الكتاب : الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع
المؤلف: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
دار النشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 10
تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور
مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 158 "
الله قالا : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثني أحمد بن حرب قال : حدّثنا سبيك قال : حدّثنا وكيع عن سفيان عن داوُد عن عكرمة عن ابن عباس . ) وبشرناه بإسحاق ( : بشرى نبوّة بُشّر به مرتين حين ولد وحين نُبّئ ،
الصافات : ( 113 ) وباركنا عليه وعلى . . . . .
) وباركنا عليه ( أي على إبراهيم في الأولاد ، ) وعلى إسحاق ( حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه .
) ومن ذريتهما مُحسنٌ ( : مؤمن ) وظالمٌ لنفسِه مُبين ( : كافر ظاهر الكفر .
الصافات : ( 114 ) ولقد مننا على . . . . .
) ولقد منَنّا ( : أنعمنا ) على موسى وهارون ( بالنبوة .
الصافات : ( 115 ) ونجيناهما وقومهما من . . . . .
) ونجيناهما وقومهما ( : بني إسرائيل ) من الكرب العظيم ( ، يعني الغرق ، حيث أغرقنا فرعون وقومه
الصافات : ( 116 ) ونصرناهم فكانوا هم . . . . .
) ونصرناهم ( يعني موسى وهارون وقومهما ) فكانوا هم الغالبين ( على القبط ،
الصافات : ( 117 ) وآتيناهما الكتاب المستبين
) وآتيناهما الكتاب المستبين ( : المستنير
الصافات : ( 118 - 122 ) وهديناهما الصراط المستقيم
) وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلامٌ على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنّهما من عبادنا المؤمنين ( .
) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( 2
الصافات : ( 123 ) وإن إلياس لمن . . . . .
) وإنّ إلياس لمِنَ المُرسلين ( ، أخبرنا أبو محمد بن أبي القاسم بن المؤهل قال : حدّثنا أبو العباس الأصم قال : حدّثنا بكار بن قتيبة قال : حدّثنا أبو داود الطيالسي قال : حدّثنا قيس بن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود قال : إلياس هو إدريس ، وإسرائيل هو يعقوب ، وإلى هذا ذهب عكرمة ، وقال : هو في مصحف عبد الله : ) وإن إدريس لمن المرسلين ( وتفرّد عبد الله وعكرمة بهذا القول .
وقال الآخرون : هو نبي من أنبياء بني إسرائيل . قال ابن عباس : وهو ابن عمّ اليسع ، وقال ابن إسحاق : هو إلياس بن ياسين بن العيزار بن هارون بن عمران ، وقال أيضاً محمد بن إسحاق ابن ياسر والعلماء من أصحاب الأخبار : لمّا قبض الله سبحانه حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وظهر فيهم الفساد والشرك ، ونسوا عهد الله ، ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله ، فبعث الله إليهم إلياس ( عليه السلام ) : نبياً وإنما دانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام يبعثون إليهم تجديد ما نسوا من التوراة ، وبنو إسرائيل يؤمئذ متفرّقون في أرض الشام وفيهم ملوك كثيرة وكان سبب ذلك أنّ يوشع بن نون لما فتح أرض الشام بعد موسى
(8/158)

" صفحة رقم 159 "
وملكها بوّأها بني إسرائيل وقسّمها بينهم ، فأحلّ سبطاً منهم بعلبك ونواحيها ، وهم سبط إلياس الذي كان منهم إلياس فبعثه الله إليهم نبيّاً ، وعليهم يؤمئذ ملك يقال له : ( أجب ) قد ضلّ أضل قومه ، وأجبرهم على عبادة الأصنام ، وكان يعبد هو وقومه صنماً يقال له : بعل ، وكان طوله عشرين ذراعاً ، وكانت له أربعة وجوه . قال : فجعل إلياس يدعوهم إلى الله سبحانه ، وهم في كلّ ذلك لا يسمعون منه شيئاً إلاّ ما كان من أمر الملك الذي كان ببعلبك ، فإنه آمن به وصدّقة وكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده وكان لأجب الملك هذا امرأة يُقال لها أزبيل ، وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها ، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب ، وتجلس في مجلس القضاء فتقضي بين الناس ، وكانت قتّالة للأنبياء .
قال : وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتمها إيمانه ، وكان كاتبها قد خلّص من يدها ثلاثمئة نبي كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قبلهم ممن يكثر عددهم ، وكانت في نفسها غير محصنة ، ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها ، وهي مع ذلك قد تزوجت سبعة ملوك من بني إسرائيل وقتلتهم كلّهم بالاغتيال ، وكانت معمّرة حتى يُقال : إنها ولدت سبعين ولداً .
قال : وكان لأجب هذا جار من بني إسرائيل ، رجل صالح يُقال له ( مزدكي ) وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ويزينها ، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته ، وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها ، وكان أجب الملك مع ذلك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه ، وامرأته أزبيل تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة ، وتحتال في أن تغصبها إياه لما تسمع الناس يكثرون ذكر الجنينة ويتعجبون من حسنها ، ويقولون : ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر ويتعجبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها . فلم تزل امرأة الملك تحتال على العبد الصالح مزدكي في أن تقتله وتأخذ جنينته والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلاً .
ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد ، وطالت غيبته ، فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك للحيلة
(8/159)

" صفحة رقم 160 "
على مزدكي ، وهو غافل عمّا تريد به ، مقبل على عبادة ربه وإصلاح معيشته ، فجمعت أزبيل جمعاً من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سبّ زوجها أجب فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه .
وكان من حكمهم في ذلك الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت عليه البيّنة بذلك فأحضرت مزدكي ، وقالت له : بلغني أنّك شتمت الملك وعبته . فأنكر مزدكي ذلك ، فقالت المرأة : إنّ عليك شهوداً ، وأحضرت الشهود فشهدوا بحضرة الناس عليه بالزور ، فأمرت بقتل مزدكي فقتل وأخذت جنينته غصباً فغضب الله عليهم بقتل العبد الصالح .
فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر ، فقال لها : ما أصبت ولا وفقتِ ولا أرانا نفلح بعده أبداً ، وإنا كنّا عن جنينته لأغنياء ، قد كنّا نتنزه فيها ، وقد جاورنا وتحرّم بنا مذ زمان طويل ، فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى ، لوجوب حقه علينا ، فختمت أمره بأسوأ الجوار ، وما حملكِ على اجترائكِ عليه إلاّ سفهك وسوء رأيك وقلّة تفكرك في العواقب . فقالت : إنما غضبت لك وحكمت بحكمك . فقال لها : أوما يسعه حلمك ويحدوك عظيم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره ؟ قالت : قد كان ما كان .
فبعث الله تعالى إلياس ( عليه السلام ) إلى أُجب الملك وقومه وأمره أن يخبرهم أنّ الله سبحانه قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلماً ، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنعهما ولم يردّا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما يعني أجب وامرأته في جوف الجنينة أشرّ ما يكونان بسفك دميهما ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ولا يمتّعان بها إلاّ قليلاً .
قال : فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة ، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له : يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلاّ باطلاً ، والله ما أرى فلاناً وفلاناً ، سمى ملوكاً منهم قد عبدوا الأوثان إلاّ على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ويتنعّمون مملكين ما ينقص من دنياهم ولا من أمرهم الذي تزعم أنه باطل ، وما نرى لكم علينا ( ولا ) عليهم من فضل .
قال : وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله ، فلما سمع إلياس ذلك وأحسّ بالشر ، رفضه وخرج عنه ، فلحق بشواهق الجبال ، وعاد الملك إلى عبادة بعل . فارتقى إلياس أصعب جبل وأشمخه ، فدخل مغارة فيه ، فيقال : إنه قد بقي فيه سبع سنين شريداً طريداً خائفاً يأوي إلى
(8/160)

" صفحة رقم 161 "
الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر ، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون ، يتوقعون أخباره ويجتهدون في أخذه ، والله سبحانه وتعالى يستره ويدفع عنه . فلما تمّ له سبع سنين أذن الله تعالى في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم ، فأمرض الله سبحانه ابناً لأجب وكان أحبّ ولدِه إليه ، وأعزهم عليه ، وأشبههم به فأدنف حتى يئس منه ، فدعا صنمه بعلاً وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه ، حتى جعلوا له أربعمئة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أُمناءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف الصّنم فيتكلّم بأنواع الكلام ، وأربعمئة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان ، ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيكتبونها للناس فيعملون بها ، ويسمونهم الأنبياء .
فلما اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوه إلى بعل ويطلبوا لابنه من قِبَلِهِ الشفاء والعافية فدعوه فلم يجبهم ، ومنع الله بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج في جوفه ولا الكلام ، وهم مجتهدون في التضرع إليه وهو لا يزداد إلاّ خمودا . فلما طال عليهم ذلك قالوا لأجب : إنّ في ناحية الشام آلهة أُخرى ، وهي في العظم مثل إلهِك ، فابعث إليها الأنبياء ليشفعوا لك إليها ، فلعلّها أن تشفع لك إلى إلهك بعل ، فإنه غضبان عليك ، ولولا غضبه عليك لكان قد أجابك وشفى لك ابنك .
قال أجب : ومن أجل ماذا غضب عليّ ، وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت ، لم أسخطه ساعة قط ؟ قالوا : من أجل أنك لم تقتل إلياس ، وفرطت فيه حتى نجا سليماً ، وهو كافرٌ بإلهك ، يعبد غيره ، فذلك الذي أغضبه عليك . قال أُجب : وكيف لي أن أقتل إلياس يومي هذا ، وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني ؟ فليس لإلياس مطلب ، ولا يعرف له موضع فيقصد ، فلو عوفي ابني تفرّغت لطلبه ، ولم يكن لي همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فاقتله ، فأُريح إلهي منه وأُرضيه .
قال : ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمئة ليشفعوا إلى الآلهة . التي بالشام ، ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه . فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس ، أوحى الله سبحانه إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلمهم ، وقال له : ( لا تخف فإني سأصرف عنك شرّهم ، وأُلقي الرّعب في قلوبهم ) فنزل إلياس من الجبل ، فلما لقيهم استوقفهم ، فلما وقفوا ، قال لهم : ( إنّ الله سبحانه أرسلني إليكم وإلى مَن وراءكم ، فاسمعوا أيُّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم ، فارجعوا إليه وقولوا له : إنّ الله يقول لك : ألست تعلم يا أجب
(8/161)

" صفحة رقم 162 "
أنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم ، أفجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي ، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئاً إلاّ ماشئت ؟ إنّي حلفت باسمي لأغيظنّك في ابنك ولأُميتنه في فوره هذا حتى تعلم أنّ أحداً لا يملك له شيئاً دوني ) .
فلما قال لهم هذا رجعوا ، وقد مُلئوا منه رعباً ، فلما صاروا إلى الملك قالوا له ذلك وأخبروه بأن إلياس انحط عليهم وهو رجل نحيف طويل ، قد قشف وقحل وتمعط شعره وتقشر جلده ، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال ، فاستوقفنا ، فلما صار معنا قذفت له في قلوبنا الهيبة والرعب ، وانقطعت ألسنتنا ، ونحن في هذا العدد الكبير وهو واحد ، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه ، حتى رجعنا إليك ، وقصّوا عليه كلام إلياس ، فقال أجب : لا ينتفع بالحياة ما كان إلياس حيّاً ، ما الذي منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتوني به ، وأنتم تعلمون أنه طلبي وعدوّي ؟ فقالوا : قد أخبرناك ما الذي منعنا منه ومن كلامه والبطش به . قال أجب : ما يُطاق إذن إلياس إلاّ بالمكر والخديعة .
فقيّض له خمسين رجلاً من قومه من ذوي القوة والبأس ، وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال عليه والاعتناء به ، وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم ليستنيم إليهم ويغترّ بهم فيمكنهم من نفسه ، فيأتوا به ملكهم . فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس ( عليه السلام ) ، ثم تفرّقوا فيه وهم ينادونه بأعلى أصواتهم ، ويقولون : يا نبي الله ابرز لنا وأشرف بنفسك فإنا قد آمنا بك وصدقناك ، وملكنا أُجب وجميع قومنا ، وأنت آمن على نفسك ، وجميع بني إسرائيل يقرؤون عليك السلام ويقولون : قد بلّغتنا رسالة ربك وعرفنا ما قلت وآمنا بك ، وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلّم إلينا ، فأنت نبينا ورسول ربنا ، فأقم بين أظهرنا واحكم فينا ، فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا ، وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا ، فتداركنا وارجع إلينا ، وكلّ هذا كان منهم مماكرة وخديعة .
فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت بقلبه ، وطمع في إيمانهم وخاف الله ، وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر ولم يجبهم بعد الذي سمع منهم ، فلمّا أجمع على أن يبرز لهم ، رجع إلى نفسه فقال : ( لو أنّي دعوت الله سبحانه وتعالى وسألته أن يعلمني ما في أنفسهم ويطلعني على حقيقة أمرهم ) ، وذلك أنّ الله سبحانه وفقه وألهمه التوقّف والدعاء والتحرز ، فقال : ( اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فائذن لي في البروز إليهم ، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم ) .
(8/162)

" صفحة رقم 163 "
فما استتمّ قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم أجمعين .
قال : وبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء ، واحتال ثانياً في أمر إلياس ، وقيّض فئة أُخرى مثل عدد أُولئك ، أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي فأقبلوا حتى توغلوا ( في ) تلك الجبال . متفرقين ، وجعلوا ينادون : يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته ، إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا ، إنّ أولئك فرقة نافقوا وخالفوا ، فصاروا إليك ليكيدوا بك من غير رأينا ولا علمنا ، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك وخرجوا إليك سراً ، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤونتهم ، والآن فقد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم بسوء نياتهم وانتقم دونك منهم . فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأُولى ، فأمطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم .
وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه كما وعده الله سبحانه وتعالى على لسان نبيّه إلياس ، لا يُقضى عليه فيموت ولا يُخفف عنه من عذابه ، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانياً إزداد غضباً إلى غضب ، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه إلاّ أنه شغله عن ذلك مرض ابنه ، فلم يمكنه ، فوجه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذي هو كاتب امرأته ، رجاء أن يأنس به إلياس ، فينزل معه وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءاً ، وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه ، وأنّ الملك مع اطلاعه على إيمانه كان مغضياً عنه فيه ؛ لما هو عليه من الأمانة والكفاءة والحكمة وسداد الرأي والبصر بالأُمور فلما وجّهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه ، وأوعز إليهمدون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد التخلف عنهم ، وإن جاء مع الكاتب واثقاً به آنساً لمكانته لم يوحشوه ولم يرّوعوه . ثم أظهر للكاتب الإنابة ، وقال له : إنه قد آن لي أن أتوب واتّعظ ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا ، والبلاء الذي فيه ابني ، وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس ، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته ، فانطلق لنا إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا ، وإنّه لا يصلحنا في توبتنا ، وما نُريد من رضا ربنا وخلع أصنامنا إلاّ أن يكون إلياس بين أظهرنا ، يأمرنا وينهانا ، ويخبرنا بما يُرضي ربنا .
قال : وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام وقال له : أخبر إلياس أنّا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد
(8/163)

" صفحة رقم 164 "
وأرجأنا أمرها حتى ينزل إلياس إلينا فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها ، وكان ذلك مكراً من الملك . فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس ، ثم ناداه ، فعرف إلياس صوته ، فتاقت نفسه إليه وأنس به ، وكان مشتاقاً إلى لقائه .
قال : وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى إلياس أن انزل إلى أخيك الصالح ، فالقه وجدد العهد به . فنزل إليه وسلم عليه وصافحه وقال له : ما الخبر ؟ فقال المؤمن : إنه بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه ، ثم قصّ عليه ما قالوا ، ثم قال له : إني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني ، فمرني بما شئت أفعله وأنتهي إليه ، وإن شئت انقطعت إليك فكنت معك وتركته ، وإن شئت جاهدته معك ، وإن شئت ترسلني إليه بما تحبّ فأبلغه رسالتك ، وإن شئت دعوت ربك فجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً .
قال : فأوحى الله سبحانه إلى إلياس أنّ كلّ شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك ، وإنّ أجب إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأتِ بك إليه اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك فلم يأمن أن يقتله فانطلق معه ، فإنّ انطلاقك معه عذره وبراءته عند أجبّ ، وإنّي سأشغل عنكما أجب ، فأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره ثم أُميته على شرّ حال ، فإذا مات هو فارجع عنه ولا تقم .
قال : فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا عليه شدّد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن إلياس ، ورجع إلياس سالماً إلى مكانه . فلما مات ابن أُجب ، وفرغوا من أمره وقلّ جزعه ، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذي جاء به ، فقال : ليس لي به علم وذلك أنه شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك إلاّ وقد استوثقت منه . فأضرب عنه أجب وتركه لما كان فيه من الجزع على ابنه .
فلما طال الأمر على إلياس ملّ المكث في الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران والناس ، نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل ، وهي أُمّ يونس بن متّى ذي النون ، فاستخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع ، وكانت أُمّ يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها .
قال : ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال دوحها فأحبّ اللّحوق بالجبال ، فخرج وعاد إلى مكانه ، فجزعت أُمّ يونس لفراقه ( وأوحشها ) فقده ثم لم تلبث إلاّ
(8/164)

" صفحة رقم 165 "
يسيراً حتى مات ابنها حين فطمته ، فعظمت مصيبتها فيه ، فخرجت في طلب إلياس فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته فقالت له : إني قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي وليس لي ولد غيره فارحمني وادع ربك جل جلاله ليُحيي لي ابني ويجبر مصيبتي ، وإني قد تركته مسجّى لم أدفنه ، وقد أخفيت مكانه . فقال لها إلياس : ( ليس هذا مما أُمرت به ، وإنما أنا عبدٌ مأمور أعمل بما يأمرني ربي ، ولم يأمرني بهذا ) فجزعت المرأة وتضرعت ، فأعطف الله سبحانه قلب إلياس لها ، فقال لها : ( ومتى مات ابنك ؟ ) قالت : منذ سبعة أيام .
فانطلق إلياس معها وسار سبعة أُخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس بن متّي ميتاً منذ أربعة عشر يوماً ، فتوضأ وصلّى ودعا فأحيا الله يونس بن متّي بدعوة إلياس . فلما عاش وجلس ، وثب إلياس وانصرف وتركه وعاد إلى موضع ما كان فيه . فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعاً وأجهده البلاء ، قال : فأوحى الله سبحانه إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود : ( يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه ؟ ألست أميني على وحيي ، وحجّتي في أرضي ، وصفوتي من خلقي ؟ فسلني أُعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم ) قال : ( تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملّوني ، وأبغضتهم فيك وأبغضوني ) . فأوحى الله سبحانه إليه : ( يا إلياس ، ما هذا باليوم الذي أُعري منك الأرض وأهلها ، وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلاً ، ولكن تسألني فأُعطيك ) .
قال إلياس : ( فإن لم تمتني يا إلهي فأعطني ثاري من بني إسرائيل ) . قال الله سبحانه : ( وأي شيء تريد أن أُعطيك يا إلياس ؟ )
قال : ( تمكنّني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشأ عليهم سحابة إلاّ بدعوتي ، ولا يمطر عليهم سبع سنين قطرة إلاّ بشفاعتي ، فإنهم لا يذلّهم إلاّ ذلك ) . قال الله سبحانه وتعالى : ( يا إلياس ، أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ) . قال : ( فستّ سنين ) . قال : ( أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ) .
قال : ( فخمس سنين ) . قال : ( أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ، ولكنّي أُعطيك ثأرك ثلاث سنين ، أجعل خزائن المطر بيدك ، ولا تنشأ عليهم سحابة إلاّ بدعوتك ، ولا ينزل عليهم قطرة إلاّ بشفاعتك ) . قال إلياس : ( فيأي شيء أعيش ؟ )
قال : ( أُسخرّ لك جنساً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط ) .
قال إلياس : ( قد رضيت ) .
قال : فأمسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر ، وجهد
(8/165)

" صفحة رقم 166 "
الناس جُهداً شديداً ، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان ، وقد عرفه بذلك قومه ، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في البيت قالوا : لقد دخل إلياس هذا المكان ، فطلبوه ولقي منهم أهل ذلك المنزل شيئاً .
قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاثَ سنين القحطُ ، فمرّ إلياس بعجوز ، فقال لها : هل عندك طعام ؟ فقالت : نعم ، شيء من دقيق وزيت قليل . قال : فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسَّه حتى ملأ جرابها دقيقاً وملأ خوابيها زيتاً ، فلمّا رأى بنو إسرائيل ذلك عندها قالوا : من أين لك هذا ؟ قالت : مرّ بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته ، فعرفوه وقالوا : ذلك إلياس ، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم .
ثم إنه آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له : اليسع بن أخطوب وكان به ضر ، فآوته وأخفت أمره ، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به ، واتّبع اليسع إلياس فآمن به وصدّقه ولزمه ، وكان يذهب به حيثما ذهب ، وكان إلياس قد أسنّ وكبر ، وكان اليسع غلاماً شاباً .
ثم إن الله سبحانه أوحى إلى إلياس : ( إنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعصِ سوى بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر يحبس المطر من بني إسرائيل ) . فيزعمون والله أعلم أنّ إلياس قال : ( يا ربّ دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به ، وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك ) . قيل له : ( نعم ) .
فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم : ( إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً ، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر لخطاياكم ، وإنكم على باطل وغرور ، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم ( تلك ) فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء ) .
قالوا : أنصفت .
فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم ولم يفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، ثم قالوا لإلياس ( عليه السلام ) : يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا . فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج عنهم مما هم فيه ، وأن يسقوا ، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر ، وهم ينظرون ،
(8/166)

" صفحة رقم 167 "
فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم . فلما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد ، ولم ينزغوا عن كفرهم ، ولم يقلعوا عن ضلالتهم ، وأقاموا على حيث ما كانوا عليه ، فلما رأى إلياس ذلك دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم ، فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا ، فاخرج فيه إلى موضع كذا ، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه .
فخرج إلياس ومعه اليسع بن أحطوب ، حتى إذا كان بالموضع الذي أمر ، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه إلياس ، فانطلق به الفرس ، فناداه اليسع : يا إلياس ، ما تأمرني ؟ فقذف إليه بكسائه من الجوّ الأعلى ، وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، فكان ذلك آخر العهد به ، ورفع الله سبحانه إلياس من بين أظهرهم ، وقطّع عنه لذّة المطعم والمشرب ، وكساه الرّيش ، فكان إنسيّاً ملكيّاً ، أرضيّاً سماويّاً ، وسلّط الله تعالى على أجب الملك وقومه عدّواً لهم ، فقصدهم من حيث لم يشعروا بهم حتى رهقهم ، فقتل أجب ملكهم وأزبيل امرأته في بستان مزدكي ، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما .
ونبّأ الله سبحانه بفضله اليسع ، وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده بمثل ما أيدّ به عبده إلياس ، فآمنت به بنو إسرائيل ، فكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره ، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا الحسن بن عبد العزيز الجدوي عن ضمرة عن السدي بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ، ويوافيان الموسم في كلّ عام .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن بن أيوب قال : حدّثنا عبد الله بن أبي زياد قال : حدّثنا يسار قال : حدّثنا بشر بن منصور قال : حدّثني سعيد بن أبي سعيد البصري قال : قال حدّثني العلاء البجلي عن زيد مولى عون الطفاوي عن رجل من أهل عسقلان كان يمشي بالأردن عند نصف النهار ، فرأى رجلاً فقال : يا عبد الله من أنت ؟ قال : فجعل لا يكلمني ، قلت : يا عبد الله من أنت ؟ قال : ( أنا إلياس ) قال : فوقعت عليَّ رعدة ، فقلت : ادع الله يرفع عني ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك . قال : فدعا لي بثماني دعوات : ( يابرّ يارحيم ياحنان يامنان ياحي ياقيوم ) ، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما .
قال : ورفع الله عنّي ما كنت أجدُ ، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين يدي ، قال : فقلت له : يوحى إليك اليوم ؟ قال : ( منذ بعث الله سبحانه محمداً رسولاً فإنه ليسَ يُوحي إليّ ) قال : قلت له : كم الأنبياء اليوم أحياء ؟ قال : ( أربعة ، اثنان في الأرض ، واثنان في السماء ، في
(8/167)

" صفحة رقم 168 "
السماء عيسى وإدريس ، وفي الأرض إلياس والخضر ) . قلت : كم الأبدال ؟ قال : ( ستون رجلاً ، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات ، ورجل بالمصيصية ورجلان بعسقلان وسبعة في سائر البلدان ، كلّما أذهب الله بواحد ، جاء الله بآخر ، بهم يدفع عن الناس وبهم يمطرون ) . قلت : فالخضر أين يكون ؟ قال : ( في جزائر البحر ) . قلت : فهل تلقاه ؟ قال : ( نعم ) . قلت : أين ؟ قال : ( بالموسم ) قلت : فما يكون من حديثكما ؟ قال : ( يأخذ من شعري وآخذ من شعره ) .
قال : وذاك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشام القتال ، فقلت : فما تقول في مروان بن الحكم ؟ قال : ( ما تصنع به ؟ رجل جبّار عات على الله سبحانه ، القاتل والمقتول والشاهد في النار ) . قال : قلت : فإني قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرمِ بسهم ولم أضرب بسيف ، وأنا أستغفر الله عز وجل من ذلك المقام أن أعود إلى مثله أبداً .
قال : ( أحسنت ، هكذا فكن ) .
قال : فأني وإياه قاعدان ، إذ وُضع بين يديه رغيفان أشد بياضاً من الثلج ، أكلت أنا وهو رغيفاً وبعض آخر ثم رفع فما رأيت أحداً وضعه ولا أحداً رفعه . قال : وله ناقة ترعى في وادي الأردن ، فرفع رأسه إليها فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها ، قلت : أُريد أن أصحبك . قال : ( إنك لا تقدر على صحبتي ) . قلت : إني خلوّ ، مالي زوجة ولا عيال . قال : ( تزوج وإياك والنساء الأربع : إياك والناشز والمختلعة والملاعنة والمبارية ، وتزوّج ما بدا لك من النساء ) . قال : قلت : إني أُحبّ لقاءك . قال : ( إذا رأيتني فقد لقيتني ) ، ثم قال : ( إني أُريد أن أعتكف في بيت المقدس في شهر الله المبارك رمضان ) .
قال : ثم حالت بيني وبينه شجرة ، فوالله ما أدري كيف ذهب ، فذلك قوله عز وجل : ) وإنّ الياس لمن المرسلين }
الصافات : ( 124 - 125 ) إذ قال لقومه . . . . .
) إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون ( أتعبدون ) بعلاً ( ؟ وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونها ، ولذلك سمّيت مدينتهم بعلبك ، وقال مجاهد وعكرمة والسدّي : البعل الرب بلغة أهل اليمن ، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال ابن عباس : وسألت أعرابياً يقول : لآخر : من بعل هذه الناقة ؟ يعني صاحبها . قال الفراء : هي بلغة هذيل .
) وتذرون أحسن الخالقين ( ، فلا تعبدونه :
الصافات : ( 126 ) الله ربكم ورب . . . . .
) الله ربكم وربّ آبائكم الأولين ( ، قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب بنصب الهاء والبائين على البدل ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ورواية حفص عن عاصم ، وقرأ الآخرون برفعها على الاستئناف .
الصافات : ( 127 ) فكذبوه فإنهم لمحضرون
) فكذبُوه فإنهم محضرون ( في العذاب والنار
الصافات : ( 128 ) إلا عباد الله . . . . .
) إلاّ عباد الله المخلصين ( من قومه فإنهم
(8/168)

" صفحة رقم 169 "
( ناجون من النار
الصافات : ( 129 - 130 ) وتركنا عليه في . . . . .
) وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على إل ياسين ( قرأ ابن محيص وشيبة ) سلامٌ على إلياسين ( موصولاً .
وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب ( آل ياسين ) بالمدّ . الباقون : ) إل ياسين ( بالقطع والقصر ، فمن قرأ آل ياسين بالمد ، فإنه أراد آل محمد عن بعضهم ، وقيل : أراد إلياس ، وهو أليق بسياق الآية ، ومن قرأ إل ياسين فقد قيل : إنها لغة في إلياس مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين ، وقال الفراء : وهو جمع ، أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم : الأشعرون والمكيون وقال الكسائي : العرب تثني وتجمع الواحد كقول الشاعر :
قدني من نصر الخبيبين قدي
وإنما هو أبو خبيب عبد الله بن الزبير .
وقال الآخر :
جزاني الزهدمان جزاء سوء
وإنما هو زهدم ، وفي حرف عبد الله ( وإن إدريس لمن المرسلين ، وسلامٌ على ادراسين ) .
الصافات : ( 131 - 138 ) إنا كذلك نجزي . . . . .
) إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإنّ لوطاً لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلاّ عجوزاً في الغابرين ثم دمّرنا الآخرين وإنكم لتمرّون عليهم ( ، أي على آثارهم ومنازلهم ، ) مُصبحين ( : وقت الصباح ، ) وبالليل ( أيضاً تمرّون ، وها هنا تمّ الكلام ، ثم قال ) أفلا تعقلون ( ، فتعتبروا ؟
( ) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاَْوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى
(8/169)

" صفحة رقم 170 "
حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2
الصافات : ( 139 - 140 ) وإن يونس لمن . . . . .
) وإنّ يونس لمن المرسلين إذ أَبَق ( . هرب ) إلى الفُلك المشحون ( ، قال ابن عباس ووهب : كان يونس ( عليه السلام ) قد وعد قومه العذاب فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمنشور منهم ، فقصد البحر وركب السفينة ، فاحتبست السفينة ، فقال الملاّحون : ها هنا عبد أبق من سيّده ، وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري . فاقترعوا ، فوقعت القرعة على يونس ، فقالوا : ألا نلقيه في الماء ؟ واقترعوا ثانياً وثالثاً فوقعت القرعة على يونس ، فقال : ( أنا الآبق ) وزجّ نفسه في الماء ، فذلك قوله سبحانه :
الصافات : ( 141 ) فساهم فكان من . . . . .
) فساهم ( : فقارع ، والمساهمة : إلقاء السهام على جهة القرعة . ) فكان من المدحضين ( المقروعين المخلوعين المغلوبين .
الصافات : ( 142 ) فالتقمه الحوت وهو . . . . .
) فالتقمه ( : فابتلعه والتقمة ) الحُوت ( وأوحى الله سبحانه إليه أنّي جعلت بطنك سجناً ولم أجعله لك طعاماً ، ) وهو مُليم ( مذنب ، قد أتى بما يلام عليه .
الصافات : ( 143 ) فلولا أنه كان . . . . .
) فلولا أنه كان من المسبّحين ( المنزهّين الذاكرين لله سبحانه قبل ذلك في حال الرخاء ، وقال ابن عباس : من المصلين ، وقال مقاتل : من المصلحين المطيعين قبل المعصية ، وقال وهب : من العابدين ، وقال سعيد بن جبير : يعني قوله ) لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( وقال الحسن : ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً ،
الصافات : ( 144 ) للبث في بطنه . . . . .
) للبِثَ في بطنه إلى يوم يُبعثون ( لصار بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة .
الصافات : ( 145 ) فنبذناه بالعراء وهو . . . . .
) فنبذناه ( : طرحناه ) بالعراء ( قال الكلبي : يعني وجه الأرض . مقاتل بن حيان : يعني ظهر الأرض . مقاتل بن سليمان بالبراري من الأرض . الأخفش بالفِناء الفراء بالأرض الواسعة . السدّي : بالساحل ، وأصل العراء الأرض الخالية عن الشجر والنّبات ، ومنه قيل للمتجرد : عريان . قال الشاعر :
( ترك الهام . . . بالعراء
صار للخير حاصر العبقا )
) وهُو سقيم ( عليل كالفرخ الممغط ، واختلفوا في المدة التي لبث يونس ( عليه السلام ) في بطن الحوت ، فقال مقاتل بن حيان : ثلاثة أيام . عطاء : سبعة أيام ، ضحاك : عشرين يوماً . السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان : أربعين يوماً .
(8/170)

" صفحة رقم 171 "
الصافات : ( 146 ) وأنبتنا عليه شجرة . . . . .
) وأنبتنا عليه ( أي له ، وقيل : عنده ، كقوله : ) لهم عليّ ذنبٌ ( أي عندي ) شجرةً من يقطين ( قال ابن مسعود : يعني القرع . ابن عباس والحسن ومقاتل هو كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ، ولا يبقى على الشتاء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل . سعيد ابن جبير : هو كل شيء ينبت ثمّ يموت من عامه ، وقيل : هو يفعيل من ( قطن بالمكان ) إذا أقام به إقامة زائل لا إقامة ثابت ، وقال مقاتل بن حيان : وكان يستظل بالشجرة ، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها ،
الصافات : ( 147 ) وأرسلناه إلى مائة . . . . .
) وأرسلناه ( يجوز أن يكون من حبسه في بطن الحوت ، تقدير الآية وقد أرسلناه ، ويجوز أن يكون بعده ، ويجوز أن يكون إلى قوم آخرين . ) إلى مائة ألف أو يزيدُون ( قال ابن عباس : معناه ويزيدون ، قال الشاعر :
فلما اشتد أمر الحرب فينا
تأملنا رياحاً أو رزاماً
أي ورزاماً ، وقال مقاتل : بل يزيدون .
واختلفوا في مبلغ الزيادة على مائة ألف ؛ فقال ابن عباس ومقاتل : عشرون ألف . الحسن والربيع : بضع وثلاثون ألفاً ، ابن حيان : سبعون ألفاً ،
الصافات : ( 148 ) فآمنوا فمتعناهم إلى . . . . .
) فآمنوا ( عند معاينة العذاب ، ) فمتعناهم إلى حين ( انقضاء آجالهم .
الصافات : ( 149 ) فاستفتهم ألربك البنات . . . . .
) فاستفتهم ( : فسل يا محمد أهل مكة ) ألِربك البناتُ ولهم البنون ( ؛ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أنّ الملائكة بنات الله ،
الصافات : ( 150 ) أم خلقنا الملائكة . . . . .
) أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ( : حاضرون خلقنا إياهم ، نظيره قوله : ) أشهدوا خلقهم 2 )
الصافات : ( 151 - 153 ) ألا إنهم من . . . . .
) ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى ( . قرأ العامة بقطع الألف ؛ لأنه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة على حالها مثل ) استكبرت و ( ) أستغفرت ( و ) أذهبتم ( ونحوها .
وقرأ أبو جعفر ونافع في بعض الروايات ( الكاذبون اصطفى ) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين ، مجازه : ) ليقولون ولد الله ( ويقولون ) اصطفي ( ) البنات على البنين ( ثم رجع إلى الخطاب :
الصافات : ( 154 - 156 ) ما لكم كيف . . . . .
) مالكُم كيف تحكمون أفلا تذكّرون أم لكم سُلطانٌ مبين ( : برهان بيّن على أنّ الله ولداً
الصافات : ( 157 - 158 ) فأتوا بكتابكم إن . . . . .
) فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً ( : فجعلوا
(8/171)

" صفحة رقم 172 "
الملائكة بنات الله ، فسمّي الملائكة جنًّا لاختبائهم عن الأبصار ، هذا قول مجاهد وقتادة ، وقال ابن عباس : قالوا لحيّ : من الملائكة يقال لهم : الجنّ ومنهم إبليس بنات الله .
قال الكلبي : قالوا ( لعنهم الله ) : بل تزوّج من الجن فخرج منها الملائكة ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه .
) ولقد علمت الجنة أنهم ( يعني قائلي هذا القول ) لمحضرون ( في النار .
الصافات : ( 159 - 160 ) سبحان الله عما . . . . .
) سُبحان الله عما يصفون إلاّ عباد الله المخلصين ( ؛ فإنهم من النار ناجون .
الصافات : ( 161 ) فإنكم وما تعبدون
) فإنكم وما تعبدون ( يعني الأصنام
الصافات : ( 162 ) ما أنتم عليه . . . . .
) ما أنتم عليه ( أي مع ذلك ) بفاتنين ( : بمضلّين
الصافات : ( 163 ) إلا من هو . . . . .
) إلاّ من هُوَ صالِ الجحيم ( أي إلاّ من هو في علم الله وإرادته سيدخل النار .
أخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا أبو بكربن شنبه قال : حدّثنا عبد الله بن إدريس عن عمربن ذر قال : قدمنا على عمر بن عبد العزيز فذكر عنده القدر ، فقال عمر بن عبد العزيز : لو أراد الله ألاّ يُعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة ، وإن في ذلك لعلماً من كتاب الله ، وجهله من جهله وعرفه من عرفه ، ثم قرأ ) إنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلاّ من هو صالِ الجحيم ( ، وقد فصلت هذه الآية بين الناس .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : حدّثنا أنس بن عياض قال : حدّثني أبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر قال : قال لي عمر بن عبد العزيز ( من فيه إلى أُذني ) : ما تقول في الذين يقولون لا قدر ؟ قال : أرى أن يستتابوا ، فإن تابوا وإلاّ ضربت أعناقهم . قال عمر بن عبد العزيز : ذلك الرأي فيهم والله لو لم يكن إلاّ هذه الآية الواحدة لكفى بها : ) فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم 2 )
الصافات : ( 164 ) وما منا إلا . . . . .
) ما منّا إلاّ له ( يعني إلاّ من له ) مقامٌ معلوم ( : مكان مخصوص في العبادة . قال ابن عباس : ما في السماوات موضع شبر إلاّ وعليه ملك مصلَ أو مسبح ، وقال أبو بكر : الوراق : ) إلاّ له مقام معلوم ( يعبد الله عليه ، كالخوف والرجا ، والمحبة والرضا ، وقال السدي : يعني في القربى والمشاهدة .
الصافات : ( 165 ) وإنا لنحن الصافون
) وإنا لنحن الصافون ( في الصلاة ،
الصافات : ( 166 - 167 ) وإنا لنحن المسبحون
) وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا ( وقد كادوا يعني أهل مكة ) ليقولون ( لام التأكيد :
الصافات : ( 168 ) لو أن عندنا . . . . .
) لو أنّ عندنا ذكراً من الأولين ( : كتاباً مثل كتبهم ،
الصافات : ( 169 - 170 ) لكنا عباد الله . . . . .
) لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به ( فيه اختصار تقديره : فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به . نظيره قوله : ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم ( .
(8/172)

" صفحة رقم 173 "
) فسوف يعلمون ( ، وهذا وعيد لهم .
الصافات : ( 171 ) ولقد سبقت كلمتنا . . . . .
) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرُسلين ( ، وهي قوله : ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي 2 )
الصافات : ( 172 - 174 ) إنهم لهم المنصورون
) إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين ( قال ابن عباس : يعني الموت ، وقال مجاهد : يعني يوم بدر ، وقيل : إلى يوم القيامة ، وقال مقاتل بن حيان : نسختها آية القتال .
الصافات : ( 175 ) وأبصرهم فسوف يبصرون
) وأبصِرْهُم ( : أنظر إليهم إذا عدوا ، وقيل : أبصر حالهم بقليل ، وقيل : انتظرهم ) فسوف يُبصِرون ( ما أنكروا :
الصافات : ( 176 ) أفبعذابنا يستعجلون
) أفَبعذابنا يستعجلون ( وذلك أنّ رسول الله ( عليه السلام ) لما أوعدهم العذاب ، قالوا : متى هذا الوعد ؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
الصافات : ( 177 ) فإذا نزل بساحتهم . . . . .
) فإذا نزل ( العذاب ) بساحتهم ( : بناحيتهم وفِنائهم ) فساء ( : فبئس ) صباح المنذرين ( : الكافرين . أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الزاهد قال : أخبرنا أبو العباس السراح قال : حدّثنا محمد بن رافع قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمّر عن قتادة عن أنس في قوله : ) فساء صباح المنذرين ( قال : لما أتى النبي صلّى الله عليه خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومعهم مساحيهم ، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا ، فرجعوا إلى حصنهم ، فقال النبي عليه السلام : ( الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) .
الصافات : ( 178 - 179 ) وتول عنهم حتى . . . . .
) وتولّ عنهم حتى حين وأبصر فسوف يُبصرون ( تأكيد للأُولى .
الصافات : ( 180 ) سبحان ربك رب . . . . .
) سبحان ربك ( إلى آخر السورة أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا أبو مسلم : حدّثنا محمد بن إسماعيل بن محمد بن أُسد بن عبد الله الأصفهاني قال : حدّثنا أسيد بن عاصم قال : حدّثنا أبو سفيان بن صالح بن مهران قال : حدّثنا نعمان قال : حدّثنا أبو العوام عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه : ( إذا سلمتم عليّ فسلّموا على المرسلين ؛ فإنما أنا رسول من المرسلين ) .
قال أبو العوام : كان قتادة يذكر هذا الحديث إذا تلا هذه الآية : ) سبحان ربّك ( إلى آخر السورة .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب قال : حدّثنا مطرف عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد
(8/173)

" صفحة رقم 174 "
الخدري قال : كان رسول الله صلّى الله عليه يقول قبل أن يسلّم : ) سبحان ربك ربّ العزةِ عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين ( .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن عليح قال : ( من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه من مجلسه ) سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون }
الصافات : ( 181 - 182 ) وسلام على المرسلين
) وسلامٌ على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين ( ) .
( أخبرنا ابن فنجويه ، أخبرنا الحسن المخلدي المقرئ عن أبي الحسن علي بن أحمد عن أبي ( عثمان ) البصري عن أبي خليفة ( الجمحي عن ) عبد المؤمن عن إبراهيم بن إسحاق ( عن عبد الصمد ) عن صالح بن مسافر قال : قرأت على عاصم بن أبي النجود سورة والصافات فلما أتيت على آخرها سكت ، فقال : لِم ؟ إقرأ .
فقلت : قد ختمت ، قال إني فعلت كما فعلت على أبي عبد الرحمن السلمي ، فقال أبو عبد الرحمن : كذلك قال لي عليّ وقال لي : قل : آذنتكم بأذانة المرسلين و ) لتسئلن عن النبأ العظيم ( .
(8/174)

" صفحة رقم 175 "
( سورة ص )
وهي ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفاً ، وسبعمائة وإثنتان وثلاثون كلمة ، وثمانية وثمانون آية .
من كتاب ثواب الأعمال : أخبرنا إبراهيم قال : حدّثنا سلام في إسناده قال : ومن قرأ سورة ص كان له من الأجر مثل جبل سخّره الله لداود عشرة حسنات ، وعصم من أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير .
حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن الحسن قال : حدّثنا أبو الربيع قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثني العطاف بن خلد عن عبد الرّحمن بن حرملة عن برد مولى سعيد بن المسيب : إنّ ابن المسيّب كان لا يدع أن يقرأ كل ليلة ص .
قال العطاف : فلقيت عمران بن محمّد بن سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك .
قال : بلغني أنّه ما من عبد يقرأها كلّ ليلة إلاّ اهتز له العرش .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّ نذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الاَْلِهَةَ إِلَاهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الاَْخِرَةِ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( 2
ص : ( 1 ) ص والقرآن ذي . . . . .
) ص ( قرأ العامة بالجزم ، واختلفوا في معناه .
فقال الكلبي : عن أبي صالح ، سُئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن ) ص ( فقالا : لا ندري .
وقال عكرمة : سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن ) ص ( فقال : كان بحراً بمكّة وكان عليه عرش الرّحمن ، إذ لا ليل ولا نهار
(8/175)

" صفحة رقم 176 "
سعيد بن جبير : ) ص ( بحر يُحيي الله به الموتى بين ( النفختين ) .
الضحّاك : صدق الله . مجاهد : فاتحة السّورة . قتادة : اسم من أسماء القرآن . السدّي : قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به ، وهو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ . وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس .
محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله ، صمد ، وصانع المصنوعات ، وصادق الوعد .
وقيل : هو اسم السّورة ، وقيل : هو إشارة إلى صدود الكفّار من القرآن .
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : صاد بخفض الدّال ، من المصادّاة ، أي عارض القرآن بعملك وقابله به ، واعمل بأوامره ، وانته عن نواهيه .
وقرأ عيسى بن عمر صاد بفتح الدّال ، ومثلهُ قاف ونون ، لإجتماع السّاكنين ، حرّكها إلى أخف الحركات .
وقيل : على الإغراء .
وقيل في ) ص ( : إنّ معناه صاد محمّد قلوبَ الخلق واستمالها حتّى آمنوا به .
) والقرآنِ ذي الذّكر ( قال ابن عباس ومقاتل : ذي البيان .
الضحاك : ذي الشرف ، دليله قوله عزّوجل : ) وإنّه لذكرٌ لك ولقومِك ( .
وقيل : ذي ذكر الله عزّ وجلّ .
واختلفوا في جواب القسم ، فقال قتادة : موضع القسم قوله : ) بل الذين كفروا ( كما قال سبحانه : ) ق والقرآن المجيد بل عجبوا ( . وقال الأخفش جوابه قوله : ) إنْ كلٌّ إلاّ كذّبَ الرسل ( كقوله عزّوجل : ) تالله إنْ كنّا . . . ( وقوله : ) والسماء والطارق إن كلّ نفس ( . وقيل : قوله : ) إنَّ هذا لرزقنا ماله من نفاد ( .
وقال الكسائي : قوله : ) إنّ ذلك لحقٌّ تخاصم أهل النار ( .
ص : ( 2 ) بل الذين كفروا . . . . .
وقيل : مقدم ومؤخر تقديره ) بل الذين كفروا في عزّة وشقاق والقرآن ذي الذّكر ( .
وقال الفراء : ) ص ( معناها وجب وحقّ ، فهي جواب لقوله ) والقرآن ( كما تقول : ( نزل ) والله .
وقال القتيبي من قال جواب القسم ) بل الذين كفروا ( قال : ( بل ) إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر ، ومجاز الآية أن الله أقسم ب ) ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( ويعني حمية جاهلية وتكبر .
(8/176)

" صفحة رقم 177 "
) وشقاق ( يعني خلاف وفراق .
ص : ( 3 ) كم أهلكنا من . . . . .
) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ( بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم .
) ولات حين مناص ( وليس بوقت فرار ولا بر .
وقال وهب : ) ولات ( بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول : ولات .
وقال أئمة أهل اللغة : ) ولات حين ( مفتوحتان كأنّهما كلمة واحدة ، وإنّما هي ( لا ) زيدت فيها التاء كقولهم : رُبّ ورُبَّت ، وثمَّ وثمَّت .
قال أبو زيد الطائي :
طلبوا صلحنا ولات أوان
فأجبنا أن ليس حين بقاء
( وقال ) آخر :
تذكّرت حبّ ليلى لات حيناً
وأمسى الشيب فقطع القرينا
وقال قوم : إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعديّ :
العاطفون حين ما من عاطف
والمطعمون زمان ما من مطعم
وتقول العرب : تلان بمعنى الآن ، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان ح فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن .
وقال الشاعر :
تولى قبل يوم بين حمانا
وصلينا كما زعمت تلانا
فمن قال : إن التاء مع ( لا ) قالوا : قف عليه لأن بالتاء ( . . . ) .
وروى قتيبة عن الكسائي أنّه كان يقف : ولاه ، بالهاء ، ومثله روي عن أهل مكة ، ومن قال : إن التاء مع حين . قالوا : قف عليه ولا ، ثم يبتدىء بحين مناص . وهو اختيار أبي عبيد قال : لأني تعمدّت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان ح عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت : ( تحين )
(8/177)

" صفحة رقم 178 "
وقال الفراء : النوص بالنون التأخر ، والبوص بالباء التقدم . وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال :
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص
فتقصر عنها خطوة وتبوص
فمناص مفعل من ناص مثل مقام .
قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض : مناص ، أي اهربوا وخذوا حذركم ، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص ، فأنزل الله سبحانه ) ولات حين مناص 2 )
ص : ( 4 - 5 ) وعجبوا أن جاءهم . . . . .
) وَعَجِبُوا أنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً ( .
وذلك أن عمر بن الخطاب ح أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون ، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش ، وهم الصناديد والأشراف ، وكانوا خمسة وعشرين رجلاً ، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّاً ، وأبو جميل ابن هشام ، وأُبي وأُميّة ابنا خلف ، وعمر بن وهب بن خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وعبد الله بن أُميّة والعاص بن وائل ، والحرث بن قيس ، وعدي بن قيس ، والنضر بن الحرث ، وأبو البحتري بن هشام ، وقرط بن عمرو ، وعامر بن خالد ، ومحرمة بن نوفل ، وزمعة بن الأسود ، ومطعم بن عدي ، والأخنس بن سريق ، وحويطب ابن عبد العزى ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، والوليد بن عتبة ، وهشام بن عمر بن ربيعة ، وسهيل بن عمرو ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : امشوا إلى أبي طالب . فأتوا أبا طالب فقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، وإنّا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك . فأرسل أبو طالب إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فدعاه فقال له : يابن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وماذا يسألوني ؟ ) فقال : يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وآلهك .
فقال النبي ( عليه السلام ) : ( أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ؟ ) فقال أبو جهل : لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قولوا لا إله إلاّ الله ) . فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا : ) أَجعل الآلهة إلهاً واحداً ( كيف يسع الخلق كلهم إله واحد
(8/178)

" صفحة رقم 179 "
) إن هذا لشيء عجاب ( أي عجيب .
قال مقاتل : بلغة أزدشنوه .
قال أهل اللغة : العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير ووكبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد .
أنشد الفراء :
كحلقة من أبي رماح
تسمعها لاهة الكبار
وقال آخر :
نحن أجدنا دونها الضرابا
إنّا وجدنا ماءها طيابا
يريد طيباً .
وقال عباس بن مرداس : تعدوا به سلميةٌ سُراعه . أي سريعة .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر : عجّاب بالتشديد . وهو المفرط في العجب .
فأنشد الفراء :
آثرت إدلاجي على ليل جرّة
هضيم الحشا حسانة المتجرد
وأنشد أبو حاتم :
جاءوا بصيد عجّب من العجب
أُزيرق العينين طوال الذنب
ص : ( 6 ) وانطلق الملأ منهم . . . . .
) وانطلق الملأ منهم أن امشوا ( يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه ) واصبروا ( واثبتوا ) على آلهتكم ( نظيرها في الفرقان ) لولا أن صبرنا عليها ( ) إن هذا لشيء يُراد ( أي لأمر يُراد بنا
ص : ( 7 ) ما سمعنا بهذا . . . . .
) ما سمعنا بهذا ( الذي يقول محمّد ) في الملة الآخرة ( .
قال ابن عبّاس والقرظي والكلبي ومقاتل : يعنون النصرانية ، لأن النصارى تجعل مع الله إلهاً .
(8/179)

" صفحة رقم 180 "
وقال مجاهد وقتادة : يعنون ملة قريش ، ملة زماننا هذا .
) إن هذا إلاّ اختلاق (
ص : ( 8 ) أأنزل عليه الذكر . . . . .
) أأنزل عليه الذكر ( القرآن ) من بيننا ( قال الله عزّ وجلّ : ) بل هم في شك من ذكري ( أيّ وحيي .
( ) أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاَْسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الاَْحَزَابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاَْوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لئَيْكَةِ أُوْلَائِكَ الاَْحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الاَْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ ( 2
) بَلْ لَمَّا ( أي لم ) يَذُوقُوا عَذَابِ ( ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول
ص : ( 9 ) أم عندهم خزائن . . . . .
) أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ ( نعمة ) رَبِّكَ ( يعني مفاتيح النبوة ، نظيرها في الزخرف ) أهم يقسمون رحمة ربك ( أي نبوة ربك ) العَزِيزِ الوَهَّابِ (
ص : ( 10 ) أم لهم ملك . . . . .
) أمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ( أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات ، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن ، وهذا أمر توبيخ وتعجيز .
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة : أراد بالأسباب : أبواب السماء وطرقها .
ص : ( 11 ) جند ما هنالك . . . . .
) جُندٌ ( أي هم جُند ) مَا هُنَالِكَ ( أي هنالك و ( ما ) صلة ) مَهْزُومٌ ( مغلوب ، ممنوع عن الصعود إلى السماء ) مِنْ الأحْزَابِ ( أي من جملة الأجناد .
وقال أكثر المفسرين : يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول ، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور .
قال قتادة : وعده الله عزّ وجلّ بمكة أنّه سيهزمهم ، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب ، أيّ كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا ، ثم قال معزّاً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم )
ص : ( 12 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ( قال ابن عبّاس : ذو البناء المحكم .
(8/180)

" صفحة رقم 181 "
وقال القتيبي : والعرب تقول : هم في عز ثابت الأوتاد ، وملك ثابت الأوتاد . يريدون أنّه دائم شديد ، وأصل هذا أن البيت من بيوتهم بأوتاده .
قال الأسود بن يعفر : في ظل ملك ثابت الأوتاد .
وقال الضحاك : ذو القوة والبطش .
وقال الحلبي ومقاتل : كان يعذب الناس بالأوتاد ، وكان إذا غضب على أحد مَدّهُ مستلقياً بين أربعة أوتاد كل رجل منه إلى سارية وكل يد منه إلى سارية ، فيتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتّى يموت .
وقال مقاتل بن حيان : كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يشده بالأوتاد .
وقال السدي : كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات .
وقال قتادة وعطاء : كانت له أوتاد وأرسال وملاعب يلعب عليها بين يديه .
ص : ( 13 - 14 ) وثمود وقوم لوط . . . . .
) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوط وَأصْحَابُ الأيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأحْزَابُ إنْ كُلٌّ ( ما كل منهم ) إلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( فوجب عليهم ونزل بهم عذابي
ص : ( 15 ) وما ينظر هؤلاء . . . . .
) وَمَا يَنظُرُ ( ينتظر ) هَؤُلاءِ ( يعني كفار مكة ) إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ( وهي نفخة القيامة .
وقد روي هذا التفسير مرفوعاً إلى النبي ( عليه السلام ) .
) مَا لَهَا مِنْ فَوَاق ( .
قال ابن عبّاس وقتادة : من رجوع . الوالبي : يزداد . مجاهد : نظرة . الضحاك : مستوية .
وفيه لغتان : ( فُواق ) بضم الفاء وهي لغة تميم ، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف . و ( فَواق ) بالفتح وهي لغة قريش ، وقراءة سائر القرّاء واختيار أبي عبيد .
قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ، كما يقال حُمام المكوك وحُمامه ، وقصاص الشعر وقصاصه .
وفرّق الآخرون بينهما .
قال أبو عبيدة والمؤرخ : بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب من الإجابة ، ذهبا به إلى إفاقة المريض من علته ، و ( الفُواق ) بالضم مابين الحلبتين ، وهو أن يحلب الناقة ثم تترك ساعة حتّى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق .
فاستعير في موضع الإنتظار مدة يسيرة .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من رابط فواق ناقة في سبيل الله حرّم الله جسده على النار ) .
(8/181)

" صفحة رقم 182 "
ص : ( 16 ) وقالوا ربنا عجل . . . . .
) وَقَالُوا ربَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ ( .
قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : يعني كتابنا .
وعنه أيضاً : القط الصحيفة التي أحصت كل شيء .
قال أبو العالية والكلبي : لمّا نزلت في الحاقة ) فأما من أوتي كتابه بيمينه ( ، ) وأما من أوتي كتابه بشماله ( .
قالوا على جهة الاستهزاء : ( عجّل لنا قطنّا ) يعنون كتابنا عجلّه لنا في الدُّنيا .
قيل : يوم الحساب .
وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي : يعني عقوبتنا وماكتب لنا من العذاب .
قال عطاء : قاله النظر بن الحرث ، وهو قوله : ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم ( وهو الذي قال الله سبحانه ) سأل سائل بعذاب واقع (
قال عطاء : لقد نزلت فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزّ وجلّ .
وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنّة التي تقول .
قال الفراء : القَطّ في كلام العرب الحظ ، ومنه قيل للصك قطّ .
وقال أبو عبيدة والكسائي : القطّ الكتاب بالجوائة .
قال الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته
بغبطته يعطي القطوط ويأفق
يعني كتب الجوائز أيّ بفضل وبعلو ، يقال فرس أفق وناقة أفقه إذا كانا كريمين ، وفضّلا على غيرهما .
وقال مجاهد : قطنّا حسابنا ، ويقال لِكتاب الحساب : قطّ ، وأصل الكلمة من الكتابة .
فقال الله سبحانه لنبيه ( عليه السلام ) :
ص : ( 17 ) اصبر على ما . . . . .
) اصبر على مايقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد ( ذا القوة في العبادة ) إنه أوّاب ( مطيع
(8/182)

" صفحة رقم 183 "
عن ابن عبّاس : رجّاع إلى التوبة .
عن الضحاك ، سعيد بن جبير : هو المسبّح بلغة الحبش .
أخبرني الحسين بن محمّد الدينوري قال : حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدثنا أبو العبّاس عبد الله بن جعفر بن أحمد بن ( فارس ) ببغداد قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن القاسم قال : حدثنا عمرو بن حصين قال : حدثنا الحسين بن عمرو عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الزرقة يمن وكان داود النبي ( عليه السلام ) أزرق ) .
ص : ( 18 ) إنا سخرنا الجبال . . . . .
) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن ( بتسبيحه .
قال ابن عبّاس : وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر .
) بالعشي والإشراق ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه قال : حدثنا الحسين بن يحيويه قال : حدثنا أبو أُميّة محمّد بن إبراهيم قال : حدثنا الحجاج بن نصير قال : حدثنا أبو بكر الهذلي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال : كنت أمُرّ بهذه الآية لا أدري مالعشي والإشراق ، حتّى حدثتني أُم هاني بنت أبي طالب أن رسول الله ( عليه السلام ) دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى الضحى وقال : ( يا أُم هاني هذه صلاة الإشراق ) .
روى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال : لم يزل في نفسي ( من ) صلاة الضحى شيء حتّى طلبتها في القرآن فوجدتها في هذه الآية ) يسبحن بالعشي والإشراق ( .
قال عكرمة : وكان ابن عبّاس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلى بعدها .
وروي أن كعب الأحبار قال لابن عبّاس ذ : إني لأجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس .
فقال ابن عبّاس : أنا أوجدك ذلك في كتاب الله في قصة داود ) يسبحن بالعشي والإشراق ( وليس الإشراق طلوع الشمس ، إنّما هو صفاؤها وضوؤها .
ص : ( 19 ) والطير محشورة كل . . . . .
) والطير ( أيّ وسخّرنا له الطير ) محشورة ( مجموعة ) كل له ( أيّ لداود ) أواب ( مطيع
ص : ( 20 ) وشددنا ملكه وآتيناه . . . . .
) وشددنا ملكه ( أيّ قوّيناه
(8/183)

" صفحة رقم 184 "
وقرأ الحسن : وشدّدنا بتشديد الدال .
قال ابن عبّاس : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل ، فذلك قوله ) وشددنا ملكه ( بالحرس .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن قال : حدثنا داود بن سليمان قال : حدثنا عبد بن حميد قال : حدثنا محمّد بن الفضل قال : حدثنا داود بن أبي الفرات عن عليّ بن أحمد عن عكرمة عن ابن عبّاس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم ، فاجتمعا عند داود النبي فقال المستعدي : ان هذا غصبني بقرتي .
فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده ، وسأل الآخر البيّنة فلم يكن له بيّنة . فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما .
فقاما من عنده ، فأوحى الله سبحانه إلى داود ( عليه السلام ) في منامه : أن يقتل الرجل الذي استُعدي عليه .
فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتّى أتثبت .
فأوحى الله سبحانه إليه مرة أُخرى أن يقتله . فلم يفعل ، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه الثالثة : أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل فقال له : إن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك .
فقال له الرجل : تقتلني بغير بيّنة ولاثبت
فقال له داود : نعم ، والله لأُنفذن أمر الله فيك .
فلمّا عرف الرجل أنّه قاتله قال : لا تعجل حتّى أُخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فلذلك أُخذت .
فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود ، واشتد به ملكه فهو قوله سبحانه : ) وشددنا ملكه ( .
) وآتيناه الحكمة ( يعني النبوة والاصابة في الأمور . وقال أبو العالية : العلم الذي لاتردّه العقول .
) وفصل الخطاب ( قال ابن عبّاس : بيان الكلام .
وقال الحسن والكلبي وابن مسعود ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي : يعني علم الحكم والبصر بالقضاء ، كأن لا يتتعتع في القضاء بين الناس ، وهي إحدى الروايات عن ابن عبّاس .
وقال علي بن أبي طالب : هو البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر .
(8/184)

" صفحة رقم 185 "
وأخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن محمّد بن عمر الجوري قال : أخبرنا أبو بكر بالويه بن محمّد بن بالويه المربتاني بها ، قال : حدثنا محمّد بن حفص الحوني قال : حدثنا نصر بن علي الخميصمي قال : أخبرنا أبو أحمد قال : اخبرنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن كعب في قوله ) وفصل الخطاب ( قال : الشهود والإيمان .
أنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا عبد الله بن محمّد قال : حدثنا محمّد بن يحيى قال : حدثنا وهب بن جرير قال : أخبرنا ( شعبة ) عن الحكم عن شريح في قوله ) وفصل الخطاب ( قال : الشهود والإيمان . وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال : حدثنا أحمد بن محمّد أبي شيبة قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي قال : حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا يعني ابن أبي زائدة عن ( السبيعي ) قال : سمعت زياداً يقول : ) فصل الخطاب ( الذي أُعطي داود ، أما بعد وهو أوّل من قالها .
ص : ( 21 ) وهل أتاك نبأ . . . . .
) وهل آتياك نبؤا الخصم ( الآية . اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيّه داود بما امتحنه به من الخطيئة .
فقال قوم : كان سبب ذلك أنه تمنى يوماً من الأيام على ربّه عزّ وجلّ منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( عليهم السلام ) وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم ، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم .
وروى السدي والكلبي ومقاتل : عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا : كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام : يوماً يقضي فيه بين الناس ، ويوماً يخلوا فيه لعبادة ربّه ، ويوماً يخلوا فيه لنسائه وأشغاله . وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال : يارب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي .
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : أنهم إبتلوا ببلاء مالم تبتلِ بشيء من ذلك فصبروا عليها . إبتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه ، وإبتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره ، وإبتلى يعقوب بالحزن على يوسف . وأنك لم تبتلِ بشيء من ذلك .
فقال داود : ربِّ فإبتلني بمثل ما إبتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم .
فأوحى الله سبحانه إليه : أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس .
فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى ، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور ، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن ، فوقعت بين رجليه ، فمدَّ يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له ، فلما أهوى إليها
(8/185)

" صفحة رقم 186 "
طارت غير بعيد ، من غير أن توئيسه من نفسها فامتد اليها ليأخذها فتنحت ، فتبعها فطارت حتّى وقعت في كوة ، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة ، فنظر داود أين تقع ، فبعث إليها من يصيدها ، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل ، هذا قول الكلبي .
وقال السدي : رآها تغتسل على سطح لها ، فراى امرأة من أجمل النساء خلقاً ، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله ، فنفضت شعرها فغطى بدنها ، فزاده ذلك إعجاباً بها فسأل عنها . فقيل : هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا ، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود .
فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء : أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتّى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد ، فبعثه وقدّمه فَفُتح له ، فكتب إلى داود بذلك ، فكتب إليه أيضاً : أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا . فبعثه فَفُتح له ، فكتب إلى داود بذلك ، فكتب إليه أيضاً : أن ابعثه إلى عدو كذا أشدّ منه بأساً . فبعثه فقتل في المرة الثالثة ، فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوجّها داود فهي أم سليمان .
وقال آخرون : سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنّه يطيق قطع يوم بغير مقارفة .
وهو ما أخبرنا شعيب بن محمّد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا أحمد بن الأزهر قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال : إن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء : يوماً لنسائه ، ويوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكهم ويبكونه .
قال : فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لايصيب فيه ذنباً ؟
فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك ، فلمأا كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لايدخل عليه أحد ، وأكبّ على قراءة التوراة ، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه ، فأهوى إليها ليأخذها ، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن توئيسه من نفسها ، فما زال يتبعها حتّى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها ، فلمّا رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها ، فزاده ذلك بها إعجاباً ، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه ، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكاناً ، إذا سار إليه قُتل ولم يرجع ففعل فأصيب ، فخطبها داود فتزوجها .
(8/186)

" صفحة رقم 187 "
وقال بعضهم : في سبب ذلك ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد قال : حدثنا مخلد ابن جعفر الباقرجي قال : حدثنا الحسين بن علوية قال : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن قال : قال داود لبني إسرائيل حين ملك : والله لأعدلن بينكم ، فلم يستثن فابتلي به .
وقال أبو بكر محمّد بن عمر الوراق : كان سبب ذلك أن داود ( عليه السلام ) كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال : هل في الأرض أحد يعمل عملي ؟
فأتاه جبرئيل فقال : ان الله عزّ وجلّ يقول : أعجبت بعبادتك والعُجب يأكل العبادة ، فإن أُعجبت ثانياً وكلتك إلى نفسك .
قال : يارب كلني إلى نفسي سنة .
قال إنها لكثيرة .
قال : فساعة .
قال : شأنك بها .
فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه ، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان .
قالوا : فلمّا دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلاّ يسيراً حتّى بعث الله سبحانه ملكين في صورة أنسيين فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه ، فتسورا المحراب عليه ، فما شعر وهو يصلي إلاّ وهو بهما بين يديه جالسين ، فذلك قوله : ) وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوّروا ( وإنّما جعلوا جمع الفعل ، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والإثنين والمذكر والمؤنث .
قال لبيد :
وخصم يعدون الدخول كأنهم
قروم غيارى كل أزهر مصعب
وقال آخر :
وخصم عضاب ينفضون لحاهم
كنفض البراذين العراب المخاليا
(8/187)

" صفحة رقم 188 "
وإنّما جمع وهما إثنان ، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فالإثنان فما فوقهما جماعة ، كقوله عزّ وجلّ ) قد صغت قلوبكما (
.
) إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِىبَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاَْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 2
ص : ( 22 ) إذ دخلوا على . . . . .
) إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ ( قال الفراء : قد كرر إذ مرتين ، ويكون معناهما كالواحد ، كقولك : ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت ، فالدخول هو الاجتراء ، ويجوز أن يجعل أحديهما على مذهب لما .
) فَفَزِعَ مِنْهُمْ ( حين همّا عليه محرابه بغير إذنه .
) قَالُوا لا تَخَفْ ( ياداود ) خَصْمَانِ ( أي نحن خصمان ) بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ( ولا تجز ، عن ابن عبّاس والضحاك .
وقال السدي : لاتسرف . المؤرخ : لاتفرط .
وقرأ أبو رجاء العطاردي : ولا تَشطُط بفتح التاء وضم الطاء الأولى ، والشطط والأشطاط مجاوزة الحد ، وأصل الكلمة من حدهم شطت الدار ، وأشطت إذا بعدت .
) وَاهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( أيّ وسط الطريق ، فإن قيل : كيف قال : إن هذا أخي فأوجب الأخوة بين الملائكة ولامناسبة بينهم ، لأنهم لاينسلون .
في الجواب : أن معنى الآية : نحن لخصمين كما يقال وجهه : القمر حسناً ، أيّ كالقمر .
ص : ( 23 ) إن هذا أخي . . . . .
قال أحد الخصمين ) إنَّ هَذَا أخِي ( على التمثيل لا على التحقيق ، على معنى كونهما على طريقة واحدة وجنس واحد ، كقوله سبحانه : ) إنما المؤمنون أخوة ( وقد قيل : إن المتسورين كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم ، وإن أحدهما كان ملكاً والآخر لم يكن ملكاً ، فنبها داود على ما فعل
(8/188)

" صفحة رقم 189 "
) لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ( وهذا من أحسن التعريض ، حتّى كنّى بالنعاج عن النساء .
والعرب تفعل ذلك كثيراً توري عن النساء بالظباء والشاة والبقر وهو كثير وأبين في أشعارهم .
قال الحسن بن الفضل : هذا تعريض التنبيه والتفهيم ، لأنه لم يكن هناك نعاج ولابغي ، وإنما هو كقول الناس ضرب زيد عمراً ، وظلم عمرو زيداً ، واشترى بكر داراً وما كان هناك ضرب ولاظلم ولاشراء .
) فَقَالَ أكْفِلْنِيهَا ( . قال ابن عبّاس : أعطنيها .
ابن جبير عنه : تحوّل لي عنها .
مجاهد : أنزل لي عنها .
أبو العالية : ضمها إليَّ حتّى أكفلها .
ابن كيسان : اجعلها كفلي ، أي نصيبي .
) وَعَزَّنِي ( وغلبني ) فِي الخِطَابِ ( .
قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني .
وقرأ عبيد بن عمير : وعازني في الخطاب بالألف من المعاز وهي المغالبة .
ص : ( 24 ) قال لقد ظلمك . . . . .
فقال داود : ) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ ( فإن قيل : كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر ؟
قيل : معنى الآية أن أحدهما لمّا ادّعى على الآخر عرّف له صاحبه ، فعند اعترافه فصل القضية بقوله : ( لقد ظلمك ) فحذف الاعتراف ، لأن ظاهر الآية دال عليه ، كقول العرب : أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال .
وقال الشاعر :
تقول ابنتي لما رأتني شاحباً
كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب
تتابع أحداث تخر من إخوتي
فشيّبن رأسي والخطوب تشيب
) وَإنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ ( الشركاء ) لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( فليسوا كذلك ) وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ( ودليل ماذكرنا من التأويل .
(8/189)

" صفحة رقم 190 "
ما قاله السدي ، بإسناده : إن احدهما لما قال : ) إن هذا أخي ( الآية فقال داود للآخر : ما تقول ؟ فقال إن لي تسعاً وتسعين نعجة ، ولأخي هذا نعجة واحدة ، وأنا أريد ان آخذها منه فأكمل نعاجي مائة . قال : وهو كاره .
قال : إذاً لاندعك وذلك ، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة .
فقال : ياداود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا ، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة ، فلم تزل به تعرضه للقتل حتّى قُتل وتزوجت امرأته .
قال : فنظر داود فلم ير أحداً ، فعرف ما قد وقع فيه ، فذلك قوله سبحانه : ) وَ ظَنَّ ( وأيقن ) دَاوُودُ أنَّمَا فَتَنَّاهُ ( ابتليناه .
قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنة داود النظر .
قلت : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة ، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه .
فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود .
وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب ح أنه قال : من حدّث بحديث داود على ماروته القصاص معتقداً صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم ، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله ، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين .
فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة : إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالاً له وحدث نفسه بذنب ، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه ، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له ، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله سبحانه على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى .
وقال بعضهم : كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها ، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا غماً شديداً ، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول ، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة .
وممّا يصدق ماذكرنا ( ما ) قيل عن المفسرين المتقدمين ، ما أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الفقيه : أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير قال : حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرني ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر
(8/190)

" صفحة رقم 191 "
عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن داود النبيّ حين نظر إلى المرأة وأهم ، قطع على بني إسرائيل ، وأوصى صاحب البعث فقال : إذا حضرالعدو فقرّب فلاناً بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتّى يقتل أو ينهزم عنه الجيش ، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ، ففطن داود فسجد ، فمكث أربعين ليلة ساجداً حتّى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه ، وهو يقول في سجوده : ربّ زلّ داود زلة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب ، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلوف من بعده .
فجاءه جبرئيل ( عليه السلام ) من بعد أربعين ليلة فقال : ياداود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به .
فقال داود : عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لايميل ، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال : ربّ دمي الذي عند داود ؟
فقال جبرئيل : ما سألت ربك عن ذلك ، ولئن شئت لأفعلن .
قال : نعم .
فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ماشاء الله ثم نزل ، فقال : قد سألت الله تعالى ياداود عن الذي أرسلتني فيه فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هِب ( لي ) دمك الذي عند داود . فيقول : هو لك يارب . فيقول : فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضاً ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا الباقرجي قال : حدثنا الحسن بن علوية قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدثنا إسحاق بن بشير قال : أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال : واخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي ، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان ، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال : وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعاً : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه ، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه . وعلم داود إنه عني به ، فخر ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلاّ لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة ، ثم يعود ساجداً ثم لايرفع رأسه إلاّ لحاجة لابدّ منها ، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوماً ، لايأكل ولايشرب وهو يبكي حتّى نبت ( الزرع ) حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة ، وكان يقول في سجوده :
سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء ، سبحان خالق النور ، سبحان الحائل
(8/191)

" صفحة رقم 192 "
بين القلوب ، سبحان خالق النور ، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس ، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي ، سبحان خالق النور ، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته ، سبحان خالق النور ، إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خلقتني ، وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النور ، إلهي يُغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني ، سبحان خالق النور ، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال : هذا داود الخاطىء ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي ، إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النور ، إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب ، سبحان خالق النور ، إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها ، فتركتني والخطيئة لازمة بي ، سبحان خالق النور ، إلهي من أين تطلب المغفرة إلاّ من عند سيده ، سبحان خالق النور ، إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي ، سبحان خالق النور ، إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي ، سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك ، سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم ، سبحان خالق النور ، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا ، سبحان خالق النور ، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي ، سبحان خالق النور ، إلهي الطير تسبّح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطىء الذي لم ارع وصيتك ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلاّ المغيث ، سبحان خالق النور ، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري ، سبحان خالق النور .
اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي ، سبحان خالق النور ، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولاتباعدني من رحمتك لهواني ، سبحان خالق النور ، اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لاتستجاب وصلاة لا تُتَقَبَّل وذنب لايغفر وعذر لا يقبل ، سبحان خالق النور ، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني ، سبحان خالق النور ، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي ، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين ، سبحان خالق النور ، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطئيتي الزم بي من جلدي ، سبحان خالق النور .
قال : فأتاه نداء : يا داود أجائع أنت فتطعم ، أظمآن أنت فتسقى ، أمظلوم أنت فتنصر ؟
ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء ، فصاح صيحة هاج ماحوله ثم نادى : يارب الذنب الذنب الذي أصبته .
(8/192)

" صفحة رقم 193 "
ونودي : ياداود ارفع رأسك فقد غفرت لك .
فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل ( عليه السلام ) فرفعه .
قال وهب : إن داود ( عليه السلام ) أتاه نداء : أني قد غفرت لك .
قال : يا رب كيف وأنت لاتظلم أحداً .
قال : إذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه .
قال : فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى : يا أوريا .
فقال : لبيك من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وايقظني ؟
قال : أنا داود .
قال : ما جاء بك يانبي الله ؟
قال : أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك
قال : وما كان منك إليَّ ؟
قال : عرضتك للقتل .
قال : عرضتني للجنّة وأنت في حلّ .
فأوحى الله تعالى إليه : ياداود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير ، ألا أعلمته أنك قد تزوجت إمراته .
قال : فرجع إليه فناداه فأجابه .
فقال : من هذا الذي قطع عليَّ لذتي ؟
قال : أنا داود .
قال : يانبي الله أليس قد عفوت عنك ؟
قال : نعم ، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها .
قال : فسكت فلم يجبه ، ودعاه فلم يجبه ، وعاوده فلم يجبه ، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى : الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار ، سبحان خالق النور .
قال : فأتاه نداء من السماء : يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك .
(8/193)

" صفحة رقم 194 "
قال : يارب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني .
قال : ياداود أعطيه يوم القيامة مالم تر عيناه ولم تسمع أُذناه فأقول له : رضى عبدي ؟
فيقول : يارب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي .
فأقول له : هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي .
قال : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي .
فذلك قوله سبحانه : ) فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأنَابَ }
ص : ( 25 ) فغفرنا له ذلك . . . . .
) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ( يعني ذلك الذنب ) وَإنَّ لَهُ ( بعد المغفرة ) عِنْدَنَا ( يوم القيامة ) لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب ( يعني حسنٌ مرجع . وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا مخلد بن جعفر قال : حدثنا الحسن بن علوية قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرنا أبو الياس ومقاتل وأبو عبد الرحمن الجندي عن وهب بن منبه قال : إن داود لما تاب الله عزّ وجّل عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة ، لاترقأ له دمعة ليلاً ونهاراً ، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة ، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام : فكان يوم للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوم لنسائه ، ويوم يسيح في الفيافي وفي الجبال والساحل ، ويوم يخلوا في دار له فيها أربعة آلاف محراب ، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك ، فإذا كان يوم سياحته ، يخرج في الفيا في فيرفع صوته بالمزامير ، فيبكي وتبكي معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتّى تسيل من دموعهم مثل الأنهار ، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحجارة والجبال والدواب والطير حتّى تسيل أودية من بكائهم ، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر والسباع وطير الماء ، فإذا أمسى رجع .
فإذا كان يوم نوحه على نفسه ، نادى مناديه : أن اليوم يوم نَوح داود على نفسه ، فليحضر من يساعده .
قال : فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط له ثلاث فرش من مسوح ، حشوها ليف فيجلس عليها وتجيء الرهبان أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه ، ويرفع الرهبان معه أصواتهم ، فلا يزال يبكي حتى يغرق الفراش من دموعه ، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله ، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح بها وجهه ويقول : يارب اغفر ماترى ، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدُّنيا لعدله .
(8/194)

" صفحة رقم 195 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن ماجَة قال : حدثنا الحسن بن أيوب قال : حدثنا عبد الله بن أبي زياد قال : حدثنا سيار عن جعفر قال : سمعت ثابتاً يقول : ماشرب داود شراباً بعد المغفرة إلاّ وهو ممزوج بدموع عينيه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا عثمان بن أبي العاتكة : أنه كان من دعاء داود :
سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي ، ضاقت عليَّ الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إليّ روحي ، إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا إليّ خطيئتي ، فكلهم عليك يدلني .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدثنا محمّد ابن موسى الحلواني قال : حدثنا مهنى بن يحيى الرملي قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي قال : بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( خَدّ الدموع في وجه داود ( عليه السلام ) خديد الماء في الأرض ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ظفران بن الحسن بن جعفر بن هاشم قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن موسى بن سليمان قال : حدثنا أبو حفص عمر بن محمّد النسائي قال : حدثني إبراهيم بن عبد الله عن ابن بشر بن محمّد بن أبان قال : حدثنا الحسن بن عبد الله القرشي قال : لما أصاب داود ( عليه السلام ) الخطيئة فزع إلى العباد ، فأتى راهباً في قلة جبل فناداه بصوت عال فلم يجبه ، فلما أكثر عليه الصوت قال الراهب : مَن هذا الذي يناديني ؟
قال : أنا داود نبي الله .
قال : صاحب القصور الحصينة والخيل المسوّمة والنساء والشهوات ، لئن نلت الجنّة بهذا لأنت أنت .
فقال داود : فمن أنت ؟
قال : أنا راهب راغب مترقب .
قال : فمن أنيسك وجليسك ؟
قال : اصعد تره إن كنت تريد ذلك .
قال : فتخلل داود الجبل حتّى صار إلى القلة فإذا هو بميت مسجىً .
(8/195)

" صفحة رقم 196 "
فقال له : هذا جليسك وهذا أنيسك ؟
قال : نعم .
قال : من هذا ؟
قال : تلك قصته مكتوب في لوح من نحاس عند رأسه .
قال : فقرأ الكتاب فإذا فيه : أنا فلان ابن فلان ملك الأملاك ، عشت ألف عام وبنيت ألف مدينة وهَزمت ألف عسكر وألف امرأة أحصنت وافتضضت ألف عذراء ، فبينا أنا في ملكي أتاني ملك الموت وأخرجني ممّا أنا فيه ، فهذا التراب فراشي والدود جيراني .
قال : فخرَّ داود مغشياً عليه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا أحمد بن محمّد بن علي الهمداني قال : حدثنا عثمان بن نصر البغدادي قال : حدثنا محمّد بن عبد الرحمن بن غزوان قال : حدثنا الأشجعي عن الثوري عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان الناس يعودون داود يظنون أن به مرضاً ، ومابه مرض ومابه إلاّ الحياء والخوف من الله سبحانه ) .
وقال وهب : لما تاب الله تعالى على داود كان يبدأ إذا دعا ( يستغفر ) للخاطئين قبل نفسه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا الباقرجي قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا إسحاق بن بشر قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال : كان داود ساجداً من بعد الخطيئة لايجالس إلاّ الخاطئين ثم يقول : تعالوا إلى داود الخاطىء .
ولايشرب شراباً إلاّ مزجه بدموع عينيه ، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته ، فلا يزال يبكي حتّى يبتل بدموع عينيه ، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين .
قال : وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم النصف من الدهر ، فلما كان من خطيئته ما كان ، صام الدهر كله وقام الليل كله .
وأخبرنا عن إسحاق قال : حدثنا مقاتل وأبو الياس قالا : حدثنا وهب بن منبه : أن داود لما تاب الله عليه قال : يارب غفرت لي ؟
قال : نعم .
(8/196)

" صفحة رقم 197 "
قال : فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخطائين إلى يوم القيامة .
قال : فوسم الله عزّ وجلّ خطيئته في يده اليمنى ، فما رفع فيها طعاماً ولاشراباً إلاّ بكى إذا رآها ، وما كان خطيباً في الناس إلاّ بسط راحته فاستقبل الناس ، ليروا وسم خطيئته .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي قال : مارفع داود رأسه بعد الخطيئة إلى السماء حتّى مات .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدثنا محمّد بن خالد قال : حدثنا داود بن سليمان قال : حدثنا عبد بن حميد قال : حدثنا أبو أسامة عن محمّد بن سليمان قال : حدثنا ثابت قال : كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لايسدها إلاّ الأسر وإذا ذكر رحمته تراجعت .
قال : وروى المسعودي عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ، ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم ( عليه السلام ) أكثر حيث أخرجه الله تعالى من الجنّة وأهبط إلى الأرض .
ويروى أن داود كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لايقف له الماء ولاتصغي إليه البهائم والوحوش والطيور كما كان قبلها ، ونقصت نعمته فقال : إلهي ماهذا ؟
فأوحى الله سبحانه : ياداود إن الخطيئة هي التي غيرّت صوتك وحالك .
فقال : إلهي أوليس قد غفرتها لي ؟
فقال : نعم قد غفرتها لك ، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الودّ والقربة ، فلن تدركها أبداً فذلك قوله : ) فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأ نَابَ ( .
قال الحسين بن الفضل : سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قوله سبحانه : ) فخر راكعاً ( هل يقال للراكع خرَّ ؟
قلت : لا .
قال : فما معنى الآية ؟
قلت : معناها فخرَّ بعد أن كان راكعاً ، أي سجد .
أخبرني الحسن بن محمّد بن الحسين قال : حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار قال : حدثنا محمّد بن عبد العزي قال : حدثنا سليمان بن داود قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد الطويل ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن أبي سعيد الخدري قال : رأيتني أكتب سورة ص
(8/197)

" صفحة رقم 198 "
والقرآن ذي الذكر ، فلما أتيت على هذه الآية ) وظن داود انما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً واناب ( ، رأيت فيما يرى النائم كأنّ القلم خرّ ساجداً ، فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تقول كما قال وتسجد كما سجد ) فتلاها فسجدوا وأمرنا أن نسجد فيها .
وأخبرني الحسين بن محمّد قال : حدثنا صمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدثنا أبو حفص بكر بن أحمد بن مقبل قال : حدثنا عمر بن علي الصيرفي قال : حدثنا اليمان بن نصر الكعبي قال : حدثنا عبد الله أبو سعد المدني قال : حدثني محمّد بن المنكدر عن محمّد بن عبد الرحمن بن عوف قال : حدثني أبو سعيد الخدري قال : أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يارسول الله إني رأيت الليلة في منامي كأني تحت شجرة ، والشجرة تقرأ ص ، فلما بلغت السجدة سجدت ، فسمعتها تقول في سجودها :
اللهم أكتب لي بها أجراً ، وحط عني بها وزراً ، وارزقني بها شكراً ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفسجدت أنت يا أبا سعيد ؟ ) .
قلت : لا يا رسول الله .
قال : ( أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة ) ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى بلغ السجدة فسجد ثم قال مثل ما قالت الشجرة .
وأخبرني الحسين بن محمّد قال : حدثنا محمّد بن علي بن الحسن قال : حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال : حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا محمّد بن يزيد بن خنيس قال : حدثنا الحسن بن محمّد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريح : حدثنا حسن قال : حدثني جدّك عبيد الله بن أبي يزيد قال : حدثني ابن عبّاس قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يارسول الله إني رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني أُصلي خلف شجرة ، فرأيت كأني قرأت السجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت ، فسمعتها وهي ساجدة تقول :
اللّهم اكتب لي عندك بها أجراً ، واجعلها لي عندك ذخراً ، وضع عني بها وزراً ، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود .
قال ابن عبّاس : فرأيت النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ السجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل من كلام الشجرة ، قال الله سبحانه وتعالى فغفرنا له ذلك ) وَإنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب ( .
(8/198)

" صفحة رقم 199 "
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب ومحمّد بن قيس أنهما قالا في قوله عزّ وجلّ : ) وَإنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب ( .
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب قال : إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود .
ص : ( 26 - 28 ) يا داود إنا . . . . .
) يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ( تركوا الأيمان بيوم الحساب ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ (
ص : ( 29 ) كتاب أنزلناه إليك . . . . .
) كِتَابٌ أنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَك لِيَدَّ بَّرُوا ( ليتدبروا ) آيَاتِهِ ( .
2 ( ) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاَْلْبَابِ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّىأَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاَْعْنَاقِ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاَِحَدٍ مِّن بَعْدِىإِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاَْصْفَادِ هَاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَابِ ( 2
هذه قراءة العامة . وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى والترجمني : ( ليدبّروا ) بياء واحدة مفتوحة مخففة على الحذف .
قال الحسن : تُدبر آياته ، إتباعه .
) وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الألْبَابِ (
ص : ( 30 - 31 ) ووهبنا لداود سليمان . . . . .
) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوَّابٌ إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ ( .
قال الكلبي : غزا سليمان ( عليه السلام ) أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس .
وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس وكان أبوه أصابها من العمالقة .
وقال عوف عن الحسن : بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر لها أجنحة .
قالوا : فصلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيّه وهي تعرض عليه ، فعرضت عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر ، فإذا الشمس قد غابت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك بفتنته له ، واغتم لذلك فقال : ردوها عليَّ
(8/199)

" صفحة رقم 200 "
فردوها عليه فعرقبت وعقرت بالسيف ونحرها لله سبحانه ، وبقى منها مائة فرس ، فما في أيدي الناس اليوم من الخيل فهو من نسل تلك المائة .
قال الحسن : فلما عقر الخيل ، أبدله الله سبحانه مكانها خيراً منها وأسرع ( من ) الريح التي تجري بأمره كيف يشاء ، وكان يغدوا من إيليا فيقيل بقرير الأرض باصطخر ويروح من قرير ( بكابل ) .
وقال ابن عبّاس : سألت علي بن أبي طالب عن هذه الآية فقال : ما بلغك في هذا يا ابن عبّاس ؟
فقلت له : سمعت كعب الأحبار يقول : إن سليمان اشتغل ذات يوم بعرض الأفراس والنظر اليها حتّى توارت الشمس بالحجاب .
ص : ( 32 - 33 ) فقال إني أحببت . . . . .
فقال لما فاتته الصلاة : ) إنِّي أحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ ( يعني الأفراس وكانت أربعة وعشرون ، وبقول : أربعة عشر ، فردوها عليه فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها ، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوماً ، لأنه ظلم الخيل بقتلها .
فقال علي بن أبي طالبح : كذب كعب الأحبار ، لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس ذات يوم ، لأنه أراد جهاد عدو حتّى توارت الشمس بالحجاب ، فقال بأمر الله للملائكة الموطنين بالشمس : ردّوها عليَّ . يعني الشمس ، فردوها عليه حتّى صلى العصر في وقتها .
فإن أنبياء الله لايظلمون ولايأمرون بالظلم ولايرضون بالظلم ، لأنهم معصومون مطهّرون ، فذلك قوله سبحانه : ) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات ( وهي الخيل القائمة على ثلاث قوائم ، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل .
قال عمر بن كلثوم : تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا .
وقال القتيبي : الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل وغيرها .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سرّه أن يقوم له الرجال صفونا فليتبؤا مقعده من النار ) أي وقوفاً ) الجياد ( الخيار السراع واحدها جواد ) فقال إني أحببت حب الخير ( يعني الخيل ، والعرب تعاقب بين الراء واللام فيقول : انهملت العين وانهمرت ، وختلت الرجل وخترته أي خدعته .
(8/200)

" صفحة رقم 201 "
وقال مقاتل : ) حب الخير ( يعني المال وهي الخيل التي عرضت عليه ) عن ذكر ربي ( يعني الصلاة ، نظيرها ) لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله ( ، ) حتى توارت ( يعني الشمس ، كناية عن غير مذكور .
كقول لبيد :
حتّى إذا ألقت يداً في كافر
يعني الشمس ) بالحجاب ( وهو جبل دون قاف بمسيرة سنة ، تغرب الشمس من ورائها .
) ردوها ( كرّوها ) عليَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ( أي فأقبل يمسح سوقها وأعناقها بالسيف ، وينحرها تقرباً بها إلى الله سبحانه وطلباً لرضاه ، حيث اشتغل بها عن طاعته ، وكان ذلك قرباناً منه ومباحاً له ، كما أُبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام .
وقال قوم : معناه حبسها في سبيل الله ، وكوى سوقها وأعناقها بكيّ الصدقة .
ويقال للكيّة على الساق : علاظ ، وللكيّة على العنق : دهاو .
وقال الزهري وابن كيسان : كان يمسح سوقها وأعناقها ، ويكشف الغبار عنها حباً لها . وهي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس .
ص : ( 34 ) ولقد فتنا سليمان . . . . .
) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ( هذه قصة محنة نبي الله سليمان وسبب زوال ملكه مدة ، واختلفوا في سبب ذلك .
فروى محمّد بن إسحاق عن بعض العلماء قال : قال وهب بن منبه : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون ، بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر ، وكان الله قد أتى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر ، إنما يركب إليه ( إذا ركب على ) الريح ، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والإنس ، فقتل ملكها واستقام فيها وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها : جرادة ، لم يرَ مثلها حسناً وجمالاً ، واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام ، فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة ، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه ، وكانت على منزلتها عنده ، لايذهب حزنها ولايرقأ دمعها ، فشق ذلك على سليمان فقال لها : ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لايرقأ ؟
قالت : إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك .
(8/201)

" صفحة رقم 202 "
فقال سليمان : فقد أبدلك الله به ملكاً هو أعظم من ملكه ، وسلطاناً أعظم من سلطانه ، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله .
قالت : إن ذلك لكذلك ، ولكنني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن ، فلو أنك أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشياً ، لرجوت أن يُذهب ذلك حزني ، وأن يسلّى عني بعض ما أجد في نفسي .
فأمر سليمان الشياطين فقال : مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتّى لاتنكر منه شيئاً .
فمثّلوا لها حتّى نظرت إلى أبيها بعينه ، إلاّ أنّه لا روح فيه ، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته ، وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس ، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدوا عليه في ولائدها حتّى تسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع به في ملكه ، وتروح كل عشية بمثل ذلك ، وسليمان لايعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً وبلغ ذلك آصف بن برخيا ، وكان صدّيقاً وكان لايرد عن باب سليمان أيّ ساعة أراد دخول شيء من بيوته ، حاضراً كان ( سليمان ) أو غائباً ، فأتاه فقال : يانبي الله كبرت سني ، ودق عظمي ، ونفد عمري ، وقد حان مني الذهاب ، وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت ، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله ، وأثني عليهم بعلمي فيهم ، وأُعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم .
فقال : إفعل .
فجمع له سليمان الناس ، فقام فيهم خطيباً ، فذكر من مضى من أنبياء الله ، فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضّله الله به ، حتّى انتهى إلى سليمان فقال : ما كان أحلمك في صغرك ، وأورعك في صغرك ، وأفضلك في صغرك ، وأحكم أمرك في صغرك ، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك ، ثم انصرف .
فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتّى ملأه غضباً ، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله ، وأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم ، فلما ذكرتني جعلت تثني عليَّ بخير في صغري ، وسكت عمّا سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري ؟
قال : إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحاً في هوى امرأة .
فقال : في داري ؟
فقال : في دارك .
قال : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، لقد علمت أنك ماقلت الذي قلت إلاّ عن شيء بلغك .
ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم ، وعاقب تلك المرأة وولائدها ، ثم أمر بثياب
(8/202)

" صفحة رقم 203 "
الطهرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلاّ الأبكار ولم تمسها امرأة رأت الدم فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده ، وأمر برماد ففرش له ، ثم أقبل تائباً إلى الله عزّ وجلّ حتّى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللاً لله سبحانه وتضرعاً إليه ، يبكي ويدعو ويستغفر ممّا كان في داره ويقول فيما يقول :
رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك .
فلم يزل كذلك يومه ذلك حتى أمسى ، ثم يرجع إلى داره ، وكانت أم ولد له يقال لها : الأمينة ، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابه امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتّى يتطهر ، وكان لايلبس خاتمة إلاّ وهو طاهر ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه يوماً من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه ، فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان إسمه : صخر ، على صورة سليمان لاينكر منه شيئاً .
فقال : يا أمينة خاتمي .
فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتّى جلس على سرير سليمان ، وعكفت عليه الطير والجن والانس ، وخرج سليمان فأتى الأمينة ، وقد غيرت حاله وهيبته عند كل من رأى فقال : يا أمينة خاتمي .
فقالت : ومن أنت ؟
قال : أنا سليمان بن داود .
فقالت : كذبت لست بسليمان وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه .
فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته ، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول : أنا سليمان بن داود . فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون : انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان بن داود .
فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق ، فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا امسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأُخرى فأكلها ، فمكث بذلك أربعين صباحاً ، عدة ما كان عُبِدَ ذلك الوثن في داره ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين اليوم .
فقال آصف : يامعشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت ؟
قالوا : نعم .
قال : أمهلوني حتّى أدخل على نسائه فأسألهن : هل أنكرن منه في خاصة أمره ، ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته ؟
(8/203)

" صفحة رقم 204 "
فدخل على نسائه فقال : ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرناه ؟
فقلن : أشدّه مايدع امرأة منّا في دمها ، ولايغتسل من جنابة .
فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين .
ثم خرج إلى بني إسرائيل فقال : مافي الخاصة أعظم ممّا في العامة . فلما قضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه ، ثم مرَّ بالبحر فقذف الخاتم فيه ، فبلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين ، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتّى إذا كان العشي أعطاه سمكته وأعطى السمكة التي أخذت الخاتم ، وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها ، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه فجعله في يده ، ووقع ساجداً وعكفت عليه الطير والجنّ وأقبل عليه الناس ، وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره ، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال : ائتوني بصخر . فطلبته له الشياطين حتّى أُخذ له فأتى به فجاءت له صخرة ، فأدخله فيها ثم شد عليه أخرى ثم أوثقها بالرصاص والحديد ، ثم أمر به فقذف في البحر .
فهذا حديث وهب بن منبه .
قال السديّ في سبب ذلك : كان لسليمان ( عليه السلام ) مائة امرأة ، وكانت امرأة منهُنّ يقال لها : جرادة ، وهي أبرّ نسائه وآمنهن عنده ، فكان إذا أحدث أو أتى حاجة ، نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحداً من الناس غيرها ، فجاءته يوماً من الأيام فقالت له : إن أخي بينه وبين فلان خصومة ، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك .
فقال : نعم . ولم يفعل ، فابتلي بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المخرج فخرج الشيطان في صورته ، فقال لها : هات الخاتم .
فأعطته ، فجاء حتّى جلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه .
فقالت : ألم تأخذه قبل ؟
قال : لا . وخرج من مكانه تائهاً ، ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً .
قال : فأنكر الناس حكمه ، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلمائهم ، فجاؤا حتّى دخلوا على نسائه ، فقالوا : إنّا قد أنكرنا هذا ، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، وأنكرنا أحكامه ، فبكى النساء عند ذلك قال : فأقبلوا يمشون حتّى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرأوها ، فلما قرأوا
(8/204)

" صفحة رقم 205 "
التوراة طار من بين أيديهم حتّى وقع على شرفة والخاتم معه ، ثم طار حتّى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعته حوت .
قال : فأقبل سليمان في حاله التي كان فيها ، حتّى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد إشتد جوعه ، فاستطعمه من صيدهم ، وقال : إني أنا سليمان .
فقام إليه بعضهم فضربه بعصاً فشجه .
قال : فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، وقالوا : بئس ما صنعت حين ضربته .
فقال : إنه زعم أنه سليمان . فأعطوه سمكتين ممّا قد مذر عندهم ، فلم يشغله ما كان به من الضرب ، حتّى قام إلى شط البحر فشق بطونهما وجعل يغسلهما ، فوجد خاتمه في بطن أحديهما فأخذه فلبسه ، فردَّ الله عليه ملكه وبهاءه ، وجاءت الطير حتّى حامت عليه ، فعرف القوم أنه سليمان ، فقاموا يعتذرون مما صنعوا .
فقال : ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لابدّ منه .
ثم جاء حتّى أُتي ملكه وأمر حتّى أتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه ، وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه ، وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمره فألقي في البحر ، وهو كذلك حيٌّ حتّى الساعة .
وفي بعض الروايات : أن سليمان لما افتتن ، سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه ، فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط من يده ، فلما رآه سليمان لايثبت في يده أيقن بالفتنة ، وأن آصف قال لسليمان : إنك مفتون بذنبك والخاتم لايتماسك في يدك أربعة عشر يوماً .
ففرّ إلى الله تائباً من ذنبك ، وأنا أقوم مقامك وأسير في عالمك وأهل بيوتك بسيرتك ، إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك .
ففرّ سليمان هارباً إلى ربّه ، وأخذ أصف الخاتم فوضعه في يده فثبت ، وأن الجسد الذي قال الله تعالى : ) وَألْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ( كان هو أصف كاتباً لسليمان ، وكان عنده علم من الكتاب ، فأقام أصف في ملك سليمان وعالمه يسير بسيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوماً ، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائباً إلى الله سبحانه وردَّ الله عليه ملكه ، فقام أصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيه ، وأعاد الخاتم في يده فثبت فيها .
وأخبرنا شعيب بن محمّد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : أخبرنا أحمد بن الأزهر قال
(8/205)

" صفحة رقم 206 "
حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب : أن سليمان بن داود احتجب عن الناس ثلاثة أيام ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : أن ياسليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ، ولم تنصف مظلوماً من ظالم . وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما رويناه .
وقال في آخره : قال علي : فذكرت ذلك للحسن فقال : ما كان الله عزّ وجلّ يسلطه على نسائه .
وقال بعض المفسرين : كان سبب فتنة سليمان أنه أُمر أن لايتزوج امرأة ( إلاّ ) من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غيرهم فعوقب على ذلك .
وقيل : ان سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون أعجب بها ، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت فخوّفها سليمان .
فقالت : إن أكرهتني على الإسلام قتلت نفسي .
فخاف سليمان أن تقتل نفسها ، فتزوج بها وهي مشركة ، وكانت تعبد صنماً لها من ياقوت أربعين يوماً في خفية من سليمان إلى أن أسلمت ، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوماً .
وقال الشعبي في سبب ذلك : ولد لسليمان ابن ، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ولد لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسحرة ، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نحيله .
فعلم سليمان بذلك فأمر السحاب حتّى حملته الريح وغدا ابنه في السحاب خوفاً من معرة الشيطان ، فعاقبه الله لخوفه من الشيطان ، ومات الولد فأُلقى ميتاً على كرسيّه ، فهو الجسد الذي قال الله سبحانه : ) وألقينا على كرسيّه جسداً ثُمَّ أنَابَ ( .
وقيل : هو ان سليمان قال يوماً : لأطوفن الليلة على نسائي كلهن ، حتّى يولد لي من كل واحدة منهن ابن فيجاهد في سبيل الله . ولم يستثن ، فجامعهن كلهن في ليلة واحدة ، فما خرج له منهن إلاّ شق مولود ، فجاءت به القابلة والقته على كرسي سليمان .
فذلك قوله عزّ وجلّ : ) وألقينا على كرسيّه جسداً ( وهو ما أخبرنا عبد الله بن حامد عن آخرين قالوا : حدثنا ابن الشرقي ، قال : حدثنا محمّد بن عقيل وأحمد بن حفص قالا : حدثنا حفص قال : حدثني إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة ، قال : اخبرني أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة
(8/206)

" صفحة رقم 207 "
قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال سليمان بن داود لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلاّ امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، والذي نفس محمّد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون ) فذلك قوله عزّ وجلّ : ) ولقد فتنا سليمان ( .
قال مقاتل : فُتن سليمان بعد ملك عشرين سنة ، وملك بعد الفتنة عشرين سنة .
) وألقينا على كرسيّه جسداً ( أيّ شيطاناً ، عن أكثر المفسرين .
واختلفوا في اسمه ، فقال مقاتل وقتادة : اسمه صخر بن عمر بن عمرو بن شرحبيل وهو الذي دل سليمان على الألماس حين أُمر ببناء بين المقدس وقيل له : لايسمعن فيه صوت حديد ، فأخذوا الألماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والجواهر ولاتصوت ، وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء والحمام لم يدخل بخاتمه ، فدخل الحمام وذكر القصة في أخذ الشيطان الخاتم .
قال : وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال : أما والله لأُجربنّه ، فقال : يانبي الله وهو لا يرى أنه نبي الله أرأيت أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمداً حتّى تطلع الشمس ، أترى عليه بأساً ؟ قال : لا . فرخص له في ذلك ، وذكر الحديث .
وروى أبو إسحاق عن عمارة بن عبد عن عليح قال : بينما سليمان جالس على شاطىء البحر وهو يلعب بخاتمه ، إذ سقط في البحر وكان ملكه في خاتمه .
وروى حماد بن سلمة عن عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ) .
رجع إلى حديث علي قال : فانطلق سليمان وخلّف شيطاناً في أهله وأتى عجوزاً فآوى إليها فقالت له العجوز : أن شئت ان تنطلق فاطلب فأكفيك عمل البيت وإن شئت أن تكفيني البيت وانطلق والتمس .
قال : فانطلق يلتمس ، فأتى قوم يصيدون السمك فجلس إليهم فنبذوا إليه سمكات ، فانطلق بهن حتّى أتى العجوزة ، فأخذت تصلحه فشقت بطن سمكة ، فإذا فيها الخاتم فأخذته وقالت لسليمان : ماهذا ؟
فأخذه سليمان فلبسه ، فأقبلت الشياطين والجنّ والإنس والطير والوحوش ، وهرب الشيطان
(8/207)

" صفحة رقم 208 "
الذي خلّف في أهله ، فأتى جزيرة في البحر فبعث إليه الشياطين فقالوا : لانقدر عليه ، ولكنه يرد علينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوماً ، لانقدر عليه حتّى يسكر .
قال : فنزح ماءها وجعل فيها خمراً . قال : فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال : والله إنك لشراب طيب إلاّ أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً .
ثم رجع حتّى عطش عطشاً شديداً ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب إلاّ أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً .
قال : ثم شربها حتّى غلبته على عقله ، ثم أروه الخاتم فقال : سمع وطاعة .
قال : فأتى به سليمان فأوثقه ثم بعث به إلى جبل ، فذكروا أنه جبل الدخان الذي يرون من نفسه ، والماء الذي يخرج من الجبل هو بوله .
وقال السدي : اسم ذلك الشيطان اسمذي وقيل خبفيق .
وقال مجاهد : اسمه آصف .
أخبرنا أبو صالح بن أبي الحسن البيهقي الفقيه قال : أخبرنا أبو حاتم التميمي قال : حدثنا أبو الأزهر العبدي قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ) وألقينا على كرسيّه جسداً ( قال : شيطاناً يقال له : آصف . قال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟
قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه نبذه آصف في البحر ، فساح سليمان فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيّه ومنعه الله سبحانه نساء سليمان فلم يقربهن ، وأنكر الناس أمر سليمان ، وكان سليمان يستطعم فيقول : اتعرفونني ؟ أنا سليمان فيكذبونه حتّى أعطته امرأة يوماً حوتاً فبطّ بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفرَّ آصف فدخل البحر . وقيل : إن الجسد هو آصف ابن برخيا الصدّيق ، وقد مضت القصة .
وقيل : هو الولد الميت الذي غدا في السحاب .
وقيل : هو الولد الناقص الخلق .
وقيل : معنى قوله : ) وألقينا على كرسيّه جسداً ( أن سليمان ضرب بعلّة أشرف منها على الموت ، حتّى صار جسداً في المثل بلا روح ، وقد وصف المريض المضني بهذه الصفة ، فيقال كالجسد المُلقى ولم يبق منه إلاّ جسده وتقدير الآية ) وألقينا على كرسيّه جسداً (
.
(8/208)

" صفحة رقم 209 "
وأما صفة كرسي سليمان
فرويّ ان سليمان لما ملك بعد أبيه ، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء ، وأمر بأن يعمل بديعاً مهولاً ، بحيث إن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيّب .
قال : فعمل له كرسي من أنياب الفيل ، وفصصوه بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر ، وحففوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، على رأس نخلتين منها طاووسان من ذهب وعلى رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض ، وقد جعلوا من جنبتي الكرسي أسدين من الذهب ، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر ، وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر ، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر ، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي .
قال : وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى ، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة ، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ويبسط الأسدان أيديهما فيضربان الأرض بأذنابهما ، وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان ، فإذا إستوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان ، ثم يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلات برؤسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر ثم تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة ، فيفتحها سليمان ويقرأها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء ، ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة وهي ألف كرسي عن يمينه ، ويجيء عظماء الجنّ ويجلسون على كراسي من الفضة عن يساره وهي ألف كرسي حافين جميعاً ، به ثم تحف بهم الطير تظلهم ، ويتقدم إليه الناس للقضاء ، فإذا دعى بالبينات وتقدمت الشهود لإقامة الشهادات ، دار الكرسي بما فيه من جميع ماحوله دوران الرحى المسرعة ، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض باذنابهما وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما ، فيفزع منه الشهود ويدخلهم من ذلك رعب شديد ، فلا يشهدون إلاّ بالحق .
ص : ( 35 ) قال رب اغفر . . . . .
) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ( ذنبي ) وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَد ( .
وقال ابن كيسان : أي لايكون لأحد .
) مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ ( المعطي .
قال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكاً لا أُسلبه في باقي عمري كما سلبته في ماضي عمري
(8/209)

" صفحة رقم 210 "
وقال مقاتل بن حيان : كان سليمان ملكاً ولكنه أراد بقوله ) لاينبغي لأحد من بعدي ( تسخير الرياح والطير ، يدل عليه مابعده .
وقيل : إنما سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالاً على رسالته ومعجزاً لمن سواه .
وقيل : إنما سأل ذلك ليكون علماً له على المغفرة وقبول التوبة ، حيث أجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه ورد إليه ملكه وزاد فيه .
وقال عمر بن عثمان الصدفي : أراد به ملك النفس وقهر الهوى .
يؤيده ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد قال : حدثنا داود بن سليمان قال : حدثنا عبد بن حميد قال :
أخبرنا عبد الله بن يزيد قال : حدثنا عبد الرحمن بن زياد الأفريقي قال : حدثنا سلمان بن عامر الشيباني قال : بلغني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أرأيتم سليمان وما أعطاه الله من ملكه ؟ فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعاً لله عز وجل حتّى قبضه الله عزّ وجلّ ) .
وأخبرنا شعيب بن محمّد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا أبو الأزهر قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا هشام عن الحسن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قد عرض لي الشيطان في مصلاي الليلة كأنه هرّكم هذا ، فأخذته فأردت أن أحبسه حتّى أصبح ، فذكرت دعوة أخي سليمان ) رب هب لي ملكاً لاينبغي لأحد من بعدي ( فتركته ) .
ومنه عن روح عن شعبة عن محمّد بن زياد قال : سمعت أبا هريرة قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن عفريتاً من الجن جعل يتقلب عليَّ البارحة ليقطع عليَّ صلاتي وأن الله عزّ وجلّ أمكنني منه ( فرعته ) فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتّى يصبح فتنظرون إليه كلكم ، فتذكرت قول سليمان : ) ربّ هب لي ملكاً لاينبغي لأحد من بعدي ( فردّه الله عزّ وجلّ خاسئاً ) .
ص : ( 36 ) فسخرنا له الريح . . . . .
) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأمْرِهِ رُخَاءً ( ليّنة رطبة ) حَيْثُ أصَابَ ( حيث أراد وشاء ، بلغة حمير .
تقول العرب : أصاب الصواب وأخطا الجواب ، أي أراد الصواب .
قال الشاعر
(8/210)

" صفحة رقم 211 "
أصاب الكلام فلم يستطع
فأخطأ الجواب لدى المفصل
ص : ( 37 ) والشياطين كل بناء . . . . .
) وَالشَّيَاطِينَ ( أي وسخرنا له الشياطين ) كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاص ( يستخرجون له اللألىء من البحر ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر
ص : ( 38 ) وآخرين مقرنين في . . . . .
) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ( يعني مشدودين في القيود واحدها صفد
ص : ( 39 ) هذا عطاؤنا فامنن . . . . .
) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ ( فأعط ، من قوله سبحانه : ) ولا تمنن تستكثر ( .
وتقول العرب : منَّ عليَّ برغيف ، أي أعطانيه .
قال الحسن : إن الله عزّ وجلّ لم يعط أحداً عطية إلاّ جعل فيها حساباً ، إلاّ سليمان فإن الله سبحانه أعطاه عطاءً هنيئاً فقال : ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ ( .
) أوْ أمْسِك بِغَيْرِ حِسَاب ( قال : إن أعطى أجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعة .
قال مقاتل : هو في أمر الشياطين ، خذ من شئت منهم في وثاقك لاتبعة عليك فيما تتعاطاه .
ص : ( 40 ) وإن له عندنا . . . . .
) وَإنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ( قربة ) وَحُسْنَ مَآب ( مصير .
ص : ( 41 ) واذكر عبدنا أيوب . . . . .
) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أيُّوبَ ( .
قال مقاتل : كنيته أبو عبد الله .
) إذْ نَادَى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْب وَعَذَاب ( بتعب ومشقة وبلاء وضر .
قال مقاتل : بنصب في الجسد وعذاب في المال .
وفيه أربع لغات : ( نُصُب ) بضمتين وهي قراءة أبي جعفر ، و ( نَصَب ) بفتح النون والصاد وهي قراءة يعقوبُ و ( نَصْب ) بفتح النون وجزم الصاد وهي رواية هبيرة عن حفص عن عاصم ، و ( نُصْب ) بضم النون وجزم الصاد وهي قراءة الباقين .
واختلفوا في سبب ابتلاء أيوب :
فقال وهب : استعان رجل أيوب على ظلم يدرأه عنه ، فلم يعنه فابتلي .
وروى حيان عن الكلبي : أن أيوب كان يغزوا ملكاً من الملوك كافراً ، وكانت مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك ، فداهنه ولم يغزه فابتلي .
وقال غيرهما : كان أيوب كثير المال فأعجب بماله فابتلى .
ص : ( 42 ) اركض برجلك هذا . . . . .
) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ( الأرض ، أي ادفع وحرك ) هَذَا مُغْتَسَل ( .
(8/211)

" صفحة رقم 212 "
ثم نبعث له عين أُخرى باردة فقال : هذا ) بَارِدٌ وَشَرَابٌ (
ص : ( 43 - 44 ) ووهبنا له أهله . . . . .
) وَوَهَبْنَا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لاِوْلِي الأ لْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ( أي حزمة من الحشيش ) فَاضْرِبْ بِهِ ( إمرأتك ) وَلا تَحْنَثْ ( في يمينك ) إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوَّابٌ .
2 ( ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاَْيْدِى وَالاَْبْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاَْخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الاَْخْيَارِ هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الاَْبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُواْ ( 2
ص : ( 45 ) واذكر عبادنا إبراهيم . . . . .
) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ( قرأه العامة : بالألف .
وقرأ ابن كثير : ( عبدنا ) على الواحد ، وهي قراءة ابن عبّاس .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يوسف الفقيه قال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن يحيى ابن بلال قال : حدثنا يحيى بن الربيع المكي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر بن عطاء عن ابن عبّاس أنه كان يقرأ : ) واذكر عبدنا إ بْرَاهِيمَ ( ويقول : إنما ( ذكر ) إبراهيم ثم ولده بعده ) وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيْدِي ( ذوي القوة في العبادة ) وَالأ بْصَارِ ( التبصر في العلم والدين
ص : ( 46 ) إنا أخلصناهم بخالصة . . . . .
) إنَّا أخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَة ذِكْرَى الدَّارِ ( .
قرأ أهل المدينة مضافاً وهي رواية هشام عن الشام .
وقرأ الآخرون : بالتنوين على البدل
ص : ( 47 - 49 ) وإنهم عندنا لمن . . . . .
) وَإنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ وَاذْكُرْ إسْمَاعِيلَ وَاليَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ( الذي ذكرت ) ذِكْرٌ وَإنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآب (
ص : ( 50 - 52 ) جنات عدن مفتحة . . . . .
) جَنَّاتِ عَدْن مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأ بْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَة كَثِيرَة وَشَرَاب وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أتْرَابٌ ( لذات مستويات على ملاذ امرأة واحدة بنات ثلاث وثلاثين سنة ، واحدها ترب
ص : ( 53 ) هذا ما توعدون . . . . .
) هَذَا مَا تُوعَدُونَ ( بالتاء .
ابن كثير وأبو عمر والباقون : بالياء .
) لِيَوْمِ الحِسَابِ ( أي في يوم الحساب .
قال الأعشى :
(8/212)

" صفحة رقم 213 "
المهينين مالهم لزمان السوء
حتّى إذا أفاق أفاقوا
أي في زمان السوء
ص : ( 54 ) إن هذا لرزقنا . . . . .
) إنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَاد ( هلاك وفناء
ص : ( 55 - 56 ) هذا وإن للطاغين . . . . .
) هَذَا وَإنَّ لِلطَّاغِينَ ( الكافرين ) لَشَرَّ مَآب جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ( يدخلونها ) فَبِئْسَ المِهَادُ }
ص : ( 57 ) هذا فليذوقوه حميم . . . . .
) هَذَا ( أيّ هذا العذاب ) فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( .
قال الفراء : رفعت الحميم والغساق ب ( هذا ) مقدماً ومؤخراً ، والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه ، وإن شئت جعلته مستأنفاً وجعلت الكلام فيه مكتفياً كاملا قلت : هذا فليذوقوه ثم قلت منه حميم وغساق .
كقول الشاعر :
حتّى إذا ما أضاء الصبح في غلس
وغودر البقل ملوي ومحصود
واختلف القراء في قوله : ( وغساق ) ، فشددها يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف وحفص وهي قراءة أصحاب عبد الله ، وخففها الآخرون .
قال الفراء : من شدد جعله اسماً على فَعّال نحو الخبّاز والطبّاخ . ومن خفف ( جعله ) اسماً على فِعال نحو العذاب .
واختلف المفسرون فيه :
فقال ابن عبّاس : هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار .
وقال مجاهد ومقاتل : هو ( الثلج ) البارد الذي قد انتهى برده ، أي يريد هو المبين بلغة الطحارية وقد بلغه النزل .
محمّد بن كعب : هو عصارة أهل النار .
قتادة والأخفش : هو مايغسق من قروح الكفرة والزناة بين لحومهم وجلودهم ، أيّ تسيل .
قال الشاعر :
إذا ماتذكرت الحياة وطيبها
وإلي جرى دمع من العين غاسق
ص : ( 58 ) وآخر من شكله . . . . .
) وَآخَرُ ( قرأ أهل البصرة ومجاهد : ( وأُخر ) بضم الألف على جمع أُخرى ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لأنه نعته بالجمع فقال : أرواح مثل الكبرى والكبر .
وقرأ غيرهم : على الواحد واخر .
(8/213)

" صفحة رقم 214 "
) مِنْ شَكْلِهِ ( مثله ) أزْوَاجٌ ( أصناف من العذاب والكناية في شكله راجعة إلى العذاب في قوله هذا .
ص : ( 59 ) هذا فوج مقتحم . . . . .
وأما قوله ) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ( قال ابن عبّاس : هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة ) هذا ( يعني الاتباع ) فوجاً ( جماعة ) مقتحم معكم ( النار ، أيّ داخلوها كما دخلتم .
ص : ( 60 ) قالوا بل أنتم . . . . .
فقالت السادة : ) لا مَرْحَباً بِهِمْ ( يعني بالأتباع ) إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( كما صليناها ، فقال الاتباع للسادة : ) بَلْ أ نْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أ نْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ( أيّ شرعتم وسننتم الكفر لنا ) فَبِئْسَ القَرَارُ ( أي قرارنا وقراركم ، والمرحب والرحب السعة ، ومنه رحبة المسجد .
قال أبو عبيدة : يقول العرب للرجل : لامرحباً بك ، أي لا رحبت عليك الأرض ، أيّ اتسعت .
وقال القتيبي : معنى قولهم : مرحباً وأهلاً وسهلاً ، أي أتيت رحباً وسعة ، وأتيت سهلاً لاحزناً ، وأتيت أهلاً لاغرباء ، فأنس ولاتستوحش ، وهي في مذهب الدعاء كما تقول : لقيت خيراً ، فلذلك نصب .
قال النابغة :
لا مرحباً بغد ولا أهلاً به
إن كان تفريق الأحبة في غد
2 ( ) قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الاَْشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاَْعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 2
ص : ( 61 ) قالوا ربنا من . . . . .
) قَالُوا ربَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا ( أي شرّعه وسنّه ) فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ( على عذابنا .
وقال ابن مسعود : يعني حيات وأفاعي .
ص : ( 62 ) وقالوا ما لنا . . . . .
) وَقَالُوا ( يعني صناديد قريش وهم في النار ) مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ( في دار الدُّنيا ، يعني فقراء المؤمنين
ص : ( 63 ) أتخذناهم سخريا أم . . . . .
) أتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً ( .
(8/214)

" صفحة رقم 215 "
قرأ أهل العراق إلاّ عاصماً وأيوب : بوصل الألف ، واختاره أبو عبيد قال : من جهتين :
أحديهما : أنّ الاستفهام متقدم في قوله : ( مالنا لانرى رجالاً ) .
والأُخرى : أنَّ المشركين لم يكونوا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدُّنيا سخرياً ، فكيف يستفهمون عمّا قد عملوه . ويكون على هذه القراءة بمعنى بل .
وقرأ الباقون : بفتح الألف وقطعها على الإستفهام وجعلوا ( أم ) جواباً لها مجازاً : اتخذناهم سخرياً في الدُّنيا وليسوا كذلك ، فلم يدخلوا معنا النار .
) أمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأ بْصَارُ ( فلا نراهم وهم في النار ، ولكن احتجبوا عن أبصارنا .
وقال الفراء : هو من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ ، فهو يجوز باستفهام ويطرحه .
وقال ابن كيسان : يعني أم كانوا خيراً منّا ولانعلم نحن بذلك ، فكانت أبصارنا تزيغ منهم في الدُّنيا فلا نعدهم شيئاً .
أخبرنا أبو بكر الحمشادي قال : أخبرنا أبو بكر القطيعي قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن مسلم قال : حدثنا عصمة بن سليمان الجرار عن يزيد عن ليث عن مجاهد ) وقالوا مالنا لانرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار ( .
قال : صهيب وسلمان وعمّار لانراهم في النار ) اتخذناهم سخرياً ( في الدُّنيا ) أمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأ بْصَارُ ( في النار
ص : ( 64 ) إن ذلك لحق . . . . .
) إنَّ ذَلِكَ ( الذي ذكرت ) لَحَقٌّ ( ثم بيّن فقال : ) تَخَاصُمُ ( أي هو تخاصم ) أهْلِ النَّارِ ( ومجاز الآية : أن تخاصم أهل النار في النار لحق
ص : ( 65 ) قل إنما أنا . . . . .
) قُلْ ( يا محمّد لمشركي مكة ) إنَّمَا أ نَا مُنذِرٌ ( مخّوف ) وَمَا مِنْ إلَه إلاَّ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ }
ص : ( 66 - 67 ) رب السماوات والأرض . . . . .
) رَبُّ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( يعني القرآن .
عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة ، وروى معمر عنه يوم القيامة ، نظيرها ) عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم ( .
ص : ( 68 - 69 ) أنتم عنه معرضون
) أنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْم بِالمَلاَ الأعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ ( في شأن آدم وهو قولهم حين قال الله سبحانه لهم : ) إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ( الآية هذا قول أكثر المفسرين .
وروى ابن عبّاس عن النبي ( عليه السلام ) قال : ( قال ربّي : أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يعني الملائكة ؟
(8/215)

" صفحة رقم 216 "
فقلت : لا .
قال : اختصموا في الكفارات والدرجات ، فأما الكفارات : فإسباغ الوضوء في السبرات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة : وأما الدرجات : فإفشاء السلام ، واطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام ) .
ص : ( 70 ) إن يوحى إلي . . . . .
) إنْ يُوحَى إلَيَّ إلاَّ أنَّمَا أنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( .
قال الفراء : ان شئت جعلت ( أنما ) في موضع رفع ، كأنك قلت : ما يُوحى إليَّ إلاّ الانذار ، وإن شئت جعلت المعنى ما يوحى إليَّ إلاّ لأني نذير مبين .
وقرأ أبو جعفر ( إنما ) بكسر الألف ، لأن الوحي قول .
( ) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِىإِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىإِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( 2
ص : ( 71 - 75 ) إذ قال ربك . . . . .
) إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ إلاَّ إ بْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ قَالَ يَا إ بْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ( وفي تحقيق الله سبحانه وتعالى التنشئة في اليد ، دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة ، إنما هما وصفان من صفات ذاته .
قال مجاهد : اليد هاهنا بمعنى التأكيد ، والصلة مجاز لما خلقت ، كقوله سبحانه : ) ويبقى وجه ربك ( أي ربك ، وهذا تأويل غير قوي ، لأنه لو كان بمعنى الصلة فكان لإبليس أن يقول : إن كنت خلقته فقد خلقتني . وكذلك في القدرة والنعمة ، لاتكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وقد مضت هذه المسألة عند قوله : ) ممّا عملت أيدينا ( .
(8/216)

" صفحة رقم 217 "
قال : العرب تسمي الاثنين جميعاً لقوله سبحانه ) هذان خصمان اختصموا ( ، وقوله ) وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( قال : هما رجلان وقال : ) فقد صغت قلوبكما ( ) أَسْتَكْبَرْتَ ( ألف الاستفهام تدخل على ألف الخبر ) أمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ ( المتكبرين على السجود كقوله سبحانه : ) إن فرعون علا في الأرض ( .
ص : ( 76 - 77 ) قال أنا خير . . . . .
) قَالَ ( إبليس ) أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا ( أي من الجنّة .
وقيل : من السماوات .
وقال الحسن وأبو العالية : أيّ من الخلقه التي أنت فيها .
قال الحسين بن الفضل : وهذا تأويل صحيح ، لأن ابليس تجبّر وافتخر بالخلقة ، فغيّر الله تعالى خلقه فاسودَّ بعدما كان أبيضاً وقبح بعدما كان حسناً وأظلم بعد أن كان نورانياً .
) فَإنَّكَ رَجِيمٌ ( مطرود معذّب
ص : ( 78 - 84 ) وإن عليك لعنتي . . . . .
) وَإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ( وهو النفخة الأولى ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ قَالَ فَالحَقُّ وَالحَقَّ أقُولُ ( .
قرأ مجاهد والأعمش وعاصم وحمزة وخلف : برفع الأول ونصب الثانية على معنى فأنا الحقّ أو فمنّي الحق ، وأقول الحق .
وقال الباقون : بنصبهما .
واختلف النحاة في وجهيهما ، قيل : نصب الأول على الإغراء والثاني بايقاع القول عليه .
وقيل : هو الأول قسم ، والثاني مفعول مجاز قال : فبالحق وهو الله عزّ وجلّ أقسم بنفسه والحق أقول .
وقيل : إنه أتبع قسماً بعد قسم .
وقال الفراء وأبو عبيد : معناهما حققا لم يدخل الألف واللام ، كما يقال : الحمد لله وأحمد الله ، هما بمعنى واحد .
وقرأ طلحة بن مصرف : فالحق والحق بالكسر فهما على القسم .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عبدش يقول : هو مردود إلى ماقبله
(8/217)

" صفحة رقم 218 "
ومجازه : فبعزتك وبالحق والحق قال الله سبحانه :
ص : ( 85 ) لأملأن جهنم منك . . . . .
) لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ( أيّ من نفسك وذريتك ) وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أجْمَعِينَ }
ص : ( 86 ) قل ما أسألكم . . . . .
) قُلْ مَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ ( أيّ على تبليغ الوحي ، كناية عن غير مذكور ) مِنْ أجْر ( قال الحسين بن الفضل : هذه الآية ناسخة لقوله ) قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ( .
) وَمَا أ نَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ( المتقولين القرآن من تلقاء نفسي .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق البستي قال :
حدثنا أحمد بن عمير بن يوسف قال : حدثنا محمّد بن عوف قال : حدثنا محمّد بن المصفى قال : حدثنا حنوة بن سريج بن يزيد قال : حدثنا أُرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن مقبل قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى مالا ينال ، ويقول فيما لا يعلم ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثني السنّي قال : حدثني عبد الله بن محمّد بن جعفر قال : حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم قال : حدثنا سيف بن عمر الضبي عن وائل بن داود عن يزيد البهي عن الزبير بن العوام قال : نادى منادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أغفر للذين يدعون أموات امتي ولا يتكلفون إلاّ أني بريء من التكلف وصالحوا أمتي ) .
وأخبرني الحسين قال : حدثنا ابن شيبة قال : حدثنا عبد الله بن محمّد بن وهب قال : حدثنا إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي ببيت المقدس قال : حدثنا أبي قال : حدثنا إبراهيم بن ( . . . . . . . . ) علية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ح أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من أتاه الله عزّ وجلّ علماً فليتق الله وليعلّمه الناس ولا يكتمه ، فإنه من كتم علماً يعلمه كان كمن كتم ما أنزل الله تعالى على نبيّه وأمره أن يعلمه الناس ، ومن لم يعلم فليسكت وإياه أن يقول مالا يعلم فيهلك ويصير من المتكلفين ويمرق من الدين ، وأن الله عزّ وجلّ قال : ) قُلْ مَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْر وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ( من أَفتى بغير السنّة فعليه الأثم .
وأخبرني الحسن قال : حدثنا السنيّ قال : أخبرنا أبو خليفة قال : حدثنا محمّد بن خبير
(8/218)

" صفحة رقم 219 "
العبدي قال : أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم شيئاً فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لايعلم : الله أعلم وأن الله عزّ وجلّ قال لنبيّه : ) قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين 2 )
ص : ( 87 - 88 ) إن هو إلا . . . . .
) إنْ هُوَ ( ماهو يعني القرآن ) إلاَّ ذِكْرٌ ( عظة ) لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِين ( .
قال قتادة : يعني بعد الموت .
وابن عبّاس : يعني يوم القيامة .
(8/219)

" صفحة رقم 220 "
( سورة الزمر )
مكية ، إلاّ قوله سبحانه : ) قل يا عبادي الّذين أسرفوا ( الآية . وهي أربعة آلافوتسعمائة وثمانية أحرف ، وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة ، وخمس وسبعون آية
أخبرنا ابن المقرىء قال : أخبرنا ابن مطر قال : حدثنا ابن شريك قال : حدثنا ابن يونس قال : حدثنا أبو سليمان قال : حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه ، وأعطاه ثواب الخائفين ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن حمدان قال : حدثنا ابن ماهان قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن يزيد عن مروان أبي لبابة مولى عبد الرحمن بن زياد عن عائشة خ قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ كل ليلة ببني إسرائيل والزمر .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَىإِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاَْنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ
(8/220)

" صفحة رقم 221 "
نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوإِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاَْلْبَابِ ( 2
الزمر : ( 1 ) تنزيل الكتاب من . . . . .
) تَنْزِيلُ الكِتَابِ ( .
قال الفراء : معناه هذا تنزيل الكتاب ، وإن شئت رفعته لمن ، مجازه : من الله تنزيل الكتاب ، وإن شئت جعلته إبتداء وخبره ممّا بعده .
) مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ }
الزمر : ( 2 - 3 ) إنا أنزلنا إليك . . . . .
) إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ( أيّ الطاعة ) الدِّينُ الخَالِصُ ( قال قتادة : شهادة ان لا إله إلاّ الله .
قال أهل المعاني : لايستحق الدين الخالص إلاّ الله .
) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِيَاءَ ( يعني الأصنام ) مَا نَعْبُدُهُمْ ( مجازه قالوا ما نعدهم .
) إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللهِ زُلْفَى ( .
قال قتادة : وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم وخلق السماوات والأرض ونزل من السماء ماء ؟
قالوا : الله .
فيقال لهم : فما يعني عبادتكم الأوثان ؟
قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى وتشفع لنا عند الله .
قال الكلبي : وجوابه في الأحقاف ) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة ( الآية .
) إنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ( يوم القيامةِّ ) فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( من أمر الدين ) إنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي ( لدينه وحجته ) مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }
الزمر : ( 4 - 5 ) لو أراد الله . . . . .
) لَوْ أرَادَ اللهُ أنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ( كما زعموا ) لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ بِالحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ( .
قال قتادة : يعني يغشي هذا هذا ويغشي هذا هذا ، نظيره قوله : ) يغشي الليل النهار ( .
وقال المؤرخ : يدخل هذا على هذا وهذا على هذا ، نظيره قوله : ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ( .
(8/221)

" صفحة رقم 222 "
قال مجاهد : يُدور .
وقال الحسن وابن حيان والكلبي : ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل ، فما نقص من الليل دخل في النهار ومانقص من النهار دخل في الليل ، ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمسة عشر ساعة ، وأصل التكوير اللف والجمع ، ومنه كور العمامة .
) وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَل مُسَمّىً ألا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ }
الزمر : ( 6 ) خلقكم من نفس . . . . .
) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأنْزَلَ ( وأنشأ ) وجعل لَكُمْ ( وقال بعض أهل المعاني : جعلنا لكم نزلاً ورزقاً .
) مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاج ( أصناف وأفراد ، تفسيرها في سورة الأنعام ) يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْق ( نطفة ثم علقة ثم مضغة ، كما قال : ) والله خلقكم أطوارا ( .
وقال ابن زيد : معناه يخلقكم في بطون أُمهاتكم من بعد الخلق الأول الذي خلقكم في ظهر آدم .
) فِي ظُلُمَات ثَلاث ( يعني البطن والرحم والمشيمة ) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأنَّى تُصْرَفُونَ ( عن عبادته إلى عبادة غيره
الزمر : ( 7 ) إن تكفروا فإن . . . . .
) إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ ( .
فإن قيل : كيف ؟
قال : ولا يرضى لعباده الكفر وقد كفروا .
قلنا : معناه لايرضى لعباده أن يكفروا به ، وهذا كما يقول : لست أحب الاساءة وإن أحببت أن يسيء فلان فلانا فيعاقب .
وقال ابن عبّاس والسدي : معناه ولايرضى لعباده المخلصين المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال : ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله : ) عيناً يشرب بها عباد الله ( وإنما يريد به بعض العباد دون البعض .
) وَإنْ تَشْكُرُوا ( تؤمنوا ربّكم وتطيعوه ) يَرْضَهُ لَكُمْ ( ويثيبكم عليه ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
الزمر : ( 8 ) وإذا مس الإنسان . . . . .
) وَإذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إلَيْهِ ( مخلصاً راجعاً إليه مستغيثاً به ) ثُمَّ إذَا خَوَّلَهُ ( أعطاه ، ومنه قيل
(8/222)

" صفحة رقم 223 "
للمال والعطاء : خول ، والعبيد خول .
قال أبو النجم :
اعطي فلم يبخل ولم يبخل
كوم الذرى من خول المخول
) نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ( ترك ) مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ( في حال النصر ) وَجَعَلَ للهِ أنْدَاداً ( يعني الأوثان .
وقال السدي : يعني أنداداً من الرجال ، يطيعونهم في معاصي الله .
( ) قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قُلْ إِنِّىأُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لاَِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّىأَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الاَْلْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ ( 2
) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إنَّكَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ (
الزمر : ( 9 ) أم من هو . . . . .
) أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ( .
قرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة : ( أمن ) بتخفيف الميم .
وقرأ الآخرون بتشديده ، فمن شدّده فله وجهان ، أحدهما : تكون الميم في أم صلة ويكون معنى الكلام الإستفهام ، وجوابه محذوف مجازه : أمن هو قانت كمن هو غير قانت ، كقوله : ) أفمن شرح الله صدره للإسلام ( كمن لم يشرح الله صدره ، أو تقول : أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً .
والوجه الثاني : أن يكون بمعنى العطف على الاستفهام مجازه : فهذا خير أم من هو قانت ، فحذف لدلالة الكلام عليه ونحوها كثير .
ومن خفف فله وجهان .
أحدهما : أن يكون الألف في ( أمن ) بمعنى حرف النداء ، تقديره : يامن هو قانت ، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بياء فتقول : يازيد أقبل ، وأزيد أقبل
(8/223)

" صفحة رقم 224 "
قال أوس بن حجر :
أبني لبيني لستم بيد
ألا يد ليست لها عضد
يعني يابني ليتني .
وقال آخر :
أضمر بن ضمرة ماذا ذكرت
من صرمة أخذت بالمغار
فيكون معنى الآية : قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار ، ويا من هو قانت آناء الليل إنك من أهل الجنّة ، كما تقول : فلان لايصلي ولايصوم ، فيا من تصلي وتصوم أبشر ، فحذف لدلالة الكلام عليه .
والوجه الثاني : أن يكون الألف في ( أمن ) ألف إستفهام ، ومعنى الكلام : أهذا كالذي جعل لله أنداداً ، فاكتفى بما سبق إذ كان معنى الكلام مفهوماً .
كقول الشاعر :
فاقسم لو شيء أتانا رسوله سواك
ولكن لم نجد لك مدفعاً
أراد لدفعناه .
وقال ابن عمر : القنوت قراءة القرآن وطول القيام .
وقال ابن عبّاس : الطاعة .
) آ نَاءَ اللَّيْلِ ( ساعاته ) سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان ، أخبرنا محمّد بن خالد ، أخبرنا داود بن سليمان ، أخبرنا عبد بن حميد ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر عن سعيد بن جبير : أنه كان يقرأ : ( أمن هو قانت اناء الليل ساجداً وقائماً يحذر عذاب الآخرة ) .
) وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ( .
قال مقاتل : نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي .
) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ( يعني عمار ) وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( يعني أبا حذيفة ) إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ ( .
(8/224)

" صفحة رقم 225 "
أخبرنا الحسين بن محمّد بن العدل حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار حدثنا حازم ابن يحيى الحلواني حدثنا محمّد بن يحيى بن الطفيل حدثنا هشام بن يوسف حدثني محمّد بن إبراهيم اليماني قال : سمعت وهب بن منبه يقول : سمعت ابن عبّاس يقول : من أحب أن يهوّن الله تعالى الموقف عليه يوم القيامة ، فليره الله في سواد الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه .
الزمر : ( 10 ) قل يا عباد . . . . .
) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا ا تَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّ نْيَا حَسَنَةٌ ( يعني الجنّة ، عن مقاتل .
وقال السدي : يعني العافية والصحة .
) وَأرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ ( فهاجروا فيها واعتزلوا الأوثان ، قاله مجاهد .
وقال مقاتل : يعني أرض الجنّة .
) إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب ( .
قال قتادة : لا والله ما هنالك مكيال ولا ميزان .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري بقراءتي عليه ، حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني حدثنا إبراهيم بن محمّد بن الضحاك حدثنا نصر بن مرزوق حدثنا اسيد بن موسى حدثنا بكر بن حبيش عن ضرار بن عمرو عن زيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تنصب الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بأهل الصلاة فيؤتون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصيام فيؤتون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيؤتون أجورهم بالموازين ، ويُؤتى بأهل الحج فيؤتون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب ، قال الله تعالى : ) إنّما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( حتّى يتمنى أهل العافية في الدُّنيا أن أجسادهم تُقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ) .
قال حدثنا أبو علي بن جش المقرىء قال : حدثنا أبو سهل ( عن إسماعيل بن سيف ) عن جعفر بن سليمان الضبعي عن سعد بن الطريف عن الأصبغ بن نباتة قال : دخلت مع علي بن أبي طالب إلي الحسن بن علي ذ نعوده فقال له علي : كيف أصبحت يابن رسول الله ؟
قال : أصبحت بنعمة الله بارئاً .
قال : كذلك إن شاء الله .
(8/225)

" صفحة رقم 226 "
ثم قال الحسن : أسندوني . فأسنده عليّ إلى صدره ثم قال : سمعت جَدي رسول الله يقول : ( يابني أدِّ الفرائض تكن من أعبد الناس ، وعليك بالقنوع تكن أغنى الناس ، يا بني إن في الجنّة شجرة يُقال لها : شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء فلا يُنصب لهم ميزان ولا يُنشر لهم ديوان ، يُصبّ عليهم الأجر صبًّا ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ) إنّما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ( ) .
حدثنا الحرث بن أبي اسامة حدثنا داود بن المخبر حدثنا عباد بن كثير عن أبي الزناد عن ( . . . . . . . . . ) ( عن أبي ذر عن النبي أنه ) قال : ( من سرّه أن يلحق بذوي الألباب والعقول فليصبر على الأذى والمكاره فذلك انه ( . . . . . . . . . ) الجزع ومن جزع صيّره جزعه إلى النار ، وما نال الفوز في القيامة إلاّ الصابرون إن الله تعالى يقول : ) إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( وقال الله تعالى : ) والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ( ) .
الزمر : ( 11 - 12 ) قل إني أمرت . . . . .
) قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لاِنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ ( من هذه الأمة
الزمر : ( 13 ) قل إني أخاف . . . . .
) قُلْ إنِّي أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي ( فعبدت غيره ) عَذَابَ يَوْم عَظِيم ( وهذا حين دعى إلى دين آبائه ، قاله أكثر المفسرين .
وقال أبو حمزة الثمالي والسبب هذه الآية منسوخة ، إنما هذا قبل أن غُفِرَ ذنب رسول الله ( عليه السلام ) .
الزمر : ( 14 - 15 ) قل الله أعبد . . . . .
) قُلْ اللهَ أعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ( .
أمر توبيخ وتهديد كقوله ) اعملوا ماشئتم ( . وقيل : نسختها آية القتال ) قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وَأهْلِيهِمْ ( وأزواجهم وخدمهم في الجنّة ) يَوْمَ القِيَامَةِ ألا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ( .
(8/226)

" صفحة رقم 227 "
قال ابن عبّاس : إن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلاً في الجنّة وأهلاً ، فمن عمل بطاعة الله تعالى كان له ذلك المنزل والأهل ، ومن عمل بمعصية الله ( أخذه ) الله تعالى إلى النار ، وكان المنزل ميراثاً لمن عمل بطاعة الله إلى ما كان له قبل ذلك وهو قوله تعالى : ) أولئك هم الوارثون 2 )
الزمر : ( 16 ) لهم من فوقهم . . . . .
) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ ( أطباق وسرادق ) مِنَ النَّارِ ( ودخانها ) وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( مهاد وفراش من نار ، وإنما سمّي الأسفل ظلاً ، لأنها ظلل لمن تحتهم ، نظيره قوله تعالى : ) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ( وقوله : ) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( وقوله : ) أحاط بهم سرادقها ( وقوله : ) وظل من يحموم ( وقوله سبحانه وتعالى : ) انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ( ) ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (
الزمر : ( 17 ) والذين اجتنبوا الطاغوت . . . . .
) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ( الأوثان ) أنْ يَعْبُدُوهَا وَأنَابُوا ( رجعوا له ) إلَى اللهِ ( إلى عبادة الله ) لَهُمُ البُشْرَى ( في الدُّنيا بالجنّة وفي العقبى ) فَبَشِّرْ عِبَادِ (
الزمر : ( 18 ) الذين يستمعون القول . . . . .
) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ ( أرشده وأهداه إلى الحق .
أخبرنا الحسين بن محمّد الدينوري حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرنا يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن زحر عن سعيد بن مسعود قال : قال أبو الدرداء : لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوماً واحداً : الظما بالهواجر ، والسجود في جوف الليل ، ومجالسه أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقي طيب التمر .
قال قتادة : أحسنهُ طاعة الله .
وقال السدي : أحسنه مايرجون به فيعملون به .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ ( .
عن ابن زيد في قوله : ) والذين اجتنبوا الطاغوت ( الآيتين : حدثني أبي : أن هاتين الآيتين
(8/227)

" صفحة رقم 228 "
نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلاّ الله ، وهم زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي .
الزمر : ( 19 ) أفمن حق عليه . . . . .
) أفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ ( ( يريد أبا لهب وولده ) ) أفَأنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ( أي : هو يكون من أهل النار ، كرر الإستفهام كما كرر : أنكم ) أيعدكم أنكم إذا مِتم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون ( .
ومثله كثير .
( ) لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاَْرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَابِ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 2
الزمر : ( 20 ) لكن الذين اتقوا . . . . .
) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ ( ( غرف مبنية ، قال ابن عباس : من زبرجد وياقوت ) .
حدثنا عبد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا ( . . . . . . . . . ) حدثني طلحة حدثنا ( حماد عن أبي هارون عن مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ) الخدري عن رسول الله ( عليه السلام ) قال : ( إن أهل الجنّة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ، فقالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لايبلغها غيرهم قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه وصدقوا
(8/228)

" صفحة رقم 229 "
المرسلين ) . ) تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللهِ ( نصب على المصدر :
الزمر : ( 21 ) ألم تر أن . . . . .
) ألم تر أن اللّه أنزل من السَّمَاءِ ( أي من السحاب ) مَاءً فَسَلَكَهُ ( فادخله ) يَنَابِيعَ ( عيوناً ) فِي الأرْضِ ( قال : ( الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل إنما ينزل ) من السماء إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا ) ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً ألْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ ( ييبس ) فتَرَاهُ ( بعد خضرته ) مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً ( أي فتاتا منكسراً متفتتاً ) إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لاِوْلِي الألْبَابِ }
الزمر : ( 22 ) أفمن شرح الله . . . . .
) أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ ( فتح الله ) صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ( للإيمان ) فهو على نور ( على دلالة ) من ربه ( قال قتادة : النور كتاب الله منه تأخذ وإليه ننتهي ومجاز الآية ) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ( أي أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شيبة حدثنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن يزيد حدثنا الموصلي ببغداد حدثنا أبو فروة واسمه يزيد بن محمّد حدثني أبي عن أبيه حدثنا زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحرث عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ( عليه السلام ) : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) .
قلنا : يارسول الله كيف انشراح صدره ؟
قال : ( إذا دخل النور لقلبه انشرح وانفتح ) .
قلنا : يارسول الله فما علامة ذلك ؟
قال : ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت ) .
وقال الثمالي : بلغنا أنها نزلت في عمّار بن ياسر وقال مقاتل : ) أفمن شرح الله صدره للإسلام ( يعني النبييّ ( صلى الله عليه وسلم )
) فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ( أبو جهل وذويه من الكفّار ) أُوْلَئِكَ فِي ضَلال مُبِين ( .
أخبرنا الحسن بن محمّد بن الحسين الحافظ أخبرنا أبو أحمد القاسم بن محمّد بن أحمد
(8/229)

" صفحة رقم 230 "
ابن عبد ربه السراج الصوفي أخبرنا ( . . . . . . ) يونس بن يعقوب البزاز حدثنا الحسين بن الفضل بن السمح البصري ببغداد حدثنا جندل حدثنا أبو مالك الواسطي الحسيني حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي عن داود بن أبي هند عن أبي نصرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قال الله عزّ وجلّ : اطلبوا الحوائج من السمحاء فاني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي ) .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله قال : حدثنا عبد الله بن محمّد عن وهب حدثنا يوسف بن الصباح العطار حدثنا إبراهيم بن سليمان بن الحجاج حدثنا عمي محمّد بن الحجاج حدثنا يوسف بن ميسرة بن جبير عن أبي إدريس الحولاني عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كله ويحبّ كل قلب خاشع حليم رحيم يعلّم الناس الخير ويدعوا إلى طاعة الله ويبغض كل قلب قاس ينام الليل كله فلا يذكر الله تعالى ولايدري يرد عليه روحه أم لا ) .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا ابن نصروية حدثنا ابن وهب حدثنا إبراهيم بن بسطام حدثنا سعيد بن عامر حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال : ماضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلبه وما غضب الله تعالى على قوم إلاّ نزع منهم الرحمة .
الزمر : ( 23 ) الله نزل أحسن . . . . .
) اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً ( . قال ابن مسعود : وابن عباس : قال الصحابة : يا رسول الله لو حدثتنا ، فنزلت ) الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابها ( يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً ليس فيه تناقض ولا اختلاف فيه .
وقال قتادة : تشبه الآية الآية والكلمة الكلمة والحرف الحرف .
) مَثَانِيَ ( القرآن . قال المفسرون : يسمى القرآن مثاني لأنه تثنى فيه الأخبار والأحكام والحدود وثنى للتلاوة فلا يمل ) تقشعر ( وتستنفر ) جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللهِ ( .
يعني إلى العمل بكتاب الله والتصديق به وقيل إلى بمعنى اللام .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا أحمد بن داود حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا خلف بن سلمة عنه حدثنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن
(8/230)

" صفحة رقم 231 "
عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن ؟
قالت : كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم .
فقلت لها : إن ناساً اليوم إذا قريء عليهم القرآن ؟
قالت : كما نعتهم : خر أحدهم مغشياً عليه .
فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
وبه عن سلمة حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي : أن ابن عمر مرَّ برجل من أهل العراق ساقط فقال : ما بال هذا ؟
قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله تعالى سقط .
فقال ابن عمر : إنا لنخشى الله وما نسقط .
وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ، ما كان هذا صنيع أصحاب محمّد ( صلى الله عليه وسلم )
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن ( ديزيل ) حدثنا أبو نعيم حدثنا عمران أو حمران بن عبد العزيز قال : ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرىء عليهم القرآن فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره ، فإن رمى بنفسه فهو صادق .
حدثنا الحسن بن محمّد حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا صلت ابن مسعود الجحدري حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا أبو عمران الجوني قال : وعظ موسى ( عليه السلام ) قومه فشق رجل منهم قميصه فقيل لموسى قل لصاحب القميص لايشق قميصه أيشرح لي عن قلبه .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن سعيد بن عمر حدثنا سعدان بن نصر أبو علي حدثنا ( نشابة ( عن أبي غسان المدني محمّد بن مطرف عن زيد بن أسلم قال : قرأ أُبي بن كعب عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرقّوا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة ) .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا محمّد بن عبد الله بن برزة وموسى بن محمّد بن علي بن
(8/231)

" صفحة رقم 232 "
عبد الله قالا : حدثنا محمّد بن يحيى بن سليمان المروزي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أخبرنا الحسين بن محمّد وحدثنا موسى بن محمّد بن عليّ حدثنا محمّد بن عبدوس بن كامل حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا عبد العزيز بن محمّد عن يزيد بن الهاد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العبّاس عن العبّاس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتت عن الشجر اليابسة ورقها ) .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا أحمد بن جعفر حدثنا حمدان حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري حدثنا محمّد بن معونة حدثنا الليث بن سعد حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العبّاس عن أبيها قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى حرّمه الله تعالى على النار ) .
) ذلِكَ ( يعني أحسن الحديث ) هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد ( وفيه ردَّ على القدرية
الزمر : ( 24 ) أفمن يتقي بوجهه . . . . .
) أفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ ( أي شدته يوم القيامة .
قال مجاهد : يجر على وجهه في النار .
وقال عطاء : يُرمى به في النار منكوساً ، فأول شيء تمسه النار وجهه .
وقال مقاتل : هو أن الكافر يُرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه ، وفي عنقه صخرة ضخمة مثل الجبل العظيم من الكبريت ، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه ، فحرّها ووهجها على وجهه لايطيق دفعها من وجهه من أجل الأغلال التي في يده وعنقه ، ومجاز الآية ) أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ( كمن هو آمن من العذاب وهو كقوله ) أفمن يلقى في النار خيرٌ ( الآية .
قال المسيب : نزلت هذه الآية في أبي جهل .
) وَقِيلَ ( أي : ويقول الخزنة ) لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( أي : وباله
الزمر : ( 25 - 26 ) كذب الذين من . . . . .
) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأذَاقَهُمُ اللهُ الخِزْيَ ( العذاب والذل الّذي يستحيا منه ) فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
الزمر : ( 27 - 28 ) ولقد ضربنا للناس . . . . .
) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآناً عَرَبِيّاً ( نصب على الحال ) غَيْرَ ذِي عِوَج ( .
قال مجاهد : يعني غير ذي لبس .
(8/232)

" صفحة رقم 233 "
قال عثمان بن عفان : غير متضاد .
ابن عبّاس : غير مختلف .
السدي : غير مخلوق .
بكر بن عبد الله المزني غير ذي لحن .
) لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( الكفر والتكذيب به .
( ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ ياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 2
الزمر : ( 29 ) ضرب الله مثلا . . . . .
) ضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلا ( .
قال الكسائي : نصب رجلاً ، لأنه ترجمة للمثل وتفسير له ، وإن شئت نصبته بنزع الخافض ، مجازه ضرب الله مثلاً لرجل أو في رجل .
) فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ( مختلفون متنازعون متشاحون فيه وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه فيه يقال رجل شكس وشرس وضرس وضبس ، إذا كان سيء الخلق مخالفاً للناس .
وقال المؤرخ : متشاكسون متماكسون يقال شاكسني فلان أي ماكسني .
) وَرَجُلا سَلَماً ( .
قرأ ابن عبّاس ومجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب سالماً بالألف ، واختاره أبو عبيد ، قال : إنما اخترنا سالماً لصحة التفسير فيه ، وذلك أن السالم الخالص وهو ضد المشترك ، وأما السلم فهو ضد المحارب ، ولاموضع للحرب هاهنا .
وقرأ سعيد بن جبير : سِلْماً بكسر السين وسكون اللام .
(8/233)

" صفحة رقم 234 "
وقرأ الآخرون : سلماً بفتح السين واللام من غير ألف ، واختاره أبو حاتم وقال : هو الذي لاتنازع فيه .
) لِرَجُل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ( وهذا مثلاً ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى ، والمؤمن لايعبد إلاّ الله الواحد ، ثم قال عزّ من قائل ) الحَمْدُ للهِ ( الشكر الكامل لله سبحانه دون كل معبود سواه ) بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
الزمر : ( 30 ) إنك ميت وإنهم . . . . .
) إنَّكَ ( يا محمّد ) مَيِّتٌ ( عن قليل ) وَإنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( .
وقرأ ابن محيصن وابن أبي علية : إنك مايت وإنهم مايتون ، بالألف فيهما .
قال الحسن والكسائي والفراء : ( الميّت ) ، بالتشديد ، من لم يمت سيموت ، و ( الميَت ) ، بالتخفيف الذي فارقه الروح ، لذلك لم يخفف هاهنا .
قال قتادة : نُعيت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه ، ونُعيت إليكم أنفسكم .
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا ابن ماجة حدثنا الحسين بن أيوب حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت قال : نعي رجل إلى صلت بن أشيم أخاً له فوافقه يأكل فقال : ادن فكل فقد نعى إليّ أخي منذ حين .
قال : ( وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر قال : إن الله تعالى نعاه إلىّ فقال ) الله تعالى : ) إنك ميت وإنهم ميتون ( .
الزمر : ( 31 ) ثم إنكم يوم . . . . .
) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( المحق والمبطل والظالم والمظلوم .
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا ابن نمير حدثنا محمّد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن أنس عن الزبير بن العوام قال : لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( .
قال الزبير : يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدُّنيا مع خواصّ الذنوب ؟
قال : ( نعم ليكررن عليكم حتّى يؤدى إلى كل ذي حق حقه ) .
قال الزبير : والله إن الأمر لشديد .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن ( ديزيل ) حدثنا آدم بن أبي أياس حدثنا ابن أبي ذنب حدثنا سعيد المقرئ عن أبي
(8/234)

" صفحة رقم 235 "
هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كانت عنده مظلمة لاخيه من ماله أو عرضه فليتحلّلها اليوم منه قبل أن يؤخذ حين لايكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه ) .
أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا أبو عبد الله محمّد ابن عبد الله بن محمّد بن النعمان حدثنا محمّد بن بكر بن أبي بكر البرجمي حدثنا محمّد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تدرون من مفلس أُمتي ؟ ) .
قلنا : نعم من لا مال له .
قال : ( لا ، مفلس أُمتي من يُجاء به يوم القيامة قد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا ، فيؤخذ من حسناته فيوضع على حسنات الآخر ، وإن فضل عليه فضل أُخذ من سيئات الآخر فطرحت عليه ثم يؤخذ فيُلقى في النار ) .
وقال أبو العالية : هم أهل القبلة .
أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا موسى بن محمّد بن علي بن عبد الله بن الحسن بن علوية حدثنا عبيد بن جناد العلوي الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن القاسم ابن عوف البكري قال : سمعت ابن عمر يقول : لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أُنزلت فينا وفي أهل الكتابين ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( قلنا : كيف نختصم ونبينا واحد فما هذه الخصومة وكتابنا واحد ؟ حتّى رأيت بعضنا يضرب وجه بعض بالسيف ، فعرفت أنه فينا نزلت .
وروى خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال : كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد ، فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو هذا .
أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد : زعم ابن عون عن إبراهيم قال : لما نزلت ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( قالوا : كيف نختصم ونحن اخوان ؟ فلما قتل عثمان قالوا : هذه خصومتنا .
الزمر : ( 32 ) فمن أظلم ممن . . . . .
) فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ ( فزعم أن له ولداً و شريكاً ) وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ ( بالقرآن
(8/235)

" صفحة رقم 236 "
) إذْ جَاءَهُ ألَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً ( منزل ومقام ) لِلْكَافِرِينَ }
الزمر : ( 33 ) والذي جاء بالصدق . . . . .
) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ( .
قال السدي : ( والذي جاء بالصدق ) يعني جبرائيل جاء بالقرآن ( وصدّق به ) محمّد تلقاه بالقبول .
وقال ابن عبّاس : ( والذي جاء بالصدق ) يعني رسول الله جاء بلا إله إلاّ الله ( وصدّق به ) هو أيضاً رسول الله بلّغه إلى الخلق .
وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي : ( والذي جاء بالصدق ) يعني رسول الله ( وصدق به ) أبو بكر .
وقال قتادة ومقاتل : ( والذي جاء بالصدق ) رسول الله ( وصدّق به ) هم المؤمنون وإستدلا بقوله : ) أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ( .
وقال عطاء : ( والذي جاء الصدق ) الانبياء ( عليهم السلام ) ( وصدق به ) الاتباع وحينئذ يكون ( الذي ) بمعنى ( الذين ) على طريق الجنس كقوله : ) مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ( ثم قال : ) ذهب الله بنورهم ( وقوله : ) إن الانسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا ( .
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا ابن فنجويه حدثنا طلحة بن محمّد بن جعفر وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب قالا : حدثنا أبو بكر عن مجاهد حدثنا عبدان بن محمّد المروزي حدثنا عمار بن الحسن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع : أنّه كان يقرأ ) والذين جاءوا ( يعني الانبياء ( عليهم السلام ) ) وصدقوا به ( الاتباع .
وقال الحسن : هو المؤمن صدّق به في الدُّنيا وجاء به يوم القيامة .
يدل عليه ما اخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقريء اخبرنا يعني الظهراني اخبرنا يحيى بن الفضل الخرقي حدثنا وهيب بن عمرو أخبرنا هارون النحوي عن محمّد بن حجارة عن أبي صالح الكوفي وهو أبو صالح السمان أنه قرأ ) والذي جاء بالصدق وصدق به ( مخففة ، قال : هو المؤمن جاء به صادقاً فصدّق به .
وقال مجاهد : هم أهل القرآن يجيؤون به يوم القيامة يقولون هذا الذي اعطيتمونا فعملنا بما فيه .
) أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ }
الزمر : ( 34 - 36 ) لهم ما يشاؤون . . . . .
) لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أجْرَهُمْ بِأحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ألَيْسَ اللهُ بِكَاف عَبْدَهُ ( .
(8/236)

" صفحة رقم 237 "
قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : عباده بالجمع .
وقرأ الباقون : عبده يعنون محمداً ( صلى الله عليه وسلم )
) وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ( وذلك أنهم خوّفوا النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) معرة الأوثان وقالوا : إنك تعيب آلهتنا وتذكرها بسوء ، فوالله لتكفّ عن ذكرها أو لنخلينك أو يصيبك بسوء ) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد }
الزمر : ( 37 - 39 ) ومن يهد الله . . . . .
) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلَ ألَيْسَ اللهُ بِعَزِيز ذِي ا نْتِقَام وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أفَرَأيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إنْ أرَادَنِيَ اللهُ بِضُرَ ( شدة وبلاء ) هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أوْ أرَادَنِي بِرَحْمَة ( نعمة ورخاء ) هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ( .
قرأ شيبة وأبو عمرو ويعقوب : بالتنوين فيهما ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم .
وقرأ الباقون : بالإضافة .
قال مقاتل : فسالهم النبي ( عليه السلام ) فسكتوا فأنزل الله سبحانه ) قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( إذا جاءكم بأس الله تعالى من المحق منّا ومن المبطل .
) ( 2
) مَنْ يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ إنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَق فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَاؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (
الزمر : ( 40 - 41 ) من يأتيه عذاب . . . . .
) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل } بحفيظ ورقيب ، ) ^ وقيل : موكّل عليهم في حملهم على الإيمان .
(8/237)

" صفحة رقم 238 "
الزمر : ( 42 ) الله يتوفى الأنفس . . . . .
) اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ( فيقبضها عند فناء أجلها وانقضاء مدتها ) وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ( كما يتوفى التي ماتت ، فجعل النوم موتاً ) فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ ( عنده .
قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : قُضِيَ بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء ) الموت ( رفع على مذهب مالم يُسم فاعله .
وقرأ الباقون بفتحها ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قالا : لقوله ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) فهو يقضي عليها .
قال المفسرون : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتعارف ماشاء الله تعالى منها ، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها ، أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وحبسها ، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها .
) إلَى أجَل مُسَمّىً ( وقت إنقضاء مدة حياتها ) إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد الاصبهاني أخبرنا محمّد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضل حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : ) الله يتوفى الأنفس حين موتها ( قال : يقبض أنفس الأموات والأحياء ، فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء إلى أجل مسمّى لا يغلط .
وقال ابن عبّاس : في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه .
أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا إبراهيم بن سعد بن معدان حدثنا ابن كاسب حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا أوى أحدكم إلى فراشه ، فليضطجع على شقه الأيمن وليقل : بأسمك ربّي وضعت جنبي وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) .
الزمر : ( 43 ) أم اتخذوا من . . . . .
) أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أوَ لَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً ( من الشفاعة ) وَلا يَعْقِلُونَ ( يعني وإن كانوا لايملكون شيئاً من الشفاعة ولايعقلون إنكم تعبدونهم أفتعبدونهم
الزمر : ( 44 ) قل لله الشفاعة . . . . .
) قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ( فمن يشفع فبأذنه يشفع ) لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
الزمر : ( 45 ) وإذا ذكر الله . . . . .
) وَإذَا ذُ كِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } ^
(8/238)

" صفحة رقم 239 "
قال ابن عبّاس ومجاهد ومقاتل : انقبض .
قتادة : كفرت واستكبرت .
الضحاك : نفرت .
الكسائي : انتفضت .
المؤرخ : انكرت ، وأصل الاشمئزاز النفور والأزورار .
قال عمرو بن كلثوم :
إذا عضَّ الثقاف بها اشمأزت
وولتهم عشوزنة زبونا
) وَإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ( يعني الأوثان ، وذلك حين ألقى الشيطان في أُمنية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قراءته سورة النجم : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة تُرتجى ) إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( يفرحون
الزمر : ( 46 ) قل اللهم فاطر . . . . .
) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ ( أي يا فاطر السماوات والأرض ) عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان حدثنا عبيد الله بن ثابت حدثنا أبو سعيد الكندي حدثنا ابن فضيل حدثنا سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري قال : كنت عند الربيع بن خيثم فدخل عليه رجل ممّن شهد قتل الحسين ممّن كان يقاتله فقال ابن خيثم يا معلقها . يعني الرؤس ، ثم أدخل يده في حنكه تحت لسانه فقال : والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبّل أفواههم وأجلسهم في حجره ، ثم قرأ ) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( .
الزمر : ( 47 ) ولو أن للذين . . . . .
) وَلَوْ أنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ( أشركوا ) مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ ( .
اخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا ابن وهب حدثني محمد بن الوليد القرشي حدثنا محمّد بن جعفر حدثنا شعبة عن ابن عمران الحوني قال : سمعت أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً لو أن لك ماعلى الأرض من شيء أكنت مفتدياً به ؟ فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لاتشرك بي شيئاً فأبيت إلاّ أن تشرك بي ) .
الزمر : ( 48 ) وبدا لهم سيئات . . . . .
) وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( في الدُّنيا أنه نازل بهم في الآخرة . ) ^
(8/239)

" صفحة رقم 240 "
قال السدي : ظنّوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات .
قال سفيان : وقرأ هذه الآية : ويل لأهل الريا ويل لأهل الريا .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا الفرياني حدثني محمّد ابن عبد الله بن عماد حدثني عقبة بن سالم عن عكرمة بن عمار قال : جزع محمّد بن المنكدر عند الموت فقيل له : تجزع .
فقال : أخشى آية من كتاب الله تعالى ) وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( فأنا اخشى ان يبدو لي من الله مالم أحتسب .
) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (
الزمر : ( 49 ) فإذا مس الإنسان . . . . .
) فَإذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إذَا خَوَّلْنَاهُ ( أعطيناه ) نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم ( من الله بأني له أهل .
قال قتادة : على خير عندي .
) بَلْ هِيَ ( يعني النعمة ) فِتْنَةٌ ( .
وقال الحسين بن الفضل : بل كلمته التي قالها فتنة .
) وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (
الزمر : ( 50 ) قد قالها الذين . . . . .
) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( يعني : قارون إذ قال إنما أوتيته على علم عندي .
) فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (
الزمر : ( 51 - 52 ) فأصابهم سيئات ما . . . . .
) فَأصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ ( يعني كفار هذه الأُمة ) سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أوَ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ( .
2 ( ) قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُل شَىْءٍ وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّىأَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ( 2
(8/240)

" صفحة رقم 241 "
الزمر : ( 53 ) قل يا عبادي . . . . .
) قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ( الآية .
اختلف المفسرون في المعنيّين بهذه الآية .
فقال بعضهم : عنى بها قوماً من المشركين .
قال ابن عبّاس : نزلت في أهل مكة قالوا يزعم محمّد انه من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله الهاً آخر وقتلنا النفس التي حرم الله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
أنبأني عبد الله بن حامد بن محمّد الأصفهاني أخبرني إبراهيم بن محمّد بن عبد الله البغدادي حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان الجبلي حدثنا أبو إسماعيل حدثنا إسحاق بن سعيد أبو سلمة الدمشقي حدثنا أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه : يامحمّد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو شرك أو زنى يلق أثاماً ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ، وأنا قد فعلت ذلك كله ، فهل تجد لي رخصة ؟ فأنزل الله تعالى ) إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً ( الآية .
قال وحشي : هذا شرط شديد فلعلي لا أقدر على هذا ، فهل غير ذلك ؟ فأنزل الله تعالى ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ( . 6
فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا ، فهل غير ذلك ؟ فأنزل الله تعالى ) قل يا عباد الذين اسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله ( .
فقال وحشي : نعم هذه ، فجاء فأسلم .
فقال المسلمون : هذه له خاصة أم للمسلمين عامة ؟
قال : ( بل للمسلمين عامة ) .
وقال قتادة : ذكر لنا أن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لن يتاب عليهم ، فدعاهم الله بهذه الآية .
وقال ابن عمر : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين ، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لايقبل الله تعالى من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به ، فنزلت على هؤلاء الآيات فكان
(8/241)

" صفحة رقم 242 "
عمر بن الخطاب كاتباً فكتبها بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى اولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو بكر بن خرجة حدثنا محمّد بن عبد الله بن سلمان الحضرمي حدثنا محمّد بن العلاء حدثنا يونس بن بكير حدثنا ابن إسحاق حدثنا نافع عن ابن عمر عن عمر ح أنه قال : لما اجتمعنا إلى الهجرة ابعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا : الميعاد بيننا المناصف ميقات بني غفار ، فمن حبس منكم لم يأبها فقد حبس فليمض صاحبه ، فأصبحت عندها أنا وعياش وحبس عنا هشام وفتن فافتتن ، فقدمنا المدينة فكنا نقول : هل يقبل الله من هؤلاء توبة قوم عرفوا الله ورسوله ثم رجعوا عن ذلك لما أصابهم من الدُّنيا ؟ فأنزل الله تعالى ) قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله ( إلى قوله ) أليس في جهنم مثوىً للمتكبرين ( .
قال عمر : فكتبتها بيدي كتاباً ثم بعثت بها إلى هشام .
قال هشام : فلما قدمت عليَّ خرجت بها إلى ذي طوى فقلت اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها أُنزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقتل هشام شهيداً بأجنادين في ولاية أبي بكر ح .
وقال بعضهم : نزلت في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار ، فأعلمهم الله تعالى أنه يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء .
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول : أنه ليس شيء من حسناتنا إلاّ وهي مقبولة حتّى نزلت هذه الآية ) أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ( فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقيل لنا : الكبائر والفواحش .
قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا : قد هلك ، فنزلت هذه الآية ، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له . وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر ، والآية عامة للناس أجمعين ) لا تقنطوا ( .
قرأ أبو عمرو والأعمش ويحيى بن وثاب وعيسى والكسائي ويعقوب ( لا تقنِطوا ) بكسر النون .
وقرأ أشهب العقيلي : بضمه .
وقرأ الآخرون : بفتحه .
روى الأعمش عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود قال : دخل عبد الله بن مسعود المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال ، فجاء حتّى قام على رأسه وقال : يا مذكّر لِمَ
(8/242)

" صفحة رقم 243 "
تقنط الناس ثم قرأ ) قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله ( الآية .
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو حبش المقريء حدثنا ابن فنجويه حدثنا سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم : أن رجلاً كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة فيشدد على نفسه ويقنّط الناس من رحمة الله ثم مات فقال : أي رب ما لي عندك ؟
قال : النار .
قال : أي رب وأين عبادتي واجتهادي ؟
فيقول : إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدُّنيا ، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي .
) إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا حامد بن محمّد بن عبد الله حدثنا محمّد بن صالح الأشج حدثنا داود بن إبراهيم حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت بن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي ) .
وفي مصحف عبد الله : ( إن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء ) .
) إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ( .
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمّد بن المظفر حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال : ما علمت أحداً من أهل العلم ولا من أصحاب محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لذنب : إن الله لايغفر هذا .
أخبرنا عقيل بن محمّد بن أحمد : أن المعافا بن زكريا أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا زكريا بن يحيى وهداد بن أبي زائدة حدثنا حجاج حدثنا ابن لهيعة عن أبي قنبل قال : سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول : حدثني أبو عبد الرحمن الجيلاني أنه سمع ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : سمعت رسول الله ( عليه السلام ) : ( يقول ما أحب أن لي الدُّنيا وما فيها بهذه الآية ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ( ) .
فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟
فسكت النبي ( عليه السلام ) ثم قال : ( ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك ) .
(8/243)

" صفحة رقم 244 "
وبإسناده عن محمّد بن جرير حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا يونس عن ابن سيرين قال : قال عليح : مافي القرآن آية أوسع من ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( الآية .
وبه عن ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن شتير بن شكل قال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أكثر آية فرجاً في القرآن ) يا عبادي الذين أسرفوا ( الآية .
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي حدثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا علي بن محمّد بن ماهان حدثنا سلمة بن شبيب قال : قريء على عبد الرزاق وأنا أسمع عن معمر عن الزهري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) هو يبكي فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما يبكيك ياعمر ؟ ) .
قال : يارسول الله إن بالباب شاباً قد أخرق فؤادي وهو يبكي .
فقال له رسول الله : ( أدخله عليَّ ) .
فدخل وهو يبكي فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما شأنك ياشاب ؟ ) .
قال : يارسول الله أبكاني ذنوب كثيرة وخفت من جبار غضبان عليَّ .
قال : ( أشركت بالله يا شاب ؟ ) .
قال : لا .
قال : ( أقتلت نفساً بغير حقها ؟ ) .
قال : لا .
قال : ( فإن الله يغفر لك ذنبك ولو مثل السماوات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسي ) .
قال : يا رسول الله ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع ومن الأرضين السبع .
قال : ( ذنبك أعظم أم العرش ؟ ) قال : ذنبي .
قال : ( ذنبك أعظم أم الكرسي ؟ ) .
قال : ذنبي .
قال : ( ذنبك أعظم أم إلهك ؟ ) .
قال : بل الله أجلّ وأعظم .
(8/244)

" صفحة رقم 245 "
فقال : ( إن ربّنا لعظيم ولايغفر الذنب العظيم إلاّ الإله العظيم ) .
قال : ( أخبرني عن ذنبك ) .
قال : إني مستحيي من وجهك يارسول الله .
قال : ( أخبرني ما ذنبك ؟ ) .
قال : إني كنت رجلاً نباشاً أنبش القبور منذ سبع سنين ، حتّى ماتت جارية من بنات الأنصار فنبشت قبرها فأخرجتها من كفنها ، ومضيت غير بعيد إذ غلبني الشيطان على نفسي ، فرجعت فجامعتها ومضيت غير بعيد إذ قامت الجارية فقالت : الويل لك يا شاب من ديّان يوم الدين يوم يضع كرسيّه للقضاء ، يأخذ للمظلوم من الظالم تركتني عريانة في عسكر الموتى ووقفتني جنباً بين يدي الله تعالى .
فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يضرب في قفاه ويقول : ( يا فاسق أخرج ما أقربك من النار ) .
قال : فخرج الشاب تائباً إلى الله تعالى حتّى أتى عليه ما شاء الله ثم قال : يا إله محمّد وآدم وحواء إن كنت غفرت لي فاعلم محمداً وأصحابه وإلاّ فأرسل ناراً من السماء فأحرقني بها ونجني من عذاب الآخرة .
قال : فجاء جبرئيل وله جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب قال : السلام يقرؤك السلام . قال : ( هو السلام وإليه يعود السلام ) .
قال : يقول : أنت خلقت خلقي ؟ .
قال : ( لا ، بل هو الذي خلقني ) .
قال : يقول : أنت ترزقهم ؟
قال : ( لا ، بل هو يرزقني ) .
قال : أنت تتوب عليهم ؟
قال : ( لا ، بل هو الذي يتوب عليَّ ) .
قال : فتب على عبدي .
قال : فدعا النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) الشاب فتاب عليه وقال : ( إن الله هو التوّاب الرحيم ) .
الزمر : ( 54 ) وأنيبوا إلى ربكم . . . . .
) وَأنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ ( أي واقبلوا وارجعوا إليه بالطاعة . ) وَأسْلِمُوا لَهُ ( واخضعوا له ) مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( .
(8/245)

" صفحة رقم 246 "
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الحافظ حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السنّي حدثنا أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا كثير بن زيد عن الحرث بن أبي يزيد قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله تعالى الإنابة ) .
الزمر : ( 55 ) واتبعوا أحسن ما . . . . .
) وَاتَّبِعُوا أحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ( والقرآن كله حسن وانما معنى الآية ما قال الحسن : التزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن الذي أُنزل على ثلاثة أوجه : ذكر القبيح لنجتنبه ، وذكر الأدون لئلا نرغب فيه ، وذكر الحسن لنؤثره .
وكذلك قال السدي : الأحسن ما أمر الله به في الكتاب .
وقال ابن زيد : ( واتبعوا أحسن ما أُنزل اليكم من ربّكم ) يعني المحكمات وكلوا علم المتشابهات إلى عالمها .
) مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (
الزمر : ( 56 ) أن تقول نفس . . . . .
) أنْ تَقُولَ نَفْسٌ ( يعني لأن لا تقول كقوله : ) أن تميد بكم ( ) وأن تصوموا ( ونحوهما .
) يَا حَسْرَتَا ( ياندامتا وحزني ، والتحسر الإغتمام على ما فات ، سُمّي بذلك لانحساره عن صاحبه بما يمنع عليه استدراكه وتلا في الأمر فيه ، والألف في قوله : ( ياحسرتا ) هي بالكناية للمتكلم وإنما أُريد ياحسرتي على الاضافة ، ولكن العرب تحوّل الياء التي هي كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفاً فتقول : ياويلتا وياندامتا ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربّما لحقوا بها الهاء .
أنشد الفراء :
يا مرحباه بحمار ناجية
إذا أتى قربته للسانية
وربّما الحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة .
وكذلك قرأ أبو جعفر : يا حسرتاي .
) عَلَى مَا فَرَّطْتُ ( قصّرت ) فِي جَنْبِ اللهِ ( قال الحسن : في طاعة الله . سعيد بن جبير : في حق الله في أمر الله . قاله مجاهد .
قال أهل المعاني : هذا كما يقال هذا صغير في جنب ذلك الماضي ، أي في أمره
(8/246)

" صفحة رقم 247 "
وقيل : في سبيل الله ودينه . والعرب تسمّي السبب والطريق إلى الشيء جنباً تقول : تجرعت في جنبك غُصصاً وبلاءاً ، أي بسببك ولأجلك .
قال الشاعر :
أفي جنب بكر قطعتني ملامة
لعمري لقد كانت ملامتها ثنى
وقال في الجانب الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى وثوابه ، والعرب تسمّي الجانب جنباً .
قال الشاعر :
الناس جنب والأمير جنب
يعني الناس من جانب والأمير من جانب .
) وَإنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ( المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه ورسوله والمؤمنين .
قال قتادة : في هذه الآية لم يكفه ان ضيع طاعة الله تعالى ، حتّى جعل يسخر بأهل طاعة الله .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا هارون بن محمّد حدثنا محمّد بن عبد العزيز حدثنا سلمة حدثنا أبو الورد الوزان عن إسماعيل عن أبي صالح : ( يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ) قال : كان رجل عالم في بني إسرائيل ترك علمه وأخذ في الفسق ، أتاه ابليس فقال له : لك عمر طويل فتمتع من الدُّنيا ثم تب .
فأخذ في الفسق ، وكان عنده مال فأنفق ماله في الفجور ، فأتاه مالك الموت في ألذّ ما كان .
فقال : من أنت ؟
فقال : أنا ملك الموت جئت لأقبض روحك .
فقال : ياحسرتي على مافرطت في جنب الله ، ذهب عمري في طاعة الشيطان وأسخطت ربّي .
فندم حين لم تنفعه الندامة ، قال : فأنزل الله سبحانه وتعالى خبره في القرآن .
الزمر : ( 57 - 58 ) أو تقول لو . . . . .
) أوْ تَقُولَ لَوْ أنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ أوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً ( رجعة إلى الدُّنيا ) فَأكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ ( وفي نصب قوله : ( فأكون ) وجهان
(8/247)

" صفحة رقم 248 "
أحدهما : على جواب لو .
والثاني : على الرد على موضع الكرّة ، وتوجيه الكرّة في المعنى لو أنّ لي أنْ أكر .
كقول الشاعر : أنشده الفراء :
فمالك منها غير ذكرى وحسرة
وتسأل عن ركبانها أين يمموا
فنصب تسأل عطفاً على موضع الذكرى ، لأن معنى الكلام : فمالك منها إلاّ أن يذكر ، ومنه قول الله تعالى : ) أو يرسل رسولاً ( عطف يرسل على موضع الوحي في قوله تعالى : ) إلاّ وحياً ( .
الزمر : ( 59 ) بلى قد جاءتك . . . . .
) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الكَافِرِينَ ( .
قرأ العامة : بفتح الكاف والتاء .
وقرأت عائشة : بكسرها أجمع ، ردتها إلى النفس .
وروى ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
حدثنا ابن فنجويه حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل أخبرنا سعيد بن نصير قال : سمعت إسحاق بن سلمة الرازي قال : سمعت أبا جعفر الرازي يذكر عن الربيع بن أنس أنبأني عبد الله بن حامد أخبرتنا سعيدة بنت حفص بن المهتدي ببخارى قالت : حدثنا صالح بن محمّد البغدادي حدثنا عبد الله بن يونس بن بكر حدثنا أبي حدثنا عيسى بن عبد الله بن ماهان أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : سمعت رسول الله ( عليه السلام ) يقول : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ) على مخاطبة النفس .
قال المروزي : وهي رواية السريحي عن الكسائي .
الزمر : ( 60 ) ويوم القيامة ترى . . . . .
) وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ ( فزعم أن له ولداً وشريكاً ) وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ( .
قال الأخفش : ترى غير عاملة في قوله : ( وجوههم مسودة ) إنما ابتداء وخبر .
) ألَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ }
الزمر : ( 61 ) وينجي الله الذين . . . . .
) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ ( .
قرأ أهل الكوفة : بالألف على الجمع .
(8/248)

" صفحة رقم 249 "
وقرأ الباقون : بغير ألف على الواحد ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم والأخفش ، لأن المفازة هاهنا الفوز ، ومعنى الآية : بنجاتهم من العذاب بأعمالهم الحسنة .
) لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ( لايصيبهم المكروه ) وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
الزمر : ( 62 - 63 ) الله خالق كل . . . . .
) اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ ( أيّ مفاتيح خزائن السماوات والأرض ، واحدها مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح ، ومقليد مثل منديل ومناديل وفيه لغة أُخرى أقاليد .
واحدها أقليد ، وقيل : هي فارسية معربة اكليل .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري بقرائتي عليه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي حدثنا عمر بن أحمد بن شنبه حدثنا إسماعيل بن سعيد الخدري حدثنا أغلب بن تميم عن مخلد أبي الهذيل عن عبد الرحمن أخيه قال ابن عيينة : عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان ح انه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير هذه الآية ( مقاليد السماوات والأرض ) .
فقال : ( يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسيرها : لا إله إلاّ الله والله اكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله لا قوة إلاّ بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، ياعثمان من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله تعالى ست خصال : أما أولها : فيحرس من إبليس وجنده ، والثانية : يحضره إثنا عشر ملكاً ، والثالثة : يعطى قنطاران من الجنّة ، والرابعة : يرفع له درجة ، والخامسة : يزوجه الله تعالى زوجة من الحور العين ، والسادسة : يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل ، وله أيضاً من الأجر كمن حج أو اعتمر فقبلت حجته وعمرته ، فإن مات من ليلته مات شهيداً ) .
أخبرنا أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمّد بن العدل بقرائتي عليه حدثنا أحمد بن محمّد بن يحيى أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن زكريا الجرجاني الفقيه حدثنا أحمد بن جعفر بن نصر الرازي حدثنا محمّد بن يزيد النوفلي حدثنا حماد بن محمّد المرزوي حدثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي ح قال : سألت النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير المقاليد .
فقال : ( يا عليّ سألت عظيماً ، المقاليد هو أن تقول عشراً إذا اصبحت وعشراً إذا أمسيت : لا إله إلاّ الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، من قالها عشراً إذا أصبح وعشراً إذا امسى أعطاه الله تعالى خصالاً ستاً ؛ أولهن :
(8/249)

" صفحة رقم 250 "
يحرسه من إبليس وجنده فلا يكون لهم عليهم سلطان ، والثانية : يعطى قنطاراً في الجنّة أثقل في ميزانه من جبل أُحد ، والثالثة : يرفع الله له درجة لاينالها إلاّ الأبرار ، والرابعة : يزوجه الله من الحور العين ، والخامسة : يشهده إثنا عشر ألف ملك يكتبونها في رقّ منشور يشهدون له بها يوم القيامة ، والسادسة : كمن قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وكان كمن حج واعتمر فقبل الله حجة وعمرته ، وإن مات من يومه أو ليلته أو شهره طبع بطابع الشهداء ، فهذا تفسير المقاليد ) .
) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ (
الزمر : ( 64 ) قل أفغير الله . . . . .
) قُلْ أفَغَيْرَ اللهِ تَأمُرُونّي أعْبُدُ أيُّهَا الجَاهِلُونَ ( وذلك حين دعا إلى دين آبائه . واختلف القرّاء في قوله : ) تأمروني ( فقرأ أهل المدينة : بنون واحدة مخففة على الحذف والتحقيق .
وقرأ أهل الشام : بنونين على الأصل .
وقرأ الآخرون : بنون واحدة مشددة على الإدغام .
2 ( ) وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِىءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاَْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2
الزمر : ( 65 ) ولقد أوحي إليك . . . . .
) وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الذي عملته قبل الشرك .
وقال أهل الإشارة : معناه لئن طالعت غيري في السر ليحبطن عملك
(8/250)

" صفحة رقم 251 "
) وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ( ثم دَلّه على التوحيد فقال عز من قائل :
الزمر : ( 66 ) بل الله فاعبد . . . . .
) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( لله تعالى على نعمة الايمان
الزمر : ( 67 ) وما قدروا الله . . . . .
) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( حين أشركوا به غيره ، ثم خبر عن عظمته فقال ) وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ ( أيّ ملكه ) يَوْمَ القِيَامَةِ ( بلا مانع ولا منازع ولا مدّع ، وهي اليوم أيضاً ملكه ، ونظيره قوله تعالى : ) ملك يوم الدين ( و ) ولمن الملك اليوم ( .
قال الأخفش : هذا كما يقال خراسان في قبض فلان ، ليس أنها في كفّه وإنما معناه ملكه .
) وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( للطي معان منها : الإدراج كطي القرطاس والثوب بيانه يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ، ومنه الإخفاء كما تقول : طويت فلاناً عن الأعين ، وأطو هذا الحديث عني أي استره .
ومنه : الإعراض يقال : طويت عن فلان أو أعرضت عنه .
ومنه : الافناء ، تقول العرب : طويت فلاناً بسيفي ، أي أفنيته .
وقراءة العامة : مطويات بالرفع . وقرأ عيسى بن عمر : بالكسر ومحلها النصب على الحال والقطع ، وإنما يذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار .
وقيل : هو معنى القوة ، كقول الشاعر :
تلقاها عرابة باليمين
وقيل : اليمين بمعنى القسم ، لأنه حلف أنه يطويها ويفنيها . وهو اختيار علي بن مهدي الطبري قال : معناه مضنيات بقسمه .
حكى لي أُستاذنا أبو القاسم بن حبيب عنه ثم نزه نفسه ، وقال تعالى : ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ثم أتى ذاكر بعض ما ورد من الآثار في تفسير هذه الآية .
أخبرنا عبد الله بن حامد بقرائتي عليه حدثنا محمّد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضيل حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا أبا القاسم ان الله يمسك السماوات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول هكذا بيده .
فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بدت نواجذه ، ثم قال : ( وما قدروا الله حق قدره )
(8/251)

" صفحة رقم 252 "
وأنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا العبّاس بن الفضل الاسقاطي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبيد الله قال : جاء حبر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا محمّد أو يا أبا القاسم ان الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، يهززهن فيقول : أنا الملك أنا الملك .
فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تعجباً ممّا قال الحبر تصديقاً له ، ثم قرأ ) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ( .
أخبرنا أحمد بن محمّد بن يوسف القصري بها أخبرنا إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل ببغداد حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمّد بن صالح الواسطي عن سليمان بن محمّد عن عمر بن نافع عن أبيه قال : قال عبد الله بن عمر رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائماً على هذا المنبر يعني منبر رسول الله ( عليه السلام ) وهو يحكي عن ربّه تبارك وتعالى فقال : ( إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها ثم يقول : أنا الله ، أنا الرحمن ، أنا الملك ، أنا القدوس ، أنا السلام ، أنا المؤمن ، أنا المهيمن ، أنا العزيز ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الذي بدأت الدُّنيا ولم يك شيئاً ، أنا الذي اعدتها ، أين الملوك أين الجبابرة ) .
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل حدثنا هدية ابن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ على المنبر ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) فبسط رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديه ثم قال : ( فيمجّد الله نفسه ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا العزيز ، أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ) .
قال : فرجف المنبر حتّى قلنا ليتحركنَّ به ، وقيل : ليخرنَّ به .
أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عمر عن عبد الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أُسامة عن عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله حدثني عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون )
(8/252)

" صفحة رقم 253 "
أخبرنا عبد الله بن حامد إجازة أخبرنا محمّد بن الحسين حدثنا محمّد بن جعونة أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أتاه حبر من أحبار اليهود فقال : إني سائلك عن أشياء فخبّرني بها .
فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اسأل ذلك ) .
فقال الحبر : أرأيت قول الله تعالى في كتابه : ( يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ) فأين الخلق عند ذلك ؟
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هم أضياف الله تعالى فلن يعجزهم ما لديه ) .
فقال الحبر : فقوله سبحانه وتعالى : ) والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ( فأين الخلق عند ذلك ؟
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هم فيها كالرقيم في الكتاب ) .
وقال ابن عبّاس : في هذه الآية كل ذلك يمينه ، وليس في يده الأُخرى شيء ، وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه ، وما السماوات والأرضون السبع في يدي الله تعالى إلاّ كخردلة في يد أحدكم .
أنبأني عقيل بن أحمد : أن المعافا بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثني ابن إسحاق عن محمّد عن سعيد قال : اتى رهط من اليهود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : يا محمّد هذا الله خلق الخلق ، فمن خلقه ؟
فغضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى انتقع لونه ثم ساورهم غضباً لربّه فجاءه جبرئيل ( عليه السلام ) فسكنه وقال : اخفض عليك جناحك وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه ، قال يقول الله : ) قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ( .
فلما تلاها عليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا له : صف لنا ربك كيف خلقه وكيف عضده وكيف ذراعه ؟
فغضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أشد من غضبه الأول ثم ساورهم فجاءه جبرئيل فقال : مثل مقالته ، وأتاه بجواب ما سألوه ) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ( الآية .
وقال مجاهد : وكلتا يدي الرحمن يمين
(8/253)

" صفحة رقم 254 "
أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق أخبرنا بشير بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرنا عمرو بن أوس الثقفي : أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من منابر النور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) .
وقال الحسين بن الفضل والأخفش معنى الآية ) والأرض جميعاً . . . والسماوات مطويات ( أي مضبوطات مربوطات بيمينه ، أي بقدرته وهي كلها في ملكه وقبضته ، نحو قوله تعالى : ) وما ملكت أيمانكم ( أي وما كانت لكم قدرة ، وليس الملك لليمين دون سائر الجسد والله أعلم .
الزمر : ( 68 ) ونفخ في الصور . . . . .
) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ( .
أخبرنا أبو محمّد الحسين بن أحمد المخلدي إملاء وقراءة أخبرنا عبد الله بن محمّد بن مسلم حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي رجاء المصيصي حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أسلم العجلي عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو قال : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الصور .
فقال : ( قرن ينفخ فيه ) .
) فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ( أيّ ماتوا وهي النفخة الثانية ) إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ( اختلفوا في الذين استثناهم الله تعالى .
أخبرنا أبو علي الحسين بن محمّد بن محمّد الروذبادي حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمّد ابن عبد الرحيم الشروطي حدثنا عبدان بن عبد الله بن أحمد حدثنا محمّد بن مصفي حدثنا بقية عن محمّد عن عمرو بن محمّد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأل جبرئيل عن هذه الآية ) فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ( : ( من أُولئك الذين لم يشاء الله أن يصعقهم ؟ ) .
فقال : هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش .
أخبرنا الحسين بن فنجويه بقرائتي عليه حدثنا أبو علي بن حبش المقريء قال : قرأ عليّ
(8/254)

" صفحة رقم 255 "
أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي وأنا أسمع حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمّد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سأل جبرئيل ( عليهما السلام ) عن هذه الآية ) ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ( : ( من الذين لم يشاء الله تعالى أن يصعقهم ؟ ) .
قال : هم الشهداء متقلدون حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت أزمتها الدرّ برحائل السندس والإستبرق نمارها ألين من الحرير ، مدَّ خطاها مدَّ أبصار الرجال يسيرون في الجنّة يقولون عند طول البرهة : انطلقوا إلى ربنا لننظر كيف يقضي بين خلقه ، فيضحك إليهم إلهي عزّ وجلّ ، فإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه .
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الحسن بن يحيويه حدثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالاً :
حدثنا محمّد بن يوسف الفربابي حدثنا سليمان بن حيان عن محمّد بن إسحاق عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : تلا رسول الله ( عليه السلام ) ) ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ( قالوا : يارسول الله من هؤلاء الذين استثنى الله تعالى ؟
قال : ( هو جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت قال : فيقول ياملك الموت خذ نفس اسرافيل . فيقول : يا ملك الموت من بقي ؟ فيقول : سبحانك ربّي وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت . فيقول : ياملك الموت خذ نفس ميكائيل . فياخذ نفس ميكائيل فيقع كالطود العظيم . فيقول : يا ملك الموت من بقي ؟ فيقول : سبحانك ربّي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وملك الموت .
فيقول : مُت ياملك الموت فيموت . فيقول : ياجبرئيل من بقي ؟ فيقول : تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبرئيل الميت الفاني قال : فيقول : يا جبرئيل لابدّ من موتك ، فيقع ساجداً يخفق بجناحيه فيقول : سبحانك ربّي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام ) .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الضرب من الضراب ) .
أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر حدثنا حاجب بن أحمد بن يرحم حدثنا محمّد بن حماد حدثنا محمّد بن الفضيل عن سليمان التيمي عن أبي نصرة عن جابر في قوله تعالى : ) ونفخ
(8/255)

" صفحة رقم 256 "
في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ( قال : موسى ممّن استثنى الله تعالى ، وذلك بأنه قد صعق مرة .
يدل عليه ما أخبرنا عقيل بن أحمد : أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا محمّد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال يهودي بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر ، قال : فرفع رجل من الأنصار يده فصك بها وجهه فقال : تقول هذا وفينا رسول الله .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ) ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ( فاكون أنا أول من يرفع رأسه ، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممّن استثنى الله تعالى ) .
وقال كعب الأحبار : هم إثنا عشر ، حملت العرش وجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت .
الضحاك : هم رضوان والحور ومالك والزبانية .
قتادة : الله أعلم بثنياه .
الحسن : ( إلاّ من شاء الله ) يعني الله وحده . وقيل : عقارب النار وحياتها ، ) ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ ( أي في الصور ) أُخْرَى ( مرة أُخرى ) فَإذَا هُمْ قِيَامٌ ( من قبورهم ) يَنْظُرُونَ ( يعني ينظرون إلى البعث .
وقيل : ينتظرون أمر الله تعالى فيهم .
قالت العلماء : ووجه النفخ في الصور أنه علامة جعلها الله تعالى ليتصوّر بها العاقل وأخذ الأمر ، ثم تجديد الخلق .
الزمر : ( 69 ) وأشرقت الأرض بنور . . . . .
) وَأشْرَقَتِ ( وأضاءت ) الأرْضُ ( .
وقرأ عبيد بن عمير : ( وأشرقت ) على لفظ ما لم يُسم فاعله كأنها جعلت مضيئة .
) بِنُورِ رَبِّهَا ( قال أكثر المفسرين : بضوء ربّها ، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره إلاّ كما يتضارون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه .
وقال الضحاك : بحكم ربّها
(8/256)

" صفحة رقم 257 "
وقال السدي : بعدل ربّها . ويقال : إن الله تعالى خلق في القيامة نوراً يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به ، ويقال : ان الله يتجلى للملائكة فتشرق الأرض بنوره ، وأراد بالأرض عرصات القيامة .
) وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ( .
قال ابن عبّاس : يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة .
وقال السدي : الذين استشهدوا في طاعة الله .
وقيل : هم الحفظة ، يدل عليه قوله تعالى : ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ( .
) وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
الزمر : ( 70 - 71 ) ووفيت كل نفس . . . . .
) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْس مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( سوقاً عنيفاً يسحبون على وجوههم ) إلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ( أفواجاً بعضها على أثر بعض ، كل أمة على حدة .
وقال أبو عبيد والأخفش : يعني جماعات في تفرقة ، واحدتها زمرة .
) حَتَّى إذَا جَاؤوهَا وفُتِحَتْ أبْوَابُهَا ( السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة .
واختلف القراء في قوله : ( فتِحت ) و ( فتّحت ) فخففها أهل الكوفة ، وشددهما الآخرون على التكثير .
) وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ( توبيخاً وتقريعاً لهم ) ألَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ ( وجبت ) كَلِمَةُ العَذَابِ ( وهي قوله تعالى : ) لأملأن جهنّم من الجنّة والناس أجمعين ( .
) عَلَى الكَافِرِينَ }
الزمر : ( 72 - 73 ) قيل ادخلوا أبواب . . . . .
) قِيلَ ادْخُلُوا أبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ ( وحشر الذين ) اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ( فأطاعوه ولم يشركوا به ) إلَى الجَنَّةِ زُمَراً ( ركباناً ) حَتَّى إذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ ( الواو فيه واو الحال ومجازه وقد فتحت أبوابها ، فأدخل الواو هاهنا لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم ، وحذفها من الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم ، ويقال : زيدت الواو هاهنا ، لأن أبواب الجنّة ثمانية وأبواب الجحيم سبعة ، فزيدت الواو هاهنا فرقاً بينهما .
حكى شيخنا عبد الله بن حامد عن أبي بكر بن عبدش أنها تُسمى واو ثمانية .
قال : وذلك أن من عادة قريش أنهم يعدون العدد من الواحد إلى الثمانية ، فإذا بلغوا
(8/257)

" صفحة رقم 258 "
الثمانية زادوا فيها واواً فيقولون : خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، يدل عليه قول الله تعالى : ) سخرها علهيم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ( وقال سبحانه : ) التائبون العابدون ( ، فلما بلغ الثامن من الأوصاف قال ) والناهون عن المنكر ( ، وقال سبحانه وتعالى : ) ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ( ، وقال تعالى : ) ثيبات وأبكاراً ( .
وقيل : زيادة الواو في صفة الجنّة علامة لزيادة رحمة الله على غضبه وعقوبته .
) وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( قال قتادة فإذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنّة والنار ، فيقتص بعضهم من بعض ، حتّى إذا هدؤا واطمئنوا قال لهم رضوان وأصحابه : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين .
أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمّد البيهقي أخبرنا أبو حاتم مكي بن عبدان التميمي حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر السليطي حدثنا روح بن عبادة القيسي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن عليح : أنه سُئل عن هذه الآية ) وسيق الّذين اتقوا ربّهم إلى الجنّة زُمراً ( الآية .
فقال : سيقودهم إلى أبواب الجنّة حتّى إذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة تخرج من تحت ساقها عينان ، فعمدوا إلى احديهما فتطهروا فيها فجرت عليهم بنضرة النعيم ، فلن تغير أجسادهم بعدها أبداً ولن تشعث أشعارهم بعدها أبداً كأنما دهنوا بالدهان ، ثم عمدوا إلى الأُخرى فشربوا منها فأذهبت مافي بطونهم من أذىً أو قذىً ، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنّة : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، ويلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم إذا جاء من الغيبة يقولون : ابشر قد أعدّ الله لك كذا وكذا وأعد لك كذا وكذا ، وينطلق غلام من غلمانه يسعى إلى أزواجه من الحور العين فيقول : هذا فلان باسمه في الدُّنيا قد قدم .
فيقلنّ : أنت رأيته ؟
فيقول : نعم .
فيستخفهن الفرح حتّى يخرجن إلى أسكفة الباب ويجيء ويدخل ، فإذا سرر موضونة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابي مبثوثة ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه ، فإذا هو قد
(8/258)

" صفحة رقم 259 "
أُسس على جندل اللؤلؤ بين أخضر وأحمر وأبيض وأصفر من كل لون ، ثم يتكيء على أريكة من أرائكه ، ثم يرفع طرفه إلى سقفه ، فلولا أن الله تعالى قدر له لألمّ أن يذهب بصره ، أنه مثل البرق فيقول : ) الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كانا لنهتدي لولا أن هدانا الله ( قال : ) فيناديهم الملائكة أن تلكم الجنّة أورثتموها بما كنتم تعملون ( .
واختلف أهل العربية في جواب قوله تعالى : ) حتّى إذا جاؤوها ( .
فقال بعضهم : جوابه : ( فتحت ) والواو فيه ( مثبتة ) مجازها حتّى إذا جاؤها فتحت أبوابها كقوله تعالى : ) ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء ( أي ضياء .
وقيل : جوابه : قوله تعالى : ) وقال لهم خزنتها ( والواو فيه ملغاة تقديره : حتّى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها .
كقول الشاعر :
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن
إلاّ توهم حالم بخيالِ
أراد فإذا ذلك لم يكن .
وقال بعضهم : جوابه مضمر ومعنى الكلام : حتّى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، فدخلوها .
الزمر : ( 74 ) وقالوا الحمد لله . . . . .
) وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ ( قال أبو عبيدة : جوابه محذوف مكفوف عن خبره ، والعرب تفعل هذا لدلالة الكلام عليه .
قال الأخطل في آخر قصيدة له :
خلا أن حياً من قريش تفضلوا
على الناس أو ان الأكارم نهشلاً
وقال عبد مناف بن ربيع في آخر قصيدة :
حتّى إذا أسلكوهم في قتائده
شلاء كما تطرد الجمالة الشردا
(8/259)

" صفحة رقم 260 "
) وقالوا الحمد لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأوْرَثَنَا الأرْضَ ( يعني أرض الجنّة ، وهو قوله تعالى : ) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحين ( .
) نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أجْرُ العَامِلِينَ ( ثواب المطيعين
الزمر : ( 75 ) وترى الملائكة حافين . . . . .
) وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ ( محدقين محيطين ) مِنْ حَوْلِ العَرْشِ ( ودخول ( من ) للتوكيد ) يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ( متلذذين بذلك لامتعبدين به ، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم ) وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ ( أي بين أهل الجنّة والنار بالحق ) وَقِيلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ( .
أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمّد البيهقي الفقيه أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر حدثنا روح بن عبادة حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية قال : فتح أول الخلق بالحمد وقال ) الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ( وختم بالحمد فقال : ) وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ( .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمّد بن عبد الكريم الفزاري حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الرحمن بن عثمان عن عبادة بن ميسرة عن محمّد بن المنكدر عن ابن عمر أن النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ على المنبر آخر سورة الزمر فتحرك المنبر مرتين .
(8/260)

" صفحة رقم 261 "
( سورة المؤمن )
قال الثمالي : إنما سميت بذلك من أجل حزقيل مؤمن آل فرعونمكية ، وهي خمس وثمانون آية ، وألف ومائة وتسعوتسعون كلمة ، وأربعة ألف وتسع مائة وستون حرفاً
في فضل الحواميم :
أخبرنا الأُستاذ أبو الحسين علي بن محمّد بن الحسن الجنازي قراءة عليه حدثنا أبو الشيخ الأصبهاني حدثنا محمّد بن أبي عصام حدثنا إبراهيم بن سليمان الحرّاني حدثنا عثمان المزني حدثنا عبد القدوس بن حبيب عن الحسن عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحواميم ديباج القرآن ) .
أخبرنا أبو محمّد ابن الرومي أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عبّاس قال : لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يعقوب القصري بها أخبرنا أبو علي الصفار ببغداد حدثنا سعدان بن نصر وأخبرنا أبو الحسين الخبازي أخبرنا الشدائي وهو أبو بكر أحمد بن نصر حدثنا ابن المنادي عن سعدان بن نصر : أن المعتمر بن سليمان الرقي حدثهم عن الخليل بن مرة مرسلاً قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الحواميم سبع وأبواب جهنّم سبع : جهنم ، والحطمة ، ولظى ، والسعير ، وسقر ، والهاوية ، والجحيم ، فتجيء كل حاء ميم منهن يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فيقول : لايدخل الباب من كان يؤمن بي ويقرأني ) .
أخبرنا علي بن محمّد بن الحسن حدثنا أبو جعفر محمّد بن عبد الله بن بذرة حدثنا أبو علي أحمد ابن بشر المرثدي حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعيد بن إبراهيم قال : كنّ الحواميم يسمون العرائس .
(8/261)

" صفحة رقم 262 "
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لكل شيء ثمرة ، وأن ثمرة القرآن ذوات حسم هن روضات حسان مخصبات متجاورات ، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنّة فليقرأ الحواميم ) .
وقال ابن مسعود : إذا وقعت في أل حم وقعت في روضات أتأنق فيهن .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب ) .
وقال ابن سيرين : رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهن فقال لهن : لمن أنتن ؟
قلن : لمن قرأ أل حم .
فأما فضائل هذه السورة خاصة .
فأخبرنا أبو عبد الله حدثنا ظفران حدثنا أبو محمّد بن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمّد ابن الصباح وأخبرنا أبو الحسين الخبازي حدثنا ظفران حدثنا ابن أبي داود حدثنا محمّد بن عاصم وأخبرنا الخبازي حدثنا ابن حبش المقريء حدثني أبو العبّاس محمّد بن موسى الدقاق حدثنا عبد الله بن روح المدائني حدثنا نشابة بن سوار حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أُبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ال : ( من قرأ حم المؤمن لم تبق روح نبيّ ولا صدّيق ولاشهيد ولامؤمن إلاّ صلّوا عليه واستغفرو له ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مَا يُجَادِلُ فِىءَايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاَْحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
(8/262)

" صفحة رقم 263 "
قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ ( 2
غافر : ( 1 ) حم
) حم ( أنبأنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقريء حدثنا أبو القاسم ابن الفضل حدثنا علي بن الحسن حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا يحيى بن حسان حدثنا رشد عن الحسن بن ثوبان عن عكرمة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حم اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربّك تعالى ) .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبرنا مكي بن عبدان حدثنا عبد الله بن هاشم حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثنا شعبة قال : سألت السدي عن حم ؟
فقال : قال ابن عبّاس : هو اسم الله الأعظم .
وروى عكرمة عن ابن عبّاس قال : ( الر ) و ( حم ) و ( ن ) حروف الرحمن مقطوعة .
الوالبي عنه : قسم أقسم الله تعالى به ، وهو اسم من أسماء الله تعالى .
وقال قتادة : حم اسم من أسماء القرآن .
مجاهد : فواتح السور .
القرظي : أقسم الله تعالى بحلمه وملكه أن لا يعذب أحداً عاد إليه يقول لا إله إلاّ الله مخلصاً من قلبه .
الشعبي : شعار السورة .
وقال عطاء بن أبي مسلم الخراساني : الحاء افتتاح أسماء الله تعالى : حليم ، وحميد ، وحيّ ، وحنّان ، وحكيم ، والميم افتتاح أسمائه : ملك ، ومجيد ، ومنّان . يدل عليه ماروى عن أنس بن مالك أنه قال : سأل أعرابي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ا حم ، فإنا لا نعرفها في لغتنا ؟
فقال : ( بدء أسماء وفواتح سور ) .
وقال الضحاك والكسائي : معناه قضى ماهو كائن ، كأنه أراد الاشارة إلى حُمّ بضم الحاء وتشديد الميم .
غافر : ( 2 ) تنزيل الكتاب من . . . . .
) تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ ( واختلف القراء في قوله : ( حم ) فكسر الحاء حيث كان ، عيسى وحمزة والكسائي وخلف ، ومثله روى يحيى وحماد عن أبي بكر عن عاصم
(8/263)

" صفحة رقم 264 "
وقرأ أبو جعفر وأبو عبيد وأبو حاتم وابن ذكوان بين الفتح والكسر .
ومثله روى بكر بن سهل الدمياطي وإسماعيل النخاس عن ورش عن نافع .
وقرأ الباقون : بالفتح .
غافر : ( 3 ) غافر الذنب وقابل . . . . .
) غَافِرِ الذَّنْبِ ( قال ابن عبّاس : لمن قال : لا إله إلاّ الله .
) وَقَابِلِ التَّوْبِ ( ممّن قال : لا إله إلاّ الله ) شَدِيدِ العِقَابِ ( لمن لايقول : لا إله إلاّ الله ) ذِي الطَّوْلِ ( ذي الغنى عمّن لايقول : لا إله إلاّ الله .
وقال الضحاك : ذي المنن .
قتادة : ذي النعم .
السدي : ذي السعة .
الحسن : ذي الفضل .
ابن زيد : ذي القدرة ، وأصل الطول : الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه ، يقال : اللهم طلّ علينا ، أي أنعم علينا وتفضل ، ومنه قيل للمنفع : طائل ، ويقال في الكلام : ماخليت من فلان بطائل وما حظيت منه بنائل ، أي لم أجد منه منفعة .
حدثنا الحسن بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا يوسف بن عبد الله ابن ماهان حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت قال : كنت إلى جانب سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا يمر فيه الدواب ، وقد استفتحت ) حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( إذ مرَّ رجل على دابة فلما قلت : ( غافر الذنب ) . قال : قل : ياغافر الذنب اغفر لي ذنبي .
قلت : ( وقابل التوب ) .
قال : قل : ياقابل التوب اقبل توبتي . قلت : ( شديد العقاب ) .
قال : قل : ياشديد العقاب اعف عني عقابي .
قلت : ( ذي الطول ) .
قال : قل ياذي الطول طلّ عليَّ بخير .
قال : ثم التفتُ يميناً وشمالاً فلم أر شيئاً .
وقال أهل الاشارة : ( غافر الذنب ) فضلاً ( وقابل التوب ) وعداً ( شديد العقاب ) عدلاً .
) لا إلَهَ إلاَّ هُوَ إلَيْهِ المَصِيرُ ( فرداً . و ( التّوب ) يجوز أن يكون مصدراً ، ويحتمل أن يكون جمع التوبة ، مثل دومة ودوّم وعومة وعوّم .
(8/264)

" صفحة رقم 265 "
أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه حدثنا محمّد بن خالد بن الحسن أخبرنا داود بن سليمان حدثنا عبد بن حميد حدثنا كثير بن هشام أخبرنا جعفر بن مرقان حدثنا يزيد بن الأصم : أن رجلاً كان ذا بأس ، وكان يوفد إلى عمر بن الخطاب ح لبأسه ، وكان من أهل الشام ، وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل له : يتابع في هذا الشراب فدعا عمر كاتبه فقال : اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ) بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلاّ هو إليه المصير ( . وختم على الكتاب ثم دفعه إلى رسوله وقال : لا تدفعن الكتاب إليه حتّى تجده صحوان .
ثم أمر من عنده فدعوا له أن يقبل الله تعالى عليه بقلبه ، وأن يتوب عليه ، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأها ويقول قد وعدني الله تعالى أن يغفر لي وحذّرني عقابه ، فلم يزل يرددها على نفسه حتّى بكى ثم نزع ، فاحسن النزع وحسنت توبته وحاله ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم زَل زلة فسدّدوه ووفقوه وادعوا الله تعالى له أن يتوب عليه ، ولاتكونوا أعواناً للشياطين عليه .
غافر : ( 4 ) ما يجادل في . . . . .
) مَا يُجَادِلُ ( مايخاصم ويمادي ) فِي آيَاتِ اللهِ ( بالإنكار لها ) إلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمّد بن يعقوب حدثنا محمّد بن إسحاق حدثنا خالد بن الوليد حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : آيتان ما أشدّهما على الذين يجادلون في القرآن ) ما يجادل في آيات الله إلاّ الّذين كفروا ( و ) إن الّذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد حدثنا محمّد بن خالد حدثنا داود بن سليمان أخبرنا عبد بن حميد حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائد عن ليث عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن جدالاً في القرآن كفر ) .
) فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ ( تصرفهم ) فِي البِلادِ ( للتجارات وبقائهم فيها مع كفرهم ، فإن الله تعالى يمهلهم ولايهملهم ، نظيره : ) لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ( ، ثم قال :
غافر : ( 5 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَالأحْزَابُ ( والكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالمخالفة والعداوة ) مِنْ بَعْدِهِمْ ( ، أي من بعد قوم نوح ) وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة بِرَسُولِهِمْ لِيَأخُذُوهُ ( ويقتلوه .
(8/265)

" صفحة رقم 266 "
قال الفراء : كان حقه أن يقول برسولها وكذلك هي في قراءة عبد الله ، ولكنه أراد بالأمة الرجال فكذلك قال : ( برسولهم ) .
) وَجَادَلُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا ( ليبطلوا ويزيلوا ) بِهِ الحَقَّ فَأخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }
غافر : ( 6 - 7 ) وكذلك حقت كلمة . . . . .
) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهُمْ أصْحَابُ النَّارِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ( من الملائكة .
قال ابن عبّاس : حملة العرش مابين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام . وقال : مسيرة أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة ، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها ، والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها .
قال مجاهد : بين الملائكة وبين العرش سبعون حجاباً من نور .
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا مخلد بن جعفر حدثنا الحسن بن علوية حدثنا إسماعيل ابن عيسى حدثنا إسحاق أخبرني مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال : لمّا خلق الله حملة العرش قال لهم : احملوا عرشي . فلم يطيقوا ، فخلق مع كل ملك منهم من أعوانهم مثل جنود من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الخلق ، فقال : احملوا عرشي . فلم يطيقوا ، فخلق مع كل واحد منهم جنود سبع سماوات وسبع أرضين ومافي الأرض من عدد الحصى والثرى فقال : احملوا عرشي . فلم يطيقوا ، فقال : قولوا لاحول ولاقوة إلاّ بالله .
فقالوا : لا حول ولا قوة إلاّ بالله استقلينا عرش ربّنا .
قال : فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقر ، فكتب على قدم كل ملك اسم من اسمائه تعالى ، فاستقرت أقدامهم .
وروى شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تتفكروا في عظمته ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة ، فإن خلقاً من الملائكة يقال له : إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى ، وقد مرق رأسه من سبع سماوات وأنه ليتضأل من عظمة الله تعالى حتّى يصير كأنه الوضيع ) .
وروى موسى بن عقبة عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُذِنَ لي أن أُحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة عرشه ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام ) .
(8/266)

" صفحة رقم 267 "
وفي الخبر : أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة عرشه ، تفضيلاً لهم على سائر الملائكة ، فهذه صفة حملة العرش .
وأما صفة العرش :
فروى لقمان بن عامر عن أبيه قال : ان الله تعالى خلق العرش من جوهرة خضراء ، للعرش ألف ألف رأس زاجون ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلاّ وهو يسبح بتحميده لايسبحه الآخر ، مابين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، ومابين شحمة أُذنه إلى عاتقه أربع مائة عام ، واحتجب الله تعالى بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش بسبعين حجاباً من نار ، وسبعين حجاباً من ظلمة ، وسبعين حجاباً من نور ، وسبعين حجاباً من در أبيض ، وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر ، وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر ، وسبعين حجاباً من ثلج ، وسبعين حجاباً من ماء ، وسبعين حجاباً من برد ومالا يعلمه إلاّ الله تعالى .
قال : ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه : وجه ثور ، ووجه أسد ، ووجه نسر ، ووجه إنسان ، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة : أما جناحان فعلى وجه من أن ينظر إلى العرش فيصعق ، وأما جناحان فيتبوأ فَيَقْوى بهما ، ليس لهم كلام إلاّ التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد .
وقال يزيد الرقاشي : ان لله تعالى ملائكة حول العرش يسمّون المخلصين ، تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة يميدون كأنما ينفضهم من خشية الله ، فيقول لهم الربّ جلّ جلاله : يا ملائكتي مخافة تخيفكم ؟
فيقولون : ياربّنا لو أن أهل الأرض أطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه ، ما أساغوا طعاماً ولا شراباً ولا انبسطوا في فرشهم ، ولخرجوا إلى الصحارى يخورون كما يخور البقر .
) يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ( وهذا تفسير لقوله ) ويستغفرون لمن في الأرض ( ) ربَّنَا ( أي ويقولون : ربّنا ) وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْماً ( نصباً على التفسير ، وقيل : نصباً على النقل ، أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ) فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَا تَّبَعُوا سَبِيلَكَ ( دينك ) وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ( .
روى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أصحاب عبد الله يقولون الملائكة خير من ابن
(8/267)

" صفحة رقم 268 "
الكوا ، يستغفرون لمن في الأرض وابن الكوا يشهد عليهم بالكفر ، وابن الكوا رجل من الخوارج قال : وكانوا لايحبون الإستغفار على أحد من أهل هذه القبلة .
وقال : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله للعباد الشيطان .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول : سمعت محمّد بن علي بن محمّد الوراق يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول لأصحابه إذ قرأ هذه الآية : افهموا فما في العالم خيراً أرجى منه .
غافر : ( 8 ) ربنا وأدخلهم جنات . . . . .
) ربَّنَا وَأدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ ( في محل نصب عطفاً على الهاء والميم ) صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( .
قال سعيد بن جبير : يدخل الرجل الجنّة فيقول : أين أبي أين أمي أين ولدي أين زوجي ؟
فيقال : لم يعملوا مثل عملك .
فيقول : كنت أعمل لي ولهم .
فيقال : ادخلوهم الجنّة .
غافر : ( 9 - 10 ) وقهم السيئات ومن . . . . .
) وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ ( أنواع العذاب ) وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ ( يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب فيقال لهم : ) لَمَقْتُ اللهِ ( إياكم في الدُّنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ) أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ ( اليوم ) أنْفُسَكُمْ ( عند حلول العذاب بكم ) إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ }
غافر : ( 11 ) قالوا ربنا أمتنا . . . . .
) قَالُوا ربَّنَا أمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأحْيَيْتَنَا ا ثْنَتَيْنِ ( .
قال ابن عبّاس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله تعالى في الدُّنيا ثم أماتهم الموتة التي لابدّ منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان ، وهذا مثل قوله تعالى : ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ( الآية .
وقال السدي : أُميتوا في الدُّنيا ثم أُحيوا في قبورهم ، فسُئلوا ثم أُميتوا في قبورهم ، ثم أُحيوا في الآخرة .
) فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلَى خُرُوج مِنْ سَبِيل ( فنصلح أعمالنا ، نظيرها قوله : ) هل إلى مرد من سبيل 2 )
غافر : ( 12 ) ذلكم بأنه إذا . . . . .
) ذَلِكُمْ بِأنَّهُ إذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ( في الكلام متروك استغنى بدلالة الظاهر عليه ، مجازه : فأُجيبوا أن لاسبيل إلى ذلك وهو العذاب والخلود في النار ، بأنه إذا دُعي الله
(8/268)

" صفحة رقم 269 "
وحده في الدُّنيا كفرتم به وأنكرتم أن لا تكون الإلهية له خالصة ، وقلتم أجعل الإلهة إلهاً واحداً ) وَإنْ يُشْرَك بِهِ ( غيره .
) تُؤْمِنُوا ( تصدقوا ذلك المشرك . وسمعت بعض العلماء يقول : وإن يشرك به بعد الرد إلى الدُّنيا لو كان تؤمنوا تصدقوا المشرك ذكره بلفظ الإستفهام . نظيره قوله تعالى : ) ولو ردّوا لعادوا لما نهو عنه ( ) فَالحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ( .
2 ( ) هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاَْزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الاَْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الاَْرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَشرُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُواْ أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِىأَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّىأَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاَْرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( 2
غافر : ( 13 ) هو الذي يريكم . . . . .
) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً ( بأدرار الغيث ) وَمَا يَتَذَكَّرُ إلاَّ مَنْ يُنِيبُ (
غافر : ( 14 - 15 ) فادعوا الله مخلصين . . . . .
) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ( العبادة والطاعة ) وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ رَفِيعُ ( أيّ هو رفيع ) الدَّرَجَاتِ ( يعني رافع طبقات الثواب للأنبياء والمؤمنين في الجنّة .
قال ابن عبّاس : رافع السماوات وهو فوق كل شيء وليس فوقه شيء .
(8/269)

" صفحة رقم 270 "
) ذُو العَرْشِ ( خالقه ومالكه ) يُلْقِي الرُّوحَ ( ينزل الوحي ، سمّاه وحياً ، لأنه يحيي به القلوب كما يحيي بالأرواح الأبدان ) مِنْ أمْرِهِ ( من قوله وقيل بأمره ) عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ( .
قراءة العامة : بالياء أي ينذر الله تعالى .
وقرأ الحسن : بالتاء ، يعني لتنذر أنت يامحمّد يوم التلاق .
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل الفقيه حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمّد بن عبيد الله حدثنا أبو أُسامة حدثنا المبرك بن فضالة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ) لينذر يوم التلاق ( قال : يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض .
وقال قتادة ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق .
ابن زيد : يتلاقى العباد .
ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم والخصوم . وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون . وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله
غافر : ( 16 ) يوم هم بارزون . . . . .
) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ( خارجون من قبورهم ، ظاهرون لايسترهم شيء ) لا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ ( من أعمالهم وأحوالهم ) شَيْءٌ ( ومحل ( هم ) رفع على الابتداء و ( بارزون ) خبره ) لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ ( وذلك عند فناء الخلق ، وقد ذكرنا الأخبار فيه .
قال الحسن : هو السائل وهو المجيب ، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه فيقول : ) للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ( الذي قهر الخلق بالموت .
أخبرنا شعيب أخبرنا مكي حدثنا أبو الأزهر حدثنا روح حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال : يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد ، بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضّة لم يعص الله تعالى فيها قط ، فأول ما تتكلم به أن ينادي مناد ) لمن الملك اليوم لله الواحد القهار 2 )
غافر : ( 17 ) اليوم تجزى كل . . . . .
) اليَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليَوْمَ إنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ( فأول مايبدؤن به من الخصومات الدماء
غافر : ( 18 ) وأنذرهم يوم الآزفة . . . . .
) وَأنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ ( أي بيوم القيامة ، سمّيت بذلك لأنها قريبة ، إذ كل ماهو آت قريب .
قال النابغة :
أزف الترحل غير أن ركابنا
لمّا تزل برحالنا وكأن قد
(8/270)

" صفحة رقم 271 "
أي : قَرُب ، ونظيرها هذه الآية قوله تعالى : ) أزفت الآزفة ( أيّ قربت القيامة .
) إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ ( من الخوف قد زالت وشخصت من صدورهم ، فتعلقت بحلوقهم فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا فليسوا سواء نظيره قوله : ) وأفئدتهم هواء ( ) كَاظِمِينَ ( مكروبين ممتلئين خوفاً وحزناً ، والكاظم الممسك للشيء على مافيه ، ومنه كظم قربته إذا شد رأسها ، فهم قد أطبقوا أفواههم على مافي قلوبهم من شدة الخوف ، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حين يضيق به .
يقول العرب للبئر الضيقة وللسقاية المملؤة : ماء كظامة وكاظمة ، ومنه الحديث : كيف بكم ( إذا ) بعجت مكة كظائم .
قال الشاعر :
يخرجن من كاظمة العصن الغرب
يحملن عبّاس بن عبد المطلب
ونصب كاظمين على الحال والقطع .
) مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم ( قريب وصديق ، ومنه قيل للأقرباء والخاصة حامّة ) وَلا شَفِيع يُطَاعُ ( فيشفع فيهم
غافر : ( 19 ) يعلم خائنة الأعين . . . . .
) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ( .
وقال المؤرخ : فيه تقديم وتأخير مجازه أي الأعين الخائنة قال ابن عبّاس : هو الرجل يكون جالساً مع القوم ، فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها .
وقال مجاهد : هي نظر الأعين إلى ما نهى الله تعالى عنه .
قتادة : هي همزة بعينه وإغماضه فيما لايحب الله تعالى ولايرضاه .
) وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (
غافر : ( 20 ) والله يقضي بالحق . . . . .
) وَاللهُ يَقْضِي بِالحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ( يعني الأوثان ) لا يَقْضُونَ بِشَيْء ( لأنها لاتعلم شيء ولا تقدر على شي .
وقرأ أهل المدينة وأيوب : تدعون بالتاء ، ومثله روى هشام عن أهل الشام والباقون : بالياء .
) إنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (
غافر : ( 21 ) أولم يسيروا في . . . . .
) أوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ( .
(8/271)

" صفحة رقم 272 "
قرأه العامة : بالهاء .
وقرأ ابن عامر : منكم بالكاف . وكذلك هو في مصاحفهم .
) وَآ ثَاراً فِي الأرْضِ ( فلم ينفعهم ذلك حين أخذهم الله ) بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاق ( يعني من عذاب الله من واق ينفعهم ويدفع عنهم
غافر : ( 22 - 25 ) ذلك بأنهم كانت . . . . .
) ذَلِكَ بِأنَّهُمْ كَانَتْ تَأتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأخَذَهُمُ اللهُ إنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ وَلَقَدْ أرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَان مُبِين إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا ( يعني فرعون وقومه ) اقْتُلُوا أبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ( .
قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأول ، لأن فرعون كان أمسك عن قتل الولدان ، فلما بُعث إليه موسى أعاد القتل عليهم .
) وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ( ليصدوهم بقتل الأبناء واستحياء النساء عن متابعة موسى ومظاهرته ) وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ ( وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم ) إلاَّ فِي ضَلال }
غافر : ( 26 ) وقال فرعون ذروني . . . . .
) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ( لملائه ) ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ( الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منّا ) إنِّي أخَافُ أنْ يُبَدِّلَ ( يغير ) دِينَكُمْ ( الذي أنتم عليه بسحر ) أوْ أنْ ( .
قرأ أبو عمر وأهل المدينة وأهل الشام وأهل مكة : وأن بغير ألف ، وكذلك هي في مصاحف أهل الحرمين والشام .
وقرأ الكوفيون وبعض البصريين : ( أو أن ) بالألف ، وكذلك هي في مصاحف أهل العراق .
وقال أبو عبيد : وبها يقرأ للزيادة التي فيها ، ولأن ( أو ) ربما كانت في تأويل الواو ، ولا تكون الواو في معنى أو .
) يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الفَسَادَ ( .
قرأ أهل المدينة والبصرة : ( يُظهِر ) بضم الياء وكسر الهاء ، و ( الفسادَ ) بنصب الدال على التعدية .
ومثله روى حفص عن عاصم وهي اختيار أبي عبيد قال لقومه : يبدل دينكم ، فكذلك يظهر ليكون الفعلان على نسق واحد .
وقرأ الآخرون : بفتح الياء والهاء ورفع الدال على اللزوم ، وهي اختيار أبي حاتم . والفساد انتقاص الأمر ، وأراد فرعون به تبديل الدين وعبادة غيره .
غافر : ( 27 - 28 ) وقال موسى إني . . . . .
) وَقَالَ مُوسَى ( لما توّعده فرعون بالقتل : ) إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ ( اختلفوا في هذا المؤمن .
(8/272)

" صفحة رقم 273 "
فقال بعضهم : كان من آل فرعون ، غير أنه كان آمن بموسى ، وكان يكتم إيمانه من فرعون وقومه خوفاً على نفسه .
قال السدّي ومقاتل : كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال : ) وجاء رجل من اقصى المدينة يسعى ( .
وقال آخرون : كان إسرائيلياً ، ومجاز الآية : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون . واختلفوا أيضاً في اسمه .
فقال ابن عبّاس وأكثر العلماء : اسمه حزبيل .
وهب بن منبه : اسمه حزيقال .
ابن إسحاق : خبرل .
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمّد بن خالد أخبرنا داود بن سليمان أخبرنا عبد الواحد أخبرنا أحمد بن يونس حدثنا خديج بن معاوية عن أبي إسحاق قال : كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون ( حبيب ) .
) أتَقْتُلُونَ رَجُلا أنْ ( أي لأن ) يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ( من العذاب .
وقال بعض أهل المعاني : أراد يصبكم كل الذي يعدكم .
والعرب تذكر البعض وتريد الكل ، كقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي كل النفوس .
) إنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ( مشرك .
وقال السدي : قتّال .
) كَذَّابٌ ( على الله .
أخبرنا الامام أبو منصور محمّد بن عبد الله الجمشاذي حدثنا أبو العبّاس الأصم حدثنا العبّاس بن محمّد الثوري حدثنا خالد بن مخلد القطواني حدثنا سليمان بن بلال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص قال : ما تؤول من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيء كان أشد من أن طاف
(8/273)

" صفحة رقم 274 "
بالبيت فلقوه حين فرغ فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا : أنت الذي تنهانا عمّا كان يعبد آباؤنا ؟
فقال : ( أنا ذاك ) .
فقام أبو بكرحفالتزمه من ورائه وقال : ) أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبينات من ربّكم ( إلى آخر الآية رافع صوته بذلك ، وعيناه تسفحان حتّى أرسلوه .
( ) ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الاَْرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِىءَامَنَ ياقَوْمِ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الاَْحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ وَياقَوْمِ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّىأَبْلُغُ الاَْسْبَابَ ( 2
غافر : ( 29 ) يا قوم لكم . . . . .
) يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ ( غالبين مستعلين على بني إسرائيل ) فِي الأرْضِ ( أرض مصر ) فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأسِ اللهِ ( عذاب الله ) إنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ ( من الرأي والنصيحة ) إلاَّ مَا أرَى ( لنفسي .
وقال الضحاك : ما أعلمكم إلاّ ما أعلم نظيره ) بما أريك الله ( . ) وَمَا أهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (
غافر : ( 30 - 31 ) وقال الذي آمن . . . . .
) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ مِثْلَ دَأبِ قَوْمِ نُوح وَعَاد وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ( مثل ما أصابهم من العذاب ) وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (
غافر : ( 32 ) ويا قوم إني . . . . .
) وَيَا قَوْمِ إنِّي أخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ( .
قرأه العامة : بتخفيف الدال ، بمعنى يوم ينادي المناد بالشقاوة والسعادة ، إلاّ أن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، إلاّ أن فلان بن فلان شقى شقاوة لايسعد بعدها أبداً ، وينادي الناس بعضهم بعضاً ، وينادي أصحاب الأعراف ، وأهل الجنّة أهل النار ، وأهل النار أهل الجنّة ، وينادي حين يذبح الموت : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، وينادي كل قوم بأعمالهم . وقرأ الحسن : ( التنادي ) بتخفيف الدال واثبات الياء على الأصل
(8/274)

" صفحة رقم 275 "
وقرأ ابن عبّاس والضحاك : بتشديد الدال ، على معنى يوم التنافر ، وذلك إذا ندّوا في الأرض كما تند الابل إذا شردت على أربابها .
قال الضحاك : وذلك إذا سمعوا زفير النار ندّوا هراباً ، فلا يأتون قطراً من الاقطار إلاّ وجدوا ملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله : ) يوم التناد ( وقوله تعالى : ) يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ( ) والملك على أرجائها 2 )
غافر : ( 33 ) يوم تولون مدبرين . . . . .
) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ( أيّ منصرفين عن موقف الحساب إلى النار .
وقال مجاهد : يعني فارّين غير معجزين .
) مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِم ( ناصر يمنعكم من عذابه ) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد }
غافر : ( 34 ) ولقد جاءكم يوسف . . . . .
) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ ( بن يعقوب ( عليه السلام ) ) مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ ( أي من قبل موسى بالبينات .
قال وهب : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف ، عمّر إلى زمن موسى . وقال الباقون : هو غيره .
) فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكَ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ( مشرك ) مُرْتَابٌ ( شاك
غافر : ( 35 ) الذين يجادلون في . . . . .
) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَان أتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً ( أي كبر ذلك الجدال مقتاً كقوله : ) كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ( و ) كَبُرت كلمة ( ) عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ ( يختم الله بالكفر ) عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَّار ( .
وقرأ أبو عمرو وابن عامر : ( قلب ) منّوناً .
وقرأ الآخرون : بالإضافة .
( واختاره أبو حاتم وأبو عبيد ) ، وفي قراءة ابن مسعود : ( على قلب كل متكبر جبار ) .
غافر : ( 36 ) وقال فرعون يا . . . . .
) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ( قصراً . والصرح البناء الظاهر الذي لايخفى على الناظر وإن بُعد ، وأصله من التصريح وهو الإظهار
(8/275)

" صفحة رقم 276 "
) لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبَابَ (
غافر : ( 37 ) أسباب السماوات فأطلع . . . . .
) أسْبَابَ السَّماوَاتِ ( أي طرقها وأبوابها ) فَأطَّلِعَ ( .
قرأه العامة : برفع العين نسقاً على قوله : ( أبلغ ) .
وقرأ حميد الأعرج : بنصب العين .
ومثله روى حفص عن عاصم على جواب ( لعلّي ) بالفاء .
وأنشد الفراء عن بعض العرب :
على صروف الدهر أو دولاتها يدلننا
اللمّة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها
بنصب الحاء على جواب حرف التمني .
) إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأظُنُّهُ ( يعني موسى ) كَاذِباً ( فيما يقول : إن له ربّا غيري أرسله الينا ) وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاَّ فِي تَبَاب ( خسار وضلال . نظيره : ) تبت يدا أبي لهب ( .
2 ( ) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاََظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ وَقَالَ الَّذِىءَامَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ياقَوْمِ إِنَّمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الاَْخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَياقَوْمِ مَا لِىأَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ وَتَدْعُونَنِىإِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِى لاََكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِىإِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاَْخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِىإِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِين
(8/276)

" صفحة رقم 277 "
ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالاِْبْكَارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( 2
غافر : ( 38 ) وقال الذي آمن . . . . .
) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( طريق الصواب
غافر : ( 39 ) يا قوم إنما . . . . .
) يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ( متعة وبلاغ ، تنتفعون بها مدة ثم تزول عنكم ) وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ }
غافر : ( 40 - 43 ) من عمل سيئة . . . . .
) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَر أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب وَيَا قَوْمِ مَا لِي أدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللهِ وَاُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأنَا أدْعُوكُمْ إلَى العَزِيزِ الغَفَّارِ لا جَرَمَ أنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ ( ينتفع بها .
وقال السديّ : يعني لايستجيب لأحد في الدُّنيا ولا في الآخرة ، فكان معنى الكلام : ليست له استجابة دعوة .
وقال قتادة : ليست له دعوة مستجابة . وقيل : ليس له دعوة في الدُّنيا ولافي الآخرة إلاّ عبدوها ، لأن الأوثان لم تأمر بعبادتها في الدُّنيا ، ولم تدع الربوبية وفي الآخرة تتبرأ من عابديها ) وَأنَّ مَرَدَّ نَا ( مرجعنا ) إلَى اللهِ وَأنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أصْحَابُ النَّارِ ( .
قال ابن عبّاس وقتادة : يعني المشركين .
وقال مجاهد : هم السفّاكون الدماء بغير حقها .
وقال عكرمة : الجبارين المتكبرين .
غافر : ( 44 ) فستذكرون ما أقول . . . . .
) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أقُولُ لَكُمْ ( إذا عاينتم العذاب حين لاينفعكم الذكر ) وَأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى اللهِ ( وذلك انهم توعدوه لمخالفة دينهم ) إنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ ( عالم بأمورهم من المحق منهم ومن المبطل
غافر : ( 45 ) فوقاه الله سيئات . . . . .
) فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ( .
قال قتادة : نجا مع موسى وكان قبطياً .
) وَحَاقَ ( نزل ) بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ ( في الدُّنيا الغرق وفي الآخرة النار وذلك قوله :
غافر : ( 46 ) النار يعرضون عليها . . . . .
) النَّارُ ( وهي رفع على البدل من السوء ) يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( وأصل العرض اظهار الشيء .
(8/277)

" صفحة رقم 278 "
قال قتادة : يعرضون عليها صباحاً ومساءاً ، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم .
وقال السدي وهذيل بن شرحبيل : هو أنهم لما هلكوا جُعلت أرواحهم في أجواف طير سود ، فهي تُعرض على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار حتى تقوم الساعة .
أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الجرجاني : أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمّد الفزاري قال : سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال : يرحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضاً فوجاً فوجاً ، لايعلم عددها إلاّ الله تعالى ، فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً .
قال : وفطنتم لذلك ؟
قال : نعم .
قال : إن تلك الطيور في حواصلها أزواج آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداً ، فنبت عليها أرياش من الليل بيض وتناثر السود ، ثم تغدوا فيعرضون على النار غدواً وعشياً ثم ترجع إلى وكورها ، فذلك دأبهم في الدُّنيا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : ) ادْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذَابِ ( .
قال : وكانوا يقولون : إنهم ستمائة ألف مقاتل .
قال عكرمة ومحمّد بن كعب : هذه الآية تدل على عذاب القبر ، لأن الله تعالى ميّز عذاب الآخرة فقال : ) ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ( ادخلوا .
قرأ أهل المدينة والكوفة إلاّ أبا بكر ويعقوب : بقطع الألف وكسر الخاء من الادخال .
وقرأ الباقون : بوصل الألف وضم الخاء من الدخول .
غافر : ( 47 ) وإذ يتحاجون في . . . . .
) وَإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ( في الدُّنيا ) فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ( والتبع يكون واحداً وجمعاً .
وقال نحويوا البصرة : وواحده تابع .
وقال أهل الكوفة : هو جمع لا واحد له ، لأنه كالمصدر وجمعه أتباع .
غافر : ( 48 ) قال الذين استكبروا . . . . .
) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا ( .
(8/278)

" صفحة رقم 279 "
وقرأ ابن السميقع : ( إنا كلاً فيها ) بالنصب ، جعلها نعتاً وتأكيداً ل ( إنا ) .
) إنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ (
غافر : ( 49 ) وقال الذين في . . . . .
) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ ( إذا اشتد .
الشعبي قال : كنية الدجال أبو يوسف .
( ) وَمَا يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِىءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لاََتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِىأَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَىُّ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِى الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاَْغْلَالُ فِىأَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( 2
غافر : ( 58 ) وما يستوي الأعمى . . . . .
) وما يستوي الأعمى والبصير والّذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلاً ما تتذكرون ( بالتاء أهل الكوفة وغيرهم : بالياء .
واختاره أبو عبيد قال : لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم .
غافر : ( 59 ) إن الساعة لآتية . . . . .
) إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ ( لجائية ) لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( بها
غافر : ( 60 ) وقال ربكم ادعوني . . . . .
) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ ( أي وحدوني وأعبدوني دون غيري أجبكم وآجركم واثيبكم واغفر لكم ، هذا قول أكثر المفسرين . يدل عليه سياق الآية
(8/279)

" صفحة رقم 280 "
وقال بعضهم : هو الذكر والدعاء والسؤال .
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمّد بن الحسن حدثنا أبو بكر بن أبي الخصيب حدثني عثمان ابن خرداد حدثنا قطر بن بشير حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلها حتّى شسع نعله إذا إنقطع ) .
) إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ( توحيدي وطاعتي ، عن أكثر المفسرين .
وقال السديّ : عن دعائي .
أخبرنا عقيل بن محمّد أبو المعافا بن زكريا أخبرنا محمّد بن جرير حدثنا محمّد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن منصور والأعمش عن ذر عن سبع الحضرمي عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الدعاء هو العبادة ثم تلا هذه الآية : ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادي ( ) عن دعائي .
وباسناده عن ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام بن القاسم عن الأشجع قال : قيل لسفيان : ادع الله . قال : إن ترك الذنوب هو الدعاء ) سَيَدْخُلُونَ ( .
قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو حاتم : بضم الياء وفتح الخاء .
واختلف فيه .
عن أبي عمرو وعاصم غيرهم ضده .
) جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( صاغرين
غافر : ( 61 - 63 ) الله الذي جعل . . . . .
) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إنَّ اللهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْء لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأنَّا تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ ( كما أفكتم عن الحق مع قيام الدلائل ، كذلك ) يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ }
غافر : ( 64 - 66 ) الله الذي جعل . . . . .
) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( .
قرأه العامة : بضم الصاد . وقرأ أبو رزين العقيلي : وأحسن صوركم بكسر الصاد ، وهي لغة .
) وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ هُوَ الحَيُّ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ قُلْ إنِّي نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ ( وذلك حين دُعي إلى الكفر ( فأمر أن يقول هذا )
(8/280)

" صفحة رقم 281 "
غافر : ( 67 ) هو الذي خلقكم . . . . .
) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ( أي أطفالاً ، نظيره : ) أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء ( . ) ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ( أن يصير شيخاً ) وَلِتَبْلُغُوا ( جميعاً ) أجَلا مُسَمّىً ( وقتاً محدوداً لا تجاوزونه ولا تسبقونه ) وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ذلك فتعرفوا أن لا إله غيره فعل ذلك
غافر : ( 68 ) هو الذي يحيي . . . . .
) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإذَا قَضَى أمْراً فَإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
غافر : ( 69 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أنَّى يُصْرَفُونَ ( .
قال ابن زيد : هم المشركون .
وقال أكثر المفسرين : نزلت في القدريّة .
أخبرني عقيل بن محمّد إجازة أخبرنا المعافا بن زكريا أخبرنا محمّد بن جرير أخبرنا محمّد ابن بشار ومحمّد بن المثنى حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن داود بن أبي هند عن محمّد بن سيرين قال : إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدريّة فأنا لا أدري فيمن نزلت . ) ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ( إلى قوله ) بل لن نكن ندعوا من قبل شيئاً ( إلى آخر الآية .
وبه عن ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي عن أبي قبيل عن عقبة بن عامر الجهني : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللين ) .
فقال عقبة : يارسول الله وما أهل الكتاب ؟
قال : ( قوم يتعلمون كتاب الله يجادلون الذين آمنوا ) .
فقال : وما أهل اللين ؟ فقال : ( قوم يتبعون الشهوات ويضيّعون الصلوات ) .
قال أبو قتيل : لا أحسب المكذبين بالقدر إلاّ الذين يجادلون الذين آمنوا ، وأما أهل اللين فلا أحسبهم إلاّ أهل العمود ليس عليهم إمام جماعة ولايعرفون شهر رمضان .
قال محمّد بن جرير : أهل العمود الحي العظيم .
غافر : ( 70 - 71 ) الذين كذبوا بالكتاب . . . . .
) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالكِتَابِ وَبِمَا أرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إذِ الأغْلالُ فِي أعْنَاقِهِمْ ( .
(8/281)

" صفحة رقم 282 "
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن حبش المقريء حدثنا ابن فنجويه حدثنا سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن التيمي عن أبيه قال : لو أن غلاً من أغلال جهنّم وضع على جبل لو هصه حتّى يبلغ الماء الأسود .
) وَالسَّلاسِلُ ( .
قرأه العامة : بالرفع ، عطفاً على الأغلال .
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا أبو علي بن حبش المقريء حدثنا أبو القاسم بن الفضل حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي حدثني أبي عن هارون عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عبّاس أنه قرأ : ) والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (
غافر : ( 72 ) في الحميم ثم . . . . .
) فِي الحَمِيمِ ( بنصب اللام والياء . يقول : إذا كانوا يسحبونها كان أشد عليهم .
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي حدثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا عبد الله ابن محمّد بن عبد العزيز البغوي حدثني جدي حدثني منصور بن عمار حدثنا بشر بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منبه رفعه قال : ينشيء الله تعالى لأهل النار سحابة سوداء مظلمة فيقال يا أهل النار ماتشتهون ؟
فيسألون بارد الشراب . فتمطرهم أغلالاً تزيد في أغلالهم وسلاسلا تزيد في سلاسلهم وجمراً يلتهب النار عليهم .
) ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ( أي توقد بهم النار .
قال مجاهد : يصيرون وقوداً للنار .
غافر : ( 73 - 74 ) ثم قيل لهم . . . . .
) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ( يعني الأصنام ) قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ( فلا نراهم ) بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ( أنكروا . وقيل : جهلوا .
وقال بعضهم : فيه إضمار ، أي لم نكن ندعو من قبل شيئاً ببصر وبسمع وبضر وبنفع .
وقال الحسين بن الفضل : يعني لم نكن نصنع من قبل شيئاً ، أي ضاعت عبادتنا لها فلم نكن نصنع شيئاً .
قال الله سبحانه وتعالى ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الكَافِرِينَ ( .
) ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ
(8/282)

" صفحة رقم 283 "
هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَأَىَّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الاَْرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ( 2
غافر : ( 75 ) ذلكم بما كنتم . . . . .
) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ ( تبطرون وتأمرون ) فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ( تفخرون وتختالون وتنشطون
غافر : ( 76 - 77 ) ادخلوا أبواب جهنم . . . . .
) ادْخُلُوا أبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ( من العذاب في حياتك ) أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ( قبل أن يحل بهم ذلك ) فَإلَيْنَا يُرْجَعُونَ }
غافر : ( 78 ) ولقد أرسلنا رسلا . . . . .
) وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ ( خبرهم في القرآن ) وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُول أنْ يَأتِيَ بِآيَة إلاَّ بِإذْنِ اللهِ فَإذَا جَاءَ أمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ }
غافر : ( 79 ) الله الذي جعل . . . . .
) اللهُ الَّذِي ( تحق له العبادة هو الذي ) جَعَلَ ( خلق ) لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأكُلُونَ }
غافر : ( 80 ) ولكم فيها منافع . . . . .
) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ( في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها ) وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ( تحمل أثقالكم في أسفاركم من بلد إلى بلد ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( نظيره ) وحملناهم في البر والبحر 2 )
غافر : ( 81 - 82 ) ويريكم آياته فأي . . . . .
) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُمْ وَأشَدَّ قُوَّةً وَآ ثَاراً فِي الأرْضِ ( يعني مصانعهم وقصورهم ) فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ ( أيّ لم ينفعهم ) مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( وقيل : هو بمعنى الإستفهام ، ومجازه : أي شيء أغنى عنهم كسبهم .
غافر : ( 83 ) فلما جاءتهم رسلهم . . . . .
) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا ( يعني الأُمم ) بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ ( .
قال مجاهد : قولهم نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث ، وقيل : أشروا بما عندهم من العلم ، بما كان عندهم أنه علم وهو جهل .
وقال الضحاك : رضوا بالشرك الذي كانوا عليه .
وقال بعضهم : هو الفرح راجع إلى الرسل يعني فرح الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم
(8/283)

" صفحة رقم 284 "
) وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون }
غافر : ( 84 ) فلما رأوا بأسنا . . . . .
) فَلَمَّا رَأوْا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( أيّ تبرأنا ممّا كنا نعدل بالله
غافر : ( 85 ) فلم يك ينفعهم . . . . .
) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بَأسَنَا ( عذابناً ) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي ( في نصبها ثلاثة أوجه أحدها : بنزع الخافض أيّ كسنّة الله .
والثاني : على المصدر ، لأن العرب تقول سنَّ يسنّ سّناً وسنّة .
والثالث : على التحذير والأغراء ، أي احذروا سنّة الله كقوله : ( ناقة الله وسنّة الله ) .
) قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ( وهي أنهم إذا عاينوا عذاب الله لم ينفعهم أيمانهم ) وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ ( بذهاب الدارين .
(8/284)

" صفحة رقم 285 "
( سُورةُ فُصّلَت )
سورة حم السجدة : مكّية ، وهي أربع وخمسون آية ، وسبعمائة وست وتسعون كلمة ، وثلاث آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفاً
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرّحِيمِ
2 ( ) حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِىأَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِىءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاَْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِىأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاَْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ( 2
فصلت : ( 1 - 3 ) حم
) حم تَنزِيلٌ مِن الرَّحمانِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِلَت ( بينت ) آيَاتُهُ قُرآناً عَرَبِيًّا لِقَوم يَعلَمُونَ ( ولو كان غير عربي لما علموه .
وفي نصب القرآن وجوه :
أحدها : إنّه شغل الفعل علامات حتّى صارت بمنزلة الفاعل ، فنصب القرآن وقوع البيان عليه .
الثاني : على المدح .
والثالث : على إعادة الفعل ، أي فصَّلنا قرآناً .
والرابع : على إضمار فعل ، أي ذكرنا قرآناً .
والخامس : على الحال .
والسادس : على القطع .
(8/285)

" صفحة رقم 286 "
فصلت : ( 4 ) بشيرا ونذيرا فأعرض . . . . .
) بَشِيراً وَنَذِيراً ( نعتان للقرآن ) فَأَعرَضَ أَكثَرهُمُ فَهُم لاَ يَسمَعُونَ ( أي لا يسمعونه ولا يصغون إليه
فصلت : ( 5 ) وقالوا قلوبنا في . . . . .
) وَقَالُوا ( يعني مشركي مكّة ) قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّة ( أغطية ) مِمَّا تَدعُونَا إِلَيهِ ( فلا نفقه ما يقول ، قال مجاهد : كالجعبة للنبل ) وَفِي آذَانِنَا وَقرٌ ( فلا نسمع ما يقول ، وإنّما قالوا ذلك ليؤَيّسئوه من قبولهم لدينه وهو على التمثيل . ) وَمِن بَينِنَا وَبَينِكَ حِجَابٌ ( خلاف في الدين ، فجعل خلافهم ذلك ساتراً وحاجزاً لا يجتمعون ولا يوافقون من أجله ولا يرى بعضهم بعضاً . ) فَاعمَل ( بما يقتضيه دينك . ) إِنَّنَا عَامِلُونَ ( بما يقتضيه ديننا . قال مقاتل : فأعبد أنت إلهِك ، وإنّا عابدون آلهتنا .
فصلت : ( 6 ) قل إنما أنا . . . . .
) قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلهٌ وَاحِدٌ ( قال الحسن : عَلَمَهُ الله التواضع ) فَاستَقِيمُوا إِلَيهِ ( وجهوا وجوهكم إليه بالطاعة والإخلاص ) وَاستَغفِرُوهُ ( من ذنوبكم الّتي سلفت . ) وَوَيلٌ لِلمُشرِكِينَ }
فصلت : ( 7 ) الذين لا يؤتون . . . . .
) الَّذِينَ لاَ يُؤتُونَ الزَّكَاةَ ( قال ابن عباس : لا يشهدون لا إله إِلاَّ الله وهي زكاة الأنفس ، وقال الحسن وقتادة : لا يقرّون بالزكاة ولا يؤمنون بها ، ولا يرون إيتاءها واجباً ، وقال الضحاك ومقاتل : لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة .
وكان يقال : الزّكاة قنطرة الإسلام ، فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك ، وقد كان أهل الردة بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : أما الصلاة فنصلي ، وأما الزّكاة فوالله لا تغصب أموالنا .
وقال أبو بكر ( ح ) : والله لا أفرق بين شيء جمع الله تعالى بينه والله لو منعوني عقالاً ممّا فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه .
وقال مجاهد والربيع : يعني لا يزكّون أعمالهم ، وقال الفراء : هو أنّ قريشاً كانت تطعم الحاج ، فحرموا ذلك على من آمن بمحمّد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَهُم بِالآخِرَةِ هُم كَافِرُونَ }
فصلت : ( 8 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم أَجرٌ غَيرُ مَمنُون ( قال ابن عباس : غير مقطوع . مقاتل : غير منقوص ، ومنه المنون لأنّه ينقص منه الإنسان أي قوته . مجاهد : غير محسوب ، وقيل : غير ممنون به . قال السدي : نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعلمون فيه .
فصلت : ( 9 ) قل أئنكم لتكفرون . . . . .
) قُل أَئِنَّكُم لَتَكفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرضَ فِي يَومَينِ ( الأحد والأثنين . ) وَتَجعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ }
فصلت : ( 10 ) وجعل فيها رواسي . . . . .
) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ( أي في الأرض بما خلق فيها من المنافع ، قال السدي : أنبت شجرها . ) وَقَدَّرَ فِيهَا أَقوَاتَهَا ( قال الحسن والسدي : يعني أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم ، وقال مجاهد وقتادة : وخلق فيها بحارها ، وأنهارها ، وأشجارها ، ودوابها في يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، روى ابن نجيح عن مجاهد ، قال : هو المطر
(8/286)

" صفحة رقم 287 "
قال عكرمة والضحاك : يعنيو قدر في كل بلدة منها ، ما لم يجعله في الأخرى ، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد ، فالسابري من سابور ، والطيالسة من الري ، والحبر واليمانية من اليمن ، وهي رواية حصين ، عن مجاهد .
وروى حيان ، عن الكلبي ، قال : الخبز لأهل قِطر ، والتمر لأهل قِطر ، والذرة لأهل قِطر ، والسمك لأهل قِطر ، وكذلك أخواتها .
) فِي أَربَعَةِ أَيَّام ( يعني إنّ هذا مع الأول أربعة أيّام ، كما يقول : تزوجت أمس امرأة واليوم اثنتين وأحدهما الّتي تزوجتها أمس ، ويقال : أتيت واسط في خمسة والبصرة في عشرةِ ، فالخمسة من جملة العشرة . فرد الله سبحانه الآخر على الأوّل ، وأجمله في الذكر .
) سَوَاءً ( رفعه أبو جعفر على الإبتداء ، أي هي سواءٌ ، وخفضه الحسن ويعقوب على نعت قوله : في أربعة أيّام ، ونصبه الباقون على المصدر ، أي استوت إستواءً ، وقيل : على الحال والقطع ، ومعنى الآية : سواءً . ) لِلسَّائِلِينَ ( عن ذلك ، قال قتادة والسدي : من سأله عنه ، فهكذا الأمر ، وقيل : لّلسائلين الله حوائجهم .
قال إبن زيد : قدر ذلك على قدر مسائلهم ، لأنّه لا يكون من مسائلهم شيء إلاّ قد علمه قبل أن يكون .
قال أهل المعاني : معناه سواءً لّلسائلين وغير السائلين ، يعني إنّه بيّن أمر خلق الأرض وما فيها لمن سأل ومن لم يسأل ، ويعطي من سأل ومن لم يسأل .
فصلت : ( 11 ) ثم استوى إلى . . . . .
) ثُمَّ استَوَى إِلَى السَّمَاءِ ( أي عمد إلى خلق السماء وقصد ، تسويتها ، والإستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال ، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى : ثمّ استوى إلى السّماء . ) وَهِيَ دُخَانٌ ( بخار الماء . ) فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ ائِتيَا طَوعاً أَو كَرهاً ( أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع ، وإخرجاها ، وإظهراها بمصالح خلقي . قال ابن عباس : قال الله تعالى للسّموات : إطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : شقي أنهارك واخرجي ثمارك .
) قَالَتَا أَتَينَا طَائِعِينَ ( ولم يقل طائعتين ، لأنّه ذهب به إلى السّماوات والأرض ومن فيهنّ ، مجازه : أَتينا بمن فينا طائعين ، فلمّا وصفهما بالقول أخرجهما في الجمع مجرى ما يعقل ، وبلغنا أنّ بعض الأنبياء ، قال : ياربّ لو إنّ السّماوات والأرض حين قلت لهما ائتيا طوعاً أو كرهاً عصيناك ، ما كنت صانعاً بهما ؟ قال : كنت أأمر دابة من دوابي فتبتلعهما . قال : وأين تلك الدابة ؟ . قال : في مرج من مروجي . قال : وأين ذلك المرج ؟ قال : في علم من علمي .
وقرأ ابن عباس : أئتيا وآتينا بالمد ، أي اعطينا الطاعة من أنفسكما . قالتا : أعطينا .
( ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ
(8/287)

" صفحة رقم 288 "
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاََنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِىأَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( 2
فصلت : ( 12 ) فقضاهن سبع سماوات . . . . .
) فَقَضَاهُنَّ سَبعَ سَمَاوَات فِي يَومَينِ ( أي أتمهنَّ وفرغ من خلقهنّ ) وَأَوحَى فِي كلّ سَمَاء أَمرَهَا ( قال قتادة والسدي : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ، وخلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الّذي فيها من البحار وجبال البرد ، وما لا يُعلم ، وقيل : معناه وأوحى إلى أهل كلّ سماء من الأمر والنهي ما أراد .
) وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنيَا بِمَصَابِيحَ ( كواكب . ) وَحِفظاً ( لها من الشياطين الّذين يسترقون السمع ، ونصب حفظها على المعنى ، كأنّه قال : جعلها زينة وحفظاً ، وقيل : معناه وحفظاً زيّنّاها على توهم سقوط الواو أي وزّيّنا السّماء الدّنيا بمصابيح حفظاً لها ، وقيل : معناه وحفظها حفظاً .
) ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ }
فصلت : ( 13 ) فإن أعرضوا فقل . . . . .
) فَإِن أَعرَضُوا ( يعني هؤلاء المشركين ، ) فَقُل أَنذرتُكُم ( خَوفتكم . ) صَاعِقَةً ( وقيعة وعقوبة ) مِثلَ صَاعِقَةِ عَاد وَثَمُودَ }
فصلت : ( 14 ) إذ جاءتهم الرسل . . . . .
) إِذ جَاءَتُهُم ( يعني عاداً وثموداً ) الرُّسُلُ مِن بَينِ أيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم ( يعني قبلهم وبعدهم .
وأراد بقوله : ) من بين أيديهم ( الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم من قبلهم ومن خلفهم ، يعني من بعد الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم ، وهو الرسول الّذي أرسل إليهم ، هود وصالح ( عليهما السلام ) ، والكناية في قوله : ) من بين أيديهم ( راجعة إلى عاد وثمود ، وفي قوله تعالى : ) ومن خلفهم ( ، راجعة إلى الرسل .
) أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ اللهَ قَالُوا لَو شَاءَ ربُّنَا لأنزَلَ مَلاَئِكةً ( بدل هؤلاء الرّسل ملائكة . ) فَإِنَّا بِمَا أُرسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ ( .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني ، قرأه عليه في شوال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي ، حدثنا أحمد بن نجدة بن العُرْيان ، حدثنا الجماني حدثنا ابن فضيل ، عن الأجلح من الذيال بن حرملة ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال
(8/288)

" صفحة رقم 289 "
قال الملأ من قريش وأبو جهل : قد التبس علينا أمر محمّد ، فلو إلتمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر ، فأتاه فكلمه ثمّ أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيع : والله لقد سمعت بالشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علماً ، وما يخفى عليَّ إن كان ذلك . فأتاه ، فلما خرج إليه ، قال : يامحمّد ، أنت خير أم هاشم ؟ ، أنت خير أم عبد المطلب ؟ ، أنت خير أم عبد الله ؟ ، فبم تشتم آلهتنا ، ونضلك إيانا ، فإن تتمنى الرئاسة عقدنا لك ألويتنا ، فكنت رئيسنا ما بقيت ، وإن كانت بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش ، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ساكت لا يتكلم ، فلما فرغ ، قرأ رسول الله ( عليه السلام ) : ) بسم الله الرّحمان الرّحيم . حم . تنزيل من الرّحمن الرّحيم . كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيًّا ( . . . إلى قوله : ) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مّثل صاعقة عاد وثمود ( فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، فاحتبس عنهم عتبة ، فقال أبو جهل : يامعشر قريش ، والله ما نرى عتبة إلاّ قد ( صَبَأ ) إلى محمّد وأعجبه طعامه ، وما ذاك إلاّ من حاجة أصابته ، فانطلقوا بنا إليه ، فانطلَقوا إليه .
فأتاه أبو جهل فقال : والله ياعتبة ، ما حبسك عنّا إلاّ إنّك صبوت إلى محمّد ، وأعجبك طعامه ، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمّد . فغضب عتبة وأقسم ألاّ يكلم محمّداً أبداً ، وقال : والله لقد علمتم إنّي مّن أكثر قريش مالاً ، ولّكني أتيته وقصصت عليه القصة ، فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر . ) بسم الله الرّحمن الرّحيم . حم . تنزيلٌ من الرّحمان الرّحيم . كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً ( . . . إلى قوله : ) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مّثل صاعقة عاد وثمود ( فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم إنّ محمّداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب .
فصلت : ( 15 ) فأما عاد فاستكبروا . . . . .
) فَأَمَّا عَادٌ ( يعني قوم هود . ) فَاستَكبَرُوا فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِ وَقَالُوا مَن أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ( وذلك إنّهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم . ) أَوَ لَم يَروا أَنَّ اللهَ الّذي خَلَقَهُم هُوَ أَشَدُّ مِنهُم قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يجحَدُونَ }
فصلت : ( 16 ) فأرسلنا عليهم ريحا . . . . .
) فَأَرسَلنَا عَلَيهِم رِيحاً صَرصَراً ( أي باردة شديدة الصوت والهبوب وأصله من الصرير ، فضوعف كما يقال : نهنهت وكفكفت ، وقد قيل : إنّ النهر الّذي يسمّى صرصراً إنّما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه .
) فِي أَيَّام نَّحِسَات ( متتابعات شديدات نكدات مشؤومات عليهم ليس فيها من الخير شيء ، وقرأ أبو جعفر وإبن عامر وأهل الكوفة ) نحسات ( بكسر الحاء ، غيرهم بجزمه .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا مخلد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، حدثنا مقاتل عن الضحاك في قوله تعالى : ) فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً ( ، قال : أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من
(8/289)

" صفحة رقم 290 "
غير مطر ، وبه عن مقاتل ، عن إبراهيم التيمي وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا أراد الله بقوم خيراً ، أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً حبس عنهم المطر وأرسل عليهم كثرة الرياح .
) لِنُذِيقَهُم عَذَابَ الخِزيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخزَى ( لهم وأَشد إذلالاً وإهانه . ) وَهُم لا يُنصَرُون (
فصلت : ( 17 ) وأما ثمود فهديناهم . . . . .
) وَأَمَّا ثَمُودُ ( قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب ، ) ثمود ( بالرفع والتنوين ، وكانا يجران ثموداً في القرآن كله إلاّ قوله : ) وآتينا ثمود الناقة ( ، فإنّهما كانا لا يجرانه هاهنا من أجل إنّه مكتوب في المصحف هاهنا بغير ألف ، وقرأ ابن أبي إسحاق ) وأمّا ثمود ( منصوباً غير منون ، وقرأ الباقون مرفوعاً غير منون .
) فَهَدَينَاهُم ( دعوناهم وبيّنا لهم . ) فَاستَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى ( فاختاروا الكفر على الإيمان . ) فَأَخَذَتهُم صَاعِقَةُ ( مهلكة . ) العَذَابِ الهُونِ ( أي الهوان ، ومجازه : ذي هون . ) بِمَا كانُوا يَكسِبُونَ (
فصلت : ( 18 - 19 ) ونجينا الذين آمنوا . . . . .
) وَنَجُّينَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون وَيَومَ يُحشَرُ ( يبعث ويجمع ، وقرأ نافع ويعقوب ) نحشر ( بنون مفتوحة وضم الشين . ) أَعدَاءُ اللهِ ( نصباً . ) إِلى النَّارِ فَهُم يُوزَعُونَ ( يساقون ويدفعون إلى النّار ، وقال قتادة والسدي : يحبس أولهم على آخرهم .
فصلت : ( 20 ) حتى إذا ما . . . . .
) حَتّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيهِم سَمعُهُم وَأَبصَارُهُم وَجُلُودُهُم ( أي بشراتهم . ) بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ ( وقال السدي وعبيد الله إبن أبي جعفر : أراد بالجلود الفروج .
وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوين :
المرء يسعى للسلامة والسلامة حسبه
أوسالم من قد تثنى جلده وأبيض رأسه
وقال : جلده كناية عن فرجه .
( ) وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِىأُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ
(8/290)

" صفحة رقم 291 "
جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِئَاياتِنَا يَجْحَدُون وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاَْسْفَلِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاَْخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِىأَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ( 2
فصلت : ( 21 ) وقالوا لجلودهم لم . . . . .
) وَقَالُوا ( يعني الكفّار الّذين يحشرون إلى النّار . ) لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدتُّم عَلَينَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيء ( حدثنا عقيل بن محمّد : إنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير ، حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، أخبرنا علي بن قادم الفزاري ، أخبرنا شريك ، عن عبيد المكيت ، عن الشعبي ، عن أنس ، قال : ضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم حتّى بدت نواجذه ، ثمّ قال : ( ألاّ تسألوني مِمَّ ضحكت ) .
قالوا : مم ضحكت يارسول الله ؟
قال : ( عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة ، قال : يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني ؟ قال : فإنّ لك ذاك . قال : فإنّي لا أقبل عليّ شاهداً ، إلاّ من نفسي . قال : أوَ ليس كفى بيّ شهيداً ، وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال : فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل ) .
قال : ( فيقول لهنّ بُعداً لَكُنّ وسحقاً عنكنّ كنت أجادل ) .
قال الله تعالى : ) وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ }
فصلت : ( 22 ) وما كنتم تستترون . . . . .
) وَمَا كُنتُم تَستَتِرُونَ ( أي تستخفون في قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد : تتقون . قتادة : تظنون . ) أَن يَشهَدَ عَلَيكُم سَمعُكُم وَلاَ أَبصَارُكُم وَلاَ جُلُودُكُم وَلَكِن ظَنَنتُم أَنَّ اللهَ لاَ يَعلَم كَثِيراً مِمَّا تَعمَلُونَ ( أخبرنا الحسين بن محمّد ابن فنجويه ، حدثنا هارون بن محمد بن هارون وعبد الله بن عبد الرّحمن الوراق ، قالا : حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن كثير وأبو حذيفة ، قالا : حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن وهب بن ربيعة ، عن ابن مسعود ، قال : إنّي لمستتر بأستارِ الكعبة ، إذ جاء ثلاثة نفر ، ثقفي وختناه قريشيان ، كثير شحم بطونهم ، قليل فقههم ، فحدّثوا الحديث بينهم ، فقال أحدهم : أترى يسمع ما قلنا ؟ فقال الآخر : إذا رفعنا يسمع ، وإذا خفضنا لم يسمع ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا رفعنا فإنّه يسمع إذا خفضنا . فأتيت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت له ذلك ، فأنزل الله تعالى ) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ( . . . إلى قوله : فأصبحتم من الخاسرين والثقفي عبد ياليل وختناه القريشيان ربيعة وصفوان بن أمية .
فصلت : ( 23 ) وذلكم ظنكم الذي . . . . .
) وَذَلِكُم ظَنُّكم الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِكُم أَرَداكُم ( أهلككم . ) فَأَصبَحتُم مِنَ الخَاسِرِينَ ( قال قتادة : الظنّ هاهنا بمعنى العلم ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يموتنّ أحدكم ، إلاّ وهو يحسن الظنّ بالله ، وإنّ قوماً أساءوا
(8/291)

" صفحة رقم 292 "
الظنّ بربّهم فأهلكهم ) فذلك قوله : ) وذلك ظنّكم الّذي ظننتم ( . . . الآية .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري ، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، حدثنا عبد الله بن العباس الطيالسي ، حدثنا أحمد بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، عن أبي الزياد عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الله تعالى : ( أنا عند ظنّ عبدي بيّ ، وأنا معه حين يذكرني ) .
وقال قتادة : من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظنّ بربّه فليفعل ، فإنّ الظنّ إثنان : ظنّ ينجي ، وظنّ يردي ، وقال محمّد بن حازم الباهلي :
الحسن الظنّ مستريح
يهتم من ظنّه قبيح
من روح الله عنه
هبّت من كلّ وجه ريح
لم يخب المرء عن منح
سخاء وإنّما يهلك الشحيح
فصلت : ( 24 ) فإن يصبروا فالنار . . . . .
) فَإِن يَصبِرُوا فَالنَّارُ مَثوىً لَّهُم وَإِن يَستَعتِبُوا ( يسترضوا ويطلبوا العتبى . ) فَمَا هُم مِنَ المُعتَبِينَ ( المرضيين ، والمعتّب الّذي قَبل عتابة وأجيب إلى ما يسأل ، وقرأ عبيد بن عمير ) وإن تُستعتبوا ( على لفظ المجهول ) فما هم من المعتبين ( بكسر التاء ، يعني إن سألوا أن يعملوا ما يرضون به ربّهم ) فما هم من المعتبين ( أي ما هم بقادرين على إرضاء ربّهم لأنهم فارقوا دار العمل .
فصلت : ( 25 ) وقيضنا لهم قرناء . . . . .
) وَقَيَّضنَا ( سلّطنا وبعثنا ووكلنا . ) لَهُم قُرَنَاءَ ( نظراء من الشياطين . ) فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَينَ أَيدِيهِم ( من أمر الدّنيا حتّى آثروه على الآخرة . ) وَمَا خَلفَهُم ( من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث .
) وَحَقَّ عَلَيهِمُ القَولُ فِي أُمَم ( مع أمم . ) قَد خَلَت مِن قَبلِهِم مِن الجِنِ وَالإِنسِ إِنَّهُم كَانُوا خَاسِرِينَ }
فصلت : ( 26 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( من مشركي قريش . ) لاَ تَسمَعُوا لِهَذا القُرآنَ وَالغَوا فِيهِ ( قال ابن عباس : يعني والغطوا فيه ، كان بعضهم يوصي إلى بعض ، إذا رأيتم محمداً يقرأ ، فعارضوه بالزجر والإبتعاد .
مجاهد ) والغوا فيه ( بالمكاء والصفير وتخليط في المنطق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ .
قال الضحاك : إكثروا الكلام فيختلط عليه القول .
السدي : صيحوا في وجهه .
(8/292)

" صفحة رقم 293 "
مقاتل : إرفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم حتّى تلبسوا عليهم قولهم ، فيسكتوا .
أبو العالية : قعوا فيه وعيبوه .
وقرأ عيسى بن عمرو ) الغُوا فيه ( بضم الغين . قال الأخفش : فتح الغين ، كان من لغا يلغا مثل طغا يطغا ، ومن ضم الغين كان من لغا يلغوا مثل دعا يدعوا .
) لَعَلَّكُم تَغلِبُونَ ( محمداً على قراءته .
فصلت : ( 27 ) فلنذيقن الذين كفروا . . . . .
) فَلَنُذِيقَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَسوَأَ ( أقبح . ) الَّذِي كَانُوا يَعمَلُونَ ( في الدّنيا .
فصلت : ( 28 ) ذلك جزاء أعداء . . . . .
) ذَلِكَ ( الّذي ذكرت . ) جَزَاءُ أَعدَاءِ اللهِ ( ثمّ بيّن ذلك الجزاء ما هو ، فقال : ) النَّارُ ( أي هو النّار . ) لَهُم فِيهَا دَارُ الخُلدِ جَزَاءً بما كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجحَدُونَ ( فقد ذكر إنّها في قراءة ابن عباس ذلك جزاء أعداء الله النّار دار الخلد ، ترجم بالدار عن النّار ، وهو مجاز الآية .
فصلت : ( 29 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلاَّنَا مِنَ الجِنِ ( وهو إبليس الأبالسة . ) وَالإِنسِ ( وهو ابن آدم الّذي قتل أخاه . ) نَجعَلهُمَا تَحتَ أَقدَامِنَا ( في النّار . ) لِيَكُونَا مِنَ الأَسفَلِينَ ( في الدرك الأسفل لأنهما سنا المعصية .
فصلت : ( 30 ) إن الذين قالوا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا ( أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه ، حدثنا الفضل الكندي ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الزيدي العسكري ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو قتيبة سلمة بن قتيبة ، حدثنا سهل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى : ) إنّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ( قال : من مات عليها ، فهو ممّن استقام .
أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه ، حدثنا عبيد بن محمد بن شنبه ، حدثنا جعفر ابن الفربابي ، حدثنا محمد بن الحسن البلخي ، أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد ، عن سعيد بن عمران ، عن أبي بكر الصديق ح ، ) ثمّ استقاموا ( قال : لم يشركوا بالله شيئاً . أخبرنا ابن فنجويه الثقفي ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا يونس ، عن الزهري إنّ عمر بن الخطاب ح ، قال وهو يخطب النّاس على المنبر : ) الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ( فقال : استقاموا على طريقة الله بطاعته ، ثمّ لم يروغوا روّغان الثعالب ، وقال عثمان بن عفان ح : يعني أخلصوا العمل لله ، وقال علي بن أبي طالب ح : أدُّوا الفرائض . ابن عباس استقاموا على أداء فرائضه .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، حدثنا
(8/293)

" صفحة رقم 294 "
محمد بن موسى الحلواني ، حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور ، حدثنا مسكين أبو فاطمة عن شهر بن حوشب ، قال : قال الحسن : وتلا هذه الآية ) إنّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ( فقال : استقاموا على أمر الله تعالى ، فعملوا بطاعته ، واجتنبوا معصيته . مجاهد وعكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلاّ الله ، حتّى لحقوا به . قتادة وابن زيد : استقاموا على عبادة الله وطاعته ، ابن سيرين : لم يعوجّوا ، سفيان الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا . مقاتل بن حيان : استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا . مقاتل بن سليمان : استقاموا على إنّ الله ربّهم . ربيع : أعرضوا عما سوى الله تعالى . فضيل بن عياض : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية . بعضهم : استقاموا إسراراً كما استقاموا إقرار ، وقيل : استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً . روى ثابت عن أنس إنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لما نزلت هذه الآية : ( أمتي وربّ الكعبة ) .
أخبرنا الحسن بن محمد الثقفي ، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي وأحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم السني ، قالا : حدثنا أبو خليفة الفضل بن حيان الجمحي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز ، عن سفيان بن عبد الله الثقفي . قال : قلت : يارسول الله أخبرني بأمر أعتصم به ، فقال : ( قل ربّي اللّه ثمّ استقم ) قال : قلت : ما أخوف ما تخاف عليّ ؟
فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بلسان نفسه ، وقال : ( هذا ) .
وروي إنّ وفداً أقدموا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأ عليهم القرآن ، ثمّ بكى ، فقالوا : أمن خوف الّذي بعثك تبكي ؟ قال : ( نعم ، إنّي قد بعثت على طريق مثل حد السيف ، إن استقمت نجوت ، وإن زغت عنه هلكت ) .
وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية ، قال : اللَّهم أنت ربّنا فارزقنا الاستقامة .
) تَتَنَزَّلْ عَلَيهِمُ المَلاَئِكَةُ ( عند الموت ) أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحزَنُوا ( قال قتادة : إذا قاموا من قبورهم . قال وكيع بن الجراح البسري : تكون في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وفي البعث ، ألاّ يخافوا ولا يحزنوا . قال أبو العالية : لا تخافوا على صنيعكم ولا تحزنوا على مخلفكم . مجاهد : لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم في دنيّاكم من أهل وولد ونشيء ، فإنّا نخلفكم في ذلك كله . السدي : لا تخافوا ما أمامكم ، ولا تحزنوا على ما بعدكم . عطاء بن رباح : لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم ، فإنّي أغفرها لكم .
وقال أهل اللسان في هذه الآية : ) إنّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ( بالوفاء على ترك
(8/294)

" صفحة رقم 295 "
الجفاء ) تتنزّل عليهم الملائكة ( بالرضا أن لا تخافوا من العناء ولا تحزنوا على الفناء ، وأبشروا بالبقاء مع الّذين كنتم توعدون من اللقاء ، لا تخافوا فلا خوف على أهل الإستقامة ، ولا تحزنوا فإن لكم أنواع الكرامة ، وابشروا بالجنّة الّتي هي دار السلامة . لا تخافوا فعلى دين الله استقمتم ، ولا تحزنوا فبحبل الله اعتصمتم ، وأبشروا بالجنّة وإن ارتبتم وأُحزنتم ، لا تحزنوا فطالما رهبتم ، ولا تحزنوا فقد نلتم ما طلبتم ، وأبشروا بالجنّة الّتي فيها رغبتم ، لا تخافوا فأنتم أهل الإيمان ، ولا تحزنوا فأنتم أهل الغفران ، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الرضوان ، لا تخافوا فأنتم أهل الشهادة ، ولا تحزنوا فأنتم أهل السعادة ، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الزيادة ، لا تخافوا فأنتم أهل النوال ، ولا تحزنوا فأنتم أهل الوصال ، وأبشروا بالجنّة الّتي هي دار الجلال ، لا تخافوا فقد أمنتم الثبور ولا تحزنوا فقد آن لكم الحبور وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار السرور ، لا تخافوا فسعيكم مشكور ولا تحزنوا فذنبكم مغفور ، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار النون ، لا تخافوا فطالما كنتم من الخائفين ، ولا تحزنوا فقد كنتم من العارفين ، وإبشروا بالجنّة الّتي عجز عنها وصف الواصفين ، لا تخافوا فلا خوف على أهل الإيمان ، ولا تحزنوا فلستم من أهل الحرمان ، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الإيمان ، لا تخافوا فلستم من أهل الجحيم ، ولا تحزنوا فقد وصلتم إلى الربّ الرحيم ، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار النعيم ، لا تخافوا فقد زالت عنكم المخافة ، ولا تحزنوا فقد سلمتم من كلّ آفة ، وإبشروا بالجنّة الّتي هي دار الضيافة ، لا تحزنوا العزل عن الولاية ، ولا تحزنوا على ما قدمتم من الخيانة ، وابشروا بالجنّة الّتي هي دار الهداية ، لا تخافوا حلول العذاب ، ولا تحزنوا من هول الحساب وابشروا بالجنّة الّتي دار الثواب . لا تخافوا فأنتم سالمون من العقاب ، ولا تحزنوا فأنتم واصلون إلى الثواب ، وابشروا بالجنّة فإنها نعم المآب . لا تخافوا فأنتم أهل الوفاء ولا تحزنوا على ما كسبتم من الجفاء وإبشروا بالجنّة فإنها دار الصفاء لا تخافوا فقد سلمتم من العطب ، ولا تحزنوا فقد نجوتم من النصب ، وإبشروا بالجنّة فإنّها دار الطرب .
فصلت : ( 31 ) نحن أولياؤكم في . . . . .
) نَحنُ أَولِيَاؤُكُم ( تقول لهم الملائكة الّذين تتنزل عليهم بالبشارة : نحن أولياؤكم وأنصاركم وأحبّاءكم ، ) فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ ( قال السدي : نحن أولياؤكم يعني نحن الحفظة الّذين كنا معكم في الدّنيا ، ونحن أولياؤكم في الآخرة .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا ابن خالد ، أخبرنا داود بن عمرو الضبّي أخبرنا إبراهيم ابن الأشعث عن الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد ) نحن أولياؤكم ( في الحياة الدّنيا وفي الآخرة . قال : قرناؤهم الّذين كانوا معهم في الدّنيا ، فإذا كان يوم القيامة ، قالوا : لن نفارقكم حتّى ندخلكم الجنّة .
) وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( تريدون وتسألون وتتمنون ، وأصل الكلمة إنّ ما تدّعون إنّه لكم ، فهو لكم بحكم ربّكم
(8/295)

" صفحة رقم 296 "
فصلت : ( 32 ) نزلا من غفور . . . . .
) نُزُلاً ( أي جعل ذلك رزقاً . ) مِن غَفُور رَّحِيم ( .
2 ( ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاَْرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِىأَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىءَايَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىءَامِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قَالُواْ ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ لاَّ يَسْئَمُ الاِْنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَاذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّىإِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الاَْفَاقِ وَفِىأَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ ( 2
فصلت : ( 33 ) ومن أحسن قولا . . . . .
) وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلى اللهِ ( إلى طاعة الله . ) وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِن المُسلِمِينَ ( قال ابن سيرين والسدي وابن زيد : هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مقاتل : هو جميع الأئمّة والدعاة إلى الله تعالى ، وقال عكرمة : هو المؤذن . قال أبو أُمامة الباهلي : ) وَعَمِلَ صَالِحاً ( يعني صلّى ركعتين بين الآذان والإقامة
(8/296)

" صفحة رقم 297 "
أنبأني عبد الله بن حامد ، أخبرنا حاجب بن أحمد بن يرحم بن سفيان ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، حدثنا وكيع ، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصاني عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة خ قالت : إنّي لأرى هذه الآية نزلت ) ومن أحسن قولاً مّمّن دعا إلى الله ( . . الآية في المؤذنين .
وروى جرير بن عبد الحميد عن فضيل بن رفيدة ، قال : كنت مؤذناً في زمن أصحاب عبد الله ، فقال ليّ عاصم بن هبيرة : إذا أذّنت وفرغت من آذانك ، فقل : الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله ، وأنا من المسلمين ، ثمّ أقرأ هذه الآية :
فصلت : ( 34 ) ولا تستوي الحسنة . . . . .
) وَلاَ تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِئَةُ ( قال الفراء : ) ولا ( هاهنا صلة معناه ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، وأنشده :
ما كان يرضي رسول الله فعلهما
والطيبان أبو بكر وعمر
أي أبو بكر وعمر ذ .
) ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( قريبٌ صديق ، قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان مؤذياً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصار له وليًّا ، بعد أن كان عدواً . نظيره قوله تعالى : ) عسى الله أن يجعل بينكم وبين الّذين عاديتم منهم مودة ( ، قال ابن عباس : أمر الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنّه وليّ حميم .
فصلت : ( 35 ) وما يلقاها إلا . . . . .
) وَمَا يُلَقَّاهَا ( يعني هذه الخصلة والفعلة . ) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظ عَظِيم ( في الخير والثواب ، وقيل : ذو حظ .
فصلت : ( 36 ) وإما ينزغنك من . . . . .
) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ من الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ( لإستعاذتك وأقوالك . ) العَلِيمُ ( بأفعالك وأحوالك .
فصلت : ( 37 ) ومن آياته الليل . . . . .
) وَمِن آيَاتِهِ الَّيلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمسُ وَالقَمَرُ لاَ تَسجُدُوا لِلشَّمسِ وَلاَ لِلقَمَرِ وَاسجُدُوااِللهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ( إنما قال خلقهنّ بالتأنيث لإنّه أجرى على طريق جمع التكسير ، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث ؛ لأنّه فيما لا يعقل . ) إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ }
فصلت : ( 38 ) فإن استكبروا فالذين . . . . .
) فَإِنِ استَكبَرُوا ( عن السجود . ) فَالَّذِينَ عِندَ رَبِكَ ( يعني الملائكة . ) يُسَبِحُونَ لَهُ بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَهُم لاَ يَسئَمُونَ ( . لقوله تعالى : ) لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه ، وله يسجدون ( .
فصلت : ( 39 - 40 ) ومن آياته أنك . . . . .
) وَمِن آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرضَ خَاشِعةً ( يابسة دارسة لا نبات فيها . ) فَإِذَا أَنزَلنَا عَلَيهَا المَاءَ اهتَزَّت وَرَبَت إِنَّ الَّذِي أَحيَاهَا لَمُحيِ المَوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِ شَيء قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ( أي يميلون عن الحقّ في أدلتنا .
(8/297)

" صفحة رقم 298 "
قال ابن عباس : هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه ، وقال مجاهد : ) يلحدون في آياتنا ( بالمكاء والتصدية واللغو واللغط . قتادة : يعني يكذبون في آياتنا . السدي : يعاندون ويشاققون . ابن زيد : يشركون ويكذبون . قال مقاتل : نزلت في أبي جهل لعنه الله .
) لاَ يَخفَونَ عَلَينَا أَفَمَن يُلقَى فِي النَّارِ ( أبو جهل . ) خَيرٌ أَم مَّن يَأتِي آمِناً يَومَ القِيَامِةِ ( عثمان بن عفان وقيل : عمار بن ياسر ) اعمَلُوا مَا شِئتُم ( أمر وعيد وتهديد ) إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ ( عالم فيجاز بكم به .
فصلت : ( 41 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِكرِ ( بالقرآن . ) لَمَّا جَاءَهُم ( حين جاءهم . ) وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( كريم على الله عن ابن عباس ، وقال مقاتل : منيع من الشّيطان والباطل . السدي : غير مخلوق .
فصلت : ( 42 ) لا يأتيه الباطل . . . . .
) لاَّ يَأتِيهِ البَاطِلُ ( قال قتادة والسدي : يعني الشيطان . ) مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ ( . فلا يستطيع أن يُغيّر أو يُزيد أو يُنقص ، وقال سعيد بن جبير : يعني لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه ، وقيل : لا يأتيه ما يبطله أو يكذّبه من الكتب المتقدّمة ، بل هو موافق لها مصدّق ولا يجي بعده كتاب يبطله وينسخه ، بل هو موافق لها مصدق . عن الكلبي . ) تَنزِيلٌ مِن حَكِيم حَمِيد }
فصلت : ( 43 ) ما يقال لك . . . . .
) مَّا يُقَالُ لَكَ ( من الأذى . ) إِلاَّ مَا قَد قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبلِكَ ( يعزّي نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغفِرَة ( لمن تاب . ) وَذُو عِقَاب أَلِيم ( لمن أصر .
فصلت : ( 44 ) ولو جعلناه قرآنا . . . . .
) وَلَو جَعَلنَاهُ قُرآناً أَعجَمِيًّا ( بغير لغة العرب . ) لَّقَالُوا لَولاَ فُصِلَت ( بيّنت . ) آيَاتُهُ ( بلغتنا حتّى نفقهها ، فإِنّا قومٌ عربٌ ، ما لنا وللأعجمية . ) أَأعجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ( يعني أكتاب أعجميّ ونبي عربي . قال مقاتل : وذلك إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدخل على يسار غلام ابن الحضرمي وكان يهودياً أعجميّاً ويكنى ( أبا فكيهة ) ، فقال المشركون : إنّما يعلّمه يسار ، فأخذه سيده عامر بن الحضرمي ، وضربه ، وقال : إنّك تعلم محمداً . فقال يسار : هو يعلمني . فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقرأ الحسن : أعجمي بهمزة واحدة على الخبر ، وكذلك رواه هشام عن أهل الشام .
ووجهه ما روى جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير ، قال : قالت قريش : لولا أنزل هذا القرآن أعجميًّا وعربيًّا حتّى تكون بعض آياته أعجميًّا وبعضها عربيًّا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنزل في القرآن بكلّ لسان ، فمنه السجيل ، وهي فارسية عربت سنك وكل ، والقراءة الصحيحة قراءة العامة بالإستفهام على التأويل الأول .
) قُل هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ فِي آذَانِهِم وَقرٌ وَهُوَ عَلَيهِم عَمىً ( أخبرنا محمد بن نعيم ، أخبرنا الحسين بن الحسين بن أيوب ، أخبرنا علي بن عبد العزيز ، أخبرنا القاسم بن سلام ، حدثنا حجاج بن أيوب ، عن شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سلمان بن قتيبة ، عن ابن عباس ومعاوية وعمرو ابن العاص ، إنّهم كانوا يقرأون هذه الحروف بكسر الميم
(8/298)

" صفحة رقم 299 "
) وهو عليهم عِمىً ( ، وقرأه الباقين بفتح الميم على المصدر ، وإختاره أبو عبيد ، قال : لقوله : ) هدىً وشفاءٌ ( فكذلك ) عمىً ( مصدر مثلها ، ولو إنّها هاد وشاف لكان الكسر في عمىً أجود ليكون نعتاً مثلهما .
) أُولَئِكَ يُنَادَونَ مِن مَّكَان بَعِيد ( قال بعض أهل المعاني : قوله : ) أُولئك ينادون من مّكان بعيد ( خبر لقوله : ) إنَّ الَّذين كفروا بالذّكر لما جاءهم ( ، وحديث عن محمد بن جرير ، قال : حدثني شيخ من أهل العلم ، قال : سمعت عيسى بن عمر سأل عمرو بن عبيد ) إنّ الّذين كفروا بالذّكر لما جاءهم ( ، أين خبره ؟ فقال عمرو : معناه في التفسير ) إنّ الّذين كفروا بالذّكر لما جاءهم كفروا به وإنّه لكتاب عزيز ( فقال عيسى بن عمر : أجدت ياأبا عثمان .
وقوله تعالى : ) ينادون من مّكان بعيد ( مثل لقلت إستماعهم وإنتفاعهم بما يوعظون به ، كأنهم ينادون إلى الإيمان وبالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة .
فصلت : ( 45 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) وَلَقَد آتينَا مُوسَى الكِتَابَ فَاختُلِفَ فِيهِ ( فمؤمن به وكافر ، ومصدّق ومكذّب . كما أختلف قومك في كتابك . ) وَلَولاَ كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَّبِكَ ( في تأخير العذاب . ) لَقُضِيَ بَينَهُم ( من عذابهم وعجل إهلاكهم .
) وَإنَّهُم لَفِي شَكّ مِنهُ مُريب }
فصلت : ( 46 - 47 ) من عمل صالحا . . . . .
) مَّن عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلعَبِيدِ إِلَيهِ يُرَدُّ عِلمُ السَّاعَةِ ( فإنّه لا يعلمه غيره ، وذلك إنّ المشركين ، قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لئن كنت نبياً ، فأخبرنا عن الساعة متى قيامها ؟ ، ولئن كنت لا تعلم ذلك فإنّك لست بنبيّ . فانزل الله تعالى هذه الآية .
) وَمَا تَخرُجُ مِن ثَمَرَات ( من صلة ثمرات ، بالجمع أهل المدينة والشام ، غيرهم ثمرة على واحدة . ) مِن أَكمَامِهَا ( أوعيتها ، واحدتها كمة ، وهي كلّ ظرف لمال أو وغيره ، وكذلك سمّي قشرة الكفري ، أي الذي ينشق عن الثمرة كمه . قال ابن عباس : يعني الكفري قبل أن ينشق ، فإذا أنشقت فليست بأكمام . ) وَمَا تَحمِلُ مِن أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلمِهِ ( يقول إليه يردّ علم السّاعة كما يردّ إليه علم الثمار والنتاج .
) وَيَومَ يُنَادِيهِم ( يعني ينادي الله تعالى المشركين . ) أَينَ شُرَكَاءِي ( الّذين تزعمون في الدّنيا إنّها آلهة . ) قالوا ( يعني المشركين ، وقيل : الأصنام ، يحتمل أن يكون القول راجعاً إلى العابدين وإلى المعبودين أيضاً ) آذَنَّاكَ ( أعلمناك وقيل : أسمعناك . ) مَا مِنَّا مِن شَهِيد ( شاهد إنّ لك شريك لما عاينوا القيامة تبرؤا من الأصنام ، وتبرأ الأصنام منهم
فصلت : ( 48 ) وضل عنهم ما . . . . .
) وَضَلَّ عَنهُم مَّا كَانُوا يَدعُونَ مِن قَبلُ ( في الدنيا .
) وَظَنُّوا ( أيقنوا . ) مَا لَهُم مِن مَّحِيص ( مهرب ، و ) ما ( هاهنا حرف وليس باسم ، فلذلك لم يعمل فيه الظنّ ، وجعل الفعل ملقى
(8/299)

" صفحة رقم 300 "
فصلت : ( 49 ) لا يسأم الإنسان . . . . .
) لاَ يَسأَمُ ( يمل . ) الإنسَانُ ( يعني الكافر . ) مِن دُعَاءِ الخَيرِ ( أي من دعائه بالخير ومسألته ربّه ، ودليل هذا التأويل ، قراءة عبد الله ) لا يسأم الإنسان ( من دعائه بالخير ، أي بالصحّة والمال . ) وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ ( من روح الله . ) قَنُوطٌ ( من رحمته .
فصلت : ( 50 ) ولئن أذقناه رحمة . . . . .
) وَلَئِن أَذَقنَاهُ رَحَمَةً ( عافية ونعمة . ) مِنَّا مِن بَعدِ ضَرَّاء مَسَّتهُ ( شدة وبلاء أصابته . ) لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ( أي بعملي ، وأنا محقوق بهذا .
) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعتُ إِلى رَبِيّ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلحُسنَى ( أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان ، حدثنا عبد الله بن ثابت ، حدثنا أبو سعيد الكندي ، حدثنا أحمد بن بشر ، عن أبي شرمة ، عن الحسن بن محمد بن علي أبي طالب ، قال : الكافر في أمنيتين ، أما في الدّنيا ، فيقول : لئن رجعت إلى ربّي إنّ لي عنده للحسنى ، وأما في الآخرة ، فيقول ياليتني كنت تراباً .
) فَلَنُنَبِئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِن عَذَاب غَلِيظ ( شديد .
فصلت : ( 51 ) وإذا أنعمنا على . . . . .
) وَإِذَا أَنعَمَنا عَلَى الإنسَانِ أَعرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيض ( كثير ، والعرب تستعمل الطول والعرض كلاهما في الكثرة ، يقال : أطال فلان الكلام والدعاء ، وأعرض إذا أكثر .
فصلت : ( 52 - 54 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قُل أَرَأَيتُم إِن كَانَ ( القرآن . ) مِن عِندِ اللهِ ثُمَّ كَفَرتُم بِهِ مَن أَضَلُّ مِمّن هُوَ فِي شِقَاق بَعِيد سَنُرِيهِم آيَاتِنَا في الآفَاقِ ( قال ابن عباس : يعني منازل الأمم الخالية . ) وَفِي أَنفُسِهِم ( بالبلاء والأمراض ، وقال المنهال والسدي : في الآفاق يعني ما يفتح لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الآفاق ، وفي أنفسهم : مكّة ، وقال قتادة : في الآفاق يعني وقائع الله تعالى في الأمم ، وفي أنفسهم ، يوم بدر . عطاء وابن زيد : في الآفاق يعني أقطار الأرض والسّماء من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار والبحار والأمطار ، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، وسبيل الغائط والبول ، حتّى إنّ الرجل ليأكل ويشرب من مكان واحد ، ويخرج ما يأكل ويشرب من مكانين .
) حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم الحَقُّ ( يعني إنّ ما نريهم ونفعل من ذلك هو الحقّ ، وقيل : إنّه يعني الإسلام ، وقيل : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : القرآن ) أَوَ لَم يَكفِ بِرَبِكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِ شَيء شَهِيدٌ أَلا إِنَّهُم فِي مِريَة مّن لِقَاءِ رَبِهِم أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِ شَيء مُّحِيطٌ (.
(8/300)

" صفحة رقم 301 "
( سُورةُ الشُّورَى )
سورة ) حم عسق ( مكّية ، وهي ثلاث وخمسون آية ، وثمانمائة وستّ وستّون كلمة ، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفاً
أخبرنا سعيد بن محمد بن محمد المقري ، أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد الحبري ، حدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي ، حدثنا سلام بن سليم المدائني ، حدثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أُمامة الباهلي عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) حم . عسق ( كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له ) .
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) حم عسق كَذَلِكَ يُوحِىإِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَلِىُّ العَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاَْرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( 2
الشورى : ( 1 - 2 ) حم
) حم عَسق ( سمعت أبا إسحاق يقول : سمعت أبا عثمان بن أبي بكر المقري الزعفراني ، يقول : سمعت شيخي يقول : سمعت أبا بكر المؤمن يقول : سألت الحسين بن الفضل لِمَ قطّع ) حم عسق ( ولم تقطّع ) كهيعص ( ) والمر ( و ) المص ( ؟ .
قال : لكونها من سور أوائلها ) حم ( ، فجرت مجرى نظائرها ، قبلها وبعدها ، وكان ) حم ( مبتدأ ، و ) عسق ( خبره ، ولأنّها آيتان ، وعدت أخواتها الّتي كتبت موصولة آية واحدة .
وقيل : لأنّ أهل التأويل لم يختلفوا في ) كهيعص ( وأخواتها ، إنّها حروف التهجي لا غيره ، وإختلفوا في ) حم ( ، فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلوها فعلاً ، وقالوا ، معناه ) حم ( ، أي قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة
(8/301)

" صفحة رقم 302 "
فأمّا تفسيرها أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه : إنّ أبا الفرج المعافى بن زكريا القاضي ، أخبرهم عن محمد بن جرير ، حدثني أحمد ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا أبو المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج ، عن أرطأة بن المنذر ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال له وعنده حذيفة بن اليمان : أخبرني عن تفسير قول الله تعالى : ) حم عسق ( قال : فأطرق ثمّ أعرض عنه ، ثمّ كرّر مقالته ، فلم يجيبه بشيء ، وكرّر مقالته ، ثمّ كرّر الثالثة ، فلم يجيبه شيئاً ، فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لِمَ كرهها ، نزلت في رجل من أهل بيته ، يقال له : عبد الاله أو عبد الله ، ينزل على نهر من أنهار المشرق ، يبني عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله تعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدّتهم ، بعث الله تعالى على احداهما ناراً ليلاً ، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كلّها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلاّ بياض يومها ذلك حتّى يجمع فيها كلّ جبّار عنيد منهم ، ثمّ يخسف الله تعالى بها وبهم جميعاً ، فذلك قوله تعالى : ) حم عسق ( . يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء ) حم عسق ( عدلاً منه ، سين سيكون فتنة ، قاف واقع بهما بهاتين المدينتين .
ونظير هذا التفسير ما أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن مخلد ، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي ، حدثنا عمار بن سيف الضبي أبو عبد الرّحمن ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي عن جرير بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصّراة تجتمع فيها جبابرة أهل الأرض ، تجبى إليها الخزائن ، يخسف بها ، وقال مرة : يخسف بأهلها ، فلهي أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة .
وذكر عن ابن عباس إنّه كان يقرأ ( حم سق ) بغير عين ، ويقال : إنّ السين فيها كلّ فرقة كائنة ، وإنّ القاف كلّ جماعة كائنة ، ويقول : إنّ علياً إنّما كان يعلم الفتن بهما ، وكذلك هو في مصحف عبد الله ( حم سق ) .
وقال عكرمة : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله : ) حم عسق ( .
فقال : ( ح ) حلمه ، ( م ) مجده ، ( عين ) علمه ، ( سين ) سناه ، ( ق ) قدرته ، أقسم الله تعالى بها .
وفي رواية أبي الجوزاء إنّ ابن عباس ، قال لنافع : ( عين ) فيها عذاب ، ( سين ) فيها مسخ ، ( ق ) فيها قذف . يدلّ عليه ما روي في حديث مرفوع إنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه ، فقيل له : ما هذه الكآبة يارسول الله ؟ قال : أخبرت ببلاء ينزل في أمتي . من خسف ومسخ وقذف ، ونار تحشرهم وريح تقذفهم في اليم ، وآيات متتابعات متصلة بنزول عيسى ( عليه السلام ) ، وخروج الدجال .
(8/302)

" صفحة رقم 303 "
وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح : ( ح ) حرب يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش ، ثمّ تُقضى إلى العرب ، ثمّ تُقضى إلى العجم ، ثمّ تمتد إلى خروج الدجال .
وقال عطاء : ( ح ) حرب في أهل مكّة يجحف بهم حتّى يأكلون الجيف وعظام الموتى ، ( م ) ملك يتحول من قوم إلى قوم ( ع ) عدو لقريش قصدهم ، ( س ) سيء يكون فيهم ، ( ق ) قدرة الله النافذة في خلقه .
وقال بكر بن عبد الله المزني : ( ح ) حرب تكون بين قريش والموالي ، فتكون الغلبة لقريش على الموالي ، ( م ) ملك بني أُمية ، ( ع ) علو ولد العبّاس ، ( سين ) سناء المهدي ( ق ) قوة عيسى ( عليه السلام ) حين ينزل ، فيقتل النصارى ويخرب البيع .
وقال محمد بن كعب : أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناءه وقدرته ، أن لا يعذب من عاد إليه بلا إله إلاّ الله مخلصاً له من قلبه ، وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير : ( ح ) من رحمن ، ( م ) من مجيد ، ( عين ) من عالم ، ( سين ) من قدوس ، ( ق ) من قاهر .
السدي : هو من الهجاء المقطع ، ( عين ) من العزيز ، ( سين ) من السلام ، ( ق ) من القادر .
وقيل : هذا في شأن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( فالحاء ) حوضه المورود ، و ( الميم ) ملكة الممدود ، و ( العين ) عزه الموجود ، و ( السين ) سناؤه المشهود ، و ( القاف ) قيامه في المقام المحمود ، وقربه في الكرامة إلى المعبود .
وقال ابن عباس : ليس من نبيّ صاحب كتاب إلاّ وقد أوحيت ) حم عسق ( إليه ، فلذلك ، قال :
الشورى : ( 3 ) كذلك يوحي إليك . . . . .
) كَذَلِكَ يُوحِيَ إِلَيكَ ( قرأ ابن كثير بفتح الحاء ومثله روى عباس ، عن ابن عمرو ورفع الاسم بالبيان ، كأنّه قال : يوحي إليك .
قيل : من الّذي يوحي ؟ قال : الله ، وهي كقراءة من قرأ ) يسبح له فيها ( بفتح الباء ، الباقون بكسره .
) وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكَ اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( وقال مقاتل : نزل حكمها على الأنبياء ( عليهما السلام
الشورى : ( 4 ) له ما في . . . . .
) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتفَطَّرنَ مِن فَوقِهِنَّ ( أي من عظمة الله وجلاله فوقهنّ .
قال ابن عباس : تكاد السّماوات كلّ واحدة منها تتفطّر فوق الّتي تليها من قول المشركين ، ) أتخذ الله ولداً ( : نظيره قوله :
الشورى : ( 5 ) تكاد السماوات يتفطرن . . . . .
) تكاد السّماوات يتفطّرنّ منه وتنشق الأرض وتخر الجبال
(8/303)

" صفحة رقم 304 "
هدّا إن دعوا للرّحمان ولداً ( . ) وَالمَلاَئِكَةُ يُسَبِحُونَ بِحَمدِ رَبِهِم وَيَستَغفِرُونَ لِمَن فِي الأَرضِ ( من المؤمنين بيانها ويستغفرون للَّذين آمنوا ) أَلاَ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ( .
قال الحكماء : وعظّم في الإبتداء ، ثمّ بشّر وألطف في الإنتهاء .
الشورى : ( 6 ) والذين اتخذوا من . . . . .
) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيهِم ( يحفظ أعمالهم ويحصي عليهم أفعالهم ليجازيهم بها ) وَمَا أَنتَ عَلَيهِم بِوَكِيل ( إن عليك إلاّ البلاغ .
الشورى : ( 7 ) وكذلك أوحينا إليك . . . . .
) وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ قُرآناً عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ( مكّة ، يعني أهلها . ) وَمَن حَولَهَا وَتُنذِرَ يَومَ الجَمعِ ( أي بيوم الجمع . ) لاَ رَيبَ فِيهِ فَرِيقٌ ( أي منهم فريق ) في الجَنَّةِ ( فضلاً وهم المؤمنون . ) وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ( عدلاً وهم الكافرون .
أخبرنا الإمام أبو منصور الجمشاذي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو عثمان سعيد ابن عثمان بن حبيب السوحي ، حدثنا بشر بن مطر ، حدثني سعيد بن عثمان ، عن أبي راهويه جدير بن كريب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص وكان النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يفضّل عبد الله على أبيه أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا هشام بن القاسم ، حدثنا ليث ، حدثني أبو قبيل حيّ بن هانئ المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو ، قال : خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم ، قابضاً على كفيه ومعه كتابان ، فقال : ( أتدرون ما هذان الكتابان ) ؟ ، قلنا : لا يارسول الله .
فقال للّذي في يده اليمنى : هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنّة وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب ، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون ، فليس بزايد فيهم ، ولا ناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة ) ، ثمّ قال للّذي في يساره : ( هذا كتاب من ربّ العالمين ، بأسماء أهل النار وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم ، قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون ، فليس بزايد فيهم ولا ناقص منهم ، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة ) . فقال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل ؟ ، إذ قال : ( إعملوا وسددوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنّة يختم له بعمل أهل الجنّة وأن عَمِلَ أي عَمَل ، وإنّ صاحب النّار يختم له بعمل أهل النّار وإن عَمِلَ ، أي عَمَل ) .
ثمّ قال : ) فريق في الجنّة وفريق في السّعير ( عدل من الله تعالى .
)
وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
(8/304)

" صفحة رقم 305 "
أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الاَْنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَلِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِىأَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِىإِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِىإِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لاَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اللَّهُ الَّذِىأَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الاَْخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 2
الشورى : ( 8 ) ولو شاء الله . . . . .
) وَلَو شَاءَ اللهُ لَجَعلَهُم أُمَّةً وَاحِدَةً ( على ملّة واحدة . ) ^ ) وَلَكِن يُدخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ( الكافرون . ) مَا لَهُم مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِير }
الشورى : ( 9 ) أم اتخذوا من . . . . .
) أَمِ أتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء فَاللهُ هُوَ الوَلِيُّ ( لا سواه . ) وَهَوَ يُحي المَوتَى ( مجازه : لأنّه يحيي الموتى . ) وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيء ( في الدين . ) قَدِيرٌ }
الشورى : ( 10 ) وما اختلفتم فيه . . . . .
) وَمَا اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَيء ( في الدين . ) فَحُكمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ }
الشورى : ( 11 ) فاطر السماوات والأرض . . . . .
) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ جَعَلَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجاً ( حلائل وإنّما قال ) مِن أنفسكم ( لأنّه خلق حواء من ضلع آدم ) وَمِنَ الأَنعَامِ أَزوَاجاً يَذرَؤُكُم ( يخلقكم ويعيشكم ) فِيهِ ( أي في الرحم ، وقيل : في البطن ، وقيل : في الروح ، وقيل : في هذا الوجه من الخليقة .
قال مجاهد : نسلاً بعد نسل ، ومن الأنعام ، وقيل : ) في ( بمعنى الباء ، أي يذرؤكم فيه ، قال ابن كيسان : يكثركم .
) لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ ( المثل صلة ومجازه : ليس كهو شيء ، فأدخل المثل توكيداً للكلام ،
(8/305)

" صفحة رقم 306 "
كقوله : ) فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به ( وفي حرف ابن مسعود ، ) فإن آمنوا بما أمنتم به ( وقال أوس بن حجر :
وقتلى كمثل جذوع النخيل
يغشاهم مطر منهمر
أي كجذوع ، وقال ( آخر ) سعد بن زيد :
إذا أبصرت فضلهم
كمثلهم في النّاس من أحد
وقال آخر :
ليس كمثل الفتى زهير
خلق يوازيه في الفضائل
وقيل : ( الكاف ) صلة مجازه : ليس مثله ، كقول الراجز :
وصاليات ككما ( يُؤَفَيْنْ )
فأدخل على الكاف كافاً تأكيداً للتشبيه ، وقال آخر :
( تنفي الغياديق على الطريق
قلص عن كبيضة في نيق (
فأدخل الكاف مع عن .
) وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }
الشورى : ( 12 - 13 ) له مقاليد السماوات . . . . .
) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ يَبسُطُ الرِزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّهُ بِكُلِ شَيء عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُم مِّن الدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( وهو أول أنبياء الشريعة .
) وَالَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إِبرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ( فاختلفوا في وجه الآية ، ) ^ فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وقال الحكم : تحريم الأخوات والأمهات والبنات ، وقال مجاهد : لم يبعث الله تعالى نبياً إلاّ أوصاه بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة والاقرار لله بالطاعة . فذلك دينه الذي شرع لهم ، وهي رواية الوالي عن ابن عباس ، وقيل : الدين التوحيد ، وقيل : هو قوله : ) أَن أَقِيمُوا الدِينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ( بعث الأنبياء كلّهم بإقامة الدّين والأُلفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة . ) كَبُرَ عَلَى المُشرِكِينَ مَا تَدعُوهُم ( من التوحيد ورفض الأوثان . ثمّ قال عزّ من قائل : ) اللهُ يَجتَبِي إِلَيهِ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي إِلَيهِ مَن يُنِيبُ ( فيستخلصه لدينه .
الشورى : ( 14 ) وما تفرقوا إلا . . . . .
) وَمَا تَفَرَّقُوا ( يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس : يعني أهل الكتاب . دليله
(8/306)

" صفحة رقم 307 "
ونظيره في سورة المُنفكّين ) إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( ) إلاّ مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم العِلمُ ( من قبل بعث محمد وصفته . ) بغياً بَينَهُم وَلَولاَ كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَّبِكَ ( تأخير العذاب . ) إِلَى أجل مُّسَمىً ( وهو يوم القيامة . ) لَّقُضِيَ بَينَهُم ( بالعذاب . ) وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتَابَ مِن بَعدِهِم ( يعني من بعد الأمم الخالية ، وقال مجاهد : معناه من قبلهم أي من قبل مشركي مكّة وهم اليهود والنصارى . ) لَفِي شَكّ مِنهُ مُرِيب (
الشورى : ( 15 ) فلذلك فادع واستقم . . . . .
) فَلِذَلِكَ ( أي فإلى ذلك الّذين أوتوا الكتاب . ) فَادعُ ( كقوله : ) بَأن ربّك أوحى لها ( أي إليها ) واستقم كَماَ أُمِرتَ ( اثبت على الدين الذي به أمرت ) ولا تَتّبِع أَهوَاءَهُم وَقُل آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَاب وَأُمِرتُتِلأَعدِلَ بَينَكُم ( أي أن أعدل أو كي أعدل ، كقوله : ) وأمرنا لنسلم لربّ العالمين ( .
قال ابن عباس : لأسوي بينكم في الدّين ، وأؤمن بكلّ كتاب وكلّ رسول ، وقال غيره : لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء . قال قتادة : أُمر نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعدل ، فعدل حتّى مات ، والعدل ميزان الله تعالى في الأرض ، ) ^ وذكر لنا إنّ داود ( عليه السلام ) ، قال : ثلاث من كنّ فيه فهو الفائز : القصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضا والغضب ، والحسنة في السرّ والعلانية ، وثلاث من كنّ فيه أهانته : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وأربع من أعطيهنّ ، فقد أعطي خير الدّنيا والآخرة : لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وبدن صابر ، وزوجة مؤمنة .
) اللهُ رَبُّنَا وَررَبُّكُم لَنَا أَعمَالُنَا وَلَكُم أَعمَالُكُم لاَ حُجَّةَ ( لا خصومة . ) بَينَنَا وَبَينَكُم ( نسختها آية القتال . ) الله يَجمَعُ بَينَنَا ( لفصل القضاء . ) وَإِلَيهِ المَصِيرُ (
الشورى : ( 16 ) والذين يحاجون في . . . . .
) وَالَّذِينَ يُحَاجُونَ ( يخاصمون . ) فِي اللهِ ( في دين الله نبيه . ) مِن بَعدِ مَا استُجِيبَ لَهُ ( أي من بعد ما استجاب له النّاس ، فاسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته ، وقيام حجته . ) حُجَّتُهُم دَاحِضَةٌ ( باطلة زائلة . ) عِندَ رَبِهِم وَعَلَيهِم غَضَبٌ وَلَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ ( قال مجاهد : نزلت في اليهود والنصارى . قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم وأولى بالحقّ .
الشورى : ( 17 ) الله الذي أنزل . . . . .
) اللهُ الّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالحَقِ وَالمِيزَانَ ( أي العدل عن ابن عباس وأكثر المفسرين . مجاهد : هو الّذي يوزن به ، ومعنى إنزال الميزان : إلهامه الخلق للعمل به ، وأمره بالعدل والإنصاف ، كقوله : ) قد أنزلنا عليكم لباساً ( .
وقال علقمة : الميزان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقضي بينهم بالكتاب . ) وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (
(8/307)

" صفحة رقم 308 "
ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي ، ومجازها الوقت ، وقال الكسائي : إيتائها قريب .
الشورى : ( 18 ) يستعجل بها الذين . . . . .
) يَستَعجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ( ظنًّا منهم إنها غير جائية . ) وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشفِقُونَ مِنهَا ( خائفون منها . ) وَيَعلَمُونَ أَنَّهَا الحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَل بَعِيد }
الشورى : ( 19 ) الله لطيف بعباده . . . . .
) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ( قال ابن عباس : حفي بهم . عكرمة : بارّ بهم . السدي : رقيق . مقاتل : لطيف بالبر والفاجر منهم ، حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم . القرظي : ) ^ لطيف بهم في العرض والمحاسبة .
قال الخوافي : غداً عند مولى الخلق ، للخلق موقف يسألهم فيه الجليل ، فيلطف بهم الصادق في الرزق من وجهين : أحدهما : إنّه جعل رزقك من الطيبات ، والثاني : إنّه لم يدفعه إليك بمرة واحدة ، وقيل : الرضا بالتضعيف . الحسين بن الفضل : في القرآن وتيسيره .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن عاد البغدادي يقول : سُئل جنيد عن اللطيف ، فقال : هو الّذي لطف بأوليائه حتّى عرفوه ، فعبدوه ، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه .
وقال محمد بن علي الكتاني : اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا أيس من الخلق ، توكل عليه ورجع إليه فحينئذ يقبله ويقبل عليه ، وفي هذا المعنى أنشدنا أبو إسحاق الثعلبي ، قال : أنشدني أبو القاسم الحبيبي . قال أنشدني أبي ، قال : أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهّاب الثقفي :
أمر بافناء القبور كأنّني
أخو فطنة والثوب فيه نحيف
ومن شق فاه الله قدّر رزقه
وربّي بمن يلجأ إليه لطيف
وقيل : اللطيف الّذي ينشر من عباده المناقب ، ويستر عليه المثالب ، وقيل : هو الّذي يقبل القليل ، ويبذل الجزيل ، وقيل : هو الّذي يجبر الكسير ، وييسر العسير ، وقيل : هو الّذي لا ييأس أحد في الدنيا من رزقه ، ولا ييأس مؤمن في العفو من رحمته .
وقيل : هو الّذي لا يخاف إلاّ عدله ، ولا يرجى إلاّ فضله ، وقيل : هو الّذي يبذل لعبده النعمة ، فوق الهمّة ويكلفه الطاعة دون الطاقة ، وقيل : هو الّذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه ، وقيل : هو الّذي لا يرد سائله ولا يؤيّس آمله ، وقيل : هو الّذي يعفو عمن يهفو ، وقيل : هو الّذي يرحم من لا يرحم نفسه ، وقيل : هو الّذي يعين على الخدمة ، ثم يكثر المدحة ، وقيل : هو الّذي أوقد في أسرار عارفيه من المشاهدة سراجاً ، وجعل الصراط المستقيم لها منهاجاً ، وأنزل عليهم من سحائب بره ماءاً ثجاجاً .
(8/308)

" صفحة رقم 309 "
) يَرزُقُ مَن يَشَاءُ ( كما يشاء من شاء موسعاً ، ومن شاء مقتراً ، ومن شاء قليلاً ومن شاء كثيراً ، ومن شاء حلالاً ، ومن شاء حراماً ، ومن شاء في خفض ودعه ، ومن شاء في كد وعناء ، ومن شاء في بلده ومن شاء في الغربة ، ومن شاء بحساب ومن شاء بغير حساب .
) وَهُو القَوِيُّ العَزِيزُ (
الشورى : ( 20 ) من كان يريد . . . . .
) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الآخِرَةِ ( يعني يريد بعمله الآخرة . ) نَزِد لَهُ فِي حَرثِهِ ( بالتضعيف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة . ) ^ ) وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الدُّنيَا ( يعني يريد بعمله الدّنيا ) نُؤتِهِ مِنهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب ( .
قال قتادة : يقول : من عمل لآخرته نزد له في حرثه ، ومن آثر دنياه على آخرته ، لم يجعل الله له نصيباً في الآخرة إلاّ النّار ، ولم يصب من الدّنيا إلاّ رزق قد فرغ منه وقسم له .
أنبأني عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان ، حدثنا الحسين بن إدريس ، حدثنا سويد بن نصير ، أخبرنا عبد بن المبارك عن أبي سنان الشيباني ، إنّ عمر بن الخطاب ح ، قال : الأعمال على أربعة وجوه : عامل صالح في سببيل هدى يريد به دنيا ، فليس له في الآخرة شيء ، ذلك بأنّ تعالى ، قال : ) من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها . . ( الآية ، وعامل الرياء ليس له ثواب في الدّنيا والآخرة إلاّ الويل ، وعامل صالح في سبيل هدى يبتغي به وجه الله والدار الآخرة ، فله الجنّة في الآخرة ، معها ( نعاته ) في الدّنيا ، وعامل خطأ وذنوب ثوابه عقوبة الله ، إلاّ أن يعفوا فإنّه أهل التقوى وأهل المغفرة .
الشورى : ( 21 - 22 ) أم لهم شركاء . . . . .
) أَم لَهُم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِن الدِينِ مَا لَم يَأذَنَ بِهِ اللهُ وَلَولاَ كَلِمَةُ الفَصلِ ( يوم القيامة ، حيث قال : ) بل الساعة موعدهم ( ) لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ ( المشركين يوم القيامة ) مُشفِقِينَ ( وجلين . ) مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِم ( أي نازل بهم لا محالة . ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِهِم ذَلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبِيرُ ( .
) ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 2
الشورى : ( 23 ) ذلك الذي يبشر . . . . .
) ذَلِكَ الَّذِي ( ذكرت من نعيم الجنّات . ) يُبَشِرُ اللهُ ( به . ) عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( فإنّهم أهله .
(8/309)

" صفحة رقم 310 "
) قُل لاَ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أجراً إِلاَّ الموَدَّةَ فِي القُربَى ( قال إبن عباس : لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق ، وليس في يديه سعة لذلك ، قالت الأنصار : إنّ هذا الرجل قد هداكم الله به ، وهو ابن اختكم ، منوبة به . فقالوا له : يارسول الله إنّك ابن اختنا ، وقد هدانا الله على يديك ، وتنوبك نوائب وحقوق ، ولست لك عندها سعة ، فرأينا أن نجمع لك من أموالنا ، فنأتيك به ، فتستعين به على ما ينوبك وها هو ذا ، فنزلت هذه الآية .
وقال قتادة : اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمّداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، يحثهم على مودته ، ومودّة أقربائه ، وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية والتنزيل ؛ لأنّ هذه السورة مكّية ، واختلف العلماء في معنى الآية .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه بقراءتي عليه ، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، حدثنا أبو بكر الأزدي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا قزعة بِن سويد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أسألكم على ما أتيتكم من البينات والهدى أجراً إلاّ أن تودّوا الله تعالى ، وتقرّبوا إليه بطاعته ) .
وإلى هذا ذهب الحسن البصري ، فقال : هو القربى إلى الله تعالى ، يقول إلاّ التقرب إلى الله تعالى والتودّد إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وروى طاووس والشعبي والوالبي والعوفي عن ابن عباس ، قال : لم يكن بطن من بطون قريش إلاّ وبين رسول الله وبينهم قرابة ، فلما كذّبوه وأبوا أن يبايعوه ، أنزل الله تعالى ، ) قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ( يعني أن تحفظوني وتودّوني وتصلوا رحمي ، فقال رسول الله : ( إذا أبيتم أن تبايعوني ، فاحفظوا قرابتي فيكم ولا تؤذوني ، فإنّكم قومي وأحق من أطاعني وأجابني ) .
وإليه ذهب أبو مالك وعكرمة ومجاهد والسدي والضحاك وابن زيد وقتادة ، وقال بعضهم : معناه إلاّ أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم ، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب .
ثمّ اختلفوا في قرابة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الّذين أمر الله تعالى بمودتهم . أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه الثقفي العدل ، حدثنا برهان بن علي الصوفي ، حدثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي ، حدثنا حرب بن الحسن الطحان ، حدثنا حسين الأشقر ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت ) قُل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ( قالوا : يارسول الله من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم ؟
قال : ( علي وفاطمة وأبناءهما ) ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو منصور
(8/310)

" صفحة رقم 311 "
الجمشاذي ، قال : حدثني أبو عبد الله الحافظ ، حدثني أبو بكر بن مالك ، حدثنا محمد بن يونس ، حدثنا عبيد الله بن عائشة ، حدثنا إسماعيل بن عمرو ، عن عمر بن موسى ، عن زيد بن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب ح ، قال : ( شكوت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حسد النّاس لي ) . فقال : ( أما ترضى أن تكون رابع أربعة ، أول من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمالنا ، وذريتنا خلف أزواجنا وشيعتنا من ورائنا ) .
حدثنا أبو منصور الجمشاذي ، حدثنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد ، حدثنا أبو العباس محمد بن همام ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن رزين ، حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا حماد بن سلمة ابن أخت حميد الطويل ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن شهر بن حوشب ، عن أُمّ سلمة ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّه قال لفاطمة : ( أئتيني بزوجك وابنيك ، فجاءت بهم ، فالقى عليهم كساءً فدكيا ، ثمّ رفع يديه عليهم ، فقال : اللَّهم هؤلاء آل محمد ، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد ، فإنك حميد مجيد ) . قالت : فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فاجتذبه وقال : ( إنّك على خير ) . .
وروى أبو حازم عن أبي هريرة ، قال : نظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : ( أنا حرب لمن حاربتم ، وسلم لمن سالمتم ) .
أخبرنا عقيل بن محمّد ، أخبرنا المعافا بن زكريا بن المبتلي ، حدثنا محمّد بن جرير ، حدثني محمّد بن عمارة ، حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا الصياح بن يحيى المزني ، عن السدي ، عن أبي الديلم ، قال : لما جيء بعلي بن الحسين أسيراً فأقيم على درج دمشق ، وقام رجل من أهل الشام ، فقال : الحمد لله الّذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة ، فقال علي بن الحسين : أقرأت القرآن ؟
قال : نعم . قال : قرأت أل حم ؟ قال : قرأت القرآن ، ولم أقرأ أل حم . قال : ما قرأت ) قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ( . قال : وإنّكم لأنتم هم ؟ قال : نعم ) .
أخبرنا الحسين بن العلوي الوصي ، حدثنا أحمد بن علي بن مهدي ، حدثني أبي ، حدثنا علي بن موسى الرّضا ، حدثني أبي موسى بن جعفر ، حدثنا أبي جعفر بن محمد الصادق ، قال : كان نقش خاتم أبي محمد بن علي : ظنّي بالله حسن وبالنبي المؤتمن وبالوصي ذي المنن والحسين والحسن . أنشدنا محمد بن القاسم الماوردي ، أنشدني محمد بن عبد الرّحمن
(8/311)

" صفحة رقم 312 "
الزعفراني ، أنشدني أحمد بن إبراهيم الجرجاني ، قال : أنشدني منصور الفقيه لنفسه :
إن كان حبّي خمسة
زكت بهم فرائضي
وبغض من عاداهم
رفضاً فإنّي رافضي
وقيل : هم ولد عبد المطلب . يدلّ عليه ما حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي ، حدثنا أبو الحسن المحمودي ، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمران الأرسابندي حدثنا هَديَّة بن عبد الوهّاب ، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن زياد اليمامي ، عن إسحاق بن أبي عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنّة ، أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي ) .
علي بن موسى الرضا : حدثني أبي موسى بن جعفر ، حدثني أبي جعفر بن محمد ، حدثني أبي محمد بن علي ، حدثني أبي علي بن الحسين ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها ، فأنا أجازيه غداً إذا لقيني في يوم القيامة ) .
وقيل : الّذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الّذين لم يقترفوا في جاهلية ولا إسلام . يدل عليه قوله تعالى : ) واعلموا إنّما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى ( ، وقوله : ) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرّسول ولذي القربى ( ، وقوله : ) وآتِ ذى القربى حقه ( .
أخبرنا عقيل بن محمّد أجازة ، أخبرنا أبو الفرج البغدادي ، حدثنا محمّد بن جدير ، حدثنا أبو كرير ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلم حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس ، قال : قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا فكأنهم مخزوك ، فقال ابن عباس أو العباس : شل عبد السلم لنا الفضل عليكم . ( فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتاهم في مجالسهم . فقال : ( يامعشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟ ) . قالوا : بلى يارسول الله . قال : ( ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟ ) . قالوا : بلى يارسول الله . قال : ( أفلا تجيبوني ؟ ) . قالوا : ما نقول يارسول
(8/312)

" صفحة رقم 313 "
الله ؟ . فقال : ( ألا تقولون ، ألم يخرجك قومك فآويناك ، أو لم يكذّبوك فصدقناك ، أو لم يخذلوك فنصرناك ؟ ) .
قال : فما زال يقول حتّى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله تعالى ولرسوله . قال : فنزلت ) قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ( .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه ، حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة ، حدثنا عبيد بن شريك البزاز ، حدثنا سلمان بن عبد الرّحمن بن بنت شرحبيل ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا يحيى بن بشير الأسدي ، عن صالح بن حيان الفزاري عبد الله بن شداد بن الهاد عن العباس ابن عبد المطلب إنّه ، قال : يارسول الله مابال قريش يلقى بعضهم بعضاً بوجوه تكاد أن تسايل من الود ، ويلقوننا بوجوه قاطبة ، تعني باسرة عابسة ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( أَوَ يفعلون ذلك ؟ ) . قال : نعم ، والّذي بعثك بالحقّ . فقال : ( أمّا والّذي بعثني بالحقّ ، لا يؤمنوا حتّى يحبّوكم لي ) .
وقال قوم : هذه الآية منسوخة فإنّما نزلت بمكّة وكان المشركون يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم فيها بمودة رسول الله وصلة رحمه . فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار وعزروه ونصروه أحبّ الله تعالى أن يلحقه بأخوانه من الأنبياء ( عليهم السلام ) حيث قالوا : ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين ( ، فأنزل الله تعالى عليه ) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلاّ على الله ( ، فهي منسوخة بهذه الآية وبقوله : ) قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلّفين ( ، وقوله : ) وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلاّ ذكر للعالمين ( ، وقوله : ) أم تسألهم خرجاً فخراج ربّك خير ( ، وقوله : ) أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون ( وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل .
وهذا قولٌ غير قوي ولا مرضي ، لأنّ ما حكينا من أقاويل أهل التأويل في هذه الآية لا يجوز أن يكون واحد منها منسوخاً ، وكفى فتحاً بقول من زعم إنّ التقرب إلى الله تعالى بطاعته ومودة نبيه وأهل بيته منسوخ
(8/313)

" صفحة رقم 314 "
والدليل على صحة مذهبنا فيه ، ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني ، أخبرنا أبو عبد الله بن محمّد بن علي بن الحسين البلخي ، حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق ، حدثنا محمد بن أسلم الطوسي ، حدثنا يعلي بن عبيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله البجلي ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات على حبِ آلِ محمّد مات شهيد ، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له ، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد بشره ملك الموت بالجنّة ثم منكراً ونكيراً ، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله تعالى زوار قبره ملائكة الرحمن ، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان من الجنّة . ألاّ ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألاّ ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألاّ ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة ) .
) وَمَن يَقتَرِف حَسَنَةً ( يكتسب طاعة . ) نَّزِد لَهُ فِيهَا حُسناً ( بالضعف . ) إنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ( . أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه ، حدثنا ابن حنش المقري ، حدثنا أبو القاسم بن الفضل ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا إسماعيل بن موسى ، حدثنا الحكم بن طهر ، عن السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله : ) ومن يقترف حسنة نَّزد لهُ فيها حسناً ( ، قال : المودة لآل محمّد ( صلى الله عليه وسلم )
2 ( ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاَْرْضِ وَلَاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ ( 2
الشورى : ( 24 ) أم يقولون افترى . . . . .
) أَم يَقُولُونَ ( يعني كفّار مكّة . ) أَفتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً . فَأَن يَشَإِ اللهُ يَختِم عَلَى قَلبِكَ ( . قال مجاهد : يعني يربط عليه بالصبر حتّى لا يشق عليك أذاهم ، وقال قتادة : يعني يطبع على قلبك فينسيك للقرآن ، فأخبرهم إنّهُ لو افترى على الله لفعل به ما أخبرهم في الآية .
ثمّ ابتدأ ، فقال عزّ من قائل : ) وَيَمحُ اللهُ البَاطِلَ ( . قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير
(8/314)

" صفحة رقم 315 "
مجازه : الله يمحو الباطل . فحذفت منه الواو في المصحف ، وهو في وضع رفع كما حذفت من قوله : ) ويدع الإنسان ( ) سندُع الزّبانية ( على اللفظ .
) ويحق الحق بكلماته ( ) إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُدُورِ ( قال ابن عباس : لما نزلت ) لا أسألكم عليه أجراً . . . ( وقع في قلوب قوم منها شيء ، وقالوا : ما يريد إلاّ أن يحثنا على أقاربه من بعده . ثمّ خرجوا ، فنزل جبريل ( عليه السلام ) فأخبره إنّهم اتهموه وأنزل هذه الآية ، فقال القوم : يا رسول الله فإنّا نشهد إنّك صادق ، فنزل
الشورى : ( 25 ) وهو الذي يقبل . . . . .
) وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبَادِهِ ( وأختلفت عبارات العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها .
أخبرنا الإمام أبو القاسم الحسن بن محمّد بن حبيب بقراءته عليّ . في شهور سنة ثمان وثمانين وثلثمائة ، حدثنا محمّد بن سليمان بن منصور ، حدثنا محمّد مسكان بن جبلة بسّاوة . أخبرنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود عن إبراهيم بن طهمّان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، قال : دخل إعرابي مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : اللَّهمّ إنّي استغفرك وأتوب إليك ، سريعاً وكبّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي : يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين ، وتوبتك تحتاج إلى توبة ، قال : يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟ قال : اسم يقع على ستة معاني : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، وردّ المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما أذبتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كُلّ ضحك ضحكته .
وسمعت الحسن بن محمّد بن الحسن ، يقول : سمعت إبراهيم بن يزيد ، يقول : سمعت حسن بن محمّد الترمذي يقول : قيل لأبي بكر محمّد بن عمر الوراق : متى يكون الرجل تائباً ؟ فقال : إذا رجع إلى الله فراقبه واستحياهُ وخاف نقمته فيما عصاه ، وألتجاء إلى رحمته فرجاه ، وذكر حلمه في ستره فأبكاه ، وندم على مكروه أتاه ، وشكر ربّه على ما أتاه ، وفهم عن الله وعظه فوعاه ، وحفظ عهده فيما أوصاه .
وسمعت الحسن بن محمّد بن حبيب ، يقول : سمعت أبا منصور محمّد بن محمّد بن سمعان المذكر ، يقول : سمعت أبا بكر بن الشاه الصوفي الفارسي ، يقول : سئل الحرب بن أسد المحاسبي : من التائب ؟ فقال : من رأى نفسه من الذنوب معصوماً ، وللخيرات موفقاً ، ورأى الفرح من قلبه غائباً والحزن فيه باقياً ، وأحبّه أهل الخير ، وهابه أهل الشّر ، ورأى القليل من الدّنيا كثيراً ، ورأى الكثير من عمل الآخرة قليلاً ، ورأى قلبه فارغاً من كلّ ما ضمن له ، مشتغلا
(8/315)

" صفحة رقم 316 "
ً بكلّ ما أمر به .
وقال السري بن المغلس السقطي : التوبة صدق العزيمة على ترك الذنوب ، والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب ، والندامة على ما فرط من العيوب ، والاستقصاء في المحاسبة مع النفس بالاستكانة والخضوع .
وقال عمرو بن عثمان : ملاك التوبة إصلاح القوت .
وسمعت أبا القاسم بن أبي بكر بن عبد الله البابي ، يقول : سمعت أبا يعلي حمزة بن وهب الطبري ، يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني ، يقول : سمعت يحيى بن معاذ ، وسئل : من التائب ؟ فقال : من كسر شبابه على رأسه وكسر الدّنيا على رأس الشيطان ، ولزم الفطام حتّى أتاه الحمام .
وقال سهل بن عبد الله : التوبة ، الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة ، وسئل ابن الحسن البوشيخي : عن التوبة ؟ فقال : إذا ذكرت الذنب فلا تجد حلاوته في قلبك .
وقال الراعي : التوبة ترك المعاصي نيةً وفعلاً ، والإقبال على الطاعة نيةً وفعلاً ، وسمعت أبا القاسم الحبيبي ، يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن عماد البغدادي ، يقول : سئل جنيد : من التائب ؟
فقال : من تاب عما دون الله .
وقال شاه الكرماني : إترك الدّنيا وقد تبت وخالف هواك وقد وصلت ، ويعفو عن السيئات إذا تابوا فيمحوها .
أخبرنا الحسن بن محمّد بن الحسن بن جعفر ، حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن سواد ، حدثنا عطيه بن لفته ، حدثنا أبي ، حدثنا الزبيري ، عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله تعالى أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الظمآن الوارد . فمن تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وبقاع الأرض خطاياه وذنوبه ) . أو قال : ( ذنوبه وخطاياه ) .
) وَيَعلَمُ مَا تَفعَلُونَ ( . قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف بالتاء ، وهي قراءة عبد الله وأصحابه ، ورواية حفص عن عاصم غيرهم بالياء ، وهي اختيار أبي عبيد ، قال : لأنّه لمن خبرني عن قوم . قال قبله : عن عباده ، وقال بعده : ويزيدهم من فضله
(8/316)

" صفحة رقم 317 "
الشورى : ( 26 ) ويستجيب الذين آمنوا . . . . .
) وَيَستَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ ( أي يطيع الّذين آمنوا ربّهم في قول بعضهم . جعل الفعل للّذين آمنوا ، وقال الآخرون : ) ويستجيب الله الّذين آمنوا ( جعلوا الإجابة فعل الله تعالى ، وهو الأصوب والأعجب إليَّ لأنّه وقع بين فعلين لله تعالى : الأول قوله : ) يَقْبَلُ ( والثاني ) ويزيدهم من فضله ( ، ومعنى الآية : ويجيب الله المؤمنين إذا دعوه ، وقيل : معناه نجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، حدثنا أبو معاوية بن الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن سلمة بن سبره ، قال : خطبنا معاذ بالشام ، فقال : أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنّة والله إنّي لأرجو أن يدخل الجنّة من تسبون من فارس والرّوم وذلك بأن أحدهم إذا عمل لأحدكم العمل ، قال : أحسنت يرحمك الله أحسنت بارك الله فيك ويقول الله سبحانه وتعالى : ) ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ) وَيَزيدُهُم مّن فَضلِهِ . وَالكَافِرُونَ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ ( .
أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي ، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي ، حدثني أبو أحمد عبد الله بن أحمد الزعفراني الهمذاني ، حدثنا محمد بن الحسين بن قتيبة بعسقلان ، حدثنا محمد بن أيوب بن سويد ، حدثني أبي ، عن أبي بكر الهذلي ، عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله تعالى : ) ويستجيب الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات ( ، قال : تشفّعهم في إخوانهم . ) ويزيدهم من فضله ( . قال : في إخوان إخوانهم .
الشورى : ( 27 ) ولو بسط الله . . . . .
) وَلَو بَسَطَ اللهُ الرِزقَ لِعِبَادِهِ ( . الآية نزلت في قوم من أهل الصفّة تمنوا سعة الدّنيا والغنى . قال خباب بن لادن : فينا نزلت هذه الآية وذلك إنّا نظرنا إلى بني قريظة والنضير وبني القينقاع ، فتمنيناها فأنزل الله تعالى ) ولو بسط الله ( أي وسع الرزق لعباده .
) لَبَغَوا فِي الأَرضِ ( أي لطغوا وعصوا . قال ابن عباس : بغيهم ظلماً ، منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس .
أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم التبستاني الإصبهاني ، حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن العباس العصمي الهروي ، أخبرني محمد بن علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن صالح الكرابيسي ، يقول : سمعت قصير بن يحيى يقول : قال : شقيق بن إبراهيم في قول الله تعالى : ) ولو بسط الله الرّزق لعباده لبغوا ( ، قال : لو رزق الله العباد من غير كسب وتفرغوا عن المعاش والكسب لطغوا في الأرض وبغوا وسعوا في الأرض فساداً ، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش رحمة منه وامتناناً .
) وَلكِن يُنزِلَ بِقَدَر مَّا يَشَاءُ ( أرزاقهم ) بقدر ما يشاء ( لكفايتهم . قال مقاتل : ) ولكن ينزّل بقدر ما يشاء ( فجعل واحداً فقيراً وآخراً غنياً
(8/317)

" صفحة رقم 318 "
) إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ( . قال قتادة : في هذه الآية كان يقال : خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك ، وذكر لنا إنّ نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أخوف ما أخاف على أمتي ، زهرة الدّنيا وكثرتها ) .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا أبو جعفر محمد بن الغفار الزرقاني ، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا صدقة بن عبد الله ، حدثنا عبد الكريم الجزري ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن جبريل ( عليه السلام ) ، عن ربّه عزّ وجلّ قال : ( من أهان لي وليّاً ، فقد بارزني بالمحاربة ، وإنّي لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، وإنّي لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ، ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره إساءته ، ولا بد له منه ، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولسانا ويداً ومؤيداً ، إن سألني أعطيته وإن دعاني استجبت له وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، ولو أعطيته إياه دخله العجب فأفسده ، وإنّ من عبادي المؤمنين ، لمن لا يصلحه إلاّ السقم ولو صححته لأفسدهُ ذلك ، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلاّ الصحّة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلاّ الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلاّ الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك . إنّي أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم إنّي عليمٌ خبيرٌ ) .
قال صدقة : وسمعت أبان بن أبي عياش يحدث بهذا الحديث ، عن أنس بن مالك ثمّ يقول : اللّهمّ إنّي من عبادك المؤمنين الّذين لا يصلحهم إلاّ الغنى فلا تفقرني .
الشورى : ( 28 ) وهو الذي ينزل . . . . .
) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِلُ الغَيثَ ( يعني المطر ، سمي بذلك لأنّه يغيث النّاس أي يجيرهم ويصلح حالهم .
قال الأصمعي : مررت ببعض قبائل العرب وقد مطروا ، فسألت عجوز منهم ، كم أتاكم المطر ؟ فقالت : غثنا ما شئنا .
) مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ ( ويبسط مطره نظيره قوله : ) وهو الّذي يرسل الرياح بشراً بين يديه رحمته ( .
أخبرنا شعيب بن محمد ، أخبرنا أبو الأزهر ، حدثنا روح ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال :
(8/318)

" صفحة رقم 319 "
ذُكر لنا أنّ رجلاً أتى عمر بن الخطابح ، فقال : ياأمير المؤمنين قحط المطر وقنط النّاس . قال : مطرتم ، ثمّ قال : ) وهو الّذي ينزّل الغيث من بعدما قنطوا وينشُرُ رحمته ( .
) وَهُوَ الوَلِيُّ الحُمِيدُ ( .
2 ( ) وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاَْعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ( 2
الشورى : ( 29 - 30 ) ومن آياته خلق . . . . .
) وَمِن آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَثَّ فِيِهُما مِن دَابَّة . وَهُوَ عَلَى جَمعِهِم إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُم مِن مُّصيبَة فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم ( من الإجرام والآثام . ) وَيَعفُو عَن كَثِير ( منها فلا يؤاخذكم بها .
وقرأ أهل المدينة والشام ( بما ) بغير ( فاء ) ، وكذلك هي في مصاحفهم ، وقرأ الباقون ) فبما ( ، بالفاء ، وكذلك في مصاحفهم وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم .
أخبرنا الحسين بن محمد المقري ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب ، حدثنا رضوان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا أبو معاوية الضرير عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية ) وما أصابكم من مُّصيبة فبما كسبت أَيديكم ويعفو عن كثير ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلاّ بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر ) .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا بشر بن موسى الأسدي ، حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثني الأزهر بن راشد الكاهلي ، عن الخضر بن القواس العجلي ، عن أبي سخيلة ، قال : قال علي بن أبي طالب ح : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما أصابكم من مُّصيبة فبما كسبت أَيديكم ويعفو عن كثير ( ، قال : ( وسأفسرها لك يا عليَّ : ما أصابكم في الدنيا من بلاء أو
(8/319)

" صفحة رقم 320 "
مرض أو عقوبة فاللّه أكرم من أن يثنّي عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه ) .
قال : بإسناده عن خلف بن الوليد ، عن المبرك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : دخلنا على عمران بن الحصين في مرضه الشديد الّذي أصابه ، فقال رجل منّا : إنّي لا بد أن أسألك عما أرى من الوجع بك ، فقال عمران : يا أخي لا تفعل فوالله أن أحبّه إليَّ أحبّه إلى الله تعالى . قال الله تعالى : ) وما أصابكم من مُّصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ( . هذا بما كسبت يداي وعفو ربّي تعالى فيما بقي .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا موسى بن محمّد بن علي ، حدثنا جعفر بن محمد الفرماني ، حدثنا أبو خثيمه مصعب بن سعيد ، حدثنا زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن مرة الهمذاني ، قال : رأيت على ظهر كف شريح قرحة ، قلت : يا أبا أمامة ما هذا ؟ قال : ) بما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ( .
أخبرنا الحسين بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني إبراهيم بن الحسن الباهلي المقري ، حدثنا حمّاد بن زيد أبو إسماعيل عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، قال : لما ركبه الدَّين اغتمّ لذلك ، فقال : إنّي لأعرف هذا العلم ، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا أبو بشر أحمد بن بشر الطيالسي ، حدثني بعض أصحابنا ، عن أحمد بن الحواري ، قال : قيل لأبي سلمان الدارابي : ما بال العقلاء أزالوا اللّوم عمن أساء إليهم ؟ قال : لأنّهم علموا أنّ الله تعالى إنّما ابتلاهم بذنوبهم ، قال الله تعالى : ) ما أصابكم من مُّصيبة فبما كسبت أيديكم ( .
أخبرنا إبن فنجويه ، حدثنا محمد بن عبد الله بن ( برزة ( ، حدثنا اسماعيل بن اسحاق القاضي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا ليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سعد بن سنان ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا أراد الله تعالى بعبدِه الخير عجّل له العقوبة في الدّنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشّر أمسك عليه بذنبه حتّى يوافي به يوم القيامة ) .
وقال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها إلاّ بذنب لم يكن الله ليغفر له إلاّ بها ، أو درجة لم يكن الله ليبلّغه إلاّ بها
(8/320)

" صفحة رقم 321 "
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن رجاء ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي داود ، عن الضحاك ، قال : ما تعلمَّ رجلٌ القرآن ثمّ نسيه إلاّ بذنب ، ثمّ قرأ ) وما أصابكم من مُّصيبة فبما كسبت أيديكم ( ، ثمّ قال : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن . وقال الحسن في هذه الآية : هذا في الحدود .
الشورى : ( 31 ) وما أنتم بمعجزين . . . . .
) وَمَا أَنتُم بِمُعجِزِينَ فِي الأَرضِ ( هرباً . ) وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن وَليّ وَلاَ نَصِير }
الشورى : ( 32 ) ومن آياته الجوار . . . . .
) وَمِن آيَاتِهِ الجَوَارِ ( يعني السّفن ، واحدتها جارية وهي السائرة في البحر ، قال الله تعالى : ) حملناكم في الجارية ( .
) فِي البَحرِ كَالأَعلاَمِ ( أي الجبال ، مجاهد : القصور ، واحدها علم .
وقال الخليل بن أحمد : كلّ شيء مرتفع عند العرب فهو علم .
قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً :
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به
كأنّه علم في رأسه نار
الشورى : ( 33 ) إن يشأ يسكن . . . . .
) إن يَشَأ يُسكِنِ الرِيحَ فَيَظلَلنَ رَوَاكِدَ ( ثوابت وقوفاً ) عَلَى ظَهرِهِ ( أي على ظهر الماء . ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِكُلِ صَبَّار شَكُور }
الشورى : ( 34 ) أو يوبقهن بما . . . . .
) أَو يُوبِقهُنَّ ( يهلكهنّ . ) بِمَا كَسَبُوا ( أي بما كسب أصحابها وركبانها من الذنوب . ) وَيَعفُ عَن كَثِير ( فلا يعاقب عليها ويعلم .
قرأ أهل المدينة والشام بالرفع على الاستئناف كقوله في سورة براءة : ) ويتوبُ اللهُ على من يشاء ( ، وقرأها الآخرون نصباً على الصرف كقوله تعالى : ) ويعلم الصابرين ( صرف من حال الجزم إلى النصب استحقاقاً وكراهة لعوال الجزم ، كقول النابغة :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك
ربيع النّاس والشهر الحرامُ
ونمسك بعده بذناب عيش
أجبّ الظهر له سنامُ
وقال آخر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
(8/321)

" صفحة رقم 322 "
الشورى : ( 35 ) ويعلم الذين يجادلون . . . . .
) وَيَعلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِن مَّحِيص ( محيد عن عقاب الله تعالى .
الشورى : ( 36 ) فما أوتيتم من . . . . .
) فَمَا أُوتِيتُم مِن شَيء ( من رياش الدّنيا وقماشها . ) فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا ( وليس من زاد المعاد . ) وَمَا عِندَ اللهِ ( من الثواب . ) خَيرٌ وَأَبقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِهِم يَتَوكَّلُون (
الشورى : ( 37 ) والذين يجتنبون كبائر . . . . .
) وَالَّذِينَ يَجتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثمِ ( .
قرأ يحيى بن رثاب وحمزة والكسائي وخلف هاهنا وفي سورة النجم ( كبير ) على التوحيد وفسروه الشرك عن ابن عباس ، وقرأ الباقون ) كبائر ( بالجمع في السورتين ، وقد بينا اختلاف العلماء في معنى ) الكبائر ( والفواحش . قال السدّي : يعني الزنا ، وقال مقاتل : موجبات الخلود .
) وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُم يَغفِرُونَ ( يتجاوزون ويتحملون .
2 ( ) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلواةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( 2
الشورى : ( 38 ) والذين استجابوا لربهم . . . . .
) وَالَّذِينَ استَجَابُوا لِرَبِهِم وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ ( ، وقيل هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق ح . حين لامه النّاس على إنفاق ماله كلّه ، وحين شُتم فحلم .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا إسحاق بن صدقة ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، حدثنا سيف بن عمر ، عن عطية ، عن أيوب ، عن علي ح قال : اجتمع لأبي بكر ذ مال مرة فتصدق به كلّه في سبيل الخير ، فلامه المسلمون وخطّأه الكافرون ، فأنزل الله تعالى : ) فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدّنيا ( . . . إلى قوله : ) وممّا رزقناهم ينفقون (
(8/322)

" صفحة رقم 323 "
خص به أبا بكر وعم به من اتبعه .
الشورى : ( 39 ) والذين إذا أصابهم . . . . .
) وَالَّذين إِذَا أَصَابَهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصِرُونَ ( ينتقمون من ظالميهم من غير أن يعتدوا .
وقال مقاتل : هذا في المجروح ينتصر من الجارح فيقتص منه . قال إبراهيم : في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفو له .
الشورى : ( 40 ) وجزاء سيئة سيئة . . . . .
) وَجَزَاءُ سَيِئَة سَيِئَةٌ مِثلُهَا ( سمي الجزاء بإسم الإبتداء وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة . قال ابن نجيح : هو أن يجاب قائل الكلمة القبيحة بمثلها ، فإذا قال : أخزاه الله . يقول له : أخزاه الله ، وقال السدّي : إذا شتمك بشتمة فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا إبن حنش المقري ، حدثنا أبو القاسم بن الفضل ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر ، قال سفيان بن عيينة : قلت لسفيان الثوري : ما قوله تعالى : ) وجزاءُ سيئة سيئةٌ مثلها ( أن يشتمك رجل فتشتمه ؟ ، أو أن يفعل بك فتفعل به ؟ فلم أجد عنده شيئاً فسألت هشام بن حجير عن هذه الآية ، فقال : الجارح إذا جرح تقتص منه وليس هو أن يسبك فتسبه .
وقال سفيان : وكان إبن شبرمة يقول : أليس بمكّة مثل هشام بن حجير فمن عفا فلم ينتقم . قال ابن عباس : فمن ترك القصاص وأصلح ، وقال مقاتل : وكان العفو من الأعمال الصالحة فأجره على الله .
قال ابن فنجويه العدل ، حدثنا محمد بن الحسن بن بشر ، أخبرنا أبو العباس محمد بن جعفر بن ملاس الدمشقي ، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن بشر القريشي ، حدثنا زهير بن عباد المدائني ، حدثنا سفيان بن عينية عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم القيامة ، نادى مناد من كان له على اللهِ أجرٌ ، فليقم ، قال : فيقوم عنق كثير . قال : فقال : ما أجركم على الله ، فيقولون : نحن الّذين عفونا عمّن ظلمنا ، وذلك قوله تعالى : ) فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللهِ ( فيقال لهم : ادخلوا الجنّة بإذن الله ) .
) إنَّهُ ( إنَّ الله ) لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( . قال ابن عباس : الّذين يبدأون بالظلم .
الشورى : ( 41 - 44 ) ولمن انتصر بعد . . . . .
لقوله تعالى : ) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ . فَأُولئِكَ مَا عَليهِم مِن سَبِيل إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظلِمُونَ النَّاسِ ( .
مبتدئين به . ) وَيَبغُونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِ أُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمن صَبَرَ وَغَفَرَ ( . فلم يكاف . ) إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمُورِ ( وحزمها . ) وَمَن يُظلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ من وَلِيّ مِن بَعدِهِ ( يهديه أو يمنعه من عذاب الله .
(8/323)

" صفحة رقم 324 "
) وَتَرى الظَّالِمِينَ ( الكافرين . ) لمَّا رَأوُا العَذَابَ يَقُولُونَ هَل إِلَى مَرَدّ ( رجوع إلى الدّنيا . ) مِن سَبِيل }
الشورى : ( 45 ) وتراهم يعرضون عليها . . . . .
) وتَرَاهُم يُعرَضُونَ عَلَيهَا ( أي على النّار ) خَاشِعِينَ ( خاضعين متواضعين ) مِن الذُّلِ يَنظُرُونَ مِن طَرف خَفِيّ ( ذليل قد خفي من الذّلِ . قاله ابن عباس ، وقال مجاهد وقتادة والسدّي والقرظي : سارقو النظر .
واختلف العلماء باللغة في وجه هذه الآية ، فقال يونس : من بمعنى الياء ، مجازه : بطرف خفيّ ، أي ضعيف من الذل والخوفِ ، وقال الأخفش : الطرف العين ، أي ينظرون من عين ضعيفة ، وقيل : إنّما قال : ) من طرف خفيّ ( لأنه لا يفتح عينه إنّما ينظر ببعضها ، وقيل معناه : ينظرون إلى النّار بقلوبهم لأنّهم يحشرون عمياً ، والنظر بالقلب خفيّ .
) وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَاب مُّقِيم ( دائم .
الشورى : ( 46 ) وما كان لهم . . . . .
) وَمَا كَانَ لَهُم مِن أَولِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِن دُونِ اللهِ . وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيل ( طريق للوصول إلى الحقّ في الدّنيا والجنّةِ في العقبى ، قد إنسدت عليه طرق الخير .
الشورى : ( 47 ) استجيبوا لربكم من . . . . .
) استَجِيبُوا لِرَبِكُم ( بالإيمان والطاعة . ) مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِن اللهِ . مَا لَكُم مِن مَّلجَإ ( معقل . ) يَومَئِذ وَمَا لَكُم مِن نَّكِير ( منكم يغير ما بكم .
الشورى : ( 48 - 49 ) فإن أعرضوا فما . . . . .
) فَإن أَعرَضُوا فَمَا أَرسَلنَاكَ عَلَيهِم حَفِيظاً . إِن عَلَيكَ إِلاَّ البَلاَغُ . وَإِنَّا إِذَا أَذَقنَا الإنسَانَ مِنَّا رَحمَةً فَرِحَ بِهَا وإِن تُصِبهُم سَيِئَةٌ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم فَإِنَّ الإنسَانَ كَفُورٌ للهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ . يَخلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً ( فلا يكون له ولد ذكر .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه ، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي ، حدثنا محمد بن الحسين الفرج ، حدثنا أحمد بن الخليل القومي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حكيم بن حزام أبو سمير ، عن مكحول ، عن واثله بن الأسقع ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ من يمن المرأة تبكيرها بالأُنثى قبل الذّكر ، وذلك إنّ الله تعالى يقول : ) يَهَبُ لمن يشاءُ إِناثاً ويهبُ لمن يشاءُ الذُّكُور ( . ألا ترى إِنّه بدأ بالإناث قبل الذّكور ) .
) وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ( فلا يكون له أُنثى . ) أَو يُزوِجُهُم ذُكرَاناً وَإِنَاثاً ( يجمع بينهما فيولد له الذُّكور والإِناث . تقول العرب : زوّجت وزوجت الصغار بالكبار . أي قرنت بعضها ببعض .
أخبرنا بن فنجويه ، حدثنا طلحة وعبيد ، قالا : حدثنا ابن مجاهد ، حدثنا الحسين بن علي ابن العباس ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا عبيد الله ، عن إسماعيل بن سلمان ، عن أبي عمر
(8/324)

" صفحة رقم 325 "
عن إبن الحنفية في قوله تعالى : ) أو يُزوّجُهم ذُّكراناً وإِناثاً ( . قال : التوائم .
) وَيَجعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً ( فلا يلد ولا يُولد له .
أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن علوية ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، في قول الله تعالى : ) يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذُّكور (
الشورى : ( 50 ) أو يزوجهم ذكرانا . . . . .
) أو يزوجهم ذّكراناً وإناثاً ويجعلُ من يشاءُ عقيماً ( قال : نزلت في الأنبياء ( عليهم السلام ) ثمّ عمّت ، ) يهب لمن يشاء إناثاً ( يعني لوطاً ( عليه السلام ) لم يولد له ذّكر إنّما ولد له ابنتان . ) ويهب لمن يشاءُ الذّكور ( ويعنى إبراهيم ( عليه السلام ) لم يولد له أنثى ) أو يزوجهم ذكراناً وأناثاً ( يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولد له بنون وبنات ) ويجعل من يشاء عقيماً ( يعني يحيى وعيسى ( عليهم السلام ) .
) إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( .
أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد بن محمد المخلدي إملاء ، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك ابن محمد بن عدي ، حدثنا عمار بن رجاء وعلي بن سهل بن المغيرة ، قالا : حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا أبو حمزة السّكري المروزي ، عن إبراهيم الصائغ عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود ، عن عائشة ( خ ) . قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ أولادكم هبة ( الله ) لكم ) يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذُّكور ( ( فهم ) وأموالهم لكم إذا إحتجتم إليها ) .
قال علي بن الحسن : سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث .
( ) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِىإِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاُْمُورُ ( 2
الشورى : ( 51 ) وما كان لبشر . . . . .
) وَمَا كَانَ لِبشَر أن يُكَلِمَهُ اللهُ ( الآية وذلك إنّ اليهود قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فإنّا لا نؤمن لك حتّى تفعل ذلك . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لم
(8/325)

" صفحة رقم 326 "
ينظر موسى إلى الله ) فأنزل الله تعالى : ) وما كان لبشر أن يكلمه الله ( ) إِلاَّ وَحياً ( يوحي إليه كيف يشاء إما بالإلهام أو في المنام . ) أَو مِن وَرَاءِ حِجَاب ( بحيث يسمع كلامه ولا يراه كما كلم موسى ( عليه السلام ) ) أَو يُرسِلَ رَسُولاً ( . إليه من ملائكة ، إما جبريل وإما غيره . ) فيُوحيَ بإذنِهِ ما يشاءُ ( .
قرأ شيبة ونافع وهشام ( أو يُرسل ) برفع اللام على الابتداء ( فيوحي ) بإسكان الياء ، وقرأ الباقون بنصب اللام والياء عطفاً بهما على محلّ الوحي لأنّ معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ أن يوحي أو يرسل .
) إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (
الشورى : ( 52 ) وكذلك أوحينا إليك . . . . .
) وَكَذلِكَ ( أي وما أوحينا إلى سائر رُسلنا كذلك . ) أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِن أَمرِنَا ( . قال الحسن : رحمة . ابن عباس : نبوة . السدّي : وحياً . الكلبي : كتاباً . ربيع : جبريل . ملك بن دينار : يعني القرآن ، وكان يقول : يا أصحاب القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم فإنّ القرآن ربيع القلوب كما الغيث ربيع الأرض .
) مَا كُنتَ تَدرِي ( قبل الوحي . ) مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( يعني شرائع الإيمان ومعالمه .
وقال أبو العالية : يعني الدعوة إلى الإيمان ، وقال الحسين بن الفضل : يعني أهل الإيمان من يؤمن ومن لا يؤمن ، وقال محمد بن إسحاق بن جرير : الإيمان في هذا الموضع الصلاة . دليله قوله تعالى : ) وما كان اللهُ ليضيعَ إيمانكم ( .
) وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُوراً ( وحّد الكتابة وهما اثنان : الإيمان والقرآن ؛ لأن الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل ، ألا ترى إنّك تقول إقبالك وإدبارك يُعجبني فيوحّدوه وهما إثنان .
وقال ابن عباس : ( ولكن جعلناه ) يعني الإيمان ، وقال السُدّي : يعني القرآن .
) نَّهدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِن عِبَادِنَا . وَإِنَّكَ لَتَهدِي ( لتُرشد وتدعوا . ) إِلَى صِرَاط مُّستَقِيم (
الشورى : ( 53 ) صراط الله الذي . . . . .
) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ . أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ( أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، حدثنا أحمد بن محمد بن شاذان ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا صالح بن محمد ، قال : سمعت أبا معشر يحدّث ، عن سهل بن أبي الجعداء وغيره . قال : إحترق مصحف فلم يبق إلاّ قوله سبحانه وتعالى : ) أَلا إلى اللهِ تَصيرُ الأُمُورُ ( وغرق مصحف فإمتحى كُلّ شيء فيه إلاَّ قوله : ) أَلا إلى اللهِ تَصيرُ الأُمُورُ ( .
(8/326)

" صفحة رقم 327 "
( سورة الزخرف )
مكّية ، وهي تسع وثمانون آية ، وثمانمائة وثلاثوثلاثون كلمة ، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف
أخبرنا ابن المقري ، أخبرنا إبن مطر ، حدثنا ابن شريك ، حدثنا ابن يونس ، حدثنا سلام بن سليم ، حدثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن أُبي بن كعب . قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الزّخرف كان ممن يقال له يوم القيامة : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون إدخلوا الجنّة بغير حساب ) . قوله تعالى :
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِىأُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاَْوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الاَْوَّلِينَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالاَْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ( 2
الزخرف : ( 1 - 3 ) حم
) حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآناً عَرَبِيًّا ( . أي أنزلناه وسميناه وبيّناه ووصفناه . كقوله تعالى : ) ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ( ، وقوله : ) وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمان إناثاً ( ، وقوله : ) جعلوا القرآن عضين ( ، وقوله تعالى : ) أَجعلتم سقاية
(8/327)

" صفحة رقم 328 "
الحاج ( . كلّها بمعنى الوصف والتسمية ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق . ) لَّعَلَّكُم تَعقِلُونَ (
الزخرف : ( 4 ) وإنه في أم . . . . .
^) وَإِنَّهُ ( يعني هذا الكتاب . ) فِي أُمِ الكِتَابِ ( يعني اللوح المحفوظ الّذي عند الله تعالى منه ينسخ ، وقال قتادة : أصل الكتاب وجملته .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا مكي بن عيدان ، حدثنا عبد الله بن هاشم بن حيان ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا هشام الدستوائي ، حدثني القاسم بن أبي يزه ، حدثني عروة بن عامر القريشي ، قال : سمعت ابن عباس يقول : إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم وأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق والكتاب عنده ثمّ قرأ ) وإنه في أم الكتاب ( ) لَدَينَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (
الزخرف : ( 5 ) أفنضرب عنكم الذكر . . . . .
^) أَفَنَضرِبُ عَنكُمُ الذِكرَ صَفحاً ( . إختلفوا في معناه . فقال قوم : أفنضرب عنكم العذاب ونمسك ونعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم ، وهذا قول مجاهد والسدي ، ورواية الوالبي عن ابن عباس . قال : أفحسبتم إنّه يصفح عنكم ولما تعقلوا ما أَمرتم به ، وقال آخرون : معناه أفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنّكم لا تؤمنون به فلا ننزله ولا نكرره عليكم ، وهذا قول قتادة وإبن زيد .
وقال قتادة : والله لو كان هذا القرآن رُفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة . أو ما شاءَ الله من ذلك .
وقال الكلبي : أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم . الكسائي : أفنطوي عنكم الذكر طيًّا ، فلا تدعون ولا توعظون .
وهذا من فصيحات القرآن ، والعرب تقول لمن أَمسك عن الشيء وأعَرض عنه : ضرب عنه صفحاً ، والأصل في ذلك إنّك إذا أعرضت عنه ولّيته صفحة عنقك ، قال كثير :
صفوحاً فما تلقاك إلا بخيلَةً
فمن ملّ منها ذلك الوصل مَلّتِ
أي معرضة بوجهها ، وضربت عن كذا وأَضربت ، إذا تركته وأمسكت عنه .
) أَن كُنتُم ( قرأ أهل المدينة والكوفة إلاّ عاصماً أن تُكتب الألف على معنى إذ . كقوله : ) وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ( ، وقوله : ) إن أردن تحصّناً ( .
وقرأ الآخرون بالفتح على معنى لأنّ كنتم أرادوا على معنى المضي كما يقول في الكلام : أَسبّك إن حرمتني ، يريد إذا حرمتني . قال أبو عبيدة : والنّصبُ أَحبُّ إليَّ ؛ لأنّ الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم وعلمه قبل ذلك من فعلهم .
(8/328)

" صفحة رقم 329 "
) قَوماً مُّسرِفِينَ ( مُشركين متجاوزين أمر الله .
الزخرف : ( 6 - 7 ) وكم أرسلنا من . . . . .
) وَكَم أَرسَلنَا مِن نَّبِيّ فِي الأَوَّلِينَ وَمَا يَأتِيِهم ( . أي وما كان يأتيهم . ) مِن نَّبيّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَستَهزِءُونَ ( كاستهزاء قومك بك . يعزّي نبيه ( صلى الله عليه وسلم )
الزخرف : ( 8 ) فأهلكنا أشد منهم . . . . .
) فَأَهلَكنا أَشَدَّ منهم بَطشاً ( قوة . ) وَمَضَى مَثلُ الأَوَّلِينَ ( صفتهم وسنتهم وعقوبتهم .
الزخرف : ( 9 - 11 ) ولئن سألتهم من . . . . .
) وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ مَهداً وَجَعَلَ لَكُم فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُم تَهتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدر ( أي بمقدار حاجتكم إليه . ) فَأَنشَرنَا ( فَأحيّينا . ) بِهِ بَلدَةً مَّيتاً . كَذَلِكَ ( أي كما أحيّينا هذه البلدة الميتة بالمطر كذلك . ) تُخرَجُونَ ( من قبوركم أَحياء .
الزخرف : ( 12 - 13 ) والذي خلق الأزواج . . . . .
) وَالَّذِي خَلَقَ الأَزوَاجَ ( الأصناف . ) كُلَّها وَجَعَلَ لَكُم مِن الفُلكِ والأَنعَامِ مَا تَركَبُونَ لِتَستَوُا عَلَى ظُهُورِهِ ( ذكر الكناية لأنّه ردها إلى ما ، وقال الفراء : أضاف الظهور إلى الواحد لأنّه ذلك الواحد في معنى الجمع كالجند والجيش والرهط والخيل ونحوها من أسماء الجيش .
) ثُمَّ تَذكُرُوا نِعمَةَ رَبِكُم إِذَا استَوَيتُم عَلَيهِ وَتَقُولُوا سُبحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرِنِينَ ( أي مطبقين ضابطين قاهرين وهو من القرآن ، كأنّه أراد وما كنا مقاومين له في القوة .
الزخرف : ( 14 ) وإنا إلى ربنا . . . . .
) وَإِنَّا إِلَى رَبِنَا لَمُنقَلِبُونَ ( لمنصرفون في المعاد .
أخبرنا إبن فنجويه الدينوري ، حدثنا سعيد بن محمد بن اسحاق الصيرفي ، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شنبه ، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى ، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن علي بن ربيعة ، عن علي ح ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنّه كان إذا وضع رجله في الركاب ، قال : ( بسم الله ) فإذا إستوى على الدابة . قال : ( الحمد لله على كلّ حال ) سبحان الّذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون ( ) ، وكبّر ثلاثاً وهلل ثلاثاً .
وقال قتادة : في هذه الآية يُعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك والأنعام تقولون : ) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين 2 )
الزخرف : ( 15 ) وجعلوا له من . . . . .
) وَجَعَلُوا ( يعني هؤلاء المشركين ) لَهُ مِن عِبَادِهِ جُزءاً ( أي نصيباً وبعضاً .
وقال مقاتل وقتادة : عدلاً وذلك قولهم للملائكة هم بنات الله تعالى .
) إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ( .
2 ( ) وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن
(8/329)

" صفحة رقم 330 "
يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَاؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( 2
الزخرف : ( 16 ) أم اتخذ مما . . . . .
) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخلُقُ بَنَات وَأَصفَاكُم ( أخلصكم وخصصكم . ) بِالبَنِينَ ( نظيره قوله تعالى : ) أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا 2 )
الزخرف : ( 17 ) وإذا بشر أحدهم . . . . .
) وَإِذَا بُشِرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَربَ للرَّحمنا مَثَلاً ( يعني البنات . دليلها في النّحل ) ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدَّاً وَهُوَ كظِيمٌ ( من الحزن والغيظ .
الزخرف : ( 18 ) أو من ينشأ . . . . .
) أَوَمَن يُنَشَّؤُا ( قرأها أهل الكوفة بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على غير تسمية الفاعل . أي يُربي غيرهم ) يَنشَؤا ( بفتح الياء وجزم النون وتخفيف الشين ، أي ينبت ويكبر . ) فِي الحِليَةِ ( في الزينة ، يعني النساء . قال مجاهد : رخّص للنساء في الحرير والذهب ، وقرأ هذه الآية .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني ، حدثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب ، حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سعيد بن أبي هند ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي ، حلّ لأُناثهم )
(8/330)

" صفحة رقم 331 "
) وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبين ( للحجة من ضَعفهنَّ وسَفَههُنَّ . قال قتادة في هذه الآية : قلما تتكلم امرأة بحجّتها إلاّ تكلمت الحجة عليها ، وفي مصحف عبد الله ( وهو في الكلام غير مبين ) .
وقال بعض المفسرين : عني بهذه الآية أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها ويجلّونها ويزينونها وهي لا تتكلم ولا تنبس . قال ابن زيد : هذه تماثيلهم الّتي يضربونها من فضة وذهب ، وينشؤنها في الحلية يتعبدونها . في محلّ من ثلاثة وجوه : الرفع على الإبتداء ، والنصب على الإضمار ، مجازه : أو من ينشاء يجعلونه ربّاً أو بنات الله ، والخفض ردّاً على قوله : ) مما يخلق ( وقوله : ) بما صرت ( . .
الزخرف : ( 19 ) وجعلوا الملائكة الذين . . . . .
) وَجَعَلُوا المَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُم عِبَادُ الرَّحمنا إِنَاثاً ( قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة ) عباد الرّحمان ( بالألف والياء ، وأختاره أبو عبيد قال : لأن الإسناد فيها أعلى ولأنّ الله تعالى إِنّما كذبهم في قوله : ) بنات الله ( فأخبر إنّهم عبيده وليسوا بناته ، وهي قراءة ابن عباس .
أخبرنا محمد بن نعيم ، أخبرنا الحسين بن أيوب ، أخبرنا علي بن عبد العزيز ، أخبرنا القاسم بن سلام ، حدثنا هيثم عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، إنَّهُ قرأها ) عباد الرّحمان ( .
قال سعيد : فقلت لابن عباس : إنَّ في مصحفي عبد الرّحمن . فقال : إمسحها وإكتبها ) عباد الرّحمان ( ، وتصديق هذه القراءة ، قوله ) بل عبادٌ مكرمون ( ، وقرأ الآخرون عند الرّحمن بالنون وإختاره أبو حاتم ، قال : لأن هذا مدح ، وإذا قلت : ) عباد الرّحمان ( وتصديقها قوله تعالى : ) إن الذين عند ربك ( ) أَشَهِدُوا ( أَحَضِرُوا ) خَلقَهُم ( حتّى يعرفوا إنّهم أناث ، وقرأ أهل المدينة ) أَشهدوا ( على غير تسمية الفاعل أي أَحضروا . ) خلقهم ( حين خلقوا . ) سَتُكتَبُ شَهَادَتُهُم ( على الملائكة إنّهم بنات الله ) وَيُسئَلُونَ ( عنها .
الزخرف : ( 20 ) وقالوا لو شاء . . . . .
) وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحمانُ مَا عَبَدنَاهُم ( يعني الملائكة في قول قتادة ومقاتل والكلبي ، وقال مجاهد : يعني الأوثان ، وإنَّما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضا منا بعبادتها . قال الله تعالى : ) مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِن عِلم ( فيما يقولون ) إِن هُم إِلاَّ يَخرُصَونَ ( يكذبون .
الزخرف : ( 21 ) أم آتيناهم كتابا . . . . .
) أَم آتينَاهُم كِتَاباً مِن قَبلِهِ ( أي من قبل هذا القرآن . ) فَهُم بِهِ مُستَمسِكون (َ
الزخرف : ( 22 ) بل قالوا إنا . . . . .
) بَل قَالُوا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة ( دين . ) وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهتَدُون ( وقراءة العامة ( أُمة ) بضم الألف ، وهي
(8/331)

" صفحة رقم 332 "
الدين والملة ، وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد اَمة بكسر الألف وإختلفوا في معناها ، فقيل : هي الطريقة والمقصد من قولهم أممت ، وقيل : هي النعمة . قال عدي بن زيد : ثمّ بعد الفلاح والملك والأمة وأريهم هناك القبور ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد .
الزخرف : ( 23 ) وكذلك ما أرسلنا . . . . .
) وَكَذلِكَ مَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ فِي قَريَة مِن نَّذِير إِلاَّ قَالَ مُترَفَوهَا إنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقتَدُونَ ( مستنون متبعون .
الزخرف : ( 24 ) قال أولو جئتكم . . . . .
) قَالَ ( قراءة العامة على الأمر ، وقرأ ابن عامر على الخبر ومثله روى حفص بن عاصم . ) أَوَلَو جِئتُكُم ( بالألف أبو جعفر . الباقون جئتكم على الواحد . ) بِأَهدَى ( بدين أَصوب . ) مِمَّا وَجَدتُّم عَلَيهِ آبَاءَكُم . قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ (
الزخرف : ( 25 - 26 ) فانتقمنا منهم فانظر . . . . .
^) فَانتَقَمنَا مِنهُم . فَانُظر كَيفَ كَانَ عَاقِبةُ المُكَذِبِينَ وَإِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقومِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ ( أي بريء ، ولا يثنّى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنّه مصدر وضع موضع النعت ، وفي قراءة عبد الله ( بريء ) بالياء . ) مِمَّا تَعبُدُونَ (
الزخرف : ( 27 ) إلا الذي فطرني . . . . .
^) إلاّ الَّذِى فَطَرنِي ( خلقني ، ومجاز الآية : إنّني براء من كلّ معبود إلاّ الّذي فطرني .
) فإنَّهُ سَيَهدِينِ ( إلى دينهِ .
الزخرف : ( 28 ) وجعلها كلمة باقية . . . . .
) وَجَعَلَهَا ( يعني هذه الكلمة والمقالة ) كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ( قال مجاهد وقتادة : يعني لا إله إلاَّ الله ، وقال القرظي : يعني وجعل وصية إبراهيم الّتي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته وهي الّتي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة : ) ووصى بها إبراهيم بنيه ( ، وقال ابن زيد : يعني قوله : ) أسلمتُ لربّ العالمين ( وقرأ ) هو سماكم المسلمين ( .
) لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ( من كفرهم إلى الطاعة ويتوبون
الزخرف : ( 29 ) بل متعت هؤلاء . . . . .
) بَل مَتَّعتُ هؤُلاَءِ وَآبَاءَهُم ( في الدّنيا فلم أهلكهم ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم . ) حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ ( القرآن ، وقال الضحاك : الإسلام . ) وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( يبين لهم الأعلام والأحكام وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الزخرف : ( 30 ) ولما جاءهم الحق . . . . .
) وَلَمَّا جاءَهُمُ الحَقُّ ( القرآن ) قَالُوا هذَا سِحرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (
الزخرف : ( 31 ) وقالوا لولا نزل . . . . .
^) وَقَالُوا لَولاَ نُزِلَ هَذَا القَرآنُ عَلَى رَجُل مِنَ القَريَتَينِ عَظِيم ( . يعني من إحدى القريتين ولم يختلفوا في القريتين إنَّهما مكّة والطائف ، وإختلفوا في الرجلين من هما . قال ابن عباس : الوليد بن المغيرة من مكّة وكان يسمى ريحانة قريش ، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من الطائف .
وقال مجاهد : عتبة بن الربيع من مكّة وابن عبدياليل الثقفي من الطائف . قتادة : هما الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي ، وقال السدي : الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير .
(8/332)

" صفحة رقم 333 "
الزخرف : ( 32 ) أهم يقسمون رحمة . . . . .
قال الله سبحانه وتعالى : ) أَهم يقسِمُونَ رَحمَتَ رَبِكَ ( نبوته وكرامته فيجعلونها لمن شاءوا . ) نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَّعِيشَتَهُم فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا ( فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً وهذا ملكاً وهذا مملوكاً ، وقرأ ابن عباس وابن يحيى ( معايشهم ) ) وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعض دَرَجَات لِيتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضاً سُخرِيًّا ( أي ليُسخّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ويستخدمونهم ليكون بعضهم لبعض سبب المعاش في الدّنيا ، هذا بماله وهذا باعماله ؛ هذا قول السدي وابن زيد ، وقال قتادة والضحاك : يعني ليملك بعضهم بعضاً فهذا عبد هذا ، وقيل : يسخر بعضهم من بعض ، وقيل : يتسخر بعضهم بعضاً .
) وَرَحمَتُ رَبّكَ ( يعني الجنّة ) خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ ( في الدنيا من الأموال
الزخرف : ( 33 ) ولولا أن يكون . . . . .
) وَلَولاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمةً وَاحِدةً ( مجتمعين على الكفر فيصيروا كلّهم كفّاراً . هذا قول أكثر المفسرين ، وقال ابن زيد : يعني : ولولا أن يكون النّاس أُمة واحدة في طلب الدّنيا وإختيارها على العقبى .
) لَّجَعَلنَا لِمَن يَكفُرُ بِالرَّحمنِ لِبُيُوتِهِم سُقُفاً مِن فِضَّة ( وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد ويحيى بن وثاب ) سَقُفاً ( بفتح السين على الواحد ومعناه الجمع إعتباراً بقوله : ) فخر عليهم السقف من فوقهم ( ، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع . يقال سقف وسُقّف مثل رهن ورُهّن . قال أبو عبيد : ولا ثالث لهما ، وقيل : هو جمع سقيف ، وقيل : هو جمع سقوف وجمع الجمع . ) وَمَعَارِجَ ( أي مصاعد ومراقي ودرجاً وسلاليم ، وقرأ أبو رجاء العطاردي ( ومعاريج ) وهما لغتان واحدهما معراج مثل مفاتح ومفاتيح .
) عَلَيهَا يَظهَرُونَ ( يعلون ويرتقون ويصعدون بها ، ظهرت على السطح إذا علوته . قال النابغة الجعدي :
بلّغنا السماء مجدنا وسناؤنا
وإِنَّا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أي مصعداً .
الزخرف : ( 34 ) ولبيوتهم أبوابا وسررا . . . . .
) وَلِبُيُوتِهِم أَبَواباً ( من فضة ) وَسُرُراً ( من فضة ) عَلَيهَا يَتَّكِئُونَ (
الزخرف : ( 35 ) وزخرفا وإن كل . . . . .
^) وَزُخرُفاً ( أي ولجعلنا لهم مع ذلك ) وزُخرُفاً ( وهو الذهب نظير بيت مزخرف ، ويجوز أن يكون معناه من فضة وزخرف فلما نزع الخافض نصب .
) وَإِن كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيا ( شدده عاصم وحمزة على معنى ) وإن كُلُّ ذلك لمّا متاعُ الحياة الدّنيا ( ، وخففه الآخرون على معنى . ) ذلك متاعُ الحياة الدّنيا ( فتكون ( لغة ) الواصلة ) والآخرةُ عند رَبِكَ لِلمُتَّقِينَ ( للمؤمنين
(8/333)

" صفحة رقم 334 "
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا أحمد بن شاذان ، أخبرنا جيغويه بن محمد ، حدثنا صالح بن محمد ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبان ، عن سليمان بن القيس العامري ، عن كعب . قال : إنّي لأجد في بعض الكتب : لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بأكاليل فلا يصدع ولا ينبض منه عرق يوجع .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا الفربابي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزيدي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ثعلبة بن مسلم ، عن مسلم بن أبي المجرد ، عن عمر بن الخطاب ح إنّه كان يقول : لو أنّ رجلاً هرب من رزقه لإتبعه حتّى يدركه ، كما إنّ الموت يدرك من هرب منه له أجل هو بالغه ، أو أثر هو واطئة ورزق هو آكله وحرف هو قائله فاتقوا الله وإجملوا في الطلب ، فلا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى ، فإنّ الله لا ينال ما عنده إلاّ بطاعته ، ولن يُدرك ما عنده بمعصيته . فأتقوا الله وإجملوا في الطلب .
2 ( ) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِىأُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُم بِئَايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( 2
الزخرف : ( 36 ) ومن يعش عن . . . . .
) وَمَن يَعشُ ( يعرض ) عَن ذِكرِ الرَّحمانِ ( فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه .
وقال الضحاك : يمض قدماً . القرظي : يولّ ظهره على ذكر الرّحمن وهو القرآن . أبو عبيدة والأخفش : أي تظلم عينه ، الخليل بن أحمد : أصل العشو النظر ببصر ضعيف ، وأنشد في معناه :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد
وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس إنَّه قرأ ) وَمَن يَعشَ ( بفتح الشين ومعناه : ( من يعم ) . يقال منه : عشي يعشي عشياً إذا عمي ، ورجل أعشى وامرأة عشواء ، ومنه قول الأعشى
(8/334)

" صفحة رقم 335 "
رأت رجلا غائب الوافدين
مختلف الخلق أعشى ضريرا
) نُقَيِض لَهُ شَيطاناً ( أي نظمه إليه ونسلّطه عليه ) فَهُوَ لَهُ قَرينٌ ( فلا يفارقه .
الزخرف : ( 37 ) وإنهم ليصدونهم عن . . . . .
) وَإِنَّهُم ( يعني الشياطين ) لَيَصُدُّونَهُم ( يعني الكافرين . ) عَنِ السَّبِيلِ وَيحسَبُون أَنَّهُم مُّهتَدُونَ (
الزخرف : ( 38 ) حتى إذا جاءنا . . . . .
^) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا ( قرأ أهل العراق وابن محيص على الواحد يعنون الكافر ، واختاره أبو عبيد وقرأ الآخرون ) جَاءَنَا ( على التشبيه يعنون الكافر وقرينه .
) قَالَ ( الكافر للشيطان . ) يَا لَيتَ بَينِي وَبَينَكَ بُعدَ المَشرِقَينِ ( أي المشرق والمغرب ، فقلب إسم أحدهما على الآخر ، كما قال الشاعر :
أخذنا بآفاق السّماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يعني الشمس والقمر ، ويقال للغداة والعشي : العصرات ، قال حميد بن ثور :
ولن يلبث العصران يوم وليلة
إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقال آخر :
وبصرة الأزد منا والعراق لنا
والموصلان ومنا المصر والحرم
أراد الموصل والجزيرة ، ويقال للكوفة والبصرة : البصرتان ، ولأبي بكر وعمر ( ذ ) : العمران ، وللسبطين : الحسنان ، وقال بعضهم : أراد بالمشرقين ، مشرق الصيف ومشرق الشتاء . كقوله تعالى : ) رب المشرقين ورب المغربين ( ) فَبِئسَ القَرِينُ ( قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان فلا يفارقه حتّى يصير إلى النّار .
الزخرف : ( 39 ) ولن ينفعكم اليوم . . . . .
) وَلَن يَنفَعَكُم اليَومَ ( في الآخرة ) إِذ ظَّلَمتُم ( أشركتم في الدّنيا ) أَنّكُم فِي العَذَابِ مُشتَرِكُونَ ( يعني لن ينفعكم إشراككم في العذاب لأنّ لكلّ واحد نصيبه الأوفر منه فلا يخفف عنكم العذاب لأجل قرنائكم .
وقال مقاتل : لن ينفعكم الإعتذار والندم اليوم لأنّكم أنتم وقرناؤكم مشتركون اليوم في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر .
الزخرف : ( 40 ) أفأنت تسمع الصم . . . . .
) أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ أو تهدِي العُميَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَل مُّبِين ( يعني الكافرين الّذين حقّت عليهم كلمة العذاب فلا يؤمنون .
(8/335)

" صفحة رقم 336 "
الزخرف : ( 41 ) فإما نذهبن بك . . . . .
) فَإمَّا نَذهَبَنَّ بِكَ ( فنميتك قبل أن نعذبهم . ) فإِنَّا مِنُهم مُّنتَقِمونَ (
الزخرف : ( 42 ) أو نرينك الذي . . . . .
^) أو نُرِيَنَّكَ الَّذِيَ عَدنَاهُم ( فنعذبهم في حياتك .
) فإِنَّا عَلَيهِم مُّقتَدِرُونَ ( قال أكثر المفسرين : أراد به المشركين من أهل مكّة فإنتقم منهم يوم بدر ، وقال الحسن وقتادة : عني به أهل الإسلام من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقد كان بعد نبي الرحمة نقمة شديدة فأكرم الله نبيه وذهب به ، ولم يُره في أمته إلاّ الّذي تقر عينه ، وأبقى النقمة بعده ، وليس من نبي إلاَّ أُرى في أُمته العقوبة ، وذكر لنا إنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أُري ما يصيب أمته بعده فما رُئيَ ضاحكاً منبسطاً حتّى قبضه الله تعالى .
الزخرف : ( 43 - 44 ) فاستمسك بالذي أوحي . . . . .
) فَاستَمسِك بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاط مُّستَقِيم وَإِنَّهُ ( يعني القرآن . ) لَذِكرٌ لَّكَ ( لَشرفٌ لك ) وَلِقَومِكَ ( من قريش ، نظيره قوله : ) لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ( أي شرفكم . ) وَسَوفَ تُسئَلُونَ ( عن حقّه وأداء شكره .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدثنا أبو بكر ابن محمد بن أحمد بن إبراهيم الجوهري ، حدثنا عمي ، حدثنا سيف بن عمر الكوفي ، عن وائل أبي بكر ، عن الزهيري ، عن عبد الله وعطيه بن الحسن ، عن أبي أيوب ، عن علي ، عن الضحاك ، عن ابن عباس . قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعرض نفسه على القبائل بمكّة ، ويعدهم الظهور ، فإذا قالوا لمن الملك بعدك ، أمسك ، فلم يخبرهم بشيء ، لأنّه لم يؤمر في ذلك بشيء حتّى نزل ) وإِنَّهُ ذكر لك ولقومك ( . فكان بعد ذلك إذا سُئل ، فقال : لقريش ، فلا يجيبونه ، وقبلته الأنصار على ذلك .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا نصر بن منصور بن جعفر النهاوندي ، حدثنا أحمد بن يحيى بن الجاورد ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي من النّاس إثنان ) .
أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد الناهد ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا الحسن بن ناصح ومحمد بن يحيى ، قالا : حدثنا نعيم بن عماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن محمد بن حسن بن مطعم ، عن معاوية ، قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يزال هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاَّ كُبّ على وجهه ما أقاموا الدّين )
(8/336)

" صفحة رقم 337 "
أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد ، أخبرنا أبو العباس السراج ، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم ، حدثنا هوذه بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن زياد بن محراق ، عن أبي كنانة ، عن أبي موسى ، قال : قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على باب البيت وفيه نفرٌ من قريش ، فأخذ بعضادي الباب ، ثمّ قال : ( هل في البيت إلاَّ قريشي ؟ ) قالوا : لا يارسول الله . إلاّ ابن إخت لنا ، قال : ( ابن إخت القوم منهم ) ثم قال : ( لا يزال هذا الأمر في قريش ما داموا إذا حكموا فعدلوا ، واسترحموا فرحموا ، وعاهدوا فوفوا ، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) .
أخبرنا عبيد الله الزاهد ، حدثنا أبي العباس السراج ، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم ، حدثني موسى بن داود وخالد بن خداش ، قالا : حدثنا بُكير بن عبد العزيز ، عن يسار بن سلامة ، عن أبي بردة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الأُمراء من قريش ، لي عليهم حقّ ولهم عليكم حقّ ما فعلوا ثلاثاً : ما حكموا فعدلوا ، وإسترحموا فرحموا ، وعاهدوا فوفوا ) .
زاد خالد : ( فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : في قول الله تعالى : ) وإنَّهُ لذكر لك ولقومك ( قال : قول الرجل : حدثني أبي ، عن جدي .
الزخرف : ( 45 ) واسأل من أرسلنا . . . . .
) واسأل ( يا محمد . ) مَن أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلنَا مِن دُونِ الرَّحمانِ آلِهَةً يَعبُدونَ ( .
اختلف العلماء في هؤلاء المسؤولين . فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطاء بن أبي رياح والحسن والمقاتلان : هم المؤمنون أهل الكتابين ، وقالوا : هي في قراءة عبد الله وأبي ( وأسئل الّذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ) ، وقال ابن جبير وابن زيد : هم الأنبياء الّذين جمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس .
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا الحسن بن علوية ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا المسيب ، قال : قال : أبو جعفر الدمشقي : سمعت الزهري يقول : لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى خلفه تلك الليلة كلّ نبي كان أُرسل فقيل للنبي ( عليه السلام ) : ) واسأل من أرسلنا من قبلك ( .
أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري ، حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن محمد بن
(8/337)

" صفحة رقم 338 "
الحسين الأزدي الموصلي ، حدثنا عبد الله بن محمد بن غزوان البغدادي . حدثنا علي بن جابر ، حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل ، قالا : حدثنا محمد بن فضل ، عن محمد ابن سوقة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله : ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتاني ملك فقال : يامحمد ) واسأل من أرسلنا من قبلك من رّسلنا ( على ما بعثوا ، قال : قلت : على ما بعثوا ، قال : على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب ) .
الزخرف : ( 46 - 47 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . .
) وَلَقَد أَرسَلَنا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرعَونَ وَملإِيْهِ فَقَالَ إِنِي رَسُولُ رَبِ العَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم يَضحَكُونَ ( وبها يستهزؤن ويكذبون .
الزخرف : ( 48 ) وما نريهم من . . . . .
) وَمَا نُرِيهِم مِن آية إِلاَّ هِيَ أَكبَرُ مِن أُختِهَا ( قرينتها وصاحبتها الّتي كانت قبلها . ) وَأَخَذنَاهُم بِالعَذَابِ ( بالسنين والطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم . ) لَعَلَّهُم يَرجِعُون (
الزخرف : ( 49 ) وقالوا يا أيها . . . . .
^) وقالوا ( لما عاينوا العذاب . ) يا أَيُّها السّاحِرُ ( يا أيّها العالم الكامل الحاذق ، وإنَّما قالوا هذا توقيراً وتعظيماً منهم ، لأنّ السحر كان عندهم علماً عظيماً وصفة ممدوحه ، وقيل : معناه يا أيّها الّذي غلبنا بسحره ، كقول العرب : خاصمته فخصمته ، ونحوها .
ويحتمل إنّهم أرادوا به الساحر على الحقيقة عيّباً منهم إياه ، فلم يناقشهم موسى ( عليه السلام ) في مخاطبتهم إياه بذلك رجاء أن يؤمنوا .
) ادعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( أي بما أخبرتنا عن عهده إِليكَ إِنَّا إن آمنا كُشف عنا ، فاسأله يكشف عنا . ) إِنَّنَا لَمُهتَدُونَ ( مؤمنون .
الزخرف : ( 50 ) فلما كشفنا عنهم . . . . .
) فَلَمَّا كَشَفنَا عَنهُمُ العَذَابَ إِذَا هُم يَنكُثُونَ ( ينقضون عهدهم ويصرّون على كفرهم ويتمارون في غيهم .
( ) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاَْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِىأَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاَْخِرِينَ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِىإِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً فِى الاَْرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّن
(8/338)

" صفحة رقم 339 "
َ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاَْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الاَْخِلاَءُ ( 2
الزخرف : ( 51 ) ونادى فرعون في . . . . .
) وَنَادَى فِرعَونُ فِي قَومِهِ قَالَ يَا قَومِ أَليسَ لِي مُلكُ مِصرَ وَهَذِهِ الأَنهارُ ( يعني أنهار النيل ومعظمها أربعة : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس . ) تَجرِي مِن تَحتِي ( بين يدي وجناتي وبساتيني ، وقال ابن عباس : حولي . عطاء : في قبضتي وملكي . الحسن : بأمري .
) أَفَلاَ تُبصِرُونَ (
الزخرف : ( 52 ) أم أنا خير . . . . .
^) أَم أَنَا خَيرٌ ( بل أنا بخير . ( أم ) بمعنى بل ، وليس بحرف على قول أكثر المفسرين ، وقال الفراء : وقوم من أهل المعاني الوقوف على قوله ( أَم ) ، وعنده تمام الكلام .
وفي الآية إضمار ومجازها : أفلا تبصرون أم لا تبصرون أم إبتداء ، فقال : أنا خير ) مِن هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ( ضعيف حقير يعني موسى ( عليه السلام ) . ) وَلاَ يَكادُ يُبِينُ ( يفصح بكلامه وحجته ، لعيّه ولعقدته والرنة الّتي في لسانه .
الزخرف : ( 53 ) فلولا ألقي عليه . . . . .
) فَلَولاَ أُلقِيَ عَلَيهِ ( إن كان صادقاً ) أَسوِرَةٌ مِّن ذَهَب ( قرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم وحفص ) أسورة ( على جمع السوار ، وقرأ أبي : أساور ، وقرأ إبن مسعود : أساوير ، وقرأ العامة : أساورة بالألف على جمع الأسورة وهو جمع الجمع .
وقال أبو عمرو بن العلاء : واحد الأساورة والأساور والأساوير أساور ، وهي لغة في السوار . قال مجاهد : كانوا إذا استودوا رجلاً سوّروه بسوار ، وطوّقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته وعلامة لريّاسته . فقال فرعون : هلا ألقى ربّ موسى أسورة من ذهب .
) أَو جَاءَ مَعَهُ المَلاَئِكَةُ مُقتَرِنِينَ ( متابعين يقارن بعضهم بعضاً يمشون معه شاهدين له .
الزخرف : ( 54 ) فاستخف قومه فأطاعوه . . . . .
قال الله تعالى : ) فَاستَخَفَّ قَومَهُ ( القبط وجدهم جهالاً . ) فَأَطَاعُوهُ إِنَّهم كَانُوا قَوماً فَاسِقِينَ ( .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا ابن مالك ، حدثنا إبن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قال الضحاك بن عبد الرحيم بن أبى حوشب : سمعت بلال بن سعد يقول : قال أبو الدرداء : لو كانت الدّنيا تزن عند الله جناح ذباب ما سقي فرِعون منها شراباً .
(8/339)

" صفحة رقم 340 "
الزخرف : ( 55 ) فلما آسفونا انتقمنا . . . . .
) فَلَمَّا آسَفُونَا ( أغضبونا ، وقال الحسين بن الفضل : خالفونا ) انتَقَمْنا مِنهُم فَأَغرَقنَاهُم أَجمَعِينَ (
الزخرف : ( 56 ) فجعلناهم سلفا ومثلا . . . . .
^) فَجَعَلنَاهُم سَلَفاً ( قرأ علي وابن مسعود بضم السين وفتح اللام ، وقال المؤرخ والنضر بن شميل : هي جمع سلفة ، مثل طرقة وطرق ، وغرفة وغرف ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بضم السين واللام ، قال الفراء : هو جمع سليف ، وحكي عن القاسم بن معين إنّه سمع العرب تقول : مضى سليف من الناس ، وقال أبو حاتم : سَلف وسُلف واحد ، مثل خَشَب وخُشُب ، وثَمَر وثُمُر وقرأ الباقون فتح السين واللام على جمع السالف مثل حارس وحرس ، وراصد ورّصد ، وهم جميعاً : الماضون المتقدمون من الأمم .
) وَمَثَلاً ( عبرة . ) لِلآخِرِينَ ( لمن يجيء بعدهم ، قال المفسرون : سلفاً لكفّار هذه الأمة إلى النّار .
الزخرف : ( 57 ) ولما ضرب ابن . . . . .
) وَلَمَّا ضُرِبَ ابنُ مَريَمَ مَثَلاً ( في خلقه من غيرِ أَب . فشبه بآدم من غيرِ أَب ولا أُم . ) إِذَا قَومُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ ( ويقولون ما يريد محمد منا إلاّ أن نعبده ونتخذه إلهاً كما عبدت النصارى عيسى . قاله قتادة .
وقال ابن عباس : أَراد به مناظرة عبد الله بن الزبعري مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وشأن عيسى ( عليه السلام ) ، وقد ذكرناها في الأنبياء ( عليهم السلام ) وأختلف القرّاء في قوله : ) يصدون ( فقرأ أهل المدينة والشام وجماعة من الكوفيين بضم الصاد ، وهي قراءة علي والنخعي ومعناه يعرضون ، ونظيره قوله : ) رأيت المنافقون يصدون عنك صدوداً ( .
وقرأ الباقون بكسر الصاد ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم واختلفوا في معناه ، فقال الكسائي : هما لغتان مثل يعرشون ويعرشون ، ويعكفون ويعكفون ، ودرّت الشاة تدر وتدُرُ ، وشذ عليه يشذ ويشد ، ونمّ الحديث ينمه وينمُه ، وقال ابن عباس : معناه يضجون . سعيد بن المسيب : يصيحون ضحاك : يعجون . قتادة : يجزعون ويضحكون ، وقال القرظي : يضجرون .
وقال الفراء : حدثني أبو بكر بن عياش أنَّ عاصماً قرأ يصُدُون من قراءة أبي عبد الرحمن ، وقرأ يصدُون ، وفي حديث آخر إنّ ابن عباس لقي أخي عبيد بن عمير ، فقال : إنّ عمك لعربي ، فماله يلحن في قوله سبحانه وتعالى : ) إذا قومك منه يصدون 2 )
الزخرف : ( 58 ) وقالوا أآلهتنا خير . . . . .
^) وَقَالُوا ءألِهَتُنَا خَيرٌ أَم هُوَ ( يعنون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فنعبد إلهه ونطيعه ونترك آلهتنا ، هذا قول قتادة ، وقال السدي وابن زيد : أم هُوَ يعنون عيسى ( عليه السلام ) ، قالوا : يزعم محمد إنّ كلّ ما عبد من دون الله في النّار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عزير وعيسى والملائكة في النّار .
قال الله تعالى : ) مَا ضَرَبُوهُ ( يعني هذا المثل . ) لَكَ إِلاَّ جَدَلاً ( خصومة بالباطل . ) بل
(8/340)

" صفحة رقم 341 "
هُم قَومٌ خَصِمُونَ ( أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي الجمشاذي الفقيه ، بقراءتي عليه ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل . حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن نمير الكوفي ، حدثنا حجاج بن دينار الواسطي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا هارون بن محمد بن هارون ، حدثنا السريّ ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا عنبسة بن عبد الواحد القريشي ، عن الحجاج بن دينار ، عن أبي غالب ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه ، إلاَّ أُتوا الجدل ، ثمّ قرأ : ) ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون 2 )
الزخرف : ( 59 ) إن هو إلا . . . . .
^) إِن هُوَ إِلاَّ عَبدٌ أَنعَمنَا عَلَيهِ وَجَعَلنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسرَائِيلَ ( يعني آية أو عبرة وعظه لبني إسرائيل .
الزخرف : ( 60 ) ولو نشاء لجعلنا . . . . .
) وَلَو نَشَاءُ لَجَعَلنَا مِنكُم ( لأهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم . ) مَّلاَئِكَةً فِي الأَرضِ يَخلُفُونَ ( يعني يكونون خلفاً منكم فيعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني .
الزخرف : ( 61 ) وإنه لعلم للساعة . . . . .
) وَإِنَّهُ ( يعني عيسى ( عليه السلام ) . ) لَعِلمٌ لِلسَّاعَةِ ( بنزوله يعلم قيام الساعة ويستدل على ذهاب الدّنيا وإقبال الآخرة .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد ، قالا : حدثنا أبو بشر بن مجاهد ، حدثنا فضل بن الحسن ، حدثنا عبيد الله بن معاد ، حدثنا أبي ، عن عمران بن جرير ، قال : سمعت أبا نضرة يقرأ ) وإِنَّهُ لَعِلمٌ لِلسَّاعَةِ ( ، قال : هو عيسى ، وبإسناده عن ابن مجاهد ، حدثني عبد الله بن ( عمر ) بن سعد ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا خالد بن الحرث ، حدثنا أبو مكي ، عن عكرمة ) وإنّهُ لَعِلمٌ لِلسَّاعَةِ ( ، قال : ذلك عيسى ( عليه السلام ) .
وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة و مالك بن دينار والضحاك ) وَإنَّهُ لَعِلمٌ لِلسَّاعَةِ ( بفتح السين واللام ، أي إمارة وعلامة ، وفي الحديث : ينزل عيسى بن مريم على ثنية بالأرض المقدسة ، يقال لها : أفيق ، بين مُمصرّتَيْن وشعر رأسه د هين وبيده حربة يقتل بها الدجال . فيأتي بيت المقدس والنّاس في صلاة العصر ، والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام ، فيتقدّمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ يقتل الخِنزير ، ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النصارى . إلاَّ من آمن به .
وقال قوم : الهاء في قوله : ) وإِنَّهُ ( كناية عن القرآن ، ومعنى الآية وإِنَّ القرآن لَعِلمٌ لِلسَّاعَةِ يعلمكم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها ، وإليه ذهب الحسن .
) فَلاَ تَمتَرُونَ بِهَا ( فلا تَشكُنَّ بها أي فيها . ) وَاتَّبِعُونِ . هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقيمٌ (
الزخرف : ( 62 ) ولا يصدنكم الشيطان . . . . .
^) وَلاَ
(8/341)

" صفحة رقم 342 "
يَصُدَّنَّكُمُ ( ولا يَصرفنّكم ) الشَّيطَانُ ( عن دين الله . ) إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُّبِينٌ (
الزخرف : ( 63 ) ولما جاء عيسى . . . . .
^) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى ( بني إِسرائيل . ) بِالبَيِنَاتِ قَالَ قَد جِئتُكُم بِالحِكمَةِ ( بالنبوة . ) وَلأُبَيِنَ لَكُم بَعضَ الَّذِي تَختَلِفُونَ فِيهِ ( من أحكام التوراة .
) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (
الزخرف : ( 64 - 65 ) إن الله هو . . . . .
^) إِنَّ اللهَ رَبِي وَرَبَّكُم فَاعبُدُوهُ . هَذَا صِرَاطُ مُّستَقِيمٌ فَاختَلَفَ الأَحزَابُ ( اليهود والنصارى . ) مِن بَينِهِم فَوَيلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ( كفروا واشركوا كما في سورة مريم . ) مِن عَذَابِ يَوم أَلِيم (
الزخرف : ( 66 - 67 ) هل ينظرون إلا . . . . .
^) هَل يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تأَتِيَهُم بَغتَةً وَهُم لاَ يَشعُرُونَ الأَخِلاَّءُ ( على المعصية في الدنيا . ) يَومَئذ ( يوم القيامة . ) بَعضُهُم لِبَعض عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ ( . المتحابين في الله على طاعة الله .
أخبرنا عقيل بن محمد إنّ أبا الهرج البغدادي القاضي أخبرهم ، عن محمد بن جرير ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي اسحاق ، إنّ علياً ح قال في هذه الآية : خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين ، فقال : يا ربّ إنّ فلان كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير ، وينهاني عن الشرّ ، ويخبرني إنّي ملاقيك . يا ربّ فلا تضلّه بعدي واهده ، كما هديتني ، وإكرمه كما أكرمتني .
وإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما ، فيقول : ليثني أحدكما على صاحبه . فيقول : يا ربّ انه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشرّ ، ويخبرني أنّي ملاقيك ، فيقول : نعم الأخ ، ونعم الخليل ، ونعم الصاحب .
قال : ويموت أحد الكافرين ، فيقول : إنّ فلان كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشّر ، وينهاني عن الخير ويخبرني إنّي غير ملاقيك .
فيقول : بئس الأخ ، وبئس الخليل ، وبئس الصاحب .
2 ( ) ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاَْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاَْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِىأُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ( 2
الزخرف : ( 68 ) يا عباد لا . . . . .
) يَا عِبَادِ ( أي فيقال لهم يا عبادي . ) لاَ خَوفٌ عَلَيكُمُ اليَومَ وَلاَ أَنتُم تَحزَنُونَ ( أخبرنا عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير . أخبرنا ابن عبد الأعلى ،
(8/342)

" صفحة رقم 343 "
حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : سمعت إنّ الناس حتّى يبعثون ليس منهم أحد إلاّ فزع ، فينادي مناد : ) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ( فيرجوها الناس كلّهم . قال : فيتبعها .
الزخرف : ( 69 ) الذين آمنوا بآياتنا . . . . .
) الَّذِينَ آمَنُوا بآياتِنَا وَكَانُوا مُسلِمِينَ ( فينكس اهل الاديان رؤسهم غير المسلمين .
الزخرف : ( 70 ) ادخلوا الجنة أنتم . . . . .
) ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُم وَأَزوَاجُكُم تُحبَرُونَ ( تسرون وتنعمون .
الزخرف : ( 71 ) يطاف عليهم بصحاف . . . . .
) يُطَافُ عَلَيهِم بِصِحَاف ( بقصاع واحدتها صفحة .
) مِن ذَهَب وَأَكوَاب ( أباريق مستديرة الرؤوس ليست لها آذان ولا خراطم ، واحدها كوب . قال الأعشى :
صريفيّة طَيّبٌ طعمها
لها زَبَدٌ بين كوب ودَنّ
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدثني أبي ، حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا السكوني عبد الحميد بن عبد العزيز ، حدثنا الأشعث الضرير ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة لمن له سبع درجات هو على السادسة وفوق السابعة ، وإنَّ له لثلاثمائة خادم ، ويُغدي ويراح عليه كل يوم ثلاثمائة صحيفة ) ، ولا أعلمه إلاَّ قال : ( من ذهب في كل صحيفة لون ليس في الأخرى ، وإنَّه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء ، في كلّ إناء لون ليس في الأخرى ، وإنَّهُ ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وإنّه ليقول يا ربّ لو أذنتني لأطعمت أهل الجنّة ، وسقيتهم لا ينقص مما عندي شيء إنّ له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة ، سوى زوجته في الدّنيا ، وإنّ الواحدة منهنّ ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض ) .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا ابن حبش المقري ، حدثنا ابن رنجويه ، حدثنا سلمة ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن إسماعيل بن أبي سعيد ، إنّ عكرمة أخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة وأسفلهم درجة ، رجل لا يدخل الجنّة بعده أحد ، يفتح له بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس منها موضع شبر ، إلاّ معمور يغدى عليه ويراح سبعين ألف صحيفة من ذهب ، ليس منها صحيفة إلاّ وفيها لون ليس في الأخرى مثله ) .
( شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، لو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً )
(8/343)

" صفحة رقم 344 "
) وَفِيهَا ( في الجنّة . ) مَا تَشتَهِيهِ الأَنفُسُ ( قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم ) تشتهيه ( بالهاء وكذلك هي في مصاحفهم .
) وَتَلَذُّ الأَعيُنُ وَأَنتم فِيهَا خَالِدُونَ ( أخبرنا عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثنا ابن يسار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن سابط ، إنّ رجلاً قال : يارسول الله إنّي أحبُّ الخيل ، فهل في الجنة خيل ؟ . فقال : ( إنّ يدخلك الله الجنّة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء تطير بك في أي الجنّة شئت ، إلاَّ ركبت ) .
فقال : إعرابي يارسول الله إنّي أحبّ الإبل ، فهل في الجنّة إبل ؟ . فقال : ( ياإعرابي إن يدخلك الله الجنّة إن شاء الله . كان لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك ) .
وبه عن ابن جرير ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأياد ، عن محمد ابن سعد الأنصاري ، عن أبي ظبية السلمي ، قال : إنّ السرب من أهل الجنّة لتظلهم السحابة ، فتقول : ما أمطركم ؟ . فما يدعو داع من القوم بشيء إلاَّ مطرتهم ، حتّى إنّ القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أتراباً .
وبه عن ابن جرير ، حدثنا موسى بن عبد الرحمن ، حدثنا زيد بن الحُبان بن الرَّيان ، أخبرنا معاوية بن صالح ، حدثني سليمان بن عامر ، قال : سمعت أبا أُمامة يقول : إنّ الرجل من أهل الجنّة ليشتهي الطائر وهو يطير ، فيقع منفلقاً نضيجاً في كفه ، فيأكل منه حتّى تنتهي نفسه ، ثمّ يطير ، ويشتهي الشراب فيقع الإبريق في يده فيشرب منه ما يريد ثمّ يرجع إلى مكانه .
الزخرف : ( 72 - 73 ) وتلك الجنة التي . . . . .
) وَتِلكَ الجَنَّةَ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ لَكُم فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنهَا تَأكُلُونَ ( . أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، حدثنا محمد بن إبراهيم ابن زياد الطيالسي الرازي ، حدثنا محمد بن حسان الأزرق ، حدثنا ريحان بن سعيد ، حدثنا عباد ابن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان ، إنّه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا ينزع رجل من أهل الجنّة من ثمرها إلاّ أعيد في مكانها مثلاها ) .
الزخرف : ( 74 ) إن المجرمين في . . . . .
) إِنَّ المُجرِمِينَ ( المشركين . ) فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (
الزخرف : ( 75 - 77 ) لا يفتر عنهم . . . . .
^) لاَ يُفَتَّرُ عَنهُم وَهُم فِيهِ مُبلِسُون وَمَا ظَلَمَنَاهُم وَلَكِن كَانُوا هُم الظَّالِمِينَ وَنَادَوا يَا مَالِكُ لِيَقضِ عَلَينَا رَبُّكَ ( ليمتنا ربّك فنستريح ، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة : ) قَالَ إِنَّكم مَّاكِثُونَ ( مقيمون في العذاب .
(8/344)

" صفحة رقم 345 "
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا ابن حبش المقري ، حدثنا ابن الفضل ، حدثنا جعفر ابن محمد الدنقاي الضبي ، حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي ، حدثنا قطبة بن عبد العزيز السعدي ، عن الأعمش ، عن سمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أُم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فاذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون ادعوا خزنة جهنم ، فيقولون ألم تك تأتكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا : بلى ، قالوا : فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ، قال : فيقولون إدعوا مالكاً ، فيدعون : يا مالك ليقض علينا ربّك ، فيجيبهم إنّكم ماكثون ) .
قال : فقال الأعمش : أنبئت إنّ بين دعائهم وبين إجابته إياهم الف عام .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا هارون بن محمد بن هارون ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا القاسم بن يونس الهلالي ، حدثنا قطبة بن عبد العزيز يعني السعدي ، عن الأعمش ، عن سمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أُم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربّك ) . باللام .
الزخرف : ( 78 - 79 ) لقد جئناكم بالحق . . . . .
) لقد جِئنَاكُم بالحَقِ وَلكِنَّ أَكثَرَكُم لِلحَقِ كَارِهُونَ أَم أَبرَمُوا ( أحكموا . ) أمراً ( في المكر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فَإِنَّا مُبرِمُونَ ( محكمون .
الزخرف : ( 80 ) أم يحسبون أنا . . . . .
) أم يَحسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسمَعُ سِرَّهم وَنَجَوَاهُم . بَلَى ( نسمع ونعقل ) وَرُسُلُنَا لَدَيهِم يَكتُبُونَ ( يعني الحفظة .
( ) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِى الاَْرْضِ إِلَاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (
(8/345)

" صفحة رقم 346 "
الزخرف : ( 81 ) قل إن كان . . . . .
) قُل إِن كَانَ لِلرَّحمانِ وَلَدٌ فأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ ( يعني ) إن كان للرّحمان ولد ( في قولكم وبزعمكم ، فأنا أولُ الموحدين المؤمنين بالله في تكذيبكم والجاحدين لما قلتم من إنّ له ولداً . قاله مجاهد .
وقال ابن عباس : يعني ما كان للرّحمن ولد وأنا أول الشاهدين له بذلك والعابدين له ، جعل بمعنى النفي والجحد ، يعني ما كان وما ينبغي له ولد . ثمّ ابتداء ) فأنا أول العابدين ( ، وقال السدي : معناه ، قل : ) إن كان للرّحمن ولد فأنا ( أول من عبده بأنّ له ولد ، ولكن لا ولد له ، وقال قوم من أهل المعاني : معناه ، قل ) إن كان للرّحمان ولد . فأنا أول ( الآنفين من عبادته .
ويحتمل أن يكون معناه ما كان للرحمن ولدٌ . ثم قال : فأنا أول العابدين الآنفين من هذا القول المنكرين إنّ له ولداً . يقال عبد إذا أنف وغضب عبداً . قال الشاعر :
ألا هويت أُم الوليد وأصحبت
لما أبصرت في الرأس مني تعبد
وقال آخر :
متى ما يشاء ذو الود يَصرّم خليله
ويعبد عليه لا محالة ظالما
أخبرنا عقيل بن محمد أجازة ، أخبرنا أبو الفرج ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة ، عن ابن قشط ، عن نعجة بن بدر الجهني إنّ امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضاً فولدت في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان ح وأمر بها ترجم ، فدخل عليه علي بن أبي طالب ح فقال : إنّ الله تعالى يقول في كتابه : ) وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ( وقال : ( وفصاله في عامين ) قال : فوالله ما عبد عثمان ح أن بعث إليها ترد . قال عبد الله بن وهب : ما استنكف ولا أنف
الزخرف : ( 82 ) سبحان رب السماوات . . . . .
) سُبحَانَ رَبِ السَّماوَاتِ وَالأَرضِ رَبِ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( يكذبون .
الزخرف : ( 83 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا . . . . .
) فَذَرهُم يَخُوضُوا ( في باطلهم . ) وَيَلعَبُوا ( في دنياهم . ) حَتَّى يُلاَقُوا يَومَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (
الزخرف : ( 84 ) وهو الذي في . . . . .
^) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفي الأَرضِ إِلَهٌ ( يعني يعبد في السّماء ويعبد في الأرض . ) وَهُوَ الحَكِيمُ ( في تدبير خلقه . ) العَلِيمُ ( بصلاحهم .
(8/346)

" صفحة رقم 347 "
الزخرف : ( 85 - 86 ) وتبارك الذي له . . . . .
) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا وَعِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ وَلاَ يَملِكُ الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِ ( .
اختلف العلماء في معنى هذه الآية . فقال قوم : ) مِن ( في محل النصب وأراد ب ) الّذين يدعون ( عيسى وعزير والملائكة ، ومعنى الآية : ولا يملك عيسى وعزير والملائكة ) الشّفاعة إلاّ لمن شهد بالحقّ ( فآمن على علم وبصيرة ، وقال آخرون : ) مَن ( في وضع رفع والّذين يدعون الأوثان والمعبودين من دون الله . يقول : ولا يملك المعبودون من دون الله ) الشفاعة إلاّ لمن شهد بالحقّ ( وهم عيسى وعزير والملائكة يشهدون بالحقّ .
) وَهُم يَعلَمُونَ ( حقيقة ما شهدوا .
الزخرف : ( 87 ) ولئن سألتهم من . . . . .
) وَلَئِن سأَلتَهُم مَّن خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤفَكونَ ( عن عبادته .
الزخرف : ( 88 ) وقيله يا رب . . . . .
) وَقِيلِهِ ( يعني قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) شاكياً إلى ربّه . ) يَا رَبِ إِنَّ هَؤُلاءِ قَومٌ لاَ يُؤمِنُونَ ( .
واختلف القُراء في قوله : ) قيله ( ، فقرأ عاصم وحمزة ) وقيلِه ( بكسر اللام على معنى ) وعنده علم السّاعة ( وعلم قيله ، وقرأ الأعرج بالرفع ، أي وعنده قيله ، وقرأ الباقون بالنصب وله وجهان : أحدهما : إنّا لا نسمع سرهم ونجواهم ونسمع قيله والثاني : وقال : ) قيله ( .
الزخرف : ( 89 ) فاصفح عنهم وقل . . . . .
) فاصفَح عَنهُم وَقُل سَلاَمٌ ( نسختها آية القتال ، ثمّ هددهم .
) فَسَوفَ يَعلَمُونَ ( بالتاء أهل المدينة والشام وحفص ، واختاره أيوب وأبو عبيد ، الباقون بالياء .
(8/347)

" صفحة رقم 348 "
( سُورةُ الدُّخَانِ )
مكّية ، وهي تسع وخمسون آية ، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة ، وألف وأربعمائة وواحد وثمانون حرفاً
أخبرنا محمّد بن القاسم ، حدثنا محمّد بن عبد الله ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا محمّد بن يزيد ، حدثنا زيد بن حباب ، أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه ، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أبو عيسى بن علي الختلي ، حدثنا أبو هاشم الرفاعي ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عمر بن عبد الله بن أبي السري عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الدّخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ) .
أخبرنا محمد بن القاسم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، حدثنا السّراج ، حدثنا أبو يحيى ، حدثنا كثير بن هشام ، عن هشام بن المقدام ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ حم الّتي يذكر فيها الدّخان في ليلة الجمعة ، أصبح مغفورًا له ) .
أخبرنا عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها ، حدثنا أبو علي الرقاء ، أخبرنا أبو منصور سليمان بن محمد بن الفضل ، حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا فضال بن كثير حي ، قال : أتيت أبا أُمامة ، فقال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من قرأ حم الدّخان ليلة الجمعة يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنّة ) .
بِسمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِ
(8/348)

" صفحة رقم 349 "
السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( 2
الدخان : ( 1 - 3 ) حم
) حم وَالكِتابِ المُبِينِ إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَة مُّبَارَكَة . إِنّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( قال قتادة وابن زيد : هي ليلة القدر ، أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السّماء الدّنيا ، ثمّ أنزله على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في الليالي والأيام ، وقال الآخرون : هي ليلة النصف من شعبان .
أخبرنا الحسين بن محمّد فنجويه ، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم ، حدثنا إبراهيم المستملي الهستجاني ، حدثنا أبو حصين بن يحيى بن سليمان ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا أبو بكر بن أبي سبره ، عن إبراهيم بن محمد ، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ( ح ) قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان ليلة النصف من شعبان ، قوموا ليلتها وصوموا يومها ، فإنّ الله تعالى ينزل لغروب الشمس إلى سمّاء الدنّيا فيقول : ألاّ مستغفر فأغفرله ، ألاّ مسترزق فأرزقه ، ألاّ مبتلى فأعافيه ، ألاّ كذا ، ألاّ كذا ، ألاّ كذا ، حتّى يطلع الفجر ، ) إنّا كنا منذرين ( ) .
الدخان : ( 4 ) فيها يفرق كل . . . . .
) فِيهَا يُفرَقُ ( يفصل . ) كُلُّ أَمر حَكِيم ( محكم . قال الحسن ومجاهد وقتادة : يبرم في ليلة القدر من شهر رمضان كُلّ أجل وعمل وخلق ورزق ، وما يكون في تلك السنة ، وقال أبو عبد الرّحمن السلمي : يدبر أمر السنة في ليلة القدر ، وقال هلال بن نساف : كان يقال : انتظروا القضاء في شهر رمضان .
وقال عكرمة : في ليلة النصف من شعبان ، يُبرم فيه أمر السنة ، وينسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب الحاج ، فلا يزاد فيهم أحد ، ولا ينقص منهم أحد .
يدل عليه ما أخبرنا عقيل بن محمد ، أخبرنا أبو الفرج القاضي ، أخبرنا محمد بن جبير ، حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس ، حدثني أبي ، حدثنا الليث ، عن عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان . حتّى أنّ الرجل لينكح ويولد له ، وقد خرج أسمه في الموتى ) .
الدخان : ( 5 ) أمرا من عندنا . . . . .
) أَمراً ( أي أنزلنا أمراً . ) مِن عِندنَا ( من لدنا ، وقال الفراء : نصب على معنى نفرق كل
(8/349)

" صفحة رقم 350 "
أمر فرق وأمراً . ) إِنَّا كُنَّا مُرسِلِينَ ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عبادنا .
الدخان : ( 6 ) رحمة من ربك . . . . .
) رَحمَةً مِن رَّبِكَ ( وقيل : أنزلناه رحمة ، وقيل : أرسلناه رحمة ، وقيل : الرحمة .
) إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَلِيمُ (
الدخان : ( 7 ) رب السماوات والأرض . . . . .
^) رَبِ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ وَمَا بَينَهُما ( كسر أهل الكوفة ( بائهُ ) ردًا على قوله من ربِك ، ورفعهُ الآخرون ردًا على قوله ) هو السّميع العليم ( وإن شئت على الابتداء .
) إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( إنّ الله ) ربّ السّماواتِ والأرض وما بينهما ( فأيقنوا إنّ محمداً رسوله ، وإنّ القرآن تنزيله .
الدخان : ( 8 - 10 ) لا إله إلا . . . . .
) لاَ إلَهَ إِلاَّ هو يُحيى ويُمِيتُ . رَبُّكُم وَرَبُّ آباءِكُمُ الأَوَليِنَ بَل هُم فِي شَكّ يَلعَبُونَ فَارتَقِب ( فانتظر . ) يَومَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَان مُّبِين ( .
اختلفوا في هذا الدّخان ، ما هو ، ومتى هو ، فروى الأعمش ومسلم بن صبيح ، عن مسروق ، قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً ، وهو مضطجع بيننا ، فأتاه رجل ، فقال : يا أبا عبد الرّحمن ، إنّ قاصاً عند أبواب كنده ، يقص ويقول في قوله تعالى : ) يوم تأتي السماء بدخان مبين ( إنّه دّخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأنفاس الكفّار والمنافقين وأسماعهم وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ، فقام عبد الله وجلس ، وهو غضبان ، فقال : يا أيّها الناس اتقوا الله ، مَن عَلِمَ شيئاً فليقل ما يعلم ، ومن لا يعلم ، فليقل الله أعلم ، فأن الله تعالى ، قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قُل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين ( وسأحدثكم عن ذلك : أنّ قريشاً لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعا عليهم ، فقال : ( اللَّهم سبع سنين كسني يوسف ) . فأصابهم من الجهد والجوع ما أكلوا الجيف والعظام والميتة والجلود ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلاّ الدخان من ظلمة أبصارهم من شدة الجوع ، فأتاه أبو سفيان بن حرب ، فقال : يامحمد إنّك حيث تأمر بالطاعة وصلة الرحم ، وإنّ قومك قد هلكوا فادع الله لهم فإنّهم لك مطيعون .
فقال الله تعالى : فقالوا :
) رَّبَّنَا اكشِف عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤمِنونَ ( فدعا فكشف عنهم ، فقال الله تعالى : ) إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابَ قَلِيلاً إِنَّكُم عَائِدُونَ ( إلى كفركم . ) يَومَ نَبطشُ البَطشَةَ الكُبرَى إِنَّا مُنتَقِمونَ ( فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر ، فهذه خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروّم .
وقال الآخرون : بل هو دخان يجيء قبل قيام السّاعة ، فيدخل في أسماع الكفّار والمنافقين ، حتّى تكون كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منهم كهيئة الزكام ، وتكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه وليس فيه خصاص
(8/350)

" صفحة رقم 351 "
قالوا : ولم يأتِ بعد ، وهو آت وهذا قول ابن عباس وابن عمير والحسن وزيد بن علي ، يدل عليه ما أنبأني عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثنا عصام بن داود الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن سعيد ، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي ابن حراش ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق النّاس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ) .
قال حذيفة : يا رسول الله ما الدخان ؟ فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية : ) يَومَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَان مُّبِين (
الدخان : ( 11 ) يغشى الناس هذا . . . . .
^) يَغشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة . أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره .
وبه عن ابن جرير ، حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عليه ، عن ابن جريح ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، قال : غدوت على ابن عباس ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتّى أصبحت . قلت : لِمَ ؟ قال : قالوا : طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدُّخان قد طرق فما نمت حتّى أصبحت .
الدخان : ( 12 - 13 ) ربنا اكشف عنا . . . . .
) رَّبَّنَا اكشِف عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مؤمنون أَنَّى لَهُمُ الذِكرَى ( من أين لهم للتذكير والإتعاظ بعد نزول البلاء وحلول العذاب . ) وَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مُّبِينٌ ( محمّد ( صلى الله عليه وسلم )
الدخان : ( 14 ) ثم تولوا عنه . . . . .
) ثُمَّ تَوَلَّوا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ ( يعلمه بشر . ) مَّجنُونٌ (
الدخان : ( 15 ) إنا كاشفو العذاب . . . . .
^) إِنَّا كَاشِفُو العَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُم عائِدُونَ ( إلى كفركم ، وقال قتادة : عائدون في عذاب الله .
الدخان : ( 16 ) يوم نبطش البطشة . . . . .
) يَومَ نَبطِشُ البَطشَةَ الكُبرَى ( وهو يوم بدر . ) إِنَّا مُنتَقِمونَ ( هذا قول أكثر العلماء ، وقال الحسن : هو يوم القيامة .
وروي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال ابن مسعود : ) الكبرى ( يوم بدر و ) إنّا ( أقول هي يوم القيامة .
( ) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنِّىءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُوا
(8/351)

" صفحة رقم 352 "
ْ مُنظَرِينَ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءَاتَيْنَاهُم مِّنَ الاَْيَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاُْوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِئَابَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( 2
الدخان : ( 17 ) ولقد فتنا قبلهم . . . . .
) وَلَقَد فَتَنَّا قَبلَهُم قَومَ فِرعَونَ وَجَاءَهُم رَسُولٌ كَرِيمٌ ( على الله وهو موسى بن عمران ( عليه السلام ) ، وقيل : شريف وبسيط في قومه .
الدخان : ( 18 ) أن أدوا إلي . . . . .
) أَن أَدُّوا ( أن إدفعوا . ) إِليَّ عِبَادَ اللهِ ( يعني بني إسرائيل فلا يعذبهم . ) إِنِي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ ( على الوحي .
الدخان : ( 19 ) وأن لا تعلوا . . . . .
) وَأَن لاَّ تَعلُوا ( تطغوا وتبغوا . ) عَلَى اللهِ ( فتعصوه وتخالفوا أمره . ) إِنِي آتِيكُم بِسُلطَان مُّبِين ( برهان مبين فتوعدوه بالقتل . فقال :
الدخان : ( 20 ) وإني عذت بربي . . . . .
) وإِنِي عُذتُ بِرَبِي وَرَبِكُم أَن تَرجُمُون ( يقتلون ، وقال قتادة : ترجمون بالحجارة . ابن عباس : يشتمون ويقولون هو ساحر .
الدخان : ( 21 ) وإن لم تؤمنوا . . . . .
) وَإِن لَّم تُؤمِنُوا لِي فَاعتَزِلُونِ ( فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد .
الدخان : ( 22 ) فدعا ربه أن . . . . .
) فَدَعَا رَبَّهَ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَومٌ مُّجرِمُونَ ( مشركون ، فقال سبحانه :
الدخان : ( 23 ) فأسر بعبادي ليلا . . . . .
) فَأَسرِ بِعِبَادِي ( بني إسرائيل . ) لَيلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ( يتبعكم فرعون وقومه .
الدخان : ( 24 ) واترك البحر رهوا . . . . .
) وَاترُكِ البَحرَ رَهواً ( إذا قطعته أنت وأصحابك رهواً ساكناً على حالته وهيئته الّتي كان عليها حين دخلته . ) إِنَّهُم جُندٌ مُّغرَقُون ( .
واختلفت عبارات المفسرين عن معنى الرهو فروى الوالبي عن ابن عباس رهواً ، قال : سمتاً . العوفي عنه : هو أن يترك كما كان . كعب : طريقاً . ربيع : سهلاً . ضحاك : دمثاً . عكرمة : يابساً جزراً ، وقيل جذاذاً . قتادة : طريقاً يابساً ، وأصل الرهو في كلام العرب السكون . قال الشاعر :
كإنما أهل حجر ينظرون متى
يرونني خارجاً طيراً يناديد
طيراً رأت بازياً نضح الدماء به
وأمه خرجت رهواً إلى عيد
يعني عليها سكون .
الدخان : ( 25 - 26 ) كم تركوا من . . . . .
) كم تَرَكُوا مِن جَنَّات وَعُيُون وَزُرُوع وَمَقَام ( مجلس ) كَرِيم ( شريف وإنّما سماه كريماً لأنّه مجلس الملوك ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ، وقالا : هي المنابر ، وقال قتادة : الكريم الحسن
(8/352)

" صفحة رقم 353 "
الدخان : ( 27 ) ونعمة كانوا فيها . . . . .
) وَنَعمَة كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ( ناعمين فاكهين أشرين بطرين معجبين .
الدخان : ( 28 ) كذلك وأورثناها قوما . . . . .
) كَذَلِكَ وَأورَثنَاهَا قوماً آخَرِينَ ( بني إسرائيل . نظيره قوله : ) وأورثنا القوم الّذين كانوا يستضعفون ( الآية .
الدخان : ( 29 ) فما بكت عليهم . . . . .
) فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرضُ ( وذلك إن المؤمن إذا مات بكت عليه السّماء والأرض أربعين صباحاً ، وقال عطاء : في هذه الآية بكاءها حمرة أطرافها ، وقال السدي : لما قتل الحسين بن علي ( ذ ) بكت عليه السّماء ، وبكاؤها حمرتها .
حدثنا خالد بن خداش ، عن حماد بن زيد ، عن هشام ، عن محمد بن سيرين . قال : أخبرونا إنّ الحمرة الّتي مع الشفق لم تكن ، حتّى قتل الحسين ح .
أخبرنا ابن بكر الخوارزمي ، حدثنا أبو العياض الدعولي ، حدثنا أبي بكر بن أبي خثيمة ، وبه عن أبي خثيمة ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا سليم القاضي ، قال : مطرنا دماً أيام قتل الحسين .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو علي المُقري ، حدثنا أبو بكر الموصلي ، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة الرمدني ، أخبرني يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنّه قال : ( ما من عبد إلاّ له في السّماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية : ) فما بكت عليهم السماء والأرض ( ) ، وذلك إنّهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم ، ولم يصعد إلى السّماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي .
أخبرنا عقيل بن محمد : إنّ المعافا بن زكريا أخبره ، عن محمد بن جرير ، حدثنا يحيى بن طلحة ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمر ، عن شريح بن عبيد الحضرمي : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً ، ألاّ لا غربة على مؤمن ، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه ، إلاّ بكت عليه السّماء والأرض ) . ثمّ قرأ رسول الله ( عليه السلام ) : ) فما بكت عليهم السّماء والأرض ( ، ثمّ قال : ( إنّهما لا تبكيان على الكافر ) .
) وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (
الدخان : ( 30 ) ولقد نجينا بني . . . . .
^) وَلَقَد نَجَّينَا بَنِي إِسرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهينِ ( قتل الأبناء واستحياء
(8/353)

" صفحة رقم 354 "
النساء .
الدخان : ( 31 - 32 ) من فرعون إنه . . . . .
) مِن فِرعَونَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ المُسرِفِينَ وَلَقَد اختَرنَاهُم ( يعني مؤمني بني إسرائيل .
) عَلَى عِلم ( منّا لهم . ) عَلَى العَالَمينَ ( يعني عالمي زمانهم
الدخان : ( 33 ) وآتيناهم من الآيات . . . . .
) وَآتَينَاهُم مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ ( قال قتادة : نعمة بيّنة حين فلق لهم البحر وظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسّلوى .
وقال ابن زيد : ابتلاهم بالرخاء والشدة ، وقرأ : ) ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون 2 )
الدخان : ( 34 ) إن هؤلاء ليقولون
) إِنَّ هَؤُلاَءِ ( يعني مشركي مكّة . ) لَيَقُولُونَ (
الدخان : ( 35 ) إن هي إلا . . . . .
^) إِن هِيَ إِلاَّ مَوتَتُنَا الأُولى وَمَا نَحنُ بِمُنشَرِينَ ( بمبعوثين بعد موتنا .
الدخان : ( 36 ) فأتوا بآبائنا إن . . . . .
) فَأتُوا بآبَاءِنَا ( الّذين ماتوا . ) إِن كُنتُم صَادِقِينَ ( إِنَّا نُبعث أحياء بعد الموت .
الدخان : ( 37 ) أهم خير أم . . . . .
) أَهُم خَيرٌ أَم قَومُ تُبَّع ( قال قتادة : هو تبّع الحميري ، وكان سار بالجيوش حتّى حيّر الحيرة ، وبنى سمرقند ، وكان إذا كتب ، كَتب باسم الّذي يملك براً وبحراً وضحاً وريحاً .
وذكر لنا إنّ كعباً يقول : ذمّ الله قومهُ ولم يذمّهُ ، وكانت عائشة ( خ ) تقول : لا تسبوا تُبّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً ، وقال سعيد بن جبير : هو الّذي كسا البيت .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن محمد القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعه ، حدثنا أبو زرعة عمرو بن جابر ، عن سهل بن سعد ، قال : سمعت النبي ( عليه السلام ) يقول : ( لا تسبوا تُبّعاً ، فإنّه قد كان أسلم ) .
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا محمد بن علي سالم الهمذاني ، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن أبي ذيب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أدري تُبّع نبياً كان أم غير نبي ) .
) وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم ( من الأمم الخالية الكافرة .
) أَهلَكناهُم إِنَّهُم كَانُوا مُجرِمِينَ ( .
2 ( ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
(8/354)

" صفحة رقم 355 "
يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاَْثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاُْولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ( 2
الدخان : ( 38 - 41 ) وما خلقنا السماوات . . . . .
) وَمَا خَلَقنَا السَّماوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُما لاَعِبِينَ وَمَا خَلَقنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِ وَلَكِنَّ أُكثَرَهُم لاَ يَعلَمُونَ إِنَّ يَومَ الفَصلِ مِيقَاتُهُم أَجمَعِينَ يَومَ لاَ يُغنِي مَولىً عَن مَّولىً شَيئاً ( لا يدفع ابن عم عن ابن عمه ولا صديق عن صديقه .
) وَلاَ هُم يُنصَرُون (
الدخان : ( 42 ) إلا من رحم . . . . .
^) إِلاَّ مَن رُّحِمَ اللهُ ( إختلف النحاة في محل ) مَن ( فقال بعضهم : محله رفع بدلاً من الاسم المضمر في ينصرون ، وإن شئت جعلته ابتداء وأضمرت خبره ، يريد ) إِلاَّ مَن رّحم الله ( فنغني عنه ونشفع له ، وإن شئت جعلته نصباً على الإستثناء والإنقطاع ، عن أول الكلام يريد اللَّهُم ) إلا من رحم الله ( ) إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ (
الدخان : ( 43 - 44 ) إن شجرة الزقوم
^) إِنَّ شَجَرَتَ الزقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ ( الفاجر وهو أبو جهل بن هشام .
أنبأني عقيل بن حمد ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثني أبو السائب ، حدثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، قال : كان أبو الدرداء يقريء رجلاً ) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ ( فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم . قال : قل إِنَّ شجرت الزقوم طعام الفاجر .
الدخان : ( 45 ) كالمهل يغلي في . . . . .
) كَالمُهلِ يغلي ( بالياء ابن كثير وحفص ، ورُوَيس جعل الفعل غيرهم بالتاء لتأنيث الشجرة .
) في البُطُونِ (
الدخان : ( 46 - 47 ) كغلي الحميم
^) كَغَليّ الحَمِيمِ خُذُوهُ ( يعني الأَثيم . ) فَاعتِلُوهُ ( فادخلوه وادفعوه وسوقوه إلى النّار . يقال : عتله يعتله عتلاً إذا ساقه بالعنف والدفع والجذب . قال الفرزدق :
ليس الكرام بناحليك أباهم
حتّى تردَّ إلى عطية تُعْتَل
أي ساق دفعاً وسحباً ، وفيه لغتان : كسر التاء ، وهي قراءة أبي جعفر وأبي مرو وأهل الكوفة ، وضمها وهي قراءة الباقي
(8/355)

" صفحة رقم 356 "
) إِلى سَواءِ الجَحِيمِ (
الدخان : ( 48 ) ثم صبوا فوق . . . . .
^) ثُمَّ صُبُّوا فَوقَ رَأسِهِ مِن عَذَابِ الحَمِيمِ ( وهو الماء الّذي قال الله تعالى : ) يصب من فوق رؤوسهم الحميم ( ثمّ يقال له :
الدخان : ( 49 ) ذق إنك أنت . . . . .
) ذُق ( هذا العذاب . ) إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ ( في قومك . ) الكَرِيمُ ( بزعمك ، وذلك إنّ أبا جهل . قال : ما بين حبليها رجل أعز ولا أكرم مني . فيقول له الخزنة هذا على طريق الإستخفاف والتحقيق .
وقراءة العامة إنّك بكسر الألف على الابتداء ، وقرأ الكسائي بالنصب على معنى لأنّك .
الدخان : ( 50 ) إن هذا ما . . . . .
) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمتَرونَ ( تشكون ولا تؤمنون به فقد لقيتموه فذوقوه .
الدخان : ( 51 ) إن المتقين في . . . . .
) إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَام أَمِين ( قرأ أهل المدينة والشام بضم ( الميم ) من المقام على المصدر أي في إقامة ، وقرأ غيرهم بالفتح أي في مكان كريم .
الدخان : ( 52 - 53 ) في جنات وعيون
) فِي جَنَّات وَعُيُون يَلبَسُونَ مِن سُندُس ( وهو ما رَقَّ من الديباج . ) وَإِستَبرَق ( وهو ما غلظ منه معرّب . ) مُّتَقَابِلِينَ (
الدخان : ( 54 ) كذلك وزوجناهم بحور . . . . .
^) كَذَلِكَ ( وكما أكرمناهم بالجنان والعيون واللباس كذلك أكرمناهم بأن . ) وَزَوَّجنَاهُم بحُور ( وهي النساء النقيات البياض ، قال مجاهد : يحار فيهن الطرف من بياضهنّ وصفاء لونهنّ ، بادية سوقهنّ من وراء ثيابهنّ ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون .
ودليل هذا التأويل إنّها في حرف ابن مسعود ( بعيس عين ) وهي البيض ومنه قيل للإبل البيض عيس ، وواحده بعير أعيس ، وناقة عيساء ، وقيل : الحور الشديدات بياض الأعين ، الشديدات سوادها ، واحدها أحور ، والعين جمع العيناء ، وهي العظيمة العينين .
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الطبري الحاجّي ، حدثنا أبو علي الحسن ابن اسماعيل بن خلف الخياط ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الفرج ، حدثنا محمد بن عبيد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن يعلي أبو علي الكوفي ، حدثنا عمر بن صبيح ، عن مقاتل بن حيان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز ) .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا محمد بن عمر بن إسحاق ، عن حبش ، حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث ، حدثنا أيوب بن علي يعني الصباحي حدثنا زياد بن سيار مولى لي عن عزة بنت أبي قرصافة ، عن أبيها قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين ) .
الدخان : ( 55 ) يدعون فيها بكل . . . . .
) يَدعُونَ فيها بِكُلِ فَاكِهَة ( اشتهوها . ) آمِنِينَ ( من نفادها وعدمها في بعض الأزمنة ومن
(8/356)

" صفحة رقم 357 "
غائلتها ومضرّتها ، وقال قتادة : ) آمنين ( من الموت والأوصاب والشيطان .
الدخان : ( 56 ) لا يذوقون فيها . . . . .
) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأُولَى ( يعني سوى ) الموتة الأولى ( وبعدها وضع ) إِلاَّ ( موضع بعد كقوله : ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلاَّ ما قد سلف ( . يعني بعدما قد فعل آباؤكم وسواه ، وهذا كما يقول في الكلام : ما ذقت اليوم طعاماً سوى ما أكلته أمس .
) وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ (
الدخان : ( 57 - 58 ) فضلا من ربك . . . . .
^) فَضلاً مِن رَبِكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُة فإنَّمَا يَسَّرنَاهُ ( سهلناه ، كناية عن غير مذكور .
) بِلِسانِكَ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ (
الدخان : ( 59 ) فارتقب إنهم مرتقبون
^) فَارتَقِبْ ( فانتظر الفتح والنصر من ربّك . ) إِنَّهُم مُّرتَقِبُونَ ( بزعمهم قهرك .
(8/357)

" صفحة رقم 358 "
( سُورةُ الجَاثِيَةِ )
مكيّة ، وهي سبع وثلاثون آية ، وأربعمائة وثمانوثمانون كلمة ، وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفاً
أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه ، أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر العدل ، حدثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا سلام بن سليم ، حدثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أُمامة ، عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته عند الحساب ) .
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
)
حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزيزَ الحَكِيمِ إِنَّ في السَّمَاوَاتِ والأَرضِ لآيات لّلمُؤمِنِينَ وَفِي خَلقِكُم وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّة آيَاتٌ
2 ( ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لاََيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءّايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ وَءاتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الاَْمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الاَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ( .
الجاثية : ( 1 - 4 ) حم
) حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين
(8/358)

" صفحة رقم 359 "
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات ( قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بكسر التاء من آيات وكذلك الّتي بعدها رداً على قوله : ) لآيات ( وقرأ الباقون برفعها على خبر حرف الصفة .
) لِقَوم يُوقِنُونَ (
الجاثية : ( 5 ) واختلاف الليل والنهار . . . . .
^) واختلاف الَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزق ( يعني الغيث سماه رزقاً لأنّه سبب أرزاق العباد وأقواتهم ) فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَتَصرِيفِ الرِيَاحِ آيَاتٌ لِقَوم يَعقِلُونَ (
الجاثية : ( 6 ) تلك آيات الله . . . . .
) تِلكَ آيَاتُ اللهِ نَتلُوهَا عَلَيكَ بِالحَقِ . فَبِأَيِ حَدِيث بَعدَ اللهِ ( . أي بعد حديث الله وكلامه . ) وَآيَاتِهِ ( وحججه ودليله . ) يُؤمِنُونَ ( قرأ أهل الكوفة بالتاء ، وأختلف فيه عن عاصم ويعقوب عنهم بالياء .
الجاثية : ( 7 ) ويل لكل أفاك . . . . .
) وَيلٌ لِكُلِ أَفَّاك ( كذّاب . ) أَثِيم (
الجاثية : ( 8 - 9 ) يسمع آيات الله . . . . .
^) يَسمَعُ آيَاتِ الله تُتلَى عَلَيهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُستَكبِراً كَأن لَّم يَسمَعهَا . فَبَشِرهُ بِعَذَاب أَلِيم وَإِذا عَلِمَ ( يعني قوله ) مِن آيَاتِنَا شَيئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً . أُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ مُّهِينٌ ( نزلت في أبي جهل وأصحابه .
الجاثية : ( 10 ) من ورائهم جهنم . . . . .
) مِن وَرَائِهِم ( أمامهم . ) جَهَنَّمُ ( نظيره في سورة إبراهيم ( عليه السلام ) . ) وَلاَ يُغنِي عَنهُم مَا كَسَبُوا ( من الأموال . ) شَيئاً وَلاَ مَا اتخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَولِيَاءَ ( يعني الأوثان .
) وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ (
الجاثية : ( 11 ) هذا هدى والذين . . . . .
^) هَذَا ( القرآن . ) هدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ رَبِهِم لَهُم عَذَابٌ مِن رِجز أَلِيمٌ ( من عذاب موجع .
الجاثية : ( 12 - 13 ) الله الذي سخر . . . . .
) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحرَ لِتَجرِيَ الفُلكُ فِيهِ بأَمرِهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ جَمِيعاً مِنهُ ( فلا تجعلوا لله أنداداً .
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدثنا طلحة وعبد الله ، قالا : حدثنا ابن مجاهد ، حدثني ابن أبي مهران ، حدثني أحمد بن يزيد ، حدثنا شبابة ، عن أبي سمبلة ، عن عبد العزيز بن علي القريشي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب الثقفي ، عن عثمان بن بشير ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ : ) وسخّر لكم مّا في السماوات وما في الأرض جميعاً مّنه ( مفتوحة ( الميم ) ، مرفوعة ( النون ) ، وبه رواية ، عن ابن عمر ، قال : سمعت مسلمة يقرأ : ) وسخر لكم مّا في السماوات وما في الأرض جميعاً مّنه ( مفتوحة ( الميم ) مرفوعة ( النون ) وهي مشددة ، ( والهاء ) مضمومة .
) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ (
الجاثية : ( 14 ) قل للذين آمنوا . . . . .
^) قُل لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرجُونَ أَيَّامَ اللهِ ( أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمه ، قال ابن عباس ومقاتل : نزلت في عمر بن الخطاب ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أنّ رجلاً من بني غفار كان يشتمه فهمّ عمر أن يبطش به ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره بالعفو .
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الله ، حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ، حدثنا الحسن بن علوية ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ، حدثنا محمد بن زياد الشكري ، عن ميمون ابن مهران ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية ) من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً (
(8/359)

" صفحة رقم 360 "
. قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص : احتاج ربّ محمد .
قال : فلما سمع بذلك عمر بن الخطاب إشتمل على سيفه وخرج في طلبه . فجاء جبريل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنّ ربّك يقول : ) قُل لّلّذين آمنوا يغفروا للّذين لا يرجون أيّام الله ( ، وأعلم إنّ عمر بن الخطاب قد إشتمل على سيفه وخرج في طلب اليهودي ) . فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في طلبه ، فلما جاءه ، قال : ( ياعمر خرج سيفك ؟ ) . قال : صدقت يارسول الله ، أَشهد أنّك أُرسلت بالحقّ ، قال : ( فإنّ ربّك يقول : ) قل لّلّذين آمنوا يغفروا للّذين لا يرجون أيام الله ( ) .
قال : لا جرم والّذي بعثك بالحقّ لا يُرى الغضب في وجهي .
قال القرظي والسدي : نزلت في ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل مكّة كانوا في أذىً شديد من المشركين ، قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنزل الله تعالى هذه الآية ثمّ نسختها آية القتال .
) لِيَجزِيَ قَوماً ( بفتح الياءين وكسر الزاء ، وقرأ أبو جعفر بضم الياء الأُولى وجزم الثانية ، قال أبو عمرو : وهو لحن ظاهر ، وقال الكسائي : وهذه ليجري الجزاء قوماً ، وقرأ الباقون بفتح اليائين على وجه الخبر عن الله تعالى ، واختاره أبو عبيده وأبو حاتم لذكر الله تعالى قبل ذلك .
) بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ (
الجاثية : ( 15 - 16 ) من عمل صالحا . . . . .
^) مَن عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا . ثُمَّ إلَى رَبِكُم تُرجَعُونَ وَلَقَد آتَينَا بَنِي إِسرَائِيلَ الكِتَابَ والحُكمَ والنَّبُوةَ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَيِبَاتِ ( الحلالات ، يعني المن والسلوى . ) وَفَضَّلنَاهُم عَلَى العَالَمِينَ (
الجاثية : ( 17 ) وآتيناهم بينات من . . . . .
^) وآتَينَاهُم بَيِنَات مِنَ الأَمرِ ( يعني أحكام التوراة .
) فَمَا اختَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغياً بَينَهُم . إنَّ رَبَّكَ يَقضِي بَينَهُم يَومَ القِيَامِةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ (
الجاثية : ( 18 ) ثم جعلناك على . . . . .
^) ثُمَّ جَعَلنَاكَ على شَرِيعَة ( سنة وطريقة . ) مِنَ الأَمرِ ( من الدّين .
) فَاتَّبِعهَا وَلاَ تَتَّبِعَ أَهوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعلَمُونَ ( يعني مُراد الكافرين الجاهلين ، وذلك حين دُعي إلى دين آبائه .
الجاثية : ( 19 ) إنهم لن يغنوا . . . . .
) إِنَّهُم لَن يُغنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئاً ( إن إتبعت أهواءهم . ) وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعض واللهُ وَليُّ المُتَّقِينَ (
الجاثية : ( 20 ) هذا بصائر للناس . . . . .
) هذا ( يعني هذا القرآن . ) بَصَائِر ( معالم . ) لِلنَّاسِ ( في الحدود والأحكام يبصرون بها .
) وَهُدىً وَرَحمَةٌ لِقَوم يُوقِنونَ أَم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا ( إكتسبوا . ) السَّيِئَاتِ ( يعني الكفر والمعاصي .
) أَن نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَوَاءً ( قرأ أهل الكوفة نصباً واختاره أبو عبيدة ، وقال : معناه نجعلهم سواءً ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء والخبر ، واختاره أبو حاتم ، وقرأ الأعمش ) ومماتهم ( بنصب التاء على الظرف ، أي في .
) مَّحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاءَ مَا يَحكُمُونَ ( بئس ما يقضون ، قال المفسرون : معناه المؤمن في
(8/360)

" صفحة رقم 361 "
الدّنيا والآخرة مؤمن ، والكافر في الدّنيا والآخرة كافر . نزلت هذه الآية في نفر من مشركي مكّة قالوا للمؤمنين : لئن كان ما تقولون حقاً لَنفضلنَّ عليكم في الآخرة ، كما فضلنا عليكم في الدّنيا .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا جعفر بن محمّد الفرماني ، حدثنا محمّد بن الحسين البلخي ، حدثنا عبد الله بن المبرك ، أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي الضحي ، عن مسروق ، قال : قال لي رجل من أهل مكّة : هذا مقام أخيك تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة ، حتّى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ، ويركع ، ويسجد ، ويبكي
الجاثية : ( 21 ) أم حسب الذين . . . . .
) أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيّئات أن نجعلهم ( . . . الآية .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدثني أبو هشام زياد بن أيوب ، حدثنا علي بن يزيد ، حدثنا عبد الرحمن بن عجلان ، عن بشير بن أبي طعمة ، قال : بتّ عند الربيع بن خيثم ذات ليلة ، فقام يصلي فمر بهذه الآية ) أم حسب الّذين ( فمكث ليله حتّى اصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ، ببكاء شديد ، وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيراً ما رأيت الفضيل بن عياض ، يردد من أول الليلة إلى آخرها هذه الآية ونظائرها ) أم حسب الّذين اجترحوا السيئات ( ثمّ يقول : يافضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت .
( ) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِئَابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الاَْرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2
الجاثية : ( 22 - 23 ) وخلق الله السماوات . . . . .
) وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفس بِمَا كَسَبَت وَهُم لاَ يُظلَمُونَ أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ( .
(8/361)

" صفحة رقم 362 "
قال ابن عباس والحسين وقتادة : ذلك الكافر إتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلاّ ركبه ، إِنّه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله ولا يحل ما أحل الله ، إنّما دينه ما هويت نفسه يعمل به ولا يحجزه عن ذلك تقوى .
وقال آخرون : معناه أفرأيت من إتخذ معبوده هواه ، فيعبد ما يهوى .
قال سعيد بن جبير : كانت قريش تعبد العُزي وهو حجر أبيض حيناً من الدهر ، وكانت العرب تعبد الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رموه أو كسروه أو ألقوه في بئر ، وعبدوا الآخر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس التميمي أحد المستهترين ، وذلك إنّه كان يعبد ما تهواه نفسه .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا طلحة وعبيد الله ، قالا : حدثنا ابن مجاهد ، حدثني ابن أبي مهران ، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر ، قال : قال سفيان بن عيينة : إنّما عبدوا الحجارة لإنّ البيت حجارة .
وقال الحسين بن الفضل : في هذه الآية تقديم وتأخير مجازها : أَفرأيت من أتخذ هواه إلهه .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه ، حدثنا محمد بن عمران بن هارون ، حدثنا أبو عبيد الله المخزومي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن شبرمه ، عن الشعبي ، قال : إنّما سمي الهوى لإنّه يهوي بصاحبه في النّار .
وبه عن سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، قال : ما ذكر الله عز وجل هوى في القرآن إلاَّ ذمه .
فروى أبو أُمامة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنّه ، قال : ( ما عبد تحت السّماء إله أبغض إلى الله من هوى ) .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه ) .
وروى ضمرة بن حبيب ، عن شداد بن أوس إنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والفاجر من إتبع نفسه هواها وتمنى على الله ) .
وقال مضر القاضي : لنحت الجبال بالأظافير حتّى تتقطع الأوصال ، أهون من مخالفة الهوى إذا تمكن في النفوس .
وسئل ابن المقفع عن الهوى ، فقال : هوانٌ سرقت نونه ، فنظمه الشاعر :
نون الهوان من الهوى مسروقة
فاذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال آخر :
(8/362)

" صفحة رقم 363 "
إنّ الهوى لهو الهوان بعينه
فإذا هويت فقد كسبت هوانا
وإذا هويت فقد تعبدك الهوى
فإخضع لحبّك كائناً من كانا
أنشدنا أبو القاسم الحبيبي ، أنشدنا أبو حاتم محمّد بن حيان المسني ، قال : ولم ار أكمل منه . قال : وأنشدنا محمد بن علي الحلاري لعبد الله المبرك :
ومن البلاء للبلاء علامة
أن لا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها
والحر يشبع تارة ويجوع
وأنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي ، أنشدنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي ، أنشدنا أبو المثنى معاذ بن المثنى العنبري ، عن أبيه لأبي العتاهية :
فإعص هوى النفس ولا ترضها
إنك إن أسخطتها زانكا
حتّى متى تطلب مرضاتها
وإنّها تطلب عدوانكا
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي ، أنشدنا أبو عبيد الطوسي :
والنفس إن أعطيتها مناها
فاغرة نحو هواها فاها
وسمعت أبا القاسم يقول : سمعت أبا نصر بن منصور بن عبد الله الأصبهاني بهراة يقول : سمعت أبا الحسن عمرو بن واصل البحتري يقول : سئل سهل بن عبد الله التستري عن الهوى ؛ فقال للسائل : هواك يأمرك فإن خالفته فرّط بك ، وقال : إذا عرض لك أمران شككت خيرها فإنظر أبعدهما من هواك فإنه .
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي ، أنشدنا الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال المشاشي بمرو وأنشدني أبو بكر الزيدي :
إذا طالبتك النفس يوماً بشهوة
وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما
هواك عدوٌّ والخلاف صديق
قوله سبحانه وتعالى :
) وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلم ( منه بعاقبة أمره . ) وَخَتَمَ ( طبع . ) عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ( قرأ حمزة والكسائي وخلف ) غشاوة ( بفتح ( الغين ) من غير ( ألف ) والباقون ) غشاوة ( ( بالألف ) وكسر ( الغين ) .
) فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (
الجاثية : ( 24 ) وقالوا ما هي . . . . .
^) وَقَالُوا ( يعني المشركين . ) مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا
(8/363)

" صفحة رقم 364 "
الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحيَا ( يموت الآباء ويحيا الأبناء . ) وَمَا يُهلِكُنَا إِلاَّ الدَّهرُ ( وما يفنينا إِلاَّ الزمان وطول العمر وفي حرف عبد الله وما يهلكنا الدهر يمر .
) وَمَا لَهُم بذلك مِن عِلم إِن هُم إِلاَّ يَظُنُّونَ ( أخبرنا الحسين بن فنجويه بقراءتي حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي الدينوري ، حدثنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي ، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي ، حدثنا سفيان بن عيينة بن أبي عمران ، عن الزهري ، عن سعيد ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كان أهل الجاهلية يقولون : إنّما الليل والنهار هو الّذي يهلكنا يميتنا ويحيينا ) فقال الله تعالى في كتابه : ) ما هي إلاَّ حياتنا الدّنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدّهر ( فيسبون الدّهر .
فقال الله تعالى : يؤذيني إبن آدم يسب الدّهر وأنا الدّهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ) .
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فاقرّبه ، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن ، حدثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأحمد بن يوسف ، قالوا : حدثنا عبد الرزاق بن همام ، أخبرنا معمر بن راشد ، عن همام بن منبه بن كامل بن سيج ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة ، عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قال الله تعالى : لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر ، أُرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما ) .
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة ، حدثنا عبد الملك بن أحمد البغدادي ، حدثنا محمود بن خداش ، حدثنا سفيان بن محمد الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( عليه السلام ) : ( لا تسبوا الدهر فإنّ الله تعالى هو الدهر ) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير هذا الحديث : إنّ هذا مما لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه وذلك أن من شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب ( . . . . . . . ) إجتاحهم الدهر وتخوفتهم الأيام وأتى عليهم الزمان وما أشبه ذلك حتّى ذكروها في أشعارهم ، ( ونسبوا الأحداث إليه ) .
قال عمرو بن قميئة :
(8/364)

" صفحة رقم 365 "
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
فكيف بمن يرمي وليس برام
فلو أنَّها نَبلٌ إذاً لاتقيتها
ولكنّني أرمي بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا
أنوء ثلاثاً بعدهنْ من قيامي
وروي إنّ الشعببي دخل على عبد الملك بن مروان وقد ضعف . فسأله عن حاله ، فأنشده هذه الأبيات :
فاستأثر الدهر الغداة بهم
والدهر يرميني ولا أرمي
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
بسراتنا ووقرت في العظم
وتركتنا لحم على وضم
لو كنت تستبقي من اللحم
وسلبتنا ما لست تعقبنا
يا دهر ما أنصفت في الحكم
وأنشدنا أبو القاسم السدوسي ، أنشدنا عبد السميع بن محمد الهاشمي ، أخبرنا أبو الحسن العبسي لإبن لنكك في هذا المعنى :
قل لدهر عن المكارم عطل
يا قبيح الفعال جهم المحيا
كم كريم حططته من بقاع
ولئيم ألحقته بالثريا
قال أبو عبيده : وناظرت بعض الملاحدة . فقال : إلاّ تراه يقول : فإنّ الله هو الدهر . فقلت له : وهل كان أحد يسب الله في أياد الدهر ، بل كانوا يقولون كما قال الأعشى :
استأثر الله بالوفاء وبالعدل
وولى الملامة الرجلا
قال : فتأويل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله هو الدهر ) ، إن الله جل ذكره هو الّذي يأتي بالدهر والشدائد والمصائب فإذا سببت الدهر وقع السب على الله تعالى لأنّه فاعل هذه الأشياء وقاضيها ومدبرها .
وقال الحسين بن الفضل : مجازه : فإنّ الله هو مدهّر الدهور .
وروي عن علي ح في خطبة له : مُدهّر الدهور ، ومن عنده الميسور ، ومن لدنه المعسور .
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري ، حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن الكارزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن القاسم الجمحي ، حدثنا عسر بن أحمد ، قال : بلغني إنّ سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيراً ما يذكر الدهر ، فزجرهُ أبوه عبد الله بن عمر ، وقال له : يا بني إياك وذكر الدهر ، وأنشد :
فما الدهر بالجاني لشيء لحينه
ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
(8/365)

" صفحة رقم 366 "
ولكن متى ما يبعث الله باعثاً
على معشر يجعل مياسيرهم عُسْرَا وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي ، أنشدنا الشيخ أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني ، أنشدنا معاذ بن نجدة بن العريان :
دار الزمان على الأمور فإنّه
( إن لحدا أزراك ) بالآلام
وذو الزمان على الملام فإنما
يحكي الزمان مجاري الأقلام
يُشكى الزمان ويستزاد وإنّما
بيد المليك ساند الأحكام
وأنشدنا الأستاذ أبو القاسم ، أنشدني أبي ، أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي :
يا عاتبَ الدهر إذا نابَهُ
لا تلم الدّهر على عذره
ألدهر مأمور له آمرٌ
وينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة
تزداد أضعافاً على كفره
ومؤمن ليس له درهم
يزدادا ايماناً على فقره
الجاثية : ( 25 - 26 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِنَات مَّا كَانَ حُجَّتَهُم إِلاَّ أَن قَالُوا ائتوا بآبَائِنَا إن كُنتُم صَادِقِينَ قُلِ اللهُ يُحيِيُكم ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُجمَعَكُم إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ( يعني ليوم القيامة . ) لاَ رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُونَ (
الجاثية : ( 27 - 28 ) ولله ملك السماوات . . . . .
^) وَللهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَومَئِذ يَخسَرُ المُبطِلُونَ وَتَرَى كُلُّ أُمَّة جَاثِيَةً ( مجتمعة مستوفرة على ركبها من هول ذلك اليوم ، وأصل الجثوة الجماعة من كلّ شيء .
قال طرفة يصف قبرين :
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح مصمد
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا موسى بن محمد الحلواني ، حدثنا يعقوب بن إسحاق العلوي . حدثنا عبد الله بن يحيى الثقفي ، حدثنا أبو عران ، عن عاصم الأحول ، عن ابن عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي ، قال : في القيامة ساعة هي عشر سنين يكون الناس فيها جثاة على ركبهم حتّى إبراهيم ( عليه السلام ) لينادي ( لا أسألك اليوم إلأنفسي ) .
) كُلُّ أُمَّة تُدعَى إِلَى كِتَابِهَا ( الّذي فيه أعمالها . ) اليَومَ تُجزَونَ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ (
الجاثية : ( 29 ) هذا كتابنا ينطق . . . . .
^) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيكُم بِالحَقِ ( فيه ديوان الحفظة وقيل اللوح المحفوظ .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عمر بن نوح البجلي ، حدثنا أبو خليفة ، حدثنا عثمان بن عبد
(8/366)

" صفحة رقم 367 "
الله الشامي ، حدثنا عقبة بن الوليد ، عن أرطأة بن المنذر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أول شيء خلق الله القلم من نور مسيره خمسمائة عام ، واللوح من نور مسيره خمسمائة عام ، فقال للقلم : إجر فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، بردها وحرها ، ورطبها ويابسها ، ثمّ قرأ هذه الآية ) هذا كتابنا ينطق بالحق ( ) .
) إِنَّا كُنَّا نَستَنسِخُ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ ( قال : وهل يكون النسخ إلاّ من كتاب قد فرغ منه ، ومعنى نستنسخ يأمر بالنسخ ، وقال الضحاك : نثبث . السدي نكتب . الحسن : نحفظ .
الجاثية : ( 30 ) فأما الذين آمنوا . . . . .
) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدخِلُهُم رَبُّهُم في رَحمَتِهِ ( جنّته ) ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ المُبِينُ ( الظفر الطاهر .
الجاثية : ( 31 - 32 ) وأما الذين كفروا . . . . .
) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ( فيقال لهم : ) أَفَلَم تَكُن آياتِي تُتلَى عَلَيكُم فَاستَكبَرتُم وَكُنتُم قَوماً مُّجرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيبَ فيها ( قرأه العامة بالرفع على الابتداء وخبره فيما بعده ودليلهم قوله : ) إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ( .
قرأ أبو رجاء وحمزة ) والسّاعة ( نصباً عطفاً بها على الوعد لا ريب فيها .
) قُلتُم مَّا نَدرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنَّاً وَمَا نَحنُ بِمُستَيقِنِينَ ( إنّها كائنة .
الجاثية : ( 33 ) وبدا لهم سيئات . . . . .
) وَبَدَا لَهُم سَيِئَّاتُ مَا عَمِلُوا ( أي جزاؤها . ) وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَستَهزِءُونَ (
الجاثية : ( 34 ) وقيل اليوم ننساكم . . . . .
^) وَقِيلَ اليَومَ نَنسَاكُم ( نترككم في النّار .
) كَمَا نَسِيتُم لِقَاءَ يَومِكُم هَذَا ( كما تركتم الإيمان بيومكم هذا . ) وَمَأوَاكُم النَّارُ وَمَا لَكُم مِن نَّاصِرِينَ (.
الجاثية : ( 35 ) ذلكم بأنكم اتخذتم . . . . .
^) ذَلِكُم بِأَنَّكُم اتَّخَذتُم آيَاتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا فَاليَومَ لاَ يُخرَجُونَ ( . قرأه العامة بضم الياء ، وقرأ أهل الكوفة إِلاَّ عاصم بفتحة .
) مِنهَا وَلاَ هُم يُستَعتَبُون ( يسترضون .
الجاثية : ( 36 ) فلله الحمد رب . . . . .
) فَلِلّهِ الحَمدُ رَبِ السَّمَاوَاتِ ورَبِ الأرضِ رَبِ العَالَمِينَ ( قرأه العامة بكسر ( الباء ) في ثلاثتها ، وقرأ ابن محيصن رفعاً على معنى هو ربُّ .
الجاثية : ( 37 ) وله الكبرياء في . . . . .
) وَلَهُ الكِبرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( .
(8/367)

" صفحة رقم 5 "
( سُورةُ الأَحقَافِ )
مكّية . وهي خمسة وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة . وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً
أخبرنا أبو جعفر كامل بن أحمد المفيد ، أخبرنا أبو عمرو محمّد بن جعفر بن محمّد الحبري ، حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي ، حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، حدّثنا سلام بن سليم ، حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الأحقاف أُعطي من الأجر بعدد كلّ نمل في الدّنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ويرفع له عشر درجات ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاَْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَاذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 2
الأحقاف : ( 1 - 4 ) حم
) حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّماوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَل مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ( في مصحف عبدالله ( أرأيتكم ) . ) مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَاب ( من عند الله جاءكم .
) مِنْ قَبْلِ هَذَا ( القرآن فيه بيان ما تقولون . ) أَوْ أَثَارَة مِنْ عِلْم ( قرأه العامّة بالألف واختلف العلماء في تأويلها ، أخبرنا عبدالله بن حامد الوزّان ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدّثنا عبدالله بن هاشم ، حدّثنا يحيى بن سعيد ، عن صفوان بن سليم ، عن أبي سلمة ، عن ابن عبّاس
(9/5)

" صفحة رقم 6 "
وأظنّه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أَوْ أَثَارَة مِنْ عِلْم ( قال : ( الخط ) ، وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة : خاصّة من علم . الحسن : أثارة من علم يستخرجوه فيثير .
مجاهد : رواية تأثرونها عمّن كان قبلهم . عكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء ( عليهم السلام ) .
محمّد بن كعب القرضي : الإسناد وأصل الكلمة من الأثر وهي الرواية . يقال : نموت الحديث أثره ، أثراً وأثارة ، كالشجاعة ، والجلادة ، والصلابة ، فما آثروا ، ومنه قيل للخبر : أثر .
قال الأعشى :
إنّ الّذي فيه تماريتما
بيّن للسامع والآثر
وقال الكلبي : بقية من علم . قال الأخفش : تقول العرب : لهذه الناقة أثارة من سمن ، أي بقيّة . قال الراعي :
وذات أثارة أكلت عليها
بناتاً في أكمّتها قصارا
وقرأ علي بن أبي طالب ح ) أو أثارة ( بفتح ( الألف ) وسكون ( الثاء ) من غير ( ألف ) . وقرأ السلمي ) أو أَثارة ( بفتح ( الهمزة ) و ( الثاء ) من غير ( ألف ) ، أي خاصة من علم أوتيتموه وأوثرتم بها على غيركم . وقول عكرمة : أو ميراث من علم .
) إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
الأحقاف : ( 5 ) ومن أضل ممن . . . . .
) وَمَنْ أَضَلُّ ( أجهل . ) مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ ( يعني الأوثان . ) عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( لا يسمعون ولا يفهمون . فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم إذ كانت قد مثّلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم .
الأحقاف : ( 6 ) وإذا حشر الناس . . . . .
) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( جاحدين وعنهم متبرّئين . بيانه قوله : ) تبرأنا إليك ما كانوا إِيّانا يَعبدُون ( .
الأحقاف : ( 7 - 8 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللهِ شَيْئاً ( إن عذّبني على افترائي
(9/6)

" صفحة رقم 7 "
) هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ ( تخوضون . ) فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( .
2 ( ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِىإِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( 2
الأحقاف : ( 9 ) قل ما كنت . . . . .
) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ ( بديعاً مثل نصف ونصيف ، من الرسل ، لست بأوّل مرسل ، فَلِمَ تنكرون نبوّتي ؟ هل أنا إلاّ كالأنبياء قبلي ؟ وجمع البدع : أبداع ، قال عدي بن زيد :
فلا أنا بدعٌ من حوادث تعتري
رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعدي
) وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ( اختلف العلماء في معنى هذه الآية وحكمها ، فقال بعضهم : معناها وما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة . فلمّا نزلت هذه الآية فرح المشركون فرحاً شديداً ، وقالوا : واللات والعُزّى ما أمرنا وأمر محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) عند الله إلاّ واحد ، وما له علينا من مزية وفضل ، ولولا إنّه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به . فأنزل الله تعالى ) ليَغْفِرَ لكَ الله ما تقدَّمَ مِن ذَنبِكَ وما تأخّر ( .
فبيّن له أمره ونسخت هذه الآية ، فقالت الصحابة : هنيئاً لك يا نبيّ الله ، قد علمنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى : ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحْتِها الأنْهار ( الآية . وأنزل ) وَبَشِّر المؤمنين بأنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلاً كَبيراً ( فبيّن الله تعالى ما يفعل به وبهم . وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة .
أخبرني الحسين بن محمّد بن الحسين الدينوري ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني ، حدّثنا إسماعيل بن داود ، حدّثنا هارون بن سعيد ، حدّثنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن أبي شهاب إنّ خارجة بن زيد بن ثابت أخبره أنّ أُمّ العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرته أنّهم اقتسموا والمهاجرين سكناهم قُرعة
(9/7)

" صفحة رقم 8 "
قالت : فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه أبياتنا موضعه الّذي توفي فيه ، فلمّا توفي غسّل وكفّن في أثوابه ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت لعثمان بن مظعون : رحمة الله عليك أبا السائب ، لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله : ( وما يدريك إنّ الله تعالى أكرمه ) .
قالت : فقلت : بأبي أنت وأمي لا أدري . قال : ( أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلاّ خيراً . فوالله إنّي لأرجو له الجنّة ، فوالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي ) . قالت : فوالله لا أزكّي بعده أحداً .
قالوا : وإنّما قال هذا حين لم يخبر بغفران ذنبه ، وإنّما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بسنتين وشيء ، وقال ابن عبّاس : لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى رسول الله فيما يرى النائم وهو بمكّة أرضاً ذات سباخ ونخل رُفعت له ، يهاجر إليها .
فقال له أصحابه وهم بمكّه : إلى متى نكون في هذا البلاء الّذي نحن فيه ؟ ومتى نهاجر إلى الأرض التي أُريت . فسكت .
فأنزل الله تعالى : ) وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ( أُترك في مكاني أو أخرج إلى الأرض التي رفعت لي ، وقال بعضهم : معناها : ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدُّنيا ؟
أنبأني عقيل بن محمّد ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمّد بن جرير ، أخبرنا ابن حميد ، حدّثنا يحيى بن واضح ، حدّثنا أبو بكر الهذل ، عن الحسن . في قوله تعالى : ) وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ( ، فقال : أمّا في الآخرة فمعاذ الله قد علم إنّه في الجنّه حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال : ) مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ( في الدُّنيا ، أُخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم ، أُمّتي المكذِّبة أم المصدّقة ، أم أُمّتي المرميّة بالحجارة من السّماء قذفاً أم مخسوف بها خسفاً .
ثمّ أنزل الله تعالى : ) هو الّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدى وَدين الحقّ ليُظْهِره عَلَى الدِّينِ كُلّه وَكَفى باللهِ شَهيدَاً ( . يقول : سيظهر دينكم على الأديان . ثمّ قال في أُمّته : ) وَمَا كَانَ الله ليُعذّبهم وأنتَ فيهم وما كانَ الله مُعذّبهم وهم يستغفرون ( فأخبره الله تعالى ما يصنع به وبأُمّته . وهذا قول السدي واليماني ، وقال الضحّاك : ) وَلا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ( أي ما تؤمرون وما تنهون عنه .
(9/8)

" صفحة رقم 9 "
) إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ }
الأحقاف : ( 10 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ( .
قال قتادة والضحاك وابن زيد : هو عبدالله بن سلام شهد على نبوّة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ) فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ( اليهود ، فلم يؤمنوا .
أخبرنا عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمّد بن يحيى ، أخبرنا عبدوس بن الحسين بن منصور ، حدّثنا محمّد بن إدريس يعني الحنظلي ، وأخبرنا عبدالله بن حامد ، حدّثنا أبو جعفر محمّد بن محمّد بن عبدالله البغدادي ، حدّثنا إسماعيل بن محمّد بن إسحاق ، حدّثنا عمر بن محمّد بن عبدالله الأنصاري .
حدّثني حميد الطويل ، عن أنس ، قال : جاء عبدالله بن سلام إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقدمه المدينة ، فقال : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلاّ نبي ، ما أوّل أشراط السّاعة ؟ ، وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة ؟ ، والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمِّه ؟ .
قال : ( أخبرني جبريل بهنّ آنفاً ) قال عبدالله : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة .
قال : ( أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة مرارة كبد حوت ، فأمّا الولد ، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولدَ ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولدَ ) .
فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّك رسول الله . ثمّ قال : يا رسول الله إنّ اليهود قوم بهت ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسائلهم عنّي بهتوا عليَّ عندك ، فجاءت اليهود فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي رجل عبد الله فيكم ؟ ) قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيّدنا وابن سيّدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا . قال : ( أرأيتم إن أسلم عبدالله ) . قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبدالله . فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله . قالوا : شرّنا وابن شرّنا . وانتقصوه ، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر .
ودليل هذا التأويل أنبأني عقيل بن محمّد أنّ المعافى بن زكريا أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، أخبرنا يونس ، أخبرنا عبدالله بن يوسف السبكي قال : سمعت مالك بن أنس يحدّث ، عن أبي النضر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : ما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لأحد يمشي على الأرض : إنّه من أهل الجنّة ، إلاّ لعبد الله بن سلام .
(9/9)

" صفحة رقم 10 "
قال : وفيه نزلت ) وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل على مثله ( .
وقال آخرون : هو موسى بن عمران ( عليه السلام ) .
وروى الشعبي ، عن مسروق في هذه الآية ، قال : والله ما نزلت في عبدالله بن سلام لأنّ ل ) حم ( نزلت بمكّة ، وإنّما أسلم عبدالله بالمدينة ، وإنّما كانت محاجّة من رسول الله لقومه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ومثل القرآن التوراة ، فشهد موسى على التوراة ، ومحمّد على القرآن ، وكلاهما مُصدّق أحدهما الآخر ، وقيل : هو ابن يامين .
وقيل : هو نبي من بني إسرائيل ) فآمن واستكبرتم ( فلم يؤمنوا .
) إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( لدينه وحجّته ، وقال أهل المعاني : هذه الآية محذوفة الجواب مجازها ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ( من المحقّ منّا ومنكم ، ومن المبطل ؟
الأحقاف : ( 11 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( من اليهود . ) لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ ( دين محمّد ) خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( يعني عبدالله بن سلام وأصحابه ، قاله أكثر المفسِّرين ، وقال قتادة : نزلت هذه الآية في ناس من مشركي قريش ، قالوا : لو كان ما يدعونا إليه محمّد خيراً ما سبقنا إليه فلان ، وفلان ) يختص برحمته من يشاء ( .
وقال الكلبي : ) وقال الذين كفروا ( يعني أسداً وغطفان ) لّلذين آمنوا ( يعني جهينة ومزينة . ) لو كان ( ما جاء به محمّد ) خيراً ( ما سبقنا إليه رعاء البهم ورذال الناس .
قال الله تعالى : ) وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ( أي بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان . ) فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( كما قالوا : أساطير الأوّلين .
الأحقاف : ( 12 ) ومن قبله كتاب . . . . .
) وَمِنْ قَبْلِهِ ( أي ومن قبل القرآن .
) كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً ( يؤتم به . ) وَرَحْمَةً ( لمن آمن وعمل به ، ونصبا على الحال ، عن الكسائي ، وقال أبو عبيدة : فيه إضمار أي أنزلناه أو جعلناه إماماً ورحمةً . الأخفش على القطع لأنّ قوله : ) كتاب موسى ( معرفة بالإضافة ، والنكرة إذا أعيدت وأضيفت أو أدخلت عليها الألف واللام ، صارت معرفة .
) وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً ( نصب على الحال ، وقيل : أعني لسَاناً . وقيل : بلسان . ) لِيُنْذِرَ ( ( بالتاء ) مدني وشامي ويعقوب وأيوب ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على خطاب النبي ( عليه السلام ) ، وقرأ الباقون ( بالياء ) على الخبر عنه . وقيل : عن الكتاب .
) الَّذِينَ ظَلَمُوا ( أنفسهم بالكفر والمعصية . ) وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( وجهان من الإعراب
(9/10)

" صفحة رقم 11 "
الرفع على العطف على الكتاب مجازه ) وهذا كتاب مصدّق ( وبشرى ، والنصب على معنى ) لتنذر الّذين ظلموا ( أو تبشّر . فلمّا جعل مكان وتبشر وبشرى أو وبشارة نصب كما يقال : أتيتك لأزورك وكرامة لك ، وقضاء حقّك يعني لاِزورك وأكرمك وأقضي حقّك ، فنصبت الكرامة والقضاء بفعل مضمر .
2 ( ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىأَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِىأَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِىإِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِىأَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِىأُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاَْحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَاكِنِّىأَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 2
الأحقاف : ( 13 - 15 ) إن الذين قالوا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الاْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحْسَاناً ( قرأ العامّة : ( حسناً ) بدون ألف ، وقرأ أهل الكوفة : ( إحساناً ) وهي قراءة ابن عبّاس .
) حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ( بَكُره ومشقّة . ) وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ( وفِطامه ، وقرأ الحسن
(9/11)

" صفحة رقم 12 "
ويعقوب : ( وفصله ) بغير ألف . ) ثَلاَثُونَ شَهْراً ( قال المفسِّرون : حَملَهُ ستّة أشهر ورضاعه أربعة وعشرون شهراً .
وقال ابن إسحاق : حمله تسعة أشهر وفصاله من اللبن لأحد وعشرين شهراً .
) حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ( نهاية قوّته وقامته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة ، فذلك قوله تعالى : ) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ( قال السدي والضحاك : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقّاص . وقد مضت القصة ، وقال الآخرون : نزلت في أبي بكر الصدّيق ح وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرة ، وأُمّه أُمّ الخير بنت صخر بن عمرو بن عامر ، فلمّا بلغ أبو بكر أربعين سنة آمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال لربّه : إنّي تبت إليك وإنّي من المسلمين .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عبيدالله بن محمّد بن شنبه ، حدّثنا إسحاق بن صدقة ، حدّثنا عبدالله بن هاشم ، عن سيف بن عمر ، عن عطية ، عن أبي أيّوب ، عن علي ح في قوله : ) ووصّينا الإنسان بوالديه حُسْناً ( نزلت في أبي بكر ، أسلم أبواه جميعاً ولم يجتمع لأحد من أصحاب رسول الله ( من ) المهاجرين ( أسلم ) أبواه غيره ، أوصاه الله بهما ولزم ذلك مَن بعده .
) قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ( ألهمني وأوسعني . ) أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ( أن تجعلهم مؤمنين صالحين . قالوا : فأجاب الله تعالى أبا بكر في أولاده فأسلموا ، ولم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته إلاّ أبو بكر ح .
) إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ }
الأحقاف : ( 16 ) أولئك الذين نتقبل . . . . .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ( يعني أعمالهم الصالحة فيثيبهم عليها .
) وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ( فلا يعاقبهم بها . ) فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ( أي مع أصحاب الجنّة ، و ( في ) بمعنى مع ) وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( وهو قوله : ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار 2 )
الأحقاف : ( 17 ) والذي قال لوالديه . . . . .
) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ( إذا دعوه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث والجزاء . ) أُفّ لَكُمَا ( وهي كلمة كراهية .
) أَتَعِدَانِنِي ( قراءة العامة ( بنونين ) حقيقيتين ، وروى أهل الشام ( بنون ) واحدة مشدّدة ) أَنْ أُخْرَجَ ( من قبري حيّاً بعد فنائي وبلائي . ) وَقَدْ خَلَتْ ( مضت ) الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ( فلم يبعث منهم أحد . وقرأ الحسن والأعمش وأبو معمر أن أَخُرج بفتح وضم ( الراء ) .
) وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ ( يستصرخان الله ويستغيثانه عليه ويقولان له : ) وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ
(9/12)

" صفحة رقم 13 "
اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا ( الذي تعدانني وتدعوانني إليه . ) إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( قال ابن عبّاس وأبو العالية والسدي ومجاهد : نزلت هذه الآية في عبدالله . وقيل : في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصدِّيق . قال له أبواه : أسلم وألحّا عليه في دعائه إلى الإيمان . فقال : أحيوا لي عبدالله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا يقولون .
قال محمّد بن زياد : كتب معاوية إلى مروان حتّى يبايع الناس ليزيد ، فقال عبد الرّحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم ؟
فقال مروان : هذا الذي يقول الله تعالى فيه : ) والذي قال لوالديه أُفَ لكما أتعدانني ( . . . الآية . فسمعت عائشة خ بذلك فغضبت ، وقالت : والله ما هي به ، ولو شئت لسمّيته ولكنّ الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت نضض من لعنة الله .
الأحقاف : ( 18 ) أولئك الذين حق . . . . .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ ( وجب عليهم العذاب . قالوا : يعني الّذين أشار عليهم ابن أبي بكر ، وقال أحيوهم إليّ ، هم الّذين حقّ عليهم القول ، وهم الماضون بقوله : ) وقد خلت القرون من قبلي ( ، فإمّا ابن أبي بكر فقد أجاب الله تعالى فيه دعاء أبيه بقوله : ) وأصلح لي في ذريتي ( فأسلم وحسن إسلامه .
وقال الحسن وقتادة : هذه الآية مرسلة عامة ، وهي نعت عبد كافر فاجر عاق لوالديه . ) فِي أُمَم ( مع أُمم . ) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالاْنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ }
الأحقاف : ( 19 ) ولكل درجات مما . . . . .
) وَلِكُلّ ( واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين .
) دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ( منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بإعمالهم فيجازيهم عليها ، وقال ابن زيد : في هذه الآية دُرج أهل النار تذهب سفالاً ، ودُرج أهل الجنّة تذهب علوّاً . ) وَلِيُوَفِّيَهُمْ ( أجورهم ( بالياء ) مكي وبصري وهشام ، والباقون ( بالنون ) .
) أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
الأحقاف : ( 20 ) ويوم يعرض الذين . . . . .
) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ( فيقال لهم : ) أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ( قرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب ( أذهبتم طيباتكم ) بالاستفهام ، واختلف فيه عن أهل الشام ، وغيرهم بالخبر ، وهما صحيحتان فصيحتان لأنّ العرب تستفهم بالتوبيخ وتترك الاستفهام فيه . فتقول : أذهبت ففعلت كذا وكذا ؟ ، وذهبت ففعلت وفعلت ؟
) فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( أخبرنا ابن محمّد بن الحسين بن منجويه ، حدّثنا عبدالله بن إبراهيم بن علي بن عبدالله ، حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي ، حدّثنا حميد بن الربيع ، حدّثنا أبو معمر
(9/13)

" صفحة رقم 14 "
حدّثنا عبد الوارث ، حدّثنا محمّد بن حجارة ، عن حميد الشامي ، عن سليمان ، عن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : كان رسول الله إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله وأوّل من يدخل عليه إذا قدم فاطمة عليها السلام .
فلمّا قدم من غزوة فأتاها فأذا لمحَ وقيل : لمح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضّة ، فرجع ولم يدخل عليها ، فلمّا رأت ذلك فاطمة ظنّت إنّه لم يدخل عليها من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصّبيين ، فقطعتهما ، فبكى الصبيّان ، فقسمته بينهما نصفين ، فانطلقا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهما يبكيان ، فأخذه رسول الله منهما ، وقال : ( يا ثوبان إذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج ) قال : ( فإنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أحبّ أن يأكلوا طيّباتهم في الحياة الدُّنيا ) .
أنبأني عقيل بن محمّد ، قال : أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمّد بن جرير ، حدّثنا كثير ، حدّثنا يزيد ، حدّثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدّثنا صاحب لنا ، عن أبي هريرة ، قال : إنّما كان طعامنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الأسودان : الماء ، والتمر ، والله ما كنا نرى سمراكم هذه ولا ندري ما هي . وبه عن قتادة ، عن أبي بردة بن عبدالله بن قيس الأشعري ، عن أبيه ، قال : أي بُني لو شهدتنا ونحن مع نبيّنا ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أصابتنا السماء حسبت إنّ ريحنا ريح الضأن ، إنّما كان لباسنا الصوف .
وبه عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب ح كان يقول : لو شئت كنت أطيبكم طعاماً وألينكم لباساً ، ولكنّي أستبقي طيباتي . وذكر لنا أنّه لما قدم الشام صُنع له طعام لم ير قبله مثله . قال : هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير ؟ قال خالد ابن الوليد : لهم الجنّة . فاغرورقت عينا عمر ، وقال : لئن كان حظّنا في الحطام وذهبوا فيما أرى أنا بالجنّة لقد باينونا بوناً بعيداً . وذُكر لنا أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على أهل الصفة ، مكاناً يجتمع فيه فقراء المسلمين وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً .
قال : أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أُخرى ، ويغدى عليه بحفئة ويُراح عليه بأُخرى ، ويستر بيته كما يستر الكعبة ؟ قالوا : نحن يومئذ خير .
أخبرنا الحسين بن منجويه ، حدّثنا محمّد بن أحمد بن نصرويه ، حدّثنا أبو العبّاس أحمد ابن موسى الجوهري ، حدّثنا علي بن سهل الرملي ، حدّثنا الوليد بن مسلم ، حدّثني رزق أبو الهذيل ، حدّثني عبيدالله بن عبدالله ، عن ابن عبّاس ، عن عمر بن الخطّاب ح أنّه حدّثه أنّه دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين هجر نساءه فوافاه على سرير رميل ، يعني مرمُولاً مشدوداً ، قد أثّر الحصيرُ في جنبه ، متوسِّد وسادة من أدم محشوة ليف .
(9/14)

" صفحة رقم 15 "
فقال عمر : والتفتٌّ في البيت فوالله ما رأيت شيئاً يردّ البصر إلاّ أهب يعني جلداً معطوبة قد سطع ريحها ، فبكيت ، فقلت : يا رسول الله أنت رسول الله وخيرته ، فيما أرى وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير ؟ فاستوى رسول الله جالساً ، وقال : ( أَوَفي شك أنت يابن الخطّاب ؟ ) ( أولئك قوم عجلت لهم طيّباتهم في حياتهم الدُّنيا ) .
أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، حدّثنا عبيدالله بن محمّد بن عتبة ، حدّثنا الفرماني ، حدّثنا أبو أمية الواسطي ، حدّثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا مبارك بن فضالة ، حدّثنا حفص بن أبي العاص ، قال : كنت أتغدى مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتغدينا الخبز والزيت والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأقلّ ذلك اللحم العريض ، وكان يقول : ( لا تنخلوا الدقيق فإنّه كلّه طعام ) . فيجىء بخبز منقلع غليظ ، فجعل يأكل ويقول لنا : كلوا . فجعلنا نعتذر ، فقال : ما لكم لا تأكلون ؟ فقلت : لا نأكله والله يا أمير المؤمنين ، نرجع إلى طعام ألين من طعامك .
قال : بخ يا بن أبي العاص ، ألا ترى أنّي عالم بأن آمر بدقيق أن ينخل بخرقة فيَخبز في كذا ، وكذا ؟ أما ترى أنّي عالم إنّ آمر إلى عناق سمينة فُيلقى عنها شعرها ، ثمّ تخرج صلاء كأنّه كذا وكذا ؟ أما ترى أنّي عالم أن أعمل إليَّ صاع أو صاعين من زبيب فاجعله في سقاء ثمّ أرش عليه من الماء فيطبخ كإنّه دم غزال ؟
قال : قلت : والله يا أمير المؤمنين إني لأراك عالماً بطيب العيش ، فقال عمر : أجل ، والله الذي لا إله إلاّ هو لولا إنّي أخاف أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في العيش ، ولكنّي سمعت الله يقول لقوم : ) أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدُّنيا واستمتعم بها ( .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عبدالله بن يوسف ، حدّثنا عبدالله بن محمّد بن عبد العزيز ، حدّثنا محمّد بن بكار الريان ، حدّثنا أبو معشر ، عن محمّد بن قيس ، عن جابر بن عبدالله . قال : اشتهى أهلي لحماً ، فمررت بعمر بن الخطّاب ح ، فقال : ما هذا يا جابر ؟ فقلت : أشتهى أهلي لحماً ، فاشتريت لحماً بدرهم . فقال : أوكلّما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه ؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ) أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدُّنيا ( ؟
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا محمّد بن الحسين ، حدّثنا بشر ، حدّثنا ابن أبي الخصيب ، أخبرني أحمد بن محمّد بن أبي موسى ، حدّثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدّثنا أبي ، قال : قال وهب بن الورد : خلق ابن آدم والخبز معه ، فما زاد على الخبز ينمو شهوة . قال : فحدّثت به أبا سليمان . فقال : صدق ، الملح مع الخبز شهوة .
الأحقاف : ( 21 ) واذكر أخا عاد . . . . .
) وَاذْكُرْ أَخَا عَاد ( يعني هود ( عليه السلام )
(9/15)

" صفحة رقم 16 "
) إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالاْحْقَافِ ( قال ابن عبّاس : الأحقاف واد بين عمان ومهرة . مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له : مهرة إليها تنسب الجمال ، فيقال : إبل مهرية ومهاري ، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم .
وقال الضحّاك : الأحقاف جبل بالشام . مجاهد : هي أرض جساق من جسمي . قتادة : ذكر لنا أنّ عاداً كانوا حيّاً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها : الشحر . ابن زيد : هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلاً .
الكلبي : الأحقاف ما نضب عنه الماء زمان الغرق ، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره . الخليل : هي الرمال العظام . الكسائي : هي ما استدار من الرمل ، وواحدها حقف وحقاف ، مثل دبغ ودباغ ، ولبس ولباس . وقيل : الحقاف جمع الحقف ، والأحقاف جمع الجمع .
ونظير حقف أحقاف شبر وأشبار . قال الأعشى :
فبات إلى أرطاة حقف تلفّه
حريق شمال يترك الوجه أقتما
وقال : بنا بطن حرّى ذي حقاف عقنقل . ويقال : حقفٌ أحقف أي رمل متناه في الاستدار . قال العجاج : بات إلى إرطاة حقف أحقفا ، والفعل منه أحقف . قال الراجز : سماوة الهلال حتّى احقوقفا . أي انحنى واستدار .
) وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ ( مضت الرسل . ) مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ( أي قبل هود . ) وَمِنْ خَلْفِهِ ( وهي في قراءة عبدالله ) ومن بعده ( . ) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم }
الأحقاف : ( 22 ) قالوا أجئتنا لتأفكنا . . . . .
) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا ( لتصرفنا . ) عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( من العذاب . ) إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ }
الأحقاف : ( 23 ) قال إنما العلم . . . . .
) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ ( بوقت مجيء العذاب .
) عِنْدَ اللهِ ( لا عندي وإنّما أنا مبلِّغ . ) وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ }
الأحقاف : ( 24 ) فلما رأوه عارضا . . . . .
) فَلَمَّا رَأَوْهُ ( يعني العذاب . ) عَارِضاً ( نُصب على الحال ، وإن شئت بالتكرير أي رأوهُ عارضا وهو السحاب ، سمّي بذلك لأنّه يعرض أي يبدو في عرض السماء .
قال مجاهد : استعرض بهم الوادي . قال الأعشى :
يا من يرى عارضاً قد بتٌّ أرمقه
كإنّما البرق في حافاته الشعل
قال المفسِّرون : ساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختار قيل بن عتز رأسه وقد عاد بما
(9/16)

" صفحة رقم 17 "
فيها من النقمة إلى عاد فخرجت عليهم من واد لهم يقال له : المغيث . وكانوا قد حبس عنهم المطر أيّاماً ، فلمّا رأوها .
( قالوا : هذا عارض ممطرنا حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها مهدر فصاحت وصعقت ، فلمّا أفاقت قيل لها : ما رأيت ؟ قالت : ريحاً فيها كشهب النار ) .
) مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ( استبشروا بها .
) قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ( يقول الله تعالى : ) بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( فجعلت تحمل الفسطاط ، وتحمل الظعينة ، فترفعها حتّى ترى كأنّها جرادة .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه ، حدّثنا عبيدالله بن أحمد بن منصور الكسائي ، حدّثنا الحارث بن عبدالله ، حدّثنا هشيم ، عن جويبر ، حدّثنا أبو داود الأعمى ، عن ابن عبّاس في قول الله تعالى : ) فلمّا رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم ( الآية ، قال : لمّا دنا العارض قاموا فمدّوا أيديهم ، فأوّل ما عرفوا أنّها عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم ، من رحالهم ، ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، مثل الرشا ، قالوا : فدخلوا بيوتهم ، وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فغلّقت أبوابهم وصرعتهم ، وأمر الله تعالى الريح فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال ، وثمانية أيّاماً حسوماً لهم أنين ، ثمّ أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال ثمّ أمرها فاحتملتهم ، فرمت بهم في البحر .
الأحقاف : ( 25 ) تدمر كل شيء . . . . .
فهم الذين يقول الله تعالى : ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبِّهَا ( مرّت به من رجال عاد وأموالها بأذن ربّها . أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عمر بن الخطّاب ، حدّثنا عبدالله بن الفضل ، حدّثنا أبو هشام ، حدّثنا حفص ، عن ابن جريح ، عن عطاء ، عن عائشة خ قالت : كان النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رأى الريح فزع ، وقال : ( اللّهم إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها ، وشرّ ما أرسلت به ) .
فإذا رأى مخيلة قام ، وقعد ، وجاء ، وذهب ، وتغيّر لونه ، فنقول : يا رسول الله ، فيقول : ( إنّي أخاف أن يكون مثل قوم عاد ، حيث قالوا هذا عارض ممطرنا ) .
) فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ( قرأ الحسن ( لا تُرى ) بتاء مضمومة ) إلاّ مساكنهم ( برفع ( النون ) . ومثله روى شعيب بن أيّوب ، عن يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عيّاش ، عن عاصم . قال أبو حاتم : هذا لا يستقيم في اللغة إلاّ إنْ أُوّل فيه إضمار كما تقول في الكلام : لا تُرى
(9/17)

" صفحة رقم 18 "
النساء إلاّ زينب ، ولا يجوز لا تُرى إلاّ زينب ، وقال سيبويه : معناه ( لا ترى ) أشخاصهم . ) إلاّ مساكنهم ( وأجرى الفرّاء هذه الآية على الاستكراه ، وذكر أنّ المفضل أنشده :
نارنا لم تر ناراً مثلها
قد علمتْ ذاك معدّ كرما
فأَنّث فعل مثل لأنّه للنّار ، قال : وأجود الكلام أن يقول : لم تر مثلها نار .
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة ويعقوب وخلف ( بياء ) مضمومة ) مساكنهم ( رفعاً واختاره أبو عبيدة رفعاً وأبو حاتم . قال الكسائي : معناه لا يُرى شيء إلاّ مساكنهم .
وقال الفرّاء : لا يُرى الناس لأنّهم كانوا تحت الرمل ، فإنّما يرى مساكنهم لأنّها قائمة . وقرأ الباقون ( تَرى ) ( بتاء ) مفتوحة ( مساكنهم ) نصباً على معنى ( لا ترى ) يا محمّد ( إلاّ مساكنهم ) .
) كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (
.
) وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَىْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الاَْيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ياقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِىإِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاَْرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 2
الأحقاف : ( 26 ) ولقد مكناهم فيما . . . . .
) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ( أي فيما لا يمكنكم فيه من بسطة الأجسام ، وقوّة الأبدان ، وطول العمر ، وكثرة المال .
) وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْء إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (
الأحقاف : ( 27 ) ولقد أهلكنا ما . . . . .
) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ ( يا أهل مكّة .
) مِنْ الْقُرَى ( كحجر ثمود ، وأرض سدوم ونحوهما .
) وَصَرَّفْنَا الاْيَاتِ ( الحجج والبيّنات وأنواع العبر والعظات ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( عن كفرهم ، فلم يرجعوا ، فأهلكناهم ، يخوّف مشركي قريش .
الأحقاف : ( 28 ) فلولا نصرهم الذين . . . . .
) فَلَوْلاَ نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُون
(9/18)

" صفحة رقم 19 "
ِ اللهِ قُرْبَاناً آلِهَةً ( يعني الأوثان ، قال الكسائي : القربان كلّ ما يُتقرّب به إلى الله تعالى من طاعة ، ونسكة ، والجمع قرابين ، كالرهبان والرهابين .
) بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ( أي كذبهم الذي كانوا يقولون : إنّها تقرّبهم إلى الله تعالى ، وتشفع لهم عنده . وقرأ ابن عبّاس وابن الزبير ) ذلك إفكهم ( بفتح ( الألف ) و ( الفاء ) على الفعل ، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد . وقرأ عكرمة ) إفكهم ( بتشديد ( الفاء ) على التأكيد والتفسير . قال أبو حاتم : يعني قلبهم عمّا كانوا عليه من النعيم . ودليل قراءة العامّة قوله : ) وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( .
الأحقاف : ( 29 ) وإذ صرفنا إليك . . . . .
) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ ( الآية . قال المفسِّرون : لمّا مات أبو طالب خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده إلى الطائف يلتمس ثقيف النصرة ، والمنعة له من قومه ، فروى محمّد بن أحمد عن يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي ، قال : لمّا انتهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده إلى الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف ، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمر بن عمير ، عندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم ، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه .
فقال أحدهم ، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك ، وقال الآخر : أما وجد الله أحد يرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله لا أُكلّمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول ، لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أُكلّمك .
فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : ( إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه ) .
وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك ، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم ، وعبيدهم يسبّونه ، ويصيحون به ، حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة ، وشيبة ابني ربيعة ، هما فيه ، ورجع عنه سفهاء ثقيف .
ولقد لقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلك المرأة من بني جمح ، فقال لها : ( ماذا لقينا من أحمائك ؟ ) .
فلمّا اطمئن رسول الله ، قال : ( اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على النّاس ، أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربّي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوَ ملّكته أمري . إن لم يكن بك عليَّ غضب ، فلا أُبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع ، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك ، ويحلّ عليَّ سخطك ، لك العتبى حتّى ترضى ، لا حول ، ولا قوّة إلاّ بك ) .
(9/19)

" صفحة رقم 20 "
فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما ، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً ، يقال له : عداس . فقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا وضع رسول الله يده ، قال : ( بسم الله ) .
ثمّ أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ، ثمّ قال : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة . قال له رسول الله : ( ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ ) . قال : أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى .
فقال له رسول الله : ( من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى ) . قال له : وما يدريك ما يونس بن متّى ؟ قال له رسول الله : ( ذاك أخي ، كان نبيّاً وأنا نبيّ ) . فأكبّ عداس على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقبّل رأسه ، ويديه ، ورجليه .
قال : فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه ، أما غلامك فقد أفسده عليك . فلمّا جاءهم عداس ، قالا له : ويلك يا عداس ما لكَ تقبّل رأس هذا الرجل ، ويديه ، ورجليه ؟ قال : يا سيّدي ما في الأرض خيرٌ من هذا ، لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبي . فقال : ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك ، فإنّ دينك خيرٌ من دينه .
ثمّ إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انصرف من الطائف راجعاً إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف ، حتّى إذا كان بنخلة ، قام من جوف الليل يصلّي ، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن ، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع ، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب . قال إبليس : إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض ، فبعث سراياه لتعرف الخبر ، فكان أوّل بعث بُعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة ، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة ، ببطن نخلة ويتلو القرآن ، فاستمعوا إليه ، وقالوا : أنصتوا . هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمّة الخبر ، ورواية العوفي عن ابن عباس ، وقال آخرون : بل أُمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفراً من الجنّ من نينوى وجمعهم له ، فقال رسول الله : ( إنّي أُمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني ؟ ) فأطرقوا ثمّ استتبعهم فأطرقوا ، ثمّ استتبعهم الثالثة ، فاتبعه عبدالله بن مسعود ، قال عبدالله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة دخل نبيّ الله ( صلى الله عليه وسلم ) شعباً يقال له : شعب الحجون وخط إليَّ خطّاً ، ثمّ أمرني أن أجلس فيه .
قال : ( لا تخرج منه حتّى أعود إليك ) . ثمّ انطلق حتّى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال
(9/20)

" صفحة رقم 21 "
النسور تهوي تمشي في رفوفها ، وسمعت لغطاً شديداً ، حتّى خفت على نبي الله ، وغشيته أسورة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتّى ما أسمع صوته ، ثمّ طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب داهنين ، ففزغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع الفجر ، ثمّ انطلق إليَّ ، وقال : ( أنمت ؟ ) فقلت : لا والله لقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتّى سمعتك تقرعهم بعصاك . تقول : ( اجلسوا ) .
قال : ( لو خرجت لم آمن أن يتخطّفك بعضهم ) .
ثمّ قال : ( هل رأيت شيئاً ؟ ) . قلت : نعم رأيت رجالاً سوداً مسفري ثياب بيض . فقال : ( أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع ) والمتاع الزاد ( فمتعتهم بكلّ عظم حائل وبعرة وروثة ) .
فقالوا : يا رسول الله يقذرها الناس علينا . فنهى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أن يُستنجى بالعظم والروث . قال : فقلت : يا رسول الله وما يعني ذلك عنهم ؟ قال : ( إنّهم لا يجدون عظماً إلاّ وجدوا عليه لحمة يوم أُكل ، ولا روثة إلاّ وجدوا فيها حبّها يوم أُكلت ) .
فقلت : يا رسول الله ، لغطاً شديداً . فقال : ( إنّ الجنّ يدارك في قتيل قتل بينهم ) وقيل : قتل ( فتحاكموا إليَّ ، فقضيت بينهم بالحقّ ) . قال : ثمّ تبرّز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ أتاني فقال : ( هل معك ماء ؟ ) . قلت : يا رسول الله معي أداوة فيها شيء من نبيذ التمر ، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضّأ .
وقال : ( تمرة طيبة وماء طهور ) . قال قتادة : فذكر لنا ابن مسعود لمّا قدم الكوفة رأى شيوخاً شمُطاً من الزط ، فأفزعوه حين رآهم . وقال : اظهروا . فقيل له : إنّ هؤلاء قوم من الزط ، فقال : ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريد الجنّ .
قال : أخبرنيه ابن منجويه ، حدّثنا ابن حنش المقري ، حدّثنا ابن زنجويه ، حدّثنا سلمة ، حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، عن قتادة بمثل معناه إلاَّ إنّه لم يذكر قصة نبيذ التمر .
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي ، حدّثنا محمّد بن الحسن الصوفي ، حدّثنا أبو جعفر محمّد بن صالح بن ذريح ، حدّثنا مسروق بن المرزبان ، حدّثنا ابن أبي زائدة ، حدّثنا داود بن أبي هند ، عن علقمة ، قال : سألت عبدالله بن مسعود ، هل كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحد من الجنّ ؟ .
فقال : لا لم يصحبه منّا أحدٌ . ولكنّا فقدناهُ ذات ليلة ، فقلنا استطير أو اغتيل ، فتفرّقنا في الشعاب والأودية نلتمسه ، فلمّا أصبحنا رأيناه مقبلاً من نحو حراء .
فقلنا : يا رسول الله ، بتنا بشرِّ ليلة بات بها قوم ، نقول : استطير أو اغتيل .
فقال : ( إنّه أتاني داع من الجنّ ، فذهبت أُقرئهم القرآن ) . قال : وأراني آثارهم وآثار نيرانهم . قال : ( فسألوه ليلتيئذ الزاد ) .
(9/21)

" صفحة رقم 22 "
فقال : ( فكلّ عظم لم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحماً ، والبعر لدوابكم ) .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تستنجوا بالعظام ولا بالبعر فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ ) ( 14 ) .
أخبرنا أبو عبدالله بن منجويه ، حدّثنا أبو بكر بن خرجه ، حدّثنا محمّد بن أيّوب ، أخبرنا سلمان بن داود الشاذكوي ، عن خالد بن عبدالله الواسطي ، عن خالد الحذّاء ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله ، قال : لم أكن مع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الجنّ وودت أنّي كنت معه .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا موسى بن محمّد بن علي ، حدّثنا يوسف بن يعقوب القاضي ، حدّثنا سليمان بن حرب ، حدّثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سألت أبا عبيدة بن عبدالله ، أكان عبدالله مع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الجنّ ؟ قال : لا . قال : وسألت إبراهيم . فقال : ليت صاحبنا كان ذاك .
قوله تعالى : ) وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ( اختلفوا في مبلغ عددهم ، فقال ابن عبّاس : كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين فجعلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رُسلاً إلى قومهم : / /
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا طلحة بن محمّد بن جعفر ، وعبيدالله بن أحمد بن يعقوب ، قالا : أخبرنا أبو بكر بن مجاهد ، حدّثني أحمد بن حرب ، حدّثنا سنيد ، حدّثنا حجاج ، قال : قال ابن جريح : أخبرني وهب بن سلمان ، عن شعيب الحماني . إنّ أسماء الجنّ الّذين صرفهم الله تعالى إلى رسوله شاصر ، وماصر ، ومنشي ، وماشي ، والأحقب وقال آخرون : كانوا تسعة .
أخبرني أبو علي السراج ، أخبرنا أبو بكر القطان ، حدّثنا أحمد بن يوسف السّلمي ، حدّثنا محمّد بن يوسف الفريابي ، قال : ذكر سفيان ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : كان زوبعة من التسعة الّذين استمعوا القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم .
) فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ( قالوا : صه . وبإسناده عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ثابت بن قطبة الثقفي ، قال : جاء أُناسٌ إلى عبدالله بن مسعود ، قالوا : كنّا في سفر فرأينا حيّة متشحّطة في دمها مقتولة ، فأخذها رجل منّا ، فواريناها ، فلمّا ولّوا جاءهم ناس ، فقالوا : إنّكم دفنتم عمراً ، فقالوا ومَنْ عمر ؟ قالوا : الحيّة التي دفنتم في مكان كذا وكذا . أمّا إنّه كان من النفر
(9/22)

" صفحة رقم 23 "
الّذين استمعوا القرآن من النبي ( عليه السلام ) وكان بين حيّتين من الجنّ من المسلمين وغيرهم ، فزال ، فقتل .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عمر بن الخطّاب ، حدّثنا عبدالله بن الفضل ، حدّثنا سهل بن حمزة ، حدّثنا عبدالله بن صالح ، حدّثني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أبي ثعلبة الحشي إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الجنّ على ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواءو وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلّون ويظعنون ) .
فلمّا حضروه ، قالوا : قال : بعضهم لبعض أنصتوا ، فأنصتوا واستمعوا القرآن ، حتّى كاد يقع بعضهم على بعض من شدّة حرصهم ، نظيرما في سورة الجنّ .
) فَلَمَّا قُضِيَ ( فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجان . وقرأ لاحق بن حميد ( قَضَى ) بفتح ( القاف ) و ( الضاد ) ، يعني النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) .
) وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( مخوّفين داعين بأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم )
الأحقاف : ( 30 - 31 ) قالوا يا قومنا . . . . .
) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللهِ ( يعني محمّد ( صلى الله عليه وسلم )
) وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم (
قال ابن عبّاس : فاستجاب لهم من فوقهم نحو من سبعين رجلاً من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله فوافقوه بالبطحاء . فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم . واختلف العلماء في حكم مؤمني الجنّ ، فقال قوم : ليس لمؤمني الجنّ ثواب إلاّ نجاتهم من النار ، وتأوّلوا قوله تعالى : ) يغفر لكم ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ( وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه ، حدّثنا عبدالله بن يوسف ، حدّثنا الحسن بن نجيويه ، حدّثنا عمرو بن ثور ، وإبراهيم بن أبي سفيان ، قالا : حدّثنا محمّد بن يوسف الفرباني ، حدّثنا سفيان ، عن ليث ، قال : الجنّ ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثمّ يقال لهم : كونوا تراباً مثل البهائم .
وقال آخرون : إن كان عليهم العقاب في الإساءة وجب أن يكون لهم الثواب في الإحسان مثل الإنس . وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى .
أخبرنا أبو عبدالله الثقفي الدينوري ، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدّثنا محمّد بن عمران ، حدّثنا ابن المقري وأبو عبيد الله . قالا : حدّثنا العبدي ، عن سفيان ، عن جويبر ، عن الضحّاك ، قال : الجنّ يدخلون الجنّة ويأكلون ويشربون
(9/23)

" صفحة رقم 24 "
الأحقاف : ( 32 ) ومن لا يجب . . . . .
) وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِي الاْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَل مُبِين (
.
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْىِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 2
الأحقاف : ( 33 ) أو لم يروا . . . . .
) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ( لم يضعف عن إبداعهن ، ولم يعجز عن اختراعهن . ) بِقَادِر ( قراءة العامة ( بالباء ) و ( الألف ) على الأسم واختلفوا في وجه دخول ( الباء ) فيه ، فقال أبو عبيدة والأخفش : هي صلة ، كقوله : ) تنبت بالدهن ( وقال الحارث بن حلزة :
قيل ما اليوم بيّضت بعيون
النّاس فيها تغيّظ وإباء
أراد بيضت عيون النّاس .
وقال الكسائي والفراء : ( الباء ) فيه جلبت الاستفهام والجحد في أوّل الكلام ، كقوله : ) أوليس الّذي خلق السماوات والأرض بقادر ( . والعرب تدخلها في الجحود ، إذا كانت رافعة لما قبلها ، كقول الشاعر :
فما رجعتْ بخائبة ركاب
حكيم بن المسيّب منتهاها
وقرأ الأعرج وعاصم الجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب بن إسحاق ) يقدر ( ( بالياء ) من غير ( ألف ) على الفعل ، واختار أبو عبيد قراءة العامّة لأنّها في قراءة عبدالله ) خلق السّماوات والأرض قادر ( بغير ( باء ) .
) عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ (
الأحقاف : ( 34 ) ويوم يعرض الذين . . . . .
) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ( فيقال لهم : ) أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ ( لهم المقرّر بذلك ) فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (
الأحقاف : ( 35 ) فاصبر كما صبر . . . . .
) فاصْبِرُ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ ( .
قال ابن عبّاس : ذوو الحزم . ضحّاك : ذوو الجدّ والصّبر . القرظي : ذوو الرأي
(9/24)

" صفحة رقم 25 "
والصواب . واختلفوا فيهم ، فقال ابن زيد : كلّ الرسل كانوا أُولي عزم ، ولم يتّخذ الله رسولاً ، إلاّ كان ذا عزم ، وهو اختيار علي بن مهدي الطبري ، قال : وإنّما دخلت ) مِنَ ( للتجنيس لا للتبعيض ، كما يقال : اشتريت أكسية من الخزّ ، وأردية من البز . حكاها شيخنا أبو القاسم بن حبيب عنه .
وقال بعضهم : كلّ الأنبياء ( عليهم السلام ) أُولوا عزم ، إلاّ يونس ، ألا ترى إنّ نبيّنا ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن أن يكون مثله ، لخفّة وعجلة ظهرت منه حين ولّى من قومه مغاضباً ، فابتلاه الله بثلاث : سلّط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله ، وسلّط الذئب على ولْدِهِ فأكلهم ، وسلّط الحوت عليه حتّى ابتلعه .
سمعت أبا منصور الجمشاذي يحكيها ، عن أبي بكر الرازي ، عن أبي القاسم الحكيم . وقيل : هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر ، وهو اختيار الحسين بن الفضل ، قال : لقوله في عقبه : ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ( .
وقال الكلبي : هم الّذين أُمروا بالقتال ، فأظهروا المكاشفة ، وجاهدوا الكفرة بالبراءة ، وجاهدوهم . أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، عن أبي علي حبش المقري ، قال : قال بعض أهل العلم : أولو العزم اثنا عشر نبيّاً أُرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم ، فأوحى الله تعالى إلى الأنبياء ( عليهم السلام ) : ( إنّي مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل ) ، فشقَّ ذلك عليهم ، فأوحى الله تعالى إليهم أن اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل . فتشاوروا بينهم ، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي بني إسرائيل ، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب ، وذلك إنّه سلّط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سُلخ جلد رأسه ووجهه ، ومنهم من رُفع على الخشب ، ومنهم من أُحرق بالنّار ، وقيل هم ستّة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى .
وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراب والشعراء . وقيل أصحاب الشرائع ، وهم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد ( صلى الله عليه وسلم )
وقال مقاتل : أولو العزم ستّة : نوح صبر على أذى قومه فكانوا يضربونه حتّى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النّار ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف صبر في البئر وفي السجن ، وأيّوب صبر على ضرّه .
(9/25)

" صفحة رقم 26 "
وقال الحسن البصري : هم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى . فقال : إبراهيم فعزمه قيل له : أسلم ، قال : أسلمت لربّ العالمين . ثمّ ابتلي في ماله ، وولده ، ووطنه ، ونفسه ، فَوجِدَ صادقاً وافياً في جميع ما أُبتلي به ، وأمّا موسى ، فعزمه قوله حين قال له قومه : ) إنا لمدركون قال ( ) كلاّ إنّ معي ربّي سيهدين ( .
وأمّا داود ، فعزمه أنّه أخطأ خطيئة ، فنُبّه عليها ، فبلي أربعين سنة على خطيئته حتّى نبتت من دموعه شجرة ، وقعد تحت ظلّها ، وأمّا عيسى فعزمه أنّه لم يضع في الدُّنيا لبنة على لبنة ، وقال : إنّها معبر فاعبروها ، ولا تعمروها . فكان الله تعالى يقول لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فاصبر كما صبر أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُّسل ( أي كن صادقاً فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم ، واثقاً بنصرة مولاك مثل ثقة موسى ، مهتمّاً لما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود ، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى ( عليه السلام ) .
حدّثنا الإمام أبو منصور محمّد بن عبدالله الجمشاذي لفظاً ، أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمّد بن أحمد القاضي ، أخبرنا أبو عبد الرحمن ، أخبرنا ابن أبي الربيع ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله تعالى : ) فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرُّسل ( ، قال : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ( عليهم السلام ) .
أخبرنا أبو منصور الجمشاذي ، أخبرنا أبو عبدالله محمّد بن يوسف الدقّاق ، أخبرنا الحسن ابن محمّد بن جابر ، حدّثنا عبدالله بن هاشم ، حدّثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ابن أنس ، عن أبي العالية في قوله : ) فاصبر كما صبر أُولُو العزم من الرُّسل ( ، قال : كانوا ثلاثة : نوح ، وإبراهيم ، وهود ، ومحمّد رابعهم ، أُمر أن يصبر كما صبروا .
أخبرني أبو عبدالله بن منجويه ، حدّثنا محمّد بن عبدالله بن برزة ، حدّثنا الحارث بن أبي أُسامة ، حدّثنا داود بن المخبر ، حدّثنا سليمان بن الحكم ، عن الأحوص بن حكيم بن كعب الحبر ، قال : في جنّة عدن مدينة من لؤلؤ بيضاء ، تكلّ عنها الأبصار ، لم يرها نبي مرسل ولا ملك مُقرَّب ، أعدّها الله سبحانه وتعالى لأُولي العزم من الرُّسل والشهداء والمجاهدين ، لأنّهم فضّلوا الناس عقلاً وحلماً وإنابة ولبّاً .
) وَلاَ تَسْتَعْجِلْ ( العذاب . ) لَهُمْ ( فإنّه نازل بهم لا محالة . ) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ( من العذاب في الآخرة ) لَمْ يَلْبَثُوا ( في الدُّنيا ) إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَار ( يعني في جنب يوم القيامة ، وقيل : لأنّه ينسيهم هول ما عاينوا قدر مكثهم في الدُّنيا . ثمّ قال : ) بَلاَغٌ ( أي هذا
(9/26)

" صفحة رقم 27 "
القرآن وما ذكر فيه من البيان بلاغ بلغكم محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) عن الله تعالى ، دليله ونظيره في سورة إبراهيم .
( عليه السلام ) ) فَهَلْ يُهْلَكُ ( بالعذاب إذا نزل ) إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( الخارجون عن أمر الله تعالى .
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي ، حدّثنا سعد بن محمّد بن إسحاق الصيرفي ، حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شنبه ، حدّثنا منجاب بن الحارث ، حدّثنا علي بن مهير ، حدّثنا ابن أبي ليلى ، عن الحكيم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : إذا عسر على المرأة ولدها ، فلتكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ، ثمّ تُغسّل ، ثمّ تسقى منها : بسم الله الرّحمن الرّحيم لا إله إلاّ الله الحليم الكريم سبحان الله ) رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ( ) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَار بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( .
(9/27)

" صفحة رقم 28 "
( سُورةُ مُحَمَّد ) ( صلى الله عليه وسلم )
مدنية ، وهي ثمان وثلاثون آية وتسع وثلاثون كلمة ، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفاً
أخبرنا أبو الحسن محمّد بن القاسم بن أحمد الفارسي بقراءتي عليه ، أخبرنا أبو عمر ، وإسماعيل بن مجيد بن أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا أبو عبدالله محمّد بن إبراهيم بن سعيد البوشيخي ، حدّثنا سعيد بن حفص ، قال : قرأت على معقل بن عبدالله ، عن عكرمة بن خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة محمّد كان حقّاً على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنّة ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَالِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاَْنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ( 2
محمد : ( 1 ) الذين كفروا وصدوا . . . . .
) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( أي أبطلها فلم يقبلها ، وقال الضحّاك : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل الديرة عليهم
(9/28)

" صفحة رقم 29 "
محمد : ( 2 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّد وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( حالهم ، وجمعُهُ بالات . قال سفيان الثوري : ) وآمنوا بما نُزّل على مُحمّد ( لم يخالفوه في شيء . قال ابن عبّاس : ) الّذين كفروا وصدّوا ( أهل مكّة . ) والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات ( الأنصار .
محمد : ( 3 ) ذلك بأن الذين . . . . .
) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ( يعني الشياطين . ) وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ( يعني القرآن . ) كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ ( يبيّن الله للنّاس . ) أَمْثَالَهُمْ ( أشكالهم .
محمد : ( 4 ) فإذا لقيتم الذين . . . . .
) فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا ( من أهل الحرب . ) فَضَرْبَ ( نصب على الإغراء ) الرِّقَابِ ( الأعناق ، واحدتها رقبة . ) حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ ( أي غلبتموهم ، وقهرتموهم ، وصاروا أسرى في أيديكم . ) فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ( كي لا يفلتوا منكم ، فيهربوا . ) فَإِمَّا مَنّا ( عليهم ) بَعْدُ ( الأسر ، بإطلاقكم إيّاهم من غير عوض ، ولا فدية .
) وَإِمَّا فِدَاءً ( ( و ) نصبا بإضمار الفعل ، مجازه : فإمّا أن تمنّوا عليهم منّاً ، وإمّا أن تفادوهم ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : ) فإمّا تثقفنهم في الحرب فشرّد بهم ( . . . الآية . وقوله : ) فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( ، وإلى هذا القول ذهب قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جريج ، وهي رواية العوفي ، عن ابن عبّاس .
أخبرنا عقيل بن محمّد أنّ أبا الفرج البغدادي أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، حدّثنا ابن عبد الأعلى ، حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : كُتب إلى أبي بكر ح في أسير أُسر ، فذكر أنّهم التمسوه بفداء كذا ، وكذا ، فقال أبو بكر : اقتلوه ، لَقتل رجل من المشركين أحبّ إليَّ من كذا ، وكذا .
وقال آخرون : هي مُحكمة والإمام مخيّر بين القتل ، والمنّ ، والفداء . وإليه ذهب ابن عمر ، والحسن ، وعطاء ، وهو الاختيار ؛ لأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والخلفاء الراشدين كلّ ذلك فعلوا ، فقتل رسول الله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، يوم بدر صبراً فادى سائر أسارى بدر . وقيل : بني قريظة ، وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلماً ومنّ على أمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده .
أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، حدّثنا ابن عبد الأعلى ، حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أهل الشام ممّن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ، قال : ما رأيت عمر قتل أسيراً إلاّ واحداً من الترك ، كان جيء بأسارى من الترك ، فأمر
(9/29)

" صفحة رقم 30 "
بهم أن يسترقوا ، فقال رجل ممّن جاء بهم : يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين ، لكثر بكاؤك عليهم فقال عمر : قد فدك ، فاقتله ، فقام إليه فقتله .
) حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ( أثقالها وأحمالها فلا تكون حرب ، وقيل : حتّى تضع الحرب آثامها ، وأجرامها ، فيرتفع ، وينقطع ، لأنّ الحرب لا تخلو من الإثم في أحد الجانبين والفريقين . وقيل : معناه حتّى يضع أهل الحرب آلتها وعدّتها أو آلتهم وأسلحتهم فيمسكوا عن الحرب .
والحرب القوم المحاربون كالشرب والركب ، وقيل حتّى يضع الأعداء المتحاربون أوزارها وآثامها بأن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بالله ورسوله . ويقال للكراع : أوزار ، قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها
رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
ومعنى الآية أثخنوا المشركين بالقتل ، والأسر حتّى يظهر الإسلام على الأديان كلّها ، ويدخل فيه أهل كلّ ملّة طوعاً أو كرهاً ) ويكون الدّين كلّه لله ( فلا نحتاج إلى قتال وجهاد ، وذلك عند نزول عيسى ( عليه السلام ) .
وقال الحسن : معناه حتّى لا يُعبد إلاّ الله . الكلبي : حتّى يسلموا أو يسالموا . ) ذَلِكَ ( الذي ذكرت وبيّنت من حكم الكفّار ) وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ ( فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال .
) وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض ( من حكم الكفّار ونعلم المجاهدين منكم والصابرين ) وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ( قرأ الحسن بضم ( القاف ) وكسر ( التاء ) مشدّداً من غير ( ألف ) ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص بضمّ ( القاف ) وكسر ( التاء ) مخفّفاً من غير ( ألف ) ، واختاره أبو حاتم يعني الشهداء ، وقرأ عاصم الحجدري ) قُتِلُوا ( بفتح ( القاف ) و ( التاء ) من غير ( ألف ) ، يعني والذين قتلوا المشركين .
وقرأ الباقون ) قاتلوا ( ( بالألف ) من المقاتلة ، وهم المجاهدون ، واختاره أبو عبيد . ) فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( قال قتادة : ذُكر لنا إنّ هذه الآية أُنزلت يوم أحُد ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون : أعلُ هُبل ، فنادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ . فنادى المشركون : يوم بيوم والحرب سجال ، لنا عزّى ولا عزّى لكم .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم ، إنّ القتال مختلفة ، إما قتلانا فأحياء عند ربّهم يرزقون ، وإمّا قتلاكم ففي النّار يُعذّبون )
(9/30)

" صفحة رقم 31 "
محمد : ( 5 ) سيهديهم ويصلح بالهم
) سَيَهْدِيهِمْ ( في الدُّنيا إلى الطاعة وفي العقبى إلى الدرجات .
) وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( يرضي خصماءهم ، ويقبل أعمالهم
محمد : ( 6 ) ويدخلهم الجنة عرفها . . . . .
) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( أي بيّن لهم منازلهم فيها حتّى يهتدوا إلى مساكنهم ، ودرجاتهم التي قسم الله لهم ، لا يخطئون ، ولا يستدلّون عليها أَحد ، كأنّهم سكّانها منذ خُلقوا ، وإنّ الرجل ليأتي منزله منها إاذ دخلها كما كان يأتي منزله في الدُّنيا ، لا يشكل ذلك عليه . وإنّه أهدى إلى درجته وزوجته وخدمه ونعمه منه إلى أهله ومنزله في الدُّنيا . هذا قول أكثر المفسِّرين ، وقال المؤرّخ : يعني طيبها ، والعرف : الريح الطيّبة ، تقول العرب : عرّفت المرقة إذا طيّبتها بالملح والأبازير ، قال الشاعر :
وتدخل أيد في حناجر أقنعت
لعادتها من الحزير المعرّف
محمد : ( 7 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ ( أي رسوله ودينه .
) يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( على الإسلام ، وفي القتال
محمد : ( 8 ) والذين كفروا فتعسا . . . . .
) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ ( قال ابن عبّاس : بُعداً لهم ، وقال أبو العالية : سقوطاً ، وقال الضحّاك : خيبة ، وقال ابن زيد : شقاً ، وقال ابن جرير : حزناً ، وقال الفراء : هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء ، وأصل التعس في النّاس والدواب ، وهو أن يقال للعاثر : تعساً ، إذا لم يريدوا قيامه ، ويقال : أتعسه الله ، فتعس وهو متعس ، وضدّه لعاء إذا أرادوا قيامه ، وقد جمعها الأعمش في بيت واحد يصف ناقته :
بذات لوث غفرناه إذا عثرت
فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
) وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( لأنّها كانت في طاعة الشيطان خالية عن الإيمان .
محمد : ( 9 ) ذلك بأنهم كرهوا . . . . .
) ذَلِكَ ( الإضلال ، والإبعاد . ) بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
محمد : ( 10 ) أفلم يسيروا في . . . . .
) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاْرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ( أي أهلكهم ودمّر عليهم منازلهم ، ثمّ توعّد مشركي قريش . ) وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( إن لم يؤمنوا
محمد : ( 11 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذَلِكَ ( الذي ذكرت ، وفعلت ) بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ( وليّهم ، وناصرهم ، وحافظهم ، وفي حرف ابن مسعود ذلك بأنّ الله ولي الّذين آمنوا .
) وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ }
محمد : ( 12 ) إن الله يدخل . . . . .
) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا ( محلّه رفع على الابتداء ) يَتَمَتَّعُونَ ( في الدُّنيا ) وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاْنْعَامُ ( ليس لهم همّة إلاّ بطونهم ، وفروجهم ، وهم لاهون ساهون عمّا في غدهم ، وقيل : المؤمن في الدُّنيا يتزوّد ، والمنافق يتزيّن ، والكافر يتمتّع .
) وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ( .
(9/31)

" صفحة رقم 32 "
2 ( ) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِىأَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلأ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاَْمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( 2
محمد : ( 13 ) وكأين من قرية . . . . .
) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ( أي أخرجك أهلها يدلّ عليه ) أَهْلَكْنَاهُمْ ( ولم يقل : أهلكناها ) فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ( عن ابن عبّاس : لما خرج رسول الله عليه السلام من مكّة إلى الغار ، التفت إلى مكّة ، وقال : ( أنت أحبّ بلاد الله إلى الله ، وأحبّ بلاد الله إليّ ، ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك ) . فأنزل الله تعالى هذه الآية .
محمد : ( 14 ) أفمن كان على . . . . .
) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ ( وهو محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون ) كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( وهم أبو جهل والمشركون .
محمد : ( 15 ) مثل الجنة التي . . . . .
) مَثَلُ ( شبه وصفة ) الْجَنَّةِ الَّتِي ( وقرأ علي بن أبي طالب أمثال الجنّة التي ) وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاء غَيْرِ آسِن ( آجن متغيّر منتن ، يقال : آسن الماء يأسن ، وآجن يأجن ، وأسن يأسن ويأُسن ، وأجن يأجن ، ويأُجن ، أُسونا ، وأُجوناً ، إذا تغيّر ، ويقال : أسِنَ الرجل : بكسر السين لا غير ، إذا أصابته ريح منتنة ، فغشى عليه قال زهير :
يغادر القرنُ مصفراً أنامله
يميد في الرمح ميل المائح الأسن
وقرأ العامّة آسن بالمد ، وقرأ ابن كثير بالقصر وهما لغتان .
) وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَن لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْر لَذَّة لِلشَّارِبِينَ ( لم تدنسها الأيدي ، ولم تدنسها الأرجل ، ونظير لذّ ولذيذ ، طب وطبيب . ) وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَل مُصَفّىً ( قال كعب الأحبار :
(9/32)

" صفحة رقم 33 "
نهر دجلة نهر ماء الجنّة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر .
) وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ( يعني المتّقين الّذين هم أهل الجنّة ، كمن هو خالد في النّار ، فاستغنى بدلالة للكلام عليه ، وقال ابن كيسان : مَثَلُ الجنّة التي فيها هذه الأنهار ، والثمار ، كمَثَلُ النّار التي فيها الحميم ، ومَثَلُ أهل الجنّة في النعيم المقيم ، كمثل أهل النّار في العذاب الأليم .
) وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ ( إذا أُدنِي منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطّع .
) أَمْعَاءَهُمْ }
محمد : ( 16 ) ومنهم من يستمع . . . . .
) وَمِنْهُمْ ( يعني ومن هؤلاء الكفّار ) مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( وهم المنافقون يستمعون قولك ، فلا يعونه ، ولا يفهمونه تهاوناً منهم بذلك ، وتغافلاً ) حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ( من الصحابة ) مَاذَا قَالَ آنِفاً ( ( الآن ) وأصله الابتداء . قال مقاتل : وذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) كان ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب ويحث المنافقين ، فسمع المنافقون قوله ، فلمّا خرجوا من المسجد سألوا عبدالله بن مسعود عمّا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استهزاءً وتهاوناً منهم بقوله .
قال ابن عبّاس في قوله : ) قالوا للّذين أُوتُوا العلم ( : أنا منهم وقد سئلت فيمن سئل . قال قتادة : هؤلاء المنافقون ، دخل رجلان : رجل عقل عن الله تعالى وانتفع بما سمع ، ورجل لم يعقل عن الله ، فلم ينتفع بما سمع ، وكان يقال : النّاس ثلاثة : سامع عاقل ، وسامع عامل ، وسامع غافل تارك .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( فلم يؤمنوا . ) وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }
محمد : ( 17 ) والذين اهتدوا زادهم . . . . .
) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ( يعني المؤمنين . ) زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ ( وقرأ ابن مسعود والأعمش وأنطاهم وأعطاهم ) تَقْواهُمْ ( ألهمهم ذلك ، ووفّقهم ، وقال سعيد بن جبير : وآتاهم ثواب تقواهم .
محمد : ( 18 ) فهل ينظرون إلا . . . . .
) فَهَلْ يَنْظُرُونَ ( ينتظرون . ) إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ( أماراتها وعلاماتها ، وبعث ( النبي ) ( صلى الله عليه وسلم ) منها وقيل : أدلّتها وحجج كونها ، واحدها شرط ، وأصل الأشراط الإعلام ، ومنه الشرط ، لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها ، ومنه الشرط في البيع وغيره .
ويقال : أشرط نفسه في عمل كذا ، وأعلمها وجعلا له . قال أوس بن حجر يصف رجلاً وقد تدلّى بحبل من رأس جبل إلى نبعة ليقطعها ويتخذ منها قوساً :
فأشرط فيها نفسه وهو معصم
وألقى بأسباب له وتوكلا
(9/33)

" صفحة رقم 34 "
) فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( يعني فمن أين لهم التذكّر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم السّاعة ، نظيره قوله تعالى : ) وأَنّى لَهُم التَنَاوشِ مِن مَكَان بَعيِد ( .
محمد : ( 19 ) فاعلم أنه لا . . . . .
) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ( قال بعضهم : الخطاب للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره وأخواتها كثيرة ، وقيل : فاثبت عليه ، وقال الحسين بن الفضل : فازدد علماً على علمك ، وقال عبد العزيز ابن يحيى الكناني : هو أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يضجر ، ويضيق صدره من طعن الكافرين ، والمنافقين فيه ، فأنزل الله هذه الآية ، يعني فاعلم إنّه لا كاشف يكشف ما بك إلاّ الله ، فلا تعلق قلبك على أحد سواه .
وقال أبو العالية وابن عيينة : هذا متصل بما قبله ، معناه فاعلم إنّه لا ملجأ ، ولا مفزع عند قيام السّاعة ، إلاّ الله . سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عدش يقول : معناه فاعلم إنّه لا قاضي في ذلك اليوم إلاّ الله ، نظيره ) مالك يوم الدين ( .
) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ( ليتسنّ أُمّتك بسنّتك ، وقيل : واستغفر لذنبك من التقصير الواقع لك في معرفة الله .
) وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( أخبرني عقيل بن محمّد أنّ أبا الفرج القاضي أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، حدّثنا أبو كريب ، حدّثنا عثمان بن سعيد ، حدّثنا إبراهيم بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن عبدالله بن سرحس ، قال : دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : غفر الله لك يا رسول الله ، فقال رجل من القوم : استغفر لك يا رسول الله ؟ قال : ( نعم ولك ) . ثمّ قرأ ) واستغفر لذنبك وللمؤمنين وللمؤمنات ( .
أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن حبش الرازي ، حدّثنا أبو بكر محمّد بن عيّاش العتبي ، حدّثنا أبو عثمان سعيد بن عنبسة الحراز ، حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّد ، عن بكر بن حنيس ، عن محمّد بن يحيى ، عن يحيى بن وردان ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم يكن عنده مال يتصدّق به ، فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإنّها صدقة ) .
) وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( قال عكرمة : يعني منقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأُمّهات ، ومثواكم : مقامكم في الأرض . ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن ، ومثواكم : مقامكم في القبور . ابن عبّاس والضحّاك : منصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدُّنيا ،
(9/34)

" صفحة رقم 35 "
ومثواكم : مصيركم إلى الجنّة وإلى النّار . ابن جرير : متقلبكم : منصرفكم لأشغالكم بالنهار ، ومثواكم : مضجعكم للنوم بالليل ، لا يخفى عليه شيء من ذلك .
محمد : ( 20 ) ويقول الذين آمنوا . . . . .
) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ( اشتياقاً منهم إلى الوحي وحرصاً على الجهاد . ) لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ ( تأمرنا بالجهاد . ) فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ( بالأمر والنهي ، قال قتادة : كلّ سورة ذكر فيها الجهاد ، فهي محكمة ، وهي أشدّ للقرآن على المنافقين . وفي حرف عبدالله ( سورةٌ محدثة ) ) وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ( يعني المنافقين ) يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ( شزراً ، بتحديق شديد كراهة منهم للجهاد ، وجبناً منهم على لقاء العدوّ ) نَظَرَ ( كنظر ) الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ( وعيد وتهديد ، قال :
محمد : ( 21 ) طاعة وقول معروف . . . . .
) طَاعَةٌ ( مجازه ، ويقول هؤلاء المنافقون قبل نزول الآية المحكمة ( طاعةٌ ) رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منّا طاعة .
) وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ( حسن وقيل : هو متصل بالكلام الأوّل ، ( واللام ) في قوله ( لهم ) بمعنى ( الباء ) مجازه فأولى بهم طاعة لله ورسوله ) وقولٌ معروفٌ ( بالإجابة والطاعة .
) فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ ( أي جدّ الأمر وعُزم عليه وأُمروا بالقتال . ) فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ ( في إظهار الإيمان والطاعة ) لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ }
محمد : ( 22 ) فهل عسيتم إن . . . . .
) فَهَلْ عَسَيْتُمْ ( فلعلّكم ) إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ( أعرضتم عن الإيمان ، وعن القرآن ، وفارقتم أحكامه .
) أَنْ تُفْسِدُوا فِي الاْرْضِ ( بالمعصية ، والبغي ، وسفك الدماء ، وتعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفرقة ، بعدما جمعكم الله تعالى بالإسلام ، وأكرمكم بالألفة .
قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن كتاب الله ؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرّحمن ؟ ، وقال بعضهم : هو من الآية . قال المسيب بن شريك والفراء : يقول : ) فهل عسيتم إن توليتم ( إن ولّيتم أمر الناس ) أن تفسدوا في الأرض ( بالظلم ، نزلت في بني أمية ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين ، حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون ، حدّثنا محمّد بن عبد العزيز ، حدّثنا القاسم بن يونس الهلالي ، عن سعيد بن الحكم الورّاق ، عن ابن داود ، عن عبدالله بن مغفل ، قال : سمعت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ ) فهل عسيتم إن وليتم أن تفسدوا في الأرض ( ثم قال : ( هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن وُلوا الناس ألاّ يفسدوا في الأرض ولا يقطّعوا أرحامهم ) .
وقرأ علي بن أبي طالب ) إن توليتم ( بضمّ ( التاء ) و ( الواو ) وكسر ( اللام ) ، يقول : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة ، وعاونتموهم . ومثله روى رويس عن يعقوب
(9/35)

" صفحة رقم 36 "
) وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( قرأ يعقوب ، وأبو حاتم ، وسلام ( وتقطعوا ) خفيفة من القطع اعتباراً بقوله : ) وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يَوصَلَ ( وقرأ الحسن ) يقطَّعوا ( مفتوحة الحروف ، اعتباراً بقوله : ) فتقطّعوا أمرهم بينهم ( . وقرأ غيرهم ) وتقطعوا ( بضم ( التاء ) مشدّداً من التقطيع على التكثير لأجل الأرحام .
محمد : ( 23 ) أولئك الذين لعنهم . . . . .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( عن الحقّ .
2 ( ) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاَْمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ هَآ أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( 2
محمد : ( 24 ) أفلا يتدبرون القرآن . . . . .
) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ( تفهم مواعظ القرآن ، وأحكامه ، أخبرنا عقيل ابن محمّد ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمّد بن جرير ، حدّثنا ابن حميد ، حدّثنا يحيى بن واضح ، حدّثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، قال : ما من النّاس أحدٌ إلاّ وله أربع أعين : عينان في وجهه لدنياه ، ومعيشته ، وعينان في قلبه لدينه ، وما وعد الله من الغيب . وما من أحدٌ إلاَّ وله شيطانٌ متبطّن فقار ظهره ، عاطف عنقه على عاتقه ، فاغرٌ فاه إلى ثمرة قلبه ، فإذا أراد الله بعبد خيراً أبصرت عيناه اللّتان في قلبه ما وعد الله تعالى من الغيب ، فيعمل به ، وإذا أراد الله بعبد شرّاً طمس عليهما ، فذلك قوله : ) أم على قلوب أقفالها ( .
(9/36)

" صفحة رقم 37 "
وبه عن ابن جرير ، حدّثنا بشير ، حدّثنا حمّاد بن زيد ، حدّثنا هشام بن عبده عن أبيه ، قال : تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً : ) أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها حتّى يكون الله يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر حتّى ولي فاستعان به .
محمد : ( 25 ) إن الذين ارتدوا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى ( قال قتادة : هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد وهم يعرفونه ويجدون نعته مكتوباً عندهم ، وقال ابن عبّاس والضحّاك والسدي : هم المنافقون .
) الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ( زيّن لهم ) وَأَمْلَى لَهُمْ ( قرأ أبو عمرو بضم ( الألف ) وفتح ( الياء ) على وجه ما لم يُسمَّ فاعله . وقرأ مجاهد ، ويعقوب بضمّ ( الألف ) وإرسال ( الياء ) على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنّه يفعل ذلك بهم وهو اختيار أبي حاتم . وقرأ الآخرون ) وأملى ( بفتح ( الألف ) بمعنى وأملى الله لهم وهو اختيار أبي عبيدة .
محمد : ( 26 ) ذلك بأنهم قالوا . . . . .
) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ( يعني هؤلاء المنافقين أو اليهود ) قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ ( وهم المشركون . ) سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الاْمْرِ ( في مخالفة محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) والقعود عن الجهاد .
) وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( قرأ أهل الكوفة إلاّ أبو بكر بكسر ( الألف ) على الفعل ، غيرهم بفتحها على جمع السر .
محمد : ( 27 ) فكيف إذا توفتهم . . . . .
) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ ( ( بالتاء ) قراءة العامّة ، وقرأ عيسى بن عمر ( توفّيهم ) ( بالياء ) . ) الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( عند الموت ، نظيرها في الأنفال والنحل .
محمد : ( 28 ) ذلك بأنهم اتبعوا . . . . .
) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
محمد : ( 29 ) أم حسب الذين . . . . .
) أم حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ( شك ، يعني المنافقين ) أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ ( أحقادهم على المؤمنين ، واحدها ضغن ، فيبديها لهم حتّى يعرفوا نفاقهم .
محمد : ( 30 ) ولو نشاء لأريناكهم . . . . .
) وَلَوْ نَشَاءُ لاارَيْنَاكَهُمْ ( أي لأعلمناكهم ، وعرفناكهم ، ودللناك عليهم ، تقول العرب : سأُريك ما أصنع بمعنى سأُعلمك ، ومنه قوله تعالى : ) بما أريك الله ( .
) فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ( بعلامتهم ، قال أنس بن مالك : ما أخفي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنّا معه في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشكوهم النّاس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كلّ واحد منهم مكتوب هذا منافق . فذلك قوله : ) سيماهم ( .
وقال ابن زيد : قد أراد الله إظهار نفاقهم ، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد ، فأبوا إلاّ أن
(9/37)

" صفحة رقم 38 "
يمسكوا بلا إله إلاّ الله ، فلمّا أبوا أن يمسكوا إلاّ بلا إله إلاّ الله ، حُقنت دماؤهم ، ونَكحوا ، ونكحوا بها .
) وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ( قال ابن عبّاس : في معنى ) القول ( : الحُسن في فحواه . القرظي : في مقصده ومغزاه . واللحن وجهان : صواب ، وخطأ ، فأمّا الصواب فالفعل منه لحن يلحن لحناً ، فهو لحن إذا فطن للشيء ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ) ، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً ، فهو لاحن ، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته ، وفي الخبر أنّه قيل لمعاوية : إنّ عبيدالله بن زياد يتكلّم بالفارسية ، فقال : أليس طريفاً من ابن أخي أن يلحن في كلامه أي يعدل به من لغة إلى لغة ، قال الشاعر :
وحديث الذه هو ممّا
ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا
ناً وخير الحديث ما كان لحنا
يعني ترتل حديثها .
) وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }
محمد : ( 31 ) ولنبلونكم حتى نعلم . . . . .
) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ( بالجهاد ) حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( قرأ العامّة كلّها بالنون لقوله : ) ولو نشاء لأريناكهم ( . وروى أبو بكر والمفضل ، عن عاصم كلّها ( بالياء ) . وقرأ يعقوب ، ( ونبلوا ) ساكنة ( الواو ) ردّاً على قوله : ( نعلم ) .
قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضل إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللّهم لا تبلنا ، فإنّك إن بلوتنا هتكت أستارنا ، وفضحتنا .
محمد : ( 32 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( قال ابن عبّاس : هم المطعمون يوم بدر ، نظيره قوله : ) إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله ( . . . الآية .
محمد : ( 33 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( بمعصيتها ، قال مقاتل والثمالي : لا تمنوا على رسول الله فتبطلوا أعمالكم ، نزلت في بني أسد . وسنذكر القصة في سورة الحجرات إن شاء الله . وقيل : بالعجب والرياء .
محمد : ( 34 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ( قيل : هم أصحاب القليب ، وحكمها عام
محمد : ( 35 ) فلا تهنوا وتدعوا . . . . .
) فَلاَ تَهِنُوا ( تضعفوا ) وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ( إلى الصلح ) وَأَنْتُم
(9/38)

" صفحة رقم 39 "
الاْعْلَوْنَ ( لأنّكم مؤمنون محقّون .
) وَاللهُ مَعَكُمْ ( قال قتادة : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها ) وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( قال ابن عبّاس وقتادة والضحّاك وابن زيد : لن يظلمكم . مجاهد : لن ينقصكم أعمالكم بل يثيبكم عليها ، ويزيدكم من فضله ، ومنه قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( من فاته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله ) أي ذهب بهما .
محمد : ( 36 ) إنما الحياة الدنيا . . . . .
) إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ ( ربّكم . ) أَمْوَالَكُمْ ( لا يسألكم الأجر ، بل يأمركم بالإيمان ، والطاعة ليثيبكم عليها الجنّة ، نظيره قوله : ) ما أريد منهم من رزق ( . . الآية ، وقيل : ( ولا يسألكم ) محمّد صدقة أموالكم ، نظيره قوله : ) قل ما أسألكم عليه من أجر . . . ( وقيل : معنى الآية ولا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلّها إنّما يسألانكم غيضاً من فيض ، ربع العشر فطيبوا بها نفساً ، وإلى هذا القول ذهب ابن عُيينة وهو اختيار أبي بكر بن عبدش ، قال : حكى لنا ابن حبيب عنه ، يدلّ عليه سياق الآية .
محمد : ( 37 ) إن يسألكموها فيحفكم . . . . .
) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ ( فيجهدكم ويلحّ ويلحفكم عليها ، وقال ابن زيد : الإحفاء أن تأخذ كلّ شيء بيدك .
) تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( قال قتادة : قد علم الله تعالى أنّ في مسألة المال خروج الأضغان
محمد : ( 38 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ ( عن صدقاتكم وطاعتكم ) وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ ( إليها ) وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( في الطواعية ، بل يكونوا أطوع لله تعالى وأمثل منكم ، قال الكلبي : هم كندة والنخع . الحسن : هم العجم . عكرمة : فارس والروم . أخبرنا أبو عبدالله الحسين بن محمّد ابن الحسين بن عبدالله بن منجويه الدينوري ، حدّثنا عمر بن الخطّاب ، حدّثنا عبدالله بن الفضل ، حدّثنا يحيى بن أيّوب ، حدّثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عبدالله بن نجيح ، عن العلاء بن عبد الرّحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال أُناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا رسول الله مَنْ هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن إن تولّينا استبدلوا ، ثمّ لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : وكان سلمان إلى جانب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخذ سلمان وقال : ( هذا وقومه ، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلّقاً بالثريا لناله لتناوله رجال من فارس ) .
(9/39)

" صفحة رقم 40 "
( سُورةُ الْفَتح )
مدنية ، وهي تسع وعشرون آية ، وخمسمائة وستّون كلمة ، وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفاً
أخبرنا عبيدالله بن محمّد الزاهد بقراءتي عليه ، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا أبو الأشعث ، حدّثنا أبو المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدث عن قتادة ، عن أنس ، قال : لمّا رجعنا من غزوة الحديبية ، قد حيل بيننا وبين نسكنا ، فنحن بين الحزن والكآبة ، فأنزل الله تعالى عليه ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبيِناً ( الآية كلّها .
فقال رسول الله : ( لقد نزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً ) .
أخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل القهندري بقراءتي عليه ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدّثنا محمّد بن يحيى ، قال : وفيما قرأت على عبدالله بن نافع وحدّثني مطرف ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطّاب ح يسير معه ليلاً ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثمّ سأله فلم يجبه ، قال عمر : فحرّكت بعيري حتّى تقدّمت أمام الناس ، وخشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن ، فجئت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( لقد أُنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس ) ، ثمّ قرأ ) إِنَّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ( .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه الثقفي ، حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي ، حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي ، حدّثنا محمّد بن عبدالملك ، قال : سمعت يزيد بن هارون يقول : سمعت المسعودي يذكر ، قال : بلغني أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( في التطوّع حفظ ذلك العام .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ
(9/40)

" صفحة رقم 41 "
صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هُوَ الَّذِىأَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ( 2
الفتح : ( 1 ) إنا فتحنا لك . . . . .
) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ( أخبرنا عبيدالله بن محمّد الزاهد ، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا هنّاد بن السري ، حدّثنا يونس بن بكير ، حدّثنا علي بن عبدالله التيمي يعني أبا جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن أنس ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( قال : فتح مكّة ، وقال مجاهد والعوفي : فتح خيبر ، وقال الآخرون : فتح الحديبية .
روى الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال : ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلاّ يوم الحديبية .
وروى إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكّة ، وقد كان فتح مكّة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنّا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أربع عشرة مائة . والحديبية بئر .
أخبرنا عقيل بن محمّد الفقيه أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي ، أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، حدّثنا موسى بن سهل الرملي ، حدّثنا محمّد بن عيسى ، حدّثنا مجمع بن يعقوب الأنصاري ، قال : سمعت أبي يحدِّث ، عن عمّه عبد الرّحمن بن يزيد ، عن عمّه ، مجمع بن حارثة الأنصاري وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا انصرفنا عنها ، إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعض النّاس لبعض : ما بال النّاس ؟ قالوا : أُوحي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي ( عليه السلام ) واقفاً على راحلته عند كراع العميم ، فلمّا اجتمع إليه الناس ، قرأ ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبيِناً ( . فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : ( نعم والّذي نفسي بيده إنّه لفتح ) . فقسم ( صلى الله عليه وسلم ) الخمس بخيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه العدل ، حدّثنا أبو محمّد عبدالله بن محمّد بن شنبه ، حدّثنا عبيدالله بن أحمد الكسائي ، حدّثنا الحارث بن عبدالله ، أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن
(9/41)

" صفحة رقم 42 "
الشعبي في قوله : ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبيِناً ( قال : فتح الحديبية ، غفر له ما تقدّم من ذنبه ، وما تأخّر ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محلّه ، وظهرت الروم على فارس ، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس .
وقال مقاتل بن حيان : يسّرنا لك يُسراً بيّناً ، وقال مقاتل بن سليمان : لمّا نزل قوله : ) ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ( فرح بذلك المشركون ، والمنافقون ، وقالوا : كيف نتّبع رجلاً لا يدري ما يفعل به وبأصحابه ، ما أمرنا وأمره إلاّ واحد ، فأنزل الله تعالى بعدما رجع من الحديبية ) إِنّا فتحنا لك فتحاً مبيِناً ( أي قضينا لك قضاءً بيّناً .
الفتح : ( 2 ) ليغفر لك الله . . . . .
) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( فنسخت هذه الآية تلك الآية ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد نزلت عليَّ آية ما يسرّني بها حمر النعم ) .
وقال الضحاك : ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( بغير قتال ، وكان الصلح من الفتح ، وقال الحسن : فتح الله عليه بالإسلام .
) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ( قال أبو حاتم : هذه ( لام ) القسم ، لما حذفت ( النون ) من فعله كسرت اللام ونُصبَ فعلها بسببها بلام كي ، وقال الحسين بن الفضيل : هو مردود إلى قوله : ) واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ( ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ( ) وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري ( وقال محمّد بن جرير : هو راجع إلى قوله : ) إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبِّح بحمد ربّك واستغفره ( ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك ( قبل الرسالة ) وما تأخّر ( إلى وقت نزول هذه السورة .
أخبرنا أبو عبدالله الحسين بن محمّد بن عبدالله الحافظ ، حدّثنا أبو عمرو عثمان بن عمر ابن حقيف الدرّاج ، حدّثنا حامد بن شعيب ، حدّثنا شريح بن يونس ، حدّثنا محمّد بن حميد ، عن سفيان الثوري ) ما تقدّم من ذنبك ( ما عملت في الجاهلية ) وما تأخّر ( كلّ شيء لم تعمله .
وقال عطاء بن أبي مسلم الخرساني : ) ما تقدّم من ذنبك ( يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك ) وما تأخّر ( ديوان أُمّتك بدعوتك . سمعت الطرازي يقول : سمعت أبا القاسم النصر آبادي يقول : سمعت أبا علي الرودباري بمصر يقول : في قول الله تعالى : ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ( ، قال : لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه .
) وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ( أي ويثبتك عليه ، وقيل : يهدي بك .
(9/42)

" صفحة رقم 43 "
الفتح : ( 3 ) وينصرك الله نصرا . . . . .
) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ( غالباً . وقيل : مُعزّاً .
الفتح : ( 4 ) هو الذي أنزل . . . . .
) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ( الرحمة ، والطمأنينة ) فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ( قال ابن عبّاس : كلّ سكينة في القرآن فهي الطمأنينة إلاّ التي في البقرة .
) لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ( قال ابن عبّاس : بعث الله نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) بشهادة أن لا إله إلاّ الله ، فلمّا صدّقوا فيها زادهم الصلاة ، فلمّا صدّقوا زادهم الصيام ، فلمّا صدّقوا زادهم الزّكاة ، فلمّا صدّقوا زادهم الحجّ ، ثمّ زادهم الجهاد ، ثمّ أكمل لهم دينهم بذلك ، وقوله تعالى : ) ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ( أي تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان .
وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم ، وقال الكلبي : هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحقّ .
) وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ( أخبرنا عبيدالله بن محمّد الزاهد ، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا محمّد بن عبدالله بن المبارك ، حدّثنا يونس بن محمّد ، حدّثنا شيبان ، عن قتادة في قوله سبحانه : ) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( قال أنس بن مالك : إنّها نزلت على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بعد مرجعه من الحديبية ، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة ، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا بالحديبية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد أُنزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً ) فقرأها على أصحابه ، فقالوا : هنيئاً مريئاً يا رسول الله ، قد بيّن الله تعالى ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى :
الفتح : ( 5 - 6 ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات . . . . .
) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( قال أهل المعاني : وإنّما كرّر ( اللام ) في قوله : ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات ( بتأويل تكرير الكلام مجازه ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبيِناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ( إنّا فتحنا لك ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ( أي لن ينصر الله محمّداً ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين .
) عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ( بالذلّ والعذاب ) وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً }
الفتح : ( 7 - 9 ) ولله جنود السماوات . . . . .
) وَللهِ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ( قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعتها ( بالياء ) واختاره أبو عبيد ، قال : لذكر الله المؤمنين قبله ، وبعده ، فأمّا قبله فقوله تعالى : ) في قلوب المؤمنين ( وبعده قوله : ) إنَّ الّذين يبايعونك ( وقرأها الآخرون ( بالتاء ) واختاره أبو حاتم .
) وَتُعَزِّرُوهُ ( وقرأ محمّد بن السميقع ( بزايين ) ، وغيره ( بالراء ) أي لتعينوه ، وتنصروه . قال
(9/43)

" صفحة رقم 44 "
عكرمة : تقاتلون معه بالسيف ، أخبرنا علي بن محمّد بن محمّد بن أحمد البغدادي ، أخبرنا أبو محمّد عبدالله بن محمّد الشيباني ، أخبرنا عيسى بن عبدالله البصري بهراة ، حدّثنا أحمد بن حرب الموصلي ، حدّثنا القاسم بن يزيد الحرمي ، حدّثنا سفيان بن سعيد الثوري ، عن يحيى بن سعيد القطان ، حدّثنا سفيان بن عينية ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبدالله ، قال : لمّا نزلت على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتعزّروه ( ، قال لنا : ماذا كُم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم .
قال : لتنصروه وَتُوَقِّرُوهُ وتعظّموه وتفخموه . وهاهنا وقف تام .
) وَتُسَبِّحُوهُ ( أي وتسبحوا الله بالتنزيه والصلاة . ) بُكْرَةً وَأَصِيلا ( .
) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاَْعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاَْعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً لَّيْسَ عَلَى الاَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً ( 2
الفتح : ( 10 ) إن الذين يبايعونك . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ( يا محمّد بالحديبية على أن لا يفروا ) إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ ( .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا ابن حبش المقري ، حدّثنا محمّد بن عمران ، حدّثنا أبو عبدالله المخزومي ، حدّثنا سفيان بن عينية ، عن عمرو بن دينار إنّه سمع جابراً يقول : كنّا يوم الحديبية ألف وأربعمائة ، فقال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنتم اليوم خير أهل الأرض ) . قال : وقال لنا
(9/44)

" صفحة رقم 45 "
جابر : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة ، وقال : بايعنا رسول الله تحت السمّرة على الموت على أن لا نفرّ ، فما نكث أحد منّا البيعة ، إلاّ جد بن قيس وكان منافقاً ، اختبأ تحت أبط بعيره ، ولم يسر مع القوم . ) يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( قال ابن عبّاس : ) يد الله ( بالوفاء لما وعدهم من الخير ) فوق أيديهم ( بالوفاء .
وقال السدي : ) يد الله فوق أيديهم ( وذلك إنّهم كانوا يأخذون بيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويبايعونه ، و ) يد الله فوق أيديهم ( عند المبايعة .
وقال الكلبي : معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة ، وقال ابن كيسان : قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم .
) فَمَنْ نَكَثَ ( يعني البيعة ) فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ( عليه وباله ) وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ ( قرأ أهل العراق ( بالياء ) ، وغيرهم ( بالنون ) .
) أَجْراً عَظِيماً ( وهو الجنّة
الفتح : ( 11 ) سيقول لك المخلفون . . . . .
) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ ( قال ابن عبّاس ومجاهد : يعني أعراب غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، والديك ، وذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب ، وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدّوه عن البيت ، وأحرم هو ( صلى الله عليه وسلم ) وساق معه الهدي ليعلم النّاس أنّه لا يريد حرباً ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، وقالوا : نذهب معه إلى قوم ، قد جاؤوه ، فقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم ، فتخلّفوا عنه . واعتلُّوا بالشغل ، فأنزل الله تعالى : ) سيقول لك المخلَّفون من الأعراب ( الّذين خلّفهم الله عن صحبتك ، وخدمتك في حجّتك ، وعمرتك إذا انصرفت إليهم ، فعاتبتهم على التخلّف عنك .
) شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ( ثمّ كذّبهم في اعتذارهم واستغفارهم وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم ، فقال : ) يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً ( قرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ ( الضاددّ والباقون بالفتح ، واختاره أبو عبيد ، وأبو حاتم ، قالا : لأنّه قابله بالنفع ضدّ الضرّ .
) أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }
الفتح : ( 12 ) بل ظننتم أن . . . . .
) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ( وذلك بأنّهم قالوا : إنَّ محمّداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون ، فأين تذهبون ؟ انتظروا ما يكون من أمرهم .
) وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ( هالكين ، فاسدين ، لا تصلحون لشيء من الخير .
الفتح : ( 13 - 15 ) ومن لم يؤمن . . . . .
) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً ولله مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ ( عن الحديبية ) إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ ( يعني غنائم خيبر ) لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ( إلى خيبر فنشهد معكم ، فقال أهلها : ) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا
(9/45)

" صفحة رقم 46 "
كَلاَمَ اللهِ ( قرأ حمزة والكسائي ( كلم الله ) بغير ( ألف ) ، وغيرهم ( كلام الله ) ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قال الفرّاء : الكلام مصدر ، والكلم جمع الكلمة ، ومعنى الآية يريدون أن يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أنّ الله تعالى جعل غنائم خيبر لهم عوضاً من غنائم أهل مكّة ، إذا انصرفوا عنهم على صلح ، ولم يصيبوا منهم شيئاً ، وقال ابن زيد : هو قوله تعالى : ) فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً ( . والقول الأوّل أصوب ، وإلى الحقّ أقرب ، لأنّ عليه عامّة أهل التأويل ، وهو أشبه بظاهر التنزيل لأنّ قوله : ) فقل لن تخرجوا معي أبداً ( نزلت في غزوة تبوك . ) قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا ( إلى خيبر . ) كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ( أي من قبل مرجعنا إليكم : إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، ليس لغيرهم فيها نصيب .
) فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ( أن نصيب معكم من الغنائم . ) بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلا }
الفتح : ( 16 ) قل للمخلفين من . . . . .
) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الاْعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْم أُوْلِي بَأْس شَدِيد ( قال ابن عبّاس ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، ومجاهد : هم فارس . كعب : الروم . الحسن : فارس ، والروم . عكرمة : هوازن . سعيد بن جبير : هوازن ، وثقيف . قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين . الزهري ، ومقاتل : بنو حنيفة أهل اليمامة ، أصحاب مُسيلمة الكذّاب .
قال رافع بن جريج : والله لقد كنّا نقرأ هذه الآية فيما مضى ) ستدعون إلى قوم أُولي بأس شديد ( فلا نعلم من هم حتّى دعا أبو بكر ح إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنّهم هم ، وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد .
) تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ( قرأ العامّة يسالمون في محل الرفع عطفاً على قوله : ) تقاتلونهم ( ، وفي حرف أُبي ( أو يسلموا ) بمعنى حتّى يسلموا ، كقول امرئ القيس : أو يموت فنعذرا .
) فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ( يعني عام الحديبية ) يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( وهو النّار . قال ابن عبّاس : فلمّا نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة : فكيف بنا رسول الله ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى :
الفتح : ( 17 ) ليس على الأعمى . . . . .
) لَيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( في التخلّف عن الجهاد ، والقعود عن الغزو .
) وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ( في ذلك . ) وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ( قرأ أهل المدينة والشام ( يدخله ) ( ويعذّبه ) فيهما ( بالنون ) فيهما وقرأ الباقون ( بالياء ) فيهما ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قالا : لِذِكر الله تعالى قبل ذلك
(9/46)

" صفحة رقم 47 "
الفتح : ( 18 ) لقد رضي الله . . . . .
) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ ( بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ، ولا يفروا . ) تَحْتَ الشَّجَرَةِ ( وكانت سمرة ، ويروى أنّ عمر بن الخطّاب ح مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول : هاهنا ، وبعضهم هاهنا ، فلمّا كثر اختلافهم قال : سيروا ، هذا التكلف ، وقد ذهبت الشجرة ، أما ذهب بها سيل وأمّا شيء سوى ذلك . وكان سبب هذه البيعة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعا خراش بن أُمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكّة ، وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، وذلك حين نزل الحديبية .
فعقروا له جمل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش ، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول الله ، فدعا رسول الله ( عليه السلام ) عمر بن الخطّاب ح ليبعثه إلى مكّة ، فقال : يا رسول الله إنّي أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكّة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها ، وغلظتي عليهم ، ولكنّي أدُّلك على رجل هو أعزّ بها منّي ، عثمان بن عفّان ، فدعا رسول الله عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب ، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ، معظّماً لحرمته ، فخرج عثمان إلى مكّة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكّة ، أو قبل أن يدخلها ، فنزل عن دابّته وحمله بين يديه ، ثمّ ردفه وأجازه حتّى بلّغ رسالة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول الله .
فاحتبسته قريش عندهم ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين أنّ عثمان قد قُتل ، فقال رسول الله : ( لا نبرح حتّى نناجز القوم ) . ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله على الموت ، وقال بكير بن الأشج : بايعوه على الموت ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( بل على ما استطعتم ) .
وقال عبدالله بن معقل : كنت قائماً على رأس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك اليوم ، وبيدي غصن من السمرة ، أذبّ عنه ، وهو يبايع النّاس ، فلم يبايعهم على الموت ، وإنّما بايعهم على أن لا يفرّوا ، وقال جابر بن عبدالله : فبايع رسولَ الله ( صلى الله عليه وسلم ) النّاس ولم يتخلّف عنه أحد من المسلمين حضرها إلاّ الجد بن قيس أخو بني سلمة ، لكأنّي أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته مستتر بها من النّاس .
وكان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له : أبو سنان بن وهب . ثمّ أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ الّذي ذُكر من أمر عثمان باطل ، واختلفوا في مبلغ عدد أهل بيعة الرضوان ، فروى شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، قال : سمعت عبدالله بن أبي أوفى يقول : كنّا يوم الشجرة ألف وثلاثمائة ، وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين .
(9/47)

" صفحة رقم 48 "
وقال قتادة : كانوا خمسة عشر ومائة . وروى العوفي عن ابن عبّاس ، قال : كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرون . وقال آخرون : كانوا ألفاً وأربعمائة .
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه ، حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه ، حدّثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الخولي ، حدّثنا محمّد بن رمح ، حدّثنا الليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبدالله ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يدخل النّار أحدٌ ممّن بايع تحت الشجرة ) .
) فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ( من الصدق ، والصبر ، والوفاء . ) فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ( وهو خيبر
الفتح : ( 19 ) ومغانم كثيرة يأخذونها . . . . .
) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ( وكانت خيبر ذات عقار وأموال . فاقتسمها رسول الله بينهم .
) وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً }
الفتح : ( 20 ) وعدكم الله مغانم . . . . .
) وَعَدَكُمْ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ( وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ) فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ( يعني يوم خيبر . ) وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ( أهل مكّة عنكم بالصلح ، وقال قتادة : يعني وكفّ اليهود من خيبر ، وحلفاءهم من أسد ، وغطفان ، عن بيضتكم ، وعيالكم ، وأموالكم بالمدينة ، وذلك أنّ مالك بن عوف النصري ، وعيينة بن حصن الفزاري ، ومن معهما من بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة أهل خيبر فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانصرفوا .
) وَلِتَكُونَ ( هزيمتهم ، وسلامتكم ) آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( ليعلموا أنّ الله هو المتولّي حياطتهم ، وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم . ) وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ( طريق التوكّل ، والتفويض حتّى تتقوا في أُموركم كلّها بربّكم ، وتتوكّلوا عليه ، وقيل : يثبتكم على الإسلام ، ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية ، وفتح خيبر ، وذلك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما رجع من غزوة الحديبية إلى المدينة ، أقام بها بقيّة ذي الحجّة ، وبعض المحرم ، ثمّ خرج في بقيّة المحرم سنة سبع إلى خيبر ، واستخلف على المدينة سماع بن عرفطة الغفاري .
أخبرنا عبدالله بن محمّد بن عبدالله الزاهد ، قرأه عليه ، أخبرنا أبو العبّاس محمّد بن إسحاق السرّاج ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدّثنا عثمان بن عمر ، أخبرنا ابن عون ، عن عمرو ابن سعيد ، عن أنس بن مالك ، أخبرنا عبيدالله بن محمّد ، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا عبد الأعلى بن حمّاد أبو يحيى الباهلي ، حدّثنا يزيد بن زريع ، حدّثنا عن ابن أبي عروبة ، قال : أخبرنا عبيدالله بن محمّد ، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدّثنا روح ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : كنت رديف أبي طلحة يوم أتينا خيبر ، فصبّحهم
(9/48)

" صفحة رقم 49 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أخذوا مساحيهم ، وفؤوسهم ، وغدوا على حرثهم ، وقالوا : محمّد والخميس . فقال رسول الله : ( الله أكبر هلكت خيبر ، إنّا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين ) . ثمّ نكصوا ، فرجعوا إلى حصونهم .
أخبرنا عبيدالله بن محمّد بن عبدالله بن محمّد ، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع .
وأخبرنا عبيدالله بن محمّد ، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدّثنا النضر بن محمّد ، حدّثنا عكرمة بن عمّار ، حدّثنا سلمة بن الأكوع ، عن أبيه ، قال : وحدّثت عن محمّد بن جرير ، عن محمّد بن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رحالة ، قال : وعن ابن جرير ، حدّثنا ابن بشار ، حدّثنا محمّد بن جعفر ، حدّثنا عوف ، عن ميمون أبي عبدالله ، عن عبدالله بن بريدة ، عن أبيه ، دخل حديث بعضهم في بعض ، قالوا : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى خيبر يسير بنا ليلاً ، وعامر بن الأكوع معنا ، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هينهاتك ؟ وكان عامر شاعراً فنزل يحدو بالقوم وهو يرجز لهم :
اللهُمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا
ولا تصدّقنا ولا صلّينا
انّ الذين هم بغوا علينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا
وثبّت الأقدام إن لاقينا
وألقيَنْ سكينةً علينا
إنّا إذا صيح بنا أتينا
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ هذا ؟ ) . قالوا : عامر بن الأكوع . فقال : ( غفر لك ربّك ) . فقال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله ، لو امتعتنا به . وذلك أنّ رسول الله ( عليه السلام ) ما استغفر قطّ لرجل يخصّه إلاّ استشهد . قالوا : فلمّا قدمنا خيبر وتصافّ القوم ، خرج يهودي ، فبرز إليه عامر ، وقال :
قد علمت خيبر إنّي عامر
شاك السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر ، ووقع سيف عامر عليه ، وأصاب ركبة نفسه ، وساقه ، فمات منها ، قال سلمة بن الأكوع : فمررت على نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
(9/49)

" صفحة رقم 50 "
وهم يقولون : بطل عمل عامر ، فأتيت نبي الله وأنا شاحب أبكي ، فقلت : يا رسول الله أبطلَ عمل عامر ؟ فقال : ( ومَنْ قال ذاك ؟ ) قلت : بعض أصحابك . قال : ( كذب من قال ، بل له أجره مرّتين ، إنّه لجاهد مجاهد ) .
قال : فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ الله تعالى فتحها علينا ، وذلك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى اللواء عمر بن الخطّاب ، ونهض من نهض معه من الناس ، فلقوا أهل خيبر ، فانكشف عمر ، وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحينه أصحابه ، ويحينهم ، وكان رسول الله قد أخذته الشقيقة ، فلم يخرج إلى النّاس ، فأخذ أبو بكر راية رسول الله ، ثمّ نهض فقاتل قتالاً شديداً ، ثمّ رجع ، فأخذها عمر ، فقاتل قتالاً شديداً ، وهو أشدّ من القتال الأوّل ، ثمّ رجع ، فأخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( أما والله لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ، ورسوله ، ويحبّه الله ، ورسوله يأخذها عنوة ) .
وليس ثَمّ علي ، فلمّا كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر وقريش رجاء كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك ، فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلمة بن الأكوع إلى علي ، فدعاه ، فجاء علي على بعير له حتّى أناخ قريباً من خباء رسول الله ، وهو أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري ، قال سلمة : فجئت به أقوده إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقال رسول الله : ( ما لكَ ؟ ) . قال : رمدت . فقال : ( إدن منّي ) . فدنا منه فتفل في عينيه ، فما وجعهما بعد حتّى مضى لسبيله ، ثمّ أعطاه الراية ، فنهض بالراية وعليه حلّة أُرجوان حمراء ، قد أخرج حملها ، فأتى مدينة خيبر ، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر ، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يقول :
قد علمت خيبر أنّي مرحب
شاكي السلاح بطلٌ مجرّب
أطعن أحياناً
وحيناً أضرب
إذا الحروب أقبلت تلهّب
كان حمائي كالحمى لا يقرب
فبرز إليه علي ح ، وقال :
أنا الّذي سمّتني أُمّي حيدره
كليثِ غابات شديد قسوره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
فاختلفا ضربتين ، فبدره علي ، فضربه ، فقدَّ الحجر والمغفرة ، وفلق رأسه حتّى أخذ السيف
(9/50)

" صفحة رقم 51 "
في الأضراس ، وأخذ المدينة ، وكان الفتح على يديه ، ثمّ خرج بعد مرحب أخوه ياسر بن نحر ، وهو يقول :
قد علمت خيبر أنّي ياسر
شاكي السلاح بطل مغاور
إذا الليوث أقبلت تبادر
وأحجمت عن صولتي المغاور
إنّ حمائي فيه موت حاضر
وهو يقول : هل من مبارز ؟ فخرج إليه الزبير بن العوّام ، وهو يقول :
قد علمت خيبر أنّي زبار
قرم لقرم غير نكس فرار
ابن حماة المجد ابن الأخيار
ياسر لا يغررْك جمع الكفّار
وجمعهم مثل السراب الحبار
فقالت أُمّه صفية بنت عبد المطّلب : أيقتل ابني يا رسول الله ؟ فقال : ( بل ابنك يقتله إن شاء الله ) ثمّ التقيا ، فقتله الزبير ، فقال أبو رافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله ( عليه السلام ) برايته ، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه رجل من اليهود ، فطرح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن ، فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده ، وهو يقاتل حتّى فتح الله تعالى عليه ، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه .
ثمّ لم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفتح الحُصون حُصناً حُصناً ، ويجوز الأموال حتّى انتهوا إلى حُصن الوطيح والسلالم ، وكان آخر حصون خيبر افتتح ، فحاصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بضع عشرة ليلة ، فلمّا أمسى النّاس يوم الفتح أوقدوا نيراناً كثيرة ، فقال رسول الله : ( على أيّ شيء توقدون ؟ ) قالوا : على لحم ، قال : ( على أيّ لحم ؟ ) قالوا : لحم الحمر الأنسية . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اهريقوها واكسروها ) . فقال رجل : أَوَ نهرّقها ونغسلها ؟ فقال : ( أو ذاك ) .
قال ابن إسحاق : ولمّا افتتح رسول الله ( عليه السلام ) القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بصفية بنت حي بن أحطب ، وبأُخرى معها ، فمرّ بهما بلال ، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قُتل من اليهود ، فلمّا رأتهما التي مع صفية ، صاحت ، وصكّت وجهها ، وحثت
(9/51)

" صفحة رقم 52 "
التراب على رأسها ، فلمّا رآها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أغربوا عنّي هذه الشيطانة ) . وأمر بصفية ، فجرت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعلم المسلمون أنّ رسول الله قد اصطفاها لنفسه .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لبلال لمّا رأى من تلك اليهودية ما رأى : ( أَنُزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما ؟ ) وكانت صفية قد رأت في المنام ، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أنّ قمراً وقع في حجرها ، فعرضت رؤيتها على زوجها ، فقال : ما هذا إلاّ أنّك تمنين مَلِك الحجاز محمّداً ، فلطم وجهها لطمة اخضّرت عينها منها ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبها أثر منها .
فسألها : ( ما هو ؟ ) فأخبرته هذا الخبر ، وأتى رسول الله بزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله ، فجحده أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله برجل من اليهود ، فقال لرسول الله ( عليه السلام ) : إنّي قد رأيت كنانة يطيف هذه الخزنة كلّ غداة ، فقال رسول الله لكنانة : ( أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ) . قال : نعم .
فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالخزنة ، فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثمّ سأله ما بقي ، فأبى أن يؤدّيه ، فأمر به رسول الله الزبير بن العوّام . فقال : ( عذّبه حتّى تستأصل ما عنده ) .
فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتّى أشرف على نفسه ، ثمّ دفعه رسول الله إلى محمّد ابن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة ، وكانت اليهود ألقت عليه حجراً عند حصن ناعم ، فقتله ، كان أوّل حصن افتتح من حصون خيبر .
قالوا : فلمّا سمع أهل فدك بما صنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بخيبر ، بعثوا إلى رسول الله أن يسترهم ويحقن لهم دماءهم ويخلّوا له الأموال ، ففعل ، ثمّ إنّ أهل خيبر سألوا رسول الله أن يعاطيهم الأموال على النصف ففعل على إنّا إن شئنا فخرجنا أخرجناكم ، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، وكانت خيبر فيئاً للمسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله ( عليه السلام ) لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب .
فلما اطمئنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية ، وقد سألت ، أي عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السمّ ، وسمّت سائر الشاة ، ثمّ جاءت بها ، فلمّا وضعتها بين يدي رسول الله ، تناول الذراع ، فأخذها ، فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، وقد أخذ منها كما أخذ منها رسول الله ، فأما بشر فأساغها ، وأمّا رسول الله فلفظها ، ثمّ قال : ( إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم ) . ثمّ دعاها ، فاعترفت ، فقال : ( ما حملك على ذلك ؟ ) قالت : بلغت من
(9/52)

" صفحة رقم 53 "
قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان نبيّاً فسيخبر ، وإن كان ملكاً استرحت منه . قال : فتجاوز عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل .
قال : ودخلت أُم بشر بن البراء على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعوده في مرضه الذي توفى فيه ، فقال : ( يا أُمّ بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعادني ، فهذا أوان انقطاع أبهري ) .
وكان المسلمون يرون أنّ رسول الله مات شهيداً مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوّة .
الفتح : ( 21 ) وأخرى لم تقدروا . . . . .
) وَأُخْرَى ( أي وعدكم فتح بلدة أُخرى . ) لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا ( حتّى يفتحها عليكم ، وقال ابن عبّاس : علم الله أنّه يفتحها لكم . واختلفوا فيها ، فقال ابن عبّاس وعبد الرّحمن بن أبي ليلى والحسن ومقاتل : هي فارس والروم .
وقال الضحّاك وابن زيد وابن إسحاق : هي خيبر ، وعدها الله تعالى نبيّه قبل أن يصيبها ، ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها ، حتّى أخبرهم الله تعالى بها . وهي رواية عطية ، وماذان ، عن ابن عبّاس ، وقال قتادة : هي مكّة . عكرمة : هي خيبر . مجاهد : ما فتحوا حتّى اليوم . ) وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيراً ( .
) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاَْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ( 2
الفتح : ( 22 ) ولو قاتلكم الذين . . . . .
) وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا ( يعني أسد ، وغطفان ، وأهل خيبر ، وقال قتادة : يعني كفّار قريش ) لَوَلَّوْا الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (
الفتح : ( 23 ) سنة الله التي . . . . .
) سنَّةَ اللهِ ( أي كسنّة الله ) الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ( في نصرة أوليائه ، وقهر أعدائه ) وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا (
الفتح : ( 24 ) وهو الذي كف . . . . .
) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ( وهو الحديبية ) مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُون
(9/53)

" صفحة رقم 54 "
َ بَصِيراً ( ( الياء ) أبو عمرو ، وغيره ( بالتاء ) ، واختلفوا فيهم ، فقال أنس : إنّ ثمانين رجلاً من أهل مكّة هبطوا على رسول الله وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم ، فأخذهم رسول الله سلماً ، وأعتقهم ، فأنزل الله تعالى : ) هو الذي كفَّ أيديهم عنكم ( . . . الآية . عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : إنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله عام الحديبية ليصيبوا من أصحابه أحداً ، وأُخذوا أخذاً ، فأتى بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانوا يرمون عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالحجارة ، والنّبل فأنزل الله تعالى : ) وهو الذي كفّ أيديهم عنكم ( . . . الآية .
وقال عبدالله بن المغفل : كنّا مع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية في أصل الشجرة وعلى ظهره غصنٌ من أغصان تلك الشجرة ، فرفعته عن ظهره ، وعليّ بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصُلح ، وسهيل بن عمرو ، فخرج علينا ثلاثون شابّاً عليهم السّلاح ، فثاروا في وجوهنا ، فدعا رسول الله ( عليه السلام ) ، فأخذ الله بأبصارهم ، فقمنا إليهم ، فأخذناهم ، فخلّى عنهم رسول الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال مجاهد : أقبل نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) معتمراً ، وأخذ أصحابه ناساً من أهل الحرم غافلين ، فأرسلهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فذلك الإظفار ببطن مكّة ، وقال قتادة : ذُكر لنا أنَّ رجلاً من أصحاب رسول الله يقال له : زنيم اطّلع الثنية من الحديبيّة ، فرماه المشركون بسهم ، فقتلوه ، فبعث رسول الله خيلاً ، فأتوا باثني عشر فارساً من الكفّار ، فقال لهم نبيّ الله : ( هل لكم عليَّ عهد ؟ هل لكم عليَّ ذمّة ؟ ) . قالوا : لا ، فأرسلهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال ابن ايزي ، والكلبي : هم أهل الحديبية ، وذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا خرج بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة ، فقال له عمر ح : يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ، ولا كراع ؟ قال : فبعث إلى المدينة ، فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلاّ حمله ، فلمّا دنا من مكّة منعوه أن يدخل ، فسار حتّى أتى منى ، فنزل منى ، فأتاه عينه أنّ عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة ، فقال لخالد بن الوليد : ( يا خالد هذا ابن عمّك قد أتاك في الخيل ) .
فقال خالد : أنا سيف الله ، وسيف رسوله ، يا رسول الله ، أرمِ بي حيث شئت ، فيومئذ سمّي سيف الله ، فبعثه على خيل ، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة ، ثمّ عادوا في الثانية ، فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة ، ثمّ عاد في الثالثة فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ) وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم ( إلى قوله : ) عذاباً أليما ( فكفّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية ، أن تطأهم
(9/54)

" صفحة رقم 55 "
الخيل بغير علم ،
الفتح : ( 25 ) هم الذين كفروا . . . . .
وذلك قوله تعالى : ) هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً ( محبوساً . أي وصدّوا الهدي معكوفاً محبوساً .
) أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( منحره ، وكان سبعين بدنة ، روى الزهيري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسوّر بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، قالا : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالاً ، وساق معه سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كلّ بدنة عن عشرة نفر ، فلمّا بلغ ذا الحليفة ، تنامى إليه النّاس ، فخرج في بضع عشرة مائة من أصحابه ، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد الهدي ، وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وكشف بين يديه عيناً من خزاعة يخبره عن قريش .
وسار النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى إذا كان بغدير الأشطاط ، قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي ، فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشيروا عليَّ ، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الّذين عاونوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين ، وان نجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون أن نأمّ البيت ، فمن صدّنا عنه قاتلناه ) .
فقام أبو بكر ح ، فقال : يا رسول الله إنّا لم نأت لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا ، وبين البيت قاتلناه ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( فروحوا إذاً ) .
وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة لأصحابه من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فراحوا حتّى إذا كانوا بعسفان ، لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال له : يا رسول الله هذه قريش ، قد سمعوا بسيرك ، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود المنون ، ونزلوا بذي طوى ، يحلفون بالله لا يدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها إلى كراع العميم . وقد ذكرت قول من قال : إنّ خالد بن الوليد يومئذ كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسلماً ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( يا ويح قريش ، قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة ، فما تظنّ قريش ، فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتّى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السّالفة ) .
ثمّ قال : ( مَن رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ) ، فقال رجل من أسلم : أنا يا رسول الله . فخرج على طريق وعر حزن بين شعاب ، فلمّا خرجوا منه ، وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للناس : ( قولوا :
(9/55)

" صفحة رقم 56 "
نستغفر الله ، ونتوب إليه ) . ففعلوا ، فقال : ( والله إنّها للحطّة التي عُرِضَت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها ) .
ثمّ قال رسول الله للنّاس : ( اسلكوا ذات اليمين ) في طريق يخرجه على ثنية المرار على مهبط الحديبية من أسفل مكّة .
فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلمّا رأت خيل قريش فترة قريش وأنّ رسول الله قد خالفهم عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم ، وسار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى إذا سلك ثنية المرار بركت به ناقته ، فقال النّاس : حل حل . فقال : ( ما حل ؟ ) قالوا : حلأت الفضول . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حلأت ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) .
ثمّ قال : ( والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون بها حرمات الله ، وفيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها ) ، ثمّ قال للناس : ( انزلوا ) فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء ، إنّما يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث الناس أن ترجوه ، فشكا الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العطش فنزع سهماً من كنانته ، وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له : ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم ، وهو سائق بدن رسول الله ، فنزل في ذلك البئر ، فغرزه في جوفه ، فجاش الماء بالريّ ، حتّى صدروا عنه ، ويقال : إنّ جارية من الأنصار أقبلت بدلوها ، وناجية في القليب يمتح على الناس ، فقالت :
يا أيّها الماتح دلوي دونكا
إنّي رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجّدونكا
أرجوك للخير كما يرجونكا
فقال :
قد علمت جارية يمانية
أنّي أنا الماتح واسمي ناجية
وطعنة ذات رشاش واهية
طعنتها عند صدور العادية
قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه ، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل تهامة ، فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا بعَداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت .
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّا لم نأتِ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأضرّت بهم ، فإن شاءوا ماددناهم مدة ، ويخلّوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر ، وإن
(9/56)

" صفحة رقم 57 "
شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلاّ فقد حموا ، فوالله لأُقاتلنّهم على أمري هذا ، حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذنّ الله أمره ) .
فقال بديل : سنبلغهم ما تقول .
فانطلق حتّى أتى قريشاً ، فقال : إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤوهم : لا حاجة لنا في أن تحدّثنا بشيء عنه ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول . قال : سمعته يقول كذا ، وكذا . فحدّثهم بما قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقام عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أي قوم ، ألستم بال الوالد ؟ قالوا : بلى . قال : ألستُ بالولد ؟ قالوا : بلى .
قال : فهل تتّهموني ؟ قالوا : لا . قال : أفلستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ ، فلمّا ألحّوا عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإنّ هذا الرجل ، قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها ودعوني آئته ، قالوا : آتيه . فأتاه ، فجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال النبي نحواً من مقالته لبديل ، فقال عروة عند ذلك : يا محمّد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب استباح ، وقيل اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأُخرى فوالله إنّي لأرى وجوهاً وأشواباً من الناس خُلقاً أن يفرّوا ويدعوك .
فقال أبو بكر الصدِّيق ح : امصص بظر اللات واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون أنحن نفرّ وندعه ؟ فقال : مَنْ هذا ؟ قالوا : أبو بكر . فقال : أما والّذي نفسي بيده ، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك ، وجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فكلّما كلّمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله ، ومعه السيف وعلى رأسه المغفر ، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخّر يدك عن لحيته ، فرفع عروة رأسه ، فقال : مَنْ هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . قال : أي غدّار ، أوَلستَ أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة قد صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثمّ جاء فأسلم ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( امّا الإسلام فقد قبلنا ، وأمّا المال ، فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه ) . وإنّ عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله بعينه ، فقال : والله
(9/57)

" صفحة رقم 58 "
لن يتنخم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه ، وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له .
فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر ، وكسرى ، والنجاشي ، والله إنْ رأيت مَلكاً يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً ، والله إن يتنجم نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه ، وجلده ، وإذا أمرهم أمراً ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر تعظيماً له ، وإنّه قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها .
فقال رجل من كنانة : دعوني آتيه . قالوا : أتيه . فلمّا أشرف على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، قال النبي : ( هذا فلان من قوم يعظّمون البُدن ، فابعثوها له ) فبعثت له ، واستقبله قوم يلبّون ، فلمّا رأى ذلك ، قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت ، ثمّ بعثوا إليه الجليس بن علقمة بن ريان ، وكان يومئذ سيّد الأحابيش ، فلمّا رآه رسول الله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ هذا من قوم يتألّهون ، فابعثوا بالهدي في وجهه حتّى يراه ) .
فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، قد أكل أوتاده من طول الحبس ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إعظاماً لما رأى ، فقال : يا معشر قريش ، إنّي قد رأيت ما لا يحل صدّه ، الهدي في قلائده ، قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محلّه ، فقالوا له : اجلس ، فإنّما أنت أعرابي لا علم لك ، فغضب الجليس عند ذلك ، فقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظِّماً له ، والذي نفس الجليس بيده ، لتخلنّ بين محمّد ، وبين ما جاء له ، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، فقالوا له : كفّ عنّا يا جليس حتّى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به .
فقام رجل منهم يقال له : مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلمّا أشرف عليهم ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر ) ، فجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاء سهيل بن عمرو فلمّا رآه النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قد سهل لكم أمركم ، القوم يأتون إليكم بأرحامكم ، وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية لعلّ ذلك يليّن قلوبهم ) فلبّوا من نواحي العسكر حتّى ارتجّت أصواتهم بالتلبية ، فجاءوا ، فسألوا الصلح ، وقال سهيل : هات نكتب بيننا وبينكم كتاباً ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب ح فقال له : ( اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ) . فقال سهيل : أما الرّحمن فلا أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللَّهُم ، كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرّحمن الرحيم .
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لعليّ : ( اكتب باسمك اللَّهُم ) ، ثمّ قال : ( اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله ) . فقال سهيل : والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ) . ثمّ قال لعلي : ( امح رسول الله ) ،
(9/58)

" صفحة رقم 59 "
فقال : والله لا أمحوك أبداً ، فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب ، فمحاه ، ثمّ قال : ( اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم من بعض ، وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ، وعلى إنّه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع رسول الله لم يردّوه عليه ) .
فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( من جاءهم منّا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً ، وإنّ بيننا عيبة مكفوفة ، وإنّه لا أسلال ، ولا أغلال ، وإنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد ، وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش ، وعهدهم دخل فيه ) .
فتواثبت خزاعة ، فقالوا : نحن في عقد محمّد وعهده ، وتواثبت بنو بكر ، فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وعلى أن يخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به ) . فقال سهيل : ولا يتحدّث العرب إنّا أخذتنا ضغطة ، ولكن لك ذلك من العام المقبل ، فكتب : وعلى إنّك ترجع عنّا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكّة ، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت فيها ثلاثاً ، ولا تدخلها بالسّلاح إلاّ السيوف في القراب ، وسلاح الراكب ، وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه ، ولا تقدمه علينا ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن نسوقه ، وأنتم تردون وجوهه ) .
قال : فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، وإذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في قيوده ، قد انفلت ، وخرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فلمّا رأى سهيل أبا جندل ، قام إليه ، فضرب وجهه ، وأخذ سلسلته ، وقال : يا محمّد قد تمّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، وهذا أوّل من أقاضيك عليه ، أترده إلينا ؟ ثمّ جعل يجرّه ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أردّ إلى المشركين ، وقد جئت مسلماً لتنفرني عن ديني ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذِّب عذاباً شديداً في الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا جندل احتسب ، فإنّ الله جاعل لك ، ولمن معك من المستضعفين فرجاً ، ومخرجاً ، إنّا قد عقدنا بيننا ، وبين القوم عقداً ، وصُلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهداً ، وإنّا لا نغدر ) .
(9/59)

" صفحة رقم 60 "
فوثب عمر بن الخطّاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، فضنّ الرجل بأبيه .
قالوا : وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا ، وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا رأوا ذلك دخل الناسَ أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ، وزادهم أمر أبي جندل شرّاً إلى ما بهم ، فقال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلى يومئذ ، فأتيت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : ألست رسول الله ؟ قال : ( بلى ) . قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : ( بلى ) . قلت : فَلِمَ نعطي الدّنية في ديننا إذاً ؟
قال : ( إنّي رسول الله ، ولستُ أعصيه ، وهو ناصري ) .
قلت : ألستَ تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ، فنطوف به ؟ قال : ( بلى ) . قال : ( هل أخبرتك أنّا نأتيه العام ؟ ) . قلت : لا ، قال : ( فإنّك آتيه ومطوِّف به ) ، قال : ثمّ أتيت أبا بكر ، وقلت : أليس هذا نبيّ الله حقّاً ؟
قال : بلى . قلت : أفلسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قلت : فلِمَ يعطي الدّنية في ديننا إذاً ؟ قال : أيّها الرجل إنّه رسول الله ، وليس يعصي ربّه ، فاستمسك بغرزه حتّى تموت ، فوالله إنّه لعلى الحقّ . قلت : أوليس كان يحدِّث أنّا سنأتي البيت ، ونطوّف به ؟ قال : بلى . قال : أفأخبرك أنّك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنّك آتيه وتطوف به . قال عمر : فما زلت أصوم وأتصدّق ، وأُصلّي ، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به .
قالوا : فلمّا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكتاب أشهد رجالاً على الصلح من المسلمين ، ورجالاً من المشركين ، أبا بكر ، وعمر ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وعبدالله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل ، ومكرز بن حفص بن الأحنف ، وهو مشرك ، وعلي بن أبي طالب ، وكان هو كاتب الصحيفة .
فلمّا فرغ رسول الله من قصّته سار مع الهدي ، وسار الناس ، فلمّا كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية ، عرض له المشركون فردوا وجوهه ، فوقف النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حيث حبسوه ، وهي الحديبية وقال لأصحابه : ( قوموا ، فانحروا ، ثمّ احلقوا ) . قال : فوالله ما قام منهم رجل . حتّى قال ذلك ثلاث مرّات فلمّا لم يقم منهم أحد . قام فدخل على أُمّ سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس .
فقالت أُمّ سلمة : يا نبيّ الله اخرج ، ثمّ لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو
(9/60)

" صفحة رقم 61 "
حلاّقك فيحلقك . فقام فخرج ، فلم يكلِّم أحداً منهم كلمة حتى نحر بدنته ، ودعا حالقه ، فحلقه ، وكان الذي حلقه ذلك اليوم خراش بن أُمية بن الفضل الخزاعي ، فأما يوم الحديبية فحلق رجال وقصّر آخرون ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( يرحم الله المحلّقين ) . قالوا : والمقصّرين يا رسول الله ؟ قال : ( يرحم الله المحلّقين ) ، قالوا : والمقصّرين يا رسول الله ؟ قالوا : فلم ظاهرت الترحم للمحلّقين دون المقصّرين ؟ . قال : ( لأنّهم لم يشكّوا ) . قال ابن عمر : وذلك أنّه تربض القوم ، قالوا : لعلّنا نطوف بالبيت . قال ابن عبّاس : وأهدى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضّة ، ليغيظ المشركين بذلك ، ثمّ جاءه ( صلى الله عليه وسلم ) نسوة مؤمنات ، فأنزل الله تعالى : ) يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا إذا جاءَكم المُؤْمِنات مُهاجرات ( . . . الآية ، قال : فطلّق عمر امرأتين كانتا له في الشرك . قال : فنهاهم أن يردونهنّ وأمرهم أن ترد الصدُقات ، حينئذ ، قال رجل للزهري : أمن أجل الفروج ؟ قال : نعم ، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأُخرى صفوان بن أمية ، ثمّ رجع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة فجاءه أبو نصير عتبة بن أسيد بن حارثة وهو مسلم ، وكان ممّن جلس بمكّة ، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف ، والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكتابهما ، وقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإنّ الله تعالى جاعل لك ، ولمن معك من المستضعفين فرَجاً ، ومخرجاً ) .
ثمّ دفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتّى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو نصير لأحد الرجلين : والله إنّي لأرى سيفك هذا جيّداً ، فاستلّه الآخر ، فقال : أجل والله إنّه لجيد . قال : أرني أنظر إليه . فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتّى قتله ، وفرّ المولى وخرج سريعاً حتّى أتى رسول الله ( عليه السلام ) ، وهو جالس في المسجد ، فلمّا رآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طالعاً قال : ( إنّ هذا الرجل قد رأى فزعاً ) .
فلمّا انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ويلك مالكَ ؟ ) قال : قَتل صاحبكم صاحبي . فوالله ما برح حتّى طلع أبو نصير متوشّحاً بالسيف ، حتّى وقف على رسول الله ، فقال : يا رسول الله وفت ذمّتك أسلمتني ورددتني وقيل : وذريتني إليهم ثمّ نجّاني الله منهم ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويلُ أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال ) .
فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم ، فخرج أبو نصير حتّى أتى سيف البحر ، ونزل بالغيّض من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر بطريق قريش ، الذي كانوا يأخذون إلى الشام
(9/61)

" صفحة رقم 62 "
وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكّة قول رسول الله ( عليه السلام ) لأبي نصير : ( ويل أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال ) . فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتّى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً منهم ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، حتّى ضيّقوا على قريش ، فأرسلت قريش إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) يناشدونه الله ، والرحم ، لمّا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فآواهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقدموا عليه المدينة .
قال الله تعالى : ) وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ ( بأن يقتلوهم ) فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ ( قال ابن زيد : إثم ، وقال ابن إسحاق : غرم الدّية . وقيل : الكفّارة ؛ لأنّ الله تعالى إنّما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يعلم قاتله إيمانه الكفّارة دون الدّية ، فقال جلّ ثناؤه : ) فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمِن ، فَتَحْرِير رَقَبة ( .
ولم يوجب على قاتل خطأ دية ، وقيل : هو أنّ المشركين يعيبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم . ( والمعرّة ) المشقّة ، وأصلها من العرّ وهو الحرب لإذن ذلك في دخولها ، ولكنّه حال بينكم ، وبين ذلك ) لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ ( دينه الإسلام ) مَنْ يَشَاءُ ( من أهل مكّة قبل أن تدخلوها ، هكذا نظم الآية وحكمها ، فحذف جواب ( لولا ) استغناء بدلالة الكلام عليه ، وقال بعض العلماء : قوله : ( لعذّبنا ) جواب لكلامين : أحدهما ) لولا رجالٌ مؤمنين ( ، والثاني : ) لو تزيلوا ( أي تميّزوا .
ثمّ قال : ) ليدخل الله في رحمته من يشاء ( يعني المؤمنين ، والمؤمنات ) في رحمته ( لكن جنّته . قال قتادة : في هذه الآية إنّ الله يدفع بالمؤمنين عن الكفّار ، كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكّة .
أخبرنا أبو عبدالله بن منجويه الدينوري ، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدّثنا أبو الطيّب أحمد بن عبدالله بن بجلي الدارمي بإنطاكية ، حدّثني أحمد بن يعقوب الدينوري ، حدّثنا محمّد بن عبدالله بن محمّد الأنصاري ، حدّثني محمّد بن الحسن الجعفري ، قال : سمعت جعفر ابن محمّد يحدِّث ، عن أبيه ، عن جدّه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قول الله تعالى : ) لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( قال : ( هم المشركون من أجداد النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ممّن كان بعده في عصره ، كان في أصلابهم المؤمنون ، فلو تزيّل المؤمنون عن أصلاب الكفّار يعذب الله عذاباً أليماً ) . إذ من صلة قوله تعالى :
(9/62)

" صفحة رقم 63 "
) لعذبنا 2 )
الفتح : ( 26 ) إذ جعل الذين . . . . .
) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ( حين صدّوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه عن البيت ، ولم يقرّوا ببسم الله الرّحمن الرَّحيم ، ولا برسالة رسول الله ، ( والحميّة ) فعيلة من قول القائل : حمي فلان أنفه ، يحمي حميّة ، وتحمية . قال المتلمس :
ألا إنّني منهم وعرضي عرضهم
كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشّما
أي يمنع . ) فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ( يعني الإخلاص ، نظيرها قوله تعالى : ) ولكن يناله التقوى منكم ( وقوله : ) إنّما يتقبَّل الله من المتَّقين ( .
أخبرنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن شاذان الرازي بقراءتي عليه ، حدّثنا أبو عبدالله الحسين ابن علي بن أبي الربيع القطان ، حدّثنا عبدالله بن أحمد بن محمّد بن حنبل ، وهيثم أو وهضيم ابن همام الآملي ، وعلي بن الحسين بن الجنيد ، قالوا : حدّثنا الحسن بن قزعة ، حدّثنا سفيان بن حبيب ، حدّثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي ناجية ، عن الطُفيل بن أُبي ، عن أبيه ، عن أُبي بن كعب أنّه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : في قول الله تعالى : ) وألزمهم كلمة التقوى ( قال : ( لا إله إلاّ الله ) .
وهو قول ابن عبّاس ، وعمرو بن ميمون ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحّاك ، وسلمة بن كهيل ، وعبيد بن عمير ، وعكرمة ، وطلحة بن مصرف ، والربيع ، والسّدي ، وابن زيد ، وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله .
أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق ، أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن عيسى المزني ، حدّثنا أبو نعيم ، وأبو حذيفة ، قالا : حدّثنا سفيان ، عن سلمة ابن كهيل ، عن عباية بن ربعي ، عن عليّ ح ) وألزمهم كلمة التقوى ( قال : لا إله إلاّ الله والله أكبر . وهو قول ابن عمر ، وقال عطاء بن رباح : هي لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير .
أخبرنا أبو سعيد محمّد بن عبدالله بن حمدون ، أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد ، حدّثنا أحمد بن منصور المروزي بنيشابور ، حدّثنا سلمة بن سليم السلمي ، حدّثنا عبدالله ابن المبارك عن معمر عن ابن شهاب الزهري ) وألزمهم كلمة التقوى ( قال : بسم الله الرَّحمن الرَّحيم .
(9/63)

" صفحة رقم 64 "
) وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً (
الفتح : ( 27 ) لقد صدق الله . . . . .
) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ ( محمّداً عليه السلام . ) الرُّؤْيَا ( التي أراها إيّاه في مخرجه إلى الحديبية ، أنّه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام . ) بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ ( كلّها ) وَمُقَصِّرِينَ ( بعض رؤوسكم ) لاَ تَخَافُونَ ( وقوله : ) لتدخلنّ ( يعني وقال : ) لتدخلنّ ( لأنّ عبارة ( الرؤيا ) قول ، وقال ابن كيسان : قوله : ) لتدخلنّ ( من قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله تعالى ، عن رسوله أنّه قال ذلك ، ولهذا استثنى تأدّباً بأدب الله تعالى حيث قال له : ) ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلاَّ أنْ يَشاءَ الله ( ، وقال أبو عبيدة : ) إن ( بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله كقوله : ) إن كنتم مؤمنين ( ) إن أردن تحصّناً ( .
وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأنّ بين ( الرؤيا ) وتصديقها سنة ، ومات منهم في السنة أُناس ، فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلّكم إن شاء الله آمنين .
ويجوز أن يكون الاستثناء واقعاً على الخوف ، والأمن لا على الدخول ، لأنّ الدخول لم يكن فيه شك ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) عند دخول المقبرة : ( وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ) فالاستثناء واقع على اللحوق دون الموت .
) فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ( أنّ الصلاح كان في الصلح ، وهو قوله : ) ولولا رجال مؤمنون ( . . الآية . ) فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ( أي من دون دخولهما المسجد الحرام ، وتحقيق رؤيا رسول الله ) فَتْحاً قَرِيباً ( وهو صلح الحديبية عن أكثر المفسِّرين ، قال الزهري : ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية ، لأنّه إنّما كان القتال حيث التقى النّاس ، فلمّا كانت الهدنة وضعت الحرب ، وأمِنَ النّاس بعضهم بعضاً ، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث ، والمناظرة ، فلم يكلّم أحد بالإسلام بعقل شيئاً إلاّ دخل فيه في تينك السنتين في الإسلام ، مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر ، وقال ابن زيد : هو فتح خيبر فتحها الله تعالى عليهم حين رجعوا من الحديبية ، فقسّمها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أهل الحديبية كلّهم إلاّ رجلاً واحداً من الأنصار ، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة كان قد شهد الحديبية ، وغاب عن خيبر .
2 ( ) هُوَ الَّذِىأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَه
(9/64)

" صفحة رقم 65 "
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( 2
الفتح : ( 28 ) هو الذي أرسل . . . . .
) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ( أنّك نبي صادق فيما تخبر ، ونصب ) شهيداً ( على التفسير وقيل : على الحال ، والقطع ، ثمّ قال :
الفتح : ( 29 ) محمد رسول الله . . . . .
) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ( تمّ الكلام هاهنا ، ثمّ قال مبتدئاً : ) وَالَّذِينَ مَعَهُ ( ( الواو ) فيه ( واو ) الاستئناف ) والَّذِينَ ( في محل الرفع على الابتداء ) أَشِدَّاءُ ( غلاظ ) عَلَى الْكُفَّارِ ( لا تأخذهم فيهم رأفة . ) رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ( متعاطفون متوادّون بعضهم على بعض كقوله تعالى : ) أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ( ) تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ اللهِ ( أن يدخلهم جنّته ) وَرِضْوَاناً ( أن يرضى عنهم . ) سِيمَاهُمْ ( علامتهم ) فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( واختلف العلماء في هذه السيماء ، فقال قوم : هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة ، يعرفون بتلك العلامة ، أنّهم سجدوا في الدُّنيا ، وهي رواية العوفي ، عن ابن عبّاس ، وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلّوا .
وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم ، كالقمر ليلة البدر . قال آخرون : السمتُ الحسن ، والخشوع ، والتواضع ، وهو رواية الوالبي عن ابن عبّاس ، قال : أما إنّه ليس بالذي ترون ، ولكنّه سيماء الإسلام وسجيّته ، وسمته وخشوعه ، وقال منصور : سألت مجاهداً عن قوله سبحانه وتعالى : ) سِيْمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم ( ، أهو الأثر يكون بين عينيّ الرجل ؟ قال : لا ربّما يكون بين عينيّ الرجل ، مثل ركبة العنز ، وهو أقسى قلباً من الحجارة ، ولكنّه نور في وجوههم من الخشوع ، وقال ابن جريج : هو الوقار ، والبهاء ، وقال سمرة بن عطية : هو البهج ، والصُفرة في الوجوه ، وأثر السهرة . قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى ، وما هم بمرضى ، وقال الضحّاك : أمّا إنّه ليس بالندب في الوجوه ، ولكنّه الصُفرة .
وقال عكرمة ، وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على جباههم . قال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب ، وقال سفيان الثوري : يصلّون بالليل ، فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم ، بيانه قوله : صلّى الله عليه وسلّم : ( من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) .
قال الزهري : يكون ذلك يوم القيامة ، وقال بعضهم : هو ندب السجود ، وعلته في الجبهة من كثرة السجود
(9/65)

" صفحة رقم 66 "
وبلغنا في بعض الأخبار إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : يا نار أنضجي ، يا نار أحرقي ، وموضع السجود فلا تقربي ، وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كلّ من حافظ على الصلوات الخمسة .
) ذَلِكَ ( الذي ذكرت ) مَثَلُهُمْ ( صفتهم ) فِي التَّوْرَاةِ ( وهاهنا تمّ الكلام ، ثمّ قال : ) وَمَثَلُهُمْ ( صفتهم ) فِي الاْنْجِيلِ ( فهما مثلان ) كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ ( قرأه العامّة بجزم ( الطاء ) ، وقرأ بعض أهل مكّة ، والشام بفتحه ، وقرأ أنس ، والحسن ، ويحيى بن وثاب ( شطاه ) مثل عصاه . وقرأ الجحدري ( شطه ) بلا همزة ، وكلّها لغات . قال أنس : ( شطأه ) نباته ، وقال ابن عبّاس : سنبلة حين يلسع نباته عن جنانه . ابن زيد : أولاده . مجاهد ، والضحّاك : ما يخرج بجنب الحقلة فينمو ويتمّ عطاء جوانبه . مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده ، فهو ( شطأه ) . السدّي : هو أن يخرج معه ألطافه الأخرى . الكسائي : طرفه . الفراء : شطأ الزرع أن ينبت سبعاً ، أو ثمانياً ، أو عشراً . قال الأخفش : فراخة يقال : أشطأ الزرع ، فهو مشطي إذا أفرخ ، وقال الشاعر :
أخرج الشطأ على وجه الثرى
ومن الأشجار أفنان الثمر
وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمّد ( عليه السلام ) يعني أنّهم يكونون قليلاً ، ثمّ يزدادون ، ويكثرون ، ويقوون ، وقال قتادة : مثل أصحاب محمّد ( عليه السلام ) في الإنجيل مكتوب أنّه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر . ) فَآزَرَهُ ( قوّاه وأعانه وشد أزره ) فَاسْتَغْلَظَ ( فغلظ ، وقوى ) فَاسْتَوَى ( نما وتلاحق نباته ، وقام ) عَلَى سُوقِهِ ( أُصوله ) يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ ( يعني أنّ الله تعالى فعل ذلك بمحمّد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ) ليغيظ بهم الكفّار ( .
أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق ، أخبرنا أبو بكر محمّد بن يوسف بن حاتم بن نصر ، حدّثنا الحسن بن عثمان ، حدّثنا أحمد بن منصور الحنظلي ، المعروف بزاج المروزي ، حدّثنا سلمة بن سليمان ، حدّثنا عبدالله بن المبارك ، حدّثنا مبارك بن فضلة ، عن الحسن في قوله تعالى : ) محمّدٌ رسول الله ( قال : هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم ) والّذينَ معهُ ( أبو بكر الصدّيق ح ) أشدّاء على الكفّار ( عمر بن الخطّاب ح ) رحماء بينهم ( عثمان بن عفّان ح ) تراهم ركّعاً سجّداً ( علي بن أبي طالب ح ) يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ( طلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، وسعيد ، وأبو عبيدة الجرّاح ) سيماهم في وجوههم من أثر السجود ( قال : المبشَّرون عشرة أوّلهم أبو بكر ، وآخرهم أبو عبيدة الجراح ) ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ( قال : نعتهم في التوراة والإنجيل ) كمثل زرع ( قال
(9/66)

" صفحة رقم 67 "
الزرع محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أخرج شطأه ( أبو بكر الصدّيق ، ) فآزره ( عمر بن الخطّاب ) فاستغلظ ( عثمان بن عفّان ، يعني استغلظ بعثمان الإسلام ) فاستوى على سوقه ( علي بن أبي طالب يعني استقام الإسلام بسيفه ) يعجب الزرّاع ( قال : المؤمنون ) ليغيظ بهم الكفّار ( قال : قول عمر لأهل مكّة : لا نعبد الله سرّاً بعد هذا اليوم .
أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، حدّثنا عبدالله بن محمّد بن شنبه ، حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدّثنا محمّد بن مسلم بن واره ، حدّثنا الحسين بن الربيع ، قال : قال ابن إدريس ما آمن بأن يكونوا قد ضارعوا الكفّار ، يعني الرافضة ، لأنّ الله تعالى يقول : ) ليغيظ بهم الكفّار ( .
أخبرنا الحسين بن محمّد العدل ، حدّثنا محمّد بن عمر بن عبدالله بن مهران ، حدّثنا أبو مسلم الكجي ، حدّثنا عبدالله بن رجاء ، أخبرنا عمران ، عن الحجّاج ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يكون في آخر الزمان قوم ينبزون أو يلمزون الرافضة يرفضون الإسلام ويلفظونه ، فاقتلوهم فإنّهم مشركون ) .
أخبرنا الحسين بن محمّد ، حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي ، حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي ، حدّثنا أبي ، حدّثنا أبو العوام أحمد بن يزيد الديباجي ، حدّثنا المدني ، عن زيد ، عن ابن عمر ، قال : قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لعليّ : ( يا علي أنت في الجنّة وشيعتك في الجنّة ، وسيجيء بعدي قوم يدّعون ولايتك ، لهم لقب يقال له : الرافضة ، فإن أدركتهم فاقتلوهم فإنّهم مشركون ) .
قال : يا رسول الله ما علامتهم ؟ قال : ( يا علي إنّهم ليست لهم جمعة ، ولا جماعة يسبّون أبا بكر ، وعمر ) .
) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( أي الطاعات ، وقد مرّ تأويله ، وقال أبو العالية في هذه الآية : ) وعملوا الصالحات ( يعني الذين أحبّوا أصحاب رسول الله المذكورين فيها فبلغ ذلك الحسن ، فارتضاه ، فاستصوبه منهم ، قال ابن جرير : يعني من الشطأ الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة رد ( الهاء ) و ( الميم ) على معنى الشطأ لا على لفظه ، لذلك قال : ) مِنْهُمْ ( ولم يقل : منه . ) مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( .
( في فَضلِ المُفَضَل ) ، حدّثنا الشيخ أبو محمّد المخلدي ، إملاء يوم الجمعة في شعبان سنة
(9/67)

" صفحة رقم 68 "
أربع وثمانين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد ، وعبدالله بن محمّد بن مسلم ، قالا : حدّثنا هلال بن العلاء ، قال : حدّثنا حجّاج بن محمّد ، عن أيّوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن شداد بن عبدالله ، عن أبي أسماء الرجبي ، عن ثوبان ، أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني مكان الزبور المثاني ، وفضّلني بالمُفَضَل ) .
وأخبرنا أبو الحسن الحباري ، قال : حدّثنا أبو الشيخ الإصبهاني ، قال : أخبرنا ابن أبي عاصم ، قال : حدّثنا هشام بن عمّار ، قال : حدّثنا محمّد بن شعيب بن شابور ، قال : حدّثنا سعد ابن قيس ، عن قتادة ، عن أبي الملح الهذلي ، عن واثلة بن الأسقع ، أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أُعطيت السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل ، وأعطيت المئين مكان الزبور ، وفُضلت بالمُفَضَل ) .
(9/68)

" صفحة رقم 69 "
( سُورة الحجُرات )
مدنية . وهي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون حرفاً ، وثلاثمائة وثلاثة وأربعون كلمة ، وثماني عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم العبدوي قرأه عليه سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو عمر ومحمّد بن جعفر بن محمّد العدل ، قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل ، قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني ، قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ الحُجرات أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومَنْ عَصاه ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 2
الحجرات : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ ( قرأ العامة ( تُقَدِّمُوا ) بضم ( التاء ) وكسر ( الدال ) من التقديم ، وقرأ الضحّاك ، ويعقوب بفتحهما من التقدّم . واختلف المفسِّرون في معنى الآية ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس ، قال : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة . عطية عنه : لا تتكلّموا بين يدي كلامه .
وأخبرنا عبدالله بن حامد ، قال : أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك الشيباني ، قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد بن عثمان الخزاز . قال : حدّثنا حسين بن محارق أبو جنادة ، عن عبدالله بن سلامة ، عن السبعي ، عن جابر بن عبدالله ) لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ الله
(9/69)

" صفحة رقم 70 "
وَرَسُولِهِ ( قال : في الذبح يوم الأضحى ، وإليه ذهب الحسن ، قال : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن ناساً من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرهم أن يعيدوا الذبح .
وأخبرنا عبد الخالق ، قال : أخبرنا ابن حيي قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي العوام الرياحي ، قال : حدّثنا أبي . قال : حدّثنا النعمان بن عبد السّلم التيمي ، عن زفر بن الهذيل ، عن يحيى بن عبدالله التيمي عن حبّال بن رفيدة ، عن مسروق ، عن عائشة خ في قوله : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ ( قالت : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم .
وروي عن مسروق أيضاً ، قال : دخلت على عائشة في اليوم الذي جئت فيه ، فقالت للجارية : اسقيه عسلاً ، فقلت : إنّي صائم . فقالت : قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم ، وفيه نزلت ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ ( وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عمر بن الخطّاب . قال : حدّثنا عبدالله بن الفضل . قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم . قال : حدّثني هشام بن يوسف ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة أنّ عبدالله بن الزبير أخبرهم ، قال : قدم رَكب من بني تميم على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد زرارة ، وقال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس ، فقال أبوبكر : ما أردت إلاّ خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله سبحانه : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ ( . . . الآية .
وقال قتادة : نزلت في ناس كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، لوضع كذا . فكره الله ذلك وقدّم فيه . مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتّى يقضيه الله على لسانه .
الضحّاك : يعني في القتال وشرائع الدين يقول : لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله . حيان ، عن الكلبي لا تستبقوا رسول الله بقول ، ولا فعل حتّى يكون هو الذي يأمركم . وبه قال السدّي ، وقال عطاء الخراساني : نزلت في قصة بئر معونة ، وقيل في الثلاثة الذين نجّوا الرجلين السَّلميين ، اللذين اعتزما إلى بني عامر وأخْذهم مالهما وكانا من أهل العهد ، فلمّا أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد سبق الخبر إليه ، فقال : ( بئس ما صنعتم ، هما من أهل ميثاقي وهذا الذي معكم من نسوتي ) ، قالا : يا رسول الله إنّهما زعما أنّهما من بني عامر ، فقلنا : رجلان ممّن قتل إخواننا .
فقلنا : هما لذلك . وأتاه السَّلميون ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا قود لهما لأنّهما إعتزما إلى
(9/70)

" صفحة رقم 71 "
عدوّنا ) . ولكنّه أيدهما ، فوادَّهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنزل الله سبحانه في ذلك : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ ( حين قتلوا الرجلين ، وهذه رواية ماذان عن ابن عبّاس .
وقال ابن زيد : لا تقطعوا أمراً دون رسول الله ، وقيل : لا تمشوا بين يدي رسول الله ، وكذلك بين أيدي العلماء فإنّهم ورثة الأنبياء .
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن الخبازي ، قال : حدّثنا أبو القاسم موسى بن محمّد الدينوري بها ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى ، قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدّثنا رجل بمكّة ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي الدرداء ، قال : رآني النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أمشي أمام أبي بكر ، فقال : ( تمشي أمام من هو خير منك في الدّنيا والآخرة ، ما طلعت الشمس ، ولا غربت على أحد بعد النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ن والمرسلين خيراً وأفضل من أبي بكر ) .
وقيل : إنّها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا سُئل الرسول عن شيء ، خاضوا فيه ، وتقدّموا بالقول ، والفتوى ، فنهوا عن ذلك ، وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله سبحانه ، قبل أن يقول فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وقيل : لا تطلبوا منزلة وراء منزلته . قال الأخفش : تقول العرب : فلان تقدّم بين يدي أبيه ، وأُمّه ، ويتقدّم إذا استبدّ بالأمر دونهما . ) وَاتَّقُوا اللهَ ( في تضييع حقّه ، ومخالفة أمره . ) إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ( لأقوالكم ) عَلِيمٌ ( بأفعالكم ، وأحوالكم .
الحجرات : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ( الآية نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس ، كان في أذنه وقر ، وكان جهوري الصّوت ، فإذا كلّم إنساناً جهر بصوته ، فربّما كان يكلِّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فينادي بصوته ، فأنزل الله سبحانه ) يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ( ) وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض ( أي لا تغلظوا له في الخطاب ، ولا تنادوه باسمه يا محمّد ، يا أحمد ، كما ينادي بعضكم بعضاً ، ولكن فخّموه ، واحترموه ، وقولوا له قولاً ليّناً ، وخطاباً حسناً ، بتعظيم ، وتوقير : يا نبي الله ، يا رسول الله ، نظيره قوله سبحانه : ) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ( .
) أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ( كي لا تبطل حسناتكم . تقول العرب : أسند الحائط أن يميل ) وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ( فلمّا نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق ، فمرّ به عاصم بن عدي ، فقال : ما
(9/71)

" صفحة رقم 72 "
يبكيك يا ثابت ؟ قال : هذه الآية أتخوّف أن تكون نزلت فيَّ ، وأنا رفيع الصوت ، أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وغلب ثابتاً البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبدالله بن أبي بن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي ، فشدّي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفه ، وقال : لا أخرج حتّى يتوفّاني الله ، أو يرضى عنّي رسول الله ، فأتى عاصم رسول الله ، فأخبره بخبره . فقال : ( اذهب ، فادعه لي ) . فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إنّ رسول الله يدعوك ، فقال : أكسر الصَبّة ، فأتيا رسول الله ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما يبكيك يا ثابت ؟ ) فقال : أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيَّ ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما ترضى أن تعيش سعيداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنّة ) ، فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله ، فأنزل الله سبحانه :
الحجرات : ( 3 ) إن الذين يغضون . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ( الآية .
قال أنس : فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنّة ، يمشي بين أيدينا ، فلمّا كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة ، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار ، وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، وما يصنعون . ثمّ قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا ، ثمّ ثبتا ، ولم يزالا يقاتلان حتّى قُتلا . وثابت بن قيس عليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنّه قال له : اعلم أنّ فلاناً رجلٌ من المسلمين نزع درعي ، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله ، وقد وضع على درعي لرمه ، فأتِ خالد بن الوليد ، فأخبره حتّى يسترد درعي وأتِ أبا بكر خليفة رسول الله وقل له : إنّ عليَّ ديناً حتّى يقضي ، وفلان من رقيقي عتيق .
فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر تلك الرؤيا ، فأجاز أبو بكر وصيّته . قال مالك بن أنس : لا أعلم أجيزت بعد موت صاحبها إلاّ هذه .
حدّثنا أبو محمّد المخلدي ، قال : أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، قال : حدّثنا زياد بن أيّوب ، قال : حدّثنا عباد بن العوّام ، ويزيد بن هارون وسعيد بن عادر ، عن محمّد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، قال : حدّثنا سعيد ، عن أبي هريرة . قال : لمّا نزلت ) لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ( . . . الآية ، قال أبو بكر : والله لا أرفع صوتي إلاّ كأخي السِرار .
(9/72)

" صفحة رقم 73 "
وروى ابن أبي مليكة عن أبي الزبير ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ، ما حدّث عمر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك ، فيسمع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه حتّى يستفهمه ممّا يخفض صوته ، فأنزل الله سبحانه فيهم : ) إنّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ( إجلالاً له ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( أي اختبرها ، فأخلصها ، واصطفاها كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج خالصه ، وقال ابن عبّاس : أكرمها .
وأخبرنا أبو سعيد محمّد بن موسى بن الفضل النيسابوري ، قال : أخبرنا أبو عبدالله محمّد ابن عبدالله بن أحمد الإصبهاني ، قال : حدّثنا أبو بكر عبدالله بن محمّد بن عبد القريشي ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى بن أبي خاتم ، قال : حدّثني جعفر بن أبي جعفر ، عن أحمد بن أبي الخولدي ، قال : سمعت أبا سلمان يقول : قال عمر بن الخطّاب في قوله : ) الّذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ( قال : أذهب الشهوات منها ) لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( ويقال : إنّ هذه الآيات الأربع من قوله : ) يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ( إلى قوله : ) والله غفور رحيم ( نزلت في وفد تميم .
وهو ما أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمّد ، قال : حدّثني أبو جعفر محمّد بن صالح بن هاني الورّاق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، قال : حدّثنا الفضل بن محمّد بن المسيب بن موسى الشعراني ، قال : حدّثنا القاسم بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا مُعلّى بن عبد الرّحمن ، قال : حدّثنا عبد الحميد بن جعفر بن عمر بن الحكم ، عن جابر بن عبدالله ، قال : جاءت بنو تميم إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فنادوا على الباب : يا محمّد اخرج علينا ، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين . قال : فسمعها النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) صلّى الله عليه وسلّم ، فخرج عليهم ، وهو يقول : ( إنّما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمّه شين ) .
قالوا : نحن ناس من بني تميم ، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا ) .
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم : قم فاذكر فضلك ، وفضل قومك .
(9/73)

" صفحة رقم 74 "
فقام ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدّة ، ومالاً ، وسلاحاً ، فمن أنكر علينا قولنا ، فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعال هي خير من فِعالنا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب رسول الله : ( قم فأجبه ) .
فقام ، فقال : الحمد لله أحمده ، وأستعينه ، وأومن به ، وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، ثمّ دعا المهاجرين من بني عمّه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً . فأجابوه ، فقالوا : الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ، ووزراء رسوله ، وعزّاً لدينه ، فنحن نقاتل الناس ، حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، فمن قالها منع منّا ماله ، ونفسه ، ومن أبى قتلناه ، وكان زعمه في الله علينا هيناً ، أقول قولي وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات .
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم : قم يا فلان ، فقل أبياتاً تذكر فيها فضلك ، وفضل قومك . فقام الشاب ، فقال :
نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا
فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند القحط كلّهم
من السديف إذا لم يؤنس القزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
قال : فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى حسّان بن ثابت ، فانطلق إليه الرّسول ، فقال : وما تريد منّي وكنت عنده ؟ قال : جاءت بنو تميم بشاعرهم ، وخطيبهم ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثابت بن قيس ، فأجابه ، وتكلّم شاعرهم ، فأرسل إليك لتجيبه .
وذكر له قول شاعرهم . قال : فجاء حسّان ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيبه فقال : يا رسول الله مره ، فليُسمعني ما قال ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اسمعه ما قلت ) ، فأنشده ما قال ، فقال حسّان :
إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم
قد شرّعوا سُنّة للنّاس تتّبع
يرضى بها كلّ من كانت سريرته
تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع
ثمّ قال حسّان :
نصرنا رسول الله والدين عنوة
على رغم عات من معد وحاضر
بضرب كأبزاغ المخاض مشاشه
وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
وسل أُحداً يوم استقلت شعابه
بضرب لنا مثل الليوث الجواذر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى
إذا طاب ورد الموت بين العساكر
ونضرب هام الدارعين وننتمي
إلى حسب من جذم غسان قاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرّماً
على النّاس بالخيفين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى
وأمواتنا من خير أهل المقابر
(9/74)

" صفحة رقم 75 "
قال : فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء ، وإنّي قد قلت شعراً ، فاسمعه منّي ، فقال : هات ، فقال :
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا
إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنّا رؤُس الناس من كلّ معشر
وأنّ ليس في أرض الحجاز كدارم
وإنّ لنا المرباع في كلّ غارة
تكون بنجد أو بأرض التهائم
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قم يا حسّان فأجبه ) . فقام حسّان ، فقال :
بني دارم لا تفخروا إنّ فخركم
يعود وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتمُ
لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أنّ الناس قد نسوه ) .
قال : فكان قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشدّ عليهم من قول حسّان . ثمّ رجع حسّان إلى شعره . فقال :
كأفضل ما نلتم من المجد والعلى
ردافتنا من بعد ذكر الأكارم
فإن كنتمُ جئتمْ لحقن دمائكم
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندّاً وأسلموا
ولا تفخروا عند النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بدارم
وإلاّ وربّ البيت مالت أكفّنا
على هامكم بالمرهفات الصوارم
قال : فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إنّ محمّداً المولى ، إنه والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلّم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولاً ، وتكلّم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر ، وأحسن قولاً . ثمّ دنا من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسوله .
فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما يضرّك ما كان قبل هذا ) . ثمّ أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكساهم ، وقد كان يخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم ، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه ، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم ، فأزرى به قيس ، وقال فيه أبيات شعر وارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ( إلى قوله ) وَأَجْر عَظيم ( يعني جزاء وافراً ، وهو الجنّة .
2 ( ) إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِم
(9/75)

" صفحة رقم 76 "
لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الاَْمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَائِكَ هُمُ الرَاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 2
الحجرات : ( 4 ) إن الذين ينادونك . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ( يعني أعراب تميم ، حيث نادوا : يا محمّد اخرج علينا ، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين ، قاله قتادة . قال ابن عبّاس : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سرية إلى حي من بني العنبر وأمّر عليهم عُيينة بن حصين الفزاري ، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم ، هربوا ، وتركوا عيالهم ، فسباهم عُيينة ، وقدم بهم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري ، فقدموا وقت الظهيرة ، وواقفوا رسول الله في أهله قائلاً ، فلمّا رأتهم الذراري جهشوا إلى آبائهم يبكون ، وكان لكلّ امرأة من نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيت ، وحجرة ، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجعلوا ينادون : يا محمّد اخرج إلينا حتّى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمّد فادنا عيالنا .
فنزل جبريل ، فقال : يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تجعل بينك ، وبينهم رجلاً ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أترضون أن يكون بيني وبينكم سمرة بن عمرو ، وهو على دينكم ؟ ) .
فقالوا : نعم . قال سمرة : أنا لا أحكم بينهم وعمّي شاهد ، وهو الأعور بن شامة فرضوا به .
فقال الأعور : أرى أن يفادي نصفهم ، ويعتق نصفهم . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( قد رضيت ) .
ففادى نصفهم وأعتق نصفهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كان عليه محرر من ولد إسماعيل ، فليعتق منهم ) . فأنزل الله سبحانه وتعالى : ) إنّ الّذينَ يُنادوُنكَ ( . . . الآية ، وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من الغرف إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيّاً فنحن أسعد الناس به ، وأن يكن ملكاً نعشْ في جناحه . فجاءوا إلى حجرة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فجعلوا ينادونه : يا محمّد ، يا محمّد ، فأنزل الله تعالى : ) إنَّ الّذينَ ينادونَك من وراء الحجرات ( وهي جمع الحجر ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع ، وفيه لغتان : فتح ( الجيم ) وهي قراءة أبي جعفر ، كقول الشاعر :
(9/76)

" صفحة رقم 77 "
أما كان عباد كفياً لدارم
يلي ولأبيات بها الحجرات
يعني يلي ولبني هاشم .
) أَكْثَرُهُمْ ( جهلاء ) لاَ يَعْقِلُونَ }
الحجرات : ( 5 ) ولو أنهم صبروا . . . . .
) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ ( لأنّك كنت تعتقهم جميعاً ، وتطلقهم بلا فداء . ) وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( أخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عبدالله بن يوسف ، قال : حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي ، قال : حدّثني هاشم بن القاسم الحراني ، قال : حدّثني يعلى بن الأشدق ، قال : حدّثني سعد بن عبدالله ، أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) سُئل عن قول الله سبحانه : ) إنَّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات ( قال : ( هم الجفاة من بني تميم ، لولا أنّهم من أشدّ الناس قتالاً للأعور الدجّال ، لدعوت الله عزّ وجلّ أن يهلكهم ) .
الحجرات : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ ( الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدّقاً ، وكان بينه ، وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلمّا سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحدّثه الشيطان أنّهم يريدون قتله ، فهابهم ، فرجع من الطريق إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنّ بني المصطلق ، قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله ، وهمّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقّاه ، ونكرمه ، ونؤدّي إليه ما قِبلنا من حقّ الله ، فبدا له في الرجوع ، فخشينا أن يكون إنّما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنّا نعوذ بالله من غضبه ، وغضب رسوله ، فأبهمهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر ، وأمره أن يخفي عليهم قدومه .
وقال له : ( انظر ، فإن رأيت منهم ما يدلّ على إيمانهم ، فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم ترَ ذلك ، فاستعمل فيهم ما يُستعمل في الكفّار ) .
ففعل ذلك خالد ووافاهم ، فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلاّ الطاعة ، والخير ، فانصرف خالد إلى رسول الله ، وأخبره الخبر ، فأنزل الله سبحانه : ) يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ( يعني الوليد بن عقبة بن أبي معيط سمّاه الله فاسقاً ، نظيره ) أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ( ، قال سهل بن عبدالله وابن زيد : الفاسق الكذّاب . أبو الحسين الورّاق : هو المعلن بالذنب ، وقال ابن طاهر وابن زيد : الفاسق الذي لا يستحي من الله سبحانه
(9/77)

" صفحة رقم 78 "
بنباً : بخبر ) فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا ( كي لا تصيبوا بالقتل ، والقتال . ) قَوْماً ( براء ) بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }
الحجرات : ( 7 ) واعلموا أن فيكم . . . . .
) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ ( فاتقوا أن تقولوا الباطل ، وتفتروا الكذب ، فإنّ الله سبحانه يخبره أنباءكم ، ويعرّفه أحوالكم ، فتفتضحوا . ) لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِير مِنْ الاْمْرِ ( فيحكم برأيكم ، ويقبل قولكم . ) لَعَنِتُّمْ ( لأثمتم وهلكتم . ) وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الاْيمَانَ ( فأنتم تطيعون رسول الله وتأتمّون به ، فيقيكم الله بذلك العنت . ) وَزَيَّنَهُ ( وحسّنه ) فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ( .
ثمّ انتقل من الخطاب إلى الخبر ، فقال عزّ من قائل : ) أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ ( نظيرها قوله سبحانه : ) وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( ، قال النابغة :
يا دارميّة بالعلياء فالسند
أقوتْ وطال عليها سالف الأبد
الحجرات : ( 8 ) فضلا من الله . . . . .
) فَضْلا ( أي كان هذا فضلاً ) مِنْ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
الحجرات : ( 9 ) وإن طائفتان من . . . . .
) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ( قال أكثر المفسِّرين : وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم على مجلس من مجالس الأنصار وهو على حماره ، فبال حماره ، فأمسك عبدالله بن أُبي بأنفه وقال : إليك عنّا بحمارك ، فقد آذانا نتنه . فقال عبدالله بن رواحة : والله لحمار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أطيب ريحاً منك .
فغضب لعبد الله بن أُبي رجل من قومه ، وغضب لعبد الله بن رواحة رجل من قومه ، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه حتّى استسبّوا ، وتجالدوا بالأيدي ، والجريد ، والنعال ، ولم يقدر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على إمساكهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، فلمّا نزلت قرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاصطلحوا ، وكفَّ بعضهم عن بعض ، وأقبل بشير بن النعمان الأنصاري مشتملاً على سيفه ، فوجدهم قد اصطلحوا ، فقال عبدالله بن أُبي : أعليَّ تشتمل بالسيف يا بشير ؟ قال : نعم ، والّذي أحلف به لو جئت قبل أن تصطلحوا لضربتك حتّى أقتلك ، فأنشأ عبدالله بن أُبي يقول :
متى ما يكن مولاك خصمك جاهداً
تظلم ويصرعك الذين تصارع
قال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار ، كانت بينهما مذاراة في حقّ بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقّي منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما ، حتّى تدافعوا ، وقد تناول بعضهم بعضاً بالأيدي ، والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف . وروى محمّد بن الفضيل ، عن الكلبي أنّها نزلت في حرب
(9/78)

" صفحة رقم 79 "
سمير وحاطب ، وكان سمير قتل حاطباً ، فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وأمر نبيّه ، والمؤمنين أن يصلحوا بينهم .
وروى سفيان عن السدّي ، قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أُمّ زيد تحت رجل ، وكان بينها ، وبين زوجها شيء ، فرمى بها إلى عُلية ، وحبسها فيها ، فبلغ ذلك قومها فجاءوا ، وجاء قومه ، فاقتتلوا بالأيدي ، والنعال ، فأنزل الله سبحانه تعالى : ) وإنّ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ( الآية .
) فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ( بالدعاء إلى حكم كتاب الله سبحانه ، والرضا بما فيه لهما ، وعليهما . ) فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ ( ترجع ) إِلَى أَمْرِ اللهِ ( وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى له ، وعليه في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه . ) فَإِنْ فَاءَتْ ( رجعت إلى الحقّ ) فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ( بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله ، وهو العدل ، ) وَأَقْسِطُوا ( واعدلوا . ) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
الحجرات : ( 10 ) إنما المؤمنون إخوة . . . . .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( في الدين ، والولاية ) فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( إذا اختلفا ، واقتتلا ، وقرأ ابن سيرين ، ويعقوب . بين ( اخوتكم ) ( بالتاء ) على الجمع ، وقرأ الحسن ( إخوانكم ) ( بالألف ) و ( النون ) . ) وَاتَّقُوا اللهَ ( فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره ) لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( .
قال أبو عثمان البصري : أخوة الدّين أثبت من أخوّة النسب ، فإنّ اخوّة النسب تنقطع لمخالفة الدين ، وأُخوّة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب . وسُئل الجنيد عن الأخ ، فقال : هو أنت في الحقيقة إلاّ إنّه غيرك في الشخص . أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا عمر بن الخطّاب . قال : حدّثنا محمّد بن إسحاق المسوحي . قال : حدّثنا عمرو بن علي ، قال : حدّثنا أبو عاصم . قال : حدّثنا إسماعيل بن رافع ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يعيبه ، ولا يخذله ، ولا يتطاول عليه في البنيان ، فيستر عليه الريح إلاّ بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره إلاّ أن يعرف له ، ولا يشتري لبنيه الفاكهة ، فيخرجون بها إلى صبيان جاره ، ولا يطعمونهم منها ) .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( احفظوا ، ولا يحفظه منكم إلاّ قليل ) .
وفي هاتين الآيتين دليل على انّ البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأنّ الله سبحانه وتعالى سمّاهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين ، عاصين . يدلّ عليه ما روى الأعور أنّ علي بن أبي طالب ح سُئل وهو القدوة في قتال أهل البغي ، عن أهل الجمل ، وصفّين ، أمشركون هم ؟
فقال : لا ، من الشرك فرّوا . فقيل : أهم منافقون ؟ فقال : إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلاّ قليلاً . قيل : فما حالهم ؟ قال : إخواننا بغوا علينا
(9/79)

" صفحة رقم 80 "
وقد أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن شنبه ، قال : حدّثنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي قال : حدّثنا أبو نصر التمّار ، قال : حدّثنا كوثر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يا عبد الله هل تدري كيف حكم الله سبحانه فيمن بغى من هذه الأُمّة ؟ ) .
قال : الله ورسوله أعلم . قال : ( لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسم فيئها ) . وسُئل محمّد بن كعب القرظي عن هاتين الآيتين ، فقال : جعل النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أجر المصلح بين الناس ، كأجر المجاهد عند الناس ، وقال بكر بن عبدالله : امش ميلاً ، وعد مريضاً ، امش ميلين ، وأصلح بين اثنين ، امش ثلاثة أميال ، وزر أخاك في الله .
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاَْلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاِْيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ( 2
الحجرات : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْم ( الآية ، قال ابن عبّاس : نزلت في ثابت بن قيس ، وذلك أنّه كان في إذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد سبقوه بالمجلس ، أوسعوا له حتّى يجلس إلى جنبه ، فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم ، وقد فاته من صلاة الفجر ركعة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا انصرف النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم ( منه ، فربض ) كلّ رجل بمجلسه ، فلا يكاد يوسع أحد لأحد ، فكان الرجل إذا جاء ، فلم يجد مجلساً ، قام قائماً ، كما هو ، فلمّا فرغ ثابت من الصلاة ، وقام منها ، أقبل نحو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل يتخطّى رقاب الناس ، ويقول : تفسحوا تفسحوا ، فجعلوا يتفسحون له حتّى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبينه وبينه رجل .
فقال له : تفسح . فقال له الرجل : قد أصبت مجلساً ، فاجلس ، فجلس ثابت من خلفه مغضباً ، فلمّا ابينت الظلمة ، غمز ثابت الرجل ، وقال : مَنْ هذا ؟ قال : أنا فلان . فقال له ثابت : ابن فلانة . ذكر أُمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية . فنكس الرجل رأسه واستحيى ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
وقال الضحّاك : نزلت في وفد تميم الذين ذكرناهم في صدر السورة ، استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل عمّار ، وخباب ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم مولى أبي حذيفة ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله سبحانه في الذين آمنوا منهم ) يا أيُّها الذين آمنوا لا
(9/80)

" صفحة رقم 81 "
يسخر قومٌ من قوم ( أي رجالٌ من رجال ، والقوم اسم يجمع الرجال والنساء ، وقد يختص بجمع الرجال ، كقول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
) عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاء عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ( نزلت في امرأتين من أزواج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) سخرتا من أُمّ سلمة ، وذلك أنّها ربطت خصريها بسبيبة وهي ثوب أبيض ومثلها السب وسدلت طرفيها خلفها . فكانت تجرها .
فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب . فهذا كان سخريتهما .
وقال أنس : نزلت في نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عيّرن أُمّ سلمة بالقِصَر . ويقال : نزلت في عائشة ، أشارت بيدها في أُمّ سلمة أنّها قصيرة ، وروى عكرمة ، عن ابن عبّاس أنّ صفية بنت حي بن أخطب أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إنّ النساء يعيّرني فيقلن : يا يهودية بنت يهوديين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هلاّ قلت : إنّ أبي هارون ، وابن عمّي موسى ، وإنّ زوجي محمّد ) ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
) وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ( أي لا يعيب بعضكم بعضاً ، ولا يطعن بعضكم على بعض . وقيل : اللمز العيب في المشهد ، والهمز في المغيب ، وقال محمّد بن يزيد : اللمز باللسان ، والعين ، والإشارة ، والهمز لا يكون إلاّ باللسان ، قال الشاعر :
إذا لقيتك عن شخط تكاشرني
وإن تغيبتُ كنت الهامز اللمزه
) وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْلْقَابِ ( قال أبو جبير بن الضحّاك : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة ، قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، وما منّا رجل إلاّ له اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا الرجل الرجل باسم ، قلنا : يا رسول الله ، إنّه يغضب من هذا . فأنزل الله عزّ وجلّ : ) ولا تنابزوا بالألقاب ( .
قال قتادة ، وعكرمة : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق ، يا كافر ، وقال الحسن : كان اليهودي ، والنصراني يُسلم ، فيقال له بعد إسلامه : يا يهودي ، يا نصراني ، فنُهوا عن ذلك ، وقال ابن عبّاس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيّئات ، ثمّ تاب منها ، وراجع الحقّ ، فنهى الله أن يعيّر بما سلف من عمله
(9/81)

" صفحة رقم 82 "
) بِئْسَ الإِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( يقول : من فعل ما نهيت عنه من السخرية ، واللمز والنبز ، فهو فاسق ، و ) بئس الإسم الفُسُوقُ بعد الإيمان ( فلا تفعلوا ذلك ، فتستحقّوا ( اسم الفسوق ) وقيل : معناه بئس الاسم الذي تسميه ، بقولك فاسق ، بعد أن علمت أنّه آمنَ .
) وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ }
الحجرات : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ ( . . . الآية نزلت في رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اغتابا رفيقيهما ، وذلك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا غزا أو سافر ، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسورين يخدمهما ، ويحقب حوائجهما ، ويتقدّم لهما إلى المنزل ، فيهيّئ لهما ما يصلحهما من الطعام ، والشراب ، فضم سلمان الفارسي ح إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدّم سلمان ، فغلبته عيناه ، فلم يهيّئ لهما شيئاً ، فلمّا قدما ، قالا له : ما صنعت شيئاً ؟ قال : لا . قالا : ولِمَ ؟ قال : غلبتني عيناي ، فقالا له : انطلق إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واطلب لنا منه طعاماً وإداماً ، فجاء سلمان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسأله طعاماً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( انطلق إلى أُسامة بن زيد وقل له : إن كان عنده فضل من طعام ، وإدام ، فليعطك ) .
وكان أُسامة خازن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى رحله ، فأتاه ، فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما ، وأخبرهما بذلك ، فقالا : كان عند أُسامة ، ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئاً ، فلمّا رجع سلمان ، قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثمّ انطلقا يتجسّسان هل عند أُسامة ما أمر لهما به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فلمّا جاءا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهما : ( ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ) قالا : يا رسول الله ، والله ما تناولنا يومنا هذا لحماً ، فقال : ( ظللتم تأكلون لحم سلمان ، وأسامة ) .
فأنزل الله سبحانه : ) يا أيُّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ ( . ) إنَّ بعضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا ( قرأه العامّة ( بالجيم ) وقرأ ابن عبّاس ، وأبو رجاء العطاردي ( ولا تحسّسوا ) ( بالحاء ) ، قال الأخفش : ليس يبعد أحدهما عن الآخر . إلاّ أنّ التجسّس لما يُكتم ، ويُوارى ، ومنه الجاسوس ، والتحسس ( بالحاء ) تحبر الأخبار ، والبحث عنها ، ومعنى الآية خذوا ما ظهر ، ودعوا ما ستر الله ، ولا تتّبعوا عورات المسلمين .
أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن شنبه ، قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا قتيبة بن سعد ، عن مالك ، عن أبي الزياد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إيّاكم
(9/82)

" صفحة رقم 83 "
والظنّ ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، ولا تجسّسوا ، ولا تحسّسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً ) .
وأخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن حبش ، قال : أخبرنا علي بن زنجويه . قال : حدّثنا سلمة ، قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن زرارة بن مصعب بن عبد الرّحمن بن عوف ، عن المسوّر بن مخرمة ، عن عبد الرّحمن بن عوف ، أنّه حرس ليلة عمر بن الخطّاب بالمدينة ، فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت ، فانطلقوا يؤمّونه ، فلمّا دنوا منه ، إذا باب يجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ، ولغط ، فقال عمر ، وأخذ بيد عبد الرّحمن : أتدري بيت من هذا ؟ قال : قلت : لا .
قال : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن بيثرب ، فما ترى ؟ قال عبد الرّحمن : أرى أنّا قد أتينا ما قد نهى الله سبحانه ، فقال : ) ولا تجسسوا ( فقد تجسسنا ، فانصرف عمر عنهم ، وتركهم .
وبه عن معمر ، قال : أخبرني أيّوب ، عن أبي قلابة أنّ عمر بن الخطّاب ، حُدِّث أنّ أبا محجن الثقفي شرب الخمر في بيته هو وأصحابه ، فانطلق عمر حتّى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلاّ رجل ، فقال أبو محجن : يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك ، فقد نهاك الله عزّ وجلّ عن التجسّس ، فقال عمر : ما يقول هذا ؟ فقال زيد بن ثابت ، وعبدالله بن الأرقم : صدق يا أمير المؤمنين ، هذا التجسّس ، قال : فخرج عمر ح ، وتركه . وروى زيد بن أسلم أنّ عمر بن الخطّاب خرج ذات ليلة ، ومعه عبد الرّحمن بن عوف ذ يعسّان إذ شبَّ لهما نار ، فأتيا الباب ، فاستأذنا ، ففتح الباب ، فدخلا ، فإذا رجل ، وامرأة تغنّي ، وعلى يد الرجل قدح ، وقال عمر للرجل : وأنت بهذا يا فلان ؟ فقال : وأنت بهذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر : فمن هذه منك ؟ قال : امرأتي . قال : وما في القدح ؟ قال : ماء زلال . فقال للمرأة : وما الّذي تغنّين ؟ فقالت : أقول :
تطاول هذا الليل واسودَّ جانبه
وأرّقني ألاّ حبيب ألاعبه
فوالله لولا خشية الله والتقى
لزُعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني
وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثمّ قال الرجل : ما بهذا أُمرنا يا أمير المؤمنين ، قال الله : ) وَلاَ تَجَسَّسُوا ( فقال عمر : صدقت ، وانصرف . وأخبرنا الحسين ، قال : حدّثنا موسى بن محمّد بن علي . قال : حدّثنا
(9/83)

" صفحة رقم 84 "
الحسين بن علوية . قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدّثنا المسيب ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، قال : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنّا قد نهينا عن التجسّس ، فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به .
) وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( أخبرنا الحسين ، قال : حدّثنا عبيدالله بن أحمد بن يعقوب المقري . قال : حدّثنا أحمد بن محمّد بن زيد أبو بكر السطوي ، قال : حدّثنا علي بن اشكاب ، قال : حدّثنا عمر بن يونس اليمامي ، قال : حدّثنا جهضم بن عبدالله ، عن العلاء بن عبد الرّحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : سُئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الغيبة فقال : ( أن يُذكر أخاك بما يكره ، فإمّا إن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه ) .
وقال معاذ بن جبل : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر القوم رجلاً ، فقالوا : ما يأكل إلاّ ما أطعم ، ولا يرحل إلاّ ما رحّل ، فما أضعفه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( اغتبتم أخاكم ) .
قالوا : يا رسول الله وغيبة أن نحدّث بما فيه ؟ فقال : ( بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه ) .
وروى موسى بن وردان عن أبي هريرة أنّ رجلاً قام من عند رسول الله ، فرأوا في قيامه عجزاً ، فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلاناً . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكلتم أخاكم واغتبتموه ) .
) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ( ، قال قتادة : يقول : كما أنت كاره أن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها ، فكذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ ، ) فَكَرِهْتُمُوهُ ( قال الكسائي ، والفراء : معناه ، فقد كرهتموه . وقرأ أبو سعيد الخدري ( فكرهتموه ) بالتشديد على غير تسمية الفاعل .
أخبرني الحسن ، قال : حدّثنا عمر بن نوح البجلي ، قال : حدّثنا أبو صالح عبد الوهاب بن أبي عصمة . قال : حدّثنا إسماعيل بن يزيد الأصفهاني . قال : حدّثنا يحيى بن سليم ، عن كهمس ، عن ميمون بن سباه ، وكان يفضل على الحسن ، ويقال : قد لقي من لم يلق ، قال : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي : كُلْ ، قلت : يا عبدالله ، ولِمَ آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، قلت : والله ما ذكرت منه خيراً ، ولا شرّاً ، قال : لكنّك استمعت ، ورضيت ، فكان
(9/84)

" صفحة رقم 85 "
ميمون بعد ذلك لا يغتاب أحداً ، ولا يدع أن يغتاب عنده أحد ، وحُكي عن بعض الصالحين أنّه قال : كنت قاعداً في المقبرة الفلانية ، فاجتازني شاب جلد ، فقلت : هذا ، وأمثاله ، وبالٌ على الناس ، فلمّا كانت تلك الليلة رأيت في المنام أنّه قُدِّم إليَّ جنازة عليها ميّت ، وقيل ليّ كُلْ من لحم هذا ، وكشف عن وجهه ، فإذا ذلك الشاب ، فقلت : أنا لم آكل من لحم الحيوان الحلال منذ سنين ، فكيف آكل هذا ؟ فقيل : فلِمَ اغتبته إذاً ؟ فانتبهت حزيناً ، فكنت آوي إلى تلك المقبرة سنة واحدة ، فرأيت الرجل ، فقمت إليه لأستحلّ منه ، فنظر إليَّ من بعيد ، فقال : تبت . قلت : نعم ، قال : ارجع إلى مكانك .
وقد أخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عمر بن الخطّاب . قال : حدّثنا عبدالله بن الفضل . قال : أخبرنا علي بن محمّد . قال : حدّثنا يحيى بن آدم . قال : حدّثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن ابن عمر ، لأبي هريرة ، قال : جاء ماعر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنّه زنى ، فأعرض عنه ، حتّى أقرّ أربع مرّات ، فأمر برجمه ، فمرّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) على رجلين يذكران ماعراً ، فقال أحدهما : هذا الذي ستر عليه ، فلم تدعه نفسه حتّى رُجم برجم الكلب .
قال : فسكت عنهما حتّى مرّا معه على جيفة حمار شائل رجله ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لهما : ( انزلا فأصيبا منه ) . فقالا : يا رسول الله غفر الله لك ، وتؤكل هذه الجيفة ؟
قال : ( ما أصبتما من لحم أخيكما آنفاً أعظم عليكما ، أما إنّه الآن في أنهار الجنّة منغمس فيها ) .
وأخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن شيبة قال : حدّثنا الفريابي ، قال : حدّثنا محمّد بن المصفى ، قال : حدّثنا أبو المغيرة ، حدّثنا عبد القدوس بن الحجّاج ، قال : حدّثني صفوان بن عمرو ، قال : حدّثنا راشد بن سعد ، وعبد الرّحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لمّا عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ، وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس ، ويقعون في أعراضهم ) .
) وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( أخبرني الحسين ، قال : حدّثنا موسى بن محمّد بن علي ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني ، قال : حدّثنا يحيى بن أيّوب ، قال : حدّثنا أسباط ، عن أبي رجاء الخراساني ، عن عبّاد بن كثير ، عن الحريري ، عن أبي نصرة ، عن جابر بن عبدالله ، وأبي سعيد الخُدري ، قالا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الغيبة أشدّ من الزنا ) . قيل : وكيف ؟ قال : ( إنّ الرجل يزني ، ثمّ يتوب ، فيتوب الله عليه ، وإنّ صاحب الغيبة لا يُغفر له حتّى يغفر له صاحبه )
(9/85)

" صفحة رقم 86 "
وأخبرني الحسين ، قال : حدّثنا الفضل . قال : حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر البزاز البغدادي ، قال : حدّثنا محمّد بن علي الورّاق . قال : حدّثنا هارون بن معروق ، قال : حدّثنا ضمرة ، عن ابن شوذي ، قال : قال رجل لابن سيرين : إنّي قد اغتبتك ، فاجعلني في حلّ ، قال : إنّي أكره أن أحلّ ما حرّم الله .
وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه ، قال : حدّثنا عبدالله بن جامع . قال : قرأت على أحمد بن سعيد ، حدّثنا سعيد ، قال : حدّثنا يزيد بن هارون ، عن هشام بن حسّان عن خالد الربعي ، قال : قال عيسى ابن مريم لأصحابه : أرأيتم لو أنّ أحدكم رأى أخاه المسلم قد كشف الريح عن ثيابه ؟ قالوا : سبحان الله إذاً كنّا نردّه . قال : لا ، بل كنتم تكشفون ما بقي ، مثلاً ضربه لهم يسمعون للرجل سيئة أو حسنة ، فيذكرون أكثر من ذلك .
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ قَالَتِ الاَْعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاِْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاِْيمَانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 2
الحجرات : ( 13 ) يا أيها الناس . . . . .
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ( الآية . قال ابن عبّاس : نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يفسح له : ابن فلانة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من الذاكر فلانة ؟ ) . فقام ثابت ، فقال : أنا يا رسول الله . فقال : ( انظر في وجوه القوم ) . فنظر إليهم ، فقال : ( ما رأيت يا ثابت ؟ ) .
قال : رأيت أبيض وأسود وأحمر . قال : ( فإنّك لا تفضلهم إلاّ في الدّين والتقوى ) ( 79 ) ، فأنزل الله سبحانه في ثابت هذه الآية وبالّذي لم يفسح له : ) يا أيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ، فافسحوا . . . ( الآية .
وقال مقاتل : لمّا كان يوم فتح مكّة ، أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بلالاً حتّى علا على ظهر الكعبة وأذّن ، فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم ، وقال الحرث بن هاشم : أما وجد محمّدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذِّناً ؟ وقال سهيل بن عمرو :
(9/86)

" صفحة رقم 87 "
إن يرد الله شيئاً يغيره ، وقال أبو سفيان بن حرب : إنّي لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربّ السماء .
فأتى جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بما قالوا ، فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسألهم عمّا قالوا ، فأقرّوا ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وزجرهم ، عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء للفقراء ، وقال يزيد بن سخرة : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم يمرّ ببعض أسواق المدينة ، فإذا غلام أسود قائم ، ينادى عليه ليباع ، فمن يريد .
وكان الغلام قال : من اشتراني فعلي شرط ، قيل : ما هو ، قال : ألا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاشتراه رجل على هذا الشرط ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يراه عند كلّ صلاة مكتوبة ، ففقده ذات يوم ، فقال لصاحبه : ( أين الغلام ؟ ) . فقال : محموم يا رسول الله ، فقال لأصحابه : ( قوموا بنا نعوده ) . فقاموا معه فعادوه ، فلما كان بعد أيّام قال لصاحبه : ( ما حال الغلام ؟ ) .
قال : يا رسول الله ، إنّ الغلام لما به ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدخل عليه وهو في ذهابه ، فقبض على تلك الحال ، فتولّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غسله ، وتكفينه ، ودفنه ، فدخل على المهاجرين ، والأنصار من ذلك أمر عظيم ، فقال المهاجرون : هاجرنا ديارنا ، وأموالنا ، وأهالينا ، فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي منه هذا الغلام ، وقال الأنصار : آويناه ، ونصرناه ، وواسيناه فآثر علينا عبداً حبشيّاً ، فعذر الله سبحانه رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما تعاطاه من أمر الغلام ، وأراهم فضل التقوى ، فأنزل الله سبحانه : ) يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم مِنْ ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً ( وهي رؤوس القبائل وجمهورها مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج . واحدها شَعب بفتح الشين ، سُمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم ، كتشعّب أغصان الشجر ، والشعب من الأضداد يقال : شعبته إذا جمعته ، وشعبته إذا فرّقته ، ومنه قيل للموت : شعوب .
) وَقَبَائِلَ ( وهي دون الشعوب ، واحدها قبيلة ، وهم كندة من ربيعة ، وتميم من مضر ، ودون القبائل العمائر ، واحدها عمارة بفتح العين كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ، ودون العمائر البطون ، واحدها بطن ، وهم كبني غالب ولؤي من قريش ، ودون البطون الأفخاذ ، واحدها فخذ ، وهم كبني هاشم ، وأمية من بني لؤي ، ثمّ الفصائل ، والعشائر ، واحدتها فصيلة ، وعشيرة ، وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل من العرب ، والأسباط من بني إسرائيل ، وقال أبو رزين وأبو روق : الشعوب الذين لا يصيرون إلى أحد ، بل ينسبون إلى المدائن ، والقرى ، والأرضين ، والقبائل العرب الذين ينسبون إلى آبائهم .
(9/87)

" صفحة رقم 88 "
) لِتَعَارَفُوا ( يعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب ، وبعده لا لتفاخروا . وقرأ الأعمش ( ليتعارفوا ) ، وقرأ ابن عبّاس ( ليعرفوا ) بغير ( ألف ) .
) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ ( بفتح ( الألف ) ، وقرأه العامة ( إنّ ) بكسر ( الألف ) على الاستئناف ، والوقوف على قوله لتعارفوا إنّ أكرمكم ) عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ( قال قتادة : في هذه الآية أكرم الكرم التقوى . وألأم اللوم الفجور ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سرّه أن يكون أكرم الناس ، فليتّق الله ) .
وقال : ( كرم الرجل دينه ، وتقواه ، وأصله عقله ، وحسبه خلقه ) ، وقال ابن عبّاس : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقوى : ) إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( .
أخبرنا الحسن ، قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي ، قال : حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي ، قال : حدّثنا محمّد بن عبدالله المقري ، قال : حدّثنا ابن رجاء ، عن موسى بن عقبة ، عن عبدالله بن دينار ، عن ابن عمر قال : طاف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ، فما وجد لها مناخ في المسجد ، حتّى أخرجنا إلى بطن الوادي ، فأناخت فيه ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : ( أمّا بعد أيّها الناس ، قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية ، وفخرها بالآباء وفي بعض الألفاظ : وتعظمها بآبائها إنّما الناس رجلان ، برّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقيّ هيّن على الله ) . ثمّ تلا هذه الآية : ) يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل ( . . . الآية ، وقال : ( أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) .
وأخبرني الحسين ، قال : حدّثنا محمّد بن علي بن الحسين الصوفي . قال : حدّثنا أبو شعيب الحراني . قال : حدّثنا يحيى بن عبدالله الكابلي . قال : حدّثنا الأوزاعي ، قال : حدّثني يحيى بن أبي كثير ، إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم ، وإنّما أنتم بنو آدم ) أكرمكم عند الله أتقاكم ( ) .
وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن حفصويه ، قال : حدّثنا عبدالله بن جامع المقري ، قال : حدّثنا أحمد بن خادم . قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا طلحة ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : الله سبحانه يقول يوم القيامة : إنّي جعلت نسباً ، وجعلتم نسباً ، فجعلت ) أكرمكم عند الله أتقاكم ( فأنتم تقولون : فلان بن فلان ، وأنا اليوم أرفع نسبي ، وأضع أنسابكم ، أين المتّقون ؟ أين المتّقون ؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم
(9/88)

" صفحة رقم 89 "
وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عبدالله بن إبراهيم بن أيّوب . قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب . قال : حدّثنا محمّد بن أبي بكر . قال : حدّثني يحيى بن سعيد ، عن عبدالله بن عمر ، قال : حدّثني سعيد بن أبي سعيد المقري ، عن أبي هريرة ، قال : قيل : يا رسول الله من أكرم الناس ؟ قال : ( أتقاهم ) .
وأنشدني ابن حبيب ، قال : أنشدنا ابن رميح ، قال : أنشدنا عمر بن الفرحان :
ما يصنع العبد بعزّ الغنى
والعزّ كُلّ العزّ للمتّقي
من عرف الله فلم تغنه
معرفة الله فذاك الشقي
الحجرات : ( 14 ) قالت الأعراب آمنا . . . . .
) قَالَتْ الاْعْرَابُ آمَنَّا ( الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة ، ثمّ من بني الحلاف بن الحارث بن سعيد ، قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة في سنة جدبة ، وأظهروا شهادة أن لا إله إلاّ الله ، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ ، وأفسدوا طرق المدينة بالعدوان ، وأغلوا أسعارها ، وكانوا يغدون ، ويروحون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأفعال ، والعيال والذراري ، يمنون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، وبنو فلان ، ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية .
وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح ، وهم أعراب مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، كانوا يقولون : آمنّا بالله ، ليأمنوا على أنفسهم ، وأموالهم ، فلمّا استُنفروا إلى الحديبية تخلّفوا ، فأنزل الله سبحانه : ) قالت الأعراب آمنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ( أي انقَدنَا واستسلمنا مخافة القتل والسبي . ) وَلَمَّا يَدْخُلْ الاْيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ( فأخبر أنّ حقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأنّ الإقرار به باللسان ، وإظهار شرائعه بالأبدان ، لا يكون إيماناً دون الإخلاص الذي محلّه القلب ، وأنّ الإسلام غير الإيمان .
يدلّ عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي ، قرأه عليه محمّد بن زكريا في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو العبّاس محمد بن الدغولي ، قال : حدّثنا محمّد بن الليث المروزي ، قال : حدّثنا عبدالله بن عثمان بن عبدان ، قال : حدّثنا عبدالله ابن المبارك ، قال : أخبرنا يونس ، عن الزهري . قال : أخبرني عامر ، عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أُعطي رهطاً ، وسعد جالس فيهم ، فقال سعد : فترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً منهم ، فلم يعطه ، وهو أعجبهم إليّ . فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ؟ فوالله إنّي لأراه مؤمناً ، فقال رسول الله : ( أو مُسلماً )
(9/89)

" صفحة رقم 90 "
فسكت قليلاً ، ثمّ غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ، فوالله إنّي لأراه مؤمناً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أو مُسلماً ) .
فسكتُ قليلاً ، ثمّ غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ، فوالله إنّي لأراه مؤمناً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أو مسلماً ، فإنّي لأعطي الرجل ، وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النار على وجهه ) .
فاعلم أنّ الإسلام الدخول في السلم ، وهو الطاعة والانقياد ، والمتابعة ، يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم وهو الطاعة والانقياد والمتابعة .
يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم ، كما يقال : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأصاف إذا دخل في الصيف ، وأربع إذا دخل في الربيع ، وأقحط إذا دخل في القحط ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان فالجنان ، كقوله عزّ وجلّ لإبراهيم : ) أسلم قال أسلمت ( ، وقوله : ) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ( .
ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله : ) ولكن قولوا أسلمنا ( بيانه قوله سبحانه : ) ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ( .
) وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ( ظاهراً وباطناً ، سرّاً وعلانيّةً ) لاَ يَلِتْكُمْ ( ( بالألف ) أبو عمر ، ويعقوب ، واختاره أبو حاتم اعتباراً بقوله : ) وما ألتناهم ( يقال ألت يألت ألتاً ، قال الشاعر :
أبلغ بني ثعل عني مغلغلة
جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذبا
وقرأ الآخرون ( يلتكم ) من لات يليت ليتاً ، كقول رؤبة :
وليلة ذات ندىً سريتُ
ولم يلتني عن سراها ليتُ
ومعناهما جميعاً لا ينقصكم ، ولا يظلمكم . ) مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ثمّ بيّن حقيقة الإيمان ، فقال :
الحجرات : ( 15 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ( لم يشكّوا في وحدانية الله ، ولا بنبوّة أنبيائه ولا فيما آمنوا به ، بل أيقنوا وأخلصوا .
) وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ ( في إيمانهم ، لا من أسلم خوف السيف ورجاء الكسب ، فلمّا نزلت هاتان الآيتان ، أتت الأعراب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
(9/90)

" صفحة رقم 91 "
فحلفوا بالله إنّهم مؤمنون في السرّ ، والعلانية ، وعرف الله غير ذلك منهم ، فأنزل الله سبحانه
الحجرات : ( 16 ) قل أتعلمون الله . . . . .
) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ ( الذي أنتم عليه . ) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ }
الحجرات : ( 17 ) يمنون عليك أن . . . . .
) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ( أي بإسلامكم . ) بَلْ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ ( وفي مصحف عبدالله ( إذ هداكم للإيمان ) ) إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ( أنّكم مؤمنون .
الحجرات : ( 18 ) إن الله يعلم . . . . .
) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( قرأ ابن كثير ، والأعمش ، وطلحة ، وعيسى ( بالياء ) ، غيرهم ( بالتاء ) .
(9/91)

" صفحة رقم 92 "
( سُورة ق )
مكّية ، وهي ألف وأربعمائة وأربع وتسعون حرفاً ، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة ، وخمسة وأربعون آية
أخبرنا أبو الحسين محمد بن القاسم بن أحمد الماوردي ، قال : أخبرنا أبو الحسين محمد ابن محمد بن سادة الكرابيسي ، قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين ، قال : حدّثنا محمد بن يحيى ، قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة ، عن سعيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حش ، عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ق ، هوّن الله عليه تارات الموت ، وسكراته ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاَْرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِىأَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالاَْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاَْيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاَْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 2
ق : ( 1 ) ق والقرآن المجيد
) ق ( قال ابن عبّاس : هو اسم من أسماء الله سبحانه ، أقسم به . قتادة : اسم من أسماء القرآن ، القرظي : إفتتاح أسماء الله ، قدير ، وقادر ، وقاهر ، وقاضي ، وقابض . الشعبي : فاتحة السُّورة . بُريد ، وعكرمة ، والضحّاك : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ، خضرة السماء منه ، وعليه كتفا السماء ، وما أصاب الناس من زمرد ، فهو ما يسقط من الجبل ، وهي رواية أبي
(9/92)

" صفحة رقم 93 "
الحوراء ، عن ابن عبّاس . قال وهب بن منبه : إنّ ذا القرنين أتى على جبل قاف ، فرأى حوله جبالاً صغاراً ، فقال له : ما أنت ؟ قال : أنا قاف ، قال : وما هذه الجبال حولك ؟ قال : هي عروقي ، وليست مدينة من المدائن إلاّ وفيها عرق منها ، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض أمرني ، فحرّكت عرقي ذلك ، فتزلزلت تلك الأرض ، فقال له : يا قاف ، فأخبرني بشيء من عظمة الله ، قال : إنّ شأن ربّنا لعظيم ، تقصر عنه الصفات ، وتنقضي دونه الأوهام .
قال : فأخبرني بأدنى ما يوصف منها . قال : إنّ ورائي لأرضاً مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضه بعضاً ، لولا ذاك الثلج لاحترقت من حرّ جهنّم . قال : زدني ، قال : إنّ جبريل ج واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه ، يخلق الله من كلّ رعدة مائة ألف ملك ، وأُولئك الملائكة صفوف بين يدي الله سبحانه ، منكّسو رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام ، قالوا : لا إله إلاّ الله ، وهو قوله : ) يوم تقوم الرُّوح ، والملائكة صفّاً لا يتكلّمون إلاّ من أذن له الرّحمان وقالَ صواباً ( يعني لا إله إلاّ الله .
وقال الفرّاء : وسمعت من يقول : ( ق ) : قضي ما هو كائن ، وقال أبو بكر الورّاق : معناه قف عند أمرنا ، ونهينا ، ولا تعدهما . وقيل : معناه قل يا محمّد .
أحمد بن عاصم الأنطاكي ، هو قرب الله سبحانه من عباده ، بيانه ) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( وقال ابن عطاء : أقسم بقوّة قلب حبيبه محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث حمل الخطاب ، ولم يؤثر ذلك فيه لعلوّ حاله . ) وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( الشريف ، الكريم على الله الكبير ، الخبير .
واختلف العلماء في جواب هذا القسم ، فقال أهل الكوفة : ) بَلْ عَجِبُوا ( ، وقال الأخفش : جوابه محذوف مجازه ) ق والقرآن المجيد ( لتبعثن ، وقال ابن كيسان : جوابه قوله : ) ما يلفظ من قول ( الآية ، وقيل : قد علمنا ، وجوابات القسم سبعة : ) إِنَّ ( الشديدة ، كقوله : ) إنَّ ربّك لبالمرصاد ( و ( ما ) النفي كقوله : ) والضحى . . . ما ودّعك ( و ( اللام ) المفتوحة ، كقوله : ) فوربّك لنسألنهم أجمعين ( و ( إنْ ) الخفيفة كقوله سبحانه : ) تالله إنْ كنّا لفي ( ، و ( لا ) كقوله : ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( ، لا يبغث الله من يموت ، وقد
(9/93)

" صفحة رقم 94 "
كقوله : ) والشمس وضحاها . . قد أفلح من زكّاها ( وبل كقوله : ) ق والقرآن المجيد (
ق : ( 2 ) بل عجبوا أن . . . . .
) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ( يعرفون حسبه ، ونسبه ، وصدقه ، وأمانته . ) فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ ( غريب .
ق : ( 3 ) أئذا متنا وكنا . . . . .
) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ( نُبعث ، فترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه . ) ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ( يقال : رجعته رجعاً ، فرجع هو رجوعاً ، قال الله سبحانه : ) فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ( قال الله سبحانه :
ق : ( 4 ) قد علمنا ما . . . . .
) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الاْرْضُ مِنْهُمْ ( ما تأكله من عظامهم ، وأجسامهم ، وقيل : معناه قد علمنا ما يبلى منهم ، وما يبقى لأنّ العصعص لا تأكله الأرض كما جاء في الحديث : ( كلّ ابن آدم يبلى ، إلاّ عجب الذنب ، منه خلق ومنه يركب ) وأبدان الأنبياء والشهداء أيضاً لا تبلى .
وقال السدي : والموت يقول : قد علمنا من يموت منهم ، ومن يبقى . ) وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( محفوظ من الشياطين ، ومن أن يدرس ، ويبعثر ، وهو اللوح المحفوظ ، المكتوب فيه جميع الأشياء المقدّرة .
ق : ( 5 ) بل كذبوا بالحق . . . . .
) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ( بالقرآن . ) لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْر مَرِيج ( قال أبو حمزة : سُئل ابن عبّاس عن المريج ، فقال : هو الشيء المكر ، أما سمعت قول الشاعر :
فجالت فالتمست به حشاها
فخر كأنه خوط مريج
الوالبي عنه : أمر مختلف . العوفي عنه : أمر ضلالة . سعيد بن جبير ، ومجاهد : ملتبس ، قال قتادة : في هذه الآية من نزل الحقّ مرج أمره عليه ، والتبس دينه عليه . ابن زيد : مختلط ، وقيل : فاسد ، وقيل : متغير . وكلّ هذه الأقاويل متقاربة ، وأصل المرج الاضطراب ، والقلق ، يقال : مرج أمر الناس ، ومرج الدّين ، ومرج الخاتم في إصبعي وخرج إذا قلق من الهزال ، قال الشاعر :
مرج الدّين فأعددت له
مشرف الحارك محبوك الكتد
وفي الحديث : ( مرجت عهودهم ، وأمانيهم ) .
ق : ( 6 ) أفلم ينظروا إلى . . . . .
) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج ( أي شقوق ، وفتوق ، واحدها فرج ، وقال ابن زيد : الفروج الشيء المتفرّق المتبري بعضه من بعض ، وقال
(9/94)

" صفحة رقم 95 "
الكسائي : ليس فيها تفاوت ، ولا اختلاف
ق : ( 7 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . .
) وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا ( بسطناها على وجه الماء ) وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج ( لون ) بَهِيج ( حسن كريم يُبهج به أي يُسر .
ق : ( 8 ) تبصرة وذكرى لكل . . . . .
) تَبْصِرَةً ( أي جعلنا ذلك تبصرة ، وقال أبو حاتم : نُصبت على المصدر . ) وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْد مُنِيب ( يعني تبصر أو تذكّر إنابتها له ، لأنّ من قدر على خلق السماوات ، والأرض ، والنبات ، قدر على بعثهم ، ونظير التبصرة من المصادر التكملة ، والتفضلة ، ومن المضاعف النخلة ، والبعرة .
ق : ( 9 ) ونزلنا من السماء . . . . .
) وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّات وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( يعني البر ، والشعير ، وسائر الحبوب التي تحصد وتدّخر وتقتات ، وأضاف الحَبّ إلى الحصيد ، وهما واحد ، لاختلاف اللفظين ، كما يقال : مسجد الجامع ، وربيع الأوّل ، وحقّ اليقين ، وحبل الوريد ، ونحوها .
ق : ( 10 ) والنخل باسقات لها . . . . .
) وَالنَّخْلَ بَاسِقَات ( قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة : طوالاً ، وقال عبدالله بن شداد بن الهاد : سوقها لاستقامتها في الطول . سعيد بن جبير : مستويات . الحسن والفرّاء : مواقير حوامل ، يقال للشاة إذا ولدت : أبسقت ، ومحلّها نصب على الحال ، والقطع .
أخبرني الحسن ، قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، قال : حدّثنا عبيد بن محمد بن صبح الكناني . قال : حدّثنا هشام بن يونس النهشلي ، قال : حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن زياد بن علاقة ، عن قطبة بن مالك . قال : سمعت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ : ( والنّخل باصقات ) بالصاد .
) لَهَا طَلْعٌ ( تمر ، وحمل سمّي بذلك لأنّه يطلع . ) نَضِيدٌ ( متراكب متراكم ، قد نضد بعضه على بعض . قال بن الأجدع : نخل الجنّة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال ( القلال ) والدلاء ، وأنهارها تجري في ( عبر ) أخدود
ق : ( 11 ) رزقا للعباد وأحيينا . . . . .
) رِزْقاً ( أي جعلناه رزقاً ) لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ( .
أخبرني ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن صقلاب . قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب ، قال : حدّثني ابن أبي الجوادي ، قال : حدّثنا ( عتيق ) بن يعقوب ، عن إبراهيم بن قدامة ، عن أبي عبدالله الأغر ، عن أبي هريرة ، قال : كان النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذا جاءهم المطر ، فسالت الميازيب ، قال : ( لا محْل عليكم العام ) أي الجدب . ) كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ( من القبور .
ق : ( 12 - 14 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوط وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّع ( وهو ملك اليمن ، ويسمّى تبّعاً لكثرة أتباعه ، وكان يعبد النار فأسلم ، ودعا
(9/95)

" صفحة رقم 96 "
قومه إلى الإسلام ، وهم من حِمْيَر ، فكذّبوه ، وكان خبره وخبر قومه ما أخبرنا عبدالله بن حامد ، قال : أخبرني أبو علي إسماعيل بن سعدان ، قال : أخبرني علي بن أحمد ، قال : حدّثنا محمد ابن جرير ، وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير ، قال : حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا سلمة ، قال : حدّثنا محمد بن إسحاق ، قال : كان تبّع الآخر ، وهو أسعد أبو كرب بن ملكي كرب ، حين أقبل من المشرق ، جعل طريقه على المدينة ، وكان حين مر بها لم يهيج أهلها ، وخلّف بين أظهرهم ابناً له ، فقتل غيلة ، فقدمها ، وهو مجمع لإخراجها ، واستئصال أهلها ، وقطع نخيلها ، فجمع له هذا الحيّ من الأنصار ، حين سمعوا ذلك من أمره امتنعوا منه ، ورئيسهم يومئذ عمرو بن ظلم أخو بني النجار أحد بني عمرو ، فخرجوا لقتاله ، وكان تبّع نزل بهم قبل ذلك ، فقتل رجل منهم ، من بني عدي بن النجّار ، يقال له : أحمر ، رجلاً من صحابة تبّع ، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله .
وقال : إنّما التمرة لمن أبره ، ثمّ ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة ، يقال لها : ذات تومان ، فزاد ذلك تبعاً حنقاً عليهم ، فبينا تبّع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه ، قال : فيزعم الأنصار أنّهم كانوا يقاتلونه بالنهار ، ويقرونه بالليل ، فيعجبه ذلك ، ويقول : والله إنّ قومنا هؤلاء لكرام ، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة ، عالمان راسخان ، وكانا ابني عمرو ، وكانا أعلم أهل زمانهما ، فجاءا تبّعاً حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة ، وأهلها ، فقالا له : أيّها الملك لا تفعل ، فإنّك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة ، فقال لهما : ولِمَ ذاك ؟ قالا : هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان ، تكون داره وقراره ، فتناهى لقولهما عمّا كان يريد بالمدينة ، ورأى أنّ لهما علماً ، وأعجبه ما سمع منهما ، أنّهما دعواه إلى دينهما ، فليتبعهما على دينهما ، فقال تبع في ذلك :
ما بال نومك مثل نوم الأرمد
أرقا كأنك لا تزال تسهد
حنقاً على سبطين حلاّ يثرباً
أولى لهم بعقاب يوم مفسد
ولقد هبطنا يثرباً وصدورنا
تغلي بلابلها بقتل محصد
ولقد حلفت يمين صبر مؤلياً
قسماً لعمرك ليس بالتمردد
أن جئت يثرب لا أغادر وسطها
عذقاً ولا بسراً بيثرب يخلد
حتى أتاني من قريظة عالم
خبر لعمرك في اليهود مسود
قال ازدجر عن قرية محفوظة
لنبي مكّة من قريش مهتد
فعفوت عنهم عفو غير مثرب
وتركتهم لعقاب يوم سرمد
وتركتهم لله أرجو عفوه
يوم الحساب من الجحيم الموقد
ولقد تركت بها له من قومنا
نفراً أُولي حسب وبأس يحمد
(9/96)

" صفحة رقم 97 "
نفراً يكون النصر في أعقابهم
أرجو بذاك ثواب ربّ محمّد
فلمّا ( . . . . . . ) تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة ، وخرج بهما إلى اليمن ولمّا ( دنا من ) اليمن ليدخلها حالت حِمْير بينه وبين ذلك ، وقالوا : لا تدخلها علينا ، وقد فارقت ديننا ، فدعاهم إلى دينه ، وقال : إنه دين خير من دينكم .
قالوا : فحاكمنا إلى النار . وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له : ندا ، يتحاكمون إليها ، فيما يختلفون فيه ، فتحكم بينهم ، تأكل الظالم ، ولا تضرّ المظلوم ، فلمّا قالوا ذلك لتبّع ، قال : أنصفتم ، فخرج قومه بأوثانهم ، وما يتقرّبون به في دينهم ، وخرج الحبران ، مصاحفهما في أعناقهما متقلّداهما ، حتّى قعدوا للنّار عند مخرجها التي تخرج منه ، فخرجت النار إليهم ، ولمّا أقبلت نحو حِمْير ، حادوا عنها ، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس ، وأمروهم بالصبر لها ؛ فصبروا حتّى غشيتهم ، فأكلت الأوثان ، وما قربوا معها ، ومن حَمَلَ ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما ، يتلون التوراة ، تعرق جباههما ، لم تضرّهما ، ونكصت النار حتّى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه ، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما .
فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن .
وكان لهم بيت يعظمونه ، وينحرون عنده ، ويكلّمون منه ، إذا كانوا على شركهم ، فقال الحبران القرظيان ، واسماهما كعب وأسد لتبّع : إنّما هو شيطان ( يفنيهم ويلغيهم ) ، فخلّ بيننا وبينه . قال : فشأنكما به . فاستخرجا منه كلباً أسود ، فذبحاه ، ثمّ هدما ذلك البيت ، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي .
وروى أبي دريد ، عن أبي حاتم ، عن الرياشي ، قال : كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ، آمن بالنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث بسبعمائة سنة ، وقال في ذلك شعراً :
شهدت على أحمد أنّه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت صهراً له وابن عمّ
) كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ ( وجب ) وَعِيدِ ( لهم بالعذاب يخوف كفّار مكّة ، قال قتادة : دمر الله سبحانه وتعالى قوم تبّع ، ولم يدمّره ، وكان من ملوك اليمن ، فسار بالجيوش ، وافتتح البلاد ،
(9/97)

" صفحة رقم 98 "
وقصد مكّة ليهدم البيت ، فقيل له : إنّ لهذا البيت ربّاً يحميه ، فندم وأحرم ، ودخل مكّة ، وطاف بالبيت ، وكساه ، فهو أوّل من كسا البيت
ق : ( 15 ) أفعيينا بالخلق الأول . . . . .
) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( أي عجزنا عنه ، وتعذر علينا ( الأول فهم في شك الإعادة للخلق ) الثاني . ) بَلْ هُمْ فِي لَبْس مِنْ خَلْق جَدِيد ( وهو البعث .
2 ( ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( 2
ق : ( 16 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ( يحدّثه قلبه ، فلا يخفى علينا أسراره ، وضمائره ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ( أي أعلم به ، وأقدر عليه ) مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( لأنّ أبعاضه ، وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً ، ولا يحجب علم الله سبحانه عن جميع ذلك شيء ، وحبل الوريد : عرق العنق ، وهو عرق بين الحلقوم ، والعلباوين ، وجمعه أوردة ، والحبل من الوريد وأُضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين ، قال الشاعر :
فقرت للفجار فجاء سعياً
إذا ما جاش وانتفخ الوريد
ق : ( 17 ) إذ يتلقى المتلقيان . . . . .
) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ ( أي يتلقّى ، ويأخذ الملكان الموكلان عليك ، وكَّل الله سبحانه بالإنسان مع علمه بأحواله ، ملكين بالليل ، وملكين بالنهار يحفظان عمله ، ويكبتان أثره ، إلزاماً للحجّة ، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيّئات ، فذلك قوله سبحانه : ) عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( ولم يقل : قعيدان . قال أهل البصرة : لأنّه أراد عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، فاكتفى بأحدهما عن الآخر ، كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك
راض والرأي مختلف
وقول الفرزدق :
إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى
وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل : غدورين ، والقعيد ، والقاعد كالسميع ، والعليم ، والقدير ، فقال أهل الكوفة : أراد قعوداً رده إلى الجنس ، فوضع الواحد موضع الجمع ، كالرسول في الاثنين يجعل للاثنين ، والجمع ، قال الله سبحانه في الاثنين : ) إنّا رسول ربّ العالمين ( وقال الشاعر :
ألكني إليها وخير الرسول
أعلمهم بنواحي الخبر
(9/98)

" صفحة رقم 99 "
أخبرنا الحسين ، قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن سالم الختلي . قال : حدّثنا أحمد بن أيّوب الرخاني . قال : حدّثنا جميل بن الحسن ، قال : حدّثنا أرطأة بن الأشعث العدوي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجري أظنّه قال : فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ، ولا منهما ) .
وأخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه الدينوري ، قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدّثنا الفضل بن العبّاس بن مهران . قال : حدّثنا طالوت . قال : حدّثنا حمّاد بن سلمة . قال : أخبرنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيّئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة ، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعلّه يسبِّح أو يستغفر ) .
قال الحسن : إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين : عند غائطه ، وعند جماعه ، وقال أبو الجوزاء ، ومجاهد : يكتبان عليه كلّ شيء حتّى أنينه في مرضه ، وقال عكرمة : لا يكتبان عليه إلاّ ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه ، وقال الضحّاك : مجلسهما تحت الشعر على الحنك . ومثله روى عوف عن الحسن ، قال : وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته .
وقال عطية ومجاهد : القعيد الرصيد .
أخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثمانين وثلاثمائة ، قال : حدّثنا أبو محمد البلاذري . قال : حدّثنا محمد بن أيّوب الرازي . قال : حدّثنا أبو التقى هشام بن عبد الملك . قال : حدّثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي ، عن تمام بن نجيح ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، وأنس ، قالا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من حافظين يرفعان إلى الله سبحانه ما حفظا فيرى الله سبحانه في أوّل الصحيفة خيراً ، وفي آخرها خيراً ، إلاّ قال لملائكته : اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة ) .
وأخبرنا أبو سهل بن حبيب بقراءتي عليه ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى ، قال : حدّثنا زنجويه بن محمد . قال : حدّثنا إسماعيل بن قتيبة . قال : حدّثنا يحيى بن يحيى . قال : حدّثنا عثمان بن مطر الشيباني ، عن ثابت عن أنس . أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بأنّ الله سبحانه
(9/99)

" صفحة رقم 100 "
وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله ، فإذا مات ، قال الملكان اللّذان وكّلا به يكتبان عمله : قد مات فلان ، فيأذن لنا ، فنصعد إلى السماء ، فيقول الله سبحانه : سمائي مملوءة من ملائكتي يسبِّحون ، فيقولان : نقيم في الأرض . فيقول الله سبحانه : أرضي مملوءة من خلقي يسبِّحون . فيقولان : فأين ؟ فيقول : قوما على قبر عبدي . فكبّراني ، وهللاني ، واكتبا ذلك لعبدي ليوم القيامة ) .
ق : ( 18 ) ما يلفظ من . . . . .
) مَا يَلْفِظُ ( يتكلّم . ) مِنْ قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ ( عنده ) رَقِيبٌ ( حافظ ) عَتِيدٌ ( حاضر ، وهو بمعنى المعتد من قوله : ) اعتدنا ( والعرب تعاقب بين ( التاء ) و ( الذال ) لقرب مخرجهما ، فيقول : اعتددت ، وأعذدت ، وهرذ ، وهرت ، وكبذ ، وكبت ، ونحوهما ، قال الشاعر :
لئن كنت مني في العيان مغيباً
فذكرك عندي في الفؤاد عتيد
ق : ( 19 ) وجاءت سكرة الموت . . . . .
) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ( أي وجاءت سكرة الحقّ بالموت ؛ لأنّ السكرة هي الحقّ ، فأضيفت إلى نفسه لاختلاف الإسمين وقيل : الحقّ هو الله عزّ وجلّ ، مجازه وجاء سكرة أمر الله بالموت . أنبأني عقيل ، قال : أخبرنا المعافى ، قال : أخبرنا جوير . قال : حدّثنا ابن المثنى ، قال : حدّثنا محمد بن جعفر ، قال : حدّثنا شعبة ، عن واصل ، عن أبي وائل قال : لما كان أبو بكر يقضي ، قالت عائشة :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر : يا بنية لا هو لي ، ولكنّه كما قال الله سبحانه : ) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( أي تكره ، عن ابن عبّاس ، وقال الحسن : تهرب . الضحّاك : تروغ . عطاء الخراساني : تميل . مقاتل بن حيان : تنكص .
وأصل الحيد الميل ، يقال : حدت عن الشيء أحيد حيداً ، ومحيداً إذا ملت عنه . قال طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته
وحدت كما حاد البعير عن الدحض
ق : ( 20 ) ونفخ في الصور . . . . .
) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ( يعني نفخة البعث . ) ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( الذي وعده الله سبحانه للكفّار يلعنهم فيه .
ق : ( 21 ) وجاءت كل نفس . . . . .
) وَجَاءَتْ ( ذلك اليوم ) كُلُّ نَفْس مَعَهَا سَائِقٌ ( يسوقها إلى المحشر ) وَشَهِيدٌ ( شهد عليه بما عملت في الدّنيا من خير أو شرّ . وروي أنّ عثمان بن عفّان خطب ، وقرأ هذه الآية ،
(9/100)

" صفحة رقم 101 "
فقال : السائق يسوقها إلى الله سبحانه ، والشاهد يشهد عليه بما عملت ، وقال الضحّاك : السائق الملائكة ، والشاهد من أنفسهم الأيدي ، والأرجل . وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس ، وقال أبو هريرة : السائق الملك ، والشهيد العمل ، وقال الباقون : هما جميعاً من الملائكة ، فيقول الله سبحانه لها :
ق : ( 22 ) لقد كنت في . . . . .
) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ( ورفعنا عنك عماك ، وخلّينا عنك سترك ، حتّى عاينته . ) فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( قوي ، نافذ ، ثابت ، ترى ما كان محجوباً عنك . وروى عبدالوهاب ، عن مجاهد ، عن أبيه ) فبصرك اليوم حديد ( قال : نظرك إليّ لبيان ميزانك حين توزن حسناتك ، وسيّئاتك .
وقيل : أراد بالبصر العلم ، علِمَ حين لم ينفعه العلم ، وأبصر حين لم ينفعه البصر . وقرأ عاصم الجحدري ) لقد كنت ( بكسر ( التاء ) ، وبكسر ( الكاف ) ، رد الكتابة إلى النفس .
ق : ( 23 ) وقال قرينه هذا . . . . .
) وَقَالَ قَرِينُهُ ( الملك الموكّل به ) هَذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ ( معد محفوظ محضر ، قال مجاهد : هذا الذي وكّلني به من بني آدم ، قد أحضرته ، وأحضرت ديوان أعماله ، فيقول الله سبحانه لقرينه :
ق : ( 24 ) ألقيا في جهنم . . . . .
) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ( قال الخليل ، والأخفش : هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين ، وهو جيد حسن ، فيقول : ويلك أرحلاها ، وازجراها ، وخذاه واطلقاه للواحد . قال الفراء : وأصل ذلك إذا دنا أعوان الرجل في إبله ، وغنمه ، وبقره ، اثنان ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه ، ومنه قولهم للواحد في الشعر : خليلي ( ثم يقول : يا صاح ) . قال امرؤ القيس :
خليلي مُرّا بي على أُمّ جندب
نقض لبانات الفؤاد المعذّب
وقال :
قِفا نبك عن ذكرى حبيب ومنزل
وقال : قفا نبك من ذكرى حبيب وعروان .
قال الآخر :
فقلت لصاحبي لا تعجلانا
بنزع أصوله واجتز شيحا
وأنشد أبو ثروان :
فإن تزجرني يابن عفان أنزجر
وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل : يشبه أن يكون عني به تكرار القول فيه ، فكأنّه يقول : إلق إلق ، فناب ألقيا مناب التكرار ، ويجوز أن تكون ألقيا تثنية على الحقيقة ، ويكون الخطاب للمتلقيين معاً أو السائق والشاهد جميعاً ، وقرأ الحسن ( ألقينْ ) بنون التأكيد الخفيفة ، كقوله : ) ليسجننّ وليكوناً من
(9/101)

" صفحة رقم 102 "
الصاغرين ( ) كُلَّ كَفَّار عَنِيد ( عاص معرض عن الحقّ ، قال مجاهد وعكرمة : مجانب للحقّ معاند لله .
ق : ( 25 ) مناع للخير معتد . . . . .
) مَنَّاع لِلْخَيْرِ ( أي للزكاة المفروضة ، وكلّ حقّ واجب في ماله .
) مُعْتَد ( ظالم . ) مُرِيب ( مشكّك ، وقال قتادة : شاك ومعناه : إنّه داخل في الريب
ق : ( 26 ) الذي جعل مع . . . . .
) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِو النار ( وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، فأراد بقوله : ) منّاع للخير ( أنّه كان يمنع بني أخيه عن الإسلام ، ويقول : لئن دخل أحدكم في دين محمّد لا أنفعه بخير ما عشت .
( ) وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاََتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 2
ق : ( 27 ) قال قرينه ربنا . . . . .
) وقَالَ قَرِينُهُ ( يعني الشيطان الذي قُيّض لهذا الكافر العنيد ) رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ما أضللتُه ، وما أغويته .
وقال القرظي : ما أكرهته على الطغيان . ) وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَل بَعِيد ( عن الحقّ فتبرأ شيطانه عنه ، وقال ابن عبّاس ، ومقاتل : قال قرينه يعني الملك ، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب السيئات : ربّ إنّه أعجلني ، فيقول الملك ربّنا ما أطغيته ، ما أعجلته ، وقال سعيد بن جبير : يقول الكافر : ربِّ إنّ الملك زاد عليَّ في الكتابة ، فيقول الملك : ربّنا ما أطغيته ، يعني ما زدت عليه ، وما كتبت إلاَّ ما قال وعمل ، فحينئذ يقول الله سبحانه :
ق : ( 28 ) قال لا تختصموا . . . . .
) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ( فقد قضيت ما أنا قاض . ) وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ( في القرآن حذّرتكم ، وأنذرتكم ، فلا تبديل لقولي ولوعيدي . قال ابن عبّاس : إنّهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجّتهم ، ورد عليهم قولهم
ق : ( 29 ) ما يبدل القول . . . . .
) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ( وهو قوله : ) لأملأنَّ جهنّم من الجِنّة والناس أجمعين ( ، وقال الفرّاء : معناه ما يكذب عندي لعلمي بالغيب ) وَمَا أَنَا بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ ( فأعاقبهم بغير جرم أو أجزي بالحسن سيّئاً .
ق : ( 30 ) يوم نقول لجهنم . . . . .
) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ ( قرأ قتادة ، والأعرج ، وشيبة ، ونافع ( نقول ) ( بالتاء ) ، ومثله روى أبو بكر عن عاصم ، اعتباراً بقوله ، قال : لا تختصموا لديّ ،
(9/102)

" صفحة رقم 103 "
وقرأ الحسن يوم ( يقال ) وقرأ الباقون يوم ( نقول ) ( بالنون ) ( لجهنّم ) ) هَلْ امْتَلأتِ ( لما سبق من وعده إيّاها أنّه يملأها ) من الجِنّة والناس أجمعين ( وهذا السؤال منه على طريق التصديق بخبره ، والتحقيق لوعده والتقريع لأهل عذابه ، والتنبيه لجميع عباده . ) وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيد ( يحتمل أن يكون جحداً مجازه ما من مزيد ، ويحتمل أن يكون استفهاماً ، بمعنى هل من مزيد ، فأزاده وإنّما صلح ) هل ( للوجهين جميعاً ، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد ، وطرفاً من النفي ، قال ابن عبّاس : إنّ الله سبحانه وتعالى ، قد سبقت كلمته ) لأملأنّ جهنّم من الجِنّة والنّاس أجمعين ( فلمّا بعث للنّاس ، وسبق أعداء الله إلى النار زمراً ، جعلوا يقحمون في جهنّم فوجاً فوجاً ، لا يلقى في جهنّم شيء إلاّ ذهب فيها ، ولا يملأها شيء .
فقالت : ألست قد أقمت لتملأني ؟ فوضع قدمه عليها ، ثمّ يقول لها : هل امتلأت ؟ فتقول : قط قط ، قد امتلأت ، فليس من مزيد . قال ابن عبّاس : ولم يكن يملأها شيء حتّى مس قدم الله فتضايقت فما فيها موضع إبرة ، ودليل هذا التأويل ما أنبأني عقيل ، قال : أخبرنا المعافى ، قال : أخبرنا ابن جرير ، قال : حدّثنا بشر ، قال : حدّثنا يزيد ، قال : حدّثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تزال جهنّم يلقى فيها ، وتقول : هل من مزيد ؟ حتّى يضع ربّ العالمين فيها قدمه ، فتتزاوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قد قد بعزّتك ، وكرمك ، ولا يزال في الجنّة فضل ، حتّى ينشئ الله سبحانه لها خلقاً ، فيسكنهم فضل الجنّة ) .
وأخبرنا ابن حمدون ، قال : أخبرنا ابن الشرقي ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى ، وعبد الرّحمن بن بشر ، وأحمد بن يوسف ، قالوا : حدّثنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن همام ابن منبه ، قال : هذا ما حدّثنا أبو هريرة ، عن محمّد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تحاجت الجنّة والنّار ، فقالت النّار : أُوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين ، وقالت الجنّة : فما لي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم ؟ فقال الله سبحانه للجنّه : إنّما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنّار : إنّما أنت عذابي ، أُعذّب بك من أشاء من عبادي ، ولكلّ واحدة منكما ملأها ، فأمّا النار ، فإنّهم يلقون فيها وتقول : هل من مزيد ؟ فلا تمتلئ حتّى يضع الله سبحانه وتعالى فيها رجله فتقول : قط قط ، فهناك تمتلأ وتزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأمّا الجنّة ، فإنّ الله عزّ وجلّ ينشئ لها خلقاً ) .
قلت : هذان الحديثان في ذكر القدم ، والرجل ، صحيحان مشهوران ، ولهما طرق من حديث أبي هريرة ، وأنس ، تركتُ ذكرهما كراهة الإطالة ، ومعنى القدم المذكور في هذا الحديث المأثور قوم يقدمهم الله إلى جهنّم ، يملأها بهم ، قد سبق في عمله إنّهم صائرون إليها وخالدون
(9/103)

" صفحة رقم 104 "
فيها ، وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن معنى هذا الحديث ، فقال : هم قوم قدمهم الله للنار ، وقال عبد الرّحمن بن المبارك : هم مَن قد سبق في علمه أنّه من أهل النّار . وكلّ ما يقدم ، فهو قدم . قال الله سبحانه : إنّ لهم قدم صدق عند ربّهم ، يعني أعمال صالحة قدّموها ، وقال الشاعر يذمّ رجلا :
قعدت به قدم الفجار وغودرت
وعود ربّ أسبابه من فتنة من خالق
يعني ليس له ما يفتخر بهم .
على انّ الأوزاعي روى هذا الحديث عن حسّان بن عطية ، حتى يضع الجبّار قِدمه بكسر القاف ، وكذلك روى وهب بن منبه ، وقال : إنّ الله سبحانه كان قد خلق قوماً قبل آدم ، يقال لهم : القدم ، رؤوسهم كرؤوس الكلاب والذباب ، وسائر أعضائهم كأعضاء بني آدم ، فعصوا ربّهم ، وأهلكهم الله ، يملأ الله بهم جهنّم حين تستزيد . وأمّا الرِجل فهو العدد الكبير من الناس وغيرهم .
يقال : رأيت رِجلاً من الناس ، ومرّ بنا رجل من جياد ، وقال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب تقول : ما هلك على رِجل نبيّ من الأنبياء ما هلك على رِجل موسى ، يعني القبط ، وقال الشاعر :
فمرّ بنا رِجل من النّاس وانزوى
إليهم من الحيّ اليمانين أرجل
قبائل من لخم وحمير
على ابني نزار بالعداوة أحفل
ويصدق هذا التأويل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في سياق الحديث : ( ولا يظلم الله من خلقه أحداً ) ، فدلَّ أنّ الموضوع الملقى في النّار خلق من خلقه ، وقال بعضهم : أراد قَدم بعض ملائكته ورِجله ، وأضاف إليه كقوله : وسئل القرية . والله أعلم .
ق : ( 31 ) وأزلفت الجنة للمتقين . . . . .
) وَأُزْلِفَتْ ( وأدنيت ) الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ( حتّى يروها قبل أن يدخلوها . ) غَيْرَ بَعِيد ( منهم وهو تأكيد ، ويقال لهم :
ق : ( 32 ) هذا ما توعدون . . . . .
) هَذَا مَا تُوعَدُونَ ( في الدنيا على ألسنة الأنبياء .
) لِكُلِّ أَوَّاب ( توّاب ، عن الضحّاك . وقيل : رجّاع إلى الطاعة عن ابن زيد ، وقال ابن عبّاس وعطاء : الأوّاب المسبِّح من قوله سبحانه : ) يا جبال أوّبي معه ( . الحكم بن عيينة : هو الذاكر لله في الخلاء . الشعبي ومجاهد : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء ، فيستغفر منها . قتادة : المصلّي . مقاتل بن حيان : المطيع . عبيد بن عسر : هو الذي لا يقوم من مجلسه حتى يستغفر الله تعالى . أبو بكر الورّاق : المتوكّل على الله سبحانه في السراء والضراء لا يهتدي إلى غير الله . المحاسني : هو الراجع بقلبه إلى ربّه . القاسم : هو الذي لا ينشغل إلاّ بالله .
(9/104)

" صفحة رقم 105 "
) حَفِيظ ( قال ابن عبّاس : هو الذي حفظ ذنوبه حتّى يرجع عنها . قتادة : حفيظ لما استودعه الله سبحانه من حقّه ونعمته . وعن ابن عبّاس أيضاً : الحافظ لأمر الله . الضحّاك : المحافظ على نفسه المتعهّد لها . عطاء : هو الذي يذكر الله في الأرض القفر . الشعبي : هو المراقب . أبو بكر الورّاق : الحافظ لأوقاته وهماته وخطواته . سهل : المحافظ على الطاعات والأوامر .
ق : ( 33 ) من خشي الرحمن . . . . .
) مَنْ خَشِيَ ( في محلّ مَن وجهان من الإعراب : الخفض على نعت الأوّاب ، والرفع على الاستئناف ، وخبره في قوله ادخلوها ، ومعنى الآية من خاف ) الرَّحْمانَ بِالْغَيْبِ ( ولم يره ، وقال الضحّاك والسدّي : يعني في الخلاء حيث لا أحد ، وقال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب .
) وَجَاءَ بِقَلْب مُنِيب ( مقبل إلى طاعة الله . قال أبو بكر الورّاق : علامة المنيب أن يكون عارفاً لحرمته ، موالياً له ، متواضعاً لحلاله تاركاً لهوى نفسه .
ق : ( 34 ) ادخلوها بسلام ذلك . . . . .
) ادْخُلُوهَا ( أي يقال لأهل هذه الصفة : ادخلوها ) بِسَلاَم ( بسلامة من العذاب وسلام الله وملائكته عليهم ، وقيل : السلامة من زوال النعيم وحلول النقم .
) ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (
ق : ( 35 ) لهم ما يشاؤون . . . . .
) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( يعني الزيادة لهم في النعم ممّا لم يخطر ببالهم ، وقال جابر وأنس : هو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى بلا كيف .
( ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاَْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( 2
ق : ( 36 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْن هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ ( قال ابن عبّاس : أثروا . مجاهد : ضربوا . الضحّاك : طافوا . النضر بن شميل : دوحوا . الفرّاء : خرقوا . المؤرخ : تباعدوا . ومنه قول امرئ القيس :
لقد نقبّت في الأفاق حتّى
رضيت من الغنيمة بالإيابِ
وقرأ الحسن فنقّبوا بفتح القاف مخفّفة . وقرأ السلمي ويحيى بن معمر بكسر القاف مشدّداً
(9/105)

" صفحة رقم 106 "
على التهديد والوعيد أي طوّفوا في البلاد ، وسيروا في الأرض ، فانظروا ) هَلْ مِنْ مَحِيص ( من الموت وأمر الله سبحانه .
ق : ( 37 ) إن في ذلك . . . . .
) إِنَّ فِي ذَلِكَ ( أي في القرى التي أهلكت والعِبر التي ذكرت ) لَذِكْرَى ( التذكرة ) لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( أي عقل ، فكنّي عن العقل بالقلب لأنّه موضعه ومتبعه . قال قتادة : لمن كان له قلب حيّ ، نظيره ) لينذر من كان حيّاً ( ، وقال الشبلي : قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين ، وقال يحيى بن معاذ : القلب قلبان : قلب قد احتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع من شغل قلبه بالدنيا . وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة ، حتّى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة . وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سألت أبا الحسن علي بن عبد الرّحمن العباد عن هذه الآية ، فقال : معناها إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب مستقرّ لا يتقلّب عن الله في السراء والضراء .
) أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ( أي استمع القرآن ، يقول العرب : ألقِ إليَّ سمعك أي استمعْ ، وقال الحسين بن الفضل : يعني وجه سامعه وحولها إلى الذكر كما يقال اتبعي إليه .
) وَهُوَ شَهِيدٌ ( أي حاضر القلب ، وقال قتادة : وهو شاهد على ما يقرأ ويسمع في كتاب الله سبحانه من حبّ محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) وذكره .
ق : ( 38 ) ولقد خلقنا السماوات . . . . .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب ( إعياء وتعب .
نزلت في اليهود حيث قالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيّام الستّة ؟
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين ، والجبال يوم الثلاثاء والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء ، والسماوات والملائكة يوم الخميس ، إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة وخلق في أوّل الثلاث ساعات الآجال ، وفي الثانية الآفة ، وفي الثالثة آدم ) .
قال : قالوا : صدقت إن أتممت . فقال : وما ذاك ؟ فقالوا : ثمّ استراح يوم السبت واستلقى على العرش فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
ق : ( 39 ) فاصبر على ما . . . . .
) فاصبر على ما يقولون ( فإنّ الله سبحانه لهم بالمرصاد ، ) وسبّح بحمد ربّك ( يعني قل : سبحان الله والحمد لله . عن عطاء الخراساني ، وقال الآخرون : وصلّ بأمر ربّك وتوفيقه ، ) قبل طلوع الشمس ( يعني صلاة الصبح ، ) وقبل الغروب ( صلاة العصر ، وروي عن ابن عباس ، ) وقبل الغروب ( : يعني الظهر والعصر ،
ق : ( 40 ) ومن الليل فسبحه . . . . .
) ومن الليل فسبّحه ( يعني صلاة العشائين ، وقال مجاهد : من الليل كلّه ، يعني : صلاة الليل ، في أي وقت صلّى ، ) وأدبار السجود ( قال
(9/106)

" صفحة رقم 107 "
عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي : أدبار السجود : الركعتان بعد المغرب ، وأدبار النجوم : الركعتان قبل الفجر ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، وقد روي عنه مرفوعاً أخبرنيه عقيل قال : أخبرنا المعافى ، قال حدثنا ابن جرير ، قال : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن فضيل عن رشيد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال : قال لي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا بن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود ) .
وقال أنس بن مالك : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلّى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليّين ) ، قال أنس : يقرأ في الركعة الأولى : ) قل يا أيها الكافرون ( وفي الأخرى : ) قل هو الله أحد ( .
قال مقاتل : وقتهما مالم يغب الشفق ، وقال مجاهد : هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات ، ورواه عن ابن عباس . وقال ابن زيد : هو النوافل أدبار المكتوبات .
واختلف القرّاء في قوله : ) وأدبار ( ، فقرأ الحسن والأعرج وخارجة وأبو عمر ويعقوب وعاصم والكسائي : بفتح الألف ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ الآخرون : بالكسر ، وهي قراءة عليّ وابن عباس .
وقال بعض العلماء في قوله سبحانه : ) قبل طلوع الشمس ( قال : ركعتي الفجر ، ) وقبل الغروب ( قال : الركعتين قبل المغرب .
روى عمارة بن زاذان عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك قال : كان ذوو الألباب من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يصلّون الركعتين قبل المغرب .
وروى شعبة عن يزيد بن جبير عن خالد بن معدان عن رغبان مولى حبيب بن مسلمة قال : رأيت أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يهبّون إليها كما يهبّون إلى المكتوبة يعني الركعتين قبل المغرب .
وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصلّي الركعتين قبل المغرب إلاّ أنس وأبا برزة .
ق : ( 41 ) واستمع يوم يناد . . . . .
) واستمع ( يا محمد صيحة القيامة ) يوم ينادي المنادِ ( إسرافيل ج تأتيه العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة : إن الله ( يأمركن ) أن تجتمعن بفصل القضاء . ) من مكان قريب ( صخرة بيت المقدس ، وهي وسط الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا ،
ق : ( 42 ) يوم يسمعون الصيحة . . . . .
) يوم تسمعون الصيحة بالحق ( وهي النفخة الأخيرة ، ) ذلك يوم
(9/107)

" صفحة رقم 108 "
الخروج ( من القبور .
ق : ( 43 - 44 ) إنا نحن نحيي . . . . .
) إنا نحن نُحي ونميت وإلينا المصير يوم تشقَّق الأرض عنهم سراعاً ( جمع سريع ، وهو نصب على الحال ، مجازه : فيخرجون سراعاً ، ) ذلك حشرٌ علينا يسير }
ق : ( 45 ) نحن أعلم بما . . . . .
) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار ( : بمسلط قهّار يجبرهم على الاسلام ، إنما بعثت مذكِراً مجدِداً .
قال ثعلب : قد جاءت أحرف فعّال بمعنى مفعل وهي شاذة ، جبّار بمعنى مُجْبر ، ودرّاك بمعنى مدرك ، وسرّاع بمعنى مسرع ، وبكّاء بمعنى مبك ، وعدّاء بمعنى معد ، وقد قريء : ) وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد ( بمعنى المرشد ، وسمعت أبا منصور الجمشاذي يقول : سمعت أبا حامد الجازرنجي يقول : ( العون ) سيفٌ سقّاط ، بمعنى مُسْقط .
وقال بعضهم : الجبّار من قولهم جَبَرتْه على الأمر بمعنى أجبرته ، وهي لغة كنانة وهما لغتان .
وقال الفرّاء : وضع الجبّار في موضع السلطان من الجبرية . قال : وأنشدني المفضّل :
ويوم الحزن إذ حشدت مَعدٌ
وكان الناس إلا نحن دينا
عصتنا عزمة الجبّار حتى
صبحنا الجوف ألفاً معلمينا
قال : أراد بالجبّار المنذر بن النعمان لولايته .
) فذكّر ( يا محمّد ) بالقرآن من يخاف وعيد ( قال ابن عباس : قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا ؟ فنزلت ) فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد ( .
(9/108)

" صفحة رقم 109 "
( سورة الذاريات )
مكية ، وهي ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفاً ، وثلاثمائة وستون كلمة ، وستون آية
أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار الناجي قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن محمد البلخي قال : حدّثنا عمرو بن محمد قال : حدّثنا أسباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبدالله السلمي قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن خنيس عن أُبىّ قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة والذاريات أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ريح هبت وجرت في الدنيا ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
2 ( ) وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِىأَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِى الاَْرْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ( 2
الذاريات : ( 1 ) والذاريات ذروا
) والذاريات ذرواً ( الرياح التي تذرو التراب ذرواً ، يقال : ذرت الريح التراب وأذرته .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن بن أيوب ، قال : حدّثنا عبدالله بن أبي زياد قال : حدّثنا سيار بن حاتم قال : حدّثنا أيوب بن خَوط قال : حدّثنا عمر الأعرج قال : بلغنا أنّ مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيّين حملة الكرسي ، فتهيج من ثمّ فتقع بعجلة الشمس ، ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال ، ثم تهيج من رؤوس الجبال فتقع في البر . فأمّا الشمال فإنّها تمرّ بجنّة عدن ، فتأخذ من عرق طيبها فتمرّ على أرواح
(9/109)

" صفحة رقم 110 "
الصدّيقين ، ثّم تأخذ حدّها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس ، ويأتي الدبور حدّها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل ، ويأتي الجنوب حدّها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس ، ويأتي الصبا حدّها من مطلع الشمس إلى كرسيّ بنات نعش ، فلا تدخل هذه في حدّ هذه ، ولا هذه في حدّ هذه .
أخبرني الحسن قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل ، قال : حدّثنا الحكم سليمان ، قال : حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي ح ) والذاريات ذرواً ( ، قال : ( الرياح ) .
الذاريات : ( 2 ) فالحاملات وقرا
) فالحاملات وقراً ( قال : ( السحاب ) .
الذاريات : ( 3 ) فالجاريات يسرا
) فالجاريات يسراً ( قال : ( السفن ) .
الذاريات : ( 4 ) فالمقسمات أمرا
) فالمقسمات أمراً ( ، قال : ( الملائكة ) .
الذاريات : ( 5 ) إنما توعدون لصادق
) إن ما توعدون ( من الخير والشر والثواب والعقاب ) لصادق }
الذاريات : ( 6 ) وإن الدين لواقع
) وإنّ الدين ( الحساب والجزاء ) لواقع ( لنازل كائن .
( ثم ) ابتدأ قَسَماً آخر فقال عزّ وجلّ :
الذاريات : ( 7 ) والسماء ذات الحبك
) والسماء ذات الحبك ( قال ابن عباس وقتادة والربيع : ذات الخلق الحسن المستوي ، وإليه ذهب عكرمة ، قال : ألم ترَ إلى النّسّاج إذا نسج الثوب فأجادَ نسجه ، قيل : ما أحسن حبكه
وقال سعيد بن جبير : ذات الزينة ، وقال الحسن : حبكت النجوم .
مجاهد : هو المتقَن البنيان ، الضحاك : ذات الطرائق ، ولكنّها بعيد من العباد فلا يرونها ، قال : ومنه حَبكَ الرمل والماء إذا ضربهما الريح ، وحبك الشعر الجعد والدرع ، وهو جمع حباك وحبيكة ، قال الراجز :
كأنما جلّلها الحوّاك
طنفسة في وشيها حباك
ومنه الحديث في صفة الجبال : ( راسية حبك حبك ) يعني الجعودة ، وقال ابن زيد : ذات الشدّة ، وقرأ قول الله سبحانه : ) وبنينا فوقكم سبعاً شداداً ( ، وقال عبدالله بن عمرو : هي السماء السابعة .
الذاريات : ( 8 ) إنكم لفي قول . . . . .
) إنكم ( يا أهل مكة ) لفي قول مختلف ( في القرآن ومحمد عليه السلام ، فمن مصدّق ومكذّب ، ومقرّ ومنكر ، وقيل : نزلت في المقتسمين .
الذاريات : ( 9 ) يؤفك عنه من . . . . .
) يؤفك ( يصرف ) عنه ( أي عن الإيمان بهما ) من أُفك ( صرف فنجويه ، وقيل : يصرف
(9/110)

" صفحة رقم 111 "
عن هذا القول ، أي من أجله وسببه عن الإيمان من صرف ، وذلك أنهّم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له : إنّه ساحر وكاهن ومجنون ، فيصرفونه عن الإيمان ، وهذا معنى قول مجاهد .
وقد يكون ( عن ) بمعنى ( أجل ) . أنشد العبسي :
عن ذات أولية أُساودُ ربّها
وكأن لون الملح فوق شفارها
أي من أجل ناقة ذات أوليه .
الذاريات : ( 10 ) قتل الخراصون
) قتل ( لعن ) الخرّاصون ( الكذابون .
وقال ابن عباس : المرتابون ، وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب الله ، واقتسموا القول في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليصرفوا الناس عن دين الإسلام .
وقال مجاهد : الكهنة .
الذاريات : ( 11 ) الذين هم في . . . . .
) الذين هم في غمرة ( : شبهة وغفلة ) ساهون ( : لاهون .
الذاريات : ( 12 ) يسألون أيان يوم . . . . .
) يسألون أيان يوم الدين ( متى يوم القيامة استهزاءً منهم بذلك وتكذيباً .
الذاريات : ( 13 ) يوم هم على . . . . .
قال الله سبحانه وتعالى : ) يوم هم ( أي يكون هذا الجزاء في يوم هم ) على النار يُفتنون ( يُعذّبون ويُحرقون ويُنضَجون بالنار كما يفتن الذهب بالنار . ومجازه بكلمة ( على ) ههنا : أنهم موقوفون على النار ، وقيل : هو بمعنى الباء .
الذاريات : ( 14 ) ذوقوا فتنتكم هذا . . . . .
ويقول لهم الخزنة : ) ذوقوا فتنتكم هذا ( ولم يقل هذه ؛ لأنّ الفتنة هاهنا بمعنى العذاب ، فردّ الإشارة إلى المعنى ) الذي كنتم به تستعجلون 2 )
الذاريات : ( 15 - 16 ) إن المتقين في . . . . .
) إن المتقين في جنان وعيون آخذين ما آتاهم ربهم ( من الثواب وأنواع الكرامات .
وقال سعيد بن جبير : تعني آخذين بما أمرهم ربّهم ، عاملين بالفرائض التي أوجبها عليهم .
) إنهم كانوا قبل ذلك ( قبل دخولهم الجنة ) محسنين ( في الدنيا ، وقيل : قبل نزول الفرائض محسنين في أعمالهم .
الذاريات : ( 17 ) كانوا قليلا من . . . . .
) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( اختلف العلماء في حكم ( ما ) ، فجعله بعضهم جحداً ، وقال : تمام الكلام عند قوله : ) كانوا قليلا ( أي كانوا قليلا من الناس ، ثم ابتدأ ) ما يهجعون ( أي لا ينامون بالليل ، بل يقومون للصلاة والعبادة ، وجعله بعضهم بمعنى ( الذي ) ، والكلام متّصل
(9/111)

" صفحة رقم 112 "
بعضه ببعض ، ومعناه : كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون ، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم ؛ لأنّ ( ما ) إذا اتصل به الفعل ، صار في تأويل المصدر كقوله : ) بما ظلموا ( أي بظلمهم ، وجعله بعضهم صلة ، أي كانوا قليلا من الليل يهجعون .
قال محمد بن علي : ( كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة ) ، وقال أنس بن مالك : يصلّون ما بين المغرب والعشاء ، وقال مطرف : قلّ ليلة تأتي عليهم لا يصلّون فيها لله سبحانه ، إما من أوّلها ، وإما من أوسطها ، وقال الحسن : لا ينامون من الليل إلاّ أقلّة ، وربما نشطوا فمدّوا إلى السحر .
الذاريات : ( 18 - 19 ) وبالأسحار هم يستغفرون
) وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( ، قال ابن عباس وسعيد بن المسيب : السائل : الذي يسأل الناس ، والمحروم : المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم .
وقال قتادة والزهري : السائل الذي يسألك ، والمحروم : المتعفف الذي لا يسألك ، وقال إبراهيم : هو الذي لا سهم له في الغنيمة ، يدلّ عليه ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسين بن محمد أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث سريّة فغنموا ، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة ، فنزلت هذه الآية ، وقال عكرمة : المحروم : الذي لا ينمي له مال ، وقال زيد بن أسلم : هو المصاب بثمره أو زرعه أو نسل ماشيته .
أخبرني الحسن بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا الحسن بن علي الفارسي قال : حدّثنا عمرو بن محمد الناقد قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا محمد بن مسلم الطائفي عن أيوب بن موسى عن محمد بن كعب القرظي : المحروم صاحب الحاجة ، ثم قرأ : ) إنّا لمغرمون بل نحن محرومون ( ، ونظيره في قصة ضروان ) بل نحن محرومون ( ، وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا عبد ( . . . ) عن شعبة عن عاصم يعني الأحول عن أبي قلابة ، قال : كان رجل من أهل اليمامة له مال ، فجاء سيل فذهب بماله ، فقال رجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا المحروم فاقسموا له .
وقال الشعبي : أعناني أن أعلم ما المحروم ، لقد سألت عن المحروم منذ سبعين سنة ، فما أنا اليوم بأعلم مني من يومئذ .
(9/112)

" صفحة رقم 113 "
وأصله في اللغة الممنوع ، من الحرمان ، وهو المنع .
أخبرنا أبو سهيل بن حبيب قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن موسى قال : حدّثنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا علي بن عثمان النفيلي الحراني ، قال : حدّثنا علي بن عباس الحمصي ، قال : حدّثنا سعيد بن عمارة بن صفوان الكلاعي عن الحرث بن النعمان ابن أُخت سعيد بن جبير قال : سمعت أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يا أنس ويل للاغنياء من الفقراء يوم القيامة ، يقولون : يا ربّ ظلمونا حقوقنا التي فرضتها عليهم . قال : فيقول : وعزّتي وجلالي لأقربنّكم ولأُبعدنّهم ) .
قال : فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه هذه الآية : ) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (
.
) وَفِىأَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ( 2
الذاريات : ( 20 ) وفي الأرض آيات . . . . .
) وفي الأرض آيات ( عِبَرٌ وعظات إذا ساروا فيها . ) للموقنين 2 )
الذاريات : ( 21 ) وفي أنفسكم أفلا . . . . .
) وفي أنفسكم ( أيضاً آيات ) أفلا تبصرون ( .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب الكلماباذي بقراءتي عليه ، قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص ، قال : حدّثنا السري بن خزيمة الآبيوردي ، قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا سفيان عن ابن جريج عن محمد بن المرتفع عن الزبير ) وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( ، قال : سبيل الغايط والبول ، وقال المسيب بن شريك : يأكل ويشرب من مكان واحد ، ويخرج من مكانين ، ولو شرب لبناً محضاً خرج ماء ، فتلك الآية في النفس .
وقال أبو بكر الوراق : ) وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( يعني في تحويل الحالات وضعف القوة وقهر المنّة وعجز الأركاب وفسخ الصريمة ونقض العزيمة ، ثم أخبر سبحانه وتعالى أنّه وضع رزقك حيث لا يأكله السوس ولا يناله اللصوص ، فقال سبحانه : ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( يعني المطر والثلج اللذين بهما تخرج الأرض النبات الذي هو سبب الأقوات ، وقال بعض أهل المعاني : معناه : وفي المطر والنبات سبب رزقكم ، فسمّي المطر سماء ؛ لأنّه عن السماء ينزل ، قال الشاعر :
إذا سقط السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان : يعني وعلى ربّ السماء رزقكم ) في ( بمعنى ( على ) كقوله : ) في جذوع
(9/113)

" صفحة رقم 114 "
النخل ( ، وذكر الربّ مختصراً ، كقوله : ) واسأل القرية ( ، ونظيره قوله : ) وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ( .
وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير ، قال : حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا هارون بن المعتز من أهل الري عن سفيان الثوري قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية :
الذاريات : ( 22 ) وفي السماء رزقكم . . . . .
) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( فقال : ألا أرى رزقي في السماء ، وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة فمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً ، فلمّا أن كان اليوم الثالث إذا هو يرى جلّة من رطب ، وكان له أخ أحسن نيّة منه فدخل معه ( فصارتا جلّتين ) ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق بينهما الموت .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خميس قال : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا إبراهيم بن هاشم البغوي قال : حدّثنا ابن أبي بزّة ، قال : حدّثنا حسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن شبل بن عبّاد عن ابن ( أبي نجيح ) أنّه قرأ ( وفي السماء رازقكم وما توعدون ) بالألف يعني الله .
قال مجاهد : ) وما توعدون ( من خير أو شر ، وقال الضحاك ) وما توعدون ( من الجنة والنار ، وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويّة قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب بن شريك قال : قال أبو بكر بن عبدالله : سمعت ابن سيرين يقول : ) وما توعدون ( : الساعة .
) فوربّ السماء والأرض إنّه ( يعني أن الذي ذكرت من أمر الرزق ) لحقّ مثل ( بالرفع قرأه أهل الكوفة بدلا من ( الحق ) ، وغيرهم بالنصب أي كمثل .
) ما أنكم تنطقون ( فتقولون : لا إله إلاّ الله ، وقيل : كما أنّكم ذوو نطق خصصتم بالقوة الناطقة العاقلة فتتكلمون ، هذا حق كما حق أنّ الآدمي ناطق ، وقال بعض الحكماء : كما أنّ كلّ انسان ينطق بلسان نفسه ، ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره ، فكذلك كلّ إنسان يأكل رزقه الذي قسم له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره ، وقال الحسن في هذه الآية : بلغني أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربّهم بنفسه فلم يصدّقوه ) .
حدّثنا أبو القاسم بن حبيب قال : أخبرنا أبو الحسن الكائيني وأبو الطيّب الخياط وأبو
(9/114)

" صفحة رقم 115 "
محمد يحيى بن منصور الحاكم في القسطنطينية قالوا : حدّثنا أبو رجاء محمد بن أحمد القاضي ، قال : حدّثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياسي البصري ، قال : سمعت الأصمعي يقول : أقبلتُ ذات يوم من المسجد الجامع في البصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس ، فدنا وسلّم وقال لي : مَن الرجل ؟ ، قلت : من بني الأصمع ، قال : أنت الاصمعي ؟ قلت : نعم ، قال : ومن أين أقبلت ؟ ، قلت من موضع مليء بكلام الرَّحْمن ، قال : وللرَّحْمن كلام يتلوه ( الآدمين ) .
قلت : نعم ، قال : اتلُ عليّ شيئاً منه ، فقلت له : انزل عن قعودك . فنزل ، وابتدأت بسورة والذاريات ، فلمّا انتهيت إلى قوله سبحانه : ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( . قال : يا أصمعي هذا كلام الرَّحْمن ؟ ، قلت : أي والذي بعث محمداً بالحق ، إنّه لكلامه أنزله على نبيّه محمد ، فقال لي : حسبك ، ثم قام إلى الناقة فنحرها وقطعها كلّها ، وقال : أعنىّ على توزيعها ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل وولّى مدبراً نحو البادية وهو يقول : ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( .
فأقبلت على نفسي باللوم وقلت : لم تنتبهي لما انتبه له الأعرابي ، فلمّا حججت مع الرشيد دخلت مكة ، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي نحيلاً مصفاراً فسلّم علىّ وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي : اتل كلام الرَّحْمن ، فأخذت في سورة والذاريات ، فلمّا انتهيت إلى قوله : ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( ، صاح الاعرابي فقال : وجدنا ما وعدنا ربنّا حقاً ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ قلت : نعم يقول الله سبحانه
الذاريات : ( 23 ) فورب السماء والأرض . . . . .
) فوربّ السماء والأرض إنه لحقّ مثل ما أنّكم تنطقون ( ، فصاح الأعرابي وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ ، ألم يصدّقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين ؟ قالها ثلاثاً وخرجت فيها نفسه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة ، قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا شبانة ، قال حدّثنا صدقة ، قال حدّثنا الوضين بن عطاء عن زيد بن جرير أنّ رجلا جاع في مكان ليس فيه شيء ، فقال : اللّهم رزقك الذي وعدتني فأتني به ، قال : فشبع وروى من غير طعام ولا شراب .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن القاسم الخطيب . قال : حدّثنا إسماعيل بن العباس بن محمد الوراق ، قال : حدّثنا الحسين بن سعيد بن محمد المحرمي ، قال : حدّثنا علي ابن يزيد العبداني قال : حدّثنا فضيل بن مسروق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري ، قال :
(9/115)

" صفحة رقم 116 "
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أنّ أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت ) وأنشدت في معناه :
الرزق في القرب وفي البعد
أطلَبُ للعبد من العبد
لو قصّر الطالب في سعيه
أتاه ما قدّر في قصد
وقال دعبل :
أسعى لأطلب رزقي وهو يطلبني
والرزق أكثر لي مني له طلباً
2 ( ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ ( 2
الذاريات : ( 24 ) هل أتاك حديث . . . . .
) هل أتاك ( يا محمد ) حديث ضيف إبراهيم ( اختلفوا في عددهم فقال ابن عباس ومقاتل : كانوا اثني عشر ملكاً ، وقال محمد بن كعب : كان جبريل ومعه سبعة ، وقال عطاء وجماعة : كانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر ) المكرمين ( قال ابن عباس : سمّاهم مكرمين ؛ لأنهّم كانوا غير مدعوّين .
وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال : حدّثني عبدالله بن أحمد الشعراني ، قال : أخبرنا عبدالواحد بن محمد بن سعيد الأرعيالي قال : سمعت محمد بن عبدالوهاب يقول : قال لي علي بن غنام : عندي هريسة ، ما رأيك فيها ؟ قلت : ما أحسن رأيي ، قال : امضِ ، فدخلت الدار فجعل ينادي يا غلام يا غلام ، والغلام غايب ، فأدخلني بيتاً فجلست فيه ، فما راعني ( إلاّ معه ) القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل ، فقلت : إنّا لله يا أبا الحسن لو علمت أن الأمر
(9/116)

" صفحة رقم 117 "
عندك هكذا ما دخلت . قال : هوّن عليك ، حدّثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله سبحانه : ) هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ( قال : خدمته إياهم بنفسه ، وقال عبدالعزيز بن يحيى الكناني : كانوا مكرمين عند الله ، نظيره في سورة الأنبياء ) بل عباد مكرمون ( .
قال أبو بكر الوراق وابن عطاء : سمّاهم مكرمين ، لأنّ أضياف الكرام مكرمون ، وكان إبراهيم ج أكرم الخليقة وأطهرهم فتوة .
الذاريات : ( 25 ) إذ دخلوا عليه . . . . .
) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم ( أي أنتم قوم ) منكرون ( غرباء لا نعرفكم ، وقيل : إنّما أنكر أمرهم ، لأنّهم دخلوا عليه من غير استئذان ، وقال أبو العاليه : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض .
الذاريات : ( 26 ) فراغ إلى أهله . . . . .
) فراغ ( فعدل ومال إبراهيم ) إلى أهله ( قال الفرّاء : لا ينطق بالروغ حتى يكون صاحبه محتفياً لذهابه ومجيئه ) فجاء بعجل سمين ( قال قتاده : كان عامة مال إبراهيم البقر
الذاريات : ( 27 - 29 ) فقربه إليهم قال . . . . .
) فقرّبه إليهم فقال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشّروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرّة ( أي صيحة ، ولم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان وإنّما هو كقول القائل : أقبل يشتمني ، بمعنى أخذ في شتمي .
) فصكّت ( قال ابن عباس : لطمت ) وجهها ( وقال الآخرون : ضربت يدها على جبهتها تعجباً ، كعادة النساء إذا أنكرن شيئاً أو تعجبن منه ، وأصل الصكّ الضرب ) وقالت عجوز عقيم ( مجازه : أتلد عجوز عقيم ؟ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكان بين البشارة والولادة سنة ، فولدت له سارة وهي بنت سبع وتسعين ، وإبراهيم ابن مائة سنة .
الذاريات : ( 30 ) قالوا كذلك قال . . . . .
) قالوا كذلك قال ربّك إنّه هو الحليم العليم ( حدّثنا أبو بكر بن عبدوس إملاءً قال : أخبرنا أبو سهل القطان ببغداد ، قال : حدّثنا يحيى بن جعفر ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف ، قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب ، قال حدّثنا نصر بن علي ، قال : أخبرنا نوح بن قيس ، قال : حدّثنا عون بن أبي شداد أنّ ضيف إبراهيم المكرمين لمّا دخلوا عليه فقرّب إليهم العجل فسحه جبريل ج بجناحه ، فقام العجل يدرج في الدار حتى لحق بأُمّه .
الذاريات : ( 31 - 33 ) قال فما خطبكم . . . . .
) قال فما خطبكم أيّها المرسلون قالوا إنّا أُرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل إليهم حجارة من طين ( قال الكلبي من سنك ، وكل بيانه قوله سبحانه ) من سجيل ( .
الذاريات : ( 34 - 36 ) مسومة عند ربك . . . . .
) مسوّمة عند ربّك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ( .
(9/117)

" صفحة رقم 118 "
الذاريات : ( 37 ) وتركنا فيها آية . . . . .
) وتركنا فيها آية ( عبرة ) للذين يخافون العذاب الأليم ( .
الذاريات : ( 38 ) وفي موسى إذ . . . . .
) وفي موسى ( أي وتركنا في إرسال موسى أيضاً عبرة وقال الفرّاء : هو معطوف على قوله : ) وفي الأرض آيات . . ، وفي موسى ( ) إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين 2 )
الذاريات : ( 39 ) فتولى بركنه وقال . . . . .
) فتولّى ( فأعرض وأدبر عن الإيمان ) بركنه ( بقوته وقومه ، نظيره ) أو آوي إلى ركن شديد ( يعني المنعة والعشيرة ، وقال المؤرخ : بجانبه ) وقال ساحر أو مجنون ( قال أبو عبيدة : ( أو ) بمعنى ( الواو ) ؛ لأنهم قد قالوهما جميعاً ، وأنشد بيت جرير :
أثعلبة الفوارس أو رياحاً
عدلت بهم طهيّة والخشابا
وقد يوضع ( أو ) بمعنى ( الواو ) كقوله : ) آثماً أو كفوراً ( و ( الواو ) بمعنى ( أو ) كقوله سبحانه : ) وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ( .
الذاريات : ( 40 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم . . . . .
) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مُليم ( قد أتى بما يلام عليه .
الذاريات : ( 41 ) وفي عاد إذ . . . . .
) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ( وهي التي لا تلقّح شجراً ولا تنشئ سحاباً ولا رحمة فيها ( ولا ) بركة .
الذاريات : ( 42 ) ما تذر من . . . . .
) ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم ( كالنبت الذي قد يبس وديس .
قال ابن عباس كالشيء الهالك . مقاتل : كالبالي . مجاهد : كالتبن اليابس . قتادة : كرميم الشجر . أبو العالية : كالتراب المدقوق . ( قال ) يمان : ما رمته الماشية بمرمتها من ( الكلأ ) ، ويقال للنسفة : المرمة والمقمة ، وقيل : أصله من العظم البالي .
الذاريات : ( 43 ) وفي ثمود إذ . . . . .
) وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ( يعني وقت فناء آجالهم .
الذاريات : ( 44 ) فعتوا عن أمر . . . . .
) فعتوا عن أمر ربّهم فأخذتهم الصاعقة ( قال الحسين بن واقد : كلّ صاعقة في القرآن فهي عذاب ) وهم ينظرون ( إليها نهاراً .
الذاريات : ( 45 ) فما استطاعوا من . . . . .
) فما استطاعوا من قيام ( فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض به ولا دفاع ) وما كانوا منتصرين ( منتقمين منّا .
قال قتادة : وما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من الله .
( ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاَْرْض
(9/118)

" صفحة رقم 119 "
َ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ( 2
الذاريات : ( 46 ) وقوم نوح من . . . . .
) وقوم نوح ( قرأ أبو عمرو والاعمش وحمزة والكسائي وخلف ( وقوم ) بجرّ الميم في ) قوم نوح ( ، وقرأ الباقون بالنصب ، وله وجوه : أحدهما : أن يكون مردوداً على الهاء والميم في قوله ) فأخذتهم الصاعقة ( أي وأخذت قوم نوح ، والثاني : وأهلكنا قوم نوح ، والثالث : واذكر قوم نوح ) من قبل ( أي من قبل عاد وثمود وقوم فرعون ) إنهم كانوا قوما فاسقين 2 )
الذاريات : ( 47 ) والسماء بنيناها بأيد . . . . .
) والسماء بنيناها بأيد ( بقوة ) وإنّا لموسعون ( قال ابن عباس قادرون ، وعنه أيضاً : لموسعون الرزق على خلقنا . الضحاك : أغنياء ، دليله قوله سبحانه ) على الموسع قدره ( القتيبي : ذوو سعة على خلقنا . الحسين بن الفضل : أحاط علمنا بكل شيء . الحسن : مطبقون .
الذاريات : ( 48 ) والأرض فرشناها فنعم . . . . .
) والأرض فرشناها ( بسطنا ومهدّنا لكم ) فنعم الماهدون ( الباسطون ، والمعنى في الجمع التعظيم .
الذاريات : ( 49 ) ومن كل شيء . . . . .
) ومن كل شيء خلقنا زوجين ( صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والشتاء والصيف ، والجن والانس ، والكفر والإيمان ، والشقاوة والسعادة ، والحق والباطل ، والذكر والانثى ، والجنة والنار . ) لعلّكم تذكرون ( فتعلمون أنّ خالق الأزواج فرد .
الذاريات : ( 50 ) ففروا إلى الله . . . . .
) ففرّوا إلى الله ( أي : فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان ومجانبة العصيان .
قال ابن عباس : فرّوا منه إليه ، واعملوا بطاعته ، وقال أبو بكر الورّاق : فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرَّحْمن ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف قال : حدّثنا محمد بن حمدان بن سفيان ، قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : حدّثنا يعقوب بن القاسم ، قال : حدّثنا محمد بن معز عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان في قوله سبحانه ) ففرّوا إلى الله ( قال : اخرجوا إلى مكة . الحسين بن الفضل : احترزوا من كل شيء دونه ، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه .
قال الجنيد : الشيطان داع إلى الباطل ، ففرّوا إلى الله يمنعكم منه . ذو النون : ففرّوا من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الشكر . عمرو بن عثمان : فرّوا من أنفسكم إلى ربّكم
(9/119)

" صفحة رقم 120 "
الواسطي : فرّوا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم . سهل بن عبدالله : فرّوا مما سوى الله إلى الله . ) إني لكم منه نذير مبين 2 )
الذاريات : ( 51 ) ولا تجعلوا مع . . . . .
) ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إنّي لكم منه نذير مبين ( .
الذاريات : ( 52 ) كذلك ما أتى . . . . .
) كذلك ( أي : كما كفر بك قومك ، وقالوا ساحر ومجنون كذلك ) ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون ( .
الذاريات : ( 53 ) أتواصوا به بل . . . . .
) أتواصوا به ( أوصى بعضهم بعضاً بالتكذيب وتواطؤوا عليه ، والألف فيه ألف التوبيخ . ) بل هم قوم طاغون ( عاصون .
الذاريات : ( 54 ) فتول عنهم فما . . . . .
) فَتَولَّ ( فأعرض ) عنهم فما أنت بملوم ( فقد بلّغتَ ما أُرسلتَ به وما قصّرتَ فيما أُمرتَ .
قال المفسرون : فلمّا نزلت هذه الآية حزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتدّ ذلك على أصحابه ، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله سبحانه
الذاريات : ( 55 - 56 ) وذكر فإن الذكرى . . . . .
) وذكّر إنّ الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدونِ ( قال علي بن أبي طالب : معناه إلاّ لآمرهم أن يعبدون ، وأدعوهم إلى عبادتي ، واعتمد الزجاج هذا القول ، ويؤيده قوله ) وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الهاً واحداً ( وقوله : ) وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( .
قال ابن عباس : ليقرّوا لي بالعبوديه طوعاً أو كرهاً .
فإن قيل : فكيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلّل لأمره ومشيئته ، وأنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضى عليهم ؟
( قلنا : ) لأنّ قضاءه جار عليهم ولا يقدرون الامتناع منه إذا نزل بهم ، وإنّما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به ، فأمّا التذلّل لقضائه فإنّه غير ممتنع فيه ، وقال مجاهد : إلاّ ليعرفونِ .
ولقد أحسن في هذا القول لأنّه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ، ودليل هذا التأويل قوله : ) ولئن سألتهم ( الآيات .
وروى حيّان عن الكلبي : إلاّ ليوحّدونِ ، فأمّا المؤمن فيوحّده في الشدّة والرخاء ، وأمّا الكافر فيوحده في الشدّه والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله سبحانه : ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الديّن ( الآية .
وقال عكرمة : إلا ليعبدونِ ويطيعونِ . فأُثيب العابد وأعاقب الجاحد ، وقال الضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل عبادته وطاعته . يدلّ عليه ( ما ) قرأهُ ابن عباس : ) وما خلقت الجن والإنس ( من المؤمنين ) إلاّ ليعبدونِ ( . قال في آية أُخرى : ) ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ( وقال بعضهم : معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلاّ لعبادتي ، والأشقياء
(9/120)

" صفحة رقم 121 "
منهم إلاّ لمعصيتي ، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال : ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة ، وقال الحسين بن الفضل : هو الاستعباد الظاهر .
وليس على هذا القدر ؛ لأنّه لو قدر عليهم عبادته لما عصوه ولما عبدوا غيره وإنمّا هو كقوله : ) جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( ثم قال : ) قليلا ما تشكرون ( ) وقليل من عبادي الشكور ( .
ووجه الآية في الجملة أنّ الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة وإجبار وإنّما خلقه لهم خلق تكليف واختيار ، فمن وفّقه وسدّده أقام العبادة التي خُلق لها ، ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق لها . كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) والله أعلم .
الذاريات : ( 57 ) ما أريد منهم . . . . .
) ما أُريد منهم من رزق ( أي رزقاً ) وما أُريد أن يطعمون }
الذاريات : ( 58 ) إن الله هو . . . . .
) إن الله هو الرزاق ذو القوّة المتين ( قرأة العامّة برفع النون على نعت الله سبحانه وتعالى ، وهو القوي المقتدر المبالغ في القوّة والقدرة .
قال ابن عباس : المتين الصلب الشديد ، وقرأ يحيى والأعمش ) المتين ( خفضاً على نعت القوّة . قال الفرّاء : كان حقّه التأنيث فذكّره ؛ لأنّه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم الفتل ، كما يقال : حبل متين ، وأنشد الفرّاء :
لكلّ دهر قد لبست أثوبا
حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا
من ريطة واليمنة المعصّبا
فذكّر المعصب ؛ لأنّ اليمنة صنف من الثياب .
ومن هذا الباب قوله سبحانه : ) من جاءه موعظة ( أي وعظ ، وقوله : ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة ( أي الصياح والصوت .
وأخبرنا أبو عبدالله بن فنجويه الدينوري ، قال : حدّثنا القطيفي ، قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي كثير قالا : حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرَّحْمن بن يزيد عن عبدالله بن مسعود قال : أقرأني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنّي أنا الرازق ذو القوة المتين ( .
الذاريات : ( 59 ) فإن للذين ظلموا . . . . .
) فإنّ للذين ظلموا ( كفروا من أهل مكة ) ذَنوباً ( قال ابن عباس وسعيد بن جبير : سجّلا
(9/121)

" صفحة رقم 122 "
مجاهد : سبيلا . النخعي : طرفاً . عطاء وقتادة : عذاباً . الحسن : دولة . الكسائي : حظاً . الأخفش : نصيباً .
وأصل الذّنوب في اللغة الدلو الكبيرة العظيمة المملوءه ماءً .
قال الراجز :
لها ذَنوب ولكم ذَنوب
فإن أبيتم فلنا القليب
ثم يستعمل في الحظ والنصيب كقول علقمة بن عبيدة .
وفي كل قوم قد خبطت بنعمة
فحق لشأس من نداك ذَنوب
لعمرك والمنايا طارقات
لكل بني أب منهم ذَنوب
) مثل ذَنوب أصحابهم ( من كفار الأُمم الخالية ) فلا يستعجلون ( بالعذاب ، فإنّما أُمهلوا مع ذنوبهم لأجل ذنوبهم .
الذاريات : ( 60 ) فويل للذين كفروا . . . . .
) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ( وهو يوم بدر ، وقيل : يوم القيامة .
(9/122)

" صفحة رقم 123 "
( سورة الطور )
مكية ، وهي ألف وخمسمائة حرف ، وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة ، وتسع وأربعون آية
أخبرني أبو الحسن الفارسي قال : حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الصبهاني ، قال : حدّثنا المؤمل بن إسماعيل ، قال : حدّثنا سفيان الثوري ، قال : حدّثنا أسلم المنقري عن عبدالله بن عبدالرَّحْمن بن ايزي عن أبيه عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الطور كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنته ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
2 ( ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( 2
الطور : ( 1 ) والطور
) والطور ( كل جبل طور ، لكنّه سبحانه عنى بالطور هاهنا الجبل الذي كلّم عليه موسى بالأرض المقدّسة ، وهي بمدين واسمه زبير ، وقال مقاتل بن حيان : هما طوران يقال لأحدهما : طور تينا ، وللآخر طور زيتونا ؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون .
الطور : ( 2 ) وكتاب مسطور
) وكتاب مسطور ( مكتوب .
الطور : ( 3 ) في رق منشور
) في رق ( جلد ) منشور ( وهو الصحيفة ، واختلفوا في هذا الكتاب ما هو ؟ فقال الكلبي : هو كتاب الله سبحانه بيد موسى ج من التوراة ، وموسى يسمع صرير القلم ، وكان كلّما مرّ القلم بمكان خرقه إلى الجانب الآخر ، فكان كتاباً له وجهان ، وقيل : اللوح المحفوظ ( وهو ) دواوين الحفظة ، تخرج إليهم يوم القيامة منشورة ؛ فآخذٌ بيمينه وآخذٌ بشماله ، دليله ونظيره قوله سبحانه : ) ونُخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً ( وقوله سبحانه : ) وإذا الصحف نُشرت (
(9/123)

" صفحة رقم 124 "
، وقيل : هو ما كتب الله تعالى في قلوب أوليائه من الإيمان ، بيانه : اولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وقيل : هو ما كتب الله تعالى للخلق من السابقة والعاقبة .
الطور : ( 4 ) والبيت المعمور
) والبيت المعمور ( بكثرة الحاشية والأهل ، وهو بيت في السماء السابعة ، حذاء العرش ، حيال الكعبة ، يقال له : الضراح ، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض ، يدخله كل يوم سبعون ألف من الملائكة ، يطوفون به ويصلون فيه ، ثم لا يعودون إليه أبداً ، وخازنه ملك يقال له : ( الجن ) .
وقيل : كان البيت المعمور من الجنّة ، حُمل إلى الأرض لأجل آدم ج ، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان .
أخبرنا الحسين بن محمد ، قال : حدّثنا هارون بن محمد بن هارون ، قال : حدّثنا إبراهيم ابن الحسين بن دربل ، قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدّثني سفيان بن نسيط عن أبي محمد عن الزبير عن عائشة أنّ النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) قدم مكة فأرادت عائشة أن تدخل البيت يعني ليلا فقال لها بنو شيبة : أنّ أحداً لا يدخله ليلا ولكنا نخليه لك نهاراً ، فدخل عليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فشكت إليه أنّهم منعوها أن تدخل البيت ، فقال : ( إنّه ليس لأحد أن يدخل البيت ليلا ، إن هذه الكعبة بحيال البيت المعمور الذي في السماء ، يدخل ذاك المعمور سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه أبداً إلى يوم القيامة ، لو وقع حجر منه لوقع على ظهر الكعبة ، ولكن انطلقي أنتِ وصواحبك فصلّين في الحجر )
ففعلت فأصبحت وهي تقول : قد دخلت البيت على رغم من رغم .
وأخبرنا الحسين بن محمد ، قال : حدّثنا هارون بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن عبدالعزيز ، قال : حدّثنا كثير بن يحيى بن كثير ، قال : حدّثنا أبي عن عمر وعن الحسن في قوله سبحانه : ) والبيت المعمور ( قال : هو الكعبة البيت الحرام الذي هو معمور من الناس ، يعمره الله كلّ سنة ، أوّل مسجد وضع للعبادة في الأرض .
الطور : ( 5 ) والسقف المرفوع
) والسقف المرفوع ( يعني السماء ، سمّاها سقفاً ؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت ، دليله ونظيره قوله سبحانه : ) وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً ( .
الطور : ( 6 ) والبحر المسجور
) والبحر المسجور ( قال مجاهد والضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش : يعني الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور ، ومنه قيل للمسعر مسجر ، ودليل هذا التأويل ما
(9/124)

" صفحة رقم 125 "
روي أنّ النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يركبنّ البحر إلاّ حاجّ أو معتمر أو مجاهد في سبيل الله ، فإنّ تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً ، وتحت البحر ناراً .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( البحر نار في نار ) ، وروى سعيد بن المسيب أنّ علياً كرم الله وجهه قال لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ فقال : البحر . فقال : ما أراه إلاّ صادقاً ثم قرأ ) والبحر المسجور ( ) وإذا البحار سجرت ( مخفّفة .
وتفسير هذه الأخبار ما روي في الحديث : ( إنّ الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلّها ناراً فيسجر بها نار جهنم ) .
وقال قتادة : المسجور : المملوء . ابن كيسان : المجموع ماؤه بضعه إلى بعض ، ومنه قول لبيد :
فتوسّطا عرض السرى وصدّعا
مسجورة متجاور أقلامها
وقال النمر بن تولب :
إذا شاء طالع مسجورة
ترى حولها النبع والسماسما
وقال أبو العالية : هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب ، وفي رواية عطية وذي الرمّة الشاعر : أخبرنيه أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الحسن الدينوري . قال : حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة ، قال : حدّثنا أبو بكر عبدالله بن سليمان بن الاشعث ، قال : حدّثنا السدوسي أبو جعفر ، قال : حدّثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمّة عن ابن عباس ) والبحر المسجور ( الفارغ . قال : خرجت أَمة تسقي فرجعت فقالت : إنّ الحوض مسجور . تعني فارغاً .
قال ابن أبي داود : ليس لذي الرمّة حديث غير هذا .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المسجور : المحبوس ، وقال الربيع بن أنس : المختلط العذب بالملح .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا مخلد بن جعفر ، قال : حدّثنا الحسن بن علوية ، قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدّثنا إسحاق بن بسر ، قال : أخبرني جويبر عن الضحاك ، ومقاتل بن سليمان عن الضحاك عن النزال بن سبرة ، عن علي بن أبي طالب أنّه قال في البحر المسجور : ( هو بحر تحت العرش ، غمره كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين ، وهو ماء
(9/125)

" صفحة رقم 126 "
غليظ يقال له : بحر الحيوان ، يمطر العباد بعد النفخة الأُولى أربعين صباحاً فينبتون من قبورهم ) .
الطور : ( 7 - 8 ) إن عذاب ربك . . . . .
) إن عذاب ربك لواقع ( نازل ) ماله من دافع ( مانع .
قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله في أسارى بدر ( فذهبت ) إليه وهو يصلّي بأصحابه المغرب ، وصوته يخرج من المسجد ، فسمعته يقرأ ) والطور ( إلى قوله : ) إنّ عذاب ربّك لواقع ماله من دافع ( فكأنما صدع قلبي ، وكان أوّل ما دخل قلبي الإسلام ، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب ، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب .
وأخبرني أبو عبدالله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك ، قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، قال : أخبرت عن ( محمد ) بن الحرث المكي ، عن عبدالله بن رجاء المكي ، عن هشام بن حسان ، قال : انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن فانتهينا إليه وعنده رجل يقرأ ، فلمّا بلغ هذه الآية ) إن عذاب ربّك لواقع ماله من دافع ( بكى الحسن وبكى أصحابه ، وجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه .
( ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ( 2
الطور : ( 9 ) يوم تمور السماء . . . . .
) يوم تمور السماء مَوْراً ( أي تدور كدوران الرحى ، وتتكفّأ بأهلها تكفّأ السفينة ، ويموج بعضها في بعض .
واختلفت عبارات المفسرين فيها : قال ابن عباس : تدور دوراناً . قتادة : تتحرك . الضحاك : تحرك . عطاء الخراساني : تختلف إحداها بعضها في بعض . قطرب : تضطرب . عطية : تختلف . المؤرخ : يتحول بعضهم تحولا . الأخفش : تتكفّأ ، وكلّها متقاربة .
(9/126)

" صفحة رقم 127 "
وأصل المَوْر الاختلاف والاضطراب ، قال رؤبة :
مسودّة الأعضاد من وشم العرق
مائرة الضبعين مصلات العنق
أي مضطربة العضدين .
الطور : ( 10 ) وتسير الجبال سيرا
) وتسير الجبال سيراً ( فتزول عن أماكنها وتصير هباءً منبثّاً .
الطور : ( 11 ) فويل يومئذ للمكذبين
) فويل يومئذ للمكذّبين ( وإنّما أدخل الفاء في قوله ) فويل ( ؛ لأن في الكلام معنى المجاراة مجازه : إذا كان هذا فويل يومئذ للمكذبين .
الطور : ( 12 ) الذين هم في . . . . .
) الذين هم في خوض ( باطل ) يلعبون ( غافلين جاهلين ساهين لاهين .
الطور : ( 13 ) يوم يدعون إلى . . . . .
) يوم يُدَعّوُن ( يُدفعون ) إلى نار جهنم دعّاً ( دفعاً ويُزعجون إليها إزعاجاً ، وذلك أنّ خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم ، وتجافى أقفيتهم حتى يردوا النار .
وقرأ أبو رجاء العطاردي ) يوم يُدعَوْن إلى النار دعاءً ( بالتخفيف من الدعاء . قالوا : فاذا دَنَوْا من النار قالت لهم الخزنة :
الطور : ( 14 - 15 ) هذه النار التي . . . . .
( 2 هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون 2 )
الطور : ( 16 - 18 ) اصلوها فاصبروا أو . . . . .
) اصلوها ( ادخلوها ) فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون إنّ المتقين في جنات ونعيم فاكهين ( ذوي فاكهة كثيرة ، وفكهين : معجبين ناعمين .
) بما آتاهم ربهم ووقاهم ربّهم عذاب الجحيم ( ثم يقال لهم :
الطور : ( 19 - 20 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
) وكلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة ( قد صفّ بعضها إلى بعض ، وقوبل بعضها ببعض ) وزوجناهم بحور عين (
الطور : ( 21 ) والذين آمنوا واتبعتهم . . . . .
) والذين آمنوا واتّبَعتْهم ( قرأ أبو عمرو ( وأتبعناهم ) بالنون والألف ( ذرياتهم ) بالألف فيهما ، وكسر التائين لقوله : ) ألحقنا ( ) وما ألتناهم ( ليكون الكلام على نسق واحد ، وقرأ الآخرون ) واتّبَعتْهم ( بالتاء من غير ألف ثم اختلفوا في قوله : ) ذرّيّتهم ( ، وقرأ أهل المدينة الأُولى بغير ألف وضم التاء ، والثانية بالألف وكسر التاء ، وقرأ أهل الشام بالألف فيهما وكسر تاء الثانية ، وهو اختيار يعقوب وأبي حاتم ، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وفتح تاء الثانية ، وهو اختيار أبي عبيد .
واختلف المفسّرون في معنى الآية ، فقال قوم : معناها والذين آمنوا واتّبعتهم ذريّتهم التي بلغت الإيمان ) بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّتهم ( الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان ، وهو قول الضحّاك ورواية العوفي عن ابن عباس . فأخبر الله سبحانه وتعالى أنّه يجمع لعبده المؤمن ذرّيته في الجنة
(9/127)

" صفحة رقم 128 "
كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا له ، ويدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته ، بعمل الأب من غير أن ينقص الآباء من أجور أعمالهم شيئاً فذلك قوله سبحانه : ) وما ألتناهم من عملهم من شيء ( يعني الآباء ، والهاء والميم راجعان إلى قوله : ) والذين آمنوا ( ، والألت : النقص والبخس .
أخبرني الحسن بن محمد بن عبدالله الحديثي ، قال : حدّثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي قال : حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا جنادة بن المفلس ، قال : حدّثنا قيس بن الربيع ، قال : حدّثنا عمرو بن المسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه ) ثم قرأ ) والذين آمنوا واتّبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ( قال : ( ما نقصنا الآباء بما أعطينا ( البنين ) ) .
وأخبرنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسن الهمداني ، قال : حدّثنا أبو عبدالله عمر بن نصر البغدادي ببردعة ، قال : حدّثنا محمد بن عبدالرَّحْمن بن غزوان ، قال : حدّثنا شريك بن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : أظنّه ذكره عن النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة فسأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنّهم لم يدركوا ما أدركت ، فيقول : عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به ) وتلا ابن عباس : ) والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم ( .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال : سألتْ خديجة النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) عن ولدين ماتا في الجاهلية ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هما في النار ) قال : فلمّا رأى الكراهية في وجهها قال : ( لو رأيت مكانهما لأبغضتِهما ) قالت : يا رسول الله فولداي منك ؟
قال : ( في الجنة ) .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار ) ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم
(9/128)

" صفحة رقم 129 "
ذريّاتهم ( ) كلّ امرئ بما كسب ( من الخير والشر ) رهين ( مرهون فيؤخذ بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره .
الطور : ( 22 ) وأمددناهم بفاكهة ولحم . . . . .
) وأمددناهم ( وأعطيناهم ) بفاكهة ولحم ممّا يشتهون ( من أنواع اللحمان
الطور : ( 23 ) يتنازعون فيها كأسا . . . . .
) يتنازعون ( يتعاطون فيتناولون ويتداولون ) فيها كأساً ( إناءً فيها خمر ) لا لغو فيها ( وهو الباطل . عن قتادة . مقاتل بن حيان : لا فضول فيها . سعيد بن المسيّب : لا رفث فيها . ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها . القتيبي : لا يذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا ، وقال ابن عطاء : أي لغو يكون في مجلس محلّه جنة عدن ، والساقي فيه الملائكة ، وشربهم على ذكر الله ، وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة ، والقوم أضياف الله ) ولا تأثيم ( أي فعل يؤثمهم ، وهو تفعيل من الإثم ، يعني : إنّهم لا يأثمون في شربها .
وقال ابن عباس : يعني ولا كذب ، وقال الضحّاك : يعني لا يكذب بعضهم بعضاً .
الطور : ( 24 ) ويطوف عليهم غلمان . . . . .
) ويطوف عليهم ( بالخدمة ) غلمان لهم كأنهم ( من بياضهم وصفاء لونهم ) لؤلؤ مكنون ( مخزون مصون ، قال سعيد بن جبير : يعني في الصدف .
أخبرني الحسن بن محمد ، قال : حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن خنيس ، قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن عصام ، قال : حدّثنا عمر بن عبدالعزيز المصري ، قال : حدّثنا يوسف بن أبي طيبة عن وكيع بن الجراح عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة خ قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف ، يناديه كلّهم : لبيك ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو علي المقرئ ، قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا هاني بن المسري ، قال : حدّثنا عبيده بن سعيد عن قتادة بن عبدالله بن عمر قال : ما من أحد من أهل الجنة إلاّ سعى له ألف غلام ، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبدالله بن إبراهيم بن أيوب المنوي قال : حدّثنا الحسن ابن الكميت الموصلي قال : حدّثنا المعلى بن مهدي ، قال : أخبرنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنّه كان إذا تلا هذه الآية ) يطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون ( قالوا : يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف بالمخدوم ؟ قال ( ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب ) .
(9/129)

" صفحة رقم 130 "
2 ( ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِىأَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( 2
الطور : ( 25 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( يسأل بعضهم بعضاً قال ابن عباس : إذا بعثوا من قبورهم ، وقال غيره : في الجنة وهو الأصوب لقوله سبحانه
الطور : ( 26 ) قالوا إنا كنا . . . . .
) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ( خائفين من عذاب الله
الطور : ( 27 ) فمن الله علينا . . . . .
) فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السَّموم ( قال الحسن : السَّموم : اسم من أسماء جهنم .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك ، قال : حدّثنا عبدالله ، قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أنس بن عياض ، قال : حدّثني شيبة بن نصاح عن القاسم بن محمد قال : غدوت يوماً وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة خ أُسلّم عليها ، فوجدتها ذات يوم تصلّي السبحة وهي تقرأ ) فمنّ الله علينا و وقانا عذاب السموم ( وتردّدها وتبكي ، فقمت حتى مللت ثم ذهبت إلى السوق بحاجتي ثم رجعت فإذا هي تقرأ وترددها وتبكي وتدعو .
الطور : ( 28 ) إنا كنا من . . . . .
) إنّا كنّا من قبل ( في الدنيا ) ندعوه ( نخلص له العبادة ) إنّه ( قرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي بفتح الألف ، أي لأنّه ، وهو اختيار أبي حاتم ، وقرأ الآخرون بالكسر على الابتداء ، وهو اختيار أبي عبيدة ) هو البَرّ ( قال ابن عباس : اللطيف ، وقال الضحاك : الصادق فيما وعد ) الرحيم 2 )
الطور : ( 29 ) فذكر فما أنت . . . . .
) فذكِّرْ ( يا محمد ) فما أنت بنعمة ربّك ( أي برحمته وعصمته ) بكاهن ( يبتدع القول ويخبر بما في غد من غير وحي ، والكاهن : الذي يقول : إنّ معي قريناً من الجن .
(9/130)

" صفحة رقم 131 "
) ولا مجنون ( نزلت هذه الآية في الخرّاصين الذين اقتسموا عقاب مكة ، يصدون الناس عن الإيمان ، ويرمون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالكهانة والجنون والسحر والشعر . فذلك قوله سبحانه :
الطور : ( 30 ) أم يقولون شاعر . . . . .
) أم يقولون ( يعني هؤلاء المقتسمين الخرّاصين ) شاعر نتربّص به ريب المنون ( حوادث الدهر فيكفينا أمره بموت أو حادثة متلفة فيموت ويتفرق أصحابه ، وذلك أنهم قالوا : ننتظر به ملك الموت فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة وفلان وفلان ، إنّما هو كأحدهم ، وإنّ أباه توفي شاباً ، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه .
والمنون يكون بمعنى الدهر ، ويكون بمعنى الموت ، سمّيا بذلك لأنّهما ينقصان ويقطعان الأجل ، قال الأخفش : لأنّهما يمنيان قوى الانسان ومنيه أي ينقصان ، وأنشد ابن عباس :
تربّص بها ريب المنون لعلّها
تطلّق يوما أو يموت حليلها
الطور : ( 31 ) قل تربصوا فإني . . . . .
) قل تربّصوا فإني من المتربصين ( حتى يأتي أمر الله فيكم .
الطور : ( 32 ) أم تأمرهم أحلامهم . . . . .
) أم تأمرهم أحلامهم ( عقولهم ) بهذا ( وأنّهم كانوا يُعدون في الجاهلية أهل الاحلام ويوصَفون بالعقل ، وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله سبحانه بالعقول ؟ . فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق . ) أم هم ( بل هم ) قوم طاغون ( .
الطور : ( 33 ) أم يقولون تقوله . . . . .
) أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون ( استكباراً .
الطور : ( 34 ) فليأتوا بحديث مثله . . . . .
) فليأتوا بحديث مثله ( أي مثل هذا القرآن يشبهه ) إن كانوا صادقين ( أنّ محمداً تقوّله من تلقاء نفسه ، فإنّ اللسان لسانهم ، وهم مستوون في البشرية واللغة والقوة .
الطور : ( 35 ) أم خلقوا من . . . . .
) أم خُلقوا من غير شيء ( قال ابن عباس : من غير ربّ ، وقيل : من غير أب ولا أم ، فهم كالجماد لا يعقلون ، ولا يقوم لله عليهم حجة ، أليسوا خلقوا من نطفة ثم علقة ثم مضغة ؟ قاله ابن عطاء ، وقال ابن كيسان : أم خُلقوا عبثاً وتركوا سُدىً لا يؤمرون ولا يُنهون ، وهذا كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء يعني لغير شيء . ) أم هم الخالقون ( لأنفسهم .
الطور : ( 36 - 37 ) أم خلقوا السماوات . . . . .
) أم خلقوا السماواتِ والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربّك ( قال ابن عباس : المطر والرزق ، وقال عكرمة : يعني النبوّة ، وقيل : علم ما يكون ) أم هم المسيطرون ( المسلطون الجبّارون . قاله أكثر المفسّرين ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس ، وقال عطاء : أرباب قاهرون ، وقال أبو عبيدة : يقال : خولاً تسيطرت عليّ : اتّخذتني ، وروى العوفي عن ابن عباس : أم هم المنزلون
(9/131)

" صفحة رقم 132 "
الطور : ( 38 ) أم لهم سلم . . . . .
) أم لهم سُلّم ( ( يدّعون أن لهم ) مصعداً ومرقاة يرتقون به إلى السماء ) يستمعون فيه ( الوحي فيدّعون أنّهم سمعوا هناك أنّ الذي هم عليه حق ، فهم مستمسكون به لذلك . ) فليأت مستمعهم ( إن ادّعوا ذلك ) بسلطان مبين ( حجة بيّنة .
الطور : ( 40 ) أم تسألهم أجرا . . . . .
) أم تسألهم أجراً ( جعلاً على ما جئتهم به ودعوتهم إليه ) فهم من مغرم ( غرم ) مثقلون ( مجهودون .
الطور : ( 41 ) أم عندهم الغيب . . . . .
) أم عندهم الغيب ( أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أنّ ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب باطل غير كائن ، وقال قتادة : لمّا قالوا ) نتربص به ريب المنون ( أنزل الله سبحانه ) أم عندهم الغيب ( فهم يعلمون حتى بموت محمد ، وإلى ماذا يؤول أمره ؟ وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ) فهم يكتبون ( ما فيه ، ويخبرون الناس به ، وقال القتيبي ) فهم يكتبون ( أي يحكمون .
والكتاب : الحكم ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للرجلين اللذين تخاصما ( لأقضين بينكم بكتاب الله ) . أي بحكم الله .
الطور : ( 42 ) أم يريدون كيدا . . . . .
) أم يريدون كيداً ( مكراً في دار الندوة ) فالذين كفروا هم المكيدون ( الممكور بهم يعود الضرر عليهم ، ويحيق المكر بهم ، وكل ذلك أنّهم قتلوا ببدر .
الطور : ( 43 ) أم لهم إله . . . . .
) أم لهم إله غير الله سبحانه الله عمّا يشركون ( قال الخليل بن أحمد : ما في سورة الطور من ذكر ) أم ( كلّه استفهام وليس بعطف .
الطور : ( 44 ) وإن يروا كسفا . . . . .
) وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً ( كسفاً قطعة وقيل : قطعاً واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر ) من السماء ساقطاً ( ذكره على لفظ الكسف ) يقولوا ( بمعاندتهم وفرط غباوتهم ودرك شقاوتهم هذا ) سحاب مركوم ( موضوع بعضه على بعض .
هذا جواب لقولهم : ) فأسقط علينا كسفاً من السماء ( وقولهم : ) وأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ( فقال : لو فعلنا هذا لقالوا : سحاب مركوم .
الطور : ( 45 ) فذرهم حتى يلاقوا . . . . .
) فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ( أي يموتون ، وقرأ الاعمش وعاصم وابن عامر ) يُصعَقون ( بضم الياء وفتح العين ، أي يهلكون ، وقال الفرّاء : هما لغتان مثل سَعْد وسُعْد .
الطور : ( 46 - 47 ) يوم لا يغني . . . . .
) يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون وإنّ للذين ظلموا ( كفروا ) عذاباً دون ذلك ( قال البراء بن عازب : هو عذاب القبر ، وقال ابن عباس : هو القتل ببدر ، وقال مجاهد :
(9/132)

" صفحة رقم 133 "
الجوع والقحط سبع سنين ، وقال ابن زيد : المصايب التي تصيبهم من الاوجاع وذهاب الأموال والأولاد . ) ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ( إن العذاب نازل بهم .
الطور : ( 48 ) واصبر لحكم ربك . . . . .
) واصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا ( بمرأى ومنظر منا ) وسبّح بحمد ربّك حين تقوم ( قال أبو الأحوص عوف بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير : قل سبحانك اللّهم وبحمدك حين تقوم من مجلسك ، فإن كان المجلس خيراً ازددت احتساباً ، وإن كان غير ذلك كان كفارة له .
ودليل هذا التأويل ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب ، قال : حدّثنا ابن الحسن أحمد بن عيسى بن حمدون الناقد بطرطوس . قال : حدّثنا أبو أُمية ، قال : حدّثنا حجاج ، قال : حدّثنا ابن جريج ، قال : أخبرني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من جلس في مجلس كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم : ) سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلاّ انت أستغفرك وأتوب إليك ( غُفر له ما كان في مجلسه ذلك ) .
وقال ابن زيد : ( سبّح ) بأمر ربّك حين تقوم من منامك ، وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللّهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك : ولا إله غيرك ، وعن الضحاك أيضاً يعني : قل حين تقوم إلى الصلاة : ( الله أكبر كبير اً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا ) ، وقال الكلبي : يعني ذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة ، وقيل : هي صلاة الفجر .
الطور : ( 49 ) ومن الليل فسبحه . . . . .
) ومن الليل فسبحه ( أي وصلِّ له ، يعني صلاتي العشاء ، ) وإدبار النجوم ( .
قال علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك يعني : ركعتي الفجر .
انبأني عقيل ، قال : أخبرنا المقابي ، قال : أخبرنا ابن جرير ، قال : أخبرنا بسر قال : حدّثنا سعيد بن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال في ركعتي الفجر ( هما خير من الدنيا جميعاً ) .
وقال الضحاك وابن زيد : هي صلاة الصبح الفريضة .
قرأ سالم بن أبي الجعد ( وأدبار ) بفتح الألف ، ومثله روى زيد عن يعقوب يعني : بعد غروب النجوم .
(9/133)

" صفحة رقم 134 "
( سورة النجم )
مكية ، وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف ، وثلاثمائة وستون كلمة ، واثنتان وستون آية .
أخبرني أبو الحسن بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه ، قال : حدّثنا أبو محمد عبدالله بن أحمد بن جعفر ، قال : أخبرنا أبو عمرو الحيري وعمر بن عبدالله البصري ، قالا : حدّثنا محمد ابن عبدالوهاب قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة النجم أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمد ومن جحد به ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
2 ( ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاُْفُقِ الاَْعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 2
النجم : ( 1 ) والنجم إذا هوى
) والنجم إذا هوى ( قال ابن عباس في رواية الوالبي والعوفي ومجاهد برواية ابن أبي نجح : يعني والثريّا إذا سقطت وغابت ، والعرب تسمّي الثريّا نجماً ، وإن كانت في العدد نجوماً .
قال أبو بكر محمد بن الحسن الدربندي : هي سبعة أنجم ، ستة منها ظاهرة ، وواحد منها خفي ، يختبر الناس به أبصارهم ، ومنه قول العرب إذا طلع النجم عشاءً : ابتغى الراعي كساءً وعن مجاهد أيضاً : يعني نجوم السماء كلها حتى تغرب ، لفظه واحد ومعناه الجمع ، كقول الراعي :
فباتت تعدّ النجم في مستحيره
سريع بأيدي الآكلين جمودها
(9/134)

" صفحة رقم 135 "
وسمّي الكوكب نجماً لطلوعه ، وكلّ طالع نجم ، ويقال : نجمَ السر والقرب والندب إذا طلع .
وروى عكرمة عن ابن عباس أنّه الرجم من النجوم ، يعني ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع ، وقال الضحاك : يعني القرآن إذا نزل ثلاث آيات وأربع وسورة ، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة ، وهي رواية الأعمش عن مجاهد وحيان عن الكلبي ، والعرب تسمّي التفريق تنجيماً والمفرق نجوماً ومنه نجوم الدَّيْن .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن علي قال : حدّثني أبو حمزة الثمالي ) والنجم إذا هوى ( قال : يقال : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة ، وقال الأخفش هي النبت ، ومنه قوله : ) والنجم والشجر يسجدان ( وهويّه : سقوطه على الأرض ، لأنه ما ليس له ساق ، وقال جعفر الصادق : يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل من السماء ليلة المعراج .
فالهويّ : النزول والسقوط ، يقال : هوى يهوى هويّاً : مضى يمضي مضيّاً ، قال زهير :
يشج بها الأماعز وهي تهوي
هوي الدلو أسلمها الرشاء
وروى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا : كانت بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند عتبة بن أبي لهب فأراد الخروج إلى الشام فقال : الأبتر محمد فلأوذينّه في جابنتهج فأتاه فقال : يا محمد هو يكفر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ، ثم تفل في وجهه ورد عليه ابنته وطلّقها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك ) قال : وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة .
فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك ثم خرجوا إلى الشام ، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : هذه أرض مسبعة ، فقال أبو لهب لأصحابه : أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد ، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها وناموا حوله ، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة ، وأخذه فخدشه ، فقال : قتلني ومات مكانه . فقال في ذلك حسان بن ثابت :
سائل بني الأصغر إنْ جئتهم
ما كان أنباءُ أبي واسع
لا وسّع الله له قبره
بل ضيّق الله على القاطع
رمى رسول الله من بينهم
دون قريش رمية القاذع
(9/135)

" صفحة رقم 136 "
واستوجب الدعوة منه بما
بُيّن للنّاظر والسامع
فسلّط الله به كلبه
يمشي الهوينا مشية الخادع
حتى أتاه وسط أصحابه
وفد عليهم سمة الهاجع
فالتقم الرأس بيافوخه
والنحر منه قفرة الجائع
ثم علا بعدُ بأسنانه
منعفراً وسط دم ناقع
قد كان هذا لكمُ عبرة
للسيّد المتبوع والتابع
من يرجعِ العامَ إلى أهله
فما أكيل السبع بالراجع
النجم : ( 2 ) ما ضل صاحبكم . . . . .
) ما ضل صاحبكم ( محمد ) وما غوى ( وهذا جواب القسم .
النجم : ( 3 ) وما ينطق عن . . . . .
) وما ينطق عن الهوى ( أي بالهوى يعاقب بين عن وبين الباء ، فيقيم أحدهما مكان الآخر .
النجم : ( 4 ) إن هو إلا . . . . .
) إن هو ( ما ينطقه في الديّن ) إلاّ وحي يوحى ( إليه .
النجم : ( 5 ) علمه شديد القوى
) علّمه شديد القوى ( وهو جبريل .
النجم : ( 6 ) ذو مرة فاستوى
) ذو مِرّة ( قوة وشدّة ، ورجل ممرّ أي قوي ، قال الشاعر :
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه رجل مزير
وأصله من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله ، ومنه قول النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سويّ ) .
قال الكلبي : وكانت شدّته أنّه اقتلع قريات قوم لوط من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وكانت شدّته أيضاً أنّه أبصر إبليس وهو يكلّم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه في أقصى جبل بالهند ، وكانت شدّته أيضاً صيحته بثمود فأصبحوا جاثمين خامدين ، وكانت شدّته أيضاً هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف ، وقال قطرب : يقول العرب لكل حرك الرأي حصف العقل : ذو مرة ، قال الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّة
عندي لكل مخاصم ميزانه
(9/136)

" صفحة رقم 137 "
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله .
وقال ابن عباس : ذو مِرّة ، أي ذو منظر حسن ، وقال قتادة : ذو خَلق طويل حسن .
) فاستوى ( يعني جبريل
النجم : ( 7 ) وهو بالأفق الأعلى
) وهو ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه فيقولون : استوى هو وفلان ، ما يقولون : استوى وفلان ، وأنشد الفرّاء :
ألم تر أنّ النبع يصلب عوده
ولا يستوي والخروع المتقصف
والمعنى : لا يستوي هو والخروع .
ونظير هذه الآية قوله سبحانه : ) إذا كنّا تراباً وآباؤنا ( فعطف بالآباء على الكنى في ) كنّا ( من غير إظهار نحن ، ومعنى الآية : استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج ) بالأفق الأعلى ( وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس في السماء ، وقيل : استويا في القوة والصعود إلى السماء ، وقيل : استويا في العلم بالوحي ، وقال بعضهم : معنى الآية : استوى جبريل أي ارتفع وعلا في السماء بعد أن علّم محمداً ، عن سعيد بن المسيب ، وقيل : فاستوى أي قام في صورته التي خلقه الله سبحانه عليها ، وذلك أنه كان يأتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يريه نفسه على صورته التييُجبِلَ عليها ، وأراه نفسه مرّتين : مرة في الأرض ، ومرّة في السماء فأمّا في الأرض ففي الأُفق الأعلى ، وذلك أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب ، فخرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مغشياً عليه ، ونزل جبريل في صورة الآدميين وضمّه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه .
يدل عليه قوله سبحانه : ) ولقد رآه بالأُفق المبين ( ، وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاّ محمد المصطفى صلوات الله عليه .
النجم : ( 8 ) ثم دنا فتدلى
) ثم دنا فتدلّى ( اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال بعضهم : معناها ثم دنا جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض ، فتدلّى فنزل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالوحي وهوى عليه
النجم : ( 9 ) فكان قاب قوسين . . . . .
) فكان ( منه ) قاب قوسين أو أدنى ( أي : بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع .
قال أهل المعاني : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ثم تدلّى فدنا ؛ لأن التدلّي : الدنوّ ، ولكنه سامع حسن ؛ لأن التدلّي يدل على الدنوّ ، والدنو يدل على التدلّي ، وإنمّا تدلى للدنوّ ودنا للتدلّي ، وقال آخرون : معناه ثم دنا الرب سبحانه من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتدلّى فقرب منه حتى كان قاب
(9/137)

" صفحة رقم 138 "
قوسين أو أدنى ، وأصل التدلىّ : النزول إلى الشيء حتى يقرب منه ، فوضع موضع القرب ، قال لبيد :
فتدلّيت عليه قافلا
وعلى الأرض غيابات الطفل
وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس .
وأخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج البغدادي ، أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا الربيع قال : حدّثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال : سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة المسرى أنّه عرج جبريل برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماء السابعة ، ثم علا به بما لا يعلمه إلاّ الله ( عز وجل ) حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلّى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه ما شاء ، ودنوّ الله من العبد ودنوّ العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية ، لا بالمكان والمسافة والنقلة ، كقوله سبحانه : ) فإني قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعانِ ( .
وقال بعضهم : معناه : ثم دنا جبريل من ربّه عزّوجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى ، وهذا قول مجاهد ، يدلّ عليه ما روي في الحديث : ( إنه أقرب الملائكة من جبرائيل إلى الله سبحانه ) .
وقال الضحاك : ثم دنا محمد من ربّه عز وجل فتدلّى فأهوى للسجود ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى ، وقيل : ثم دنا محمد من ساق العرش فتدلّى ، أي : جاور الحجب والسرادقات ، لا نقلة مكان ، وهو قائم بإذن الله كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان ، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل .
ومعنى قوله ) قاب قوسين ( قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء ، والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء ، ونظيره من الكلام زير وزار . قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدينا وما فيها ) .
وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد ، فأخبر أنّ قرب جبرئيل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند الوحي كقرب قاب قوسين .
وقال أهل المعاني : هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة ، وأصله أنّ
(9/138)

" صفحة رقم 139 "
الحليفَين والمحبَّين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما والصفا بينهما يريدان بذلك أنّهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه .
وقيل : هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء ، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم ، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني : ) فكان قاب قوسين ( قدر ذراعين ، والقوس : الذراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض أهل الحجاز . ) أو أدنى ( بل أقرب .
وقال بعض : إنّما قال ) أو أدنى ( ؛ لأنه لم يردْ أن يجعل لذلك حدّاً محصوراً .
وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال : كيف أصف لكم مقاماً انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ولم يكن إلاّ محمد وربّه ؟ وقال الكسائي : ) فكان قاب قوسين ( أراد قوساً واحداً كقول الشاعر :
ومَهْمَهَيْنِ قَذَقَيْنِ مَرْتَيْنْ
قطعته بالسّمْتِ لا بالسّمْتَيْنْ
أراد مهمهاً واحداً .
وقال بعض أهل المعاني : معنى قوله : ) فتدلّى ( فتدلّل من الدلال كقولهم : ( تظني بمعنى تظنن ) وأملى وأملل بمعنى واحد .
النجم : ( 10 ) فأوحى إلى عبده . . . . .
) فأوحى ( يعني فأوحى الله سبحانه وتعالى ) إلى عبده ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما أوحى ( قال الحسن والربيع وابن زيد : معناه فأوحى جبريل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحى إليه ربّه ، قال سعيد : أوحى إليه ) ألم يجدك يتيماً ( إلى قوله ) ورفعنا لك ذكرك ( ، وقيل : أوحى إليه أن الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأُمم حتى تدخلها أُمّتك ، وسئل أبو الحسن الثوري عنه فقال : أوحى إليه سرّاً بسرّ من سرّ في سرّ وفي ذلك يقول القائل :
بين المحبين سر ليس يفشيه
قول ولا قلم للخلق يحكيه
سرُّ يمازجه أنس يقابله
نور تحيّر في بحر من التِّيه
النجم : ( 11 ) ما كذب الفؤاد . . . . .
) ما كذب الفؤاد ما رأى ( قرأ الحسن وأبو جعفر ( والحجدري ) وقتادة ( كذّب ) بتشديد الذال ، أي : ما كذّب قلب محمد ما رآى بعينه تلك الليلة ، بل صدّقه وحقّقه ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، أي ما كذب فؤاد محمد محمداً الذي رآى بل صدّقه ، ومجاز الآية : ما كذب الفؤاد فيما رأى ، فأسقط الصفة ، كقول الشاعر
(9/139)

" صفحة رقم 140 "
لو كنت صادقة الذي حدثتني
لنجوت منجى الحارث بن هشام
أي : في التي حدّثتني ، وقال بندار بن الحسن : الفؤاد وعاء القلب فيما ارتاب الفؤاد فيما أرى الأصل وهو القلب .
واختلفوا في الذي رآه . فقال قوم : رأى جبريل ، وإليه ذهب ابن مسعود ، وقال آخرون : هو الله سبحانه ، ثم اختلفوا في معنى الرؤية ، فقال بعضهم : جعل بصرهُ في فؤاده ، فرآه في فؤاده ولم يره بعينه ، وقال قوم : بل رآه بعينه .
ذكر من قال : إنّه رآه بعينه
أخبرني الحسن بن الحسين قال : حدّثنا الفضل بن الفضل ، قال : حدّثنا أبو يعلى محمد بن زهير الإبلي ، قال : حدّثنا بن نحويه ، قال : حدّثنا سلمة ، قال : حدّثنا عبدالرزاق ، قال : حدّثنا ابن التيمي عن المبرك بن فضالة ، قال : كان الحسن يحلف بالله عز وجل لقد رأى محمد ربّه .
وانبأني عقيل بن محمد قال : أخبرنا المعافي بن زكريا قال : حدّثنا محمد بن جرير قال : حدّثنا ابن حميد قال : حدّثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عمّن سمع ابن عباس يقول : ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( قال : رأى محمد ربّه .
وبإسناده عن ابن حميد قال : حدّثنا يحيى بن واضح قال : حدّثنا عيسى بن عبيد سمعت عكرمة و ( قد ) سئل : هل رأى محمد ربّه ؟ فقال : نعم ، قد رأى ربّه .
وبه عن ابن حميد قال : حدّثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( قال : رأى ربّه عز وجل .
ذكر من قال : لم يره
أخبرنا أبو عبيدالله الحسين بن محمد الحافظ بقراءتي عليه في داري قال : حدّثنا موسى ابن محمد بن علي ، قال : حدّثنا إبراهيم بن زهير ، قال : حدّثنا مكي بن إبراهيم ، قال : حدّثنا موسى بن عبيده عن محمد بن كعب قال : قال بعض أصحاب رسول الله : يا رسول الله ، أرأيت ربّك ؟ قال : ( رأيته مرّتين ، بفؤادي ولم أره بعيني ) ثم تلا هذه الآية ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( ومثله روي عن ابن الحنفية عن أبيه ، وأبو العالية عن ابن عباس .
وأخبرني الحسن ، قال : حدّثنا أبو القاسم عن بن محمد بن عبدالله بن حاتم الترمذي
(9/140)

" صفحة رقم 141 "
قال : حدّثنا جدي لأمي محمد بن عبدالله بن مرزوق ، قال : حدّثنا عفان بن مسلم قال : حدّثنا همان بن عبدالله بن شفيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسألته ، قال : وعما كنت تسأله ؟ قلت : كنت أسأله : هل رأى ربّه عز وجل ؟ قال : فإني قد سألته فقال : ( قد رأيت نوراً ، أنى أراه ؟ ) .
وكذلك روي عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( قال : ( رأيت نوراً ) ، ومثله روى مجاهد وعكرمه عن ابن عباس .
وقد ورد في هذا الباب حديث جامع وهو ما أخبرني الحسين بن الحسن ، قال : حدّثنا ابن حبش ، قال : أخبرنا علي بن زنجويه ، قال : حدّثنا سلمة بن عبدالرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة عن مجالد عن سعيد عن الشعبي عن عبدالله بن الحرث قال : اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس : أمّا نحن بنو هاشم فنقول : إنّ محمداً رأى ربّه مرتين ، وقال ابن عباس يحبّون أن تكون الخِلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد . قال : فكبّر كعب حتى جاوبته الجبال ، ثم قال : إن الله سبحانه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ج ، فكلّمه موسى ورآه محمد .
قال مجالد : وقال الشعبي : فأخبرني مسروق أنّه قال لعائشة خ : يا أمتاه ، هل رأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ربّه تعالى قط ؟ ، قالت : إنك لتقول قولاً ، إنّه ليقف منه شعري ، قال : قلت : رويداً فقرأت عليها : ) والنجم إذا هوى ( حتى ) قاب قوسين أو أدنى ( . فقالت : رويداً ، أين يُذهب بك ؟ إنّما رأى جبريل في صورته . من حدّثك أن محمداً رأى ربّه فقد كذب ، والله عز وجل يقول : ) لا تدركه الأبصار ( ، ومن حدّثك أنّه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب ، والله سبحانه يقول : ) إن الله عنده علم الساعة ( الآية ، ومن حدّثك أنّ محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد كذب ، والله عز وجلّ يقول : ) بلّغ ما أُنزل إليك من ربك ( الآية .
قال عبدالرزاق : فذكرت هذا الحديث لعمر ، فقال : ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس .
النجم : ( 12 ) أفتمارونه على ما . . . . .
) أفتمارونه على ما يرى ( أي : رأى .
قرأ علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة ومسروق والنخعي وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب ) أفتَمراونه ( بفتح الباء من غير ألف على معنى أفتجحدونه ، واختاره أبو عبيد ، قال : لأنهم لم يماروه وإنّما يجحدونه ، يقول العرب : مريت الرجل حقّه إذا جحدته . قال الشاعر :
لئن هجرتَ أخا صدق ومكرمة
لقد مريتَ أخاً ما كان يمريكا
(9/141)

" صفحة رقم 142 "
أي جحدته .
وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مسرف ) أفتمُراونه ( بضم التاء بلا ألف ، أي تريبونه وتشككونه ، وقرأ الباقون ) أفتُمارونه ( بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه ، وهو اختيار أبي حاتم ، وفي الحديث ( لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر ) .
2 ( ) وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاُْخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُْنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ( 2
النجم : ( 13 ) ولقد رآه نزلة . . . . .
) ولقد رآه نزلة اخرى ( مرة أخرى ، فسمّاها نزلة على الاستعارة ، وذلك أنّ جبريل رآه النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) على صورته التي خلق عليها مرتين : مرة بالأُفق الأعلى في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى في السماء ، وهذا قول عائشة وأكثر العلماء وهو الاختيار ، لأنه قرن الرؤية بالمكان فقال
النجم : ( 14 ) عند سدرة المنتهى
) عند سدرة المنتهى ( ، ولأنه قال : ) نزلة أُخرى ( وتقديرها : ولقد رآه نازلا نزلة أُخرى ، ووصف الله سبحانه بالمكان والنزول الذي هو الانتقال محال ؛ ولأنه قال : ) نزلة أُخرى ( ولم يروَ في الحديث أنّه ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربّه عزّوجل قبل ليلة المعراج فيراه تلك الليلة مرة أُخرى ، يدل عليها ما أخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير عن محمد بن المثنى قال : حدّثنا عبدالوهاب الثقفي . قال : حدّثنا داود بن عامر عن مسروق أن عائشة خ قالت : من زعم أنّ محمداً رآى ربّه فقد أعظم الفرية على الله .
قال : وكنت متكئاً فجلست فقلت : يا أُم المؤمنين ، أنظريني ولا تعجلي ، أرأيت قول الله سبحانه ) ولقد رآه نزلة أخرى ( ) ولقد رآه بالأفق المبين ( . قالت : إنّما هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين : مرة حين هبط من السماء إلى الأرض سادّاً أعظم حلقة ما بين السماء إلى الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى . قالت : وأنا أوّل من سأل النبي ( عن هذه الآية فقال : ( هو جبريل ) .
النجم : ( 15 ) عندها جنة المأوى
) عند سدرة المنتهى ( ( عند ) صلة من قوله : ) رآه ( والسدرة : شجرة النبق ، وقيل لها سدرة المنتهى ؛ لأنه إليها ينتهي علم كل عالم .
وقال هلال بن سياف : سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب :
(9/142)

" صفحة رقم 143 "
إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش ، وإليها ينتهي علم الخلائق ، وما خلفها غيب لا يعلمه إلاّ الله سبحانه .
وقال ابن مسعود : سمّيت بذلك ؛ لأنّه ينتهى إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله سبحانه وتعالى إذا انتهى من يصعد إليها من الأرض قبض منها ، وقيل : لأنّه ينتهى إليها ما عرج من أرواح المؤمنين ، وقيل : لأنّه ينتهي إليها كل من مات على سنّة رسول الله ( ومنهاجه .
روى الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة قال : لمّا أُسري بالنبي ( انتهى إلى السدرة ، فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك ، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن إلى قوله : مصفى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلّها سبعين عاماً لا يقطعها ، والورقة منها مغطّية الأُمة كلها .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا بن شيبة ، قال : حدّثنا التنوخي قال : حدّثنا عبيد بن يعيش ، قال : حدّثنا يونس بن بكير ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبدالله ابن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قال : سمعت النبي ( يذكر سدرة المنتهى قال : ( يسير الراكب في ظلّ الفنن منها مائة عام ، ويستظلّ في الفنن منها مائة راكب . فيها فراش من ذهب ، كأنّ ثمارها القلال ) .
وقال مقاتل : هي شجرة لو أنّ ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت لأهل الأرض ، تحمل الحليّ والحلل والثمار من جميع الألوان ، ولو أنّ رجلا ركب حقّةً فطاف على ساقها ما بلغ المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم ، وهي طوى التي ذكرها الله سبحانه في سورة الرعد ، وقد تقصيت وصفها في قصة المسرى .
) عندها جنّة المأوى }
النجم : ( 16 ) إذ يغشى السدرة . . . . .
) إذ يغشى السدرة ما يغشى ( قال ابن مسعود وأصحابه : فراش من ذهب ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، ورفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
قال الحسن : غشيها نور ربّ العزة فاستنارت ، وقيل : الملائكة ، ويروى أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( رأيت على كلّ ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبّح الله عزّ وجل ) ، وروى الربيع عن أبي هريرة أو غيره قال : لمّا أُسري بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) انتهى إلى السدرة ، قال : فغشيها نور الخلائق وغشيها الملائكة من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجر .
قال : فكلّمه عند ذلك وقال له : سل
(9/143)

" صفحة رقم 144 "
وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( فغشيها رفرف من طير خضر ) .
قال السدي : من الطيور فوقها ، وروى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( انتهيت إلى السدرة وأنا لأعرف أنّها سدرة ، أعرف ورقها وثمرها ، وإذا ينعها مثل الجرار ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة . فلمّا غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتاً وزمرداً حتى ما يستطيع أحد يصفها ، عندها جنة المأوى ) .
قال ابن عباس : هي يمين العرش ، وهي منزلة الشهداء ، نظيره ) فلهم جنات المأوى ( وأخبرنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا أبوعبدالله عمر بن أحمد بن محمد بن الحرث القضباني . قال : حدّثنا علي بن العباس المقانعي ، قال : حدّثنا ميمون بن الأصبع ، قال : حدّثنا يحيى بن صالح الوحاطي قال : حدّثنا محمد بن سليمان بن حمزة البصري ، قال : حدّثنا عبدالله بن أبي قيس ، قال سمعت عبدالله بن الزبير يقرأ هذه الآية ) عندها جنه ( بالهاء ) المأوى ( يعني جنّه المبيت ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد ، قال : حدّثني أبو صدقَة قال : حدّثنا أبو الأسباط قال : حدّثنا عبدالرَّحْمن عن علي بن القاسم الكندي عن موسى بن عبيدة ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقرأ ) جنّه المأوى ( وقال مجاهد : يريد أجنّه ، والهاء في هذه القراءة كناية عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
قال أبو حاتم : وهي قراءة علي وأنس يعني ستره ، وقال الأخفش : أدركه .
النجم : ( 17 ) ما زاغ البصر . . . . .
) ما زاغ البصر وما طغى ( أي : ما جاور ما أمر به ، ولا مال عمّا قصد له .
النجم : ( 18 ) لقد رأى من . . . . .
) لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ( أي الآية الكبرى .
قال ابن مسعود : رآى رفرفاً أخضر من الجنة قد سدّ الأُفق ، وقال الضحاك : سدرة المنتهى ، وقال عبدالرَّحْمن بن يزيد ومقاتل بن حيان : رأى جبريل في صورته التي تكون في السماوات ، وقيل : المعراج ، وما أُري تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه . دليله قوله سبحانه ) لنريه من آياتنا الكبرى ( .
النجم : ( 19 ) أفرأيتم اللات والعزى
) أفرأيتم اللات ( قراءة العامة بتخفيف التاء ، وهي من ( الله ) ألحقت بها التاء فاثبت . كما قيل : عمر للذكر ، ثم قيل : للانثى عمرة ، وكما قيل عباس وعباسة ، وكذلك سمّى المشركون أوثانهم بأسماء الله فقالوا : من الله ( اللات ) ، ومن العزيز ( العزّى ) .
(9/144)

" صفحة رقم 145 "
قال قتادة : أمّا اللات فكانت بالطائف . ابن زيد : اللات بيت بنخلة كانت قريش تعبده .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح اللات بتشديد التاء ، وقالوا : كان رجلا يلتّ السويق للحاج ، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه ، وروى السدي عن أبي صالح أنّه كان بالطائف ، وكان يقوم على آلهتهم ويلتّ لهم السويق ، فلمّا مات عبدوه .
وقال مجاهد : كان رجلا في رأس جبل له غنم يسلى منهاالسمن ، ويأخذ منها الأقط ، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها ( حيساً ) فيطعم الحاج ، وكان ببطن نخلة ، فلما مات عبدوه ، وهو اللات ، وقال الكلبي : كان رجلا من ثقيف يقال له : ( صرمة ) بن غنم كان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلتّ به سيوفهم ، فلمّا مات الرجل ( اخذت ) ثقيف الصخرة إلى منازلها فعبدتها فمدرة الطائف على وضع اللات .
) والعزّى ( اختلفوا فيها فقال مجاهد : هي شجرة لغطفان يعبدونها ، وهي التي بعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها ، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
فخرجت منها شيطانة ، ناشرة شعرها داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ، ويقال : إن خالداً رجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قد قطعتها ، فقال : ( ما رأيت ؟ ) ، قال : لم أر شيئاً ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما قطعت ) . فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثّ أصلها ، فخرجت جمنهاج امرأة عريانة فقتلها ، ثم رجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بذلك فقال : ( تلك العزى ولن تعبد أبداً ) .
وقال الضحاك : وهي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني ، وذلك أنّه قدم مكة فرأى الصفا والمروة ، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما ، فعاد إلى ( بطن نخلة ) وقال لقومه : إنّ لأهل مكة الصفا والمروة وليست لكم ، ولهم اله يعبدونه وليس لكم ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : أنا أصنع لكم كذلك ، فأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة فنقلهما إلى بطن نخلة ، فوضع الذي من الصفا ، فقال : هذا الصفا ، ثم وضع الذي أخذ من المروة ، فقال : هذه المروة ، ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة وقال : هذا رُبّكم ، فجعلوا يطوفون بين الحجرين وعبدون
(9/145)

" صفحة رقم 146 "
الحجارة حتى افتتح رسول الله مكة فأمر برفع الحجارة ، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعهما ، وقال ابن زيد : هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف .
النجم : ( 20 ) ومناة الثالثة الأخرى
) ومناة ( قرأ ابن كثير بالمد ، ومثله روى الشموني عن أبي بكر عن عاصم وأنشد :
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة
على الشنئ فيما بيننا ابن تميم
والباقون بالقصر .
قال قتادة : هي حجارة كانت تعبد . ابن زيد : بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب . الضحاك : مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة ، وقيل : إن اشتقاقه من ناءَ النجم ينوء نوءاً ، وقال بعضهم : اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها .
واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة ، فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء ، وقال بعضهم : كل شيء في القرآن مكتوب بالتاء فإنه يوقف عليه بالتاء نحو ) نعمة ربّك ( و ) شجرة الزقّوم ( ونحوهما ، وما كان منها مكتوباً بالهاء فالوقف عليه بالهاء ، وقال بعضهم : الاختيار في كل ما لم يضف ان يكون بالهاء ، نحو ) رحمة من ربي ( و ) شجرة تخرج ( وما كان مضافاً فجائز بالهاء والتاء ، فالتاء للأضافة والهاء لأنه تفرد دون التاء .
وأما قوله سبحانه ) الثالثة الأُخرى ( قال : العرب لا تقول للثالثة أُخرى وأنّما الأخرى نعت للثانية ، واختلفوا في وجهها فقال الخليل : إنّما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله : ) مآرب أخرى ( ولم يقل : أُخَر ، وقال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير ، مجازها : أفرأيتم اللات والعزى الاخرى ومناة الثالثة ، ومعنى الآية : أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله .
النجم : ( 21 - 22 ) ألكم الذكر وله . . . . .
) ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى ( روى القواس والبزي عن ابن كثير بالهمز . الباقون بغير همز ، وقال ابن عباس وقتادة : يعني قسمة جائرة حيث جعلتم لربّكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم . مجاهد ومقاتل : عوجاً . الحسن : غير معتدلة . ابن سيرين : غير مستوية أن يكون لهم الذكور ولله الإناث . الضحاك : ناقصة . سفيان منقوصة . ابن زيد : مخالفة .
قال الكسائي : يقال فيه : ضاز يضيز ضيزاً . ضاز يضوز ضوزاً . ضاز يضاز ضأزاً إذا ظلم ونقص . قال الشاعر :
ضازت بنو أسد بحكمهم
إذ يجعلون الرأس كالذَّنَبِ
(9/146)

" صفحة رقم 147 "
وأنشد الأخفش :
فإن تَنأَ عنا ننتقصْك وإن تغبْ
فسهمك مضئوز وأنفك راغم
وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء ؛ لأنها صفة من الصفات ، والصفات لا تكون إلاّ ( فُعلى ) بضم الفاء ، نحو : حُبلى وأُنثى ويُسرى ، أو ( فَعلى ) بفتح الفاء نحو : غَضبى وسَكرى وعَطشى ، وليس في كلام العرب ( فعِلى ) بكسر الفاء في النعوت ، إنّما يكون في الأسماء نحو : دفرى ، وذكرى وشعرى . قال المؤرخ : كرهوا ضم الضاد وخافوا انقلاب الياء واواً وهو من بنات الياء فكسروا الضاد لهذه العلّة ، كما قالوا في جمع أبيض : بيض ، والأصل بوض مثل : حمر وصفر ، وأما من قال : ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى .
النجم : ( 23 ) إن هي إلا . . . . .
) إن هي ( يعني هذه الأوثان ) إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون ( قرأ العامة بالياء ، وقرأ عيسى بالتاء ) إلاّ الظن ( في قولهم : إنّها آلهة وإنّها شفعاؤهم ) وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( لبيان أنّها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاّ لله الواحد القهار .
2 ( ) أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاَْخِرَةُ والاُْولَى وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الاُْنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاَْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( 2
النجم : ( 24 ) أم للإنسان ما . . . . .
) أم للإنسان ما تمنّى ( اشتهى ، وهم الكفار وزعموا أن الأصنام تشفع لهم عند الله ، يعني : أتظنون أنّ لهم ما يتمنون من شفاعة الأصنام ، ليس كما ظنوا أو تمنوا ، بل لله الآخرة والأُولى ، يعني الدنيا ، يعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء ، لا ما تمنّى الانسان واشتهى ، وهذا كقوله : ) أإله مع الله ( أي لا إله مع الله ، وقال ابن زيد : إنْ كان محمد تمنّى شيئاً فأعطاه الله ذلك فلا تنكروه .
النجم : ( 25 ) فلله الآخرة والأولى
) فلله الآخرة والأولى ( يعطي من يشاء ما يشاء ، ويحرم من يشاء ما يشاء .
النجم : ( 26 ) وكم من ملك . . . . .
) وكم من ملك في السماوات ( ممن يعبدونهم هؤلاء الكفار ويزعمون أنهم بنات الله
(9/147)

" صفحة رقم 148 "
ويرجون شفاعتهم عند الله . ) لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ( قال الاخفش : الملك موحّد ومعناه الجمع ، وهو مثل قوله : ) فما منكم من أحد عنه حاجزين ( .
النجم : ( 27 ) إن الذين لا . . . . .
) إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية ( أي كتسمية أو بتسمية ) الأنثى }
النجم : ( 28 ) وما لهم به . . . . .
) وما لهم ( وذلك حين قالوا : إنهم بنات الله سبحانه ، تعالى الله عن افترائهم ) به من علم إنْ يتّبعون إلاّ الظنّ وأن الظنّ لا يغني عن الحق ( أي من العذاب ) شيئاً ( نظيره ) ما ننزل من الملائكة إلاّ بالحق ( . يعني أنها لا تشفع لهم ، وأن ظنهم لا ينقذهم من العذاب .
النجم : ( 29 ) فأعرض عن من . . . . .
) فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ( يعني القرآن ، وقيل : الإيمان ، وقيل محمد ( صلى الله عليه وسلم )
) ولم يرد إلاّ الحياة الدنيا }
النجم : ( 30 ) ذلك مبلغهم من . . . . .
) ذلك مبلغهم من العلم ( قال الفرّاء : وذلك حين قالوا : إنهم بنات اللّه ، تعالى اللّه عن افترائهم وازرى بهم بعد ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة . ) إنّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ( دينه ) وهو أعلم بمن اهتدى }
النجم : ( 31 - 32 ) ولله ما في . . . . .
) ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين آساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم ( اختلفوا في معنى ) إلاّ ( فقال قوم : هو استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية : إلاّ ان يلم بالفاحشة ثم يتوب وتقع الوقعة ثم ينتهي ، وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن وأبي صالح ، ورواية عطاء عن ابن عباس قال : هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
إن تغفر اللّهم تغفر جمّا
وأي عبد لك لا ألمّا
وقال عبدالله بن عمرو بن العاص : اللمم : ما دون الشرك .
وقال آخرون : هو استثناء منقطع مجازه : لكن اللمم ، ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنما كانوا بالأمس يعملون معنا ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه ، وروى الوالبي عن ابن عباس ، وقال بعضهم : هو صغار الذنوب مثل النظرة والغمزة والقُبلة ، وهو من ألمّ بالشيء إذا لم يتعمق فيه ولم يلزمه ، وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان ، ورواية طاووس عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظّه من الزنا أدركه ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق أو يكذبه ، فإنْ تقدّم بفرجه كان زانياً وإلاّ فهو اللمم ) .
(9/148)

" صفحة رقم 149 "
وقال ابن الزبير وعكرمة وقتادة والضحاك : هو ما بين الحدّين : حدّ الدنيا وعذاب الآخرة ، وهي رواية العوفي والحكم بن عيينة عن ابن عباس ، وقال الكلبي : اللمم على وجهين ، كل ذنب لم يذكر عليه حدّاً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر ، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلمّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه ، وقال مقاتل : اللمم ما بين الحدّين من الذنوب . [ نزلت في نبهان التمار وقد مضت القصة في سورة آل عمران ، وقال عطاء بن أبي رياح : اللمم عباده النفس الحين بن الحين ، وقال سعيد بن المسيب : هو ما لمّ على القلب ، اي حظر ، وقال محمد بن الحنفية : كل ما هممت به من خير أو شرّ فهو لمم .
ودليل هذا التأويل الخبر المروي ( إنّ للشيطان لمّة ، وللملك لمّة ، فلمّة الشيطان الوسوسة ، ولمّة الملك الإلهام )
وقال الحسين بن الفضل : اللمم : النظرة من غير تعمد ، وهو مغفور ، فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب ، وقال الفرّاء : اللمم : المتقارب من صغار الذنوب ، وأصل اللمم والإلمام هو ما يعمله الانسان المرة بعد المرة ، والحين بعد الحين ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه . يقال : ألممتُ به إذا زرته وانصرفت ، المام الخيال ، قال الاعشى :
ألمّ خيال من قتيلة بعدما
وهى حبلها من حبلنا فتصرّما
وقال آخر :
أنى ألمّ بك الخيال يطيف
ومطافه لك ذكرة وشغوف
) إن ربك واسع المغفرة ( لا يتعاظمه ذنب ، نظيره ) ورحمتي وسعت كل شيء ( .
أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي ، قال : حدّثنا أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن النعمان بن عبدالسلام الأصفهاني قال : حدّثنا محمد بن عاصم ، قال : حدّثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب عن عمرو بن مرة عن أبي وائل قال : رأى أبو مسيرة عمرو بن شرحبيل ، وكان من أفاضل أصحاب عبدالله في المنام قال : رأيت كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة فقلت : لمن هذه ؟ فقالوا : لذي الكلاع وحوشب وكانا ممن قتل مع معاوية فقلت فأين عمار وأصحابه ؟ فقالوا : أمامك ، قلت : وقد قتل بعضهم بعضاً ؟ : إنهم لقوا الله سبحانه فوجدوه واسع المغفرة .
(9/149)

" صفحة رقم 150 "
قال أبو خالد : بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثنتي عشر ألف بنت .
) هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ( أي خلق أباكم من التراب ) وإذ أنتم أجنّة ( جمع جَنين ، وهو الولد ما دام في البطن ، سمّي جنيناً لاجتنانه أي استتاره .
روى مسروق عن عائشة خ قالت : كانت اليهود إذا هلك لهم صديق قالوا : هو صديق . فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( كذبوا ما من نسمة يخلقها الله سبحانه في بطن أمها إلاّ شقي أو سعيد ) فأنزل الله سبحانه ) هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة ( ) في بطون أُمهاتكم فلا تزكّوا أنفسكم ( قال ابن عباس : لا تمدحوها . مجاهد وزيد بن أسلم : فلا تبرِّئوها ، وقال الكلبي ومقاتل : كان أُناس يعملون أعمالا خبيثة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا . فأنزل الله سبحانه هذه ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب .
) هو أعلم بمن أتقى ( الشرك فآمن ، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : يعني عمل حسنة وارعوى عن سيئة ، وقال الحسن : أخلص العمل لله .
( ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 2
النجم : ( 33 ) أفرأيت الذي تولى
) أفرأيت الذي تولّى ( . . . الآيات ، قال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب بن شريك : نزلت في عثمان بن عفان رضوان الله عليه كان يتصدق وينفق في الخير ، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح : ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك أن لا يبقى لك شيء . فقال عثمان : إن لي ذنوباً وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله وأرجو عفوه . فقال له عبدالله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة والنفقة فأنزل الله سبحانه ) أفرأيت الذي تولى ( يعني يوم أُحد حين نزل ترك المركز .
النجم : ( 34 ) وأعطى قليلا وأكدى
) وأعطى ( يعني صاحبه ) قليلا وأكدى ( ثم قطع نفقته فعاد عثمان ح إلى أحسن ذلك وأجمله
(9/150)

" صفحة رقم 151 "
وقال مجاهد وابن زيد : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتبع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على دينه فعيّره بعض المشركين وقال له : أتركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار ، كان ينبغي لك ان تنصرهم . قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له الذي عاتبه ان هو اعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، ففعل وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل ومنحه تمام ما ضمن له فأنزل الله سبحانه ) أفرأيت الذي تولّى ( أدبر عن الإيمان ) وأعطى ( يعني صاحبه الضامن قليلا ) وأكدى ( بخل بالباقي ، وقال مقاتل : يعني أعطى الوليد قليلا من الخير بلسانه ثم ) أكدى ( اي قطعه ولم يقم عليه .
وروى موسى بن عبيدة الزبيدي عن عطاء بن يسار قال : نزلت في رجل قال لأهله : جهّزوني انطلق إلى هذا الرجل يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فتجهّز وخرج ، فلقيه رجل من الكفار فقال له : أين تريد ؟ قال : محمداً ، لعلّي أُصيب من خيره ، فقال له الرجل : أعطني جهازك وأحمل عنك إثمك ، فنزلت فيه هذه الآية .
وروي عن السدّي أيضاً قال : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنّه كان ربما يوافق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض الأُمورا ، وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل ، وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمد إلاّ بمكارم الاخلاق فذلك قوله : ) أعطى قليلا وأكدى ( أي لم يؤمن .
قال المفسّرون : أكدى أي قطعه ولم يقم عليه ، وأصله من الكديه وهي حجر يظهر في البئر ويمنع من الحفر ويؤيس من الماء .
قال الكسائي : تقول العرب : أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في الحفر الكديه والجبل ، وقال : كديتْ أصابعه إذا محلتْ ، وكديتْ يده إذا كلّت فلم يعمل شيئاً ، وكدى النبت إذا قلّ ريعه ، وقال المؤرخ : أكدى أي منع الخير ، قال الحطيئة :
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه
ومن يبذل المعروف في الناس يُحمدِ
النجم : ( 35 - 36 ) أعنده علم الغيب . . . . .
) أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم يُنبّأ ( يخبر ) بما في صحف موسى ( يعني أسفار التوراة
النجم : ( 37 ) وإبراهيم الذي وفى
) وإبراهيم الذي وفّى ( ما أُرسل به من تبليغ رسالة الله وهي قوله :
النجم : ( 38 ) ألا تزر وازرة . . . . .
) ألا تزر وازرة وزر أُخرى ( روى عكرمة وطاووس عن ابن عباس قال : كانوا قبل إبراهيم صلوات الله عليه يأخذون الرجل بذنب غيره ، ويأخذون الولي بالولي في القتل ، حتى أنّ الرجل يُقتل بأبيه وأخيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج يُقتل بامرأته ، والسيد يُقتل بعبده ، حتى كان إبراهيم ج فنهاهم عن ذلك وبلّغهم عن الله ) ولا تزر وازرة وزر أُخرى ( .
(9/151)

" صفحة رقم 152 "
وقال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربّه إلى خلقه مجاهد : وفّى بما فرض عليه . ربيع : وفّى رؤياه وقام بذبح ابنه . عطاء الخراساني : استعمل الطاعة . أبو العالية : وفّى بتمام الإسلام وهو قوله : ) وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهنّ ( ، وما ابتلى بهذا الدين أحد فأقام سهامه كلها إلاّ إبراهيم ، والتوفية : الاتمام . فقال : وفيت عليه حقّه ووفرته ، قال الله سبحانه : ) ليوفّيهم أُجورهم ( . سفيان بن عيينة : أدّى الأمانة . الضحّاك : وفّى بشأن المناسك . عطاء بن السائب : بلغني أن إبراهيم كان عهد أن لا يسأل مخلوقاً شيئاً ، فلمّا قُذف في النار وأتاه جبريل فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، فأثنى الله سبحانه وتعالى عليه بقيامه بما قال ووفائه بما عهد فقال عز من قائل : ) وإبراهيم الذي وفى ( . الحسين ابن الفضل : وفّى بشأن الأضياف حتى سمّي أبا الأضياف . أبو بكر الورّاق : قام بشرط ما ادّعى ، وذلك ان الله سبحانه قال له : أسلم قال : اسلمت ، فطالبه الله سبحانه بصحة دعواه ، فابتلاه في ماله وولده ونفسه ، فوجده في ذلك كلّه وافياً ، فقال سبحانه ) وإبراهيم الذي وفّى ( أي ادعى الاسلام ثم صحح دعواه .
وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في تفسير هذه الآية قولان :
أحدهما : ما أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا حسين ، قال : حدّثنا ابن لهيعة قال : حدّثنا ريان بن فائد عن سهل عن أبيه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( ألا أُخبركم لِمَ سمّى تعالى إبراهيم خليله الذي وفّى ؛ لأنه كان يقول كلّما أصبح وأمسى : ( سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) حتى تختم الآية ) .
والآخر : ما أخبرنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدّثنا أحمد بن الفرج المقري ، قال : حدّثنا أبو عمر ، قال : حدّثنا نصر بن علي قال : أخبرنا معمر بن سليمان عن جعفر عن القاسم عن أبي أمانة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ ) وإبراهيم الذي وفّى ( قال : ( أتدرون بما وفّى ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : وفّى : يعني عمل يومه بأربع ركعات كان يصلّيهن من أول النهار .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ملك قال : حدّثنا ابن حنبل ، قال : حدّثنا أبي : قال : حدّثنا ابن مهدي ، قال : حدّثنا معاوية عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار أنّه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( قال الله تعالى : يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ) .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة قال : حدّثنا أبو طلحة أحمد بن
(9/152)

" صفحة رقم 153 "
محمد بن عبدالكريم قال : حدّثنا نصر بن علي قال : حدّثنا المعمر بن سليمان ، قال : حدّثنا محمد بن المعتصم أبو جميل عن أبي يزيد عن سعيد بن جبير أنه قرأ ) وإبراهيم الذي وفى ( خفيفة .
فأما الجامع بين قوله سبحانه : ) لا تزر وازرة وزر أُخرى ( وبين قوله : ) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ( فهو ما قال الحسين بن الفضل : ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ( طوعاً ، ) وليحملن أثقالا مع أثقالهم ( كرهاً .
أخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني ، قال : حدّثنا يحيى بن عبدالحميد ، قال : حدّثنا عبدالله بن أياد بن لقيط عن أبي رمتة ، قال : انطلقت مع أبي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما رأيته قال لي أبي : أتدري من هذا ؟ ، هذا رسول الله . قال : فاقشعررت عن ذلك حين قال لي ، وكنت أظن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً لا يشبه الناس ، فإذا هو بشر ذا وفرة بها ردع من حناء وعليه ثوبان أخضران ، فسلّم عليه أبي ، ثم جلسنا فتحدّثنا ساعة ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي : ( هذا ابنك ؟ ) قال أبي : ورب الكعبة حقاً أشهد به ، فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضاحكاً من تثبيت شبهي في أبي ، ومن حلف أبي عليّ قال : ( أما إنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا تزر وازرة وزر أُخرى ( . ثم نظر أبي إلى مثل السلعة بين كتفيه ، فقال : يا رسول الله إني أُطبّب الرجال ، ألا أُعالجها لك ؟ قال : ( لا طبيبها الذي خلقها ) .
النجم : ( 39 ) وأن ليس للإنسان . . . . .
) وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى ( أي عمل . نظيره قوله سبحانه : ) إنّ سعيكم لشتى ( .
قال ابن عباس : هذه الآية منسوخة ، فأنزل الله بعدها ) والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّاتهم وما ألتناهم ( فادخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة ، وقال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى ، فأما هذه الأُمّة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم . بخبر سعد حين سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هل لأُمّي إنْ تطوعت عنها ؟ قال : ( نعم ) ، وخبر المرأة التي سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن أبي مات ولم يحجّ ، قال : ( فحجي عنه ) .
وقال الربيع بن أنس : ) وإن للإنسان ( يعني الكافر ، فأمّا المؤمن فله ما سعى وما سُعي ، وقيل : ليس للكافر من الخير إلاّ ما عمله فيثاب عليه في دار الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير .
ويروى أن عبدالله بن أُبيّ كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه ، فلمّا مات عبدالله أرسل رسول الله قميصه ليكفّن فيه . فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها .
(9/153)

" صفحة رقم 154 "
وسمعت ابن حبيب يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب يقول : سمعت أبي يقول : دعا عبدالله بن طاهر والي خراسان الحسين بن الفضل قال : أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي ، قال : وما هي أيّها الأمير ؟ ، قال : قوله تعالى في وصف ابني آدم ) فأصبح من النادمين ( وصحّ الخبر بأن ( الندم توبة ) ، وقوله : ) كل يوم هو في شأن ( ، وصحّ الخبر ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) ، وقوله تعالى : ) وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى ( فما بال الأضعاف فقال الحسين : يجوز ان لا يكون ندم قابيل توبة له ، ويكون ندم هذه الأُمة توبة لها ، إن الله سبحانه خص هذه الأُمة بخصائص لم يشركهم فيها الأمم .
وفيه قول آخر : وهو أن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، وإنما كان على حمله ، وأما قوله : ) وأنْ ليس للإنسان إلاّ ما سعى ( يعني عن طريق العدل ، ومجاز الآية : وأنْ ليس للانسان إلاّ ما سعى عدلا ، ( ولى أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً ) ، وأمّا قوله : ) كلّ يوم هو في شأن ( فإنّها شؤون يعيدها لا شؤون يبديها ، ومجاز الآية سوق المقادير إلى المواقيت . قال : فقام عبدالله بن طاهر وقبّل رأسه وسوّغ خراجه .
قال أبو بكر الوراق : ) إلاّ ما سعى ( أي نوى ، بيانه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يبعث الناس على نيّاتهم ) .
النجم : ( 40 - 41 ) وأن سعيه سوف . . . . .
) وأنّ سعيه سوف يُرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى ( قال الأخفش : يقال : جزيته الجزاء وجزيته بالجزاء لا فرق بينهما ، قال الشاعر :
إن أجز علقمة بن سعد سعيه
لم أجزه ببلاء يوم واحد
فجمع بين اللغتين .
النجم : ( 42 ) وأن إلى ربك . . . . .
) وأنّ إلى ربك المنتهى ( أي منتهى الخلق ومصيرهم ، وهو مجازيهم بأعمالهم ، وقيل : منه ابتداء المنّة وإليه انتهاء الآمال .
أخبرني الحسن بن محمد السفياني قال : حدّثنا محمد بن سماء بن فتح الحنبلي ، قال : حدّثنا علي بن محمد المصري قال : حدّثنا إسحاق بن منصور الصعدي ، قال : حدّثنا العباس بن زفر عن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله سبحانه : ) وأنّ إلى ربك المنتهى ( قال : ( لا فكرة في اللّه ) .
والشاهد لهذا الحديث ما أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا ابن شيبة ، قال : حدّثنا عمير بن
(9/154)

" صفحة رقم 155 "
مرداس قال : حدّثنا عبدالرَّحْمن بن إبراهيم السلمي ، قال : حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا ذكر الله عز وجل فانتهوا ) .
( أخبرنا ) أبو منصور محمد بن عبدالله الجمشاذي لفظاً سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ، قال : حدّثنا أبو محمد عبدالرَّحْمن بن محمد بن مجبور قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثني محمد ابن زكريا ، قال : حدّثني إبراهيم بن الجنيد ، قال : محمد بن يحيى المغني ، قال : حدّثنا داود عم الحسين بن قابيل عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحابه وهم يتفكرون ، فقال : ( فيم أنتم ؟ ) قالوا : نتفكر في الخالق . فقال : ( تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنه لا تحيط به الفكرة ، تفكّروا أنّ الله خلق السموات والأرض سبعاً غلظ كل أرض خمسمائة عام ، وما بين كلّ أرضين خمسمائة عام ، وما بين السماء والأرض خمسمائة عام ، غلظ كل سماء خمسمائة عام ، وما بين كل سمائين خمسمائة عام ، وفي السماء السابعة بحر عمقه مثل ذلك كلّه ، فيه ملك لم يجاور الماء كعبه ) .
النجم : ( 43 ) وأنه هو أضحك . . . . .
) وأنه هو أضحك ( من شاء من خلقه ) وأبكى ( من شاء منهم .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب ، قال : حدّثنا عبدالله بن الفضل ، قال : حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، قال : حدّثتنا دلال بنت أبي المدل ، قالت : حدّثتنا الصهباء ، عن عائشة خ قالت : مرّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على قوم يضحكون فقال : ( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا ) فنزل عليه جبريل فقال : إن الله تعالى يقول : ) وأنه هو أضحك وأبكى ( فرجع إليهم فقال ( ما خطوت اربعين خطوة حتى أتى جبريل وقال : أئتِ هؤلاء فقل لهم : إن الله عز وجل يقول : هو أضحك وأبكى ) .
وقال عطاء بن أبي أسلم : يعني : أفرح وأحزن ، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء .
سمعت أبا منصور الحمساذي يقول : سمعت أبا بكر بن عبدالله الرازي يقول : سمعت يوسف بن جبير يقول : سئل طاهر المقدسي : اتضحك الملائكة ؟ فقال : ما ضحك من دون العرش منذ خلقت جهنم ، وقيل لعمر : هل كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يضحكون ؟ قال : نعم والله ، والإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ، وقال مجاهد : أضحك اهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار ، وقال الضحاك : أضحَك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر ، وقيل : أضحك الاسحار بالانوار وأبكى السماء بالأمطار . ذون النون : أضحك قلوب
(9/155)

" صفحة رقم 156 "
المؤمنين والعارفين بشمس معرفته ، وأبكى قلوب الكافرين العاصين بظلمة نكرته ومعصيته . سهل : أضحك المطيع بالرحمة وأبكى العاصي بالسخط . محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة ، وأبكاه في الدنيا . قسام بن عبدالله : أضحك اسنانهم وأبكى قلوبهم وأنشد في معناه :
اللسن تضحك والأحشاء تحترق
وإنما ضحكها زور ومختلق
يا رُبّ باك بعين لا دموع لها
ورُبّ ضاحك سنَ مابه رمق
النجم : ( 44 ) وأنه هو أمات . . . . .
) وأنه هو أمات ( أفنى في الدنيا ) وأحيى ( للبعث ، وقيل : أمات الآباء وأحيى الأبناء ، وقيل : أمات النطفة وأحيى النسمة ، وقيل : أمات الكافر بالنكرة والقطيعة ، وأحيى المؤمن بالمعرفة والوصلة ، قال سبحانه : ) أو من كان ميتاً فأحييناه ( ، وقال القاسم : أمات عن ذكره وأحيى بذكره . ابن عطاء : أمات بعدله وأحيا بفضله ، وقيل : أمات بالمنع والبخل وأحيى بالجود والبذل .
( ) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاُْخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاُْولَى وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاُْوْلَى أَزِفَتِ الاَْزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ( 2
النجم : ( 45 - 46 ) وأنه خلق الزوجين . . . . .
) وأنه خلق الزوجين الذكر والأُنثى من نطفة إذا تمنى ( تصبّ في الرحم ، يقال : مني الرجل وأمنى ، قاله الضحاك ، وعطاء بن أبي رياح ، وقال آخرون : تُقدَّر ، يقال : منيت الشيء إذا قدّرته ، ويقال : إرضَ بما يمنى لك الماني ، ومنه سمّيت المنية ؛ لأنها مقدّرة ، وأصلها مميّنة .
النجم : ( 47 ) وأن عليه النشأة . . . . .
) وأنّ عليه النشأة الأخرى ( الخلق الآخر ، يعيدهم أحياءً .
النجم : ( 48 ) وأنه هو أغنى . . . . .
) وأنه هو أغنى وأقنى ( قال أبو الصلاح : أغنى الناس بالمال ، وأقنى : أعطى القينة وأصول الأموال . الضحّاك : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال ، وأقنى بالإبل والغنم والبقر . مجاهد والحسن وقتادة : أخدم . ابن عباس : أرضى بما أعطى ، وهي رواية بن أبي نجيح وليث عن مجاهد . سليمان التيمي عن الحضرمي : أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه . ابن زيد : أغنى : أكثر وأفقر : أقل ، وقرأ ) يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( . الأخفش أقنى : أفقر . ابن كيسان : أولد
(9/156)

" صفحة رقم 157 "
النجم : ( 49 ) وأنه هو رب . . . . .
) وأنّه هو ربّ الشعرى ( وهي كوكب خلف الجوزاء تتبعه ، يقال له مرزم الجوزاء ، وهما شعريان يقال لأحدهما : العبور ، وللأُخرى : الغميضاء .
وقالت العرب في خرافاتها : إن سهيلا والشعرتين كانت مجتمعة فأخذ سهيل فصار يمانياً فتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة ، فسمّيت العبور ، فأقامت الغميضاء فبكت لفقد سهيل حتى غمضت عينها ؛ لأنه أخفى من الآخر ، وأراد هاهنا الشعرى العبور ، وكانت خزاعة تعبده ، وأول مَن سنّ لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له : أبو كبشة عبدالشعرى العبور وقال : لأن النجوم تقطع السماء عرضاً والشعرى طولا فهي مخالفة لها ، فعبدتها خزاعة جميعاً ، فلمّا خرج رسول الله على خلاف العرب في الدين شبّهوه بأبي كبشة فسمّوه بأبي كبشة ، بخلافه إياهم كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى .
النجم : ( 50 ) وأنه أهلك عادا . . . . .
) وأنه أهلك عاداً الأُولى ( وهم قوم هود .
وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب عاداً الأُولى مدرجاً مدغماً ، وهمز واوه نافع برواية المسيبي ، وقال بطريق الحلواني : ، والعرب تفعل ذلك فتقول : قم لان عنّا . يريدون جقم الآن عنّاج وضمّ لثنين يريدون : ضم الإثنين .
النجم : ( 51 ) وثمود فما أبقى
) وثموداً ( يعني قوم صالح ) فما أبقى }
النجم : ( 52 - 53 ) وقوم نوح من . . . . .
) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة ( المنقلبة ، وهي قرى لوط الأربع : صنواهم ، وداذوما ، وعامورا ، وسدوم . ) أهوى ( يعني اهواها جبريل إلى الأرض بعدما رفعها إلى السماء .
النجم : ( 54 ) فغشاها ما غشى
) فغشياها ما غشّى ( يعني الحجارة المنضودة المسوّمة .
النجم : ( 55 ) فبأي آلاء ربك . . . . .
) فبأي آلاء ربك ( أي نعمائه عليك ) تتمارى ( تشك وتجادل .
النجم : ( 56 ) هذا نذير من . . . . .
) هذا ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) نذير ( رسول ) من النذر ( الرسل ) الأُولى ( أرسل إليكم كما أُرسلوا إلى أقوامهم ، وهذا كما يقال : فلان واحد من بني آدم ، وواحد من الناس ، وقال أبو ملك : يعني هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأُمم الخالية العاصية في صحف إبراهيم وموسى .
النجم : ( 57 ) أزفت الآزفة
) أزفت الآزفة ( قربت القيامة .
النجم : ( 58 ) ليس لها من . . . . .
) ليس لها من دون الله كاشفة ( مطهرة مقيمة ، و ( الهاء ) فيه للمبالغة ، بيانه قوله : ) لا يجلّيها لوقتها إلاّ هو ( ، وقال قتادة : ليس لها من دون الله رادّ ، وقيل : ليس لها من دون الله كشف وقيام ، ولا تقوم إلاّ بإقامة الله إياها ، وهي على هذا القول اسم و ( الهاء ) فيه كالهاء في الباقية والعافية والراهية . ثم قال لمشركي العرب :
النجم : ( 59 ) أفمن هذا الحديث . . . . .
) أفمن هذا الحديث ( يعني القرآن ) تعجبون }
النجم : ( 60 - 61 ) وتضحكون ولا تبكون
) وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون ( ساهون لاهون غافلون . يقال : دع عنك سمودك أي لهوك ، وهي رواية الوالبي والعوفي عن ابن عباس ، وقال عكرمة : عنه هو الغناء وكانوا إذا سمعوا القرآن سمدوا ولعبوا ، وهي لغة أهل اليمن يقولون : اسمدْ لنا أي تغنَّ
(9/157)

" صفحة رقم 158 "
قال الكلبي : السامد : الحزين بلسان طي ، وبلسان أهل اليمن : اللاهي . الضحّاك : أشرون بطرون . قال : وقال ابن عباس : كانوا يمرّون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شامخين ، ألم تر إلى الفحل يخطر شامخاً . عكرمة : هو الغناء باللغة الحميرية .
قال أبو عبيدة : يقال للجارية : اسمدي لنا أي غنّي . مجاهد : غضاب مبرطمون ، فقيل له : ما البرطمة قال الإعراض .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن صقلاب ، قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب . قال : حدّثنا محمد بن يونس ، قال : حدّثنا عبدالله بن عمرو الباهلي قال : حدّثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ) أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون ( بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلمّا سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية ، ولو لم تذنبوا لجاء الله سبحانه بقوم يذنبون ثم يغفر لهم ) .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد قال : حدّثنا أبي . قال : حدّثنا إبراهيم بن خالد ، قال : حدّثنا رباح قال : حدّثنا أبو الجراح عن رجل من أصحابهم يقال له : حارم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي فقال له : من هذا ؟ قال : ( فلان ) قال : إنّا نزن أعمال بني آدم كلها إلاّ البكاء فإن الله سبحانه ليطفئ بالدمعة بحوراً من نيران جهنم .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا ابن حمدان بن عبدالله ، قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا جعفر بن محمد أبو بكر الجرار ، قال : حدّثنا سعيد بن يعقوب والطالقاني ، قال : حدّثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدّثنا إسماعيل بن رافع ، قال : حدّثني ابن أبي مليكة الأحول عن عبدالله بن السايب ، قال : قدم علينا سعد بن أبي وقاص بعدما كفّ بصره ، فأتيته مسلّماً عليه ، فانتسبني فانتسبت ، فقال : مرحباً بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ) .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا القطيعي ، قال : حدّثنا عبدالله ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا وكيع ، قال : حدّثنا زياد بن أبي مسلم عن صالح أبي الخليل ، قال : لما نزل ) أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون ( ما رُأيَ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضاحكاً .
(9/158)

" صفحة رقم 159 "
النجم : ( 62 ) فاسجدوا لله واعبدوا
) فاسجدوا لله واعبدوا ( أخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان ، قال : حدّثنا ابن ماهان ، قال : حدّثنا أبو عبدالله محمد بن محبوب بن حسان البصري ، قال : حدّثنا عبدالوارث ابن سعيد قال : حدّثنا ايوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سورة النجم فسجد فيها ، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، قال : أخبرنا مكي بن عبدان ، قال : حدّثنا محمد بن يحيى ، قال : وفيما قرأت على عبدالله بن نافع ، وحدّثني مطرف بن عبدالله ، عن ملك ، عن ابن شهاب ، عن عبدالرَّحْمن الأعرج عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قرأ لهم ) والنجم إذا هوى ( فسجد فيها .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا بن حمدان ، قال : حدّثنا بن ماهان ، قال : حدّثنا عبدالله ابن مسلمة عن ابن أبي ذيب عن زيد بن عبدالله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت أنه قرأ عند النبي بالنجم ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يسجد فيها .
(9/159)

" صفحة رقم 160 "
( سورة القمر )
مكية ، وهي ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفاً ، وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وخمس وخمسون آية
أخبرني أبو الحسين محمد بن القاسم الفقيه ، قال : حدّثنا أبو عبدالله محمد بن زيد العدل ، قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز ، قال : حدّثنا محمد بن منصور ، قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبدالرَّحْمن بن أبي ليلى ، قال : حدّثني أبي عن مجالد بن عبدالواحد عن الحجاج بن عبدالله عن أبي الخليل ، وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمون عن زيد بن حبيش عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) اقتربت الساعة ( في كل غداة بُعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ومن قرأها كل ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
( ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاَْنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاَْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 2
القمر : ( 1 ) اقتربت الساعة وانشق . . . . .
) اقتربت الساعة ( دنت القيامة ) وانشق القمر ( قال ابن كيسان : في الآية تقديم وتأخير ، مجازها : انشقّ القمر واقتربت الساعة ، يدل عليه قراءة حذيفة ( اقتربت الساعة وقد انشق القمر ) ، وروى عثمان بن عطاء عن أبيه أن معناه : ( وسينشقّ القمر ) ، والعلماء على خلافه والأخبار الصحاح ناطقة بأن هذه الآية قد مضت .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا مكي ، قال : حدّثنا أبو الازهر قال : حدّثنا روح عن شعبة قال : سمعت سليمان قال : سمعت إبراهيم يحدث عن أبي معمر عن عبدالله أن القمر انشق
(9/160)

" صفحة رقم 161 "
على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرقتين ، فكانت إحداهما فوق الجبل والأُخرى أسفل من الجبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم اشهد ) ، وقال أيضاً : ( اشهدوا ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد ، قال : أخبرنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك القاضي قال : حدّثنا أحمد بن الحسين بن سعيد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حصين عن الأعمش وعبدة الضبي عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى رأيت فِلقَتَيه .
وأخبرنا عبدالله ، قال : أخبرنا مكي ، قال : حدّثنا أبو الأزهر قال : حدّثنا روح عن شعبة عن سليمان عن مجاهد عن ابن عمر نحو حديث ابن مسعود .
وأخبرنا عبدالله قال : أخبرنا محمد بن جعفر بن زيد الصيرفي قال : حدّثنا علي بن حرب ، قال : حدّثنا ابن فضيل ، قال : حدّثنا حصين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه ، قال : انشقّ القمر ونحن مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة .
وأخبرنا عبدالله قال : أخبر عمر بن الحسن الشيباني قال : حدّثنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حصين عن سعد عن عكرمة عن ابن عباس والحكم عن مجاهد عن ابن عباس ومقسم عن ابن عباس قال : انشق القمر على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) باثنين : شطره على السويداء ، وشطره على الجندمة .
وأخبرني عقيل بن محمد أن أبا الفرج القاضي حدّثهم عن محمد بن جرير قال : حدّثني محمد بن عبدالله بن بزيع ، قال : حدّثنا بشر بن المفضل . قال : حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين ، حتى رأوا الجبل بينهما .
وبه عن محمد بن جرير قال : حدّثنا علي بن سهل قال : حدّثنا حجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : انشقّ القمر على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مرّتين .
وبه عن محمد بن جرير قال : حدّثني يعقوب قال : حدّثنا ابن عليّة ، قال : حدّثنا عطاء بن السايب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نزلنا المدائن فكنّا منها على فرسخ ، فجاءت الجمعة فحضر أبي فحضرنا معه فخطبنا حذيفة ، فقال : ألا إنّ الله سبحانه يقول : ) اقتربت الساعة وانشق القمر ( ، ألا فإنّ الساعة قد اقتربت ، ألا وإنّ القمر قد انشقّ ، ألا وإنّ الدنيا قد أذنت بفراق ،
(9/161)

" صفحة رقم 162 "
ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السباق ، فقلت لأبي أيستبق الناس غداً ؟ فقال : يا بني إنك لجاهل ، إنّما هو السباق بالأعمال ، ثم جاءت الجمعة الأُخرى فحضرنا فخطب حذيفة فقال : ألا إنّ الله يقول : ) اقتربت الساعة وانشقّ القمر ( ألا وإنّ الساعة قد اقتربت ، ألا وإنّ القمر قد انشقّ ، ألا وإنّ الدنيا قد أذنت بفراق ، ألا وإنّ المضمار اليوم وغداً السباق ، ألا وإنّ الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة .
وبه عن ابن جرير قال : حدّثنا الحسن بن أبي يحيى المقدسي قال : حدّثنا يحيى بن حماد ، قال : حدّثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبدالله قال : انشقّ القمر على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم ، فسألوا السفار فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأينا . فأنزل الله سبحانه ) اقتربت الساعة وانشقّ القمر ( .
القمر : ( 2 ) وإن يروا آية . . . . .
) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم : مرّ الشيء واستمر إذا ذهب ، ونظيره : قرّ واستقر ، هذا قول مجاهد وقتادة والفرّاء والكسائي .
وقال أبو العالية والضحاك : محكم شديد قوي . سيان عن قتادة : غالب ، وهو من قولهم : مرّ الحبل إذا صلب واشتد وقوي ، وامررته أنا إذا أحكمتُ فتله . ربيع : نافذ . يمان : ماض . أبو عبيدة : باطل ، وقيل : يشبه بعضه بعضاً .
القمر : ( 3 ) وكذبوا واتبعوا أهواءهم . . . . .
) وكذّبوا واتّبعوا أهواءهم وكلّ أمر مستقر ( يقول : وكل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، ومتناه نهايته ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار .
قال قتادة : وكل أمر مستقر : أي بأهل الخير الخير ، وبأهل الشر الشر ، وقال مقاتل : لكل امرئ منتهى ، وقيل : لكل أمر حقيقته ، وقال الحسن بن الفضل : يعني يستقر قرار تكذيبهم وقرار تصديق المؤمنين حتى يعرفوا حقيقته في الثواب والعقاب ، وقيل : مجازه : كلّ ما قدّر كائن واقع لا محالة ، وقيل : لكل أمر من أُموري التي أمضيتها في خلقي مستقر قراره لا يزول ، وحكى أبو حاتم عن شيبة ونافع مستقرّ بفتح القاف ، وذكر الفضل بن شاذان عن أبي جعفر بكسر الراء ، ولا وجه لهما .
قال مقاتل : انشقّ القمر ثم التأم بعد ذلك .
القمر : ( 4 ) ولقد جاءهم من . . . . .
) ولقد جاءهم ( يعني أهل مكة ) من الأنباء ما فيه مزدجر ( متناهى . قاله مجاهد . سفيان : منتهى ، وهو مفتعل من الزجر ، وأصله مزتجر . فقلبت التاء دالا .
القمر : ( 5 ) حكمة بالغة فما . . . . .
) حكمة بالغة ( تامة ليس فيها نقصان وهي القرآن ) فما تغني النذر ( إذا كذّبوهم وخالفوهم .
القمر : ( 6 ) فتول عنهم يوم . . . . .
) فتولّ عنهم ( نسختها آية القتال ) يوم ( إلى يوم ) يدع الداعي إلى شيء نُكر ( منكر فظيع
(9/162)

" صفحة رقم 163 "
عظيم وهو النار ، وقيل : القيامة ، وخفّف الحسن وابن كثير كافه . غيرهما مثقّل ، وقرأ مجاهد ( نُكِر ) على الفعل المجهول أي أُنكر .
القمر : ( 7 ) خشعا أبصارهم يخرجون . . . . .
) خُشّعاً ( ذليلة ) أبصارهم ( وهو نصب على الحال مجازه ) يخرجون من الأجداث خشعاً ( ، وقرأ ابن عباس ويعقوب وحمزة والكسائي وخلف ( خاشعاً ) بالألف على الواحد ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتباراً بقراءة عبدالله وأبي رجاء خاشعة أبصارهم ، وقرأ الباقون ( خشّعاً ) بلا ألف على الجمع .
قال الفرّاء وأبو عبيدة : إذا تأخرت الأسماء عن فعلها فلك فيه التوحيد والجمع والتأنيث والتذكير تقول من ذلك : مررت برجال حسن وجوههم ، وحسنة وجوههم وحسان وجوههم . قال الشاعر :
وشباب حسن أوجههم
من إياد بن نزار بن معد
فمن وحّد فلأنّه في معنى الجمع ، ومن جمع فلأنّه صفات ، والصفات اسماء ، ومن أنّث فلتأنيث الجماعة ، وقال الآخر :
يرمي الفجاج بها الركبان معترضاً
أعناق بزلها مزجىً لها الجدل
قال الفرّاء : لو قال : معترضة أو معترضات أو مزجاة أو مزجيات كان كل ذلك جائزاً .
) يخرجون من الأجداث ( القبور ) كأنهم جراد منتشر ( حيارى ، وذكر المنتشر على لفظ الجراد ، نظيره ) كالفراش المبثوث ( .
القمر : ( 8 ) مهطعين إلى الداع . . . . .
) مهطعين ( مسرعين منقلبين عامدين ) إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر ( .
2 ( ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاَْرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( 2
القمر : ( 9 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
) كذبت قبلهم ( أي قبل أهل مكة ) قوم نوح فكذبوا عبدنا ( نوحاً ج ) وقالوا مجنون ( أي هو مجنون ) وازدُجر ( أي زجروه عن دعوته ومقالته ، وقال مجاهد : استطر جنوناً ، وقال ابن زيد : اتهموه وزجروه وواعدوه ( لئنْ لم تنتهِ لتكوننّ من المرجومين ) .
(9/163)

" صفحة رقم 164 "
القمر : ( 10 ) فدعا ربه أني . . . . .
) فدعا ربه أني مغلوب ( مقهور ) فانتصر ( فانتقم لي منهم .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف ، قال : حدّثنا الوفراوندي ، قال : حدّثنا يوسف ابن موسى ، قال : حدّثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن عبد بن عمير ، قال : إن الرجل من قوم نوح ليلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً ، فيفيق حين يفيق وهو يقول : رب اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون .
القمر : ( 11 ) ففتحنا أبواب السماء . . . . .
) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ( منصبّ مندفق ولم يقلع ولم ينقطع أربعين يوماً .
قال ابن عباس والقرظي : منفجر من الأرض . يمان : طبق ما بين السماء والأرض . أبو عبيدة : هايل . الكسائي : سايل . قال امرؤ القيس يصف غيثاً :
راح تمريه الصبا ثم انتحى
فيه شؤبوب جنوب منهمر
وقال سلامة بن جندل يصف فرساً :
والماء منهمر والشدّ منحدر
والقصب مضطمر واللون غربيب
القمر : ( 12 ) وفجرنا الأرض عيونا . . . . .
) وفجّرنا ( شققنا ) الأرض ( بالماء ) عيوناً فالتقى الماء ( يعني ماء السماء وماء الأرض ، وانما قال : التقى الماء ، والالتقاء لا يكون من واحد وانما يكون من اثنين فصاعداً ، لأن الماء جمعاً وواحداً .
وقرأ عاصم الجحدري ( فالتقى الماءان ) ، وقرأ الحسن ( فالتقى الماوان ) بجعل إحدى الألفين واواً . ) على أمر قد قدر ( قُضي عليهم في أُم الكتاب .
قال محمد بن كعب القرظي : كانت الأقوات قبل الاجساد ، وكان القدر قبل البلاء ، وتلا هذه الآية .
القمر : ( 13 ) وحملناه على ذات . . . . .
) وحملناهم على ذات ألواح ( ذكر النعت وترك الاسم ، مجازه : على سفينة ذات ألواح من الخشب ) ودسر ( مسامير ، واحدها دسار ، يقال منه : دسرت السفينة إذا شددتها بالمسامير ، وهذا قول القرظي وقتادة ، وابن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس وشهر بن حوشب : هي صدر السفينة سمّيت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجئها ، اي تدفع ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، قال : الدسر : كلكل السفينة ، وأصل الدسر الجر والدفع ، ومنه الحديث في العنبر ( إنما هو شيء دسّره البحر ) ، أي دفعه ورمى به ، وقال مجاهد : هي عوارض السفينة . الضحّاك : ألواح جانبها ، والدسر أصلها وطرفها . ليث بن أبي نجيح عن مجاهد : أضلاعها
(9/164)

" صفحة رقم 165 "
القمر : ( 14 ) تجري بأعيننا جزاء . . . . .
) تجري بأعيننا ( أي بمرأى منّا . مقاتل بن حيان : بحفظنا ، ومنه قول الناس للدموع : عين الله عليك . مقاتل بن سليمان : بوحينا . سفيان : بأمرنا . ) جزاء لمن كان كفر ( يعني فعلنا ذلك ثواباً لنوح ، ومجاز الآية : لمن جحد وأنكر وكفر بالله فيه ، وجعل بعضهم ) من ( هاهنا بمعنى ( ما ) ، وقال معناه : جزاء لمن كان كفر من أيادي الله ونعمائه عند الذين غرقهم ، وإليه ذهب ابن زيد ، وقيل : معناه عاقبناهم لله ولأجل كفرهم به .
وقرأ مجاهد ) جزاء لمن كان كفر ( بفتح الكاف والفاء يعني كان الغرق جزاء لمن يكفر بالله ، وكذب رسوله فأهلكهم الله .
وما نجا من الكفّار من الغرق غير عوج بن عنق كان الماء إلى حجزته ، وكان السبب في نجاته على ما ذكر أن نوحاً ج احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقلها ، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام . فشكر الله تعالى ذلك له ونجّاه من الغرق .
القمر : ( 15 ) ولقد تركناها آية . . . . .
) ولقد تركناها ( يعني السفينة ) آية ( عبرة .
قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأُمة نظراً ، وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمداً . ) فهل من مدّكر ( متّعظ معتبر وخائف مثل عقوبتهم .
القمر : ( 16 ) فكيف كان عذابي . . . . .
) فكيف كان عذابي ونذر ( أي إنذاري . قال الفرّاء : الإنذار والنذر مصدران تقول العرب : أنذرت إنذاراً ونذراً ، كقولك : انفقت إنفاقاً ونفقة ، وأيقنت إيقاناً ويقيناً .
القمر : ( 17 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
) ولقد يسّرنا ( سهّلنا وهونّا ) القرآن للذكر ( اي ليتذكر ويُعتبر به ويتفكر فيه ، وقال سعيد ابن جبير : يسّرنا للحفظ ظاهراً ، وليس من كتب الله كتاباً يقرأ كله ظاهراً إلاّ القرآن . ) فهل من مدّكر ( متّعظ بمواعظه .
أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين ، قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي ، قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن راهويه قال : حدّثنا أبو عمير بن النحاس ببيت المقدس ، قال : حدّثنا ضمرة بن ربيعة عن عبدالله بن شوذب عن مطر الوراق في قول الله سبحانه ) فهل من مدّكر ( قال : هل من طالب علم فيعان عليه .
القمر : ( 18 - 19 ) كذبت عاد فكيف . . . . .
) كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنّا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس ( شؤم وشرّ ) مستمر ( وكان يوم الأربعاء ، مستمر : شديد ماض على الصغير والكبير فلم تُبقِ منهم أحداً إلاّ أهلكته ، وقرأ هارون الاعور ) نحِس ( بكسر الحاء .
القمر : ( 20 ) تنزع الناس كأنهم . . . . .
) تنزع الناس ( تقلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدقّ رقابهم ، قال ابن إسحاق : لمّا هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة يسمى لنا منهم ستّة من أشدّ عاد وأجسمها منهم : عمرو بن
(9/165)

" صفحة رقم 166 "
الحلي ، والحرث بن شداد والهلقام وابناتيقن ، وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن في الشعب من العيال ، فجعلت الريح تخفقهم رجلا رجلا ، فقالت امرأة من عاد :
ذهب الدهر بعمر بن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهلقام طلاع الثنيات
والذي سدّ مهب الريح أيام البليات
وبإسناد أبي حمزة الثمالي قال : حدّثني محمد بن سفيان عن محمد بن قرظة بن كعب عن أبيه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( انتزعت الريح الناس من قبورهم ) .
) كأنهم أعجاز ( قال ابن عباس : أُصول ، وقال الضحّاك : أوراك . ) نخل منقعر ( منقلع من مكانه ، ساقط على الأرض ، وواحد الأعجاز عجز مثل عضد وأعضاد ، وإنّما قال : أعجاز نخل وهي أُصولها التي تقطعت فروعها ، لأن الريح كانت ترمي رؤوسهم من أجسادهم ، فتبقى أجسام بلا رؤوس .
سمعت أبا القاسم الجنيني يقول : سمعت أبا علي الحسين بن أحمد القاضي البيهقي . يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن القاسم بن سياب الأنباري يقول : سئل المبرّد بحضرة إسماعيل بن إسحاق القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها ، وهو أن السائل قال : ما الفرق بين قوله : ) جاءتها ريح عاصف و ( ) لسليمان الريح عاصفة ( وقوله : ) كأنهم أعجاز نخل خاوية ( و ) كأنهم أعجاز نخل منقعر ( ؟ فقال : كل ما ورد عليك من هذا الباب فلك أن تردّه إلى اللفظ تذكيراً ، ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثاً .
القمر : ( 21 ) فكيف كان عذابي . . . . .
) فكيف كان عذابي ونذر (
.
) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاَْشِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا
(9/166)

" صفحة رقم 167 "
عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( 2
القمر : ( 22 - 24 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
) لقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشراً ( آدميّاً واحداً منّا ) نتبعه ( ونحن جماعة كثيرة وهو واحد ، وقرأ أبو السماك العدوي بالرفع ، وكلا الوجهين سايغ في عايد الذكر ) إنّا إذاً ( إنْ فعلنا ذلك وتركنا دين آبائنا وتابعناه على دينه ، وهو واحد منا آدمي مثلنا ) لفي ضلال ( ذهاب عن الصواب ) وسعر ( قال ابن عباس : يعني وعذاب ، قال الحسن : شدة العذاب . قتادة : عناء . سفيان بن عيينة : هو جمع سعيرة . الفرّاء : جنون ، يقال : ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هايمة على وجهها . قال الشاعر يصف ناقة :
تخال بها سعراً إذا السفر هزها
ذميل وإيقاع من السير متعب
وقال وهب : وسعر : أي بعدٌ من الحق .
القمر : ( 25 ) أؤلقي الذكر عليه . . . . .
) أألقيَ الذكر ( أأُنزل الوحي ) عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ( ترح مرح بطر متكبر يريد أن يتعظّم علينا بادّعائه النبوّة .
وقال عبدالرَّحْمن بن أبي حماد : الأشِر الذي لا يبالي ما قال ، وقرأ مجاهد ) أَشُر ( بفتح الألف وضم الشين وهما لغتان مثل حَذِر وحَذُر ويَقِظ ويَقُظ وعَجِل وعَجُل ومَجِد ومَجُد الشجاع .
القمر : ( 26 ) سيعلمون غدا من . . . . .
) سيعلمون ( غداً بالتاء شامي ، والأعمش ويحيى وابن ثوبان وحمزة وغيره بالياء ، فمن قرأ بالتاء فهو من قول صالح لهم ، ومن قرأ بالياء فهو من قول الله سبحانه ، ومعنى الكلام : في الغد القريب على عادة الناس في قولهم للعواقب : إنّ مع اليوم غداً ، وإنّ مع اليوم أخاه غداً ، وأراد به وقت نزول العذاب بهم ) مَن الكذاب الأشِر ( قرأ أبو قلامة : مَن الكذاب الأشر بفتح الشين وتشديد الراء على وزن أفعل من الشر ، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة .
قال أبو حاتم : لا يكاد العربي يتكلم بالأشَرّ والأخير إلا في ضرورة الشعر كقول رؤبة
(9/167)

" صفحة رقم 168 "
بلال خير الناس وابن الأخير
إنّما يقولون : خير وشر . قال الله عز وجل ) كنتم خير أمة ( وقال سبحانه ) بل أنتم شر مكاناً ( .
القمر : ( 27 ) إنا مرسلو الناقة . . . . .
) إنّا مرسلوا الناقة ( باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا ) فتنة ( محنة ) لهم فارتقبهم ( وانتظرهم وننظر ما هم صانعون ) واصطبر ( واصبر على ظلمهم وأذاهم ، ولا تعجل حتى يأتيهم أمري ، واصطبر : افتعل من الصبر ، وأصل ( الطاء ) فيه ( تاء ) فحوّلت ( طاء ) لأجل ( الصاد ) .
القمر : ( 28 ) ونبئهم أن الماء . . . . .
) ونبّئهم أنّ الماء قسمة بينهم ( وبين الناقة بالسويّة لها يوم ولهم يوم ، وإنّما قال : بينهم ؛ لأن العرب إذا أخبرت عن بني آدم وعن البهائم غلّبوا بني آدم على البهائم . ) كل شرب ( نصيب من الماء ) محتضر ( يحضره من كانت نوبته ، فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها ، وإذا كان يومهم حضروا شربهم ، وقال مجاهد : يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة ، وإذا جاءت حضروا اللبن .
القمر : ( 29 ) فنادوا صاحبهم فتعاطى . . . . .
) فنادوا صاحبهم ( قدار بن سالف وكان أشقر ؛ ولذلك قيل له : أشقر ثمود ) فعقر ( فتناول الناقة بسيفه فعقرها ، ولذلك سمّيت العرب الجزار قداراً تشبيها به ، وقال الشاعر :
إنّا لنضرب بالسيوف رؤوسهم
ضرب القدار نقيعة القدام
القمر : ( 30 ) فكيف كان عذابي . . . . .
) فكيف كان عذابي ونذر ( ثم بيّن عذابهم فقال عز من قائل :
القمر : ( 31 ) إنا أرسلنا عليهم . . . . .
) إنّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ( قرأ الحسن وقتادة بفتح ( الظاء ) أراد الحظيرة ، وقرأ الباقون بكسر ( الظاء ) أرادوا صاحب الحظيرة .
قال ابن عباس : هو أن الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع ، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم ، وقال قتادة : يعني كالعظام النخرة المحترقة وهي رواية العوفي عن ابن عباس ورواية أبي ظبيان عنه أيضاً ، كحشيش يأكله الغنم ، وقال سعيد بن جبير : هو التراب الذي يتناثر من الحائط . ابن زيد : هو الشجر البالي الذي تهشّم حتى ذرّته الريح ، والعرب تسمّي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً .
القمر : ( 32 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
) ولقد يسّرنا ( هوّنا عليهم ) القرآن للذكر فهل من مدّكر }
القمر : ( 33 - 34 ) كذبت قوم لوط . . . . .
) كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصباً ( ريحاً ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى ، وقال بعضهم : هو الحجر نفسه .
قال الضحّاك : يعني صغار الحصى ، والحاصب والحصب والحصباء هي الحجر الذي
(9/168)

" صفحة رقم 169 "
دون ملء الكف ، والمحصب الموضع الذي يرمى فيه الجمار ، وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب ح يقول لأهل المدينة : حصّبوا المسجد ، أي صبّوا فيه الحجارة .
ثم استنثى فقال : ) إلاّ آل لوط ( أي أتباعه على دينه من أهله وأُمته ) نجّيناهم ( من العذاب ) بسحر ( قال الأخفش : إنّما أجراه ، لأنه نكرة ، ومجازه : بسحر من الأسحار ، ولو أراد بسحر يوم بعينه لقال : سحر غير مجرى ، ونظيره قوله : ) اهبطوا مصراً ( .
القمر : ( 35 ) نعمة من عندنا . . . . .
) نعمة ( يعني كان ذلك أو جعلناه نعمة ) من عندنا ( عليهم حيث أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم ) كذلك ( كما جزيناهم ، لوطاً وآله ) نجزي مَن شكر ( فآمن بالله وأطاعه .
القمر : ( 36 ) ولقد أنذرهم بطشتنا . . . . .
) ولقد أنذرهم ( لوط ) بطشتنا ( أخذنا لهم بالعقوبة قبل حلولها بهم ) فتماروا بالنذر ( فكذبوا بإنذاره شكاً منهم فيه وهو تفاعل من المرية .
القمر : ( 37 ) ولقد راودوه عن . . . . .
) ولقد راودوه عن ضيفه ( طالبوه وسألوه أن يخلّي بينهم وبينهم . يقول العرب : راده تروده وارتاده وراوده يراوده نظيرها ) وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ( ) فطمسنا أعينهم ( أي أعميناهم ، وصيّرناها كساير الوجه لا يُرى لها شق ، وذلك أنّهم لما قصدوا دار لوط ج وعالجوا بابه ليدخلوا ، قالت الرسل للوط : خلِّ بينهم وبين الدخول فإنّا رسل ربك لن يصلوا إليك ، فدخلوا الدار فاستأذن جبريل ربّه عزّ وجل في عقوبتهم فأذن له فصفقهم بجناحه ، فتركهم عمياً يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب ، وأخرجهم لوط عمياً لا يبصرون . هذا قول عامة المفسّرين ، وقال الضحّاك : طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل وقالوا : قد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا ؟ ، فلم يروهم ورجعوا ) فذوقوا عذابي ونذر 2 )
القمر : ( 38 ) ولقد صبحهم بكرة . . . . .
) ولقد صبّحهم ( جاءهم العذاب وقت الصبح ) بكرة عذاب مستقر ( دائم عام استقر فيهم حتى يُقضى بهم إلى عذاب الآخرة .
القمر : ( 39 - 41 ) فذوقوا عذابي ونذر
) فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر ولقد جاء آل فرعون النذر ( يعني موسى وهارون ج .
القمر : ( 42 ) كذبوا بآياتنا كلها . . . . .
) كذّبوا بآياتنا ( التسع ) كلّها فأخذناهم ( بالعذاب ) أخذ عزيز مقتدر ( قادر لا يعجزه ما أراد ، ثم خوّف أهل مكة فقال عز من قائل :
القمر : ( 43 ) أكفاركم خير من . . . . .
) أكفاركم خير من أُولئكم ( الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون ) أم لكم براءة ( من العذاب ) في الزبر ( الكتب تأمنون .
القمر : ( 44 ) أم يقولون نحن . . . . .
) أم يقولون ( يعني كفار مكة ) نحن جميع منتصر ( أي جماعة لا ترام ولا تضام ، ولا يقصدنا أحد بسوء ، ولا يريد حربنا وتفريق جمعنا إلا انتقمنا منهم ، وكان حقّه : منتصرون فتبع رؤوس الآي .
(9/169)

" صفحة رقم 170 "
القمر : ( 45 ) سيهزم الجمع ويولون . . . . .
) سيُهزم الجمع ( قراءة العامة على غير تسمية الفاعل ، وقرأ يعقوب بالنون والنصب وكسر الزاي ، وفتح العين على التعظيم ) ويولّون الدبر ( أي الأدبار ، فوحّد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي ، كما يقال : ضربنا منهم الرؤوس ، وضربنا منهم الرأس ، إذا كان الواحد يؤدي عن معنى جميعه ، فصدق الله سبحانه وتعالى وعده وهزمهم يوم بدر .
قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه فتقدم يوم بدر في الصف وقال : نحن منتصر اليوم من محمد وأصحابه .
قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب لمّا نزلت ) سيُهزم الجمع ويولون الدبر ( : كنت لا أدري أي جمع نهزم ، فلمّا كان يوم بدر رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثبت في درعه ويقول : ) سيهزم الجمع ويولّون الدبر ( .
القمر : ( 46 ) بل الساعة موعدهم . . . . .
) بل الساعة موعدهم ( جميعاً ) والساعة أدهى وأمرّ ( أعظم بليّة وأشدّ مرارة من عذاب يوم بدر .
أخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا عبدالله بن يوسف قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم بن زياد ، قالد حدّثنا أبو مصعب قال : حدّثنا مجرد بن هارون عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بادروا بالأعمال سبعاً ما ينتظرون هل هو إلاّ فقر منسي أو غنى مطع أو مرض مفسد أو كبر معند أو موت مجهز ، والدجال شر مستطر ، والساعة والساعة أدهى وأمرّ ) .
القمر : ( 47 ) إن المجرمين في . . . . .
) إنّ المجرمين ( المشركين ) في ضلال وسعر ( قال الضحاك : يعني ناراً ستعرض عليهم . قال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة ، وقال ابن كيسان : بُعْدٌ من الحق ، وقيل : جنون ، وقال قتادة في عناء وعذاب ، ثم بيّن عذابهم ، فقال :
القمر : ( 48 ) يوم يسحبون في . . . . .
) يوم يسحبون ( يُجرّون ) في النار على وجوههم ( ويقال لهم : ) ذوقوا مسّ سقر ( وإنّما هو كقولك : ذق المر السياط .
القمر : ( 49 ) إنا كل شيء . . . . .
) إنّا كل شيء ( بالنصب قراءة العامة ، وقرأ أبو السماك العدوي بالرفع ) خلقناه بقدر ( قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له ، وقال الربيع : هو كقوله : ) قد جعل الله لكل شيء قدراً ( أي أجلا لا يتقدم ولا يتأخر ، وقال ابن عباس : إنّا كل شيء جعلنا له شكلا يوافقه ويصلح له ، فالمرأة للرجل ، والأتان للحمار ، والرمكه للفرس ، وثياب الرجال للرجال لا تصلح للنساء ، وثياب النساء لا تصلح للرجال وكذلك ما شاكلها على هذا .
(9/170)

" صفحة رقم 171 "
وروى علي بن أبي طلحة عنه قال : خلق الله سبحانه الخلق كلّهم بقدر ، وخلق لهم الخير والشر فخير الخير السعادة ، وشر الشر الشقاوة .
2 ( ) وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( 2
القمر : ( 50 ) وما أمرنا إلا . . . . .
) وما أمرنا إلاّ واحدة ( وحقّه واحد ، قال أبو عبيدة هو نعت للمعنى دون اللفظ مجازها : وما أمرنا إلا مرة واحدة ، يعني الساعة وقيل : معناه وما أمرنا الشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة ( كن فيكون ) لا مراجعة فيها . ) كلمح البصر ( وذُكر أن هذه الآيات نزلت في القدرية .
أخبرنا أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه في داري قال : حدّثنا الفضل ابن الفضل الكندي ، قال : حدّثنا أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن النعمان قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال : حدّثنا الحسن بن حفص قال : حدّثنا سفيان عن زياد ابن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخاصمونه في القدر ، فنزلت هذه الآية ) إنّ المجرمين في ضلال وسعر ( إلى آخر السورة .
وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا القرماني قال : حدّثنا عبد الأعلى بن حماد قال : حدّثنا المعتمر بن سليمان قال حدّثني أبو مخزوم عن سيار أبي الحكم قال : بلغنا أنّ وفد نجران قالوا : أمّا الارزاق والأقدار فبقدر الله ، وأما الاعمال فليس بقدر ، فأنزل الله سبحانه فيهم ) إنّ المجرمين في ضلال وسعر ( إلى آخر الآية .
وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال : حدّثنا ابن أبي العوام قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا الصباح بن سهل البصري أبو سهل قال : حدّثنا جعفر بن سليمان عن خالد بن سلمة عن سعيد بن عمر عن عمر بن زرارة عن أبيه قال : كنت جالساً عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأ : ) إنّ المجرمين في ضلال وسعر ( إلى آخر السورة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نزلت هذه الآيات في ناس يكونون في آخر أُمتي يكذبون بقدر الله ) .
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب بن محمويه الفقيه بالقصر قال : حدّثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل قال : حدّثنا الحسين بن عرفه العبدي قال : حدّثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبدالملك بن جريج عن عطاء بن أبي رياح قال : أتيت ابن عباس وهو ينزع
(9/171)

" صفحة رقم 172 "
في زمزم قد ابتلّت أسافل ثيابه ، فقلت له : قد تكلّم في القدر ، فقال : أو قد فعلوها ؟ ، قلت : نعم ، قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلاّ فيهم ) ذوقوا مسّ سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر ( ، أُولئك شرار هذه الأُمة ، لا تعودوا مرضاهم ولا تصلّوا على موتاهم . إنْ أريتني أحداً منهم فقأت عينيه بإصبعيَّ هاتين .
وأخبرني عقيل بن محمد الفقيه أن أبا الفرج البغدادي أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدّثنا هشيم قال : أخبرنا حصين عن سعيد بن عبيده عن أبي عبدالرَّحْمن السلمي قال : لمّا نزلت هذه الآية ) إنّا كل شيء خلقناه بقدر ( قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل في شيء يستأنفه أو في شيء قد فرغ منه ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اعملوا فكل ميسّر ، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسين بن صقلاب قال : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبيد الطوابيقي قال : حدّثنا علي بن حرب الطائي قال : حدّثنا أبو مسعود يعني الزجاج . قال : حدّثنا أبو سعد عن طلق بن حبيب عن كعب قال : نجد في التوراة أن القدرية يسحبون في النار على وجوههم .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا عبدالله بن محمد ابن سنان قال : حدّثنا عمرو بن منصور أبو عثمان العيسي قال : حدّثني أبو أسيد الثقفي ، قال : حدّثني ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : تمارينا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القدر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل شيء بقدر حتى هذه ) وأشار بأصبعه السبابة حتى ضرب على ذراعه الأيسر ) .
وأخبرني ابن السري النحوي في ( درب حاجب ) قال : أخبرنا محمد بن عبدالله بن محمد العماني قال : أخبرنا عبدالله بن أحمد بن عامر قال : حدّثنا أبي قال : حدّثني علي بن موسى الرضا قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمد قال : حدّثني أبي محمد بن علي قال : حدّثني أبي علي بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن علي قال : حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله عزّوجل قدّر المقادير ودبر التدبر قبل أن يخلق ادم بألفي عام ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثني أحمد بن حماد بن سفيان قال : حدّثنا السري بن عاصم الهمداني قال : حدّثنا محمد بن مصعب القرقساني
(9/172)

" صفحة رقم 173 "
عن الاوزاعي عن عبده بن أبي لبابة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن ) .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال : حدّثنا محمد بن المثنى قال : حدّثني إبراهيم بن أبي الوزير قال : حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري عن سيف الكوفي عن أبي فزارة قال : قال ابن عباس : إذا كثرت القدرية بالبصرة ائتفكت بأهلها ، وإذا كثرت السبائية بالكوفة ائتفكت بأهلها .
وبه عن الساجي قال : حدّثنا الحسن بن حميد قال : حدّثني عبدالله بن الحسن بن عبدالملك بن حسان الكلبي قال : حدّثني سعيد بن محمد الغساني قال : لما أخذ أبو شاكر الديصاني بالبصرة فأقرّ أنه ديصاني ، وكان يجهر القول بالرفض والقدر ، فقيل له : لِمَ اخترت القول بالقدر والرفض ؟ ، قال : اخترت القول بالقدر لأُخرج أفعال العباد من قدرة الله ، وأنه ليس بخالقها ، فإذا جاز أن يخرج من قدرته شيء جاز أن تخرج الأشياء من قدرته كلها ، واخترت القول بالرفض لاتصول بالطعن إلى نقلة هذا الدين ، فإذا بطل النقلة بطل المنقول .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا عبدالله بن عبدالرَّحْمن الدقاق قال : حدّثنا محمد ابن عبدالعزيز قال : حدّثنا عبدالله بن عبدالوهاب قال : حدّثنا الدراوردي قال : قال لي أبو سهيل : إذا سلم عليك القدرية فردّ عليهم كما ترد على اليهود قل : وعليك .
القمر : ( 51 ) ولقد أهلكنا أشياعكم . . . . .
) ولقد أهلكنا أشياعكم ( أشباهكم في الكفر من الأُمم السالفة ) فهل من مدّكر }
القمر : ( 52 ) وكل شيء فعلوه . . . . .
) وكل شيء فعلوه ( من خير أو شرع يعني الأشياع ) في الزبر ( في كتب الحفظة ، وقيل : في اللوح المحفوظ .
القمر : ( 53 ) وكل صغير وكبير . . . . .
) وكل صغير وكبير ( منهم ومن أعمالهم ) مستطر ( مكتوب محفوظ عليهم . يقال : كتبت واكتتبت وسطرت واستطرت ، وقرأ واقترأت .
القمر : ( 54 ) إن المتقين في . . . . .
) إن المتقين في جنات ( بساتين ) ونهر ( أنهار ، ووحّده لأجل رؤوس الآي . كقوله سبحانه : ) ويولون الدبر ( ، وقال الضحاك : يعني في ضياء وسعة ، ومنه النهار قال الشاعر :
ملكت بها كفي وانهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها
(9/173)

" صفحة رقم 174 "
أي وسعت خرقها .
وقرأ الأعرج وطلحة ( ونُهُر ) بضمتين كأنها جمع نُهار يعني لا ليل لهم .
قال الفراء : أنشدني بعض العرب :
إن تك ليلياً فإني نهر
متى أتى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب نهار ، وقال الآخر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر
ثريد ليل وثريد بالنُهُر
القمر : ( 55 ) في مقعد صدق . . . . .
) في مقعد صدق ( في مجلس حق لا لغو فيه ولا مأثم وهو الجنة ) عند مليك مقتدر ( ملك قادر و ( عند ) إشارة إلى القربة والرتبة .
قال الصادق : مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلاّ أهل الصدق .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويه قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب بن إبراهيم البكري عن صالح بن حيان عن عبدالله بن بريده أنّه قال في قوله سبحانه وتعالى : ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( : إنّ أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى فيقرأون عليه القرآن ، وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو يجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة باعمالهم ، فلم تقرّ أعينهم بشيء قط كما تقرّ أعينهم بذلك ، ولم يسمعوا شيئاً أعظم ولا أحسن منه ، ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين ، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا سعد بن محمد بن أبي إسحاق الصيرفي قال : حدّثنا محمد ابن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا زكريا بن يحيى قال : حدّثنا عمرو بن ثابت عن أبيه عن عاصم بن ضمرة عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً في مسجد المدينة ، فذكر بعض أصحابه الجنة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لله لواءً من نور وعموداً من زبرجد خلقهما قبل أن يخلق السماوات بألفي عام ، مكتوب على رداء ذلك اللواء : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ، محمد خير البرية ، صاحب اللواء أمام القوم ) فقال علي : الحمد لله الذي هدانا بك وكرّمنا وشرفنا ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي أما علمت أن من أحبنا وانتحل محبتنا أسكنه الله تعالى معنا ) وتلا هذه الآية ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن ين أيوب . قال : حدّثنا
(9/174)

" صفحة رقم 175 "
عبدالله بن أبي زياد . قال : حدّثنا سيار قال : حدّثنا رياح القيسي عن ثور قال : بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون : يا أولياء الله انطلقوا ، فيقولون : إلى أين ؟ فيقولون : إلى الجنة ، فيقولون : إنكم لتذهبون بنا إلى غير بغيتنا ، فيقال لهم : وما بغيتكم ؟ فيقولون : المقعد مع الحبيب .
وسمعت أبا القاسم يقول : سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم البلاذري يقول : سمعت بكر بن عبدالرَّحْمن يقول : كان ذو النون المصري يحضّ أصحابه على التهجّد وقيام الليل . فإذا أحسّ منهم فتره قال : كدّوا يا أولياء الله ، فإن للأولياء ( في الجنة ) مقعد صدق يكشف حجب يوم يرون الجليل حقّاً .
(9/175)

" صفحة رقم 176 "
( سورة الرَّحْمن )
مكية ، وهي ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفاً ، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة ، وثمان وسبعون آية
أخبرنا الاستاذ أبو الحسين الجباري قال : حدّثت عن أحمد بن الحسن المقري قال : حدّثنا محمد بن يحيى الكيساني قال : حدّثنا هشام البربري قال : حدّثنا علي بن حمزة الكسائي قال : حدّثنا موسى بن جعفر عن أبيه جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لكلّ شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرَّحْمن جلّ ذكره ) .
وأخبرني أبو الحسين أحمد بن إبراهيم العبدي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد الحبري قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الرَّحْمن رحم الله ضعفه ، وأدّى شكر ما أنعم اللّه عليه ) .
روى هشام بن عروة عن أبيه قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عبدالله ابن مسعود ، وذلك أن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقالوا : ما سمعت قريش القرآن يجهر به ، فمن رجل يسمعهم ؟
فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : إنّا نخشى عليك منهم ، وإنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فقال : دعوني فإنّ الله سيمنعني ، ثم قام عند المقام فقال : بسم الله الرَّحْمن الرحيم ، الرَّحْمن علم القرآن ، رافعاً بها صوته ، وقريش في أنديتها فتأمّلوا وقالوا : ما يقول ابن أُم عبد ؟ ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء ، ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثّروا في وجهه ، فقالوا : هذا الذي خشينا عليك .
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/176)

" صفحة رقم 177 "
2 ( ) الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاَْرْضَ وَضَعَهَا لِلاَْنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاَْكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 2
الرحمن : ( 1 - 2 ) الرحمن
) الرَّحْمان علم القرآن ( نزلت حين قالوا : وما الرَّحْمن ؟ ، وقيل : هو جواب لأهل مكة حين قالوا : إنّما يعلّمه بشر .
الرحمن : ( 3 ) خلق الإنسان
) خلق الانسان ( قال ابن عباس وقتادة : يعني آدم ج .
الرحمن : ( 4 ) علمه البيان
) علّمه البيان ( أسماء كل شيء ، وقيل : علّمه اللغات كلّها ، وكان آدم ج يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية ، وقال آخرون : أراد جميع الناس ؛ لأن الانسان اسم الجنس ثم اختلفوا في معنى البيان ، فروي عن قتادة أنّه قال : علّمه بيان الحلال والحرام ، وبيّن له الخير والشر ، وما يأتي وما يذر ؛ ليحتج بذلك عليه .
وقال أبو العالية ومرّة الهمذاني وابن زيد : يعني الكلام . الحسن : النطق والتمييز . محمد ابن كعب : ما يقول وما يقال له . السدي : علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به . يمان : الكتابة والخط بالقلم . نظيره ) علم بالقلم ( . ابن كيسان : خلق الانسان يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) علمه البيان يعني بيان ما كان وما يكون ؛ لأنه كان يبيّن عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين .
الرحمن : ( 5 ) الشمس والقمر بحسبان
) الشمس والقمر بحسبان ( أي بحساب ومنازل لا تعدّونها ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو ملك .
قال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما بحسب الأوقات والأعمار والآجال ، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف نحسب شيئاً ، لو كان الدهر كلّه ليلاً كيف نحسب ؟ أو كلّه نهاراً كيف نحسب ؟ وقال الضحاك : يجريان بعدد . مجاهد : كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحا . السدي : بأجل كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا . نظيره ) كل يجري لأجل مسمى ( . يمان : يجريان بأهل الدنيا وقضائها وفنائها .
والحسبان قد يكون مصدر حسبت حساباً وحسباناً مثل الغفران والكفران والرجحان والنقصان ، وقد تكون جمع الحساب كالشهبان والرهبان والقضبان والركبان .
وارتفاع الشمس والقمر باضمار فعل مجازه الشمس والقمر يجريان بحسبان ، وقيل : مبتدأ وخبره فيما بعده .
(9/177)

" صفحة رقم 178 "
ونظم الآية الرَّحْمن علم القرآن وقدر الشمس والقمر ، وقيل : هو مردود على البيان ، أي علّمه البيان ، إن الشمس والقمر بحسبان .
ويقال : سعة الشمس ستة آلاف فرسخ وأربعمائة فرسخ في مثلها ، وسعة القمر ألف فرسخ في ألف فرسخ .
مكتوب في وجه الشمس : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ، خلق الشمس بقدرته ، وأجراها بأمره ، وفي بطنها مكتوب : لا إله إلاّ الله ، رضاه كلام ، وغضبه كلام ، ورحمته كلام ، وعذابه كلام ، وفي وجه القمر مكتوب : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ، خلق الله القمر ، وخلق الظلمات والنور ، وفي بطنه مكتوب : لا إله إلاّ الله خلق الخير والشر بقدرته ، يبتلي بهما من يشاء من خلقه ، فطوبى لمن أجرى الله الخير على يديه ، والويل لمن أجرى الله الشر على يديه .
الرحمن : ( 6 ) والنجم والشجر يسجدان
) والنجم والشجر يسجدان ( . قيل : هو ما ليس له ساق من الأشجار ، وينبسط على وجه الأرض ، وقال السدّي : هو جمع النبات سمّي نجماً لطلوعه من الأرض ، وسجودها سجود ظلها ، وقال مجاهد وقتادة : هو الكوكب ، وسجوده طلوعه .
الرحمن : ( 7 ) والسماء رفعها ووضع . . . . .
) والسماء رفعها ووضع الميزان ( قال مجاهد : العدل ، وقال الحسن والضحاك وقتادة : هو الذي يوزن به ليوصل به الإنصاف والانتصاف ، وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن ، وأصل الوزن التقدير .
الرحمن : ( 8 ) ألا تطغوا في . . . . .
) أنْ لا تطغوا ( يعني لئلاّ تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق ) في الميزان }
الرحمن : ( 9 ) وأقيموا الوزن بالقسط . . . . .
) وأقيموا الوزن بالقسط ( بالعدل ، وقال أبو الدرداء : أقيموا لسان الميزان بالقسط ، وقال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب ) ولا تخسروا ( ولا تنقصوا ) الميزان ( ولا تطففوا في الكيل والوزن .
قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا بن آدم كما تحب أنْ يعدل عليك ، وأوفِ كما تحب أن يوفى لك ، فإن العدل صلاح الناس .
وقراءة العامة ) تُخسِروا ( بضم التاء وكسر السين ، وقرأ بلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين وهما لغتان .
الرحمن : ( 10 ) والأرض وضعها للأنام
) والأرض وضعها للأنام ( للخلق ، وقال الحسن : للجن والإنس ، وقال ابن عباس والشعبي : لكل ذي روح .
الرحمن : ( 11 ) فيها فاكهة والنخل . . . . .
) فيها فاكهة ( يعني ( ألوان ) الفواكه ، وقال ابن كيسان : يعني ما يفكههم به من النعم التي لا تحصى ، وكل النعم يُتفكه بها ) والنخل ذات الأكمام ( أوعية التمر ، واحدها : كم ، وكل ما يسترنا فهو كم وكمة ، ومنه كمّ القميص ، ويقال : للقلنسوة : كمّة ، قال الشاعر :
(9/178)

" صفحة رقم 179 "
فقلت لهم كيلوا بكمّة بعضكم
دراهمكم إني كذاك أكيل
قال الضحاك : ذات الأكمام أي ذات الغلف . الحسن : أكمامها : ليفها . قتادة : رقابها . ابن زيد : الطلع قبل أن يتفتق .
الرحمن : ( 12 ) والحب ذو العصف . . . . .
) والحب ذو العصف ( قال مجاهد : هو ورق الزرع ، قال ابن السكّيت : يقول العرب لورق الزرع : العصف والعصيفة والجِل بكسر الجيم ، قال علمقة بن عبدة :
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها
حدورها من أتيّ الماء مطموم
العصف : ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس . نظيره ) كعصف مأكول ( .
) والريحان ( قال مجاهد : هو الرزق ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : كل ريحان في القرآن فهو رزق .
قال مقاتل بن حيان : الريحان : الرزق بلغة حمْيَر . قال الشاعر :
سلام الإله وريحانه
ورحمته وسماء درر
سعيد بن جبير عن ابن عباس : الريحان : الريع . الضحّاك : هو الطعام . قال : فالعصف هو التين والريحان ثمرته . الحسن وابن زيد : هو ريحانكم هذا الذي يشم . الوالبي عن ابن عباس : هو خضرة الزرع . سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق .
وقراءة العامة ( والحبُ ذو العصف والريحان ) كلّها مرفوعاً بالرد على الفاكهة ، ونَصبها كلّها ابن عامر على معنى خلق هذا الانسان وخلق هذه الاشياء ، وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصم ( والريحان ) بالجر عطفاً على العصف .
الرحمن : ( 13 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
) فبأي آلاء ( نِعَم ) ربكما تكذبان ( أيها الثقلان .
يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن مسلم الحنبلي قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عبدالخالق قال : حدّثنا عبدالوهاب الوراق قال : حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني قال : حدّثنا هشام بن عمار الدمشقي ، قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا وهب ابن محمد عن ابن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال : قرأ علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سورة الرَّحْمن حتى ختمها . ثم قال : ( ما لي أراكم سكوتاً ؟ للجن أحسن منكم ردّاً ، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( إلاّ قالوا : ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذب ) .
(9/179)

" صفحة رقم 180 "
وقيل : خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب ، وقد مضت هذه المسألة في قوله سبحانه : ) أُلقيا في جهنم ( .
وأما الحكمة من تكرارها فقال القتيبي : إن الله سبحانه وتعالى عدّد في هذه السورة نعماه ، وذكّر خلقه آلاءه . ثم أتبع ذكر كلّ كلمة وضعها ، ونعمة ذكرها بهذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقرّرهم بها ، وهو كقولك لرجل : أحسنت إليه وتابعت بالأيادي ، وهو في كل ذلك ينكرك ويكفرك : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ؟ أفتنكر ؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك ؟ ، أفتنكر هذا ؟ ألم أحملك وأنت راحل ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ؟ ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن صرورة فحججت بك ؟ أفتنكر هذا ؟
والتكرار سايغ في كلام العرب ، حسن في مثل هذا الموضع . قال الشاعر :
المم سلومه المم المم
وقال الآخر :
كم نعمة كانت لكم
كم كم وكم
وقال آخر :
فكادت فرارة تصلى بنا
فاولى فرارة أولى فراراً
وقال آخر :
لا تقطعن الصديق ماطرفت
عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملّنّ من زيارته
زره وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل : التكرار لطرد الغفلة وتأكيد الحجة .
( ) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاَْعْلَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
(9/180)

" صفحة رقم 181 "
الرحمن : ( 14 - 15 ) خلق الإنسان من . . . . .
) خَلق الانسان من صلصال كالفخار وخَلق الجان ( وهو أب الجن ، وقال الضحاك : هو إبليس ، وقال أبو عبيدة : الجان واحد الجن ) من مارج ( لهب صاف وخالص لا دخان فيه . قال ابن عباس : هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت . عكرمة : هو أحسنها . مجاهد : هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الاحمر والاصفر والاخضر الذي يعلو النار إذا أُوقدت ، وهو من قولهم : مرج القوم إذا اختطلوا ، ومرجت عهودهم وأماناتهم . ) من نار (
الرحمن : ( 16 - 17 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان ربّ المشرقين ( مشرق الصيف والشتاء ) وربّ المغربين ( مغرب الصيف والشتاء .
)
الرحمن : ( 18 - 19 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ) مرج ( أرسل ) البحرين ( العذب والملح وخلاّهما وخلقهما ) يلتقيان (
الرحمن : ( 20 - 21 ) بينهما برزخ لا . . . . .
) بينهما برزخ ( حاجز وحائل من قدرة الله وحكمته ) لا يبغيان ( لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه ، وقال قتادة : لا يبغيان على الناس بالغرق ، وقال الحسن : ( مرج البحرين ) يعني بحر الروم وبحر الهند واسم الحاجز بينهما ، وعن قتادة أيضاً : يعني بحر فارس والروم ، ( بينهما برزخ ) وهو الجزائر ، وقال مجاهد والضحاك : يعني بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام .
الرحمن : ( 22 - 23 ) يخرج منهما اللؤلؤ . . . . .
) يخرج ( قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم . الباقون على الضدّ .
) منهما اللؤلؤ ( أي من البحرين ، قال أهل المعاني : إنّما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب ، ولكن هذا جائز في كلام العرب ان يذكر شيئاً ثم يخصّ أحدهما بفعل دون الآخر ، كقول الله سبحانه : ) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( والرسل من الإنس دون الجن ، قاله الكلبي . قال : وجعل القمر فيهن نوراً وإنما هو في واحدة منهما ، وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر اللؤلؤ وهو أعظم من الدر ، واحدتها لؤلؤة . ) والمرجان ( وهو صغارها ، وقال مرّة : المرجان جيّد اللؤلؤ ، وروى السدّي عن أبي مالك أن المرجان الخرز الأحمر ، وقال عطاء الخراساني هو البسذ ، يدل عليه قول ابن مسعود : المرجان حجر ، والذي حكينا من أن المراد بالبحرين القطر والبحر ، وأن الكناية في قوله : ( منهما ) راجعة إليهما ( وهو ) قول الضحاك ، ورواية عطية عن ابن عباس وليث عن مجاهد .
وتصديقهم ما أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ قال : أخبرنا الهيثم بن خلف قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال : حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قرأ ) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( قال : إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها ، فحيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة .
(9/181)

" صفحة رقم 182 "
ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدف ، فأصابت بعض النواة ولم يصب بعضها فكانت حيث القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة .
وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبدالله قال : قرأ أبي على أبي محمد بن الحسن بن علويه القطان من كتابه وأنا اسمع ، قال : حدّثنا بعض أصحابنا قال : حدّثني رجل من أهل مصر يقال له : طسم قال : حدّثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قول الله سبحانه : ) مرج البحرين يلتقيان ، بينهما برزخ لا يبغيان ( قال : فاطمة وعلي ) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( قال : الحسن والحسين .
وروي هذا القول أيضاً عن سعيد بن جبير ، وقال : ) بينهما برزخ ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والله أعلم .
وقال أهل الإشارة ) مرج البحرين ( أحدهما معرفة القلب والثاني معصية النفس ، بينهما برزخ الرحمة والعصمة .
) لا يبغيان ( لا تؤثر معصية النفس في معرفة القلب ، وقال ابن عطاء : بين العبد وبين الرب بحران : أحدهما بحر النجاة ، وهو القرآن من تعلق به نجا ، والثاني بحر الهلاك وهو الدنيا من تمسك بها وركن إليها هلك ، وقيل : بحرا الدنيا والعقبى ، بينهما برزخ وهو القبر قال الله سبحانه : ) ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( .
) لا يبغيان ( لا يحل أحدهما بالآخر ، وقيل : بحرا العقل والهوى ) بينهما برزخ ( لطف الله تعالى . ) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( التوفيق والعصمة ، وقيل : بحر الحياة وبحر الوفاة ، بينهما برزخ وهو الأجل ، وقيل : بحر الحجة والشبهة ، بينهما برزخ وهو النظر والاستدلال ) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( الحق والصواب .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان }
الرحمن : ( 24 - 25 ) وله الجوار المنشآت . . . . .
) وله الجوار ( السفن الكبار ) المنشآت ( كسر حمزة سينها ، وهي رواية المفضل عن عاصم تعني المقبلات المبتديات اللاتي أنشأن بجريهن وسيرهن ، وقرأ الآخرون بفتحه أي المخلوقات المرفوعات المسخّرات ) في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذّبان }
الرحمن : ( 26 ) كل من عليها . . . . .
) كل من عليها ( أي على الأرض من حيوان كناية عن غير مذكور كقول الناس : ( ما عليها أكرم من فلان ) يعنون الأرض ، وما بين لابتيها أفضل منه يريدون جُزئَي المدينة ) فان ( هالك ، قال ابن عباس : لمّا أُنزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض فأنزل الله تعالى ) كل شيء هالك إلاّ وجهه ( فأيقنت الملائكة بالهلاك
(9/182)

" صفحة رقم 183 "
الرحمن : ( 27 - 28 ) ويبقى وجه ربك . . . . .
) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ( قراءة العامة بالواو ، وقرأ عبدالله ذي الجلال بالياء نعت الربّ .
أخبرني الحسين أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبدالله قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن منصور الكناني قال : حدّثنا الحرث بن عبدالله قال : أخبرنا عبدالرَّحْمن بن عثمان الوقاصي ، قال : حدّثنا محمد بن كعب القرظي قال : قال عبدالله بن سلام : بعث إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا بن سلام إنّ الله عز وجل يقول : ) ذو الجلال والإكرام ( فأمّا الإكرام فقد عرفت فما الجلال ؟ فقال : بأبي أنت إنّا نجد في الكتب أنّها الجنة المحيطة بالعرش .
قال : فكم بينهما وبين الجنات التي يسكن الله عباده ؟ قال : مدى سبعمائة سنة ، قال : فنزل جبرئيل بتصديقه .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا بن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة قال : حدّثنا سعيد الجزيري عمّن سمع اللجلاج يقول : سمعت معاذ بن جبل وكان له أخاً وصديقاً قال : سمعته يقول : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مرّ برجل يصلّي وهو يقول : يا ذا الجلال والإكرام . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( قد استجيب لك ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي الخصيب المصيصي قال : حدّثنا هلال بن العلاء قال : حدّثنا أبو الجرار قال : حدّثنا عمار بن زريق عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أَلِظوا ب ( يا ذا الجلال والإكرام ) ) .
واخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب . قال : حدّثنا محمد بن يونس عن بسر بن عمر قال : حدّثنا وهيب بن خالد عن ابن عجلان عن سعيد المنقري قال : الحح رجل فقعد ينادي : يا ذا الجلال والإكرام . فنودي : إني قد سمعت فما حاجتك ؟
) فبأي آلاء ربكما تكذّبان }
الرحمن : ( 29 - 30 ) يسأله من في . . . . .
) يسأله من في السماوات والأرض ( من ملك وإنس وجنّ وغيرهم لا غنى لأحد منهم منه قال ابن عباس : وأهل السموات يسألونه المغفرة ، ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة
(9/183)

" صفحة رقم 184 "
) كل يوم هو في شأن ( قال مقاتل : أُنزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً ، فأنزل الله سبحانه : ) كل يوم هو في شأن ( .
أخبرني أبو القاسم عبدالرَّحْمن بن محمد إبراهيم الحوضي قال : أخبرنا أبو أحمد عبدالله ابن عدي الحافظ قال : حدّثنا عبدالله بن محمد بن طويط أبو القاسم البزاز قال : حدّثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي قال : حدّثنا عمر بن بكر قال : حدّثنا حارث بن عبيدة بن رياح الغسّاني عن أبيه عن عبدة بن أبي رياح عن مثبت بن عبدالله الأزدي عن أبيه عن عبدالله بن منيب قال : تلا علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ) كل يوم هو في شأن ( فقلنا : يا رسول الله وما ذاك الشأن ؟ قال : ( يغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين ) .
وحدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس إملاءً قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد ابن يحيى البزاز ، قال : حدّثنا يحيى بن الربيع المكي قال : حدّثنا سفيان بن عيينة قال : حدّثنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن ممّاخلق الله سبحانه وتعالى لوحاً من درّة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله سبحانه فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ، فذلك قوله سبحانه ) كل يوم هو في شأن ( .
وقال مجاهد وعبيدة بن عمير : من شأنه أن يجيب داعياً ويعطي سائلا ويفكّ غائباً ويشفي سقيماً ويغفر ذنباً ويتوب على قوم ، وقال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند الله سبحانه يومان : أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة ، والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا ، الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب ، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت .
ويقال : شأنه سبحانه أنّهُ يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر : عسكراً من أصلاب الآباء إلى الأرحام ، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكراً من الدنيا إلى القبور ، ثم يرحلون جميعاً إلى الله سبحانه ، وقال الربيع بن أنس : يخلق خلقاً ويميت آخرين ويرزقهم ويكلؤهم . سويد بن جبلة الفراري : يعتق رقاباً ويقحم عقاباً ويعطي رغاباً ، وقال بعضهم : هو الجمع والتفريق . أبو سليمان الداراني : هو إيصاله المنافع إليك ، ودفعه المضار عنك . فلم نغفل عن طاعة من لا يغفل عنا ؟ وقال أيضاً : في هذه الآية كل يوم له إلى العبيد برّ جديد .
ويحكى أن بعض الأمراء سأل وزيره عن معنى هذه الآية فلم يعرفه واستمهله إلى الغد ، فرجع الوزير إلى داره كئيباً ، فقال له غلام أسود من غلمانه : يا مولاي ما أصابك ؟ فزجره .
(9/184)

" صفحة رقم 185 "
فقال : يا مولاي ، أخبرني ، فلعلّ الله سبحانه يسهّل لك الفرج على يديّ ، فأخبره بذلك فقال له : عد إلى الأمير وقل له : إن لي غلاماً أسود إن أذنت له فسّر لك هذه الآية ، ففعل ذلك ودعا الأمير الغلام وسأله عن ذلك فقال : أيها الأمير شأن الله هو انه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت ، ويشفي سقيماً ، ويسقم سليماً ، ويبتلي معافىً ، ويعافي مبتلىً ، ويعز ذليلا ، ويذل عزيزاً ، ويفقر غنياً ويغني فقيراً . فقال الأمير : أحسنت يا غلام ، قد فرّجت عني . ثم أمر الوزير بخلع ثياب الوزارة وكساها الغلام ، فقال : يا مولاي ، هذا شأن الله عز وجل .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( .
) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 2
الرحمن : ( 31 - 32 ) سنفرغ لكم أيها . . . . .
) سنفرغ لكم ( قرأ عبدالله وأبي ( سنفرغ اليكم ) ، وقرأ الاعمش بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية ، وقرأ الأعرج بفتح النون والراء . قال الكسائي : هي لغة تميم ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح الراء ، واختاره أبو عبيد اعتباراً بقوله : ) يسأله من في السماوات والأرض ( فاتبع الخبر الخبر ، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الراء ، واختاره أبو حاتم .
فإن قيل : إن الفراغ لا يكون إلاّ عن شغل والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن . قلنا : اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم : هذا وعيد وتهديد من الله سبحانه وتعالى لهم كقول القائل : لأتفرغنّ لك وما به شغل ، وهذا قول ابن عباس والضحاك ، وقال آخرون : معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم ، وقد يقول القائل للذي لا شغل له : قد فرغت لي وفرغت لشتمي ، أي أخذت فيه وأقبلت عليه . قال جرير بن الخطفي :
ولما التقى القين العراقي بأسته
فرغت إلى القين المقيّد بالحجل
أي قصدته بما يسوؤه ، وهذا القول اختيار الفندي والكسائي .
وقال بعضهم : إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على الفجور ، ثم قال : سنفرغ لكم مما أوعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم ، وننجز لكم ما وعدناكم ، ونوصل كلا إلى ما عدناه ، فيتمّ ذلك ويفرغ منه ، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل وابن زيد ، وقال ابن كيسان : الفراغ
(9/185)

" صفحة رقم 186 "
للفعل هو التوفر عليه دون غيره . ) أيها الثقلان ( أي الجن والإنس ، دليله قوله في عقبه ) يا معشر الجن والإنس ( سمّيا ثقلين ؛ لأنهما ثقل أحياءً وأمواتاً ، قال الله سبحانه : ) وأخرجت الأرض أثقالها ( وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل ، ومنه قيل لبيض النعام : ثقل ؛ لأن واجده وصائده يفرح إذا ظفر به قال الشاعر :
فتذكّرا ثقلاً رثيداً بعدما
ألقت ذكاءُ يمينها في كافر
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ) فجعلهما ثقلين إعظاماً لقدرهما ، وقال جعفر الصادق : سمي الجن والانس ثقلين ؛ لأنهما مثقلان بالذنوب .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان }
الرحمن : ( 33 - 34 ) يا معشر الجن . . . . .
) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم ( ولم يقل : استطعتما ؛ لأنهما فريقان في حال جمع كقوله سبحانه : ) فإذا هم فريقان يختصمون ( وقوله سبحانه : ) هذان خصمان اختصموا في ربهم ( .
) أن تنفذوا ( تجوزوا ) من أقطار السموات والأرض ( أي أطرافها ) فانفذوا ( ومعنى الآية إن استطعتم ان تجوزوا اطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ، وانما يقال لهم هذا يوم القيامة ، وقال الضحاك : يعني هاربين من الموت ، فأخبر أنه لا يجيرهم من الموت ولا محيص لهم منه ، ولو نفذوا من أقطار السماوات والأرض كانوا في سلطان الله عز وجل وملكه ، وقال ابن عباس : يعني : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ، ولن تعلموه إلاّ بسلطان يعني البيّنة من الله سبحانه . ) لا تنفذون إلاّ بسلطان ( أي حجة .
قال ابن عباس وعطاء : لا تخرجون من سلطان ، وقيل معناه إلاّ إلى سلطاني كقوله ) وقد أحسن بي ( أي أحسن أليّ ، وقال الشاعر :
أسىء بنا أفأحسني لا ملومة
لدينا ولا مقليّة إن تقلّت
وفي الخبر ( يحاط على الخلق الملائكة وبلسان من نار ثم ينادون : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم . . . فذلك قوله تعالى . . . ) .
الرحمن : ( 35 - 36 ) يرسل عليكما شواظ . . . . .
) يُرسَل عليكم شواظ من نار ( قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق بكسر الشين ، غيرهما بضمّه ، وهما لغتان مثل صُوار من البقر ، وصَوار وهو اللهب ، قال حسان بن ثابت يهجو أُمية بن أبي الصلت :
هجوتك فاختضعتَ لها بذلَ
بقافية تأجج كالشواظ
(9/186)

" صفحة رقم 187 "
وقال رؤبة :
إن لهم من وقعنا أقياظا
ونار حرب تسعر الشواظا
وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب ) ونحاس ( قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر السين عطفاً على النار ، واختاره أبو حاتم ، وقرأ الباقون بالرفع عطفاً على الشواط ، واختاره أبو عبيد .
قال سعيد بن جبير : النحاس : الدخان ، وهي رواية أبي صالح وابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال النابغة :
يضيء كضوء سراج السليط
لم يجعل الله فيه نحاسا
قال الاصمعي : سمعت أعرابياً يقول : السليط : دهن السنام ولا دخان له ، وقال مجاهد وقتادة : هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . قال مقاتل : هي خمسة أنهار من صفر ذائب تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار ، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار ، وقال عبدالله بن مسعود : النحاس : المهل . ربيع : القطر . الضحّاك : دُرديّ الزيت . الكسائي : هو الذي له ريح شديدة ) فلا تنتصران ( فلا تنتقمان وتمتنعان .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان (
الرحمن : ( 37 - 38 ) فإذا انشقت السماء . . . . .
) فإذا انشقت ( انفرجت ) السماء ( فصارت أبواباً لنزول الملائكة ، بيانه قوله سبحانه : ) يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ( ) فكانت ( صارت ) وردة ( مشرقة ، وقيل : متغيّرة ، وقيل : بلون الورد .
قال قتادة : إنها اليوم خضراء وسيكون لها يومئذ لون آخر ) كالدهان ( اختلفوا فيه . قال ابن عباس والضحاك وقتادة والربيع : يعني كلون غرس الورد ، يكون في الربيع كميتاً أصفر ، فإذا ضربه أول الشتاء يكون كميتاً أحمر ، فإذا اشتدّ الشتاء يكون كميتاً أغبر ، فشبه السماء في تلوّنها عند انشقاقها بهذا الغرس في تلوّنه ، وقال مجاهد وأبو العالية : كالدّهن ، وهي رواية شيبان عن قتادة ، قال : الدهان جمع الدهن ، وللدهن ألوان ، شبّه السماء بألوانه . ( وقال : ) عطاء بن أبي رياح : كعصير الزيت يتلوّن في الساعة ألواناً .
( وقال : ) الحسين بن الفضل : كصبيب الدهن يتلوّن . ( وقال : ) ابن جريج : تذوب السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم ، ( وقال : ) مقاتل : كدهن الورد الصافي . ( وقال ) مؤرخ : كالوردة الحمراء ، ( وقال : ) الكلبي : كالأديم الأحمر ، وجمعه أدهنة .
(9/187)

" صفحة رقم 188 "
) فبأي آلاء ربكما تكذّبان ( أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة ، قال : حدّثنا ابن أيوب قال : حدّثنا لقمان الحنفي قال أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على شاب في جوف الليل وهو يقرأ هذه الآية : ) فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدّهان ( فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول : ويحي من يوم تنشق فيه السماء ، ويحي ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا فتى مثلها أو مثّلها ، فوالذي نفسي بيده لقد بكت الملائكة يا فتى من بكائك ) .
2 ( ) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاَْقْدَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 2
الرحمن : ( 39 - 40 ) فيومئذ لا يسأل . . . . .
) فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( قال الحسين وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم ، لأن الله سبحانه علمها منهم وحفظها ( عليهم ) ، وكتبت الملائكة عليهم ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، وعنه أيضاً لا يسأل الملائكة ( المجرمين ) ؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم ، دليله ما بعده ، وإلى هذا القول ذهب مجاهد ، وعن ابن عباس أيضاً في قوله سبحانه : ) فوربّك لنسألنّهم أجمعين ( وقوله : ) فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا ؟ ، وقال عكرمة أيضاً : مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها ، وعن ابن عباس أيضاً : لا يسألون سؤال شفاء وراحة ، وانما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ ، وقال أبو العالية : لا يسأل غير المذنب عن ذنب المجرم .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان (
الرحمن : ( 41 - 42 ) يعرف المجرمون بسيماهم . . . . .
) يعرف المجرمون بسيماهم ( وهو سواد الوجه وزرقة العيون ) فيؤخذوا بالنواصي والأقدام ( فيسحبون إلى النار ويقذفون فيها ثم يقال لهم :
الرحمن : ( 43 ) هذه جهنم التي . . . . .
) هذه جهنم التي يكذّب بها المجرمون ( المشركون .
الرحمن : ( 44 - 45 ) يطوفون بينها وبين . . . . .
) يطوفون بينها وبين حميم آن ( قد انتهى خبره ، وقال قتادة : آني طبخه منذ خلق الله السموات الأرض ، ومعنى الآية أنهم يسعون بين الجحيم وبين الحميم .
قال كعب الأحبار : ( آن ) ( وادي ) من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم وهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منها وقد أحدث
(9/188)

" صفحة رقم 189 "
الله سبحانه لهم خلقاً جديداً ، فيلقون في النار فذلك قوله سبحانه : ) يطوفون بينها وبين حميم آن ( ) فبأي آلاء ربكما تكذّبان (
الرحمن : ( 46 - 47 ) ولمن خاف مقام . . . . .
) ولمن خاف مقام ربّه ( أي مقامه بين يدي ربّه ، وقيل : قيامه لربه ، بيانه قوله : ) يوم يقوم الناس لرب العالمين ( ، وقيل : قيام ربّه عليه ، بيانه قوله : ) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ( قال إبراهيم ومجاهد : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافة الله . قال ذو النون : علامة خوف الله أن يؤمنك خوفه من كل خوف ، وقال السدّي : شيئان مفقودان الخوف المزعج والشوق المقلق .
) جنتان ( بستانان من الياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر ، ترابهما الكافور والعنبر وحمأتهما المسك الأذفر ، كل بستان منهما مسيرة مائة سنة ، في وسط كلّ بستان دار من نور .
قال محمد بن علي الترمذي : جنة بخوفه ربّه ، وجنّة بتركه شهوته . قال مقاتل : هما جنّة عدن وجنّة النعيم ، وقال أبو موسى الأشعري : جنّتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من فضة للتابعين .
وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه : ( هل تدرون ما هاتان الجنتان ؟ ، هما بستانان في بساتين ، قرارهما ثابت ، وفرعهما ثابت ، وشجرهما ثابت ) .
وأخبرني عقيل إجازة قال : أخبرنا المعافى قراءة قال : أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال : حدّثني محمد بن موسى الجرشي قال : حدّثنا عبدالله بن الحرث القرشي قال : حدّثنا شعبة بن الحجاج قال : حدّثنا سعيد الحريري عن محمد بن سعد عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولمن خاف مقام ربه جنتان ( فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ ، قال : ( وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء ) .
) فبأي آلاء ربكما تكذّبان (
الرحمن : ( 48 - 49 ) ذواتا أفنان
) ذواتا أفنان ( قال ابن عباس : ألوان ، وواحدها فن وهو من قولهم : افتنّ فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب ، قال الضحاك : ألوان الفواكه . مجاهد : أغصان وواحدها فنن . عكرمة : ظل الأغصان على الحيطان . الحسن : ذواتا ظلال ، وهو كقوله : ) وظل ممدود ( . ( قال ) الضحاك أيضاً : ذواتا أغصان وفصول . قال : وغصونها كالمعروشات تمسّ بعضها بعضاً ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . ( قال ) قتادة : ذواتا فضل وسعة على ما سواهما . ( قال ) ابن كيسان : ذواتا أصول .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان (
الرحمن : ( 50 - 51 ) فيهما عينان تجريان
) فيهما عينان تجريان ( قال ابن عباس : بالكرامة والزيادة على أهل الجنة ، وقال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم والأُخرى السلسبيل
(9/189)

" صفحة رقم 190 "
عطية : إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين ، وقيل : إنهما تجريان من جبل من مسك ، وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان بالبكاء .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان }
الرحمن : ( 52 - 53 ) فيهما من كل . . . . .
) فيهما من كل فاكهة زوجان ( صنفان .
قال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة أو مرّة إلاّ وهي في الجنة حتى الحنظل إلاّ أنه حلو .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان }
الرحمن : ( 54 - 55 ) متكئين على فرش . . . . .
) متكئين ( حال ) على فرش ( جمع فراش ) بطائنها ( جمع بطانة ) من إستبرق ( وهو ما غلظ من الديباج وحسن ، وقيل : هو أَستبر معرب .
قال ابن مسعود وأبو هريرة : هذه البطائن فما ظنّكم بالظهائر ؟ ، وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من استبرق فما الظواهر ؟ قال : هذا مما قال الله سبحانه : ) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ( .
وعنه أيضاً قال : بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد ، وقال الفرّاء : أراد بالبطائن الظواهر .
قال المؤرخ : هو بلغة القبط ، وقد تكون البطانة ظهارة والظهارة بطانة ؛ لأن كل واحد منهما يكون وجهاً ، تقول العرب : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء للذي يراه ، وقال عبدالله ابن الزبير في قتلة عثمان : قتلهم الله شرّ قتلة ، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب ، يعني هربوا ليلا ، فجعل ظهور الكواكب بطوناً .
قال القتيبي : هذا من عجيب التفسير ، وكيف تكون البطانة ظهارة ، والظهارة بطانة ؟ والبطانة من بطن من الثوب ، وكان من شأن الناس إخفاؤه ، والظهارة ما ظهر منه ، ومن شأن الناس إبداؤه ، وهل يجوز لأحد ان يقول لوجه المصلي : هذا بطانته ، ولما ولي الأرض : هذا ظهارته ، لا والله لا يجوز هذا ، وانما أراد الله سبحانه وتعالى ان يعرّفنا لطفه من حيث يعلم فضل هذه الفرش ، وأن ما ولي الأرض منها إستبرق ، وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف ، وكذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لَمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلّة ) . فذكر المناديل دون غيرها ؛ لأنها أحسن ويصدّق قول القتيبي ما حكيناه عن ابن مسعود وأبي هريرة ، والله أعلم .
) وجنا الجنّتين ( ثمرهما ) دان ( قريب يناله القائم والقاعد والنائم ) فبأي آلاء ربكما
(9/190)

" صفحة رقم 191 "
تكذبان }
الرحمن : ( 56 - 57 ) فيهن قاصرات الطرف . . . . .
) فيهنّ قاصرات الطرف ( غاضات الأعين ، قد قصر طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ولا يردن غيرهم ، قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزّة ربي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك ، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك . ) لم يطمثهن ( لم يجامعهنّ ولم يفترعهنّ ، وأصله من الدم ، ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قال لم يُدمِهن بالجماع . ) إنس قبلهم ولا جان ( . قال مجاهد : إذا جامع الرجل ولم يسمِّ انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه فذلك قوله سبحانه : ) لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان ( أي لم يجامعهن ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا امرأة ماتت بجمع لم تطمث دخلت الجنة ) وقال الشاعر :
دفعن اليّ لم يُطمثن قبلي
وهن أصح من بيض النعام
قال سهل : من أمسك طرفه في الدنيا عن اللذات عُوّض في الآخرة القاصرات ، وقال ارطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن من ثواب ؟ قال : نعم ، وقرأ هذه الآية ، قال : فالإنسيّات للإنس والجنيّات للجنّ .
الرحمن : ( 58 - 59 ) كأنهن الياقوت والمرجان
) كأنهن الياقوت والمرجان ( قال قتادة : صفاء الياقوت في بياض المرجان .
أخبرنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال : حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال : حدّثنا سهل بن عثمان العسكري قال : حدّثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن المرأة من أهل الجنّة ليُرى بياض ساقها من سبعين حلّة حتى يرى مخّها ، إن الله سبحانه وتعالى يقول : ) كأنّهن الياقوت والمرجان ( فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه ) .
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلّة فيرى مخّ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء .
) فبأي آلاء ربكما تكذّبان }
الرحمن : ( 60 - 61 ) هل جزاء الإحسان . . . . .
) هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان ( ، ( هل ) في كلام العرب على أربعة أوجه :
الأول : بمعنى ( قد ) كقوله : ) هل أتى ( و ) هل أتاك ( .
(9/191)

" صفحة رقم 192 "
والثاني : بمعنى الاستفهام ، كقوله سبحانه : ) فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً ( .
والثالث : بمعنى الأمر ، كقوله سبحانه : ) فهل أنتم منتهون ( .
والرابع : بمعنى ( ما ) الجحد ، كقوله سبحانه : ) فهل على الرسل إلا البلاغ المبين و ( ) هل جزاء الاحسان إلاّ إلاحسان ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة وابن حمدان والفضل بن الفضل والحسن بن علي ابن الفضل قالوا : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام قال : حدّثنا الحجاج بن يوسف المكتب قال : حدّثنا بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان ( قال : ( هل تدرون ما قال ربكم عزّوجل ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ( هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلاّ الجنّة ) .
وحدّثنا أبو العباس بن سهل بن محمد بن سعيد المروزي لفظاً بها قال : حدّثنا جدي أبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد اللّه ، قال : أخبرنا عبد اللّه بن محمود ، قال : حدّثنا محّمد بن مبشر ، قال : حدثنا إسحاق بن زياد الأبلي قال : حدّثنا بشر بن عبد اللّه الدارمي ، عن بشر بن عبادة عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال : سمعت ابن عمر وابن عباس يقولان : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ) هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان ( يقول الله سبحانه : هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلاّ أن أُسكنه جنّتي وحظيرة قدسي برحمتي ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبدالملك بن محمد بن عدي قال : حدّثنا صالح بن شعيب الخواص ببيت المقدس قال : حدّثنا عبيدة بن بكار قال : حدّثنا محمد بن جابر اليمامي عن ابن المكندر ) هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان ( قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالاسلام إلاّ الجنّة ، وقال ابن عباس : هل جزاء من عمل في الدنيا حسناً ، وقال : لا إله إلاّ الله ، إلاّ الجنّة في الآخرة ، هل جزاء الذين أطاعوني في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة ، وقال الصادق : ( هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلاّ حفظ الإحسان عليه إلى الأبد ) ، وقال محمد ابن الحنفية والحسن : هي مسجلة للبر والفاجر ( للفاجر ) في دنياه وللبرّ في آخرته .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان (
الرحمن : ( 62 - 63 ) ومن دونهما جنتان
) ومن دونهما ( يعني : ومن دون الجنتين الأُولتين ) جنتان (
(9/192)

" صفحة رقم 193 "
أُخريان ، واختلف العلماء في معنى قوله ) ومن دونهما ( ، فقال ابن عباس : ومن دونهما في الدرج ، وقال ابن زيد : ومن دونهما في الفضل ، قال ابن زيد : هي أربع : جنتان للمقرّبين السابقين فيهما من كلّ فاكهة زوجان ، وجنّتان لأصحاب اليمين والتابعين ، فيهما فاكهة ونخل ورمان ، وقال أبو معاذ الفضل بن يحيى : أراد غيرهما ؛ لأنهما دون الاُوليين ، وقال الكسائي : يعني أمامهما وقبلهما ، كقول الشاعر :
رب خرق من دونها يخرس السفر
وميل يفضي إلى أميال
أي قبل الفلاة الأُولى ، ودليل هذا التأويل قول الضحاك : الجنتان الأُوليان من ذهب وفضة ، والأُخريان من ياقوت وزمرد ، وهما أفضل من الأُوليين .
) فبأي آلاء ربكما تكذّبان (
الرحمن : ( 64 - 65 ) مدهامتان
) مدهامّتان ( ناعمتان سوداوان من ريّهما وشدّة خضرتهما ؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد ، قال ذو الرمّة :
كسا الأكم بهمي غضة حبشية
تواماً ونقعان الظهور الأقارع
فجعلها حبشية لما اشتدّت خضرتها ، وقيل ملتقيان .
) فبأي آلاء ربكما تكذّبان (
الرحمن : ( 66 - 67 ) فيهما عينان نضاختان
) فيهما عينان نضّاختان ( ممتلئتان قبّاضتان فوّارتان بالماء لا ينقطعان ، وقال الحسن بن أبي مسلمد ينبعان ثم يجريان ، وقال ابن عباس : تنضحان بالخير والبركة على أهل الجنة ، ( وقال ) ابن مسعود : تنضخان على أولياء الله بالمسك والكافور . سعيد ابن جبير : نضاختان بالماء وألوان الفواكه . أنس بن مالك : تنضخ المسك والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ طش المطر ، وأصل النضخ الرش ، وهو أكثر من النضخ .
) فبأي آلاء ربكما تكذّبان ( .
2 ( ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَات
(9/193)

" صفحة رقم 194 "
فِى الْخِيَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ ( 2
الرحمن : ( 68 - 69 ) فيهما فاكهة ونخل . . . . .
) فيهما فاكهة ونخل ورمان ( كأنما أعاد ذكر النخل والرمان وهما من حملة الفاكهة للتخصيص والتفضيل ، كقوله : ) من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل ( وقوله : ) حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ( وقوله : ) ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض ( ثم قال : ) وكثير من الناس ( وقوله سبحانه : ) وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة ، قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا سحاب بن الحرث قال : أخبرنا علي بن مسير عن مسيعر عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة قال : إن نخل الجنّة نضدها ما بين أصله إلى فرعه ، وثمره كأمثال القلال ، كلّما نُزعتْ عادت مكانها أُخرى ، العنقود منها اثنا عشر ذراعاً ، وأنهارها تجري في غير أُخدود .
قال : قلت : من حدّثك ؟ قال : أما إنّي لم اخترعه ، حدّثني مسروق .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب ، وإذا طيرها كالبخت ، وإذا فيها جارية ، قلت : يا جارية ، لمن أنت ؟
قالت : لزيد بن حارثة ، وإذا في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( قال الكسائي : ذكر الله سبحانه وتعالى الجنتين والجنتين ثم جمعهن فقال :
الرحمن : ( 70 - 71 ) فيهن خيرات حسان
) فيهن خيرات حسان ( قرأ العامة بالتخفيف ، وقرأ أبو رجاء العطاردي ( خيّرات ) بتشديد الياء .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خنيس قال : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا الصاغاني قال : حدّثنا عبدالله بن أبي بكر عن أبيه أنه قرأ ( فيهن خيّرات ) بالتشديد ، وهما لغتان مثل ( هين وهيّن ، ولين وليّن ) .
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا أحمد بن عبدالرَّحْمن
(9/194)

" صفحة رقم 195 "
ابن وهب قال : حدّثنا محمد بن الفرج الصدفي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام ابن حسان عن الحسن عن أُمه عن أُم سلمة قال : قلت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرني عن قوله سبحانه : ) خيرات حسان ( قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خيرات الأخلاق حسان الوجوه ) .
وقال الحسن : خيرات فاضلات . إسماعيل بن أبي خالد : عذارى . جرير بن عبدالله : مختارات .
وقال المفسّرون : خيرات لسنَ بذربات ولا ذفرات ولا نجرات ولا متطلّعات ولا متشوّقات ولا متسلطات ولا طمّاحات ولا طوّافات في الطرق ، ولا يغرن ولا يؤذين .
وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا حامد بن شعيب البخلي قال : حدّثنا سريح بن يونس قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة عن سلام بن مسكر عن قتادة عن عقبة بن عبدالغّفار قال : نساء أهل الجنة يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها : نحن الراضيات فلا نسخط ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً ، ونحن خيرات حسان حُبينا لأزواج كرام .
وروى الأسود عن عائشة خ : أن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا : نحن المصلّيات وما صلّيتن ، ونحن الصائمات وما صمتنّ ، ونحن المتوضّئات وما توضأتنّ ، ونحن المتصدّقات وما تصدقتنّ .
قالت عائشة : فغلبتهنّ والله .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان }
الرحمن : ( 72 - 73 ) حور مقصورات في . . . . .
) حور مقصورات في الخيام ( محبوسات مستورات في الحجال . يُقال للمرأة : قصيرة وقصورة ومقصورة إذا كانت مخدّرة مستورة لا تخرج .
قال الشاعر :
وأنت التي حببتِ كل قصيرة
إليّ وماتدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
قصار الخطى شر النساء البحاتر
( الراجز ) وقيل : قُصر بهنَّ على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا .
أخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن شاذان ، حدّثنا القطان ، حدّثنا ابن حسان حدّثني نصر
(9/195)

" صفحة رقم 196 "
العطار ، أخبرنا عمر بن سعد عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أن حوراء بزقت في بحر ( لجي ) لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها ) .
) في الخيام ( جمع الخيم ، قال ابن مسعود : لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلا ، وتصديق هذا التفسير ، ما أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا ابن شنبه ، حدّثنا الفراتي ، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا يزيد بن هارون ، حدّثنا همام بن يحيى عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، عبد أبيه ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون ) .
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن يحيى بن طلحة اليربوعي ، حدّثنا فضل بن ( عياض ) ، عن هشام عن محمد عن ابن عباس في قوله : ) حور مقصورات في الخيام ( قال : الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب .
أخبرني الحسين ، حدّثنا عبد الله بن ( . . . . ) حدّثنا ( . . . . ) أبو شعيب عبدالله بن الحسن الحراني ، محمد بن موسى القرشي ، حدّثنا حماد بن هلال السكرّي ، حدّثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مررت ليلة أسري بي بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه : السلام عليك يا رسول الله .
فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء جوار من الحور العين استأذنَّ ربهنَّ في أن يسلّمن عليك فأذن لهن ، فقلن : نحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الناعمات فلا نيئس ( أبداً ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً ) أزواجُ رجال كرام ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حور مقصورات في الخيام ( .
قال : ( محبوسات ) .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان (
الرحمن : ( 74 - 75 ) لم يطمثهن إنس . . . . .
) لم يطمثهن ( يمسسهن ) إنس قبلهم ولا جان ( قرأه العامة بكسر الميم وهي إختيار أبي عبيد وأبي حاتم .
(9/196)

" صفحة رقم 197 "
وقرأ أبو يحيى الشامي وطلحة بن مصرف : بالضم فيهما ، وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى مخيّراً في ذلك ، والعلة فيه ما أخبرني أبو محمد شيبة بن محمد المقري ، أخبرني أبو عمرو محمد بن محمد بن عبدوس حدّثني ابن شنبوذ أخبرني عياش بن محمد الجوهري ، حدّثنا أبو عمر الدوري عن الكسائي قال : إذا رفع الأول كسر الآخر ، وإذا رفع الآخر كسر الأول . قال : وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي . قال : قال أبو إسحاق : كنت أصلي خلف أصحاب علي بن أبي طالب فأسمعهم يقرؤون ( يطمثهن ) بكسر الميم ، وكان الكسائي يقرأ واحدة برفع الميم والأخرى بكسر الميم ؛ لئلا يخرج من هذين الأثرين ، وهما لغتان .
) فبأي آلاء ربكما تكذبان }
الرحمن : ( 76 - 77 ) متكئين على رفرف . . . . .
) متكئين على رفرف ( قال سعيد بن جبير : هي رياض الجنة خضر مخضّبةٌ . وروي ذلك عن ابن عباس . واحدتها رفرفة والرفارف جمع الجمع .
وروى العوفي عن ابن عباس قال : الرفرف : فضول المجالس البسط . عيره عنه : فضول الفرش والمجالس . قتادة والضحّاك : محابس خضر فوق الفرش .
الحسن والقرظي : البسط . ابن عيينة : الزرابي . ابن كيسان : المرافق وهي رواية .
قتادة عن الحسن وأبو عبيدة : حاشية الثوب وغبره : واكل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف .
قال ابن مقبل :
وإنا لنزّالون نغشى نعالنا
سواقط من أصناف رَيط ورفرف
) وعبقري حسان ( وهي الزرابي والطنافس الثخان وهي جمع ، واحدتها عبقرية . وقد ذكر عن العرب أنها تسمى كل شيء من البسط عبقرياً .
قال قتادة : العبقري عتاق الزرابي ، وقال مجاهد : هو الديباج .
أبو العالية : الطنافس المخملّة إلى الرقة ( مَا هِي ) .
الحسن : الدرانيك يعني ( الثخان ) ، القتيبيّ : كل ثوب موشى عند العرب عبقري .
قال أبو عبيد : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي .
قال ذو الرمّة :
(9/197)

" صفحة رقم 198 "
حتى كأن رياض القف ألبسها
من وشي عبقر تجليل وتنجيد
قال : ويقال : إن عبقر أرض يسكنها الجن .
قال الشاعر ( زهير ) :
بخيل عليها جنة عبقرية
جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
وقال قطرب : ليس هذا بمنسوب . وكل جليل فاضل فاخر من الرجال ( وغيرهم ) عند العرب عبقري ، ومنه الحديث في عمر : فلم أرّ عبقرياً يفري فرّيه .
حدّثنا أبو محمد الحسن بن علي بن المؤمل بقراءتي عليه ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدّثنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصغاني ، حدّثنا الحسين بن محمد ، ح .
وأخبرني الحسين ، حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي ، حدّثنا محمد بن إبراهيم بن ناصح ، حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب ، حدّثنا أبو أحمد الحسين بن محمد الزوزني الأرطباني وهو ابن عم عبدالله بن عون عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ ( متكئين على رفرف خضر وعباقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام ) بالواو ، شامي وكذلك هو في مصاحفهم .
الباقون : ( ذي الجلال والإكرام ) .
(9/198)

" صفحة رقم 199 "
( سورة الواقعة )
مكية ، وهي ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف وثلثمائة وثمان وسبعون كلمة وست وتسعون آية
أخبرنا أبو الحسين الخبازي عن مرة ، عن الشيخ الحافظ ابن أبي عاصم ، حدّثنا عمرو بن عثمان ، حدّثنا أبو بكر العطار ، حدّثنا السدي بن يحيى عن شجاع عن أبي طيبة الجرجاني قال : دخل عثمان بن عفان على عبدالله بن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال : ما تشتكي ؟ قال : أشتكي ذنوبي . قال : فما تشتهي ؟ قال : أشتهي رحمة ربي . قال : أفلا ندعو الطبيب ؟
قال : الطبيب أمرضني . قال : أفلا نأمر بعطائك ؟ قال : لا حاجة لي به . قال : أندفعه إلى بناتك ؟ قال : لا حاجة لهنَّ بها ؛ قد أمرتهنَّ أن يقرأن سورة الواقعة ، وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً ) .
وأخبرني محمد بن القاسم ، حدّثنا عبدالله بن أحمد الشعراني ، حدّثنا أحمد بن علي بن رزين ، حدّثنا أحمد بن عبدالله العتكي ، حدّثنا جرير عن منصور عن هلال بن سياف عن مسروق قال : من أراد أن يتعلم نبأ الأولين والآخرين ، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ، ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاَْرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 2
الواقعة : ( 1 ) إذا وقعت الواقعة
) إذا وقعت الواقعة ( أي إذا نزلت صبيحة القيامة وتلك النفخة الأخيرة
الواقعة : ( 2 ) ليس لوقعتها كاذبة
) ليس لوقعتها كاذبة ( تكذيب ذكره سيبوبه ، وهو إسم كالعافية والنازلة والعاقبة ، عن الفراء . قال الكسائي : هي
(9/199)

" صفحة رقم 200 "
بمعنى الكذب كقوله ) لا تسمع فيها لاغية ( أي لغواً ، ومنه قول العامة : عائذ بالله أي معاذ الله ، وقم قائماً أي قياماً .
ولبعض نساء العرب ترقص إبنها :
قم قائماً قم قائماً
أصبت عبداً نائماً
الواقعة : ( 3 ) خافضة رافعة
) خافضة ( أي هي خافضة ) رافعة ( تخفض قوماً إلى النار وترفع آخرين إلى الجنة .
وقال عكرمة والسدي ومقاتل : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني أنها أسمعت القريب والبعيد ، ورفعت قوماً كانوا مذللين فرفعتهم إلى أعلى عليين ووضعت قوماً كانوا في الدنيا مرتفعين فوضعتهم إلى أسفل سافلين .
ابن عطاء : خفضت قوماً بالعدل ورفعت قوماً بالفضل .
الواقعة : ( 4 ) إذا رجت الأرض . . . . .
) إذا رجت الأرض رجّا ( أي رجفت وزلزلت وحُركت تحريكاً من قولهم : السهم يرتجّ في الغرض ، بمعنى يهتز ويضطرب .
قال الكلبي : وذلك أن الله عزّوجل إذا أوحى إليها إضطربت فرقاً .
وقال المفسرون : ترجّ كما يُرّج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها ، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها .
وأصل الرجّ في اللغة التحريك يقال : رججته فإرتجّ ( فارتضى عنقه ) ورجرجته فترجرج .
الواقعة : ( 5 ) وبست الجبال بسا
) وبست الجبال بساً ( أي حثّت حثّاً وفتت فتاً فصارت كالدقيق المبسوس ، وهو المبلول والبسبسة عند العرب الدقيق أو السويق يُلتّ ويتخذ زاداً .
وذكر عن لصَ من غطفان أنه أراد أن يخبز فخاف أن يعجّل عن الخبز فقال لا تخبزا خبزاً وبسّا بسّاً ولا تطيلا بمناخ حبساً .
وقال عطاء : أُذهبت إذهاباً قال سعيد بن المسيب والسدي : كسرت كسراً .
الكلبي : سيّرت عن وجه الأرض تسييراً . مجاهد : لتّت لتّاً .
الحسن : قلعت من أصلها فذهبت بعدما كانت صخراً صماء : نظيرها ) فقل ينسفها ربي نسفاً ( .
عطية : بسطت بسطاً كالرمل والتراب .
ابن كيسان : جُعلت كثيباً مهيلا بعد أن كانت شامخة طويلة .
(9/200)

" صفحة رقم 201 "
الواقعة : ( 6 ) فكانت هباء منبثا
) فكانت هباء منبثاً ( قال ابن عباس : شعاع الشمس حين يدخل من الكوّة .
علي ح : رهج الدوابّ .
عطية : ما تطاير من شرر النار ، قتادة : حطام الشجر .
وقراءة العامة : ) منبثاً ( بالثاء أي متفرقاً ، وقرأ النخعي بالتاء أي منقطعاً .
الواقعة : ( 7 ) وكنتم أزواجا ثلاثة
) وكنتم أزواجاً ( أصنافاً ) ثلاثة ( ثم بيّن من هُم فقال عز من قائل :
الواقعة : ( 8 ) فأصحاب الميمنة ما . . . . .
) فأصحاب الميمنة ( وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة .
وقال ابن عباس : وهم الذين كانوا على يمين آدم حين أُخرجت الذرية من صلبه . وقال الله ( إن ) هؤلاء في الجنة ولا أبالي .
وقال الضحّاك : هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم .
وقال الحسن والربيع : هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم ، وكانت أعمارهم في طاعة الله عزّوجل ، وهم التابعون بإحسان .
ثم عجّب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ) ما أصحاب الميمنة ( وهذا كما يقال : زيد ما زيدٌ ، يراد زيد شديد .
الواقعة : ( 9 ) وأصحاب المشأمة ما . . . . .
) وأصحاب المشأمة ( أي الشمال ، والعرب تسمي اليد اليسرى شؤمى .
قال الشاعر :
السهم والشرى في شوءمى يديك لهم
وفي يمينك ماء المزن والضرب
ومنه الشام واليمن لأن اليمن عن يمين الكعبة والشام عن شمالها إذا ( دخل الحجر ) تحت الميزاب .
وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار .
وقيل : هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية ، وقال الله لهم هؤلاء في النار ولا أُبالي
(9/201)

" صفحة رقم 202 "
وقيل : هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم .
وقال الحسن : هم المشائيم على أنفسهم ، وكانت أعمارهم في المعاصي .
) ما أصحاب المشأمة }
الواقعة : ( 10 - 11 ) والسابقون السابقون
) والسابقون السابقون ( قال ابن سيرين : هم الذين صلوا القبلتين دليله قوله ) والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ( .
أخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن حمران ، حدّثنا أُبي ، حدّثنا محمد بن داود الدينوري ، حدّثنا ( . . . . . ) عن ابن بن الجارود عن عبد الغفور ابن أبي الصباح عن ابن علي ، عن كعب في قول الله عزّوجل : ) والسابقون السابقون أُولئك المقربون في جنات النعيم ( قال : هم أهل القرآن وهم المتوجون يوم القيامة .
وأخبرني الحسين ، حدّثنا موسى بن محمد بن علي ، حدّثنا أبو شعيب ، حدّثنا عبدالله بن الحسن الحراني ، حدّثنا يحيى بن عبدالله البابلتي ، حدّثنا الأوزاعي قال : سمعت عثمان بن أبي سودة يقول : السابقون أولهم رواحاً إلى المسجد وأولهم خروجاً في سبيل الله عزّوجل .
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن ماجة ، حدّثنا ابن أيوب ، حدّثنا عبدالله بن أبي زياد ، حدّثنا سياد بن حاتم ، حدّثنا عبدالله بن شميط قال : سمعت أُبي يقول : الناس ثلاثة : فرجل إبتكر الخير في حداثة سنهِ ثم داوم عليه حتى خرج عن الدنيا فهذا السابق المقري ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبة فهذا صاحب يمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثته ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال .
وقال ابن عباس : السابقون إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة . وقال علي بن أبي طالب : إلى الصلوات الخمس .
عكرمة : إلى الإسلام . الضحاك : إلى الجهاد . القرظي : إلى كل خير . سعيد بن جبير : هم المسارعون إلى التوبة وإلى أعمال البر . نظيره ) وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ( ) سابقوا إلى مغفرة من ربكم ( .
ثم أثنى عليهم فقال عزّ من قائل ) أُولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ( الربيع عن أنس : السابقون إلى إجابة الرسول في الدنيا ، وهم السابقون إلى الجنة في العقبى .
ابن كيسان : السابقون إلى كل ما دعا الله سبحانه وتعالى إليه .
) أُولئك المقربون ( إلى الله
الواقعة : ( 12 ) في جنات النعيم
) في جنات النعيم ( .
(9/202)

" صفحة رقم 203 "
أخبرني الحسين ، حدّثنا علي بن إبراهيم بن موسى الموصلي ، حدّثنا محمد بن مخلد العطار ، محمد بن إسماعيل ، حدّثنا وكيع ، حدّثنا شعبة ومسعر عن سعد بن إبراهيم عن عروة بن الزبير قال : كان يقال : تقدموا تقدموا .
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن ماجة ، حدّثنا إبن أيوب ، حدّثنا القطواني ، حدّثنا سيار ، حدّثنا جعفر حدّثني عوف حدّثني رجل من أهل الكوفة قال : بلغني أنه إذا خرج رجل من السابقين المقربين من مسكنه في الجنة كان له ضوء يعرفه مَن دونه فيقول : هذا ضوء رجل من السابقين المقربين .
2 ( ) ثُلَّةٌ مِّنَ الاَْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الاَْخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ( 2
الواقعة : ( 13 ) ثلة من الأولين
) ثلة ( جماعة ) من الأولين ( أي الأمم الماضية
الواقعة : ( 14 ) وقليل من الآخرين
) وقليل من الآخرين ( أُمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الواقعة : ( 15 ) على سرر موضونة
) على سرر موضونة ( مرمولة منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر ، قد إتّصل بعضها في بعض ، كما توضن حلق الدرع ( . . . . . . . ) بعضها في بعض مضاعفة .
ومنه قول الأعشى :
ومن نسج داود موضونة
تساق مع الحيّ عيراً فعيرا
وقال أيضاً :
وبيضاء كالنهي موضونة لها
قونس فوق جيب البدن
ومنه وضين الناقة وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفاً كحلق الدرع .
قال الكلبي : طول كل سرير ثلاثمائة ذراع ، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها إرتفعت .
وقال الضحاك : موضونة مصفوفة ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . يقال : آجر موضون إذا صفَّ بعضها على بعض .
(9/203)

" صفحة رقم 204 "
الواقعة : ( 16 ) متكئين عليها متقابلين
) متكئين عليها متقابلين ( في الزيارة لا ينظر بعضهم في قفا بعض
الواقعة : ( 17 ) يطوف عليهم ولدان . . . . .
) يطوف عليهم ( للخدمة ) ولدان ( غلمان ) مخلدون ( أي لا يموتون عن مجاهد ، وقال الكلبي : لا يهرمون ولا يكبرون ولا ينقصون ولا يتغيرون ، وليس كخدم الدنيا يتغيرون من حال إلى حال .
ابن كيسان : يعني ( ولداناً مخلدين ) لا يتحولون من حالة إلى حالة ، عكرمة : منعمون . سعيد بن جبير : مقرّطون .
قال المؤرّخ : ويقال للقرط الخلد .
قال الشاعر :
ومخلدات باللجين كأنما
أعجازهن أفاوز الكثبان
وقال علي والحسن : ( هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ، لأن الجنة لا ولادة فيها ) .
وفي الحديث : ( أطفال الكفار خدم أهل الجنة ) .
الواقعة : ( 18 ) بأكواب وأباريق وكأس . . . . .
) بأكواب ( جمع كوب ) وأباريق ( جمع إبريق ، سمي بذلك لبريق لونه ) وكأس من معين ( خمر جارية
الواقعة : ( 19 ) لا يصدعون عنها . . . . .
) لا يصدعون عنها ( لا تصدّع رؤوسهم عن شربها ) ولا ينزفون }
الواقعة : ( 20 ) وفاكهة مما يتخيرون
) وفاكهة مما يتخيرون ( يختارون ويشتهون .
أخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن حبش ، حدّثنا ذكّار ، حدّثنا هناد ، حدّثنا أبو معونة عن عبيد الله بن الوليد عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة لطيراً فيه سبعون ألف ريشة ، فيجيء فيقع على صحيفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض ، فيخرج من كل ريشة لون أبيض من الثلج والبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه ثم يطير فيذهب ) .
الواقعة : ( 22 ) وحور عين
) وحور عين ( قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي والمفضل بكسر الواو والنون أي وبحور عين ، أتبعوا الآخر الأول في الا عراب على اللفظ وإن اختلفا في المعنى ، لأن الحور لا يطاف بهنَّ ، كقول الشاعر :
إذا ما الغانيات برزن يوماً
وزججن الحواجب والعيونا
(9/204)

" صفحة رقم 205 "
والعين لا تزجج وإنما تكحل .
وقال الآخر : متقلداً سيفاً ورمحاً ، ومثله كثير .
وقرأ إبراهيم النخعي واشهب العقيلي : ( وحوراً عيناً ) بالنصب ، وكذلك هو في مصحف أُبيّ ، على معنى : ويزوّجون حوراً عيناً . وقال الأخفش : رفع بخبر الصفة ، أي لهم حور عين .
وقيل : هو ابتداء وخبره فيما بعده .
أخبرنا الحسين ، حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب ، حدّثنا أبو عبدالله محمد بن بشير ابن يوسف بن النضر ، حدّثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدّثنا عمرو بن هاشم ، حدّثنا سليمان بن أبي كرعة ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أُم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزّوجل ) حور عين ( ؟ قال : ( حور بيض عين ضخام العيون ) .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا ابن صقلاب ، حدّثنا أبو بكر بن أبي الخصيب حدّثني محمد بن غالب حدّثنا الحرث بن خليفة ، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عبدالعزيز بن صهيب ، عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلق الحور العين من الزعفران ) .
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن يودة ، حدّثنا عبيد بن عبدالواحد بن شريك البزاز ، حدّثنا سليمان بن عبدالرحمن ابن بنت شرحبيل ، حدّثنا خالد بن يزيد ، عن أبي مالك ، عن أبيه عن خالد بن معدان ، عن أبي أُمامة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من عبد يدخل الجنة إلاّ وهو يزوّج ثنتين وسبعين زوجة ، ثنتين من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار ، وليس منهن امرأة إلاّ ولها قُبل شهيّ وله ذكر لا ينثني ) .
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا أحمد بن محمد بن علي ، حدّثنا عثمان بن نصر البغدادي ، حدّثنا محمد بن مهاجر أبو حنيف ، حدّثنا حلبس بن محمد الكلابي ، حدّثنا سفيان الثوري ، عن منصور أو المغيرة ، عن أبي وائل ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يسطع نور في الجنة فقالوا : ما هذا ؟ قالوا : ضوء ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ) .
وروي أن الحوراء إن مشت سُمع تقديس الخلاخيل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها ، وإن عقد الياقوت يضحك من نحرها ، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكها من لولؤ تصرّان بالتسبيح
(9/205)

" صفحة رقم 206 "
وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول : اخطب زوجة ( لا تسلبها ) منك المنايا ، وأعرس بها في دار لا يخربها دوران البلايا وشبّك لها حجله لا تحرقها نيران الرزايا .
وقال مجاهد : سميت حوراً لأنه يحار فيهن الطرف .
الواقعة : ( 23 ) كأمثال اللؤلؤ المكنون
) كأمثال اللؤلؤ المكنون ( المخزون في الصدف الذي لم تمسّه الأيدي
الواقعة : ( 24 - 26 ) جزاء بما كانوا . . . . .
) جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً ( في نصبهما وجهان :
أحدهما : إتباع للقيل .
والثاني : على ( يسمعون سلاماً ) ، ثم رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة فقال
الواقعة : ( 27 - 29 ) وأصحاب اليمين ما . . . . .
) وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود ( لا شوك فيه ، كأنه خضّد شوكها أي قطع ونزع .
ومنه الحديث في المدينة : ( لا يخضد شوكها ولا يعصر شجرها ) وهذا قول ابن عباس وعكرمة وقسامة بن زهير .
وقال الحسن : لا تعقر الأيدي . قتادة : هو الذي لا يرد اليد منها شوك ولا بعد .
وقال الضحّاك ومجاهد ومقاتل بن حيان : هو الموقر حملا .
قال سعيد بن جبير : ثمرها أعظم من الفلال . وقال ابن كيسان : هو الذي لا أذى فيه .
قال : وليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما تكون في الدنيا من الباقلاء وغيره ، بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه .
قال أبو العالية والضحّاك : نظر المسلمون إلى وجَّ وهو واد مخصب بالطائف ، وأعجبهم سدرها .
وقالوا : يا ليت لنا مثل هذا ، فأنزل الله عزّوجل ) وطلح ( وموز واحدتها طلحة ، عن أكثر المفسرين .
وقال الحسن : ليس هو موزاً ولكنه شجر له ظلّ بارد طيب .
وقال الفراء وأبو عبيدة : الطلح عند العرب شجر عظام لها شوك .
قال بعض الحداة :
بشرها دليلها وقالا
غداً ترين الطلح والجبالا
(9/206)

" صفحة رقم 207 "
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن حيان ، حدّثنا ابن مروان ، حدّثنا أُبي ، حدّثنا إبراهيم بن عيسى ، حدّثنا علي بن علي قال : زعم أبو حمزة الثمالي عن الحسن مولى الحسن بن علي أن علياً قرأ : وطلعٌ منضود .
وأنبأني عقيل ، أنبأنا المعافي محمد بن جرير ، حدّثنا سعيد بن يحيى ، حدّثنا أُبي ، حدّثنا مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن سعد قال : قرأ رجل عند علي ح ) وطلح منضود ( فقال علي : ( وما شأن الطلح ؟ إنما هو طلع منضود ) ثم قرأ ( طلع منضود ) .
فقلت : إنها في المصحف بالحاء فلا تحوّلها ؟ فقال : ( إن القرآن لا يهاج ( اليوم ) ولا يحوّل ) .
والمنضود : المتراكم الذي قد نُضد بأكمله من أوله إلى آخره ، ليست له سوق بارزة .
قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أغصانها ثمر كله .
( ) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً ( 2
الواقعة : ( 30 ) وظل ممدود
) وظل ممدود ( دائم لا تسخنه الشمس .
قال الربيع : يعني ظل العرش . عمرو بن ميمون : مسيرة سبعين ألف سنة .
قال أبو عبيدة : تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل ، وللشيء الذي لا ينقطع : ممدود .
قال لبيد :
غلب العزاء وكنت غير مقلب
دهر طويل دائم ممدود
حدّثنا أبو محمد مهدي بن عبدالله بن القاسم بن الحسن العلوي إملاءً في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وثلاثمائة ، حدّثنا أبو بكر جعفر بن محمد الحجاج حدّثني محمد بن يونس الكديمي ، حدّثنا أبو عامر العقدي ، حدّثنا زمعة بن صالح عن سلمة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله ) وظل ممدود ( قال : شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة ، أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في أصلها ويتذكر بعضهم ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله عزّوجل عليها ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا
(9/207)

" صفحة رقم 208 "
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا محمد بن حبيش بن عمر المقريء ، حدّثنا ذكار بن الحسن ، حدّثنا هناد بن السري ، حدّثنا عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها ، إقرؤوا إن شئتم قول الله عزّوجل : ) وظل ممدود 2 )
الواقعة : ( 31 ) وماء مسكوب
) وماء مسكوب ( مصبوب يجري دائماً في غير إخدود لا ينقطع .
أخبرني الحسين ، حدّثنا عبدالله بن يوسف ، حدّثنا محمد بن موسى الحلواني ، حدّثنا خزيمة بن أحمد الباوردي ، حدّثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدّثنا الحسين بن علي الجعفي ، حدّثنا مزاحم بن داود بن عُلبة قال : مات أخ لي وكان باراً بأمّه فرأيته فيما يرى النائم فقلت له : أي أخي إن أخاك يحب أن يعلم إلى أي شيء صرت ؟
فقال لي : أنا في سدر مخضود وطلح منضود ، وظل ممدود وماء مسكوب .
الواقعة : ( 32 - 33 ) وفاكهة كثيرة
) وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ( بالأزمان ) ولا ممنوعة ( بالأثمان .
وقال القتيبي : لا محظور عليها كما يحظر على بساتين الدنيا . وقيل : لا تنقطع الثمرة إذا جُنيت ، بل تخرج مكانها مثلها .
أخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن شيبة ، حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدّثنا محمد بن حسان الأزرق ، حدّثنا ريحان بن سعيد ، حدّثنا عباد بن كثير عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما قطعت من ثمار الجنة إلاّ أبدل الله مكانها ضعفين ) .
الواقعة : ( 34 ) وفرش مرفوعة
) وفرش مرفوعة ( أخبرنا أبو علي بن أبي عمرو الجيري الجرشي ، حدّثنا أُبي ، حدّثنا الحسن بن هارون ، حدّثنا عمار بن عبدالجبار ، حدّثنا رشيد ، ح .
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا ابن حبش ، حدّثنا أبو عبدالرحمن الشائي ، حدّثنا أبو كريب ، حدّثنا رشد بن سعد عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) وفرش مرفوعة ( قال : ( إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض ، وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمسمائة عام ) .
(9/208)

" صفحة رقم 209 "
وقال أبو امامة الباهلي : لو طرح فراش من أعلاها إلى أسفلها لم يستقر إلاّ بعد سبعين خريفاً . وقال علي بن أبي طالب : مرفوعة على الأسرة .
وقيل : إنه أراد بالفرش النساء ، والعرب تسمي المرأة فراشاً ولباساً وإزارا على الاستعارة ، لأن الفرش محل للنساء ) مرفوعة ( رفعن بالجمال والفضل على نساء أهل الدنيا .
ودليل هذا التأويل قوله في عقبه
الواقعة : ( 35 - 37 ) إنا أنشأناهن إنشاء
) إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً ( عذارى ) عرباً ( عرائس متحببات إلى أزواجهن . قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير وهي رواية الوالبي عن ابن عباس وعكرمة عنه مَلقة . وقال عكرمة : غنجة .
ابن بريدة : الشركلة بلغة مكة . والمغنوجة بلغة المدينة .
وأخبرني أبو عبدالله الحسين بن محمد الحافظ ، حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان ، حدّثنا عبيد الله بن ثابت بن أحمد ، حدّثنا أبو سعيد الأشج ، حدّثنا ابن يمان عن اسامة بن زيد عن أبيه ) عرباً ( قال : حسنات الكلام .
وأخبرني أبو عبدالله الحافظ أحمد بن محمد بن إسحاق السنيّ ، حدّثنا حامد بن شعيب البلخي ، حدّثنا سريج بن يونس ، هشام ، حدّثنا مغيرة عن عثمان عن تيم بن حزام قال : هي الحَسَنَة التبعل وكانت العرب تقول للمرأة إذا كانت حسنة التبعل إنها لعربة واحدتها عروب . ) أتراباً ( مستويات في السنّ .
عن ابن فنجويه ، حدّثنا ابن شنبه ، الفراتي ، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يدخل أهل الجنةِ الجنةَ مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم ، طوله ستون ذراعاً في سبعة أذرع ) .
قال المفسرون : هذه صفات نساء الدنيا ومعنى قوله ) أنشأناهن ( خلقناهن بعد الخلق الأول ، وبهذا جاءت الأخبار .
أخبرني الحسين ، محمد بن الحسن الثقفي ، حدّثنا محمد بن الحسن بن علي اليقطيني ، حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يزيد العقيلي ، حدّثنا صفوان بن صالح ، حدّثنا الوليد بن مسلم ، حدّثنا عبدالعزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على عائشة وعندها عجوز من بني عامر فقال : ( من هذه العجوز عندك يا عائشة ؟ )
قالت : إحدى خالاتي يا رسول الله فقال : ( إن الجنة لا تدخلها عجوز ) فبلغ ذلك من
(9/209)

" صفحة رقم 210 "
العجوز كل مبلغ ، فلما رجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرت له عائشة ما لقيت العجوز فقال : ( إنها إذا دخلت الجنة أُنشئت خلقاً آخر ) .
وأخبرني الحسين ، حدّثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي ، حدّثنا أبو علي الحسين بن إسماعيل الفارسي نزيل بخارى ، حدّثنا عيسى بن عمرو بن ( ميمون ) البخاري حدّثنا المسيب بن إسحاق ، حدّثنا عيسى بن موسى غنجار ، حدّثنا إسماعيل بن أبي زياد عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنها قالت : سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله تعالى ) إنّا انشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً ( . فقال : ( يا أم سلمة ، هن اللواتي قُبضن في دار الدنيا عجائز شمطاً عمشاً رمصاً جعلهن الله عزّوجل بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء ) .
وأخبرني الحسين بن محمد ، حدّثنا موسى بن محمد ، حدّثنا الحسن بن علوية ، حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، حدّثنا المسيب بن شريك ) إنا انشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً ( .
قال : هنَّ عجائز الدنيا أنشأهن الله عزّوجل خلقاً جديداً ، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً ، فلما سمعت عائشة قالت : وا وجعا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس هناك وجع ) .
وأخبرني الحسين ، حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي أبو مسلم الكجّي ، حدّثنا حجاج ، حدّثنا مبارك ، حدّثنا الحسن بن أبي الحسن إن إمرأة عجوزاً ( كبيرة ) أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة . قال : ( يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها العجائز ) فولت وهي تبكي .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إخبروها ليست يومئذ بعجوز فإن الله عزّوجل قال ) إنا أنشأناهنّ إنشاءً فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً ( ) .
وبإسناد المسيب ، حدّثنا عبد الرحمن الأفريقي عن سعد بن مسعود قال : إذا دخلت الجنة نساء الدنيا فضّلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا .
وأخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن الطيب ، حدّثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن
(9/210)

" صفحة رقم 211 "
منصور ، حدّثنا أبو بكر محمد بن سليمان بن الحرث الواسطي ببغداد ، حدّثنا خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي ، حدّثنا سفيان الثوري عن يزيد بن ابان عن أنس بن مالك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) إنا انشأناهن إنشاءً ( قال : ( عجائز كُنَّ في الدنيا عمشاً رمصاً فجعلهن إبكاراً ) .
وقيل هي الحور العين .
أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا عمر بن الخطاب ، حدّثنا محمد بن عبدالعزيز بن عبدالملك العثماني ، حدّثنا العباس ، حدّثنا الوليد عبدالله بن هارون عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة خ قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلق الحور العين من تسبيح الملائكة فليس فيهن أذىً ) قال الله عزّوجل ) إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً عرباً ( عواشق لأزواجهن ) أتراباً ( .
) لاَِصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاَْوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الاَْخِرِينَ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاَْوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الاَْوَّلِينَ وَالاَْخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لاََكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( 2
الواقعة : ( 38 - 39 ) لأصحاب اليمين
) لأصحاب اليمين ثلة من الأولين ( يعني من الأمم الماضية
الواقعة : ( 40 ) وثلة من الآخرين
) وثلثة من الآخرين ( من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
أخبرني الحسين ، حدّثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدقاق ، حدّثنا محمد بن الوليد القرشي وعيسى بن المساور واللفظ له قالا : حدّثنا الوليد بن مسلم ، حدّثنا عيسى بن موسى أبو محمد وغيره ، عن عروة بن دويم قال : لما أنزل الله عزّوجل على رسوله ثلة من الأولين وقليل من الآخرين بكى عمر ح فقال : يا نبي الله ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ؟ آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منّا قليل فأنزل الله عزّوجل ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( فدعا رسول الله عمر فقال : ( يا بن الخطاب قد أنزل الله عز وجل فيما قلت ، فجعل : ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( .
فقال عمر : رضينا عن ربنا ونصدق نبينا
(9/211)

" صفحة رقم 212 "
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من آدم إلينا ثلة ومني إلى ( يوم ) القيامة ثلة ولا يستتمها إلاّ سودان من رعاة الإبل من قال لا إله إلاّ الله ) .
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير ، حدّثنا بشر ، حدّثنا يزيد ، حدّثنا سعيد عن قتادة قال الحسن : حدّثني عمر بن أبي حصين عن عبدالله بن مسعود قال : تحدثنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة حتى أكرينا الحديث ثم رجعنا إلى أهلنا فلما أصبحنا غدونا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عُرضت عليَّ الأنبياء الليلة بأتباعها من أُمتها ، وكان النبي يجيء معه الثلاثة من أُمته والنبي معه العصابة من أمّته والنبي معه النفر من أُمّته والنبي معه الرجل من أُمته والنبي ما معه من أُمّته أحد حتى أتى موسى في كبكبة بني إسرائيل ، فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : أي رب من هؤلاء ؟ قيل : هذا أخوك موسى بن عمران ومن حفه من بني اسرائيل .
قلت : ربي فأين أُمتي ؟ قيل : انظر عن يمينك فإذا ظراب مكة قد سدّت بوجوه الرجال .
فقلت : من هؤلاء ؟ فقيل : هؤلاء أُمّتك أرضيت ؟ فقلت : رب رضيت ، قيل : انظر عن يسارك فإذا الأُفق قد سدّ بوجوه الرجال .
فقلت : رب من هؤلاء ؟ قيل : هؤلاء أُمتك أرضيت ؟ قلت : رب رضيت ، فقيل : إن مع هؤلاء سبعين ألفاً من امتك يدخلون الجنة . لا حساب عليهم .
قال : فأنشأ كاشة بن محصن رجل من بني أسد بن خزيمة فقال : يا نبي الله إدع ربك أن يجعلني منهم فقال : ( اللهم إجعله منهم ) ثم أنشأ رجل آخر فقال : يا نبي الله ادع ربك أن يجعلني منهم .
قال : ( سبقك بهما عكاشة ) .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فداكم أبي وامي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا ، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب ، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني قد رأيت ثم أناساً يتهاوشون كثيراً ) .
قال : فقلت : من هؤلاء السبعون ألفاً ؟ فاتفق رأينا على أنهم أُناس ولدوا في الإسلام فلم يزالوا يعملون به حتى ماتوا عليه فنُهي حديثهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ليس كذلك ولكنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني لأرجو أن يكون من تبعني من امتي ربع أهل الجنة ) فكبّرنا ثم
(9/212)

" صفحة رقم 213 "
قال : ( إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ) فكبّرنا . ثم قال : ( إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ) ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( .
وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحّاك ) ثلة من الأولين ( يعني من سابقي هذه الأمة ) وقليل من الآخرين ( من هذه الأمة في آخر الزمان .
يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد ، حدّثنا أحمد بن محمد بن اسحاق السني ، حدّثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب محمد بن كثير ، حدّثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هما جميعاً من أُمتي ) .
الواقعة : ( 41 - 42 ) وأصحاب الشمال ما . . . . .
) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم ( ريح حارة ) وحميم ( ماء حار
الواقعة : ( 43 ) وظل من يحموم
) وظل من يحموم ( دخان شديد السواد . تقول العرب : أسود يحموم إذا كان شديد السواد .
وأنشد قطرب :
وما قد شربت ببطن ( مكة )
فراتاً لمد كاليحموم جاري
وقال ابن بريدة : اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار
الواقعة : ( 44 ) لا بارد ولا . . . . .
) لا بارد ( بل حار لأنه من دخان سعير جهنم ) ولا كريم ( ولا عذب عن الضحّاك ، سعيد ابن المسيب والحسن : نظيره : ) من كل زوج كريم ( .
مقاتل : طيب . قتادة : ) لا بارد ( المنزل ) ولا كريم ( المنظر .
قال الفراء : يجعل الكريم تابعاً لكل شيء نفت عنه فعلا فيه ذم .
وقال ابن كيسان : اليحموم اسم من أسماء النار . وقال الضحّاك : النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود .
الواقعة : ( 45 ) إنهم كانوا قبل . . . . .
) إنهم كانوا قبل ذلك ( في الدنيا ) مترفين ( منّعمين
الواقعة : ( 46 ) وكانوا يصرون على . . . . .
) وكانوا يصرون ( يقيمون ) على الحنث العظيم ( على الذنب الكبير ، وهو الشرك .
(9/213)

" صفحة رقم 214 "
وقال أبو بكر الأصم : كانوا يُقسمون أن لا بعث ، وأن الأصنام أنداد لله وكانوا يقيمون عليه فذلك حنثهم .
الواقعة : ( 47 - 55 ) وكانوا يقولون أئذا . . . . .
) وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعثون ( لحق ) أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ( ثم يقال لهم : ) إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم ( .
قرأ أهل المدينة وعاصم وحمزة والأعمش وأيوب : ( شرب ) بضم الشين ، واختاره أبو حاتم ، وقرأ الباقون : بفتحه ، واختاره أبو عبيد .
وروي عن الكسائي عن يحيى بن سعيد عن جريج إنه قال : ذكرت لجعفر بن محمد قراءة أصحاب عبدالله ( شرب الهيم ) بفتح الشين ، فقال : ( أما بلغك إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث بديل بن ورقاء الخزاعي إلى أهل مِنى في أيام التشريق فقال : ( إنها أيام أكل وشرب ) .
ويقال هي بفتح الشين ( و . . . . . . . ) وهما لغتان جيدتان .
تقول العرب : شربت شَرباً وشُرباً وشُرُباً بضمتين .
وقال أبو زيد الأنصاري : سمعت العرب تقول : شربت شِرباً ، بكسر الشين .
وأما ( الهيم ) فالإبل العطاش . وقال عكرمة وقتادة : هو داء بالإبل لا تروى ( معه ) ولا تزال تشرب حتى تهلك ويقال لذلك الداء الهيام ، ويقال : حمل أَهْيم وناقة هيماء وإبل هيم .
قال لبيد :
أُجزت على معارفها بشعث
وأطلاح من المهري هيم
وقال الضحّاك وابن عيينة وابن كيسان : الهيم الأرض السهلة ذات الرمل .
الواقعة : ( 56 ) هذا نزلهم يوم . . . . .
) هذا نزلهم ( رزقهم وغذاؤهم وما أُعدّ لهم ) يوم الدين }
الواقعة : ( 57 ) نحن خلقناكم فلولا . . . . .
) نحن خلقناكم فلولا تصدقون ( بالبعث
الواقعة : ( 58 ) أفرأيتم ما تمنون
) أفرأيتم ما تمنون ( تصبون في الأرحام من النطف ؟ .
وقرأ أبو السماك : ( تمنون ) بفتح التاء وهما لغتان .
الواقعة : ( 59 - 60 ) أأنتم تخلقونه أم . . . . .
) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدّرنا ( ( قرأ مجاهد وحميد وابن محيصن ( قدرنا
(9/214)

" صفحة رقم 215 "
بتخفيف الدال ) ، الباقون بالتشديد ) بينكم الموت ( فمنكم من يعيش إلى أن يبلغ الهرم ، ومنكم من يموت شاباً وصبياً صغيراً ) وما نحن بمسبوقين ( عاجزين عن إهلاككم
الواقعة : ( 61 ) على أن نبدل . . . . .
) على أن نبدّل أمثالكم ( أو إبدالكم بامثالكم ) وننشئكم ( ونخلقكم ) فيما لا تعلمون ( من الصور . قال مجاهد : في أي خلق شئنا .
وقال سعيد بن المسيب ) فيما لا تعلمون ( يعني في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف ، وبرهوت واد باليمن . وقال الحسن ) وننشئكم فيما لا تعلمون ( أي نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم .
وقال السدي : نخلقكم في سوى خلقكم .
الواقعة : ( 62 ) ولقد علمتم النشأة . . . . .
) ولقد علمتم النشأة ( الخلقة ) الأولى ( ولم تكونوا شيئاً ، ) فلولا تذكرون ( أي قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم .
وقال الحسين بن الفضل في هذه الوجوه : وإن كانت غير مردودة ، فالذي عندي في هذه الآية ) وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الاولى ( أي خلقتكم للبعث بعد الموت من حيث لا تعلمون كيف شئت وذلك أنكم علمتم النشأة الأولى كيف كانت في بطون الأمهات وليست الأخرى كذلك .
الواقعة : ( 63 ) أفرأيتم ما تحرثون
) أفرأيتم ما تحرثون ( أي تثيرون الأرض وتعملون فيها وتطرحون البذر
الواقعة : ( 64 ) أأنتم تزرعونه أم . . . . .
) أأنتم تزرعونه ( تنبتونه ) أم نحن الزارعون ( ؟ .
أخبرني الحسين ، حدّثنا عمر بن محمد بن علي الزيات ، حدّثنا أبو عبدالله أحمد بن عبدالرحمن بن مرزوق ، حدّثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، حدّثنا مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يقولن أحدكم : زرعت وليقل حرثت ) .
قال أبو هريرة : ألم تسمعوا قول الله عزّوجل ) أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون 2 )
الواقعة : ( 65 ) لو نشاء لجعلناه . . . . .
) لو نشاء لجعلناه حطاماً ( هشيماً لا ينتفع به في مطعم وغذاء . وقال مرة : يعني نبتاً لا قمح فيه .
) فظلتم ( قرأت العامة بفتح الظاء . وقرأ عبدالله بكسره : والأصل ظللتم ، فحذف إحدى
(9/215)

" صفحة رقم 216 "
اللامين تخفيفاً ، فمن فتحه فعلى الأصل ومن كسره نقل حركة اللام المحذوفة إلى الظاء .
) تفكهون ( قال يمان : تندمون على نفقاتكم ، نظيره ) فأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها ( .
قتادة : تعجبون . عكرمة : تلاومون . الحسن : تندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت لكم عقوبته حتى نالكم في زرعكم ما نالكم . ابن زيد : تتفجّعون . ابن كيسان : تحزنون .
قال : وهو من الأضداد . تقول العرب : تفكهت : أي تنعّمت ، وتفكهت : أي حزنت .
قال الفراء : تفكهون وتفكنون واحد ، والنون لغة عكل .
وقيل : التفكة التكلم فما لا يعنيك ، ومنه قيل للمزاح : فكاهة .
الواقعة : ( 66 ) إنا لمغرمون
) إنا ( قرأ عاصم برواية أبي بكر والمفضل بهمزتين . الباقون على الخبر . ومجاز الآية ) فظلتم تفكهون ( وتقولون ) إنا لمغرمون ( قال مجاهد وعكرمة : لموُلع بنا . قال ابن عباس وقتادة : يعذبون ، والغرام : العذاب .
ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : ملقون للشر . مقاتل بن حيان : مهلكون .
وقال الضحّاك : غرّمنا أموالنا وصار ما أنفقنا غرمنا عليه . مُرة الهمداني : محاسبون .
الواقعة : ( 67 ) بل نحن محرومون
) بل نحن محرومون ( محدودون ( ممنوعون ) محارفون ، والمحروم ضد المرزوق .
قال أنس بن مالك : مرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأرض الأنصار فقال : ( ما يمنعكم من الحرث ؟
قالوا : الجدوبة . قال : ( فلا تفعلوا فإن الله عزّوجل يقول : أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ) ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أفرأيتم ما تحرثون ( الآيات .
الواقعة : ( 68 - 69 ) أفرأيتم الماء الذي . . . . .
) أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم انزلتموه من المزن ( السحاب ، واحدتها مزنة .
قال الشاعر :
فنحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يعدّ بخيل
(9/216)

" صفحة رقم 217 "
) أم نحن المنزلون }
الواقعة : ( 70 ) لو نشاء جعلناه . . . . .
) لو نشاء جعلناه أُجاجا ( قال ابن عباس : شديد الملوحة . وقال الحسن : قعاعاً مُراً .
) فلولا تشكرون }
الواقعة : ( 71 ) أفرأيتم النار التي . . . . .
) أفرأيتم النار التي تورون ( تقدحون وتستخرجون من زندكم
الواقعة : ( 72 ) أأنتم أنشأتم شجرتها . . . . .
) أأنتم أنشأتم شجرتها ( التي تقدح منها النار وهي المرخ والعفار ) أم نحن المنشؤن ( المخترعون ؟
الواقعة : ( 73 ) نحن جعلناها تذكرة . . . . .
) نحن جعلناها ( يعني نار الدنيا ) تذكرة ( للنار الكبرى .
أخبرنا ابن سعيد بن حمدون ، حدّثنا ابن الشرقي ، حدّثنا محمد بن يحيى وعبد العزيز بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا : حدّثنا عبدالرزاق ، حدّثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ناركم هذه التي توقِد بنو آدم جزءاً من سبعين جزءاً من حرّ جهنم ) .
قالوا : والله إن كانت لكافيتنا برسول الله . قال : ( فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرّها ) .
) ومتاعاً ( بلغة ومنفعة ) للمقوين ( المسافرين النازلين في الأرض القيّ والقوى ، وهي القفر الخالية البعيدة من العمران والأهلين ، يقال : أقوت الدار إذا دخلت من سكانها .
قال الشاعر :
أقوى وأقفر من نعُم وغيّرها
هوُج الرياح بهابي الترب موار
وقال النابغة :
يا دار ميّة بالعلياء فالسند
بها أقوت وطال عليها سالف الأبد
هذا قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد ) للمقوين ( يعني للمستمتعين من الناس أجمعين ، المسافرين والحاضرين يستضيء بها في الظلمة ويصطلي بها في البرد وينتفع بها في الطبخ والخبز ونتذكر بها نار جهنم فنستجير الله منها .
وقال الحسن : بُلغَة المسافرين يبلغون بها إلى أسفارهم يحملونها في الخرق والجواليق .
وقال الربيع والسدي : يعني للمرملين المعترين الذين لا زاد معهم ، ناراً يوقدون فيختبزون بها ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . قال ابن زيد : للجائعين . تقول العرب : أقويت مذ كذا وكذا أي ما أكلت شيئاً
(9/217)

" صفحة رقم 218 "
قال قطرب : المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقر ويكون بمعنى الغنى . يقال : أقوى الرجل إذا قويت دوابّه ، وإذا كثر ماله .
الواقعة : ( 74 - 75 ) فسبح باسم ربك . . . . .
) فسبح باسم ربك العظيم فلا اقسم ( قال أكثر المفسرين : معناه : أُقسم ، و ) لا ( صلة ، وتصديقه قراءة عيسى بن عمر : ( فلا أقسم ) على التحقيق .
وقال بعض أهل العربية : معناه فليس الأمر كما يقولون ، ثم استأنف القسم فقال : ) أقسم بمواقع النجوم ( يعني نجوم القرآن التي كانت تنزل على انكدارها وانتشارها يوم القيامة .
واختلف القراء فيه فقرأ حمزة والكسائي وخلف : ) بموقع ( على الواحد ، غيرهم : ( بمواقع ) على الجمع . وهو الاختيار .
الواقعة : ( 76 - 77 ) وإنه لقسم لو . . . . .
) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه ( يعني هذا الكتاب ، وهو موضع القسم ) لقرآن كريم ( ( حصين ) عزيز مكرم .
وقال عبدالعزيز بن يحيى الكناني : غير مخلوق ، وقيل : سُمي كريماً لأن يُسره يغلب عُسره .
الواقعة : ( 78 ) في كتاب مكنون
) في كتاب مكنون ( مصون . عند الله سبحانه محفوظ عن الشياطين وعن جميع ما يشين .
( ) أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاُْولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (
(9/218)

" صفحة رقم 219 "
الواقعة : ( 79 ) لا يمسه إلا . . . . .
) لا يمسه ( أي ذلك الكتاب ) إلاّ المطهرون ( من الذنوب وهم الملائكة .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، أنبأنا ابن الشرقي ، حدّثنا محمد بن الحسين بن طرحان ، حدّثنا سعيد بن منصور ، حدّثنا أبو الأحوص عن عاصم الأحول عن أنس في قوله عزّوجل ) لا يمسه إلاّ المطهرون ( قال : الملائكة .
وأخبرنا أبو بكر بن عبدوس ، أنبأنا أبو الحسن بن محفوظ ، حدّثنا عبدالله بن هاشم ، حدّثنا عبدالرحمن عن سفيان عن الربيع عن سعيد بن جبير ) لا يمسه إلاّ المطهرون ( قال : الملائكة الذين في السماء .
وقال أبو العالية وابن زيد : ليس أنتم أصحاب الذنوب إنما هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم ، فجبرئيل الذي ينزل به مطهّر والرسل الذين يجيئهم به مطهّرون .
وقال ابن عباس : من الشرك . عكرمة : هم حملة التوراة والإنجيل .
قتادة : ) لا يمسه ( عند الله ) إلاّ المطهرون ( فأما في الدنيا فيمسّه الكافر النجس والمنافق الرجس .
حبان عن الكلبي : هم السفرة الكرام البررة . محمد بن فضيل عنه لا يقرؤه إلاّ الموحدون .
قال عكرمة : وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءة القرآن .
الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلاّ من آمن به .
الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلاّ من طهّره الله من الشرك والنفاق .
أبو بكر الوراق : لا يوفق للعمل به إلاّ السعداء .
أبو العباس بن عطاء : لا يفهم حقائق القرآن إلاّ من طهر سرّه عند الأنوار من الأقذار .
جنيد : هم الذين طهر سرّهم عما سوى الله .
وقال قوم : معناه ) لا يمسه إلاّ المطهرون ( من الأحداث والجنابات والنجاسات ، وردّوا الكناية في قوله ) لا يمسه ( إلى القرآن .
وقالوا : أراد بالقرآن المصحف ، سماه قرآناً على قرب الجوار والإتساع ، كالخبر الصحيح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو .
قالوا : وظاهر الآية نفي ومعناها نهي كقوله عزّ وجل : ) والمطلقات يتربصن ( ونحوها
(9/219)

" صفحة رقم 220 "
واستدلوا بهذه الآية على منع الجنب والحائض والمحدث من مس المصحف وحمله ، وقالوا : لا يجوز لأحد حمل المصحف ولا مسّه حتى يكون على صفة يجوز له الصلاة . قال : هذا مذهب جمهور الفقهاء إلاّ إن أبا حنيفة لا يمنع من حمله بعلاّقة ومسّه بحائل . والاختيار أنه ممنوع منه ، لأنه إذا حمله في جلده فإنما حمله بحائل ومع هذا يُمنع منه .
وذهب الحكم وحماد وداود بن علي إلى أنه لا بأس بحمل المصحف ومسّه على أي صفة كانت سواء كان طاهراً أو غير طاهر ، مؤمناً أو كافراً . إلاّ أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمل المصحف .
والدليل على أنه لا يحمل المصحف ولا يمسّه إلاّ طاهراً ما روى أبو بكر محمد بن عمرو ابن جرم عن أبيه عن جده أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما بعثه إلى اليمن كتب في كتابه ألاّ يحمل المصحف ولا يمسّه إلاّ طاهرٌ .
وروى سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تمس القرآن إلاّ وأنت طاهر ) .
ولأن به إجماع الصحابة .
وروي أن علياً سُئل : أيمس المحدث المصحف ؟ قال : ( لا ) .
وروي أن مصعب بن سعد بن أبي وقاص كان يقرأ من المصحف فأدخل يده فحك ذكره فأخذ أبوه المصحف من يده . وقال : قم فتوضأ ثم خذه ، ولا مخالف لهما في الصحابة .
وقال عطاء ) لا يمسه إلاّ المطهرون ( قال : لا يقلب الورق من المصحف إلاّ المتوضىء . واستدل المبيحون بكتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قيصر وفيه ) بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ( الآية .
وأجاز الفقهاء ذلك إذا دعته ضرورة أو حمله عذر عليه ، وأما الصبيان فلا صحابنا فيه وجهان :
أحدهما : أنهم يمنعون منه كالبالغين .
والثاني : أنهم لا يُمنعون ، لمعنيين : أحدهما : أن الصبي لو منع ذلك أدّى إلى ألاّ يتلقن القرآن ولا يتعلمه ولا يحفظه ، لأن وقت تعلمه وحفظه حال الصغر .
(9/220)

" صفحة رقم 221 "
والثاني : أن الصبي وإن كانت له طهارة فليست بكاملة لأن النية لا تصحّ منه ، فإذا جاز أن يحمله على طهر غير كامل جاز أن يحمله محدثاً والله أعلم .
الواقعة : ( 80 ) تنزيل من رب . . . . .
) تنزيل ( أي منزل ) من رب العالمين ( فسمي المنزّل تنزيلا على اتّساع اللغة ، كما تقول للمقدور قدر وللمخلوق خلق ، وهذا الدرهم ضرب الأمير ووزن سبعة ، ونحوها
الواقعة : ( 81 ) أفبهذا الحديث أنتم . . . . .
) أفبهذا الحديث ( يعني القرآن ) أنتم مدهنون ( قال ابن عباس : مكذبون .
مقاتل بن حيان : كافرون ، ونظيره ) ودّوا لو تدهن فيدهنون ( .
وقال ابن كيسان : المدهن الذي لا يفعل ما يحق عليه ويدفعه بالعلل .
وقال المؤرخ : المدهن المنافق الذي ليّن جانبه ليخفي كفره . وادّهن وداهن واحد وأصله من الدهن . وقال مجاهد : تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم .
وقال بعض أئمّة اللغة : مدهنون أي تاركون للحزم في قبول هذا القرآن والتهاون بأمره ، ومداهنة العدو وملاينته مكان ما يجب من مغالظته ، وأصله من اللين والضعف .
قال أبو قيس بن الأسلت :
الحزم والقوة خير من الإ
دهان والفكّة والهاع
الواقعة : ( 82 ) وتجعلون رزقكم أنكم . . . . .
) وتجعلون رزقكم ( حظكم ونصيبكم من القرآن ) أنكم تكذبون ( .
قال الحسن : في هذه الآية خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلاّ التكذيب به .
وقال آخرون : هذا في الاستسقاء بالأنواء . أنبأني عبدالله بن حامد ، أنبأنا محمد بن الحسن ، حدّثنا أحمد بن يوسف ، حدّثنا النضر بن محمد ، عكرمة ، حدّثنا أبو زميل حدّثني ابن عباس قال : مُطر الناس على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة وضعها الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ) . قال : فنزلت هذه الآية .
) فلا أُقسم بمواقع النجوم ( حتى ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( ، وشرح قول ابن عباس هذا في سبب نزول هذه الآية ما روي عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج في سفر فنزلوا فأصابهم
(9/221)

" صفحة رقم 222 "
العطش وليس معهم ماء فذكروا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( أرأيتم إن دعوت لكم فسقيتم فلعلكم تقولون سُقينا هذا المطر بنوء كذا ) .
فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء .
قال فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا حتى سالت الأودية وملوؤا الأسقية فثم ركب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمرَّ برجل يغترف بقدح له وهو يقول : سُقينا بنوء فلان ، ولم يقل : هذا من رزق الله ، فأنزل الله عزّوجل ) وتجعلون رزقكم ( أي شكركم لله على رزقه إياكم ) أنكم تكذبون ( بالنعمة وتقولون : سُقينا بنوء كذا ، وهذا كقول القائل : جعلت العطاء إليك إساءة منك إليَّ ، وجعلت شكر إكرامي لك أنك اتخذتني عدواً ، فمجاز الآية : وتجعلون شكر رزقكم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كقوله ) واسأل القرية ( ونحوها .
قال الشاعر :
وكان شكر القوم عند المنن
كنَّ الصحيحات وقفا الأعين
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا عمر بن الحسن ، حدّثنا أحمد ، حدّثنا أُبي ، حدّثنا حصين عن هارون بن سعد عن عبدالأعلى عن أبي عبدالرحمن عن علي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ : ( وتجعلون شكركم أنكم تكذبون ) .
وذكر الهيثم عن عدي أن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان ، بمعنى ما شكر .
وأنبأني عقيل ، المعافي ، محمد بن جرير حدّثني يونس ، سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ان الله سبحانه وتعالى ليصبح عباده بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح قوم كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ) .
قال محمد : فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هريرة ، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب ح وهو يستسقي فلما إستسقى التفت إلى العباس فقال : يا عم رسول الله كم بقي من نؤء الثريا
(9/222)

" صفحة رقم 223 "
فقال : ( العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعاً ) قال : فما مضت سابعة حتى مطروا .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، أخبرنا محمد بن خالد ، أخبرنا داود بن سليمان ، حدّثنا عبد بن حميد ، حدّثنا هاشم بن القاسم ، حدّثنا محمد بن طلحة ، عن طلحة عن عبدالله بن محيريز قال : دعاه سليمان بن عبدالملك فقال : لو تعلّمت علم النجوم فازددت إلى علمك . فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث : حيف الأئمة وتكذيباً بالقدر وإيماناً بالنجوم ) .
الواقعة : ( 83 ) فلولا إذا بلغت . . . . .
ثم خاطبهم خطاب التحذير والترهيب فقال عزّ من قائل : ) فلولا ( فهّلا ) إذا بلغت ( يعني النفس ) الحلقوم ( عند خروجها من الجسد فأختزل النفس لدلالة الكلام عليه .
كقول الشاعر :
أماويَّ ما يغني الثراء عن الفنى
إذا حشرجت يوماً وضاق به الصدر
الواقعة : ( 84 ) وأنتم حينئذ تنظرون
) وأنتم حينئذ تنظرون ( إلى أمري وسلطاني .
وقال ابن عباس : يريد : من حضر الميت من أهله ينظرون إليه متى تخرج نفسه .
قال الفراء : وذلك معروف من كلام العرب أن يخاطبوا الجماعة بالفعل كانهم أهله وأصحابه ، والمراد به بعضهم غائباً كان أو شاهداً فيقولوا : قتلتم فلاناً والقاتل منهم واحد . ويقولون لأهل المسجد إذا آذوا رجلا بالازدحام : اتقوا الله فإنكم تؤذون المسلمين ونحن أقرب إليه منكم بالقدرة والعلم ولا قدرة لكم على دفع شيء عنه .
قال عامر بن عبد قيس : ما نظرت إلى شيء إلاّ رأيت الله سبحانه أقرب إليَّ منه .
وقال بعضهم : أراد : ورسلنا الذين يقبضون .
الواقعة : ( 85 - 86 ) ونحن أقرب إليه . . . . .
) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ( مملوكين ومحاسبين ومجزيين .
فإن قيل : فأين جواب قوله ) فلولا إذا بلغت ( وقوله ) فلولا إن كنتم ( ؟
الواقعة : ( 87 ) ترجعونها إن كنتم . . . . .
قلنا : قال الفراء : إنهما أُجيبا بجواب واحد ، وهو قوله ) ترجعونها ( وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد فهذا من ذلك ، ومنه قوله ) فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا
(9/223)

" صفحة رقم 224 "
خوف عليهم ( . أجيبا بجواب واحد ، وهما جزآن ومن ذلك قوله ) ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم ( .
وقيل : في الآية تقديم وتأخير مجازها ) فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها ( أي تردّون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم ، ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وفي البعث ، وبيّن درجاتهم فقال
الواقعة : ( 88 - 89 ) فأما إن كان . . . . .
) فأما إن كان من المقربين ( وهم السابقون ) فرَوح ( قرأ الحسن وقتادة ويعقوب : بضم الراء على معنى أن روحه تخرج في الريحان . قاله الحسن .
وقال قتادة : الروح الرحمة ، وقيل : معناه فحياة وبقاء لهم ، وذكر أنها قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أخبرنا محمد بن نعيم ، أخبرنا الحسين بن أيوب ، أخبرنا علي بن عبدالعزيز ، أخبرنا أبو عبيد ، حدّثنا مروان بن معاوية عن أبي حماد الخراساني عن بديل بن ميسرة عن عبدالله بن شقيق عن عائشة قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ هذا الحرف : ( فروح وريحان ) بضم الراء .
وباسناده عن أبي عبيد ، حدّثنا حجاج عن هارون وأخبرنا عبدالله بن حامد ، أخبرنا عمر ابن الحسن ، أخبرنا أحمد ، حدّثنا أبي ، حدّثنا الحسين عن عبيدالله البصري عن هارون بن موسى المعلم أخبرني بديل بن ميسرة عن عبدالله بن شقيق عن عائشة خ قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ ( فروح وريحان ) بضم الراء .
وقرأ الآخرون : بفتح الراء .
واختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس ومجاهد : فراحة . سعيد بن جبير : فرح . الضحّاك : مغفرة ورحمة .
) وريحان ( قال ابن عباس : مستراح . مجاهد وسعيد بن جبير : رزق . قال مقاتل : هو بلسان حمير ، يقال : خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه .
قال الربيع بن خثيم وابن زيد : ( فروح ) عند الموت ( وريحان ) يخبّأ له في الآخرة .
وقال الآخرون : هو الريحان المعروف الذي يُشمّ .
قال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمّه ثم يقبض .
) وجنة نعيم ( قال أبو بكر الوراق : الرّوح : النجاة من النار ، والريحان : دخول دار القرار
(9/224)

" صفحة رقم 225 "
الترمذي : الروح : الراحة في القبر ، والريحان : دخول الجنة .
بسام بن عبدالله : الروح : السلامة ، والريحان : الكرامة .
شعر :
الروح معانقة الأبكار والريحان موافقة الأبرار بحران الروح كشف الغطاء والريحان الروية واللقاء .
وقيل : الروح : الراحة ، والريحان : النجاة من الآفة ، وقيل : الروح : الموت على الشهادة ، والريحان : نداء السعادة ، وقيل : الروح : كشف الكروب ، والريحان : غفران الذنوب ، وقيل : الروح : الثبات على الايمان ، والريحان : نيل الأمن والأمان .
وقيل : الروح فضلة ، والريحان : ( فضالة ) . وقيل : الروح تخفيف الحساب ، والريحان : تضعيف الثواب .
وقيل : الروح عفو بلا عتاب ، والريحان : رزق بلا حساب .
ويقال : ) فروح ( للسابقين ) وريحان ( للمقتصدين ) وجنَتُ نعيم ( للطالبين .
وقيل : الروح لأرواحهم ، والريحان لقلوبهم والجنة لأبدانهم والحق لأسرارهم .
الواقعة : ( 90 - 91 ) وأما إن كان . . . . .
) وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك ( رفع على معنى : فلك سلام ، وهو سلام لك ، أي سلامة لك يا محمد منهم فلا تهتمّ لهم فإنهم سلموا من عذاب الله .
وقال الفراء : مُسلّم لك أنهم من أصحاب اليمين . أو يقال لصاحب اليمين : إنه مسلم لك أنك ) من أصحاب اليمين ( وقيل : فسلام عليك ) من أصحاب اليمين ( .
الواقعة : ( 92 ) وأما إن كان . . . . .
) وأما إن كان من المكذبين الضالين ( وهم أصحاب المشأمة
الواقعة : ( 93 - 94 ) فنزل من حميم
) فنزل من حميم وتصلية جحيم ( وإدخال النار
الواقعة : ( 95 ) إن هذا لهو . . . . .
) إن هذا ( الذي ذكروا ) لهو حق اليقين ( أي الحق اليقين فأضافه إلى نفسه ، وقد ذكرنا نظائره .
قال قتادة : في هذه الآية : إن الله عزّ وجل ليس تاركاً أحداً من الناس حتى يقفَه على اليقين من هذا القرآن ، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة ، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه .
الواقعة : ( 96 ) فسبح باسم ربك . . . . .
) فسبح باسم ربك ( فصلّ بذكر ربك وأمره . وقيل : فاذكر اسم ربك العظيم وسبّحه
(9/225)

" صفحة رقم 226 "
أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا ابن شنبه ، حدّثنا حمزة بن محمد الكاتب ، حدّثنا نعيم بن حماد ، حدّثنا عبدالله بن المبارك عن موسى بن أيوب الغافقي عن عمّه وهو اياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسبح باسم ربك العظيم ( قال : ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزلت ) سبح إسم ربك الأعلى ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعلوها في سجودكم ) .
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرىء ، حدّثنا أبو محمد عبدالله بن محمد الحافظ أخبرنا أبو بكر بن أبي عاصم النبيل ، حدّثنا الحوصي ، حدّثنا بقية ، عن يحيى بن سعيد ، عن خالد بن معدان عن أبي بلال عن العرباض بن سارية أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ بالمسبّحات قبل أن يرقد ويقول : ( إن فيهن آية أفضل من ألف آية ) .
قال : يعني بالمسبحات : الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن .
(9/226)

" صفحة رقم 227 "
( سورة الحديد )
مدنية وهي ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفاً وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وتسع وعشرون آية
أخبرنا أبو الحسين المقرىء ، حدّثنا أبو بكر الاسماعيلي ، حدّثنا وأبو الشيخ الأصفهاني قالا ، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك ، حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي ، حدّثنا سلام بن سليم المدايني ، حدّثنا هارون بن كثير ، حدّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة ، عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الاَْوَّلُ وَالاَْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( 2
الحديد : ( 1 - 3 ) سبح لله ما . . . . .
) سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن ( يعني ) هو الأول ( قبل كل شيء بِلا حَد ولا ابتداء ، كان هو ولا شيء موجود ) والآخر ( بعد فناء كل شيء ) والظاهر ( الغالب العالي على كل شيء ، وكل شيء دونه ) والباطن ( العالم بكل شيء ، فلا أحد أعلم منه .
وهذا معنى قول ابن عباس
(9/227)

" صفحة رقم 228 "
وقال ابن عمر : الأول بالخلق والآخر بالرزق ، والظاهر بالاحياء والباطن بالإماتة .
وقال الضحّاك : هو الذي أول الأول وآخر الاخر ، وأظهر الظاهر وأبطن الباطن .
مقاتل بن حيان : هو الأول بلا تأويل أحد ، والآخر بلا تأخير أحد والظاهر بلا إظهار أحد والباطن بلا إبطان أحد .
وقال يمان : هو الأول القديم ، والآخر الرحيم ، والظاهر الحليم ، والباطن العليم .
وقال محمد بن الفضل : الأول ببرّه والآخر بعفوه ، والظاهر بإحسانه والباطن بسرّه .
وقال أبو بكر الوراق : هو الأول بالأزلية والآخر بالأبدية ، والظاهر بالأحدية والباطن بالصمدية .
عبد العزيز بن يحيى : هذه الواوات مقحمة والمعنى : هو الأول الآخر الظاهر الباطن ، لأن من كان منا أولا لا يكون آخراً ، ومن كان ظاهراً لا يكون باطناً .
وقال الحسين بن الفضل : هو الأول بلا ابتداء ، والآخر بلا إنتهاء ، والظاهر بلا إقتراب ، والباطن بلا إحتجاب .
وقال القناد : الأول السابق إلى فعل الخير والمتقدم على كل محسن إلى فعل الإحسان ، والآخر الباقي بعد فقد الخلق ، والخاتم بفعل الإحسان ، والظاهر الغالب لكل أحد ، ومن ظهر على شيء فقد غلبه ، والظاهر أيضاً : الذي يعلم الظواهر ويشرف على السرائر ، والظاهر أيضاً : ظهر للعقول بالإعلام وظهر للأرواح باليقين وإن خفي على أعين الناظرين ، والباطن الذي عرف المغيّبات وأشرف على المستترات ، والباطن أيضاً : الذي خفي عن الظواهر فلم يدرك إلاّ بالسرائر .
وقال السدي : الأول ببرّه إذ عرّفك توحيده ، والآخر بجوده إذ عرّفك التوبة على ما جنيت ، والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له ، والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك .
وقال ابن عطاء : الأول بكشف أحوال الدنيا حتى لا يرغبوا فيها ، والآخر بكشف أحوال العقبى حتى لا يشكّوا فيها ، والظاهر على قلوب أوليائه حتى يعرفوه ، والباطن عن قلوب أعدائه حتى ينكروه .
وقيل : الأول قبل كل معلوم ، والآخر بعد كل مختوم ، والظاهر فوق كل مرسوم ، والباطن محيط بكل مكتوم .
وقيل هو الأول بإحاطة علمه بذنوبنا قبل وجود ذنوبنا ، والآخر بسترها علينا في عقبانا ، والظاهر بحفظه إيانا في دنيانا ، والباطن بتصفية أسرارنا وتنقية أذكارنا .
(9/228)

" صفحة رقم 229 "
وقيل : هو الأول بالتكوين ، بيانه قوله ) إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون (
والآخر بالتلقين ، بيانه قوله ) يثبّت الله الذين آمنوا ( الآية .
والظاهر بالتبيين بيانه ) يريد الله ليبيّن لكم ( والباطن بالتزيين بيانه ) وزيّنه في قلوبكم ( .
وقال محمد بن علي الترمذي : الأول بالتأليف والآخر بالتكليف والظاهر بالتصريف ، والباطن بالتعريف .
وقال الجنيد : هو الأول بشرح القلوب ، والآخر بغفران الذنوب ، والظاهر بكشف الكروب ، والباطن بعلم الغيوب .
وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال : معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن .
وقيل : هو الأول بالهيبة والسلطان ، والآخر بالرحمة والاحسان ، والظاهر بالحجة والبرهان ، والباطن بالعصمة والامتنان .
وقيل : هو الأول بالعطاء ، والآخر بالجزاء ، والظاهر بالثناء ، والباطن بالوفاء .
وقيل : هو الأول بالبرّ والكرم ، والآخر بنحلة القسم ، والظاهر باسباغ النعم ، والباطن بدفع النقم .
وقيل : هو الأول بالهداية ، والآخر بالكفاية ، والظاهر بالولاية ، والباطن بالرعاية .
وقيل : هو الأول بالانعام ، والآخر بالاتمام ، والظاهر بالاكرام ، والباطن بالالهام .
وقيل : هو الأول بتسمية الأسماء ، والآخر بتكملة النعماء ، والظاهر بتسوية الأعضاء ، والباطن بصرف الأهواء .
وقيل : هو الأول بإنشاء الخلائق ، والآخر بافناء الخلائق ، والظاهر باظهار الحقائق ، والباطن بعلم الدقائق .
وقال الواسطي : لم يدع للخلق نفساً بعد ما أخبر عن نفسه أنه الأول والآخر والظاهر والباطن .
(9/229)

" صفحة رقم 230 "
وسمعت أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت الشبلي يقول : في هذه الآية أشياء ساقطة فإني أول آخر ظاهر باطن .
) وهو بكل شيء عليم ( أخبرنا شعيب بن محمد أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أحمد بن الأزهر حدّثنا روح بن عبادة ، حدّثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : ( هل تدرون ما هذا ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( هذا العنان هذا روايا الأرض يسوقه الله عزّوجل إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه )
ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ ) .
قال : ( فكم تدرون بينكم وبينها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( فإن بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة )
قال : ( هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( فإن فوقها سماء أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة ) حتى عدّد سبع سماوات بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة .
ثم قال : ( هل تدرون ما فوق ذلك ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء السابعة مثلما بين سماءين ) .
ثم قال : ( هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( فإنها الأرض ) .
قال : ( فهل تدرون ما تحتها ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( فإن تحتها أرضاً أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ) ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ) ثم قرأ ) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ( ومعناه بالعلم والقدرة والخلق والملك .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، أخبرنا أبا مكي ، أخبرنا أحمد بن منصور المروزي ، حدّثنا علي ابن الحسن ، حدّثنا أبو حمزة عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : دخلت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألته خادماً فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أدلك على ماهو خير لك من ذلك أن تقولي : اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت أخذ بناصيته ،
(9/230)

" صفحة رقم 231 "
أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقضِ عنّا الدين وأغننا من الفقر ) .
الحديد : ( 4 ) هو الذي خلق . . . . .
) هو الذي خلق السماوات في ستة أيام ثم استوى على العرش ( أخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا عمر بن الخطاب ، حدّثنا عبدالله بن الفضل حدّثني أحمد بن وركان ، حدّثنا علي بن الحسن بن شقيق قال : قلت لعبدالله بن المبارك : كيف نعرف ربنا عزّوجل ؟ قال : في السماء السابعة على عرشه ، ولا تقول كما قالت الجهمية : ههنا في الأرض .
وقد ذكرنا معنى الاستواء وحققنا الكلام فيه فأغنى عن الإعادة .
) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم ( بالعلم والقدرة ) اينما كنتم والله بما تعملون بصير (
الحديد : ( 5 - 8 ) له ملك السماوات . . . . .
) له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور آمنوا بالله ورسوله وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ( مملّكين ، معمرين فيه ) فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم أجر كبير ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم ( في ظهر آدم بان الله ربكم لا إله لكم سواه . قاله مجاهد .
وقيل : ) أخذ ميثاقكم ( بأن ركّب فيكم العقول وأقام الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول .
وقراءة العامة : بفتح الهمزة والقاف .
وقرأ أبو عمرو بضمّهما على وجه ما لم يسمى فاعله . ) ان كنتم مؤمنين ( يوماً من الأيام ، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام على حقيقة الإسلام وصحة نبوة المصطفى ( عليه السلام ) .
2 ( ) هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَائِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 2
الحديد : ( 9 ) هو الذي ينزل . . . . .
) هو الذي ينزل على عبده ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) آيات بيّنات ليخرجكم ( الله بالقرآن ، وقيل : ليخرجكم الرسول بالدعوة ) من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوفٌ رحيم ( .
(9/231)

" صفحة رقم 232 "
الحديد : ( 10 - 11 ) وما لكم ألا . . . . .
) ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ( ثم بيّن سبحانه فضل السابقين في الانفاق والجهاد فقال عزّ من قائل ) لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ( يعني : فتح مكة في قول أكثر المفسرين .
وقال الشعبي : هو صلح الحديبية قال : وقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا رسول الله أفتح هو ؟ قال : ( نعم عظيم ) . وقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) أُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد ( أي من بعد الفتح ) وقاتلوا ( .
أخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير حدّثني ابن البرقي ، حدّثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم ) .
قال : من هم يا رسول الله ؟ قريش .
قال : ( لا هم أرق أفئدة وألين قلوباً ) وأشار بيده إلى اليمن فقال : ( هم أهل اليمن ، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية )
فقلنا : يا رسول الله هم خير منّا ؟
قال : ( والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه ) ثم جمع أصابعه ومدَّ خنصره فقال : ( ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) .
وروى محمد بن الفضل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ح ، وفي هذه الآية دلالة واضحة وحجة بيّنة على فضل أبي بكر بتقديمه لأنه أول من أسلم .
(9/232)

" صفحة رقم 233 "
أخبرنا عبدالله بن حامد ، أخبرنا أبو بكر ، أخبرنا أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا محمد بن أيوب ، أخبرنا أبو الوليد الطيالسي ، حدّثنا عكرمة بن عماد ، حدّثنا شداد بن عبدالله أبو عمار
(9/233)

" صفحة رقم 234 "
وقد كان أدرك نفراً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : قال أبو امامة لعمرو بن عبسة بأي شيء تدّعي أنك ربع الإسلام ؟ قال : إني كنت أرى الناس على الضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً ، ثم
(9/234)

" صفحة رقم 235 "
سمعت عن رجل يخبرنا أخبار مكة فركبت راحلتي حتى قدمت عليه ، فإذا قومه عليه جرآء قال : قلت : ما أنت ؟
قال : أنا نبي . قلت : وما نبي ؟ قال : رسول الله .
قلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : ( أوحد الله ولا أشرك به شيئاً وكسر الأوثان وصلة الأرحام ) .
قلت : من معك على هذا ؟ قال : حرّ وعبد . وإذا معه أبو بكر وبلال ، فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني ربع الإسلام .
ولأنه أول من أظهر الإسلام :
أخبرنا أبو محمد الأصبهاني ، أخبرنا أبو بكر الصعي ، أخبرنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، أخبرنا أبي ، حدّثنا يحيى بن أبي كثير ، حدّثنا زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبدالله ابن مسعود قال : كان أول من أظهر الإسلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمار وأُمّه سمية وصهيب وبلال والمقداد .
ولأنه أول من قاتل على الإسلام :
أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد الجرجاني بها ، أخبرنا أبو الطاهر محمد بن الحسن
(9/235)

" صفحة رقم 236 "
المحمدآبادي وحدّثنا أبو قلابة ، حدّثنا يحيى بن أبي كثير ، حدّثنا زائدة عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر ح . ولأنه أول من أنفق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سبيل الله .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ، أخبرنا محمد بن يونس ، حدّثنا العلا بن عمرو الشيباني ، حدّثنا أبو إسحاق الفزاري ، حدّثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال : كنت عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال فقال : ( أنفق ماله عليَّ قبل الفتح ) .
قال : فإن الله عزّوجل يقول : إقرأ عليه السلام وتقول له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟
فقال أبو بكر : أأسخط ؟ إني عن ربي راض إني عن ربي راض .
ولهذا قدّمه الصحابة على أنفسهم وأقروا له بالتقدم والسّبق .
وأخبرنا عبدالله بن حامد ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق ، أخبرنا محمد بن يونس عقبة بن سنان ، حدّثنا أبو بشر ، حدّثنا الهيصم بن شداخ عن الأعمش عن عمرو بن مرّة عن عبدالله بن سلمة عن علي ح قال : سبق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصلى أبو بكر وثلث عمر فلا أُوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلاّ جلدته جلد المفتري وطرح الشهادة .
) وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم ( .
) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الاَْمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 2
الحديد : ( 12 ) يوم ترى المؤمنين . . . . .
) يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم ( على الصراط ) بين أيديهم وبأيمانهم ( .
(9/236)

" صفحة رقم 237 "
قال بعضهم : أراد جميع جوانبهم ، فعبّر بالبعض عن الكل على مذهب العرب في الإيجاز ، ومجازه : عن أيمانهم .
وقال الضحّاك : أراد ) يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ( كتبهم .
وقرأ سهل بن سعد الساعدي : بإيمانهم بكسر الهمزة ، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة ، وأراد بالنور : القرآن .
قال عبدالله بن مسعود : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يأتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً على إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة .
وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره موضع قدميه ، وتقول لهم الملائكة : ) بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ( ) .
الحديد : ( 13 ) يوم يقول المنافقون . . . . .
) يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا ( قرأة العامة : موصولة أي انتظرونا .
وقرأ يحيى والأعمش وحمزة : ( أنظرونا ) بفتح الألف وكسر الظاء أي أمهلونا .
وقال الفراء : تقول العرب : أنظرني أي إنتظرني ، وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا
وانظرنا نخبرك اليقينا
قال : يعني انتظرنا .
) نقتبس ( نستضيء ) من نوركم ( قال المفسرون : إذا كان يوم القيامة أعطى الله تعالى المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، وأعطى المنافقين الضالّين كذلك خديعة لهم وهو قوله عزّوجل ) وهو خادعهم ( .
وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور .
قالوا فبينما هم يمشون إذ بعث الله تعالى ريحاً وظلمة فأطفأ نور المنافقين ، فذلك قوله عزّ وجل ) يوم يجزي الله النبي والذين آمنوا معه يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ( مخافة أن يُسلبوا نورهم كما سلب المنافقون ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة قالوا
(9/237)

" صفحة رقم 238 "
للمؤمنين ) انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم ( من حيث جئتم ) فالتمسوا ( فاطلبوا هناك لأنفسكم ) نوراً ( فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا ) فضُرب بينهم بسور ( أي سور والباء صلة ، عن الكسائي . وهو حاجز بين الجنة والنار ) له باب باطنه فيه الرحمة ( يعني الجنة ) وظاهره من قبله ( أي من قبل ذلك الظاهر ) العذاب ( وهو النار .
أخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا أحمد بن ماجة القزويني ، حدّثنا محمد بن أيوب الرازي ، حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : وأخبرني ابن حمدان ، حدّثنا ابن ماهان ، حدّثنا موسى بن إسماعيل حماد عن أبي سنان قال : كنت مع علي بن عبدالله بن عباس عند وادي جهنم فحدّث عن أبيه وقرأ ) فضرب بينهم بسور له باب ( الآية ثم قال : أي هذا موضع السور ، يعني وادي جهنم .
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرني أحمد بن عمير بن يوسف ، حدّثنا عبدالسلام بن عتيق ، حدّثنا أبو مسهر ، حدّثنا سعيد بن عبدالعزيز عن عطية بن قيس حدّثني أبو العوام مؤذن أهل بيت المقدس عن عبدالله بن عمرو قال : إن السور الذي ذكر الله عزّوجل في القرآن ) فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( سور مسجد بيت المقدس الشرقي باطنه من المسجد وظاهره من قبله ) العذاب ( الوادي : وادي جهنم .
وأخبرني ابن فنجويه ، حدّثنا السني ، حدّثنا أبو يعلي الموصلي حدّثنا أبو نصر التمار ، حدّثنا سعيد بن عبدالعزيز ، عن زياد بن أبي سودة أن عبادة بن الصامت قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى . فقال بعضهم : ما يبكيك يا أبا الوليد ؟ فقال : من هاهنا أخبرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رأى جهنم .
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج حدثهم عن محمد بن جرير حدّثني محمد بن عوف ، حدّثنا أبو المغيرة ، حدّثنا صفوان ، حدّثنا شريح أن كعباً يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله عزّوجل ) فضرب بينهم بسور ( الآية .
الحديد : ( 14 ) ينادونهم ألم نكن . . . . .
) ينادونهم ( يعني ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور ، فبقوا في الظلمة والعذاب ، وصار المؤمنون في النور والرحمة ) ألم نكن معكم ( في الدنيا نصوم ونصلي ونناكحكم ونوارثكم ؟ ) قالوا بلى ولكنكم فتنتم ( أهلكتم ) أنفسكم ( بالنفاق ) وتربصتم ( بالأيمان .
وقال مقاتل : بل تربّصتم بمحمد الموت وقلتم : يوشك أن يموت محمد فتستريح ) وارتبتم ( شككتم في التوحيد والنبوة ) وغرتكم الأماني ( للأباطيل .
وقال أبو بكر الورّاق : طول الأمل .
(9/238)

" صفحة رقم 239 "
أخبرني الحسين ، حدّثنا ابن حمدان ، حدّثنا يوسف بن عبدالله ، حدّثنا مسلم بن أدهم حدّثنا همام بن يحيى ، حدّثنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خط خطوطاً وخط خطاً منها ناحية فقال : ( تدرون ما هذا ؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني ، وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت ) .
وأخبرنا الحسين ، حدّثنا الكندي ، حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر ، حدّثنا يحيى بن عبد الباقي ، حدّثنا عمرو بن عثمان ، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال : ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرّة .
) حتى جاء أمر الله ( يعني الموت ) وغرّكم بالله الغرور ( أي الشيطان . وقرأ سماك بن حرب : بضم الغين يعني الأباطيل .
قال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان وما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار .
الحديد : ( 15 ) فاليوم لا يؤخذ . . . . .
) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ( بدل وعوض .
قراءة العامة يؤخذ بالياء .
وقرأ ابن عامر والحسن وأبو جعفر ويعقوب بالتاء واختاره أبو حاتم .
) ولا من الذين كفروا ( يعني المشركين ) مأواكم النار ( أي صاحبتكم وأولى بكم وأحق بإن تكون مسكناً لكم .
قال لبيد :
فعذب كلا الفريقين بحسب أنه
مولى المخافة خَلَقَها وإمامها
) وبئس المصير }
الحديد : ( 16 ) ألم يأن للذين . . . . .
) ألم يأن للذين آمنوا ( الآية . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدّثنا عمّا في التوراة فإن فيها العجائب ، فنزلت الآية ) تلك آيات الكتاب المبين ( إلى قوله ) نحن نقص عليك أحسن القصص ( فخبّرهم بأن هذا القرآن أحسن من غيره وأنفع لهم ، فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم ( عادوا ) فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزلت ) الله نزّل أحسن الحديث ( الآية . فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم ( عادوا ) أيضاً فسألوا فقالوا : حدّثنا عن التوراة فإن فيها العجائب ، ونزلت هذه الآية
(9/239)

" صفحة رقم 240 "
فعلى هذا القول يكون تأويل الآية ) ألم يأن للذين آمنوا ( في العلانية واللسان .
وقال غيرهما : نزلت في المؤمنين .
قال عبدالله بن مسعود : مَلَّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا رسول الله لو حدّثتنا فأنزل الله عزّوجل ) الله نزل أحسن الحديث ( الآية .
فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله عزّوجل ) نحن نقص عليك أحسن القصص ( الآية .
فقالوا : يا رسول الله لو ذكّرتنا ووعظتنا . فأنزل الله عزّوجل هذه الآية .
وقال ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلاّ أربع سنين ، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً .
وقال ابن عباس : إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال ) ألم يأن ( يحن ) للذين آمنوا أن تخشع ( ترق وتلين وتخضع ) قلوبهم لذكر الله وما نزل ( .
قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المفضل وحفص : خفيفة الزاي ، غيرهم : مشددة .
) من الحق ( وهو القرآن ، قال مجاهد : نزلت هذه الآية في المتعرّبين بعد الهجرة .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، حدّثنا محمد بن خالد ، حدّثنا سليمان بن داود ، حدّثنا عبد بن حميد ، حدّثنا يزيد بن هارون ، حدّثنا الحسام بن المصك عن الحسن عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أول ما يرفع من الناس الخشوع ) .
) ولا يكونوا ( يعني وألاّ يكونوا ، محله نصب بالعطف على ) تخشع ( قال الأخفش : وإن شئت جعلته نهياً فيكون مجازه : ولا يكونن ، ودليل هذا التأويل رواية يونس عن يعقوب أنه قرأ : ( ولا تكونوا ) بالتاء .
) كالذين أوتوا الكتاب من قبل ( وهم اليهود والنصارى . ) فطال عليهم الأمد ( الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم ) فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( .
روى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن عُميلة ، حدّثنا عبدالله حدّثنا ، ما سمعت حدّثنا هو أحسن منه إلاّ كتاب الله عزّوجل أو رواية عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن بني إسرائيل لما
(9/240)

" صفحة رقم 241 "
طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، فقالوا : إعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم ، وإن خالفوكم فاقتلوهم ، ثم قالوا : لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فإقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد .
فأرسلوا إليه ، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله عزّوجل ثم جعلها في قَرن ثم علّقها في عنقه ، ثم لبس عليه الثياب ، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا ، ومالي لا أومن بهذا ؟ يعني الكتاب الذي في القَرن ، فخلّوا سبيله .
وكان له أصحاب يغشونه ، فلما مات نبشوه فوجدوا القَرن ووجدوا فيه الكتاب ، فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا ، ومالي لا أوُمن بهذا ؟ إنما عني هذا الكتاب ؟ فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذي القَرن .
قال عبدالله : وإن من بقي منكم سيرى منكراً ، وبحسب أمرى يرى منكراً لا تستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره .
وقال مقاتل بن حيان : إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) طال عليهم الأمد ( يعني خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع ، ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآمنوا به ، ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسّقهم فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد ( عليه السلام ) .
وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين ، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عمّا كانوا فيه ، فقست قلوبهم ، فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيماناً ويقيناً وإخلاصاً في طول صحبة الكتاب .
أنبأني عبدالله بن حامد ، أخبرنا أبو عبدالله محمد بن العباس الضبّي ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبدالله النيّري ، حدّثنا أبو سعيد الأشج ، حدّثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن عجلان ، عن وائل بن بكر قال : قال عيسى ( عليه السلام ) : ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فَتقسوَ قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب ، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية ) .
(9/241)

" صفحة رقم 242 "
أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى ، حدّثنا أبو عبدالله المقرىء قال : سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول : سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول : كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا ، فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ ) ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ( فرجع القهقرى .
وهو يقول : بلى فلان بلى والله فلان . فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة ، وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية : فضيل بدر أهست در ما راه بُرّذ .
فقال الفضيل في نفسه : الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني ؟ اللهم إني قد تبت إليك ، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام .
ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية : منم فضيل كناه كار أز من ترسيد يدأكنون مترسيد .
قال الفضل بن موسى : ثم خرج فجاور .
وحدّثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد ، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة ، حدّثنا أبو يعقوب البزاز ، حدّثنا محمد بن حاتم السمرقندي ، حدّثنا أحمد بن زيد ، حدّثنا حسين ابن الحسن قال : سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال : إني كنت في بستان ، وأنا شاب مع جماعة من أترابي ، وذلك في وقت الفواكه ، فأكلنا وشربنا وكنت مولعاً بضرب العود فقمت في بعض الليل ، فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول ) ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ( قال : فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شُغلت عن الله ، وجاء التوفيق من الله عزّ وجل فكان ما سُهل لنا من الخير بفضل الله .
2 ( ) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاَْيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلْادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الاَْرْضِ وَلاَ فِىأَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُل
(9/242)

" صفحة رقم 243 "
َّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ ( 2
الحديد : ( 17 - 18 ) اعلموا أن الله . . . . .
) اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات ( . قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والمفضل بتخفيف الصادين من التصديق مجازه : إن المؤمنين والمؤمنات .
وقرأ الباقون : بتشديدهما بمعنى أن المتصدقين والمتصدقات ، فأدغم التاء في الصاد كالمزمل والمدثر ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتباراً لقراءة أُبي : ( إن المتصدقين والمتصدقات واقرضوا الله قرضاً حسناً ) بالصدقة والنفقة في سبيله .
قال الحسن : كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع وإنما عطف بالفعل على الاسم لأنه في تقدير الفعل ، مجازه : إن الذين صدقوا وأقرضوا يضاعف لهم أمثالها .
قراءة العامة : بالألف وفتح العين . وقرأ الأعمش : ( يضاعفه ) بكسر العين وزيادة هاء .
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو جعفر ( يضعّف ) بالتشديد .
) ولهم أجر كريم ( وهو الجنة
الحديد : ( 19 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ( واحدهم : صديق وهو الكثير الصدق .
قال الضحاك : هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر وعلي وزيد وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وحمزة بن عبدالمطلب ، تاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نبيّه .
) والشهداء عند ربّهم ( اختلف العلماء فى نظم هذه الآية وحكمها ، فقال قوم : تمام الكلام عند قوله : ) الصدّيقون ( ثم ابتدأ فقال : ) والشهداء ( وأراد بهم شهداء المؤمنين خاصة ، والواو فيه واو الاستثناء ، وهذا قول ابن عباس ومسروق وجماعة من العلماء . وقال الآخرون : هي متصلة بما قبلها ، والواو فيه واو النسق .
ثم اختلفوا في معناها ، فقال الضحّاك : نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين ، وكانوا كلّهم شهداء ، وقد مرّ ذكرهم .
وقال غيره : نزلت في المؤمنين المخلصين كلّهم .
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا عبد الله ابن غنام النخعي قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا عبيد بن سعيد ، عن شعبة ، عن أبي
(9/243)

" صفحة رقم 244 "
قيس ، عن الهرمل ، عن عبد الله قال : إنّ الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه ، وإنّ الرجل ليقاتل على الدنيا ، وإنّ الرجل ليقاتل ابتغاء وجه الله ، وإنّ الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيداً ، ثم قرأ : ) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون والشهداء عند ربّهم ( .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان بن ليث ، عن مجاهد قال : كلّ مؤمن صدّيق شهيد ، ثم قرأ هذه الآية ، يعني موصولة .
وقال ابن عباس في بعض الروايات : أراد بالشهداء الأنبياء خاصّة .
) لهم أجرهم ونورهم ( في ظلمة القيامة . ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم
الحديد : ( 20 ) اعلموا أنما الحياة . . . . .
اعلموا أنما الحياة الدنيا ( ) ما ( صلة مجازه ) اعلموا ( ) لعب ( باطل لا حاصل له ) ولهو ( : فرح ثم ينقضي ) وزينة ( منظر يتزيّنون به ، ) وتفاخر بينكم ( : يفخر به بعضكم على بعض ، ) وتكاثر في الأموال والأولاد ( أي يُتاه بكثرة الأموال والأولاد .
وقال بعض المتأوّلين من المتأخّرين : لعب كلعب الصبيان ، ولهو كلهو الفتيان ، وزينة كزينة النسوان ، وتفاخر كتفاخر الأقران ، وتكاثر كتكاثر الدهقان .
وقال عليّ بن أبي طالب لعمار بن ياسر : ( لا تحزن على الدنيا ، فإن الدنيا ستّة أشياء : مطعوم ، ومشروب ، وملبوس ، ومشموم ، ومركوب ، ومنكوح . فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة ، وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان ، وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود ، وأكبر المشموم المسك ، وهي دم فأرة ظبية ، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال ، وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال . والله إن المرأة ليزيَّن أحسنها يراد به أقبحها ) .
ثم ضرب جلّ ذكره لها مثلا فقال عزّ من قائل : ) كمثل غيث أعجب الكفّار ( أي الزّرّاع ) نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً ( فيبلى ويفنى ) وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة ( ، يعني : أو مغفرة ) من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور (
الحديد : ( 21 ) سابقوا إلى مغفرة . . . . .
) سابقوا ( : سارعوا ) إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها ( : سعتها ) كعرض السماوات والأرض ( لوصل بعضها ببعض .
وقال ابن كيسان : عنى به جنّة واحدة من الجنان .
) أعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (
الحديد : ( 22 ) ما أصاب من . . . . .
) ما أصاب من مصيبة في الأرض ( بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر ) ولا في أنفسكم ( بالأوصاب والأسقام .
(9/244)

" صفحة رقم 245 "
وقال الشعبي : المصيبة : ما يكون من خير وشرّ وما يسيء ويسرّ .
الحديد : ( 23 ) لكي لا تأسوا . . . . .
ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : ) لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ( فذكر الحالتين جميعاً : ) إلاّ في كتاب ( يعني : اللوح المحفوظ ) من قبل أن نبرأها ( : من قبل أن نخلق الأرض والأنفس .
وقال ابن عباس : يعني المصيبة .
وقال أبو العالية : يعني النسَمَة
) إنّ ذلك على الله يسير ( إن خلق ذلك وحفظه على الله هيّن .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن مخلد قال : أخبرنا داود قال : حدّثنا عبيد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال : دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه . قال : فلا تبكِ ، فإنّه كان في علم الله سبحانه أن يكون ، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ : ) ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ( الآية .
) لكيلا اتأسوا ( : تحزنوا ) على ما فاتكم ( من الدنيا ، ) ولا تفرحوا ( : تبطروا ) بما آتاكم ( . قراءة العامّة بمدّ الألف ، أي ( أعطاكم ) ، واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي : ( جاءكم ) ، واختاره أبو عبيد ، قال : لقوله سبحانه : ) فاتكم ( ولم يقل : ( أفاتكم ) فجعل له ، فكذلك ( أتاكم ) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضاً .
قال عكرمة : ما من أحد إلاّ وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكراً وللحزن صبراً .
) والله لا يحبّ كلّ مختال فخور ( : متكبّر بما أُوتي من الدنيا ، فخور به على الناس .
وقال ابن مسعود : لأن ألحسَ جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان .
وقال جعفر الصادق : ( يا بن آدم ، مالك تأسّف على مفقود لا يردّه إليك الفوت ؟ ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت ؟ ) .
وقيل لبزرجمهر : ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت ؟ فقال : لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة
(9/245)

" صفحة رقم 246 "
وقال الفضيل في هذا المعنى : الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد فقد أذن بالرحيل .
وقال الحسين بن الفضل : حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت ، وترك الفرح بالآتي ، والرضا بقضائه في الحالتين جميعاً .
وقال قتيبة بن سعيد : دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أُحصي عددها ، فسألت عجوزاً : لمن كانت هذه الإبل ؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفاً ، فقلت له : يا شيخ ألك كانت هذه الإبل ؟ قال : كانت باسمي . قلت : فما أصابها ؟ قال : ارتجعها الذي أعطاها . قلت : وهل قلت في ذلك شيئاً ؟ قال : نعم :
لا والذي أخذ ( . . . ) من خلائقه
والمرء في الدهر نصب الرزء والمحنِ
ما سرّني أنّ إبْلي في مباركها
وما جرى في قضاء الله لم يكنِ
وقال سلم الخوّاص : من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين ؛ ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه . قيل : وما مذهبكم ؟ قال : الرضا بالقضا ، ومخالفة الهوى . وأنشد :
لا تطل الحزن على فائت
فقلّما يجدي عليك الحزنْ
سيّان محزون على ما مضى
ومظهرٌ حزناً لما لم يكنْ
الحديد : ( 24 ) الذين يبخلون ويأمرون . . . . .
) الذين يبخلون ( ، قيل : هو في محل الخفض على نعت ( المختال ) ، وقيل : هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده . ) ويأمرون الناس بالبخل ومن يتولّ فإنّ الله هو الغني الحميد ( قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط ) هو ( وكذلك هو في مصاحفهم . الباقون بإثباته .
الحديد : ( 25 ) لقد أرسلنا رسلنا . . . . .
) لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ( يعني له يعدل . وقال ابن زيد : ما يوزن به . ) ليقوم الناس بالقسط ( : ليعمل الناس بينهم بالعدل ) وأنزلنا الحديد ( ، قال ابن عباس : نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من الحديد : السندان ، والكلبتان ، والمنقعة ، والمطرقة ، والأُبرة .
وقال أهل المعاني : يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن ، وعلمهم صنيعته بوحيه .
وقال قطرب : هذا من النُزُل كما تقول : أنزل الأمر على فلان نزلا حسناً ، فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم ، ومثله قوله : ) وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ( .
(9/246)

" صفحة رقم 247 "
ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد الله الدهقان قال : حدّثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخيّاط قال : حدّثنا أبو بكر محمّد بن الفرج المعدّل قال : حدّثنا محمّد بن عبيد بن عبد الملك قال : حدّثنا سفيان بن محمّد أبو محمّد ( ابن أخت سفيان الثوري ) عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد الله بن خليفة عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله عزّ وجلّ أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : فأنزل الحديد ، والنّار ، والماء والملح ) .
) فيه بأس شديد ( ، قوّة شديدة ، يعني : السلاح والكراع ، ) ومنافع للناس ( ممّا يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم ؛ إذ هو آلة لكلّ صنعة . ) وليعلم الله ( ، يعني : أرسلنا رسلنا ، وأنزلنا معهم هذه الأشياء ؛ ليعامل الناس بالحقّ والعدل وليرى سبحانه ) من ينصره ( أي دينه ) ورسله بالغيب إنّ الله قويّ عزيز (
.
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 2
الحديد : ( 26 - 27 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
) ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه ( على دينه ) رأفةً ورحمةً ( والرأفة أشد الرقّة ) ورهبانية ابتدعوها ( من قبل أنفسهم ) ما كتبناها ( فرضناها وأوجبناها ) عليهم إلاّ ابتغاء ( يعني : ولكنهم ابتغوا ) رضوان الله ( بتلك الرهبانية ) فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ( ، وهم أهل الرأفة والرحمة والرهبانية التي ابتدعوها طلباً لرضا الله ) وكثير منهم فاسقون ( يعني الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها وكفروا بدين عيسى وتهوّدوا وتنصّروا . وبنحو ما فسّرنا ورد فيه الآثار .
وقال ابن مسعود : كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على حمار ، فقال لي : ( يابن أمّ عبد ، هل تدري من أين اتّخذت بنو اسرائيل الرهبانية ؟ ) . قلت : الله ورسوله أعلم
(9/247)

" صفحة رقم 248 "
قال : ( ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى ( عليه السلام ) يعملون بمعاصي الله سبحانه ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبقَ منهم إلاّ القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحد يدعو إليه ، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمّداً فتفرّقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا الرهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ومنهم من كفر ) . ثم تلا هذه الآية ) ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ( الآية .
) فآتينا الذين آمنوا منهم ( يعني : من ثبتوا عليها ) أجرهم ( ، ثم قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يابن أم عبد ، أتدري ما رهبانية أُمتي ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع ) .
وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله ابن سليمان قال : حدّثنا شيبان بن فرّوخ قال : حدّثنا الصعق بن حزن ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق ، عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود قال : دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يابن مسعود ، اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم تدعوهم إلى دين الله سبحانه ودين عيسى ، فساحوا في البلاد وترهّبوا وهم الذين قال الله سبحانه : ) ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ( ) .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من آمن بي وصدّقني واتّبعني فقد رعاها حقّ رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ) .
وروى الضحّاك وعطّية عن ابن عباس قال : كتب الله سبحانه عليهم القتال قبل أن يبعث محمّداً ( صلى الله عليه وسلم ) فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبقَ منهم إلاّ قليل وكثر أهل الشرك ، وذهبت الرسل وقهروا ، اعتزلوا في الغيران فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم ، وتركوا أمر الله ودينه ، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانيّة وباليهودية ، ولم يرعوها حقّ رعايتها ، وثبتت طائفة على دين عيسى حتى جاءهم البيّنات ، وبعث الله سبحانه محمّداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهم كذلك . فذلك قوله عزّ وجلّ : ) يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله ( إلى قوله : ) والله غفور رحيم ( .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا عليّ بن حرب قال : حدّثنا ابن فضيل قال : حدّثنا عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .
وحدّثت عن محمّد بن جرير ، قال : حدّثنا أبو عمّار الحسين بن حريث قال : حدّثنا الفضل
(9/248)

" صفحة رقم 249 "
ابن موسى عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى ( عليه السلام ) بدّلوا التوراة والإنجيل . وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله ويأمرونهم بتقوى الله سبحانه ، فقيل لملكهم : لو جمعت هؤلاء الذين شقّوا عليكم وآذوكم فقتلتموهم ، أقرّوا بما نقرّ به ، ودخلوا فيما نحن فيه . فدعاهم ملكهم وجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل . إلاّ ما بدّلوا فيها ، فقالوا : ما تريد منّا ؟ نحن نكفيكم أنفسنا . فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم اعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نردّ عليكم . وقالت طائفة أخرى : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونسرب كما تسرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا . وقالت طائفة منهم : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرِد عليكم ولا نمرّ بكم . وليس أحد من أولئك إلاّ له حميم منهم ، ففعلوا ذلك بهم فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممّن قد غيّر الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبّد كما تعبّد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتّخذ دوراً كما اتّخذ فلان ، وهم على شركهم ، ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله سبحانه : ) ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله ( . قال : ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حقّ رعايتها ، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ، ) وآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ( يعني الذين : ابتدعوها ) وكثير منهم فاسقون ( : الذين جاؤوا من بعدهم . قال : فلمّا بعث النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) ولم يبق منهم إلاّ قليل ، انحطّ رجل من صومعته ، وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره ، وآمنوا به وصدّقوه فقال الله عزّ وجلّ : ) يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله ( محمّد ( عليه السلام ) ) يؤتكم كفلين من رحمته ( قال : أجرين ؛ لإيمانهم بعيسى والإنجيل وإيمانهم بمحمّد والقرآن ، ) ويجعل لكم نوراً تمشون به ( يعني : القرآن ) لئلاّ يعلم أهل الكتاب ( الذين يتشبّهون بهم ) أن لا يقدرون على شيء من فضل الله ( إلى آخرها .
وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله : ) ورحمة ( ثم قال : ) ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ( ؛ وذلك أنّهم تركوا الحقّ ، وأكلوا لحم الخنزير ، وشربوا الخمر ، ولم يتوضّؤوا ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان ، ) فما رَعَوها ( يعني : الطاعة والملّة ) حقّ رعايتها ( . كناية عن غير مذكور . ) فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ( ، وهم أهل الرأفة والرحمة ) وكثير منهم فاسقون ( ، وهم أهل الرهبانية والبدعة ، وإليه ذهب مجاهد .
ومعنى قوله : ) إلاّ ابتغاء رضوان الله ( : وما أمرناهم إلاّ بذلك وما أمرناهم إلاّ بالترهّب ، أو يكون وجهه : إلاّ ابتغاء رضوان الله بزعمهم وعَنَدهم ، والله أعلم .
الحديد : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ( محمّد ( عليه السلام ) ) يؤتكم كفلين ( : نصيبين ) من رحمته ( ؛ لإيمانكم بالأوّل وإيمانكم بالآخر .
(9/249)

" صفحة رقم 250 "
وقال أبو موسى الأشعري : كفلين : ضعفين بلسان الحبشة .
قال ابن جبير : وأصله ما يكتفل به الراكب من الثياب والمتاع فيحبسه ويحفظه من السقوط ، يقول : يحصنكم هذا الكفل من العذاب كما يحصن الراكب الكفل من السقوط . ومنه الكفالة ؛ لأنّها تحصن الحقّ .
) ويجعل لكم نوراً تمشون به ( في الناس ، وعلى الصراط أحسن .
وقال ابن عباس : النور القرآن .
وقال مجاهد : الهدى والبيان ، ) ويغفر لكم والله غفور رحيم ( .
قال سعيد بن جبير : بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جعفراً ح في سبعين راكباً للنجاشي يدعوه ، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به ، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ايذن لنا فنأتي هذا النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فنلمّ به ونجدّف بهؤلاء في البحر ؛ فإنا أعلم بالبحر منهم . فقدموا مع جعفر على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وقد تهيأ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) لوقعة أحد ، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدّة الحال استأذنوا النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) فقالوا : يا رسول الله إنّ لنا أموالا ، ونحن نرى ما بالمسلمين من خصاصة ، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها . . فأذن لهم فانصرفوا وأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، فأنزل الله سبحانه فيهم ) الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ( إلى قوله ) ومما رزقناهم ينفقون ( فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن قوله : ) يؤتون أجرهم مرّتين ( ، فجروا على المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين ، أما من آمن منّا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله سبحانه : ) يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ( فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال :
الحديد : ( 29 ) لئلا يعلم أهل . . . . .
) لئلاّ يعلم أهل الكتاب ( ، وهكذا قرأها سعيد بن جبير ) أن لايقدرون ( الآية .
وروى حنان عن الكلبي قال : كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكّة ، لم يكونوا يهوداً ولا نصارى ، وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا ، فقال لهم أبو جهل : بئس القوم أنتم والوفد لقومكم . فردّوا عليه : ) وما لنا لا نؤمن بالله وماجاءنا من الحق ( ، فجعل الله سبحانه لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين ، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد ، فأنزل الله سبحانه : ) لئلاّ يعلم أهل الكتاب ( الآية .
(9/250)

" صفحة رقم 251 "
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن سفيان ، عن صالح ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من كانت له أمة فعلّمها فأحسن تعليمها ، وأدّبها فأحسن تأديبها ، وأعتقها وتزوّجها فله أجران ، وعبد أدّى حقّ الله وحقّ مواليه ، ورجل من أهل الكتاب آمن بما جاء به موسى أو ما جاء به عيسى وما جاء به محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) فله أجران ) .
وقال قتادة : حسد أهل الكتاب المسلمين ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلمّا خرج من العرب كفروا ، فأنزل الله سبحانه ) لئلاّ يعلم أهل الكتاب ( أي ليعلم ) لا ( صلة ) أن لا يقدرون ( يعني أنّهم لا يقدرون ، كقوله : ) أّلا يرجع إليهم قولا ( وأنشد الفرّاء :
إنّي كفيتك ما تو
ثق إنْ نجوت إلى الصباحْ
وسلمت من عرض الجنو
ن من الغدوّ إلى الرواحْ
إن تهبطنّ بلاد قو
مي يرتعون من الطلاحْ
أي : إنّك تهبطن .
) على شيء من فضل الله ( الآية .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني أبو بكر بن خرجة قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال : حدّثنا الحسن بن السكن البغدادي ، قال : حدّثنا أبو زيد النحوي ، عن قيس بن الربيع عن الأعمش ، عن عطيّة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله عزّ وجلّ قسّم الأجر وقسّم العمل ، فقيل لليهود : اعملوا ، فعملوا إلى نصف النهار ، فقيل : لكم نصف قيراط . وقيل للنصارى : اعملوا ، فعملوا من نصف النهار إلى العصر ، فقيل : لكم قيراط . وقيل للمسلمين : اعملوا ، فعملوا من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين . فتكلّم اليهود والنصارى في ذلك ، فأنزل الله سبحانه : ) لئلاّ يعلم أهل الكتاب أّلا يقدرون على شيء من فضل الله وإنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( ) .
(9/251)

" صفحة رقم 252 "
( سورة المجادلة )
مدنيّة ، وهي ألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفاً ، وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة ، واثنتان وعشرون آية
أخبرنا أبو الحسين عليّ بن محمّد بن الحسن المقرئ ، عن مرّة قال : حدّثنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني وأبو الشيخ عبد الله بن محمّد الأصبهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن شريك الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أُبي أمامة ، عن أبىّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة المجادلة كُتب من حزب الله يوم القيامة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىإِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ( 2
المجادلة : ( 1 ) قد سمع الله . . . . .
) قد سمع الله قول التي تجادلك ( : تخاصمك وتحاورك وتراجعك ) في زوجها ( وهي امرأة من الأنصار ثمّ من الخزرج ، واختلفوا في اسمها ونسبها ، فقال ابن عباس : هي خولة بنت
(9/252)

" صفحة رقم 253 "
خولد . وقال أبو العالية : خويلة بنت الدليم . وقال قتادة : خويلة بنت ثعلبة . وقال المقاتلان : خولة بنت ثعلبة ابن مالك بن خزامة الخزرجية من بني عمرو بن عوف .
عطية عن ابن عباس : خولة بنت الصامت .
وروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة خ أنّ اسمها جميلة ، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وذلك أنّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فنظر إلى عجزها ، فلمّا انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها ، وكان امرئاً فيه سرعة ولمم . فقال لها : أنتِ عليَّ كظهر أُمّي . ثم ندم على ما قال ، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية . فقال لها : ما أظنك إلاّ قد حرمتِ عليَّ . قالت : لا تقل ذلك ، ائتِ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسله . فقال : إني أجدني استحي منه أن أسأله عن هذا . قالت : فدعني أسأله . قال : سليه .
فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعائشة تغسل شقّ رأسه ، فقالت : يا رسول الله ، إنّ زوجي أوس بن الصامت تزوّجني ، وكنت شابّة جميلة ذات مال وأهل ، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق وكبرت سنّي ظاهر منّي وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإيّاه ينعشني ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمت عليه ) . فقالت : يا رسول الله ، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً ، وإنّه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمت عليه ) . فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، قد طالت صحبتي ونقصت له بطني . فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( ما أراك إلاّ وقد حرمتِ عليه ولم أومر في شأنك بشيء ) .
فجعلت تراجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا قال لها رسول الله ( عليه السلام ) : ( حرمت عليه ) هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي ، اللهمّ ، فأنزلْ على لسان نبيّك .
وكان هذا أول ظهار في الإسلام . فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر فقالت : انظر في أمري ، جعلني الله فداك يا نبيّ الله . فقالت عائشة : اقصري حديثك ومحادثتك ، أما ترين وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أُنزل عليه أخذه مثل السبات ؟ فلمّا قضى الوحي قال : ( ادعي زوجك ) . فجاء ، فقرأ ما نزل عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إنّ الله سميع بصير ( ثم بيّن حكم الظهار ، وجعل فيه الكفّارة ، فقال سبحانه : ) الذين يظاهرون ( إلى آخرها ، قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلّها ، إنّ المرأة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليَّ بعضه ، إذ أنزل سبحانه : ) قد سمع الله ( الآيات
(9/253)

" صفحة رقم 254 "
فلمّا نزلت هذه الآيات وتلاها عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : ( هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ ) . قال : إذن يذهب مالي كلّه . الرقبة غالية وأنا قليل المال . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ ) . قال : والله يا رسول الله ، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني . قال : ( فهل تستطيع أن تطعم ستّين مسكيناً ؟ ) . قال : لا والله ، إلاّ أن تعينني على ذلك يا رسول الله . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّي معينك بخمسة عشر صاعاً ، وأنا داع لك بالبركة ) .
فأعانه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بخمسة عشر صاعاً واجتمع لهما أمرهما . فذلك قوله :
المجادلة : ( 2 ) الذين يظاهرون منكم . . . . .
) الذين يظاهرون منكم من نسائهم ( ، قد ذكرنا اختلاف القرّاء في هذا الحرف في سورة الأحزاب .
) ما هن أمهاتهم ( قرأ العامّة بخفض التاء ومحلّه نصب ، كقوله سبحانه : ) ما هذا بشراً ( . وقيل : ( بأمهاتهم ) . وقرأ المفضّل بضمِّ التاء . ) إنْ أمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً ( أي كذباً ، والمنكر : الذي لا تعرف صحّته . ) وإن الله لعفو غفور 2 )
المجادلة : ( 3 ) والذين يظاهرون من . . . . .
) والذين يظاهرون من نسائهم ( ، اعلم أنّ الألفاظ التي يصير المرء بها مظاهراً على ضربين : صريح ، وكناية . فالصريح هو أن يقول : أنتِ عليَّ كظهر أُمّي ، وكذلك إذا قال : أنتِ عليَّ كبطن أمّي أو كرأس أمّي أو كفرج أمّي ، وهكذا إذا قال : فرجك أو رأسك أو ظهرك أو صدرك أو بطنك أو يدك أو رجلك عليَّ كظهر أُمّي ، فإنّه يصير مظاهراً ، وكلّ ذلك محلّ قوله : يدك أو رجلك أو رأسك أو بطنك طالق فإنّها تطلق ، والخلاف في هذه المسألة بين الفريقين كالخلاف في الطلاق .
ومتى ما شبّهها بأمّه أو بإحدى جدّاته من قبل أبيه وأُمّه كان ذلك ظهاراً بلا خلاف . وإن شبّهها بغير الأمّ والجدّة من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالإبنة والأخت والعمّة والخالة ونحوها ، كان مظاهراً على الصحيح من المذاهب . فصريح الظهار هو أن يشبّه زوجته أو عضواً من أعضائها بعضو من أعضاء أُمّه ، أو أعضاء واحدة من ذوات محارمه .
والكناية أن يقول : أنتِ عليَّ كأُمّي ، أو مثل أمّي أو نحوها ، فإنّه يعتبر فيه نيّته . فإن أراد ظهاراً كان مظاهراً وإن لم ينو الظهار لا يصِرْ مظاهراً . وكلّ زوج صحّ طلاقه صحّ ظهاره ، سواءً كان عبداً أو حراً أو ذمّياً أو دخل بالمرأة أو لم يدخل بها ، أو كان قادراً على جماعها أو عاجزاً عنه . وكذلك يصحّ الظهار من كلّ زوجة ، صغيرة كانت أو كبيرة ، أو عاقلة أومجنونة ، أو رتقاء أو سليمة ، أو صائمة أو محرمة ، أو ذمّية ، أو مسلمة ، أو في عدّة يملك رجعتها .
(9/254)

" صفحة رقم 255 "
وقال أبو حنيفة : لا يصحّ ظهار الذمّيّ . وقال مالك : لا يصحّ ظهار العبد ، قال بعض العلماء : لا يصحّ ظهار غير المدخول بها . وقال المزني : إذا طلّق الرجل امرأته طلقة رجعيّة ثم ظاهر فإنّه لا يصحّ .
) ثم يعودون لما قالوا ( اعلم أنّ الكفارة تلزم بالظهار وبالعود جميعاً ، ولا تلزم بأحدهما دون الآخر . كما أنّ الكفارة في باب اليمين تجب باليمين والحنث جميعاً معاً ، فإذا عاد في ظهاره لزمته الكفّارة .
واختلف العلماء والفقهاء في معنى العود ؛ فقال الشافعي : العود الموجب للكفّارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار وتمضي مدّة يمكنهُ أن يطلّقها فلم يطلّقها .
وقال قتادة : ) ثم يعودون لما قالوا ( يريد أن يغشاها ويطأها بعدما حرّمها . وإليه ذهب أبو حنيفة ، قال : إن عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عوداً .
وقال مالك : إن وطئها كان عوداً ، وإن لم يطأها لم يكن عوداً .
وقال أصحاب الظاهر : إن كرّر اللفظ كان عوداً وإن لم يكرّر لم يكن عوداً . وهو قول أبي العالية ، وظاهر الآية يشهد له ، وهو قوله : ) ثم يعودون لما قالوا ( أي إلى ما قالوا ،
) فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ( ؛ لأنّ الله سبحانه قيّد الرقبة بالإيمان في كفّارة القتل وأطلق في هذا الموضع ، ومن حكم المطلق أن يحمل على القيد . وقوله : ) من قبل أن يتماسّا ( أي يتجامعا ، فالجماع نفسه محرّم على المظاهر حتى يكفّر ، فإن وطئ قبل التكفير فقد فعل محرّماً ، ولا تسقط عنه الكفّارة بل يأتي بها على وجه القضاء ، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها ، فإنّه لا يسقط عنه إتيانها بل يلزمه قضاؤها . وسواء كفّر بالإعتاق أو الصيام أو الإطعام فإنّه يجب عليه تقديم الكفّارة ، ولا يجوز له أن يطأها قبل الكفّارة .
وقال أبو حنيفة : إن كفّر بالإطعام جاز له أن يطأ ثم يطعم ولم يخالف في العتق والصيام .
فهذا حكم وطء المظاهر قبل التكفير .
وأمّا غير الوطء من التقبيل والتلذّذ فإنّه لا يحرم في قول أكثر العلماء . وهو قول الحسن وسفيان ، والصحيح من مذهب الشافعي . وقال بعضهم : عنى به جميع معاني المسيس ؛ لأنّه عامّ وهو أحد قولي الشافعي ح .
) ذلك توعظون به ( : تؤمرون به ، ) والله بما تعملون خبير }
المجادلة : ( 4 ) فمن لم يجد . . . . .
) فمن لم يجد ( الرقبة ولا
(9/255)

" صفحة رقم 256 "
ثمنها ، أو يكون مالكاً للرقبة إلاّ إنّه محتاج إليها لخدمته ، أو يكون مالكاً للثمن ولكن يحتاج إليه لنفقته أو كان له مسكن يسكنه ، فله الانتقال إلى الصوم .
وقال أبو حنيفة : ليس له أن يصوم وعليه أن يعتق الرقبة وإن كان محتاجاً إليها وإلى ثمنها ،
فإن عجر عن الرقبة ) فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا ( فإنْ أفطر في أثنائها بغير عذر قطع التتابع وعليه أن يستأنف شهرين متتابعين . وإن أفطر بعذر المرض أو السفر ، فاختلف الفقهاء فيه ، فقال قوم : لا ينقطع التتابع وله أن يبني ويقضي الباقي ، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ، وهو أحد قولي الشافعي .
وقال آخرون : ليس له أن يبني بل يلزمه أن يستأنف ويبتدئ ، وهو قول النخعي وأصحابه ، والأصحّ من قولي الشافعي .
وإن تخلّل صوم الشهرين زمان لا يصّح فيه الصوم عن الكفّارة كالعيدين وأيام التشريق وأيام شهر رمضان ، فإنّ التتابع ينقطع بذلك ويجب الاستئناف .
ولو وطئ المظاهر في الشهرين ، نظرَ ؛ فإن وطِئها نهاراً بطل التتابع وعليه الابتداء ، وإن وطِئها ليلا لم يبطل التتابع . وقال أبو حنيفة : سواء وطئ ليلا أو نهاراً فإنّه يبطل التتابع وعليه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين .
) فمن لم يستطع ( الصيام ، وعدمُ الاستطاعة مثلُ أن يخاف من الصوم لعلة أو لحوق ومشقّة شديدة ومضرّة ظاهرة ، ) فإطعام ستين مسكيناً ( لكلّ مسكين مدّ من غالب قوت بلده ، والخلاف فيه بين الفريقين كالاختلاف في زكاة الفطرة . ) ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ( .
المجادلة : ( 5 ) إن الذين يحادون . . . . .
) إنّ الذين يحادّون ( : يخالفون ويعادون ) الله ورسوله كبتوا ( : أُهلكوا وأُخّروا وأُحربوا ) كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بيّنات وللكافرين عذاب مهين }
المجادلة : ( 6 - 7 ) يوم يبعثهم الله . . . . .
) يوم يبعثهم الله جميعاً فينبّئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كلّ شيء شهيد ألم تر أنّ الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض مايكون ( قراءة العامّة بالياء لأجل الحائل ، وقرأ أبو جعفر القارئ ( تكون ) بالتاء لتأنيث النجوى ، والأول أفصح وأصحّ ) من نجوى ( متناجين ) ثلاثة ( ، قال الفراء : إن شئت خفضت الثلاثة على نعت النجوى وإن شئت أضفت النجوى إليها ، ولو نصبت على أنّها ( حال ) لكان صواباً . ) إلاّ هو رابعهم ( بالعلم يسمع نجواهم ويعلم فحواهم ، ) ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر ( ، قراءة العامّة بالنصب في محلّ الخفض عطفاً . وقرأ يعقوب وأبو حاتم ) أكثر ( بالرفع على محلّ الكلام قبل دخول ) من ( ، وقرأ
(9/256)

" صفحة رقم 257 "
الزهري ) أكثر ( بالباء ، ) إلاّ هو معهم أينما كانوا ثم ينبّئهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلّ شيء عليم ( .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِىأَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 2
المجادلة : ( 8 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ( الآية قال ابن عباس : نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنّهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلاّ وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم . فلمّا طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرهم ألاّ يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك ، وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال مقاتلان : أنزلت في اليهود ، وكانت بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موادعة ، فإذا مرّ بهم رجل من أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى ينظر المؤمن أنّهم يتناجون بقتله أو بما يكره ، فينزل الطريق عليهم من المخافة ، فبلغ ذلك النبي ( عليه السلام ) فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية . وقال ابن زيد : كان الرجل يأتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسأله الحاجة ليُريَ الناس أنّه قد ناجى فيقول لهم : إنّما يتناجون في حرب حضرت ، أو جمع قد جمع لكم ، أو أمر مهمّ قد وقع ، فأنزل الله سبحانه : ) ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ( أي المناجاة . ) ثم يعودون لما نهوا عنه ( أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ) ويتناجون ( ، قرأ يحيى والأعمش وحمزة ( ينتجون ) على وزن ( يفتعلون ) ، وقرأ الباقون ) يتناجون ( على وزن ( يتفاعلون ) ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : ) إذا تناجيتم ( و ) تناجوا ( ولم يقل ( أنتجيتم ) و ( انتجوا ) . ) بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ( وقرأ الضحّاك : ( ومعصيات الرسول ) فيهما بالجمع ) وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيّك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا الله حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ( وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على ر سول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيقولون : السام عليك . فيرد عليهم رسول الله : ( وعليكم ) . ولا يدري ما يقولون ، والسام الموت ، فإذا خرجوا قالوا : لو كان نبيّاً لعُذّبنا واستجيب فينا وعرف قولنا . فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا : السام عليك . ففطنت عائشة خ إلى قولهم وقالت : وعليكم السام والذام
(9/257)

" صفحة رقم 258 "
والداء واللعنة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَه يا عائشة ، إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الرفق في الأمر كلّه ولا يحبّ الفحش والتفحّش ) .
فقالت : يا رسول الله ، ألم تسمع ما قالوا ؟ ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( ألم تسمعي ما رددت عليهم ؟ ) . فأنزل الله هذه الآية ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم ) .
ثم نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال :
المجادلة : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا ( ، قراءة العامّة بالألف ، وروى أويس عن يعقوب : ( فلا تتنجوا ) من الانتجاء . ) بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ( كفعل المنافقين واليهود ) وتناجوا بالبرّ والتقوى واتّقوا الله الذي إليه تحشرون }
المجادلة : ( 10 ) إنما النجوى من . . . . .
) إنّما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس ( التناجي ) بضارّهم شيئاً إلاّ بإذن الله وعلى الله فليتوكّل المؤمنون (
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا حمّاد بن الحسن قال : حدّثنا عبيد الله قال : حدّثنا الأعمش ، عن سفيان عن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون ( صاحبهما ) ؛ فإنّ ذلك يحزنه ) .
أخبرنا محمّد بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : أخبرنا عبد الله بن بشر قال : حدّثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يتناجَ اثنان دون الثالث ) .
المجادلة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا ( الآية ، قال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) ، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال ( المقاتلان ) : كان النبي ( عليه السلام ) في الصفّة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس ، وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : السلام عليكم أيّها النبّي ورحمة الله . فردّ عليهم النبي ( عليه السلام ) ثم سلّموا على القوم بعد ذلك
(9/258)

" صفحة رقم 259 "
فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبي ( عليه السلام ) ما يحملهم على القيام فلم يفسحوا لهم ، فشقّ ذلك على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار والتابعين من غير أهل بدر : ( قم يا فلان وأنت يا فلان ) .
فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر ، فشقّ ذلك على من أُقيم من مجلسه ، وعرف النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) الكراهية في وجوهم ، فقال المنافقون للمسلمين : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس ؟ فوالله ما عدل على هؤلاء ، أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مقامهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس بن الشماس وقد ذكرت هذه القصّة في سورة الحجرات فأنزل الله عزّ وجلّ في الرجل الذي لم يتفّسح له ) يا أيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا ( : توسّعوا ، ومنه قولهم : مكان فسيح إذا كان واسعاً في المجلس .
قرأ السلمي والحسن وعاصم ) في المجالس ( بالألف على الجمع ، وقرأ قتادة : ( تفاسحوا ) بالألف فيهما ، وقرأ الآخرون ) تفسّحوا ( ( في المجْلس ) يعنون مجلس النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) واختاره أبو حاتم وأبو عبيد قال : لأنّه قراءة العامّة ، مع أن المجلس يؤدي معناه عن المجالس كلّها من مجلس النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) وغيره .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال : حدّثنا فليح ، عن أيوب بن عبد الرحمن بن صعصعة ( الأنصاري ، عن يعقوب ) بن أبي يعقوب ، عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يقم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم ) .
وقال أبو العالية والقرظي : هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصّف فيقول لهم : توسّعوا ، فيأبون عليه لحرصهم على القتال ، فأمرهم الله سبحانه أن يفسح بعضهم لبعض . وهذه رواية العوفي عن ابن عباس .
قال الحسن : بلغني أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قاتل المشركين وصفّ أصحابه للقتال تشاحّوا على الصف الأوّل ليكونوا في أوّل غارة القوم ، فكان الرجل منهم يجيء إلى الصّف الأوّل فيقول لإخوانه : توسّعوا لي ؛ ليلقى العدوّ ويصيب الشهادة ، فلا يوسّعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية
(9/259)

" صفحة رقم 260 "
) وإذا قيل انشزوا فانشزوا ( قرأ عاصم وأهل المدينة والشام بضم الشينين ، وقرأ الآخرون بكسرهما . وهما لغتان ، يعني وإذا قيل لكم : قوموا وتحرّكوا وارتفعوا وتوسّعوا لإخوانكم فافعلوا .
وقال أكثر المفسّرين : معناه : وإذا قيل لكم : انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخير أي حق كان فانشزوا ولا تقصّروا .
قال عكرمة والضحاك : يعني إذا نودي للصلاة فقوموا لها ، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة إذا نودي لها ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال ابن زيد : هذا في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن كلّ رجل منهم كان يحبّ أن يكون آخر عهده رسول الله ، فقال الله سبحانه : ) وإذا قيل انشزوا ( عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأنّ له حوائج ) فانشزوا ( ولا تطلبوا المكث عنده
) يرفع الله الذين آمنوا منكم ( بطاعتهم رسول الله وقيامهم من مجالسهم وتفسّحِهم لإخوانهم ) والذين أوتوا العلم ( منهم بفضل علمهم وسابقتهم ) درجات ( فأخبر الله سبحانه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مصيب فيما أُمر وأنّ أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا ، وأنّ النفر من أهل بدر مستحقّون لما عوملوا من الإكرام ) والله بما تعملون خبير ( .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عامر البلخي قال : حدّثنا القاسم ابن عبّاد قال : حدّثنا صالح بن محمّد الترمذي قال : حدّثنا المسيّب بن شريح ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن قال : قرأ ابن مسعود هذه الآية ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( فقال : أيّها الناس ، افهموا هذه الآية ولِتَرَغّبكم في العلم فإن الله سبحانه يقول : يرفع الله المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات .
وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه قال : أخبرنا صالح ابن مقاتل ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة ، وفضل النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) على العالم درجة ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جاءته منّيته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة ) .
(9/260)

" صفحة رقم 261 "
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاَْذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىإِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 2
المجادلة : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ( قال ابن عباس : وذلك أنّ الناس سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأكثروا ، حتى شقّوا عليه وأحفوه بالمسألة فأدبّهم الله سبحانه وفطّنهم عن ذلك بهذه الآية ، وأمرهم أن لا يناجوه حتى يقدّموا صدقة .
وقال مقاتل بن حيّان : نزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على ( المجالس ) حتى كره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طول جلوسهم ومناجاتهم فأمر الله تعالى بالصدقة عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن المناجاة ، فأمّا أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً ، وأمّا أهل الميسرة فبخلوا ومنعوا ، فاشتدّ ذلك على أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت الرخصة ،
قال مجاهد : نهوا عن مناجاة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلاّ عليّ بن أبي طالب ح قدّم ديناراً فتصدّق به ثمّ نزلت الرخصة .
وقال عليّ بن أبي طالب ح : إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها
(9/261)

" صفحة رقم 262 "
أحد بعدي ) يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ( فإنّها فرضت ثم نسخت .
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال : أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال : أخبرنا علي بن صقر بن نصر قال : حدّثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدّثنا أبو عبد الرحمن الأشجعي ، عن سفيان عن عثمان بن المغيرة ، عن ( سالم ) بن أبي الجعد ، عن عليّ بن علقمة الأنماري ، عن علىّ بن أبي طالب قال : لمّا نزلت ) يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ( دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ما ترى بذي دينار ) ؟ . قلت : لا يطيقونه . قال : ( كم ) ؟ . قلت : حبّة أو شعيرة . قال : ( إنك لزهيد ) . فنزلت
المجادلة : ( 13 ) أأشفقتم أن تقدموا . . . . .
) أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات ( الآية .
قال عليّ ح : فِيّ خفَّف الله سبحانه عن هذه الأمّة ، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي .
قال ابن عمر : كان لعليّ بن أبي طالب ثلاث لو كان لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى .
) ذلكم خير لكم وأطهر فإنْ لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم ( يعني للفقراء . ) أأشفقتم ( أبخلتم وخفتم بالصدقة الفاقة ) أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ( فتجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة ، وقيل : الواو صلة . مجازه ( وإذ لم تفعلوا تاب الله عليكم ) تجاوز عنكم وخفّف ونسخ الصدقة .
قال مقاتل بن حيّان : إنّما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ .
وقال الكلبي : ما كانت إلاّ ساعة من النهار .
) فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير ما تعملون ( .
المجادلة : ( 14 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين تولّوا قوماً غضب الله عليهم ( نزلت في المنافقين تولّوا اليهود وناصحوهم ونقلوا إليهم أسرار المسلمين ) ما هم منكم ( يا معشر المسلمين ) ولا منهم ( يعني اليهود والكافرين . نظيره ) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ( .
(9/262)

" صفحة رقم 263 "
) ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ( .
قال السدّي ومقاتل : خاصّة في عبد الله بن نبتل المنافق ، كان يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حجرة من حجره إذ قال : ( يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار وينظر بعيني شيطان ) فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق ، فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( على ما تشتمني أنت وأصحابك ) ؟
فحلف بالله ما فعل ، وقال له النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( فعلت ) .
وانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه ، فأنزل الله سبحانه ذكر هذه الآية .
المجادلة : ( 15 - 16 ) أعد الله لهم . . . . .
) أعدّ الله لهم عذاباً شديداً إنّهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم ( الكاذبة ، وقرأ الحسن بكسر الألف ، أي إقرارهم ) جنّة ( يستجنّون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ) فصدّوا عن سبيل الله ولهم عذاب مهين ( .
المجادلة : ( 17 - 18 ) لن تغني عنهم . . . . .
) لن تغني عنهم ( يوم القيامة ) أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له ( كارهين ، ما كانوا كاذبين ) كما يحلفون لكم ( ،
قال قتادة : إنّ المنافق يحلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا ) ويحسبون أنّهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ( ،
أخبرنا الحسن بن محمّد قال : حدّثنا أحمد بن يعقوب الأنباري قال : حدّثنا أبو حنيفة محمّد بن حنيفة بن ماهان الواسطي قال : حدّثنا إبراهيم بن سليم الهجمي قال : حدّثنا إبراهيم بن سليمان الدبّاس قال : حدّثنا ابن أخي روّاد ، عن الحكم عن عيينه عن مقسم عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ينادي مناد يوم القيامة : أين خصماء الله ؟ فيقوم القدرية وجوههم مسودّة ، مزرقّة أعينهم ، مائل شدقهم ، يسيل لعابهم ، فيقولون : والله ماعبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا وثناً ولا اتّخذنا من دونك إلهاً ) .
فقال ابن عباس : صدقوا والله ، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا ابن عباس هذه الآية ) ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ( ، هم والله القدريون ، هم والله القدريون .
المجادلة : ( 19 - 20 ) استحوذ عليهم الشيطان . . . . .
) استحوذ ( : غلب واستولى ) عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا
(9/263)

" صفحة رقم 264 "
إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون إنّ الذين يحادّون الله ورسوله أُولئك في الأذلّين ( : الأسفلين .
المجادلة : ( 21 ) كتب الله لأغلبن . . . . .
) كتب الله ( : قضى الله سبحانه ) لأغلبنّ أنا ورسلي ( ، وذلك أنّ المؤمنين قالوا : لئن فتح الله لنا مكّة وخيبر وما حولها فإنّا لنرجو أن يظفرنا الله على الروم وفارس . فقال عبد الله بن أُبىّ : أتظنّون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ والله لهم أكثر عدداً وأشدّ بطشاً من ذلك . فأنزل الله سبحانه : ) كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إنّ الله قويٌّ عزيز ( نظيره قوله سبحانه : ) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ( .
المجادلة : ( 22 ) لا تجد قوما . . . . .
) لا تجد قوماً يؤمنون بالله ( الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة . وسنذكر القصة في سورة الامتحان إن شاء الله .
وقال السدّي : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبي ، وذلك أنّه كان جالساً إلى جنب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشرب رسول الله ( عليه السلام ) الماء ، فقال عبد الله : يا رسول الله ، أبقِ فضلة من شرابك . قال : ( وما تصنع بها ) ؟ قال : أسقيها أبي لعلّ الله يطهّر قلبه .
ففعل فأتى بها أباه ، فقال : ما هذا ؟ قال من شراب رسول الله ( عليه السلام ) جئتك بها لتشربها لعلّ الله سبحانه وتعالى يطهّر قلبك . فقال أبوه : هلاّ جئتني ببول أُمّك . فرجع إلى النبي ( عليه السلام ) ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في قتل أبي . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل ترفّق به وتحسّن إليه ) .
وقال ابن جريح : حدّثت أنّ أبا قحافة سبّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصكّه أبو بكر صكّة سقط منها ، ثم ذكر ذلك للنبيّ ( عليه السلام ) فقال : ( أوَفعلته ؟ ) . فقال : نعم . قال : ( فلا تعد إليه )
فقال أبو بكر ح : والله لو كان السيف منّي قريباً لقتلته ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية : ) يوادّون من حادّ الله ( .
وروى مقاتل بن حيّان ، عن مرّة الهمذاني ، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية : ) ولو كانوا آباءهم ( يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ) أو أبناءهم ( يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال : يا رسول الله : دعني أكرّ في الرعلة الأولى . فقال له رسول الله : ( متّعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنّك عندي بمنزلة سمعي وبصري ؟ )
(9/264)

" صفحة رقم 265 "
) وإخوانهم ( يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ) أو عشيرتهم ( يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعليّاً وحمزة وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر . ) أو لئك كَتب في قلوبهم الإيمانَ ( قراءة العامّة بفتح الكاف والنون ،
وروى المفضّل عن عاصم بضمّهما على المجهول ، والأوّل أجود ؛ لقوله : ) وأيّدهم ( و ) ندخلهم ( .
قال الربيع بن أنس : يعني أثبت الإيمان في قلوبهم فهي موقنة مخلصة .
وقيل : معناه كتب في قلوبهم الإيمان ، كقوله : ) في جذوع النخل ( .
وقيل : حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنّها موضعه .
) وأيدّهم بروح منه ( : وقوّاهم بنصر منه ، قاله الحسن ،
وقال السدّي : يعني بالإيمان . ربيع ، بالقرآن وحجّته ، نظيره : ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ( . ابن جرير : بنور وبرهان وهدى . وقيل : برحمة . وقيل : أمدّهم بجبريل ( عليه السلام ) .
) ويدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ورضواعنه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون (
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا محمّد بن حمدان بن سفيان قال : حدّثنا محمّد بن يزيد بن عبد الله بن سلمان قال : حدّثنا المرداس أبو بلال قال : حدّثنا إسماعيل ، عن سعد بن سعيد الجرجاني ، عن بعض مشيخته قال : قال داود ( عليه السلام ) : ( إلهي ، من حزبك وحول عرشك ؟ ) .
فأوحى الله سبحانه إليه : ( يا داود ، الغاضّة أبصارهم ، النقيّة قلوبهم ، السليمة أكفّهم ، أولئك حزبي وحول عرشي ) .
(9/265)

" صفحة رقم 266 "
( سورة الحشر )
مدنية ، وهي أربع وعشرون آية ، وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة ، وتسعمائة وثلاثة عشر حرفاً
أخبرنا أبو العبّاس سهل بن محمّد بن سعيد المروزي قال : حدّثني أبو الحسن المحمودي قراءة : حدثنا تميم بن محمود عن العبّاس بن ( . . . ) عن رجاله : قال : حدّثنا محمّد بن صالح عن زيد العجمي عن ابن عباس قال : قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) : ( من قرأ سورة ( الحشر ) لم يبق جنّة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب ولا السماوات السبع والأرضون السبع والهوام والريح والطير والشجر والدواب والجبال والشمس والقمر والملائكة إلاّ صلّوا عليه ، واستغفروا له ، فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيداً ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِىأَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاَِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الاَْبْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ ( 2
الحشر : ( 1 - 2 ) سبح لله ما . . . . .
) سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ( الآيات ، قال المفسرون : نزلت هذه الآيات بأسرها في بني النضير ، وذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أّلا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهم ذلك ، فلمّا غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدراً وظهر على المشركين قالت بنو النضير : والله إنّه للنبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة : لا تردّ لهم راية . فلما
(9/266)

" صفحة رقم 267 "
غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحداً وهزم المسلمون ارتابوا ونافقوا وأظهروا العداوة لرسول الله ( عليه السلام ) والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكّة ، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد ( عليه السلام ) . ثم دخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ، ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة ، فنزل جبريل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان ، وأمر ( عليه السلام ) بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمّد بن مسلمة الأنصاري ، وكان أخاه من الرضاعة .
وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اطّلع منهم على خيانة ونقض عهد ، حتى أتاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر وعمر وعليّ ( ج ) يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أُميّة الضمري في منصرفه من بئر معونة حين أغربا إلى بني عامر ، فأجابوه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ذلك ، وأجلسوه وهمّوا بالفتك به وطرح حجر عليه من فوق الحصن ، فأخبره الله سبحانه بذلك وعصمه .
وقد مضت هذه القصة وقصة مقتل كعب بن الأشرف ،
فلمّا قتل كعب أصبح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر الناس بالسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية لهم يقال لها : زهرة ، فلمّا سار إليهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وجدهم ينوحون على كعب ، وكان سيّدهم ، فقالوا : يا محمّد ، واعية على إثر واعية ، وباكية على إثر باكية ؟ قال : ( نعم ) . قالوا : ذرنا نبكي بشجونا ثم ائتمرنا أمرك . فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( اخرجوا من المدينة ) .
قالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك .
فتنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ، ودسّ المنافقون : عبد الله بن أُبّي وأصحابه إليهم أّلا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ، ولئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم فدربوا على الأزقة وحصونها . ثم أجمعوا الغدر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسلوا إليه : اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك ، وليخرج منا ثلاثون رجلا حتى نلتقي بمكان نَصَف بيننا وبينكم ، فيسمعوا منك ، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنّا كلّنا .
فخرج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود ، حتى إذا كانوا في بَراز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلّهم يحبّ أن يموت قبله ؟ فأرسلوا إليه : كيف نفهم ونحن ستون رجلا ، اخرج في ثلاثة من أصحابك ، ونخرج لك ثلاثة من علمائنا فيسمعوا منك ، فإن آمنوا بك آمنّا كلّنا وصدّقناك .
(9/267)

" صفحة رقم 268 "
فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ثلاثة من أصحابه ، وخرج ثلاثة من اليهود ، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله ( عليه السلام ) ، فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسارّه بخبرهم قبل أن يصل النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فرجع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) .
فلمّا كان الغد عدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فلمّا قذف الله سبحانه في قلوبهم الرعب ، وأيسوا من نصر المنافقين سألوا نبي الله ( عليه السلام ) الصلح فأبى عليهم ( إلاّ ) أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقبلوا ذلك ، وصالحهم على الإجلاء ، وعلى أنّ لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم إلاّ الحلقة وهي السلاح ، وعلى أن يخلوا له ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم .
وقال ابن عباس : صالحهم على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، وللنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما بقي .
وقال الضحاك : أعطى كلّ ثلاثة نفر بعيراً وسقاءً ، ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحا إلاّ أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنّهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : ) هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ( يعني بني النضير ) من ديارهم ( التي كانت بيثرب .
قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير مرجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أُحد وكان فتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان .
) لأوّل الحشر ( قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله سبحانه قد كتب عليهم الجلاء ، ولو لا ذلك لعذّبهم في الدنيا وكانوا أول حشر في الدنيا حشروا إلى الشام .
قال ابن عباس : من شكّ أنّ المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ؛ وذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) قال لهم يومئذ : ( اخرجوا ) . قالوا : إلى أين ؟ فقال : ( إلى أرض المحشر ) ، فأنزل الله سبحانه ) لأوّل الحشر ( .
وقال الكلبي : إنّما قال : ) لأوّل الحشر ( ؛ لأنّهم أوّل من حشروا من أهل الكتاب ونفوا من الحجاز .
وقال مرّة الهمداني : كان هذا أوّل الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع
(9/268)

" صفحة رقم 269 "
جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر بن الخطاب ح وعلى بدنه .
وقال قتادة : كان هذا أوّل الحشر ، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وتأكل منهم من تخلّف .
قال يمان بن رباب : إنّما قال : ) لأوّل الحشر ( ؛ لأنّ الله سبحانه فتح على نبيّه ( عليه السلام ) في أول ما قاتلهم .
) ما ظننتم ( أيّها المؤمنون ) أن يخرجوا ( من المدينة ) وظنّوا أنّهم ما نعتهم حصونهم من الله ( حيث درّبوها وحصّنوها ) فأتاهم الله ( أي أمر الله وعدله ) من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب ( بقتل سيّدهم كعب بن الأشرف .
) يخربون ( قراءة العامّة بالتخفيف ، من الإخراب ، أي يهدمون ،
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وأبو عمرو بن العلاء بالتشديد ، من التخريب ،
وقال أبو عمرو : إنّما اخترت التشديد ؛ لأنّ الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن ، وأنّ بني النضير لم يتركوا منازلهم فيرتحلوا عنها ولكنّهم خرّبوها بالنقض والهدم .
وقال الآخرون : التخريب والإخراب بمعنى واحد . قال الزهري : ذلك أنّهم لمّا صالحهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) على أنّ لهم ما أقلّت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم ممّا يستحسنونه ، أو العمود أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها منها ويحملونها على إبلهم ويخرّب المؤمنون باقيها .
وقال ابن زيد : كانوا يقتلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلاّ يسكنها المؤمنون ، حسداً منهم وبغضاً .
وقال الضحاك : جعل المسلمون كلّما هدموا شيئاً من حصونهم جعلوا هم ينقضون بيوتهم بأيديهم ويخربونها ثم يبغون ما خرب المسلمون .
وقال ابن عباس : كلّما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتّسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنّون فيها ويكسرون ما يليهم منها ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ، ويخربها اليهود من داخلها فذلك قوله سبحانه ) يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ( .
(9/269)

" صفحة رقم 270 "
) فاعتبرو ( : فاتّعظوا ) يا أُولي الأبصار ( يا ذوي العقول .
الحشر : ( 3 ) ولولا أن كتب . . . . .
) ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ( : الخروج عن الوطن ) لعذّبهم في الدنيا ( بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة ) ولهم في الآخرة عذاب النار }
الحشر : ( 4 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . .
) ذلك بأنّهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقّ الله ( وقرأ طلحة بن مصرف : ( ومن يشاقق الله ) ( كالتي في الأنفال ) ) فإنّ الله شديد العقاب ( .
الحشر : ( 5 ) ما قطعتم من . . . . .
) ما قطعتم من لينة ( الآية ، وذلك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزل ببني النضير وتحصّنوا في حصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها ، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا : يا محمّد ، زعمت أنّك تريد الصلاح ، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل ؟ فهل وجدت فيما زعمت أنّه أنزل عليك الفساد في الأرض ؟ فشقّ ذلك على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم ، وخشوا أن يكون ذلك فساداً ، واختلف المسلمون في ذلك ، فقال بعضهم : لا تقطعوا ؛ فإنّه ممّا أفاء الله علينا ، وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم ، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله سبحانه .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن قال : حدّثنا محمّد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأبو الأزهر وحمدان وعلي قالوا : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريح قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن إبن عمر أنّ النبي ( عليه السلام ) قطع نخل بني النضير وحرق ، ولها يقول حسان :
وهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الله وأبو محمّد إسحاق بن إبراهيم وأبو علي الحسن بن محمّد وأبو القاسم الحسن بن محمّد قالوا : حدّثنا أبو العباس الأصمّ قال : أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بإحراق نخل بني النضير ، فقال فيه حسان بن ثابت :
وهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ) ما قطعتم من لينة ( . اختلفوا فيها فقال قوم : هي ما دون العجوة من النخل ، فالنخل كلّه لينة ما خلا العجوة ، وهو قول عكرمة ويزيد بن رويان وقتادة .
ورواية باذان عن ابن عباس قال : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بقطع نخلهم إلاّ العجوة ، وأهل المدينة يسمّون ما خلا العجوة من التمر : الألوان ، واحدها لون ولينة ، وأصلها لونة فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها .
(9/270)

" صفحة رقم 271 "
وقال الزهري : اللينة ألوان النخل كلّها إلاّ العجوة والبرنيّة ،
وقال مجاهد وعطية وابن زيد : هي النخل كلّه من غير استثناء .
العوفي عن ابن عباس : هي لون من النخل .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا جعفر بن محمّد قال : حدّثنا عبد الله بن مبارك ، عن عثمان بن عطإ ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : ) ما قطعتم من لينة ( قال : النخلة والشجرة .
قال سفيان : هي كرام النخل .
وقال مقاتل : هي ضرب من النخل يقال لثمرتها : اللون ، وهو شديد الصفرة ترى نواهُ من خارج يغيب فيه الضرس . وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم ، وكانت النخلة الواحدة منها ثمن وصيف ، وأحبّ إليهم من وصيف ، فلما رأوا ذلك الضرب يقطع شقّ عليهم مشقّة شديدة ، وقالوا للمؤمنين : تزعمون أنّكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون وتخربون وتقطعون الشجر ، دعوا هذا النخل ، فإنّما هي لمن غلب عليها .
وقيل : هي النخلة القريبة من الأرض .
وأنشد الأخفش :
قد شجاني الحمامُ حين تغنّى
بفراق الأحباب من فوق لينهْ
والعرب تسمّي ألوان النخل كلّها لينة ،
قال ذو الرمّة :
كأنّ قتودي فوقها عش طائر
على لينة فرواء تهفو جنوبها
وقال أيضاً :
طراق الخوافي واقعاً فوق لينة
لدى ليلة في ريشه يترقرق
وجمع اللينة لين ، وقيل : ليان ،
قال امروء القيس يصف عنق فرس .
وسالفة كسحوق الليا
ن أضرم فيها الغوي السعر
(9/271)

" صفحة رقم 272 "
) أو تركتموها قائمة على أُصولها ( : سوقها فلم تقطعوها ولم تحرقوها ، وقرأ عبد الله : ( ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماً على أُصولها إلاّ بإذن الله ) . وقرأ الأعمش : ( ما قطعتم من لينة أو تركتم قوّما على أصولها ) .
) فبإذن الله وليجزي الفاسقين ( أي وليذلّ اليهود ، ويحزنهم ويغيظهم .
2 ( ) وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 2
الحشر : ( 6 ) وما أفاء الله . . . . .
) وما أفاء الله ( : ردّ الله ) على رسوله ( ورجع إليه ، ومنه فيء الظل ) منهم ( من بني النضير من الأموال ) فما أوجفتم ( : أوضعتم ) عليه من خيل ولا ركاب ( وهي الإبل ، يقول : لم يقطعوا إليها شقة ، ولم ينالوا فيها مشقّة ولم يكلّفوا مؤونة ولم يلقوا حرباً وإنّما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشياً ، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلاّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنّه ركب جملا فافتتحها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلحاً وأجلاهم عنها وأحرز أموالهم ، فسأل المؤمنون النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) القسمة ، فأنزل الله سبحانه ) ما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ( .
) ولكنّ الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كلّ شيء قدير ( فجعل أموال بني النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصّة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله ( عليه السلام ) بين المهاجرين ولم يعطِ الأنصار منها شيئاً إلاّ ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة ، ولم يسلم من بني النضير إلاّ رجلان : أحدهما سفيان بن عمير بن وهب ، والثاني سعيد بن وهب وسلما على أموالهما فأحرزاها .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمّد قال : أخبرنا بشر بن موسى قال : حدّثنا الحميد قال : حدّثنا سفيان قال : حدّثنا عمرو بن دينار ومعمر بن راشد ، عن ابن شهاب الزهري أنّه سمع مالك بن أوس بن الحدثان البصري يقول : سمعت عمر بن الخطاب ح يقول : إنّ أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله ممّا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خالصاً ، فكان رسول الله ( عليه السلام ) ينفق على أهله منه نفقة سنة ، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدّة في سبيل الله .
أخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن قال : حدّثنا محمّد ابن يحيى قال : حدّثنا محمّد بن يوسف قال : حدّثنا ابن عيينة ، عن معمر ، عن الزهري
(9/272)

" صفحة رقم 273 "
قال : وأُخبرت عن محمّد بن جرير قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبد الأعلى قال : حدّثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : أرسل إليّ عمر بن الخطاب فدخلت عليه ، فقال : إنّه قد حضر أهل ثبات من قومك ، وأنّا قد أمرنا لهم برضخ فاقسمه بينهم . فقلت : يا أمير المؤمنين ، مر بذلك غيري . قال : اقبضه أيّها المرء .
فبينا أنا كذلك إذ جاء مولاه يرفأ فقال : عبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان وسعد يستأذنون . فقال : ايذن لهم . ثم مكث ساعة ، ثم جاء فقال : هذا علي والعباس يستأذنان .
فقال : ايذن لهما . فلمّا دخل العباس قال : يا أمير المؤمنين ، اقضضِ بيني وبين هذا الغادر الفاجر الخائن . وهما حينئذ يختصمان فيما أفاء الله عزّوجل على رسوله من أموال بني النضير . فقال القوم : اقضضِ بينهما يا أمير المؤمنين وأرح كلّ واحد منهما من صاحبه ، فقد طالت خصومتهما . فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض ، أتعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا نورّث ، ما تركناه صدقه ) .
قالوا : قد قال ذلك . ثم قال لهما : أتعلمان أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فسأخبركم بهذا الفيء ، إنّ الله سبحانه خصّ نبيّه ( عليه السلام ) بشيء لم يعطِ غيره فقال : عزّ من قائل : ) وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ( فكانت هذه لرسول الله ( عليه السلام ) خاصّة ، فوالله ما اختارها دونكم ولا استأثرها دونكم ، ولقد قسّمها عليكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينفق على أهله منها سنتهم ثم يجعل ما بقي في مال الله ، عزّوجل .
الحشر : ( 7 ) ما أفاء الله . . . . .
) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ( يعني من أموال الكفار أهل القرى .
قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وهما بالمدينة ، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال ، وخيبر ، وقرى عرينة ، وينبع جعلها الله تعالى لرسوله يحكم فيها ما أراد فاحتواها كلّها . فقال ناس : هلاّ قسّمها ؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية ) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى (.
(9/273)

" صفحة رقم 274 "
) فلله وللرسول ولذي القربى ( قرابة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) . وهم بنو هاشم وبنو المطلب .
واختلف الفقهاء في وجه استحقاقهم سهمهم من مال الفيء والغنيمة .
فقال قوم : إنّهم يستحقّون ذلك بالقرابة ولا تعتبر فيهم الحاجة وعدم الحاجة ، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه .
وقال آخرون : إنّهم يستحقون ذلك بالحاجة لا القرابة ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ، فإذا قسم ذلك بينهم فضل الذكور على الإناث كالحكم في الميراث ، فيكون للذكر سهمان ، وللأنثى سهم .
وقال محمّد بن الحسن : سوّي بينهم ، ولا يفضل الذكران على الإناث .
ذكر حكم هاتين الآيتين
اختلف العلماء فيه ، فقال بعضهم : أراد بقوله : ) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ( : الغنائم التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة وقهراً ، وكانت الغنائم في بدء الإسلام لهؤلاء الذين سمّاهم الله سبحانه في سورة الحشر ، دون الغانمين والموجفين عليها ، ثم نسخ ذلك بقوله في سورة الأنفال : ) واعلموا أنّما غنمتم من شيء ( الآية .
وهذا قول يزيد بن رويان وقتادة .
وقال بعضهم : الآية الأُولى بيان حكم أموال بني النضير خاصّة لقوله سبحانه : ) وما أفاء الله على رسوله منهم ( ، والآية الثانية بيان حكم سائر الأموال التي أُصيبت بغير قتال ، ولم يوجَف عليها بالخيل والجمال .
وقال الآخرون : هما واحد ، والآية الثانية بيان قسمة المال الذي ذكر الله سبحانه في الآية الأُولى .
واعلم أنّ جملة الأموال التي للأئمّة والولاة فيها مدخل على ثلاثة أوجه :
أحدها : ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم كالصدقات .
والثاني : الغنائم وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والعهد .
والثالث : الفيء وهو ما رجع إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) من أموال الكافرين عفواً صفواً من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب مثل مال الصلح والجزية والخراج والعشور التي تؤخذ من تجّار الكفّار إذا دخلوا دار الإسلام ، ومثل أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم أويموت منهم في دار الإسلام أحد ، ولا يكون له وارث .
(9/274)