختاره الزمخشري واستحسنه صاحب الكشف واختار غير واحد أنه خطاب لكفرة قريش والمعنى عليه عند بعض ما يعبأ بكم لولا عبادتكم له سبحانه أي لولا إرادته تعالى التشريعية لعبادتكم له تعالى لما عبأ بكم ولا خلقكم وفيه معنى من قوله تعالى ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون وقيل : المعنى ما يعبأ بكم لولا دعاؤه سبحانه إياكم إلى التوحيد على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أي لولا إرادة ذلك
وقيل المعنى ما يبالي سبحانه بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه آلهة أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما
(19/54)

قال تعالى ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وقيل : المعنى ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه تعالى وتضرعكم اليه في الشدائد كما قال تعالى وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وقال سبحانه فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون وقيل : المعنى ما خلقكم سبحانه وله اليكم حاجة إلا أن تسألوه ليعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم وروي هذا عن الوليد بن الوليد رضي الله تعالى عنه
وأنت تعلم أن ما آثره الزمخشري لاينافي كون الخطاب لقريش من حيث المعنى فقد خصص بهم في قوله تعالى فقد كذبتم فسوف يكون لزاما
77
- أي جزاء التكذيب أو أثره لازما يحيق بكم حتى يكبكم في النار كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها فضمير يكون لمصدر الفعل المتقدم بتقدير مضاف أو على التجوز وإنما لم يصرح بذلك للايذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لايكتنهه البيان
وقيل الضمير للعذاب وقد صرح به من قرأ يكون العذاب لزاما وصح عن ابن مسعود أن اللزام قتل يوم بدر وروي عن أبي ومجاهد وقتادة وأبي مالك ولعل اطلاقه على ذلك لأنه لزوم فيه بين القتلى لزاما
وقرأ ابن جريج تكون بتاء التأنيث على معنى تكون العاقبة وقرأ المنهال وابان بن ثعلب وأبو السمال لزاما بفتح اللام مصدر لزم يقال : لزم لزوما ولزاما كثبت ثبوتا وثباتا ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدرا معدولا عن اللزمة كفجار المعدول عن الفجرة والله تعالى أعلم هذا
ومن باب الاشارة قيل في قوله تعالى وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق إشارة قصور حال المنكرين على أولياء الله تعالى حيث شاركوهم في لوازم البشرية من الأكل والشرب ونحوهما وقالوا في قوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ان وجد فتنته النظر اليه نفسه والغفلة فيه عن ربه سبحانه ويشعر هذا بأن كل ما سوى الله تعالى فتنة من هذه الحيثية
وقال ابن عطاء في قوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا اطلعناهم على أعمالهم فطالعوها بعين الرضا فسقطوا من أعيننا بذلك وجعلنا أعمالهم هباء منثورا وهذه الآية وان كانت في وصف الكفار لكن في الحديث أن في المؤمنين من يجعل عمله هباء كما تضمنته فقد أخرج أبو نعيم في الحلية والخطيب في المتفق والمفترق عن سالم مولى أبي حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليجاءن يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار قال سالم : بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم قال : كانوا يصومون ويصلون ويأخذؤن هنئة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فادحض الله تعالى أعمالهم وذكر في قوله تعالى ويوم يعض الظالم الآية أن حكمه عام في كل متحابين على معصية الله تعالى
وعن مالك بن دينار نقل الاحجار مع الابرار خير من أكل الخبيص مع الفجار وفي قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين أنه يلزم من هذا مع قولهم كل ولي على قدم نبي أن يكون لكل ولي عدو يتظاهر بعداوته وفيه إشارة إلى سوء حال من يفعل ذلك مع أولياء الله تعالى ولذا قيل : إن عداوتهم علامة سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى وفي قوله تعالى الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم إشارة إلى أنهم كانوا متوجهين إلى جهة الطبيعة ولذا حشروا منكوسين وفي قوله تعالى أرأيت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون
(19/55)

عليه وكيلا إنه عام في كل من مال الى هوى نفسه واتبعه فيما توجه اليه ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى أنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا اليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فامعن النظر فاذا هي ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها وقيل في قوله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ألآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام ولو شاء لجعله ساكنا في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد وفي قوله تعالى : ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا إشارة إلى أن كل مركب فانه سينحل إلى بسائطه إدا حصل كماله الأخير وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه اليه عز و جل وفي قوله ثم جعلنا إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وهذه مرتبة الصديقين
وقوله سبحانه ثم قبضناه كقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وألا إلى الله تصير الأمور وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائما لايزول وإنما يستدل على الذهول بالعرفان وفي قوله تعالى ثم قبضناه إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف وهو الذي جعل لكم الليل لباسا تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات والنوم سباتا راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات وجعل النهار نشورا تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم وهو الذي أرسل الرياح أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب بشرا بين يدي رحمته من التجليات والكشوف وأنزلنا من سماء الكرم ماء حياة العرفان لنحيي به بلدة ميتا أي قلوبا ميتة ونسقيه مما خلقنا أنعاما وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات : وأناسي كثيرا وهم الذين سكنوا إلى رياض الانس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الانسانية إلى المشارب الروحانية ولقد صرفناه أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم ليذكروا به موطنهم الأصلي فأبى أكثر الناس إلا كفورا بنعمة القرءان وما عرفوا قدرها وهو الذي مرج البحرين بحر الروح وبحر النفس هذا وهو بحر الروح عذب فرات من الصفات الحميدة الربانية وهذاوهو بحر النفس ملح أجاج من الصفات الذميمة الحيوانية وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة وذكر أن البرزخ هو القلب وقال ابن عطاء : تلاطمت صفتان فتلاقتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الاقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب وقيل : البحر العذب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لاحرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك
(19/56)

صارت مورد الخواص والعوام والبحر الملح إشارة إلى بحر الحقيقة وملوحته لما أن الحقيقة صعبة المسالك لايكاد يدرك ما فيها عقل السالك والبرزخ إشارة إلى الطريقة فانها ليست بسهلة كالشريعة ولا صعبة كالحقيقة بل بين بين تبارك الذي جعل في السماء بروجا قيل : هو إشارة إلى أنه سبحانه جعل في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي إثنا عشر التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والاخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منارل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة ورهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا بغير فخر ولا خيلاء لما شاهدوا من كبرياء الله تعالى وجلاله جل شأنه
وذكر بعضهم أن هؤلاء العباد يعاملون الأرض معاملة الحيوان لا الجماد ولذا يمشون عليها هونا وإذا خاطبهم الجاهلون وهم أبناء الدنيا قالوا سلاما أي سلامة من الله تعالى من شركم أو إذا خاطبهم كل ما سوى الله تعالى من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم وتعرض لهم ليشغلهم عما هم فيه قالوا سلاما سلام متاركة وتوديع والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما لما علموا أن الصلاة معراج المؤمن والليل وقت اجتماع المحب بالحبيب نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني اليك المضاجع أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامع والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إشارة إلى مزيد خوفهم من القطيعة والبعد عن محبوبهم وذلك ما عنوه بعذاب جهنم لا العذاب المعروف فان المحب الصادق يستعذبه مع الوصال ألا تسمع ما قيل : فليت سليمى في المنام ضجيعتي في جنة الفردوس أو في جهنم والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقروا إشارة الى أن فيوضاتهم حسب قابلية المفاض عليه لايسرفون فيها بأن يفيضوا فوق الحاجة ولا يقترن بأن يفيضوا دون الحاجة أو إلى أنهم إذا أنفقوا وجودهم في ذات الله تعالى وصفاته جل شأنه لم يبالغوا في الرياضة الى حد تلف البدن ولم يقتروا في بذل الوجود بالركون الى الشهوات والذين لايدعون مع الله إلها آخر برفع حوائجهم إلى الأغيار ولايقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق أي الا بسطوة تجلياته تعالى ولايزنون بالتصرف في عجوز الدنيا ولا ينالون منها شيئا إلا باذنه تعالى والذين لايشهدون الزور لايحضرون مجالس الباطل من الأقوال والأفعال وإذا رموا باللغو وهو مالايقربهم الى محبوبهم مروا كراما معرضين عنه والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا بل أقبلوا عليها بالسمع والطاعة مشاهدين بعيون قلوبهم أنوار ما ذكروا به من كلام ربهم والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا من ازدوج معنا وصحبنا وذرياتنا الذي أخذوا عنا قرة أعين بأن يوفقوا للعمل الصالح واجعلنا للمتقين إماما وهم الفائزون بالفناء والبقاء الأتمين اولئك يجزون الغرفة وهو مقام العندية بما صبروا في الداية على تكاليف الشريعة وفي الوسط على التأدب بآداب الطريقة وفي النهاية على ما تقتضيه الحقيقة ويلقون
(19/57)

فيها تحية هي أنس الأسرار بالحي القيوم وسلاما وهو سلامة القلوب من خطور القطيعة خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما لأنها مشهد الحق ومحل رضا المحبوب المطلق نسأل الله تعالى أن يمن علينا برضائه ويمنحنا بسرابغ نعمائه وآلائه بحرمة سيد أنبيائه وأحب أحبائه صلى الله عليه و سلم وشرف قدره وعظم
سورة الشعراء
62 - وفي تفسير الامام مالك تسميتها بسورة الجامعة وقد جاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس وعبد لاله ابن الزبير رضي الله تعالى عنهم اطلاق القول بمكيتها وأخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة والشعراء يتبعهم الغاوون الى أخرها وروي ذلك عن عطاء وقتادة وقال مقاتل : ألم يكن لهم آية الأية مدنية أيضا قال الطبرسي : وعدة آياتها مائتان وسبع وعشرون آية في الكوفي والشامي والمدني الأول ومائتان وست وعشرون في الباقي
ووجه اتصالها بما قبلها اشتمالها على بسط وتفصيل لبعض ما ذكر فيما قبل وفيها أيضا من تسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيها وقد افتتحت كلتا السورتين بما يفيد مدح القرآن الكريم وختمتا بايعاد المكذبين به كما لايخفى
بسم الله الرحمن الرحيم طسم
1
- تقدم الكلام في أمثاله اعرابا وغيره والكلام هنا كالكلام هناك بيد أنه أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في هذا الطاء من ذي الطول والسين من القدوس والميم من الرحمن وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي وأبو بكر وقرأ نافع كما روي عنه أبو علي الفارسي في الحجة بين بين ولم يمل صرفا لأن الألف منقلبة عن ياء فلو أميلت اليها انتقض غرض القلب وهو التخفيف
وروى بعض عنه أنه قرأ كباقي السبعة من غير أمالة أصلا نظرا الى أن الطاء حرف استعلاء يمنع من الامالة وقرأ حمزة باظهار نون سين لأنه في الأصل لكونه أحد أسماء الحروف المقطعة منفصل عما بعده وأدغمها الباقون لما رأوها متصلة في حكم كلمة واحدة خصوصا على القول بالعلمية وقرأ عيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي القصص وجاء كذلك عن نافع وفي مصحف عبدالله ط س م من غير أتصال وهي قراءة أبي جعفر تلك آيات الكتاب المبين
2
- إشارة الى السورة وما في ذلك من من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلة المشار اليه في الفخامة والمراد بالكتاب القرآن وبالمبين الظاهر إعجازه على أنه من أبان بمعنى بان والكلام على تقدير مضاف أو على أن الاسناد فيه مجازي وجوز أن يكون المبين من أبان المتعدي ومفعوله محذوف أي الاحكام الشرعية أو الحق والاول أنسب بالمقام والمعنى هذه الآيات مخصوصة من القرآن مترجمة باسم مستقل والمراد ببيان كونها بعضا منه وصفها بما اشتهر به الكل من النعوت الجليلة وقيل : الاشارة إلى القرآن والتأنيث لرعاية الخبر والمراد بالكتاب السورة والمعنى ءايت هذا القرءان المؤلف من الحروف المبسوطة كآيات هذه السورة المتحدى بها فانتم عجزتم عن الاتيان بمثل هذه السورة فحكم تلك الآيات كذلك وهو كما ترى ومن الناس من فسر الكتاب المبين باللوح المحفوظ ووصفه بالمبين لاظهاره أحوال الأشياء للملائكة عليهم السلام والأولى ما سمعته أولا لعلك باخع نفسك أي قاتل إياها من شدة الوجد كما قال الليث وأنشد قول الفرزدق :
(19/58)

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر وقال الأخفش والفراء يقال بخع يبخع بخعا أي أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك وقال الكسائي : بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة قال الزمخشري وتبعه المطرزي : اصل البخع أن تبلغ بالذبح البخاع بكسر الباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح ولم يطلع على ذلك ابن الأثير مع مزيد بحثه ولا ضير في ذلك
وقرأ زيد بن علي وقتادة رحمهم الله تعالى باخع نفسك بالاضافة على خلاف الأصل فان الأصل في أسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل أن يعمل على ما أشار اليه سيبويه في الكتاب وقال الكسائي : العمل والاضافة سواء وذهب أبو حيان إلى أن الاضافة أحسن من العمل ولعل في مثل هذا الموضع لاشفاق المتكلم ولما استحال في حقه سبحانه جعلوه متوجها إلى المخاطب ولما كان غير واقع منه أيضا قالوا المراد الأمر به لدلالة الانكار المستفاد من سوق الكلام عليه فكأنه قيل : أشفق على نفسك أو تقتلها وجدا وحسرة على ما فاتك من اسلام قومك وقال العسكري : هي في مثل هذا الموضع موضوعة موضع النهي والمعنى لاتبخع نفسك وقيل : وضعت موضع الاستفهام والتقدير هل أنت باخع وحكى مثله عن ابن عطية إلا أنه قال : المراد الانكار أي لاتكن باخعا نفسك ألا يكونوا مؤمنين
3
- تعليل للبخع ولما لم يصح كون عدم كونهم في المستقبل مؤمنين كما يفيد ظاهر الكلام علة لذلك لعدم المقارنة والعلة ينبغي أن تقارن المعلول قدروا خيفة فقالوا : خيفة أن لايؤمنوا بذلك الكتاب المبين ومن الأجلة من لم يقدر ذلك بناء على أن المراد لاستمرارهم على عدم قبول الايمان بذلك الكتاب لأن كلمة كان للاستمرار وصيغة الاستقبال لتأكيده وأريد استمرار النفي وجوز أن يكون الكون بمعنى الصحة والمعنى لامتناع ايمانهم والقول بأن فعل الكون أتي به لأجل الفاصلة ليس بشيء
وقوله تعالى إن نشأ الخ استئناف لتعليل الأمر باشفاقه على نفسه صلى الله عليه و سلم أو النهي عن البخع ومفعول المشيئة محذوف وهو على المشهور ما دل عليه مضمون الجزاء وجوز أن يكون مدلولا عليه بما قيل أي إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الايمان قاسرة عليه كما نتق الجبل فوق بني إسرائيل وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر
وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه إن يشأ ينزل على الغيبة والضمير له تعالى وفي بعض المصاحف لو شئنا لأنزلنا فظلت أعناقهم لها خاضعين
4
- أي منقادين وهو خبر عن الأعناق وقد أكتسبت التذكير وصفة العقلاء من المضاف اليه فاخبر عنها لذلك بجمع من يعقل كما نقله أبو حيان عن بعض علماء العربية
واختصاص جواز مثل ذلك الشعر كما حكاه السيرافي عن النحويين مما لم يرتضيه المحققون ومنهم أبو العباس وهو ممن خرج الآية على ذلك وجوز أن يكون ذلك لما أنها وصفت بفعل لايكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع كما في قوله تعالى رأيتهم لي ساجدين وأن يكون الكلام على حذف مضاف وقد روعي بعد حذفه أي أصحاب أعناقهم ولا يخفى أن هذا التقدير ركيك مع الاضافة إلى ضميرهم وقال الزمخشري :
(19/59)

أصلأصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الاعناق لبيان موضع الخضوع لأن يتراءى قبل التأمل لظهور الخضوع في العنق بنحو الانحناء أنه هو الخاضع دون صاحبه وترك الجمع بعد الاقحام على ما كان عليه قبل وقال الكسائي : إن خاضعين حال للضمير المجرور لا للاعناق
وتعقبه أبو البقاء فقال : هو بعيد في التحقيقلأن خاضعين يكون جاريا على غير فاعل ظلت فيفتقر إلى إبرار ضمير الفاعل فكان يجب أن يكون خاضعين هم فافهم وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد والأخفش : الاعناق الجماعات يقال : جاءني عنق من الناس أي جماعة والمعنى ظلت جماعتهم أي جملتهم
وقيل : المراد بها الرؤساء والمدمون مجازا كما يقال لهم : رؤوس وصدور فيثبت الحكم لغيرهم بالطريق الأولى وظاهر كلامهم أن إطلاق العنق على الجماعة مطلقا رؤساء أم لا حقيقة وذكر الطيبي عن الاساس أن من المجاز أتاني عنق من الناس للجماعة المتقدمة وجاؤا رسلا رسلا وعنقا عنقا والكلام يأخذ بعضه باعناق بعض ثم قال : يفهم من تقابل رسلا رسلا لقوله : عنقا عنقا أن في إطلاق الاعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة فيكون المعنى فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع متفقين عليه لايخرج أحد منهم عنه
وقرأ عيسى وابن أبي عبلة خاضعة وهي ظاهرة على جميع الاقوال في الاعناق بيد أنه إدا أريد بها ما هو جمع العنق بمعنى الجارحة كان الاسناد اليها مجازيا ولها في القرءتين صلة ظلت أو الوصف والتقديم للفاصلة أو نحو ذلك لا للحصر وظلت عطف على ننزل ولابد من تأويل احد الفعلين بما هو من نوع الآخر لأنه وإن صح عطف الماضي على المضارع إلا أنه هنا غير مناسب فانه لايترتب الماضي على المستقبل بالفاء التعقيبية أو السببية ولا يعقل ذلك والمعقول عكسه وبتأويل أحد الفعلين يدفع ذلك لكن اختار بعضهم تأويل ظلت بتظل وكأن العدول عنه اليه ليؤذن الماضي بسرعة الانفعال وأن نزول اةية لقوة سلطانه وسرعة ترتب ما ذكر عليه كأنه كان واقعا قبله وبعضهم تأويل ننزل بأنزلنا ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الايمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السماع لتعجب منه فتأمل
وقرأ طلحة فتظل بفك الادغام والجرم ضعف الحريري في درة الغواص الفك في مثل ذلك ورجح صاحب الكشف القراءة بانها أبلغ لافادة الماضي ما سمعته ءانفا هذا والظاهر أنه لم يتحقق انزال هذه الآية لأن سنة الله تعالى تكليف الناس بالايمان من دون الجاء نعم إدا قيل : المراد ءاية مذلة لهم كما روي عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك ولعل ما روي عن ابن عباس كما في البحر والكشاف من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة ناظر إلى هذا وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت وهذا قول بتحقق الانزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي الله تعالى عنه ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء والله تعالى أعلم
وقوله تعالى : وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين
5
- بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم كما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيدا لصرف رسول الله
(19/60)

صلى الله تعالى عليه وسلم عن الحرص على اسلامهم ومن الاولى مزيدة لتأكيد العموم وجوز أن تكون تبعيضية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وهو صفة المقدر كما نشير اليه إن شاء الله تعالى والثانية لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر وأيا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به
والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فان الاعراض عما يأتيهم من جنابه جل وعلا على الاطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى لمحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم تذكير وموعظة أو طائفة من القرآن من قبله عز و جل بمقتضى رحمته الواسعة يجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا اعراضا عنه واستمروا على ما كانوا عليه والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم باضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه فقد كذبوا أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا مقارنا للاستهزاء به ولم يكتفوا بالاعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرا وتارة أساطير الأولين وأخرى شعرا
وقال بعض الفضلاء : أي فقدتموا على التكذيب وكان تكذيبهم مع ورود ما يوجب الاقلاع من تكرير اتيان الذكر كتذيبهم أول مرة وللتنبيه على ذلك عبر عنه بما يعبر عن الحارث ويشعر باعتبار مقارنة الاستهزاء حسبما أشير اليه قوله تعالى فسياتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزؤن
6
- لاقتضائه تقدم الاستهزاء وقيل : إن ذاك لدلالة الاعراض والتكذيب على الاستهزاء والمراد بانباء ذلك ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة وكل آت قريب وقيل : من عذاب يوم بدر أو يوم القيامة والأول أولى وعبر عن ذلك بالانباء لكونه مما أنبأ به القرءان العظيم أو لأنهم بمشاهدته يقفون على حقيقة حال القرءان كما يقفون على الاحوال الخافية عنهم باستماع الانباء وفيه تهويل له لأن النبا يطلق على الخبر الخطير الذي له وقع عظيم أي فسيأتيهم لامحالة مصداق ما كانوا يستهزؤن به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها
وقوله تعالى أولم يروا إلى الأرض بيان لاعراضهم عن الآيات التكوينية بعد بيان اعراضهم عن الآيات التنزيلية والهمزة للانكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأصروا على ماهم عليه من الكفر بالله تعالى وتكذيب ما يدعوهم إلى الايمان به عز و جل ولم ينظروا الى عجائب الأرض الزاجرة لهم عن ذلك والداعية إلى الايمان به تعالى وقال أبو السعود بعد جعل الهمزة للانكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام : أي افعلوا ما فعلوا من الاعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا والداعية إلى الاقبال على ما عرضوا عنه انتهى
وهو ظاهر في أن الآية مرتبطة بما قبلها من قوله تعالى وما يأتيهم الخ وهو قريب بحسب اللفظ إلا أن فيه أن النظر إلى عجائب الأرض لايظهر كونه زاجرا عن التكذيب بكون القرءان منزلا من الله عز و جل وداعيا إلى الاقبال اليه وقال ابن كمال : التقدير ألم يتأملوا في عجئب قدرته تعالى ولم ينظروا انتهى
والظاهر أن الآية عليه ابتداء كلام فافهم وقيل : هو بيان لتكذيبهم بالمعاد إثر بيان تكذيبهم بالمبدأ وكفرهم به عز و جل والعطف على مقدر أيضا والتقدير كذبوا بالبعث ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عن التكذيب بذلك والاول أولى واظهر وايا ما كان فالكلام على حذف مضاف كما أشير اليه وجوز أن
(19/61)

يراد من الأرض عجائبها مجازا وقوله تعالى كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم
7
- استئناف مبين لما في الارض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الايمان
وكم خبرية في موضع نصب على المفعولية بما بعدها وهي مفيدة للكثرة وجيء بكل معها لافادة الاحاطة والشمول فيفيد أن كثرة أفراد كل صنف صنف فيكون المعنى انبتنا فيها شيئا كثيرا من كل صنف على أن من تبعيضية أو كثرة الاصناف فيكون المعنى انبتنا فيها شيئا كثيرا هو كل صنف على أن من بيانية وأياما كان فلا تكرار بينهما وقد يقال : المعنى أو لم ينظروا إلى نفس الارض التي هي طبيعة واحدة كيف جعلناها منبتا لنباتات كثيرة مختلفة الطبائع وحينئذ ليس هناك حذف مضاف ولا مجاز ويكون قوله تعالى كم أنبتنا فيها الخ بدل اشتمال بحسب المعنى وهو وجه حسن فافهمه لئلا تظن رجوعه إلى ماتقدم واحتياجه إلى ما احتاج اليه من الحذف أو التجوز والزوج الصنف كما أشرنا اليه وذكر الراغب أن كل ما في العالم زوج من حيث أن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لاينفك بوجه من تركيب والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده ومنه قوله :
حتى يشق الصفوف من كرمه
فانه أراد من كونه مرضيا في شجاعته وهو صفة لزوج أي من كل زوج كثير المنافع وهي تحتمل التخصيص والتوضيح ووجه الأول دلالته على ما يدل عليه غيره في شأن الواجب تعالى وزيادة حيث يدل على النعمة الزاجرة لهم عما هم عليه أيضا ووجه الثاني التنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة كما يؤذن به قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وأياماكان فالظاهر عدم دخول الحيوان في عموم المنبت وذهب بعض إلى دخوله بناء على أن خلقه من الارض إنبات له كما يشير اليه قوله تعالى : والله أنبتكم من الارض نباتا وعن الشعبي التصريح بدخول الانسان فيه فقد روي عنه أنه قال الناس من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار الى النار فبضد ذلك
إن في ذلك أي الانبات أو المنبت لآية عظيمة دالة على ما يجب عليهم بالايمان به من شؤونه عز و جل وما الظف ما قيل في صف النرجس : تأمل في رياض الورد وأنظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك وما كان أكثرهم مؤمنين
8
- قيل : أي وما كان في علم الله تعالى ذلك واعترض بناء على أنه يفهم من السياق العلية بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية وأما وجود الماهية فيما لايزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لايزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي ووقعه تابع له ونقل عن سيبويه إن كان صلة والمعنى وما أكثرهم مؤمنين فالمراد الأخبار عن حالهم في الواقع لافي علم الله تعالى الأزلي وارتضاه شيخ الاسلام وقال هو الأنسب بمقام بيان عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد مع تعاقد موجبات
(19/62)

الايمان من جهته عز و جل وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى فربما يتوهم منها كونهم معذورين فيه بحسب الظاهر ويحتاج حينئذ الى تحقيق عدم العذر بما يخفى على العلماء المتقنين والمعنى على الزيادة وما أكثرهم مؤمنين مع عظم الآية الموجبة للايمان لغاية تماديهم في الكفر والضلالة وانهماكهم في الغي والجهالة ويجوز على قياس ما مر عن بعض الاجلة في قوله تعالى : أن لايكونوا مؤمنين أن يقال : إن كان للاستمرار واعتبر بعد النفي فالمراد استمرار نفي إيمان أكثرهم مع عظم الآية الموجبة لايمانهم وفيه من تقبيح حالهم ما فيه
وهذا المعنى وان تأتي على تقدير اسقاط كان بأن يعتبر الاستمرار الذي تفيده الجملة الأسمية بعد النفي أيضا الا أنه فرق بين الاستمرارين بعد الاعتبار كان قوة وضعفا فتدبر ونسبة عدم الايمان الى أكثرهم لأن منهم من لم يكن كذلك وإن ربك لهو العزيز أي الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء الكفرة الرحيم
9
- أي البالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترؤا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وءامن أو العزيز في انتقامه من الكفرة الرحيم لك بان يقدر من يؤمن بك ان لم يؤمن هؤلاء والتعرض لوصف الربوبية مع الاضافة إلى ضميره صلى الله عليه و سلم من تشريفه عليه الصلاة و السلام والعدة الخفية له صلى الله تعالى عليه وسلم مالايخفى وتقديم العزيز لأن ما قبله أظهر في بيان القدرة أو لأنه أدل على دفع المضار الذي هو أهم من جلب المصالح
وإذ نادى ربك موسى كلام مستأنف مقرر لسوء حالهم ومسل له صلى الله عليه و سلم أيضا لكن بنوع آخر من أنواع التسلية على ما قيل : وإذ منصوب على المفعولية خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة والتقدير عند بعض واذكر في نفسك وقت ندائه تعالى أخاك موسى عليه السلام وما جرى له مع قومه من التكذيب مع ظهور الآيات وسطوع المعجزات لتعلم أن تكذيب الأمم لأنبيائهم ليس بأول قارورة كسرت ولا بأول صحيفة نشرت فيهون عليك الحال وتستريح نفسك مما أنت في من البلبال
وعند شيخ الاسلام واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام زاجرا لهم عما هم عليه من التكذيب وتحذيرا من أن يحيق بهم مثل ما حاق بهم حتى يتضح لديك أنهم في غاية العناد والاصرار لايردعهم أخذ أضرابهم من المكذبين الأشرار ولا يؤثر فيهم الوعظ والانذار وهذا التقدير يناسب صدر القصة الآتية أعني قوله تعالى : وأتل عليهم نبأ ابراهيم والأول يناسب القصص المصدرة بكذبت على ما قيل
والأظهر عندي تقدير وأذكر لقومك لوضوح اقتضاء وأتل عليه له ولا نسلم اقتضاء تلك القصص المصدرة بكذبت تقدير اذكر في نفسك وأمر المناسبة مشترك وإن سلم اختصاصها به فهي لاتقاوم الاقتضاء المذكور نعم الأظهر أن يكون وجه التسلي بما ذكر كونه عليه الصلاة و السلام ليس بدعا من الرسل ولا قومه بدعا من الأقوام في التكذيب مع ظهور الآيات وسطوع المعجزات وقد تضمن الأمر بذكر ذلك لهم الأمر بالتسلي به على أتم وجه فتدبر وأيا ما كان فوجه توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه قد مر مرارا وقيل : إن ذلك المقدر معطوف على مقدر ءاخر أي خذ الآيات أو ترقب اتيان الأنباء واذكر وهو تكلف لاحاجة اليه وقيل : إذ ظرف لقال بعد وليس بذاك ومعنى نادى دعا وقيل :
(19/63)

أمرأمر أن أئت أي بأن ائت على أن مصدرية حذف عنها حرف الجر أو أي ائت على أنها مفسرة
القوم الظالمين
1
- بالكفر والمعاصي واستبعاد بني اسرائيل وذبح أبنائهم وليس هذا مطلع ما ورد في حيز النداء وإنما هو ما فصل في سورة طه من قوله تعالى إني أنا ربك إلى قوله سبحانه لنريك من ءاياتنا الكبرى وسنة القرءان الكريم إيراد ما جرى في قصة واحدة من المقالات بعبارات شتى وأساليب مختلفة لاقتضاء المقام ما يكون فيه من العبارات كما حقق في موضعه
قوم فرعون عطف بيان للقوم الظألمين جيء به للايذان بانهم علم في الظلم كان معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وقال أبو البقاء : بدل منه ورجح أبو حيان الأول بانه اقتضى لحق البلاغة لايذانه بما سمعت ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون أولى بما ذكر وقد خص في بعض المواضع للدلالة على ذلك وجوز أن يقال قوم فرعون شامل له شمول بني آدم آدم عليه السلام ألا يتقون
11
- حال بتقدير القول أي ائتهم قائلا لهم ألا يتقون
وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وشقيق بن سلمة وحماد بن سلمة وأبو قلابة بتاء الخطاب ويجوز في مثل ذلك الخطاب والغيبة فيقال قل لزيد تعطي عمرا كذا ويعطى عمرا كذا وقريء بكسر النون مع الخطاب والغيبة والأصل بتقونني فحذفت إحدى النونين لاجتماع المثلين وحذفت ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة وقول موسى عليه السلام ذلك بطريق النيابة عنه عز و جل نظير ما قوله تعالى وإذا سألك عبادي عني فاني قريب فكأنه قيل : ائتهم قائلا قولي لهم ألا تتقونني وقال الزمخشري هو كلام مستأنف اتبعه عز و جل إرساله اليهم للانذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله عز و جل وقراءة الخطاب على طريقة الالتفات اليهم وجبههم وضرب وجوههم بالانكار والغضب عليهم وإجراء ذلك في تكليم المرسل اليهم في معنى إجرائه بحضرتهم والقائه في مسامعهم لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس فلا يضر كونهم غيبا حقيقة في وقت المناجاة وفيه من يدحث على التقوى لمن تدبر وتأمل انتهى واستئناف عليه قيل بياني بتقدير لم هذا الأمر وقيل : هو نحوي إذ لاحاجة إلى هذا السؤال بعد ذكرهم بعنوان الظلم ودفع بالعناية ولعل ما ذكرناه أسرع تبادرا إلى الفهم
وقال أيضا : يحتمل أن يكون لايتقون حالا من الضمير في الظالمين أي يظلمون غير غير متقين الله تعالى وعقابه عز و جل فادخلت همزة الانكار على الحال دلالة على إنكار عدم التقوى والتوبيخ عليه ليفيد إنكار الظلم من طريق الأولى فان فائدة الاتيان بهذه الحال الاشعار بان عدم التقوى هو الذي جرأهم على الظلم
وتعقبه أبو حيان بانه خطأ فاحش لأن فيه مع الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي لزوم أعمال ما قبل : الهمزة فيما بعدها وأجيب بمنع كون الفاصل أجنبيا وأن يتوسع في الهمزة وهو كما ترى وجوز أيضا في ألا يتقون بالياء التحتية وكسر النون أن يكون بمعنى ألا ياناس اتقون نحو قوله تعالى : ألا يسجدوا فتكون ألا كلمة واحدة للعرض ويا ندائية سقطت الفها لالتقاء الساكنين وحذف المنادى وما بعده فعل أمر ويكون اسقاط الألفين مخالفا للقياس ولا يخفى أنه تخريج بعيد وأن الظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى في جميع القرءات قال استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال موسى عليه السلام فقيل : قال متضرعا الى الله عز و جل
(19/64)

رب اني أخاف أن يكذبون
21
- من أول الأمر ويضيق صدري ولا ينطلق لساني معطوفان على خبر أن فيه عليه السلام ثلاث علل خوف التكذيب وضيق الصدر وامتناع انطلاق اللسان والظأهر ثبوت الأمرين الاخيرين في أنفسهما غير متفرعين على التكذيب ليدخلا تحت الخوف لكن قرأ الأعرج وطلحة وعيسى وزيد بن علي وأبو حيوة وزائدة عن الأعمش ويعقوب بنصب الفعلين عطفا على يكذبون فيفيد دخولهما تحت الخوف ولان الأصل توافق القراءتين قيل انهما متفرعان على ذلك كأنه قيل : رب اني أخاف تكذيبهم اياي ويضيق صدري انفعالا منه ولا ينطلق لساني من سجن اللكنة وقيد العي بانقباض الروح الحيواني الذي تتحرك به العضلات الحاصل عند ضيق الصدر واغتمام القلب والمراد حدوث تلجلج اللسان له عليه السلام بسبب ذلك كما يشاهد في كثير من الفصحاء إذا اشتد غمهم وضاقت صدورهم فان السنتهم تتلجلج حتى لا تكاد تبين مقصود هذا إن قلنا : إن هذا الكلام كان بعد دعائه عليه السلام بحل العقدة واستجابة الله تعالى له بازالتها بالكلية أو المراد ازدياد ما كان فيه عليه السلام إن قلنا : إنه كان قبل الدعاء أو بعده لكن لم تزل العقدة باكلية وإنما انحل منها ما كان يمنع من أن يفقه قوله عليه السلام فصار يفقه قوله مع بقاء يسير لكنة وقال بعضهم : لاحاجة إلى حديث التفرع بل هما داخلان تحت الخوف بالعطف على يكذبون كما في قراءة النصب وذلك بناء على كا جوزه البقاعي من كون أخاف بمعنى أعلم أو أظن فتكون أن مخففة من الثقيلة لوقوعها بعد ما يفيد علما أو ظنا ويلتزم على هذا كون أخاف في قراءة النصب على ظاهره لئلا تأبى ذلك ويدعي اتحاد المآل وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب يضيق ورفع ينطلق والكلام في ذلك يعلم مما ذكر وأيا ما كان فالمراد من ضيق الصدر ضيق القلب وعبر عنه بما ذكر مبالغة ويراد من الغم ثم هذا الكلام منه عليه السلام ليس تشبثا بأذيال العلل واستعفاء عن امتثال أمره عز و جل وتلقيه بالمسع والطاعة بل هو تمهيد عذر في استدعاء عون له على الامتثال واقامة الدعوة على أتم وجه فان ما ذ : ره ربما يوجب اختلال الدعوة وانتباذ الحجة وقد تضمن هذا الاستدعاء قوله تعالى فأرسل إلي هرون
31
- كأنه قال أرسل جبريل عليه السلام إلى هرون واجعله نبيا وآزرني به واشدد به عضدي لان في الارسال اليه عليه السلام حصول هذه الأغراض كلها لكن بسط في سورة القصص واكتفى ههنا بالاصل عما في ضمنه
ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع فارسل معترضا بين الاوائل والرابعة أعني ولهم الخ فاذن بتعلقه بها ولو كان تعللا لآخر وليس أمره بالاتيان مستلزما لما استدعاه عليه السلام وتقدير مفعول أرسل ما أشرنا اليه قد ذهب اليه غير واحد وبعضهم قدر ملكا إذ لا جزم في أنه عليه السلام كان يعلم إد ذاك أن جبريل عليه السلام رسول الله عز و جل الي من يستنبئه سبحانه من البشر وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى إلى هرون وكان هرون بمصر حين بعث الله تعالى موسى نبيا بالشام وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : أقبل موسى عليه السلام إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم في ليلة كانوا يأكلون الطفيشل فنزلت في جانب الدار فجاء هرون عليه السلام فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فاخبرته
(19/65)

أنه ضيف فدعاه فاكل معه فلما قعدا تحدثا فسأله هرون من أنت قال : أنا موسى فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما تعارفا قال له موسى ياهرون انطلق معي إلى فرعون فان الله تعالى قد أرسلنا اليه قال هرون : سمعا وطاعة فقامت أمهم فصاحت وقالت : أنشدكما بالله تعالى أن لاتذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا فانطلقا اليه ليلا الخبر والله تعالى أعلم بصحته ولهم علي ذنب أي تبعة ذنب فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه أو سمي باسمه مجازا بعلاقة السببية والمراد به قتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكزها وقصته مبسوطة في غير موضع وتسميته ذنبا بحسب زعمهم بما ينبيء عنه قوله تعالى لهم فأخاف إن آتيتهم وحدي أن يقتلون
41
- بسبب ذلك ومراده عليه السلام بهذا استدفاع البلية خوف فوات مصلحة الرسالة وانتشار أمرها كما هو اللائق بمقام أولي العزم من الرسل عليهم السلام فانهم يتوقون لذلك كما كان يفعل صلى الله عليه و سلم حتى نزل عليه والله يعصمك من الناس ولعل الحق أن قصد حفظ النفس معه لاينافي مقامهم
وفي الكشاف أنه عليه السلام فرق أن يقتل قبل أداء الرسالة وظاهره أنه وان كان نبيا غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة واليه ذهب بعضهم لاحتمال أنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين مع أن له تعالى نسخ ذلك قبله وقال الطيبي : الأقرب أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون إذا حملهم الله تعالى على أداء الرسالة أنه سبحانه يمكنهم وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت وفيه منع ظاهر وفي الكشف أنه على القولين يصح قول الزمخشري فرق الخ لأن ذلك كان قبل الاستنباء فان النداء كان مقدمته ولا أظنك تقول به وقوله تعالى : قال كلا فاذهبا بآياتنا إجابة له عليه السلام إلى الطلبتين حيث وعده عز و جل دفع بلية الأعداء بردعه عن الخوف وضم اليه أخاه بقوله : اذهبا فكأنه قال له عز و جل : ارتدع عن خوف القتل فانك باعيننا فاذهب أنت وأخوك هرون الذي طلبته وجاء النشر على عكس اللف لاختصاص ما قدم بموسى عليه السلام وظاهر السياق يقتضي عدم حضور هرون ففي الخطاب المذكور تغليب والفعل معطوف على الفعل الذي يدل عليه كلا كما أشرنا اليه وقيل : الفاء فصيحة والمراد بالآيات ما بعثهما الله تعالى به من المعجزات وفيها رمز إلى أنها تدفع ما يخافه وقوله عز و جل : إنا معكم مستمعون
51
- تعليل للردع عن الخوف ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى : إنني معكما أسمع وأرى والخطاب لموسى وهرون ومن يتبعهما من بني اسرائيل فيتضمن الكلام البشارة بالاشارة إلى علو أمرهما وابتاع القوم لهما وذهب سيبويه إلى أنه لهما عليهما السلام ولشرفهما وعظمتهما عند الله تعالى عوملا في الخطاب معاملة الجمع واعترض بأنه ياباه ما بعده وما قبله من ضمير التثنية وقيل : هو لهما عليهما السلام ولفرعون واعتبر لكون الموعود بمحضر منه وإن شئت ضم إلى ذلك قوم فرعون أيضا واعترض بأن المعية العامة أعني المعية العلمية لاتختص بأحد لقوله تعالى : ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم والمعية الخاصة وهي معية الرأفة والنصرة لاتليق بالكافر ولو بطريق التغليب وأجيب بأن خصوص المعية لايلزم أن يكون بما ذكر بل بوجه آخر وهو تخليص أحد المتخاصمين من الآخر بنصرة المحق والانتقام من المبطل وأياماكان فالظرف في موضع الخبر لأن و مستمعون خبر ثان أو الخبر مستمعون والظرف متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره وتقديمه للاهتمام أو
(19/66)

الفاصلة أو الاختصاص بناء على أن يراد بالمعية الاستماع في حقه عز و جل وهو مجاز عن المسع اختير للمبالغة لأن فيه تسليما للادراك وهو مما ينزه الله تعالى عنه سواء كان بحاسة أم لا فسقط ما قيل من أن السمع في الحقيقة إدراك بحاسة فان أريد به مطلق الأدراك فالاستماع مثله فلا حاجة إلى التجوز فيه وإلى التجوز هنا ذهب غير واحد وقال بعضهم : إنا معكم مستمعون جملة استعارة تمثيلية مثل سبحانه حاله عز و جل بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم ليمد أولياءه بظهرهم على اعدائهم مبالغة في الوعد بالاعانة وحينئذ لاتجوز في شيء من مفرداته ولا يكون مستمعون مطلقا عليه تعالى فلا يحتاج إلى جعله بمعنى سامعين إلا أن يقال : إنه في المستعار منه كذلك لأن المقصود السمع دون الاستماع الذي قد لايوصل اليه لكنه كما ترى
وجوز أن يكون إنا معكم فقط تمثيلا لحاله عز و جل في نصره وإمداده بحال من ذكر ويكون الاستماع مجازا عن المسع وهو بحسب ظاهره لكونه لم يطلق عليه سبحانه كالسمع كالقرينة وإن كان مجازا والقرينة في الحقيقة عقلية وهي استحالة حضوره تعالى شأنه في مكان ولابد على هذا من أن يقال : إن الاستماع المذكور في تقرير التمثيل ليس هو الواقع في النظم الكريم بل هو من لوازم حضور الحكم للخصومة وفيه بعد
ثم إن ما ذكروه وإن كان مبنيا على جعل الخطاب لموسى وهرون وفرعون يمكن اجراؤه على جعله لهما عليهما السلام ولم يتبعهما أو لهما فقط أيضا بادنى عناية فافهم ولا تغفل
وزعم بعضهم ان المعية والاستماع على حقيقتهما ولا تمثيل والمارد أن ملائكتنا معكم مستمعون وهو مما لاينبغي أن يستمع ولابد في الكلام على هذا التقدير من إرادة الاعانة والنصرة وإلا فبمجرد معية الملائكة عليهم السلام واستماعهم لايطيب قلب موسى عليه السلام
الفاء في قوله تعالى فأتيا فرعون فقولا إنا رسولا رب العالمين
61
- لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد الكريم وليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معناه الوصول إلى المأتي لا مجرد التوجه إلى المأتي كالذهاب
وافرد الرسول هنا لأنه مصدر بحسب الأصل وصف به كما يوصف بغيره من المصادر للمبالغة كرجل عدل فيجري فيه كما يجري فيه من الأوجه ولا يخفى الأوجه منها وعلى المصدرية ظاهر قول كثير عزة : لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول واظهر منه قول العباس بن مرداس : إلا من مبلغ عني خفافا رسولا بيت أهلك منتهاها أو لاتحادهما للاخوة أو لوحده المرسل أو المرسل به أو لأن قوله تعالى إنا بمعنى إن كلامنا فصح إفراد الخبر كما يصح في ذلك وفائدته الاشارة إلى أن كلا منهما مأمور بتبليغ ذلك ولو منفردا وفي التعبير برب العالمين رد على اللعين ونقض لما كان أبرمه من ادعاء الألوهية وحمل لطيف له على امتثال الأمر و أن في قوله تعالى أن أرسل معنا بني إسرائيل مفسرة لتضمن الارسال المفهوم من الرسول معنى القول وجوز أبو حيان كونهما مصدرية على معنى انا رسوله عز و جل بالأمر بالارسال وهو بمعنى الاطلاق والتسريح كما في قولك : أرسلت الحجر من يدي وأرسل الصقر والمراد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما عليهما
(19/67)

السلامالسلام وكان بنوا إسرائيل قد استعبدوا اربعمائة سنة وكانت عدتهم حين أرسل موسى عليه السلام ستمائة وثلاثين الفا على ما ذكره البغوي
قال أي فرعون لموسى عليه السلام بعد ما أتياه وقالا له ما امرا به ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن ههنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه فأذن له فدخلا فاديا اليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فقال له عند ذلك ألم نربك فينا وليدا وفي خبر آخر أنهما أتيا ليلا فقرع الباب ففزع فرعون وقال : من هذا الذي يضرب بابي هذ الساعة فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقا له موسى : إنا رسول رب العالمين فأتى فرعون وقال : إن ههنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : أدخله فدخل فقال ما قص الله تعالى وأراد اللعين من قوله ألم نربك الخ الامتنان و فينا على تقدير المضاف أي منازلنا والوليد فعيل بمعنى مفعول يقال لمن قرب عهده بالولادة وإن كان على ما قال الراغب : يصح في الاصل لمن قرب عهده أو بعد كما يقال لما قرب عهده بالاجتناء جنى فاذا كبر سقط عنه هذا الاسم وقال بعضهم : كان دلالته على قرب العهد من صيغة المبالغة وكون الولادة لاتفاوت فيها نفسها ولبثت فينا من عمرك سنين
81
- قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام به عشر سنين ثم عاد اليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين وقيل : لبث فيهم اثنتي عشرة سنة ففر بعد أن وكز القبطي إلى مدين فأقام به عشر سنين يرعى غنم شعيب عليه السلام ثم ثماني عشرة سنة بعد بنائه على امرأته بنت شعيب فكمل له أربعون سنة فبعثه الله تعالى وعاد اليهم يدعوهم اليه عز و جل والله تعالى أعلم
وقرأ أبو عمرو في رواية من عمرك باسكان الميم والجار والمجرور في موضع الحال من سنين كما هو المعروف في نعت النكرة إذا قدم وفعلت فعلتك التي فعلت يعني قتل القبطي وبخه به بعد ما أمتن وعظمه عليه بالابهام الذي في الموصول وأراد في ذلك القدح في نبوته عليه السلام وقرأ الشعبي فعلتك بكسر الفاء يريد الهيئة وكانت قتلة بالوكز والفتح في قراءة الجمهور لارادة المرة وأنت من الكافرين
91
- أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي كما روي عن ابن زيد أو وأنت حينئذ من جملة القوم الذين تدعي كفرهم الآن كما حكي عن السدي وهذا الحكم منه بناء على ما عرفه من ظاهر حاله عليه السلام إذ ذاك لاختلاطه بهم والتقية معهم بعدم الانكار عليهم وإلا فالأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكفرة قبل النبوة وبعدها وقيل : كان ذلك افتراء منه عليه عليه السلام واستبعد بانه لو علم بايمانه أولا لسجنه أو قتله والجملة على الاحتمالين في موضع الحال من أحدى التائين في الفعلين السابقين
وجوز أن يكون ذلك حكما مبتدأ عليه عليه السلام بانه من الكافرين بالهيته كما روي عن الحسن أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونهم أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لايكون مثل هذه الجناية بدعا منه فالجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها والأولى عندي ما تقدم من جعل الجملة حالا لتكون مع نظيرتها في الجواب على طرز واحد لتعين الحالية هناك ولما يتضمن كلام اللعين أمرين تصدى عليه
(19/68)

السلام لردهما على سبيل اللف والنشر المشوش فرد أولا ما وبخه به قدحا في نبوته أعني قوله وفعلت فعلتك الخ اعتناء بذلك واهتماما به وذلك بما حكاه سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا قال فعلتها أي تلك الفعلة إذا أي إذ ذاك على ما أثره بعض المحققين سقى الله تعالى ثراه من أن إذا ظرف مقطوع عن الاضافة مؤثرا فيه الفتحة على الكسرة لخفتها وكثرة الدور وأقر عليه السلام بالقتل لثقته بحفظ الله تعالى له وقيد الفعل بما يدفع كونه قادحا في النبوة وهو جملة وأنا من الضلين
2
- أي من الجاهلين وقد جاء كذلك في قراءة ابن عباس وابن مسعود كما نقله أبو حيان في البحر لكنه قال : ويظهر أن ذاك تفسير للضالين لاقراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه و سلم وأراد عليه السلام بذلك على ماروي عن قتادة أنه فعل ذلك جاهلا به غير متعمدا إياه عليه السلام إنما تعمد الوكز للتأديب فادى إلى ما أدى وفي معنى ما ذكر ما روي عن ابن زيد من أن المعنى وأنا من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه وقيل : المعنى فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة بالعواقب على أن الجهل بمعنى الاقدام من غير مبالاة كما فسر بذلك في قوله
الا لايجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وهذا مما يحسن على بعض الاوجه في تقرير الجواب المذكور قيل : إن الضلال ههنا المحبة كما فسر بذلك في قوله تعالى إنك لفي ضلالك القديم وعنى عليه السلام أنه قتل القبطي غيرة لله تعالى حيث كان عليه السلام من المحبين له عز و جل وهو كما ترى ومثله ما قيل أراد من الجاهلين بالشرائع وفسر الضلال بذلك في قوله تعالى ووجدك ضالا فهدى وقال أبو عبيدة : من الناسين وفسر الضلال بالنسيان في قوله تعالى أن تضل احداهما فتذكر أحداهما الأخرى وعليه قيل المراد فعلتها ناسيا حرمتها وقيل : ناسيا أن وكزي ذلك مما يفضي إلى القتل عادة والذي أميل اليه من بين هذه الأقوال ما روي عن قتادة وسيأتي إنشاء الله تعالى في سورة القصص ما يتعلق بهذا المقام
وأخرج أبو عبيدة وابن المنذر وابن جريج عن ابن مسعود أنه قرأ فعلتها إذ انا من الضالين ففرت أي خرجت هاربا منكم لما خفتكم أي حين توقعت مكروها يصيبني منكم ذلك حين قيل له إن الملأ يأتمرونبك ليقتلوك ومن هنا يعلم وجه جمع ضمير الخطاب وقرأ حمزة في رواية لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام حرف جر وما مصدرية أي لخوفي إياكم فوهب لي ربي حكما أي نبوة أو علما وفهما للاشياء على ما هي عليه والاول مروي عن السدي وتأول بعضهم ذلك بأنه أراد علما هو من خواص النبوة فيكون الحكم بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الثاني وقرأ عيسى حكما بضم الكاف وجعلني من المرسلين
12
- اشارة على ظاهر الاول من تفسيري الحكم إلى تفضله تعالى عليه برتبة هي فوق رتبة النبوة أعني رتبة الرسالة ولم يقل فوهب لي ربي حكما ورسالة أو جعلني رسولا اعظاما لأمر الرسالةوتنبيها لفرعون على أن رسالته عليه السلام ليس أمرا مبتدعا بل هو مما جرت به سنة الله تعالى شأنه وحاصل الرد أن ماذ : رت من نسبة القتل إلى مسلم لكنه ليس مما أوبخ به ويقدح في نبوتي لأنه كان قبل النبوة من غير تعمد حيث كان الوكز للتأديب وترتب عليه ذلك ورد ثانيا امتنانه الذي تضمنه قوله : ألم نربك فينا وليدا الخ فقال : وتلك أي التربية المفهومة من قوله : ألم نربك الخ نعمة تمنها أي تنعم بها علي فهو من باب الحذف والايصال وتمن من المنة بمعنى الانعام والمضارع لاستحضار الصورة وجوز أن يكون من المن والمعنى تلك نعمة تعدها علي فليس
(19/69)

هناك حذف وايصال والمصارع قيل على ظاهره من الاستقبال وفيه منع ظأهر أن عبدت بني اسرائيل
22
- أي ذللتهم وأتخذتهم عبيدا يقال : عبدت الرجل وأعبدته إدا اتخذته عبدا قال الشاعر : علام يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ماشاؤا أو عبدان وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة حالية أو مفسرة أو على أنه بدل من تلك أو نعمة أو عطف أو منصوب على أنه بدل من الهاء في تمنها أو مجرور بتقدير الباء السببية أو اللام على أحد القولين في محل ان وما بعدها بعد حذف الجار والقول اةخر أن محله النصب وحاصل الرد إن ما ذ : رت نعمة ظاهرا وهي في الحقيقة نقمة حيث كانت بسبب اذلال قومي وقصدك إياهم بذبح أبنائهم ولولا ذلك لم أحصل بين يديك ولم أكن في مهد تربيتك وقيل : تلك إشارة إلى خصلة شنعاء لايدرى ما هي الا بتفسيرها و أن عبدت عطف بيان لها والمعنى تعبيدك بني اسرائيل نعمة تمنها علي وحاصل الرد انكار ما أمتن به أيضا ويريد حمل الكلام على رد كون ذلك نعمة في الحقيقة قراءة الضحاك وتلك نعمة مالك ان تمنها علي وإلى ذلك ذهب قتادة وكذا الأخفش والفراء إلا أنهما قالا بتقدير همزة الاستفهام للانكار بعد الواو والاصل أو تلك نعمة الخ وأبى بعض النحاة حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع وقال أبو حيان : الظاهر أن هذا الكلام إقرار منه عليه السلام بنعمة فرعون كأنه يقول : وتربيتك إياي نعمة على من حيث أنك عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا لكن لايدفع رسالتي وإلى التأويل ذهب السدي والطبري وليس بذلك
وأيا ما كان فالآية ظاهرة في أن كفر الكافر لايبطل نعمته وذهب بعضهم أن الكفر يبطل النعمة لئلا يجتمع استحقاق المدح واستحقاق الذم وفيه أنه لاضير في ذلك لاختلاف جهتي الاستحقاقين هذا وذهب الزمخشري إلى أن إذا في قوله تعالى فعلتها إذا جواب وجزاء وبين وجه كون الكلام جزاء بقوله : قول وفعلت فعلتك فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى عليه السلام : نعم فعلتها مجازيا لك تسليما لقوله كان نعمته عنده جديرة بان تجازي بنحو ذلك الجزاء
واعترض بأن هذا لايلائم قوله وأنا من الضالين لأنه يدل على أنه اعترف بأنه فعل ذلك جاهلا أو ناسيا وفي الكشف تحقيق ما ذكره الزمخشري أن الترتيب الذي هو معنى الشرط والجزاء حاصل ولما كانا ماضيين كان ذلك تقديريا كأنه قال : إن كان ذلك كفرانا بنعمتك فقد فعلته جزاء ولكن الوصف أي كونه كفرانا غير مسلم وامده بقوله : وتلك نعمة تمنها وفيه القول بالموجب أيضا وقوله : وأنا من الضالين على هذا كأنه اعتذار ثان أي كنت تستحق ذلك عندي وأيضا كنت من الحائدين عن منهج الصواب لافي اعتقاد استحقاق مكافأة صنيعك بمثل تلك ولكن في الاقدام قبل الاذن من الملك العلام والحاصل أنه نسبه إلى مقابلة الاحسان بالاساءة وقررها بكونه كافرا فأجاب عليه السلام بأن المقابلة حاصلة ولكن أين الاحسان وما كنت كافرا بك فانه عين الهدى بل ضالا في الاقدام على الفعل وما كنت كافرا لنعمة منعم أصلا ولكن كنت فاعلا لذلك خطأ ومنه ظهر أن قوله : وأنا من الضالين لاينافي تقرير الزمخشري بل يؤيده اه
(19/70)

ولايخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله : فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالاقدام من غير مبالاة لكن التزام كون إذا هنا للجواب والجزاء التزام ما لايلزم فان الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب وفي البحر أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لايخلو عن تكلف والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الاضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية وهم لم يحيطوا بكل شيء علما إن أبيت هذا فهي للجواب فقط ومن العجب قول ابن عطية : إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله : وكأنها بمعنى حينئذ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل والله تعالى أعلم
قال فرعون مستفهما عن المرسل سبحانه وما رب العالمين
32
- وتحقيق ذلك على ما قال العلامة الطيبي أنه عز و جل لما أمرهما بقوله سبحانه : فاتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين
أن أرسل معنا بني إسرائيل فلابد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين فلما أديت عنده اعترض أولا بقوله : ألم نربك فينا وليدا إلى أخره وثانيا بقوله وما رب العالمين ولذلك جيء بالواو العاطفة وكرر قال للطول فكأنه قال : أأنت رسول وما رب العالمين وقال الزمخشري : إن اللعين لما قال له بوابه : إن ههنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله : وما رب العالمين واعترض بانه نظم مختل لسبق المقاولة بينهم كما أشار اليه هو في سابق كلامه وانتصر له صاحب الكشف فقال : أراد أنه تعالى ذكر مرة فقولا انا رسولا ربك أن أرسل وأخرى فقولا انا رسول رب العالمين والقصة واحدة والمجلس واحد فحمله على أن الثاني ما أداه البواب عن لسانه عليه السلام والأول ما خاطبه به موسى عليه السلام مشافهة وأن اللعين أخذ أولا في الطعن فيه وان مثله ممن قرف برذائل الأخلاق لايرشح لمنصب عال فضلا عما ادعاه وثانيا في السؤال عن شأن من ادعى الرسالة عنه استهزاء ومن هذا تبين أن سبق المقاولة لايدل على اختلال النظم الذي أشار اليه انتهى
وجوز بعضهم وقوع الأمر مرتين وأن فرعون سأل أولا بقوله فمن ربكما يا موسى وسأل ثانيا بقوله وما رب العالمين وقد نص الله تعالى الأول فيما أنزل جل وعلا أولا وهو سورة طه والثاني فيما أنزله سبحانه ثانيا وهو سورة الشعراء فقد روي عن ابن عباس أن سورة طه نزلت ثم الواقعة ثم طسم الشعراء وقال آخر : يحتمل أنهما إنما قالا : إنا رسول رب العالمين والاقتصار في سورة طه على ذكر ربوبيته تعالى الى فرعون لكفايته فيما هو المقصود وعلى القول بوقوع الأمر مرتين قيل : ان فرعون سأل في المرة الأولى بقوله : من ربكما طلبا للوصف المشخص كما يقتضيه ظاهر الجواب خلافا للسكاكي في دعواه أنه سؤال عن الجنس كأنه قال : أبشر هو أم ملك أم جني والجواب من الأسلوب الحكيم وأخرى بما رب العالمين طلبا للماهية والحقيقة انتقالا لما هو أصعب ليتوصل بذلك الى بعض أغراضه الفاسدة حسبما قص الله تعالى بعد و ما يسئل بها عن الحقيقة مطلقا سواء كان المسئول عن حقيقته من أولي العلم أولا فلا يتوهم أن حق الكلام حينئذ أن يقال من رب العالمين حتى يوجه بانه لانكار اللعين له عز و جل عبر بما ولما كان السؤال عن الحقيقة مما لا يليق بجنابه جل وعلا
(19/71)

قال عليه السلام عادلا عن جوابه إلى ذكر صفاته عز و جل على نهج الاسلوب الحكيم اشارة الى تعذر بيان الحقيقة رب السموات والارض وما بينهما والكلام في امتناع معرفة الحقيقة وعدمه قد مر عليك فتذكر ورفع رب على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض وما بينهما منن العناصر والعنصريات إن كنتم موقنين
42
- أي إن كنتم موقنين بالأشياء محققين لها علمتم ذلك أو أن كنتم موقنين بشيء من الاشياء فهذا أولى بالايقان لظهوره وانارة دليله فان هذه الاجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها فلها مبدأ واجب لذاته ثم ذلك المبدأ لابد أن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لايمكن والا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال وجواب ان محذوف كما أشرنا اليه
قال فرعون عند سماع جوابه عليه السلام خوفا من أن يعلق منه في قلوب قومه شيء لمن حوله من أشراف قومه قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كانوا خمسمائة رجل عليهم الاساور وكانت للملوك خاصة ألا تستمعون
52
- جوابه يريد التعجب منه والازراء بقائله وكان ذلك لعدم مطابقته للسؤال حيث يبين في الحقيقة المسؤول عنها وكونه في زعمه نظرا لما عليه قومه من الجهالة غير واضح في نفسه لخفاء العلم بامكان ما ذكر أو حدوثه الذي هو علة الحاجة إلى المبدأ الواجب لذاته عليهم وقد بالغ اللعين في الاشارةإلى عدم الاعتداد بالجواب المذكور حيث أوهم أن مجرد استماعهم له كاف في رده وعدم قبوله وكان موسى عليه السلام لما استشعر ذلك اللعين قال عدولا إلى ما هو أوضح وأقرب اعطاء لمنصب الارشاد حقه حسب الامكان لتعذر الوقوف على الحقيقة كما سمعت : ربكم ورب ءابائكم الأولين
62
- فان الحدوث والافتقار إلى واجب مصور حكيم في المخاطبين وآبائهم الذين ذهبوا وعدموا أظهر والنظر في الانفس أقرب وأوضح من النظر في الآفاق ولما رأى اللعين ذلك وقوي عنده خوف فتنة قومه قال مبالغا في الرد والاشارة إلى عدم الاعتداد بذلك مصرحا بما ينفر قلوبهم عن قائله وقبول ما يجيء به
إن رسولكم الذي ارسل اليكم لمجنون
72
- حيث يسئل عن شيء ويجيب عن شيء آخر وينبه على ما في جوابه ولا ينتبه وسماه رسولا بطريق الاستهزاء وأضافة إلى مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه وأكد ذلك بالوصف وفيه إثارة لغضبهم واستدعاء لانكارهم رسالته بعد سماع الخبر ترفعا بانفسهم عن أن يكونوا أهلا لأن يرسل اليهم مجنون
وقرأ مجاهد والأعرج أرسل على بناء الفاعلأي الذي أرسله ربه اليكم وكأنه عليه السلام لما رأى خشونة رد اللعين وإيماء منه إلا أنه عليه السلام لم يتنبه لما في جوابه الأول من الخفاء عند قومه بل كان عدوله عنه إلى الجواب الثاني لما رماه به عليه اللعنة قال عليه السلام تفسيرا لجوابه الأول وإزالة لخفائه ليعلم أن العدول ليس إلا لظهور ما عدل اليه ووضوحه وقربه إلى الناظر لما رمى به وحاشاه مع الاشارة إلى تعذر بيان الحقيقة أيضا بالاصرار على الجواب بالصفات رب المشرق والمغرب وما بينهما وذلك لأنه لم يكن في الجواب الأول تصريح باستناد حركات السموات وما فيها وتغيرات أحوالها وأوضاعها
(19/72)

وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة الى الله تعالى وفي هذا ارشاد الى ذلك فان ذكر المشرق والمغرب منبيء عن شورق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السموات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لاشك في افتقارها الى محدث قادر عليم حكيم وارتكب عليه السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله إن كنتم تعقلون
82
- أي ان كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو ان كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت اليه فان فيه تلويحا الى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الاحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون
وقرأ عبد الله وأصحابه والاعمش رب المشارق والمغارب على الجمع فيهما ولما سمع اللعين منه عليه السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لايجاري في حلبة المحاورة قال ضاربا صفحا عن المقاولة الى التهديد كما هو ديدن المحجوج العنيد : لئن اتخذت الها غيري لأجعلنك من المسجونين
92
- وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له وفيه أيضا عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له الها في ذلك الوقت وان اتخاذه غيره الها بعد مشكوك وبالغ في الابعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعدل عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضا فان أل في المسجونين للعهد فكأنه قال : لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني وكان عليه اللعنة يطرحهم في هوة عميقة قيل : عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا
هذا وقال بعضهم : السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات وبهذا ينحل اشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق ثم ان العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم ان للعالم ربا هو الله عز و جل أولا فقال بعضهم : كان يعلم ذلك بدليل لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف باصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله : أنا ربكم الأعلى انما كان ارهابا لقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد أن لم يكن ومضى على العالم الوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له الا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام : لما جاءه في مدين لاتخف نجوت من القوم الظالمين
وقال بعضهم : انه كان جاهلا بالله تعالى ومع ذلك لايعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه معتقدا وجوب الوجود بالذات للافلاك وان حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله وكان ربا لهم ولهذا خصص الوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال : ما علمت لكم من اله غيري وأنا ربكم الأعلى وجوز أن يكون
(19/73)

من الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقدا حلوله عز و جل فيه ولذلك سمى نفسه إلها وقيل : كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون الله عز و جل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى : وئدرك وآلهتك وهو وكذا ما قبله بعيد والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف الله عز و جل وأنه سبحانه هو خالق العالم الا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فاظهر لقومه خلاف علمه فاذعن منهم له من كثرة جهله ونزر عقله ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديهيات وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر : ماهذا فقال له : لاترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقدا صدق ذلك الهذيان : سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوقه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيرا من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفا مما يتوهمونه من البلية ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسدا كزعم الحلول ونحوه والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا الله يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق صدق فرعون في قوله : أنا ربكم الأعلى وسؤال اللعين لموسى عليه السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله : ما رب العالمين كان لانكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه وجواب موسى عليه السلام له لم يكن لابطال ما يدعيه ظاهرا وارشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه والتعجب المفهوم من قوله : ألا تستمعون لزعمه ظاهرا أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه ولما داخله من خوف اذعان قومه لما قاله موسى عليه السلام ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله إن رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ولعل أجوبته عليه السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح للا مرجح وبانه يستلزم المربوبية لما في من التغير وبعد هذا القول عندي قول بعضهم : إنه عليه اللعنة كان دهريا إلى آخر ما سمعته آنفا والتعجب لزعمه حقيقة أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة والله تعالى أعلم ولما رأى عليه السلام فظاظة فرعون قال على جهة التلطف به والطمع في إيمانه أولو جئتك بشيء مبين
3
- أي تفعل ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي موضح لصدق دعواي يريد به المعجزة فانها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده والتعبير عنها بشيء للتهويل والواو للعطف على جملة مقابلة للجملة المذكورة ومجموع الجملتين المتعاطفتين في موضع الحال و لو للبيان نحقيق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل مفروض من الأحوال المقارنة له على الاجمال بادخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر تحققه مع ماعداه من الاحوال بطريق الأولوية أي أتفعل في ذلك حال عدم مجيئي به وتصدير المجيء بلو دون إن ليس لبيان
(19/74)

استبعاده في نفسه بل بالنسبة إلى فرعون وجعل بعضهم الواو للحال على معنى أن الجملة التي بعدها حال أي أتفعل في ذلك جائيا بشيء مبين وهو ظاهر كلام الكشاف هنا وظاهر كلام الكشف أن الاستفهام للانكار على معنى لاتقدر على فعل ذلك مع أني نبي بالمعجزة والظاهر تعلق هذا الكلام بالوعيد الصادر من اللعين فذلك في تفسيره إشارة إلى جعله عليه السلام من المسجونين فكأنه قال : أتجعلني من المسجونين إن أتخذت إلها غيرك ولو جئتك بشيء مبين
وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف ثم قال : يمكن أن يقال إن الواو عاطفة وهي تستدعي معطوفا عليه وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي الله تعالى وعدوه والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير والمعنى أتقر بالوحدانية وبرسالتي ان جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة
و لو بمعنى عز بز ويؤيد هذا التأويل ما في الاعراف قد جئتكم ببينة من ربكم فارسل معي بني اسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين انتهى
وهو كما ترى وفيه جعل مبين من أبان اللازم بمعنى بان وجعله من أبان المتعدي وحذف المفعول كما اشرنا اليه أنسب للمقام ولما سمع فرعون هذا الكلام من موسى عليه السلام قال حيث طمع ان يجذ موضع معارضة فأت بها أي بشيء مبين إن كنت من الصادقين
13
- أي فيما يدل عليه كلامك من أنك تأتي بشيء موضح لصدق دعواك أو من الصادقين في دعوى الرسالة من رب العالمين وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي أن كنت من الصادقين فأت به وقدره الزمخشري أتيت به والمشهور تقديره من جنس الدليل
وقال الحوفي : يجوز أن يكون ما تقدم هو الجواب وجاز تقديم الجواب لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا وقد بهت الزمخشري عامله الله تعالى بعدله أهل السنة بما هم برآء كما بينه صاحب الكشف وغيره فارجع اليه إن أردته فألقى موسى بعد أن قال له فرعون ذلك عصاه فاذا هي ثعبان مبين
23
- ظاهر ثعبانيته أي ليس بتمويه وتخييل كما يفعله السحرة والثعبان أعظم ما يكون من الحيات واشتقاقه من ثعب الماء بمعنى جرى جريا متسعا وسمي به لجريه بسرعة من غير رجل كأنه ماء سائل والظاهر أن نفس العصا انقلبت ثعبانا وليس ذلك بمحال إذا كان بسلب الوصف الذي صارت به عصا وخلقه وصف الذي يصير ثعبانا بناء على رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات إنما المحال انقلابها ثعبانا مع كونها عصا لامتناع كون الشيء الواحد في الزمن الواحد عصا وثعبانا وقيل : إن ذلك بخلق الثعبان بدلها وظواهر الآيات تبعد ذلك وقد جاء في الاخبار ما يدل على مزيد عظم هذا الثعبان ولا يعجز الله تعالى شيء وقد مر بيان كيفية الحال
ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين
33
- أي بياضها يجتمع النظارة على النظر اليه لخروجه عن العادة وكان بياضا نورانيا روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : هل لك غيرها فأخرج عليه السلام يدهفقال : ما هذه قال : يدي فأدخلها في ابطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسد الأفق قال الملأ أشراف قومه حوله منصوب لفظا على الظرفية وهو ظرف مستقر وقع حالا أي مستقر من حوله
وجوز أن يكون في موضع الصفة للملأ على حد
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وألاول أسهل وأنسب
(19/75)

ومنومن العجيب ما نقله أبو حيان عن الكوفيين أنهم يجعلون الملأ اسم موصول وحوله متعلق بمحذوف وقع صلة له كأنه قيل : قال للذين استقروا حوله إن هذا لساحر عليم
43
- فائق في علم السحر يريد أن يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها وتوطنتموها بسحره وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له إذ من اصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن لاسيما إذا كان ذلك قسرا وهو السر في نسبة الاخراج والأرض اليهم فماذا تأمرون
53
- أي أي أمر تأمرون فمحل ماذا النصب على المصدرية و تأمرون من الأمر ضد النهي ومفعوله محذوف أي تأمروني وفي جعله عبيده برعمه آمرين له مع ما كان يظهره لهم من دعوى الألوهية والربوبية ما يدل على أن سلطان المعجزة بهره وحيره حتى لايدري أي طرفيه أطول فزل عند ذكر دعوى الألوهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وانحط عن ذروة الفرعنة إلى حضيض المسكنة ولهذا أظهر استشعار الخوف من استيلائه عليه السلام على ملكه
وجوز أن يكون ماذا في محل النصب على المفعولية وأن يكون تأمرون من المؤامرة بمعنى المشاورة لأمر كل بما يقتضيه رايه ولعل ما تقدم أولى
قالوا أرجه وأخاه أي أخر أمرهما إلى أن تأتيك السحرة من أرجأته إذا أخرته ومنه المرجئة وهم الذين يؤخرون العمل لايأتونه ويقولون : لايضر مع الايمان معصية كما لاينفع مع الكفر طاعة
وقرأ أهل المدينة والكسائي وخلف أرجه بكسر الهاء وعاصم وحمزة أرجه بغير همز وسكون الهاء والباقون أرجه بالهمزة وضم الهاء وقال أبو علي : لابد من ضم الهاء مع الهمزة ولا يجوز غيره والأحسن أن لايبلغ بالضم الى الواو ومن قرأ بكسر الهاء فأرجه عنده من أرجيته بالياء دون الهمزة والهمز على ما نقل الطيبي أفصح وقد توصل الهاء المذكورة بياء فيقال : أرجهي كما يقال مررت بهي وذكر الزجاج أن بعض الحذاق بالنحو لايجوز إسكان نحوها أرجه أعني هاء الاضمار ورعم بعض النحويين جواز ذلك واستشهد عليه ببيت مجهول ذكره الطبرسي : وقال هو شعر لايعرف قائله والشاعر يجوز أن يخطيء
وقال بعض الأجلة : الاسكان ضعيف لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف لكنه أجري الوصل مجرى الوقف وقيل : المعنى أحبسه ولعلهم قالوا ذلك لفرط الدهشة أو تجلدا ومداهنة لفرعون وإلا فكيف يمكنه أن يحبسه مع ماشاهده منه من الآيات وابعث في المدائن حاشرين
63
- شرطاء يحشرون السحرة ويجمعونهم عندك يأتوك مجزوم في جواب الأمر أي إن تبعثهم يأتوك بكل سحار كثير العمل بالسحر عليم
73
- فائق في علمه وليكون المهم هنا هو العمل أتوا بما يدل على التفضيل فيه وقرأ الأعمش وعاصم في رواية بكل ساحر عليم فجمع السحرة أي المعهودون على أن التعريف كما في المفتاح عهدي وقال الفاضل المحقق : إن المعهود قد يكون عاما مستغرقا كما هنا ولا منافاة بينهما كما يتوهم وفيه بحث فتأمل
لميقات يوم معلوم
38
- لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة على أن الميقات من صفات الزمان وفي الكشاف هو ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الاحرام وقيل للناس
(19/76)

استبطاء لهم في الاجتماع وحثا على التبادر اليه هل أنتم مجتمعون
93
- في ذلك الميقات فالاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال كما في قول تأبط شرا هل أنت باعث دينار لحاجتنا او عبد رب أخا عون بن مخراق فانه يريد ابعث احدهما الينا سريعا ولا تبطيء به لعلنا نتبع السحرة أي في دينهم إن كانوا هم الغالبين
4
- لاموسى عليه السلام وليس مرادهم بذلك إلا أن لايتبعوا موسى عليه السلام في دينه لكن ساقوا كلامهم مساق الكناية حملا للسحرة على الاهتمام والجد في المغالبة وجوز أن يكون بودهم اتباع السحرة على ما كانوا عليه من الدين ويدعى أنهم كانوا على ما يريد فرعون من الدين
والظأهر أن فرعون غير داخل في القائلين وعلى تقدير دخوله لم يجوز بعضهم إرادة المعنى الحقيقي لهذا الكلام لامتناع اتباع مدعي الالهية السحرة وجوزه أخرون لاحتمال أن يكون قال ذلك لما استولى عليه من الدهشة من أمر موسى عليه السلام كما طلب الأمر ممن حوله لذلك ولعل إتيانهم بان للالهاب وإلا فالأوفق بمقامهم أن يقولوا إذا كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا أي لأجرا عظيما إن كنا نحن الغالبين
14
- لاموسى عليه السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على اسلوب ما وقع في كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم
قال فرعون لهم نعم لكم ذلك وإنكم مع ذلك إذا لمن المقربين
24
- عندي قيل : قال لهم : تكونون أول من يدخل علي وشخر من يخرج عني و إذن عند جمع على ما تقتضيه في المشهور الجواب والجزاء ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين انها هنا مركبة من إذا التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع وقد ذهب إلى ذلك في نظير الآية الكافيجي والقاضي تقي الدين بن رزين وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعنى لها والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم الغالبين لمن المقربين وقريء نعم بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في نعم
قال لهم موسى أي بعد مال له السحرة : إما أن تلقي وإا أن نكون أول من ألقى ألقوا ما أنتم ملقون
34
- لم يرد عليه السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فان السحر حرام وقد يكون كفرا فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الاذن بتقديم ما علم بالهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال ما أنتم ملقون ليتوصل بذلك الى ابطاله
وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فانه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الاذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع وما اشتهر من قولهم : الرضا بالكفر كفر ليس على اطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين فالقوا حبالهم وعصيهم وقالوا أي وقد قالوا عند الالقاء بعزة فرعون أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم أرض عزاز أي صلبة إنا لنحن الغالبون
44
- لاموسى عليه السلام والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة
(19/77)

وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم بعزة فرعون تعظيما له وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية وقد سلك كثير من المسلمين في الايمان ما هو أشنع من أيمانهم لايرضون بالقسم ابلله تعالى وصفاته عز و جل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه فحينئذ يستوثق منه ولهم أشياء يعظمونها ويحلفون بها غير ذلك ولايبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذبا أقل إثما من الحلف بها صدقا وهذا مما عمت به البلوى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم : والأحرى أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول : إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحو ذلك
فالقى موسى عصاه فاذا هي تلقف أي تبتلع بسرعة وأصل التلقف الأخذ بسرعة وقرأ أكثر السبعة تلقف بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار ما يأفكون
54
- أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى فما موصولة حذف عائدها للفاصلة وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف أفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة فألقي السحرة ساجدين
64
- أي خروا ساجدين إثر ما شهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه السلام لتصديقه وعبر عن الخرور بالالقاء لأنه ذكر مع الالقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا فهنالك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة وبحث في ذلك بعضهم بأن الله تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الالقاء فلا حاجة إلى التجوز
وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لايسمى القاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الالقاء لو صرح به هو الله عز و جل بما خولهم من التوفيق وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال : ولك أن لا تقدر فاعلا لأن ألقي بمعنى خروا وسقطوا وتعقب هذا أبو حيان بانه ليس بشيء إد لايمكن أن يبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لايقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب ووجه ذلك صاحب الكشف بانه أراد أنه لايحتاج الى تقدير فاعل آخر غير من أسند اليه المجهول لأنه فاعل الالقاء ألا ترى إنك لو فسرت سقط بالقى نفسه لصح والطيبي بانه أراد أنه لايحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لاتعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي
وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب وبالجملة لابد من تأويل كلام صاحب الكشاف فانه أجل من أن يريد ظاهره الذي يرد عليه ما أورده أبو حيان وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لاحقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه السلام ومن أتى به فرعون أعل أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم
(19/78)

منه ولم يأتوا إلا بتمويه وتزويق كذا قيل والتحقيق أن ذلك هو الغالب في السحر لاأن كل سحر كذلك
وقول القزويني : إن دعوى أن في السحر تبديل صورة حقيقة خرافات العوام وأسمار النسوة فان ذلك مما لايمكن في سحر أبدا لايخلو عن مجازفة واستدل بذلك أيضا على أن التبحر في كل علم نافع فان أولئك السحرة لتبحرهم في علم السحر علموا حقية ما أتى به موسى عليه السلام وأنه معجزة فانتفعوا بزيادة علمهم لأنه أداهم إلى الاعتراف بالحق والايمان لفرقهم بين المعجزة والسحر
وتعقب بأن هذا إنما يثبت حكما جزئيا كما لايخفى وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقية ذلك بعد أن أخذ موسى عليه السلام العصا فعادت كما كانت وذلك أنهم لم يروا لحبالهم وعصيهم بعد أثرا وقالوا : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية وتفرقت أو عدمت لانقطاع تعلق الارادة بوجودها وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السادس عشر والباب الاربعين من الفتوحات : إن العصا لم تلقف إلا صور الحياة من الحبال والعصي وأما هي فقد بقيت ولم تعدم كما توهمه بعض المفسرين ويدل عليه قوله تعالى تلقف ما صنعوا وهم لم يصنعوا إلا الصور ولولا ذلك لوقعت الشبهة للسحرة في عصا موسى عليه السلام فلم يؤمنوا انتهى ملخصا فتأمل قالوا ءامنا برب العالمين
74
- بدل اشتمال من ألقى لما بين الالقاء المذكور وهذا القول من الملابسة أو حال باضمار قد أو بدونه ويحتمل أن يكون استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما قالوا : فقيل قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهرون
84
- عطف بيان لرب العالمين أو بدل منه جيء به لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك وللاشعار بأن الموجب لايمانهم به تعالى ما أجراه سبحانه على أيديهما من المعجزة القاهرة ومعنى كونه تعالى ربهما أنه جل وعلا خالقهما ومالك أمرهما
وجوز أن يكون اضافة الرب اليهما باعتبار وصقهما له سبحانه بما تقدم من قول موسى عليه السلام : رب السموات والأرض وما بينهما وقوله رب آبائكم الأولين وقوله : رب المشرق والمغرب وما بينهما فكأنهم قالوا : ءامنا برب العالمين الذي وصفه موسى وهرون ولايخفى ما فيه وإن سلم سماعهم للوصف المذكور بعد أن حشروا من المدائن قال فرعون للسحرة ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم أي بغير أن آذن لكم بالايمان له كما في قوله تعالى : قبل أن تنفد كلمات ربي ألا ان الاذن منه ممكن أو متوقع إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فتواطأتم على ما فعلتم فيكون كقوله : ان هذا لمكر مكرتموه الخ أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم كما قيل ولا يرد عليه أنه لايتوافق الكلامان حينئذ إذ يجوز أن يكون فرعون قال كلا منهما وان لم يذكرا معا هنا وأراد اللعين بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم ءامنوا عن بصيرة وظهور حق
وقرأ الكسائي وحمزة وروح أآمنتم بهمزتين فلسوف تعلمون وبال ما فعلتم واللام قيل للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف أي فلانتم سوف تعلمون وليست للقسم لأنها لاتدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة وجمعها مع سوف للدلالة على أن العلم كائن لامحالة وان تأخر
(19/79)

لداعلداع وقيل : هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين النون فيما عدا صورة الفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس وصورة الفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى : لألى الله تحشرون وقال أبو علي : هي اللام التي في لاقومن ونابت سوف عن احدى نوني التأكد فكأنه قيل : فلتعلمن وقوله تعالى حكاية عنه : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين
94
- بيان لمفعول تعلمون المحذوف الذي أشرنا اليه وتفصيل لما أجمل ولذا فصل وعطف بالفاء في محل آخر وقد مر معنى من خلاف قالوا أي السحرة لاضير أي لاضرر علينا فيما ذكرت من قطع الأيدي وما معه والضير مصدر ضار وجاء مصدره أيضا ضورا وهو اسم لا وخبرها محذوف وحذفه في مثل ذلك كثير وقوله تعالى : إنا إلى ربنا أي الذي آمنا به منقلبون
5
- تعليل لنفي الضير علينا فيما تفعل لأنه لابد من الموت بسبب من الأسباب والانقلاب إلى الله عز و جل
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد وحاصله نفي المبالاة بالقتل معللا بانه لابد من الموت ونظير ذلك قول علي كرم الله تعالى وجهه لاأبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت علي أو لاضير علينا في ذلك لأن مصيرنا ومصيرك إلى رب يحكم بيننا فينتقم لنا منك وفي معنى ذلك قوله : إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم ولم يرتضه بعضهم لأن فيه تفكيك الضمائر لكونها للسحرة فيما قبل وبعد ومنع بدخولهم في ضمير الجمع فتأمل وقوله تعالى إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أي لأن كنا أول المؤمنين
15
- تعليل ثان لنفي الضير ولم يعطف ايذانا بأنه مما يستقل بالعلية وقيل إن عدم العطف لتعلق التعليل بالمعلل الأول مع تعليله وجوز أن يكون تعليلا للعلة والأول أظهر أي لاضير علينا في ذلك إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا لكوننا أول المؤمنين والطمع اما على بابه كما استظهره أبو حيان لعدم الوجوب على الله عز و جل وإما بمعنى التيقن كما قيل به في قول إبراهيم عليه السلام والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وقولهم : أول المؤمنين يحتمل أنهم أرادوا به أول المؤمنين من أتباع فرعون أو أول المؤمنين منن أهل المشهد أو أول المؤمنين من أهل زمانهم ولعل الاخبار بكونهم كذلك لعدم علمهم بمؤمن سبقهم بالايمان فهو اخبار مبني على غالب الظن ولا محذور فيه كذا قيل وقيل : أرادوا أول من أظهر الايمان بالله تعالى وبرسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فلا يرد مؤمن آل فرعون وآسية وكذا لايرد بنو اسرائيل لأنهم كما في البحر كانوا مؤمنين قبلهم إما لعدم علم السحرة بذلك أو لأن كلا من المذكورين لم يظهر الايمان بالله تعالى ورسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فتأمل
وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ إن كنا بكسر همزة إن وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي أن كنا أول المؤمنين فانا نطمع وجعل صاحب اللوامح الجواب إنا نطمع المتقدم وقال :
(19/80)

جاز حذف الفاء منه لتقدم وهو مبني على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين وقيل : كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تلميحا وتضرعا لله تعالى وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع نطمع على ما هو الظأهر فيه وجوز أبو حيان أن تكون ان هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب العسل وقال الشاعر : ونحن اباة الضيم من آل مالك وإن مالك كانت كرام المعادن وعلى هذا الوجه يكونون جازمين بأنهم أول المؤمنين أتم جزم واختلف في أن فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أولا والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى انتما ومن اتبعكما الغالبون وبعض هؤلاء زعم أنهم لما سجدوا رأوا الجنات والنيران وملكوت السموات والأرض وقبضت أرواحهم وهم ساجدون وظواهر الآيات تكذب أمر الموت في السجود وأما رؤية أمر ما ذكر فلا جزم عندي بصدقه والله تعالى أعلم
وأوحينا الى موسى أن أسر بعبادي وذلك بعد سنين أقام بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وعنادا حسبما فصل في سورة الأعراف بقوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين الآيات وقريء أن اسر بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرأ اليماني ان سر أمرا من سار يسير إنكم متبعون
25
- تعليل للامر بالاسراء أي يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين فأسر ليلا بمن معك حتى لايدركوكم قبل الوصول إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم فاغرقهم فأرسل فرعون الفاء فصيحة أي فاسرى بهم وأخبر فرعون بذلك فأرسل في المدائن أي مدائن مصر حاشرين
35
- جامعين للعساكر ليتبعوهم إن هؤلاء يريد بني إسرائيل والكلام على إرادة القول والظاهر أنه حال أي قائلا إن هؤلاء لشرذمة أي طائفة من الناس وقيل : هي السفلة منهم وقيل : بقية كل شيء خسيس ومنه ثوب شراذم وشرذامة أي خلق مقطع قال الراجز : جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منه التواق وقريء لشرذمة باضافة شر مقابل خير إلى ذمة وقال أبو حاتم : وهي قراءة من لايؤخذ منه ولم يروها أحد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قليلون
45
- صفة شرذمة وكان الظاهر قليلة إلا أنه جمع باعتبار أن الشرذمة مشتملة على أسباط كل سبط منهم قليل وقد بالغ اللعين في قتلهم حيث ذكرهم أولا باسم دال على القلة وهو شرذمة ثم وصفهم بالقلة ثم جمع القليل للاشارة إلى قلة كل حزب منهم وأتى بجمع السلامة وقد ذكر أنه دال على القلة واستقلهم بالنسبة إلى جنوده
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن موسى عليه السلام خرج في ستمائة ألف وعشرين ألفا لايعد فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في الف الف وسبعمائة الف
(19/81)

حصان وقيل : أرسل فرعون في أثرهم الف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج هو في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة وهم كانوا على ماروي عن ابن عباس ستمائة الف وسبعين الفا وأنا أقول : إنهم كانوا أقل من عساكر فرعون ولا أجزم بعدد في كلا الجمعين والاخبار في ذلك لاتكاد تصح وفيها مبالغات خارجة عن العادة والمشهور عند اليهود أن بني إسرائيل كانوا حين خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل خلا الأطفال وهو صريح ما في التوراة التي بأيديهم
وجوز أن يراد بالقلة الذلة لا قلة العدد بل هي مستفادة من شرذمة يعني أنهم لقلتهم أذلاء لايبالي بهم ولايتوقع غلبتهم وقيل : الذلة مفهومة من شرذمة بناء على أن المراد منها بقية كل شيء خسيس أو السفلة من الناس وقليلون إا صفة لها أو خبر بعد خبر لأن والظأهر ما تقدم
وإنهم لنا لغائظون
55
- لفاعلون ما يغيظنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير اذننا مع ما عندهم من أموالنا المستعارة فقد روي أن الله تعالى أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فاستعاروه وخرجوا به وتقديم لنا للحصر والفاصلة واللام للتقوية أو تنزيل المتعدي منزلة اللازم وانا لجميع حاذرون
65
- أي انا لجمع من عاداتنا الحذر والاحتراز واستعمال الجزم في الأمور أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم الى تحقق ما يدعوا اليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه أو اعتذار بذلك الى أهل المدائن كيلا يظن به عليه اللعنة ما يكسر سلطانه
وقرأ جمع من السبعة وغيرهم حذرون بغير الف وفرق بين حاذر بالألف وحذر بدونها بان الأول اسم فاعل يفيد التجدد والحدوث والثاني صفة مشبهة تفيد الثبات وقريب منه ما روي عن الفراء والكسائي أن الحذر من كان الحذر في خلقته فهو متيقظ منتبه وقال أبو عبيدة : هما بمعنى واحد وذهب سيبويه الى أن حذرا يكون للمبالغة وأنه يعمل كما يعمل حاذر فينتصب المفعول به وأنشد : حذر امورا لاتضير وآمن ما ليس منجيه من الأقدار وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو وعن ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم ان الحاذر التام السلاح وفسروا ما في الآية بذلك وكأنه بمعنى صاحب حذر وهي ءالة الحرب سميت بذلك مجازا وحمل على ذلك قوله تعالى خذوا حذركم وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع حادرون بالالف والدال المهملة من قولهم : عين حدرة أي عظيمة وفلان حادر أي متورم قال ابن عطية : والمعنى ممتلئون غيظا وأنفة وقال ابن خالويه : الحادر السمين القوي الشديد والمعنى أقوياء أشداء ومنه قول الشاعر : أحب الصبي السوء من أجل أمه وأبغضه من بغضها وهو حادر وقيل : المعنى تامو السلاح على هذه القراءة أيضا أخذا من الحدارة بمعنى الجسامة والقوة فان تام السلاح يتقوى به كما يتقوى بأعضائه و جميع علد جميع القراآت والمعاني بمعنى الجمع وليست التي يؤكد بها كما أشرنا اليه ولو كانت هي المؤكدة لنصبت فأخرجناهم أي فرعون وجنوده أي خلقنا فيها داعية الخروج بهذا
(19/82)

السبب الذي تضمنته الآيات الثلاث فحملتهم عليه أو خلقنا خروجهم من جنات وعيون
75
- كانت لهم بحافتي النيل كما روي عن ابن عمر وغيره وكنوز أي أموال كنزوها وخزنوها تحت الأرض وخصت بالذكر لأن الأموال الظاهرة أمور لازمة لهم لأنها من ضروريات معاشهم فاخراجهم عنها معلوم بالضرورة وقيل : لأن أموالهم الظاهرة قد انطمست بالتدمير
تعقب بأن الاخراج قبل الانطماس إذ من جملة الأموال الظاهرة الجنات والاخبار عنهم بانهم أخرجوا منها بعنوان كونها جنات والأصل فيه الحقيقة وعلى تقدير تسليم أنه بعد يرد أن المدمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وهو مفسر بالقصور والعمارات والجنان فيبقى ما سوى ذلك غير محكوم عليه بالتدمير من الأموال الظاهرة مع أنهم أخرجوا منه أيضا فيحتاج توجيه عدم التعرض له بغير ما ذكر
وقيل : المراد بالكنوز أموالهم الباطنة والظاهر وأطلق عليها ذلك لأنها لم ينفق منها في طاعة الله تعالى ونقل ذلك عن مجاهد والأول أوفق باللغة وأكثر جهلة أهل مصر يزعمون أن هذه الكنوز في المقطم من أرض مصر وأنها موجودة إلى الآن وقد بذلوا على إخراجها أموالا كثيرة لشياطين المغاربة وغيرهم فلم يظفروا إلا بالتراب أو حجر الكذان وقال ابن جبير : المراد بالعيون عيون الذهب وهو خلاف المتبادر ومثله ما قاله الضحاك من أن المراد بالكنوز الانهار ومقام كريم
85
- هي المساكن الحسان كما قال النقاش وعن ابن لهيعة أنها كانت بالفيوم من أرض مصر وقيل : مجالس الأمراء والاشراف والحكام التي تحفها الاتباع وقيل : الأسرة في الكلل وحكى الماوردي أنها مرابط الخيل وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنها المنابر للخطباء وقرأ قتادة والأعرج ومقام بضم الميم من أقام كذلك إما في موضع نصب على أن يكون صفة لمصدر مقدر أي إخراجا مثل ذلك الاخراج اخرجنا والاشارة إلى مصدر الفعل أو في موضع جر على أن يكون صفة لمقام أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم وعلى الوجهين لايرد أنه يلزم تشبيه الشيء بنفسه كما زعم أبو حيان لما مر تحقيقه أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك والمراد تقرير الأمر وتحقيقه واختار هذا الطيبي فقال : هو أقوى الوجوه ليكون قوله تعالى : وأورثناها بني إسرائيل
92
- أي ملكناها لهم تمليك الارث عطفا عليه والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو فأخرجناهم والمعطوف وهو قوله تعالى : فأتبعوهم لأن الاتباع عقب الاخراج لا الايراث
قال الواحدي : إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه فاعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن وعلى غير هذا الوجه يكون أورثنا عطفا على أخرجنا ولابد من تقدير نحو فاردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا واتبعوهم انتهى ويفهم من كلام بعضهم أن جملة أورثناها الخ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأوجه وما ذكر عن الواحدي من أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه ظاهره وقوع ذلك بعد الغرق من غير تطاول مدة
وأظهر منه في هذا ما روي عن الحسن قال : كما عبروا البحر ورجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم ورأيت في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى عليه السلام وبقوا معه في مصر عشر سنين وقيل : إنه رجع بعضهم بعد إغراق فرعون وهم الذي أورثوا أموال القبط وذهب الباقون مع موسى عليه السلام إلى أرض الشام
(19/83)

وقيل : انهم بعد أن جاوزوا البحر ذهبوا إلى الشام ولم يدخلوا مصر في حياة موسى عليه السلام وملكوها زمن سليمان عليه السلام والمذكور في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم صريح في أنهم بعد أن جاوزوا البحر توجهوا إلى أرض الشام وقد فصلت قصة ذهابهم اليها وأكثر التواريخ على هذا وظواهر كثير من الآيات تقتضي ما ذكره الواحدي والله تعالى أعلم ومعنى أتبعوهم لحقوهم يقال : تبعت القوم فاتبعهم أي تلوتهم فلحقتهم كأن المعنى فجعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم مبالغة في اللحوق وضمي رالفاعل لقوم فرعون والمفعول لبني اسرائيل وقرأ الحسن فاتبعوهم بوصل الهمزة وشد التاء مشرقين
6
- أي داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها من أشرق زيد دخل في وقت الشروق كأصبح دخل في وقت الصباح وأمسى دخل في وقت المساء وقال أبو عبيدة : هو من أشرق توجه نحو الشرقكانجد توجه نحو نجد وأعرق توجه نحو العراق أي فاتبعوهم متوجهين نحو الشرق والجمهور على الاول وعن السدي أن الله تعالى القى على القبط الموت ليلة خرج موسى عليه السلام بقومه فمات كل بكر رجل منهم فشغلوا عن طلبهم بدفنهم حتى طلعت الشمس ومثل ذلك في التوراة بزيادة موت أبكار بهائمهم أيضا والوصف حال من الفاعل وقيل : هو حال من المفعول
ومعنى مشرقين في ضياء بناء على ما روي أن بني إسرائيل كانوا في ضياء وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ولايكاد يصح ذلك لقوله تعالى : فلما تراء الجمعان أي تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر نعم ذكر في التوراة ما حاصله أن بني إسرائيل لما خرجوا كان أمامهم نهارا عمود من غمام رليلا عمود من نار ليدلهم ذلك على الطريق فلما طلبهم فرعون ورأوا جنوده خافوا جدا ولاموا موسى عليه السلام في الخروج وقالوا له : أمن عدم القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البر أما قلنا لك : دعنا نخدم المصريين فهو خير من موتنا في البر فقال لهم موسى : لاتخافوا وانظروا إغاثة الله تعالى لكم ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فتحول عمود الغمام إلى ورائهم وصار بينهم وبين فرعون وجنوده ودخل الليل ولم يتقدم أحد من جنود فرعون طول الليل وشق البحر ثم دخل بنو إسرائيل وليس في هذا ما يصح أمر الحالية المذكورة فتأمل
وقرأ الأعمش وابن وثاب ترا بغير همز على مذهب التخفيف بين بين ولا يصح تحقيقها بالقلب للزوم ثلاث ألفات متسقة وذلك مما لايكون أبدا قاله أبو الفضل الرازي وقال ابن عطية وقرأ حمزة تريثي بكسر الراء وبمد ثم بهمز وروى مثله عن عاصم وروي عنه أيضا تراءى بالفتح والمد وقال أبو جعفر أحمد بن علي الانصاري في كتابه الاقناع تراءى الجمعان في الشعراء إذ وقف عليها حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل وحمزة يميل الف تفاعل وصلا ووقفا كامالة الألف المنقلبة
وقريء فلما تراءت الفئتان قال أصحاب موسى إنا لمدركون
16
- أي لملحقون جاؤا بالجملة الاسمية مؤكدة بحرفي التأكيد للدلالة على تحقق الادراك واللحاق وتنجيزهما وأرادوا بذلك التحزن وإظهار الشكوى طلبا للتدبير وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير لمدركون بفتح الدال مشددة وكر الراء من الادراك بمعنى الفناء والاضمحلال يقال : أدرك الشيء إدا فنى تتابعا وأصله التتابع وهو ذهاب أحد على أثر آخر ثم صار في عرف اللغة بمعنى الهلاك وأن يفنى شيئا فشيئا حتى يذهب جميعه وقد جاء التتابع بهذأ المعنى في قول الحماسي :
(19/84)

أبعد بني أمي الذين تتابعوا أرجى حياة أم من الموت أجزع والمعنى انا لهالكون على أيديهم شيئا فشيئا قال موسى عليه السلام ردعا لهم عن ذلك وارشادا إلى أن تدبير الله عز و جل يغني عن تدبيره : كلا لن يدركوكم إن معي ربي بالحفظ والنصرة سيهدين
26
- قريبا إلى ما فيه نجاتكم منهم ونصركم عليهم ولم يشركهم عليه السلام في المعية والهداية اخراجا للكلام على حسب ما أشاروا اليه في قولهم إنا لمدركون من طلب التدبير منه عليه السلام وقيل : لما كان عليه السلام هو الأصل وغيره تبع له محفوظون منصورون بواسطته وشرفه وكرامته قال : معي دون معنا وكذا قال : سيهدين دون سيهدينا وقيل : قال ذلك جزاء لهم على غفلتهم عن قوله تعالى له عليه السلام أنتما ومن اتبعكما الغالبون حتى خافوا فقالوا ما قالوا فان الظاهر أنهم سمعوا ذلك من موسى عليه السلام في مدة بقائهم معه في مصر أو غفلتهم عن عناية الله تعالى بهم حين كانوا مع القبط في مصر حيث لم يصبهم ما أصابهم من الدم ونحوه من الآيات المقتضية بواسطته حسن الظن أنجاءهم منهم حين أمروا بالخروج فلحقوهم وكان تأديبه لهم على ذلك بمجرد عدم إشراكهم فيما ذكر لا أنه نفاه عنهم كما يتوهم من تقديم الخبر فان تقديمه لاجل الاهتمام بأمر المعية التي هي مدار النجاة المطلوبة وقيل : للحصر لكن بالنسبة إلى فرعون وجمعه وقيل : على القول الثاني في توجيه عدم إشراكهم : إنه للحصر بالنسبة اليهم أيضا على معنى إن معي أولا وبالذات ربي لا معكم كذلك وقيل : قدم المعية هنا وأخرت في قوله تعالى إن الله معنا لأن المخاطب هنا بنو إسرائيل وهم أغبياء يعرفون الله عز و جل بعد النظر والسماع من موسى عليه السلام والمخاطب هناك الصديق رضي الله تعالى عنه وهو ممن يرى الله تعالى قبل كل شيء ولاختلاف المقام نظم نبينا صلى الله عليه و سلم صاحبه معه في المعية ولم يقدم له ردعا وزجرا وخاطبه على نحو مخاطبة الله تعالى له عليه الصلاة و السلام عند تسليته بما صورته النهي عن الحزن وأتي بالاسم الجامع وهو لفظ الله دون اسم مشعر بصفة واحدة مثلا ولم يكن كلام موسى عليه السلام ومخاطبته لقومه على هذا الطرز وسبحانه من فضل بعض العالمين على بعض
وزعم بعضهم أن في الكلام حذفا والتقدير إن معي وعد ربي ولذلك قال : معي دون معنا وفيه ما فيه
فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر هو القلزم على الصحيح وقيل : بحر من رواء مصر يقال له اساف وقيل : النيل والظأهر أن هذا الايحاء كان بعد القول المذكور ولم يكن مأمورا بالضرب يوم الامر بالاسراء فقد أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد أنه لما انتهى موسى عليه السلام وبنو اسرائيل إلى البحر قال مؤمن آل فرعون : يانبي الله أين أمرت فان البحر أمامك وقد غشينا آل فرعون فقال : أمرت بالبحر فاقتحم مؤمن آل فرعون فرسه فرده التيار فجعل موسى عليه السلام لايدري كيف يصنع وكان الله تعالى قد أوحى إلى البحر أن أطع موسى وآية ذلك إذا ضربك بعصاه فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر
وأخرج أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ان موسى لما انتهى إلى البحر أقبل يوشع ابن نون على فرسه فمشى على الماء واقتحم غيره خيولهم فرسوا في الماء وقال أصحاب موسى : إنا لمدركون فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه وقيل : اضرب بعصاك البحر وأخرج بان جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر ان اسمع لموسى وأطع
(19/85)

إذا ضربك فبات البحر له أفكل أي رعدة لايدري من أي جوانبه يضربه وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد ابن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام ان موسى عليه السلام قال : يامن كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجا فأوحى الله تعالى اليه ان اضرب بعصاك البحر
وروي أنه عليه السلام قال : اللهم لك الحمد واليك المشتكى واليك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وفي الدر المنثور من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا ما يدل أنه عليه السلام قال ذلك حين الانفلاق فانفلق أي فضربه فانفلق فالفاء فصيحة وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب وفاء انفلق والفاء الموجودة هي فاء ضرب وهذا أشبه شيء بلغي العصافير وكأنه كان سكران حين قاله وفي هذا الحذف إشارة إلى سرعة امتثاله عليه السلام وإنما أمر عليه السلام بالضرب فضرب وترتب الانفلاق عليه اعظاما لموسى عليه السلام بجعل هذه الآية العظيمة مترتبة على فعله ولو شاء عز و جل لفلقه بدون ضربه بالعصا ويورى أنه لم ينفلق حتى كناه أبا خالد : وكان بأمر الله تعالى إياه بذلك وعن قيس بن عباد أنه عليه السلام حين جاءه قال له : إنفلق أبا خالد فقال : لن أنفلق لك ياموسى أنا أقدم منك وأشد خلقا فنودي عند ذلك اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق وفي رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام حين انتهى اليه قال : انفرق فقال له : لقد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأوحى الله تعالى اليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كا يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع وهذا صريح في أن الضرب كان ثلاثا وقيل : ضربه مرة واحدة فانفلق وقيل : ضربه اثنتي عشرة مرة فانفلق في كل مرة عن مسلك لسبط
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : كان البحر ساكنا لايتحرك فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر ولا أظن لهذا صحة والظاهر أن المد والجزر كانا قبل أن يخلق الله تعالى موسى عليه السلام ولا ينبغي لعاقل اعتقاد غيره ومثل هذا عندي كثير من الاخبار السابقة والاسلم الاقتصار على ماقص الله تعالى من أنه أوحى سبحانه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
36
- أي كالجبل المنيف الثابت في مقره وظاهر الآية أن الطود مطلق الجبل وقال في الصحاح : الطود الجبل العظيم
في قول من قال : ان الفروق اثنا عشرة والمسالك كذلك بعدة أسباط بني اسرائيل وقد سلك كل سبط منهم في مسلك منها والمشهور ان الفرق قطعة انفصلت من الماء عما يقابلها وحينئذ لايتأتل ذلك القول بل لابد عليه على ما قيل من كون الفروق ثلاثة عشرة حتى يحصل في خلالها اثنا عشر مسلكا بعدد الاسباط وقيل : إذا كانت الفروق اثني عشر فلابد أن تكون المسالك ثلاثة عشر لأن الفرق الأول والثاني عشر لابد أن يكونا منفصلين عما يحاذيهما من البحر فيكون بين كل منهما وبين ما يحاذيه من البحر مسلك وإن لم يكن كسائر المسالك بين فرقين إد لو اتصلا لم يميزا عنه ولم يتحقق حينئذ اثنا عشر فرقا بل أقل ولا بعد في ان يختار كون الفروق اثني عشر والمسالك ثلاثة عشر بجعل الفرق الأول والثاني عشر منفصلين عما يحاذيهما من البحر بين كل
(19/86)

منهما وبينه مسلك ويقال : إن كل سبط من الأسباط الاثني عشر سلك في مسلك وسلك في الثالث عشر من ءامن بموسى عليه السلام من القبط انتهى
وأورد عليه أنه لم يذكر في الآثار أن المسالك ثلاثة عشر وإنما المذكور فيها أنها اثنا عشر ومن ادعى ذلك فعليه البيان والابعد عن القيل والقال ما تقدم عن بعض الأجلة وأثر قدرة الله تعالى عليه أعظم وخلق الداعية إلى سلوك ذلك في قلوب الداخلين لاسيما قوم فرعون أغرب وكذا الاحتياج إلى الكوي أظهر
فقد روي أن بني إسرائيل قالوا : نخاف أن يغرق بعضنا ولا نشعر فجعل الله تعالى بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا نعم قيل عليه : إن في بعض الآثار ما يأباه فقد اخرج أبو العباس محمد بن اسحق السراج في تأريخه وابن عبد البر في التمهيد من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صاحب الردم كتب إلى معاوية يسأله عن أشياء منها مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولابعد فيه فلم يعلم معاوية جواب ذلك فكتب يسأل ابن عباس فأجاب عن كل إلى أن قال : وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فالمكان الذي انفلق من البحر لبني إسرائيل فان كون الفرق مقببا كالسرداب مانع من طلوع الشمس وشروقها على ألارض من غير واسطة كما هو الظاهر من السؤال
وأجيب بانه بعد تسليم صحة الخبر لا إباء لجواز شروق الشمس على أرض الفرق المقبب من غير واسطة من جهة المدخل والمخرج أو شروقها على أرض البحر قبل التقبيب ولم يتعرض المفسرون هنا فيما وقفت عليه لكيفية الانطلاق وقد رأيت فيما ينسب إلى كليات أبي البقاء أنه قد ورد أن بني اسرائيل لما دخلوا البحر خرجوا من الجانب الذي دخلوا منه وحينئذ لايتأتى ذلك على كون الانفلاق خطيا وإنما يتأتى على كونه قوسيا ثم أنه ذكر في عدة الفروق والمسالك كلاما ظاهره الاختلال وقد تصدى بعض الفضلاء لشرحه وتوجيهه بما لايخلوا عن تعسف وحاصل ما ذكره ذلك البعض مع زيادة ما أنه يحتمل إذا كان انفلاق البحر الى اثني عشر فرقا أن يكون الفرق الأول والثاني عشر متصلين بالبر الشطي بأن يكون الماء الواقع حذاء كل منهما من جهة البر مرتفعا ومنضما الى كل ومعدود من أجزائه بحيث يصير الماء المرتفع المنضم والفرق الأصلي المنضم اليه فرقا واحدا متصلا طرفه بالبر من غير فصل بينه بشيء وأورد عليه أنه عليه أن تكون المسالك أحد عشر فيحتاج إلى سلوك سبطين معا أو متعاقبا في مسلك واحد أوسع من سائر المسالك أو مساو له ولا خفاء في أنه خلاف الظاهر والمأثور وأيضا يلزم أن يكون كل الفرقين الأول والثاني عشر أعظم غلظا من كل البواقي لما سمعت من الانضمام والظاهر تساويها وأيضا يلزم خروج الماء الملاصق للبر عما الأصل فيه من غير داع اليه ويحتمل أن يكون الماء الواقع حذأء كل من الأول والثاني عشر من جهة البر مرتفعا بمعنى ذاهبا ويكون الفرقان المذ : وران متصلين بالبر باعتبار أنهما متصلان بالمسلكين الظاهرين من تحت الماء الذاهب المتصلين بالبر ويرد عليه بعض ما ورد على سابقه وبقاء سبط من بني اسرائيل أو سبطين بلا حاجب لهم عن فرعون وجنوده من الماء
ويحتمل أن يكونا منفصلينعن البر بأن يبقى الماء المتصل به على حاله بحرا من غير ارتفاع وحينئذ يحتمل أن تكون المسالك ثلاثة عشر باعتبار انكشاف الأرض بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل
(19/87)

بالبربالبر فيكون هذا المسلكخارج الطود الأول وانكشافها بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر من الجانب الأخر فيكون هذا المسلك خارج الفرق الثاني عشر وعلى هذا الاحتمال يلزم تعطل أحد المسالك أو التزام سلوك من آمن من القبط فقط فيه ويحتمل أن تكون المسالك اثني عشر كالفروق بأن يكون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر من جهة فرعون وجنوده فقط أو يكون الانكشاف بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله من الجانب الآخر فقط وهذا بعيد لعظم هذا القوس المنكشف جدا وطول زمان قطعه فالظاهر وقوع احتمال كون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله من جهة فرعون وبالجملة احتمال انفصال الفرقين الأول والأخير وكون الانكشاف بين الأول والبحر مما يلي فرعون دون الأخير والبحر مما يلي الجانب الآخر واتحاد المسالك والفروق في كون كل اثني عشر هو الأقرب للوقوع اه
ولايخفى أنه يلزم عليه أن لايكون جميع المسالك في خلال الفروق فان لم يتعين القول بكون جميعها فيه إذ ليس في الآثار أكثر من كون المسالك اثني عشر مسلكا فلا بأس به وان استحسنت ما تقدم عن بعض الأجلة في المراد بالفرق فاعتبره على تقدير كون الانفلاق قوسيا أيضا ثم إن ما ذكر من كون الخروج من جهة الدخول لم أره في غير ما ينسب إلى كليات أبي البقاء وهو أوفق بالقول برجوع موسى عليه السلام وقومه إلى مصر بعد الخروج من البحر واغراق فرعون وجنوده فيه وتوقف ذلك على كون الانفلاق قوسيا لأنه لو كان خطيا يلزم أن يكون الرجوع في طريق الدخول وهو ظاهر البطلان لأن الأعداءفي أثرهم واحتمال أن تكون المسالك الخطية ثلاثة عشر وأن بني اسرائيل سلكوا اثني عشر منها واتبعهم فرعون وجنوده وخرجوا قبل أن يصلوا اليهم ودخلوا جميعا في المسلك الثالث عشر من الجانب المخالف لجانب دخولهم متوجهين فيه إلى جانب دخولهم فلم يخرجوا حتى صار جميع أعدائهم في تلك المسالك الاثني عشر التي اتبعوهم فيها فخرجوا وغشي أعداءهم من اليم ما غشيهم لايخفى ما فيه والقول بالعود إلى مصر مع القول بأن الانفلاق كان خطيا يتوقف على هذا أو على الانفلاق مرة أخرى أو على العبور بالسفن أو سلوك طريق الى مصر غير الطريق الذي سلكوه خارجين منها إلى البحر
والظأهر أنه لم يكن شيء من ذلك ولا بأس على ما قيل بالقول بكون الانفلاق قوسيا سواء قلنا بالرجوع إلى مصر أم لا وما يقال عليه من أنه يلزم حينئذ أن تكون مداخل تلك المسالك ومخارجها في جانب فرعون وجنوده وذلك مما يوجب خوف بني اسرائيل من الدخول لاحتمال أن يدخل عليهم اعداؤهم من الطرف الآخر الذي هو محل الخروج فيلاقوهم في الطريق على طرف الثمام كما لايخفى على ذوي الأفهام
وجوز على القول بان الانفلاق كان قوسيا أن يكون دخول موسى عليه السلام وقومه من أحد طرفي القوس دخول فرعون وجنوده منن الطرف اةخر ليلاقوا موسى عليه السلام وقومه حتى إذا كمل الجمعان دخولا رجع موسى عليه السلام وقومه القهقري حتى إذا خرجوا جميعا أغرق الله تعالى فرعون وجنوده أو حتى إذا كمل جمع موسى عليه السلام دخولا وبان لهم أول الداخلين لملاقاتهم رجعوا القهقري حتى إذا خرجوا جميعا وقد كمل جمع فرعون دخولا أهلك الله تعالى عدوهم فغشيه من اليم ما غشيه وهو كما ترى
(19/88)

والذيوالذي ذهب اليه أهل الكتاب أن الانفلاق كان خطيا وأن المسالك اثني عشر مسلكا لكل سبط مسلك ولا تقبيب هنالك وأنه قد فتحت لهم كوى ليروى القريب قريبه ويرى الرجل من سبط زوجته من سبط آخر وأنهم خرجوا من الجهة المقابلة لجهة دخولهم وتوجهوا إلى أرض الشام وليس في كتابنا ما نص في تكذيبه بل في الاخبار ما يشهد بصحة بعضه واتحاد الفروق والمسالك في العدد يحتاج إلى نقل صحيح يثبته واةية هنا لاتدل على أكثر من تعدد الفروق والله تعالى أعلم وحكى يعقوب عن بعض القراء أنه قرأ كل فلق باللام بدل الراء قال الراغب : الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق والفرق يقال اعتبار بالانفصال ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس وأزلفنا عطف على أوحينا وقيل : على محذوف يقتضيه السياق والتقدير فادخلنا بني اسرائيل فيما انفلق منن البحر وأزلفنا ثم أي هنالك الآخرين
46
- أي فرعون وجنوده أي قربناهم من قوم موسى عليه السلام حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم وجوز أن يراد قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد
أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد قال : كان جبريل عليه السلام بين الناس بين بني اسرائيل وبين آل فرعون فجعل يقول لنبي اسرائيل ليلحق آخركم بأولكمويستقبل آل فرعون فيقول : رويدكم ليلحقكم شخركم فقالت بنو اسرائيل : ما رأينا سائقا أحسن سياقا من هذا وقال آل فرعون : مارأينا وازعا أحسن زعة من هذا وقرأ الحسن وأبو حيوة وزلفنا بدون همزة وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحرث وأزلقنا بالقاف عوض الفاء أي أزلقنا أقدامهم والمعنى اذهبنا عزهم كقوله : تداركتما عبسا وقد ثل عرشها وذبيان إذ زلت باقدامها النعل ويحتمل أن يجعل الله تعالى طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه
هذا وقال صاحب اللوامح : قيل من قرأ بالقاف أراد بالآخرين فرعون وقومه ومن قرأ بالفاء أراد بهم موسى عليه السلام وأصحابه أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة ولا يخفى أنه يبعد أرادة موسى عليه السلام وأصحابه من الآخرين قوله سبحانه وأنجينا موسى ومن معه أجمعين
56
- أي وأنجيناهم من الهلاك في أيدي أعدائهم ومن الغرق في البحر بحفظه على تلك الهيئة إلى أن خرجوا إلى البر وقيل : ومن معه للاشارة إلى أن انجاءهم كان ببركة مصاحبة موسى عليه السلام ومتابعته وقيل : لينتظم من آمن به عليه السلام من القبط إذ لو قيل وقومه لتبادر منه بنو إسرائيل وفيه بحث ثم أغرقنا الآخرين
66
- فرعون وجنوده باطباق البحر عليهم بعد خروج موسى عليه السلام ومن معه وكان له وجبة روي عن ابن عباس أن بني اسرائيل لما خرجوا سمعوا وجبة البحر فقالوا : ما هذافقال موسى عليه السلام : غرق فرعون وأصحابه فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل والتعبير عن فرعون وجنوده بالآخرين للتحقير والظأظهر ان ثم للتراخي الزماني ولعل الاولى حملها على التراخي المعنى لما بين المعطوفين من المباعدة المعنوية إن في ذلك اشارة إلى ما ذكر من القصة وما فيه من معنى البعد لتعظيم شأن المشار اليه وقيل : لبعد المسافة بالنظر إلى مبدأ القصة لآية أي لآية عظيمة توجب الايمان بموسى عليه السلام وتصديقه بما جاء به وأريد بها على ما قيل انقلاب العصا ثعبانا وخروج يده عليه
(19/89)